لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
أَيْ: مَا فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبَرٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَاحْتِقَارٌ لِمَنْ جَاءَهُمْ بِهِ، وَلَيْسَ مَا يَرُومُونَهُ مِنْ إِخْمَالِ الْحَقِّ وَإِعْلَاءِ الْبَاطِلِ بِحَاصِلٍ لَهُمْ، بَلِ الْحَقُّ هُوَ الْمَرْفُوعُ، وَقَوْلُهُمْ وَقَصْدُهُمْ هُوَ الْمَوْضُوعُ، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أَيْ: مِنْ حَالِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ، {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أَوْ (1) مِنْ شَرِّ (2) مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ. هَذَا تَفْسِيرُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَالَ كَعْبٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَذَلِكَ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ الدَّجَّالَ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ بِهِ الْأَرْضَ. فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِرًا لَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ تَعَسُّفٌ بَعِيدٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) }
__________
(1) في ت: "أي".
(2) في أ: "شك".(7/152)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
{إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) }
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ عَلَيْهِ، يَسِيرٌ لَدَيْهِ -بِأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَخَلْقُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ بَدْأَةً وَإِعَادَةً، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا دُونَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْأَحْقَافِ: 33] (1) . وَقَالَ هَاهُنَا: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ؛ فَلِهَذَا لَا يَتَدَبَّرُونَ هَذِهِ الْحُجَّةَ وَلَا يَتَأَمَّلُونَهَا، كَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَيُنْكِرُونَ الْمَعَادَ، اسْتِبْعَادًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِمَا هُوَ أَوْلَى مِمَّا أَنْكَرُوا.
ثُمَّ قَالَ: {وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ} أَيْ كَمَا لَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ شَيْئًا، وَالْبَصِيرُ الَّذِي يَرَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ، بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ، كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُونَ الْأَبْرَارُ وَالْكَفَرَةُ الْفُجَّارُ، {قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ} أَيْ: مَا أَقَلَّ مَا يَتَذَكَّرُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} (2) أَيْ لَكَائِنَةٌ وَوَاقِعَةٌ {لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ: لَا يُصَدِّقُونَ بِهَا، بل يكذبون بوجودها.
__________
(1) في ت، أ: "أو ليس الذي خلق السموات والأرض بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ على كل شيء قدير" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه حيث إن ناسخا المخطوطتين ت، أقد خلطا بين الآية الحادية والثمانين من سورة يس وبين الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحقاف.
(2) في ت: "آتية وهو خطأ.(7/152)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا أَشْهَبُ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ (1) شَيْخٍ قَدِيمٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ -قَدِمَ مِنْ ثَمَّ-قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّ السَّاعَةَ إِذَا دَنَتِ اشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى النَّاسِ، وَاشْتَدَّ حَرُّ الشَّمْسِ.
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) }
هَذَا مِنْ فَضْلِهِ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَكَرَمِهِ أَنَّهُ نَدَبَ عِبَادَهُ إِلَى دُعَائِهِ، وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِالْإِجَابَةِ، كَمَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: يَا مَنْ أحبُّ عِبَادِهِ إِلَيْهِ مَنْ سَأَلَهُ فَأَكْثَرَ سُؤَالَهُ، وَيَا مَنْ أَبْغَضُ عِبَادِهِ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ (2) غَيْرُكَ يَا رَبِّ.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَفِي هَذَا الْمَعْنَى يَقُولُ الشَّاعِرُ:
اللهُ يَغْضبُ إِنْ تركْتَ سُؤَالهُ ... وَبُنيُّ آدمَ حِينَ يُسألُ يَغْضَبُ ...
وَقَالَ قَتَادَةُ:: قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ ثَلَاثًا لَمْ تُعطهُن (3) أُمَّةٌ قَبْلَهُمْ إِلَّا نَبِيٌّ: كَانَ إِذَا أَرْسَلَ اللَّهُ نَبِيًّا قِيلَ لَهُ: "أَنْتَ شَاهِدٌ عَلَى أُمَّتِكَ"، وجَعلتُكم (4) شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: "لَيْسَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ". وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ:78] . وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: "ادْعُنِي (5) أَسْتَجِبْ لَكَ "وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ (6) الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ التُّرْجُمَانِيُّ، حَدَّثَنَا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ-قَالَ: "أَرْبَعُ خِصَالٍ، وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لِي، وَوَاحِدَةٌ لَكَ، وَوَاحِدَةٌ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنِكَ، وَوَاحِدَةٌ فِيمَا بَيْنِكَ وَبَيْنَ عِبَادِي (7) : فَأَمَّا التِي لِي فَتَعْبُدُنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، وَأَمَّا الَّتِي لَكَ عليَّ فَمَا عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ جَزَيْتُكَ بِهِ، وَأَمَّا التِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ: فَمِنْكَ الدُّعَاءُ وَعَلِيَّ الْإِجَابَةُ، وَأَمَّا الَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ عِبَادِي فَارْضَ لَهُمْ مَا (8) تَرْضَى لِنَفْسِكَ" (9) .
وَقَالَ (10) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ يُسيع الْكِنْدِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ" ثُمَّ قَرَأَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
__________
(1) في ت: "روى ابن أبي حاتم عن".
(2) في ت، أ: "وليس أحد كذلك".
(3) في س: "يعطهن".
(4) في ت: "وروى".
(5) في س: "ادعوني".
(6) في ت: "وروى".
(7) في ت: "العباد".
(8) في ت، أ: "بما".
(9) مسند أبي يعلى (5/143) ورواه البزار في مسنده برقم (19) "كشف الأستار" من طريق الحجاج بن المنهال عن صالح المري به وقال: "تفرد به صالح المري" قال الهيثمي في المجمع (1/51) "في إسناده صالح المري وهو ضعيف وتدليس الحسن أيضا. والمحمل هنا على صالح بن بشير المري فهو ضعيف جدا وقد تفرد به.
(10) في ت: "وروى".(7/153)
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ: التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ،وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، بِهِ (1) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ ذَرٍّ، بِهِ (2) . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ وَالْأَعْمَشِ، كِلَاهُمَا عَنْ ذَرٍّ، بِهِ (3) .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ (4) .
وَقَالَ (5) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنِي أَبُو مَلِيحٍ الْمَدَنِيُّ -شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ-سَمِعَهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَقَالَ مَرَّةً: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (6) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، غَضِبَ عَلَيْهِ".
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (7) ، وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَالَ (8) الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا صُبيح أَبُو الْمَلِيحِ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَا يَسْأَلْهُ يَغْضَبْ عَلَيْهِ" (9) .
قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: أَبُو الْمَلِيحِ هَذَا اسْمُهُ: صُبَيْح. كَذَا قَيَّدَهُ بِالضَّمِّ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ. وَأَمَّا أَبُو صَالِحٍ هَذَا فَهُوَ (10) الخُوزي (11) ، سَكَنَ شِعَب الْخُوزِ (12) . قَالَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ. وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ أَبُو الْمَلِيحِ الْفَارِسِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الخُوزي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "من لَا يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ" (13) .
وَقَالَ (14) الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرامهُرْمزي: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا نَائِلُ بْنُ نَجِيحٍ، حَدَّثَنِي عَائِذُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَجَدْنَا فِي ذُؤَابَةِ (15) سَيْفِهِ كِتَابًا: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي بَقِيَّةِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ (16) ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّ دَعْوَةً أَنْ تُوَافِقَ رَحْمَةً فَيَسْعَدَ (17) بِهَا صَاحِبُهَا سَعَادَةً لَا يَخْسَرُ بَعْدَهَا أَبَدًا" (18) .
__________
(1) المسند (4/271) وسنن الترمذي برقم (3372) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11464) وسنن ابن ماجه برقم (3828) وتفسير الطبري (24/51) .
(2) سنن أبي داود برقم (1479) وسنن الترمذي برقم (2969) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11446) وتفسير الطبري (24/51) .
(3) سنن الترمذي برقم (3247) .
(4) صحيح ابن حبان برقم (2396) "موارد" والمستدرك (1/491) .
(5) في ت: "وروى".
(6) زيادة من ت.
(7) المسند (2/477) وتفرد به أحمد بهذا اللفظ وإلا فقد رواه ابن ماجه في السنن برقم (3827) من طريق وكيع بهذا الإسناد بلفظ: "من لم يسأل الله يغضب عليه".
(8) في ت: "وروى".
(9) المسند (2/442) .
(10) في ت، س: "وهو".
(11) في أ: "الجزري".
(12) في أ: "الجزر".
(13) ورواه الترمذي في السنن برقم (3373) وقال: "أبو المليح اسمه صبيح، وسمعت محمدا يقوله وقال له: فارسي".
(14) في ت: "وروى".
(15) في ت: "رواية".
(16) في ت: "في بقية أيام نفحات" وفي س، أ: "في بقية أيام دهركم نفحات".
(17) في ت: "يسعد".
(18) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (19/233) من وجه آخر.(7/154)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أَيْ: عَنْ دُعَائِي وَتَوْحِيدِي، {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أَيْ: صَاغِرِينَ حَقِيرِينَ، كَمَا قَالَ (1) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُحْشَر الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ، فِي صُوَرِ النَّاسِ، يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ حَتَّى يَدْخُلُوا (2) سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ -يُقَالُ لَهُ: بُولَسُ-تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ: عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ" (3) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْس: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ وُهَيب (4) بْنِ الْوَرْدِ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ قَالَ: كُنْتُ أَسِيرُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَرْضِ الرُّومِ، فَسَمِعْتُ هَاتِفًا مِنْ فَوْقِ رَأْسِ جَبَلٍ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبِّ، عَجِبْتُ لِمَنْ عَرَفَكَ كَيْفَ يَرْجُو أَحَدًا غَيْرَكَ! يَا رَبِّ، عَجِبْتُ لِمَنْ عَرَفَكَ كَيْفَ يَطْلُبُ حَوَائِجَهُ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِكَ -قَالَ: ثُمَّ ذَهَبْتُ، ثُمَّ جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى -قَالَ: ثُمَّ عَادَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: يَا رَبِّ، عَجِبْتُ لِمَنْ عَرَفَكَ كَيْفَ يَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ مِنْ سَخَطِكَ يُرضي (5) غَيْرَكَ. قَالَ وُهَيْبٌ: وَهَذِهِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى. قَالَ: فَنَادَيْتُهُ: أَجِنِّيٌّ أَنْتَ أَمْ إِنْسِيٌّ؟ قَالَ: بَلْ إِنْسِيٌّ، اشْغَلْ نَفْسَكَ بِمَا يَعْنيك عَمَّا لَا يَعْنِيكَ.
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) }
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى خَلْقِهِ، بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ اللَّيْلِ الَّذِي يَسْكُنُونَ فِيهِ وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ حَرَكَاتِ تَرَدُّدِهِمْ فِي الْمَعَايِشِ بِالنَّهَارِ، وَجَعَلَ النَّهَارَ مُبْصِرًا، أَيْ: مُضِيئًا، لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِالْأَسْفَارِ، وَقَطْعِ الْأَقْطَارِ، وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الصِّنَاعَاتِ، {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} (6) أَيْ: لَا يَقُومُونَ بِشُكْرِ نِعَمِ (7) اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ} أَيِ: الَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، خَالِقُ الْأَشْيَاءِ، الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أَيْ: فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، الَّتِي لَا تَخْلُقُ شَيْئًا، بَلْ هِيَ مخلوقة منحوتة.
__________
(1) في ت: "روى".
(2) في ت: "يدخلون".
(3) المسند (2/179) .
(4) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده عن وهيب".
(5) في ت، س: "يرضى".
(6) في ت: "ولكن أكثرهم". وهو خطأ.
(7) في أ: "ما أنعم".(7/155)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)
وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أَيْ: كَمَا ضَلَّ هَؤُلَاءِ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، كَذَلِكَ أُفِكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَعَبَدُوا غَيْرَهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى، وَجَحَدُوا حُجَجَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا} أَيْ: جَعَلَهَا مُسْتَقَرًّا لَكُمْ، بِسَاطًا مِهَادًا تَعِيشُونَ عَلَيْهَا، وَتَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَتَمْشُونَ فِي مَنَاكِبِهَا، وَأَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أَيْ: سَقْفًا لِلْعَالَمِ مَحْفُوظًا، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أَيْ: فَخَلَقَكُمْ فِي أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ، وَمَنَحَكُمْ أَكْمَلَ الصُّوَرِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أَيْ: مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ فِي الدُّنْيَا. فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الدَّارَ، وَالسُّكَّانَ، وَالْأَرْزَاقَ -فَهُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 21، 20] (1) وَقَالَ هَاهُنَا بَعْدَ خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَيْ: فَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ رَبُّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ} أَيْ: هُوَ الْحَيُّ أَزَلًا وَأَبَدًا، لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، {لَا إِلَهَ إِلا هُوَ} أَيْ: لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا عَدِيلَ لَهُ، {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أَيْ: مُوَحِّدِينَ لَهُ مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَأْمُرُونَ مَنْ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" أَنْ يتبعها بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، عَمَلًا بِهَذِهِ الْآيَةِ.
ثُمَّ رَوَى عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقَدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2) قَالَ: مَنْ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَلْيَقُلْ عَلَى أَثَرِهَا: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" فَذَلِكَ (3) قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِذَا قَرَأْتَ: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غَافِرٍ: 14] ، فَقُلْ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" وَقُلْ عَلَى أَثَرِهَا: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) }
__________
(1) في س: "اتقوا" وهوز خطأ.
(2) في ت: "ثم روى بإسناده عن ابن عباس".
(3) في ت، س: "وذلك".(7/156)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) }
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ اللَّهَ يَنْهَى أَنْ يُعْبَد أَحَدٌ سِوَاهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ(7/156)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
وَالْأَوْثَانِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَحَدٌ سِوَاهُ، فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} أَيْ: هُوَ الَّذِي يُقَلِّبُكُمْ فِي هَذِهِ الْأَطْوَارِ كُلِّهَا، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَنْ أَمْرِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ يَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوجَدَ وَيَخْرُجَ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ، بَلْ تُسْقِطُهُ أُمُّهُ سَقْطًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُتَوَفَّى صَغِيرًا، وَشَابًّا، وَكَهْلًا قَبْلَ الشَّيْخُوخَةِ، كَقَوْلِهِ: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الْحَجِّ: 5] وَقَالَ هَاهُنَا: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، تَتَذَكَّرُونَ الْبَعْثَ.
ثُمَّ قَالَ: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَيْ: هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِذَلِكَ، لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ، {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أَيْ: لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ، بَلْ مَا شَاءَ كَانَ [لَا مَحَالَةَ] (1) .
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) }
يَقُولُ تَعَالَى: أَلَا تَعْجَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَيُجَادِلُونَ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كَيْفَ تُصرّف عُقُولُهُمْ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} أَيْ: مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، مِنَ الرَّبِّ، جَلَّ جَلَالُهُ، لِهَؤُلَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الْمُرْسَلَاتِ: 15] .
وَقَوْلُهُ: {إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} أَيْ: مُتَّصِلَةٌ بِالْأَغْلَالِ، بِأَيْدِي الزَّبَانِيَةِ يَسْحَبُونَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، تَارَةً إِلَى الْحَمِيمِ وَتَارَةً إِلَى الْجَحِيمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} ، كَمَا قَالَ: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرَّحْمَنِ: 43، 44] . وَقَالَ بَعْدَ ذكْره أَكْلَهُمُ الزَّقُّومَ وَشُرْبَهُمُ الْحَمِيمَ: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ} [الصَّافَّاتِ:68] وَقَالَ {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ. فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لَا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} إِلَى أَنْ قَالَ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ. فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ. فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ. فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ. هَذَا نزلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الْوَاقِعَةِ: 41 -56] . وَقَالَ {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعَامُ الأثِيمِ. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ. خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدُّخَانِ: 43 -50] ،
__________
(1) زيادة من س، أ.(7/157)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالتَّحْقِيرِ وَالتَّصْغِيرِ، وَالتَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسين، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا بَشِيرُ (1) بْنُ طَلْحَةَ الْخِزَامِيُّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ دُرَيْك، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنْيَه -رَفَعَ الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: "يُنْشِئُ اللَّهُ سَحَابَةً لِأَهْلِ النَّارِ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، أَيَّ شَيْءٍ تَطْلُبُونَ؟ فَيَذْكُرُونَ بِهَا سَحَابَ الدُّنْيَا فَيَقُولُونَ: نَسْأَلُ بَرْد الشَّرَابِ، فَتُمْطِرُهُمْ أَغْلَالًا تَزِيدُ فِي أَغْلَالِهِمْ، وَسَلَاسِلَ تَزِيدُ فِي سَلَاسِلِهِمْ، وَجَمْرًا يُلْهِبُ النَّارَ عَلَيْهِمْ". هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ (2) .
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيْ: قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ الْأَصْنَامُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ هَلْ يَنْصُرُونَكُمُ الْيَوْمَ؟ {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أَيْ: ذَهَبُوا فَلَمْ يَنْفَعُونَا، {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} أَيْ: جَحَدُوا عِبَادَتَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَامِ: 23] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} .
وَقَوْلُهُ: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} أَيْ: تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ جَزَاءٌ عَلَى فَرَحِكُمْ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَمَرَحِكُمْ وَأَشَرِكُمْ وَبَطَرِكُمْ، {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أَيْ: فَبِئْسَ المْنزلُ والمَقِيلُ الَّذِي فِيهِ الْهَوَانُ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ، لِمَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ دَلَائِلِهِ وحُججه.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) }
__________
(1) في أ: "بشر".
(2) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (4846) وابن عدي في الكامل (6/394) من طريق أحمد بن منيع عن منصور به، وقال الطبراني: "لا يروى إلا بهذا الإسناد تفرد به منصور". وقال الهيثمي في المجمع (10/390) : "فيه من فيه ضعف قليل، وفيه من لم أعرفه".(7/158)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) }
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِالصَّبْرِ عَلَى تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ عَلَى قَوْمِكَ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا. وَكَذَلِكَ وَقَعَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَقَرَّ أَعْيُنَهُمْ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ، أُبِيدُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ. ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَسَائِرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أَيْ: فَنُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ فِي الْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ مُسَلِّيًا لَهُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} كَمَا قَالَ فِي "سُورَةِ النِّسَاءِ" سَوَاءٌ، أَيْ: مِنْهُمْ مَنْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ خَبَرَهُمْ وَقِصَصَهُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ كَيْفَ كَذَّبُوهُمْ ثُمَّ كَانَتْ لِلرُّسُلِ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ، {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ ذكر(7/158)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
بِأَضْعَافِ أَضْعَافٍ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (1) ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمَهُ بِخَارِقٍ لِلْعَادَاتِ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ (2) لَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} وَهُوَ عَذَابُهُ وَنَكَالُهُ الْمُحِيطُ بِالْمُكَذِّبِينَ {قُضِيَ بِالْحَقِّ} فَيَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ، وَيَهْلَكُ الْكَافِرُونَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) }
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ، بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72] ، فَالْإِبِلُ تُرْكَبُ وَتُؤْكَلُ وَتُحْلَبُ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَثْقَالُ فِي الْأَسْفَارِ وَالرِّحَالِ إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَالْأَقْطَارِ الشَّاسِعَةِ. وَالْبَقَرُ تُؤْكَلُ، وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا، وَتُحْرَثُ عَلَيْهَا الْأَرْضُ. وَالْغَنَمُ تُؤْكَلُ، وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا، وَالْجَمِيعُ تُجَزُّ أَصْوَافُهَا وَأَشْعَارُهَا وَأَوْبَارُهَا، فَيُتَّخَذُ مِنْهَا الْأَثَاثُ وَالثِّيَابُ وَالْأَمْتِعَةُ كَمَا فَصَّل وبَيَّنَ فِي أَمَاكِنَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي "سُورَةِ الْأَنْعَامِ" (3) ، وَ "سُورَةِ النَّحْلِ" (4) ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} .
وَقَوْلُهُ: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أَيْ: حُجَجَهُ وَبَرَاهِينَهُ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِكُمْ، {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} أَيْ: لَا تَقْدِرُونَ عَلَى إِنْكَارِ شَيْءٍ مِنْ آيَاتِهِ، إِلَّا أَنْ تُعَانِدُوا وَتُكَابِرُوا.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِالرُّسُلِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ، وَمَاذَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، مع
__________
(1) راجع تفسير الآية: 164 من سورة النساء.
(2) في أ: "إلا بإذن الله".
(3) راجع تفسير الآيات: 141-144 من سورة الأنعام.
(4) راجع تفسير الآيات: 5-8 من سورة النحل.(7/159)
شِدَّةِ قُوَاهُمْ، وَمَا أَثّروه فِي الْأَرْضِ، وَجَمَعُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَا رَدَّ عَنْهُمْ ذَرَّةً مِنْ بَأْسِ اللَّهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ (1) بِالْبَيِّنَاتِ، وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ، وَالْبَرَاهِينِ الدَّامِغَاتِ، لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ، وَلَا أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، وَاسْتَغْنَوْا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِي زَعْمِهِمْ عَمَّا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِجَهَالَتِهِمْ، فَأَتَاهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ مَا لَا قِبَل لَهُمْ بِهِ.
{وَحَاقَ بِهِمْ} أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ: يُكَذِّبُونَ وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ.
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} أَيْ: عَايَنُوا وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ، {قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} أَيْ: وَحَّدُوا اللَّهَ وَكَفَرُوا بِالطَّاغُوتِ، وَلَكِنْ حَيْثُ لَا تُقَال الْعَثَرَاتُ، وَلَا تَنْفَعُ الْمَعْذِرَةُ. وَهَذَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ حِينَ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يُونُسَ: 90] ، قَالَ اللَّهُ [تَبَارَكَ وَ] (2) تَعَالَى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يُونُسَ: 91] أَيْ: فَلَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لِنَبِيِّهِ مُوسَى دُعَاءَهُ عَلَيْهِ حِينَ قَالَ: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ:88] . وَ [هَكَذَا] (3) هَاهُنَا قَالَ: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أَيْ: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي جَمِيعِ (4) مَنْ تَابَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ" (5) أَيْ: فَإِذَا غَرْغَرَ وَبَلَغَتِ الرُّوحُ الْحَنْجَرَةَ، وَعَايَنَ الْمَلِكَ، فَلَا تَوْبَةَ حِينَئِذٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}
آخِرُ تَفْسِيرِ "سورة غافر (6) ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في أ: "رسلهم".
(2) زيادة من س، أ.
(3) زيادة من س، أ.
(4) في أ: "في جميع عباده".
(5) رواه الترمذي في السنن برقم (3537) وابن ماجه في السنن برقم (4253) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(6) في س: "المؤمن".(7/160)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
تَفْسِيرُ سُورَةِ فُصِّلَتْ (1)
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم
{حم (1) تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) }
يَقُولُ تَعَالَى: {حم تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَعْنِي: الْقُرْآنُ مُنَزَّلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النَّحْلِ: 102] ، وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 192 -194] .
وَقَوْلُهُ: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أَيْ: بُينت مَعَانِيهِ وَأُحْكِمَتْ أَحْكَامُهُ (2) ، {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِهِ لَفْظًا عَرَبِيًّا، بَيِّنًا وَاضِحًا، فَمَعَانِيهِ مُفَصَّلَةٌ، وَأَلْفَاظُهُ وَاضِحَةٌ غَيْرُ مُشْكِلَةٍ، كَقَوْلِهِ: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هُودٍ: 1] أَيْ: هُوَ مُعْجِزٌ مِنْ حَيْثُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فُصِّلَتْ: 42] .
وَقَوْلُهُ: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أَيْ: إِنَّمَا يَعْرِفُ هَذَا الْبَيَانَ وَالْوُضُوحَ العلماءُ الرَّاسِخُونَ، {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أَيْ: تَارَةً يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَارَةً يُنْذِرُ الْكَافِرِينَ، {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} أَيْ: أَكْثَرُ قُرَيْشٍ، فَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا مَعَ بَيَانِهِ وَوُضُوحِهِ.
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} أَيْ: فِي غُلْفٍ مُغَطَّاةٍ {مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} أَيْ: صَمَمٌ عَمَّا جِئْتَنَا بِهِ، {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} فَلَا يَصِلُ إِلَيْنَا شَيْءٌ مِمَّا تَقُولُ، {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} أَيِ: اعْمَلْ أَنْتَ عَلَى طَرِيقَتِكَ، وَنَحْنُ عَلَى طَرِيقَتِنَا لَا نُتَابِعُكَ.
قَالَ الْإِمَامُ العَلَم عَبْدُ بْنُ حُمَيد فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِر عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنِ الذَّيَّال بْنِ حَرْمَلة الْأَسَدِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ يَوْمًا فَقَالُوا: انْظُرُوا أعْلَمكم بِالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ، فَلْيَأْتِ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي قَدْ فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، فَلْيُكَلِّمْهُ وَلْنَنْظُرْ مَاذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ؟ فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا غَيْرَ عتبة ابن رَبِيعَةَ. فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ. فَأَتَاهُ عُتْبَةُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: فَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَدْ عَبَدُوا الْآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْهُمْ فَتَكَلَّمْ حتى نسمع
__________
(1) في س: "تفسير حم السجدة".
(2) في أ: "آياته".(7/161)
قَوْلَكَ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا سَخْلةً قَطُّ أَشْأَمَ عَلَى قَوْمِكَ (1) مِنْكَ؛ فَرَّقْتَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَّ أَمْرَنَا، وَعِبْتَ دِينَنَا، وَفَضَحْتَنَا فِي الْعَرَبِ، حَتَّى لَقَدْ طَارَ فِيهِمْ أَنَّ فِي قُرَيْشٍ سَاحِرًا، وَأَنَّ فِي قُرَيْشٍ كَاهِنًا! وَاللَّهِ مَا نَنْظُرُ (2) إِلَّا مِثْلَ صَيْحَةِ الحُبْلى أَنْ يَقُومَ بَعْضُنَا إِلَى (3) بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ، حَتَّى نَتَفَانَى! أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْحَاجَةُ جَمَعْنَا لَكَ حَتَّى تَكُونَ أَغْنَى قُرَيْشٍ رَجُلًا (4) وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْبَاءَةُ فَاخْتَرْ أَيَّ نِسَاءِ قُرَيْشٍ [شِئْتَ] (5) فَلْنُزَوِّجْكَ عَشْرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَرَغْتَ؟ " قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم. حم. تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حَتَّى بَلَغَ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فَقَالَ عُتْبَةُ: حَسْبُكَ! حَسْبُكَ! مَا عِنْدَكَ غَيْرُ هَذَا؟ قَالَ: "لَا" فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ شَيْئًا أَرَى أَنَّكُمْ تُكَلِّمُونَهُ بِهِ إِلَّا كَلَّمْتُهُ. قَالُوا: فَهَلْ أَجَابَكَ؟ [قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَمَا قَالَ؟] (6) قَالَ: لَا وَالَّذِي نَصَبَهَا بَنيَّةً مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ، غَيْرَ أَنَّهُ أَنْذَرَكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ. قَالُوا: وَيْلَكَ! يُكَلِّمُكَ الرَّجُلُ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا تَدْرِي مَا قَالَ؟! قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ غَيْرَ ذِكْرِ الصَّاعِقَةِ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ، مِثْلَهُ سَوَاءً (7) .
وَقَدْ سَاقَهُ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيل، عَنِ الْأَجْلَحِ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ [الْكُوفِيُّ] (8) -وَقَدْ ضُعِّفَ بَعْضَ الشَّيْءِ عَنِ الذّيَّال بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ جَابِرٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ، وَنَاشَدَهُ بِالرَّحِمِ، وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى قُرَيْشٍ وَاحْتَبَسَ عَنْهُمْ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَا إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأَعْجَبَهُ طَعَامُهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ [قَدْ] (9) أَصَابَتْهُ، فَانْطَلِقُوا بِنَا إِلَيْهِ. فَانْطَلَقُوا إِلَيْهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا عُتْبَةُ، مَا حَبَسَكَ عَنَّا إِلَّا أَنَّكَ صَبَوْتَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَعْجَبَكَ طَعَامُهُ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ (10) حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيكَ عَنْ طَعَامِ مُحَمَّدٍ. فَغَضِبَ عُتْبَةُ، وَأَقْسَمَ أَلَّا يُكَلِّمَ مُحَمَّدًا أَبَدًا، وَقَالَ: وَاللَّهِ، لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا وَلَكِنِّي أَتَيْتُهُ وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ [الْقِصَّةَ] (11) فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا سِحْرٍ، وَقَرَأَ السُّورَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فَأَمْسَكْتُ بِفِيهِ، وَنَاشَدْتُهُ بِالرَّحِمِ أَنْ يَكُفَّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ، فَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ (12) .
وَهَذَا السِّيَاقُ أَشْبَهُ مِنْ سِيَاقِ الْبَزَّارِ وَأَبِي يَعْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ هَذِهِ الْقِصَّةَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ على خلاف هذا النمط، فقال:
__________
(1) في س: "جماعته".
(2) في س: "ننتظر".
(3) في أ: "على".
(4) في س، أ: "رجلا واحدا".
(5) زيادة من س، أ.
(6) زيادة من أ.
(7) المنتخب لعبد بن حميد برقم (1121) ومسند أبي يعلى (3/349) وفي إسناده الأجلح الكندي ضعفه النسائي وغيره.
(8) زيادة من س، أ.
(9) زيادة من أ.
(10) في س، أ: "بك".
(11) زيادة من س، أ.
(12) معالم التنزيل للبغوي (7/167) .(7/162)
حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي قَالَ: حُدِّثْتُ أَنْ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ -وَكَانَ سَيِّدًا-قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَلَا أَقُومُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلَّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا، فَنُعْطِيَهُ أيَّها شَاءَ وَيَكُفَّ عَنَّا؟ وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ، وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ، فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَقُمْ إِلَيْهِ فَكَلِّمْهُ (1) .فَقَامَ إِلَيْهِ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنَ السِّطَة فِي الْعَشِيرَةِ، وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنَّا بَعْضَهَا. قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَسْمَعْ". قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تريدُ بِمَا جئتَ بِهِ مِنْ (2) هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالَنَا حَتَّى تَكُونَ مِنْ أَكْثَرِنَا أَمْوَالًا (3) . وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ. وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا. وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رَئِيّا تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِكَ، طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّى نُبَرِّئَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُدَاوَى مِنْهُ -أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ-حَتَّى إِذَا فَرَغَ عُتْبَةُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ مِنْهُ قَالَ: "أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَاسْتَمِعْ مِنِّي" قَالَ: أَفْعَلُ. قَالَ: {بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} ثُمَّ مَضَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ. فَلَمَّا سَمِعَ عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ، ثُمَّ انْتَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السَّجْدَةِ مِنْهَا، فَسَجَدَ ثُمَّ قَالَ: "قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ (4) فَقَامَ عُتْبَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أُقْسِمُ -يَحْلِفُ (5) بِاللَّهِ-لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ. فَلَمَّا جَلَسَ إِلَيْهِمْ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: وَرَائِي أَنِّي قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالسِّحْرِ وَلَا بِالشِّعْرِ وَلَا بِالْكِهَانَةِ. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا لِي، خَلُّوا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللَّهِ ليكونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ. قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ! قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ (6) .
وَهَذَا السِّيَاقُ أَشْبَهُ مِنَ الَّذِي قبله، والله أعلم.
__________
(1) في أ: "وكلمه".
(2) في أ: "في".
(3) في س: "مالا".
(4) في أ: "وحالك".
(5) في س: "نحلف".
(6) انظر السيرة النبوية لابن هشام (1/293) .(7/163)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) }
يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُشْرِكِينَ: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لَا كَمَا تَعْبُدُونَهُ (1) مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَرْبَابِ الْمُتَفَرِّقِينَ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} أَيْ: أَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ عَلَى مِنْوَالِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، {وَاسْتَغْفِرُوهُ} أَيْ: لِسَالِفِ الذُّنُوبِ، {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} أَيْ: دَمَارٌ لَهُمْ وَهَلَاكٌ عَلَيْهِمْ،
{الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي: الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشَّمْسِ: 9، 10] ، وَكَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الْأَعْلَى: 14، 15] ، وَقَوْلِهِ {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النَّازِعَاتِ: 18] وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ هَاهُنَا: طَهَارَةُ النَّفْسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ طَهَارَةُ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ. وَزَكَاةُ الْمَالِ إِنَّمَا سُمِّيَتْ زَكَاةً لِأَنَّهَا تُطَهِّرُهُ مِنَ الْحَرَامِ، وَتَكُونُ سَبَبًا لِزِيَادَتِهِ وَبَرَكَتِهِ وَكَثْرَةِ نَفْعِهِ، وَتَوْفِيقًا إِلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي الطَّاعَاتِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أَيْ: لَا يَدِينون بِالزَّكَاةِ.
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: لَيْسَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يَمْنَعُونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ.
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ إِيجَابَ الزَّكَاةِ إِنَّمَا كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَهَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الزَّكَاةِ الصَّدَقَةَ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْبِعْثَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الْأَنْعَامِ: 141] ، فَأَمَّا الزَّكَاةُ ذَاتُ النُّصُبِ وَالْمَقَادِيرِ فَإِنَّمَا بَيَّن أَمْرُهَا بِالْمَدِينَةِ، وَيَكُونُ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فِي ابْتِدَاءِ الْبِعْثَةِ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وَنِصْفٍ، فَرَضَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2) الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَفَصَّلَ شُرُوطَهَا وَأَرْكَانَهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، شَيْئًا فَشَيْئًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: لَا مَقْطُوعٌ وَلَا مَجْبُوبٌ (3) ، كَقَوْلِهِ: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الْكَهْفِ: 3] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هُودٍ: 108] .
وَقَالَ السُّدِّيُّ: غَيْرُ مَمْنُونٍ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ هَذَا التَّفْسِيرَ، فَإِنَّ الْمِنَّةَ لِلَّهِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ} [الْحُجُرَاتِ: 17] ، وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطُّورِ: 27] ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ".
__________
(1) في س: "يعبدونه".
(2) زيادة من س، أ.
(3) في أ: "غير مقطوع ولا محسوب".(7/164)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) }(7/165)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) }
هَذَا إِنْكَارٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْقَاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْمُقَدِّرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} أَيْ: نُظَرَاءَ وَأَمْثَالًا تَعْبُدُونَهَا (1) مَعَهُ {ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَيِ: الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ.
وَهَذَا الْمَكَانُ فِيهِ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الْأَعْرَافِ: 54] ، فَفَصَّلَ هَاهُنَا مَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْضِ مِمَّا اخْتَصَّ بِالسَّمَاءِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا لِأَنَّهَا كَالْأَسَاسِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُبْدَأَ بِالْأَسَاسِ، ثُمَّ بَعْدَهُ بِالسَّقْفِ، كَمَا قَالَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 29] ،.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ} [النَّازِعَاتِ: 27-33] فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ دَحْى الْأَرْضِ كَانَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ (2) ، فالدَّحْيُ هُوَ مُفَسَّرٌ بِقَوْلِهِ: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} ، وَكَانَ هَذَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، فَأَمَّا خَلْقُ الْأَرْضِ فَقَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ بِالنَّصِّ، وَبِهَذَا أَجَابَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ صَحِيحِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ:
وَقَالَ الْمِنْهَالُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101] ، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 27] ، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النِّسَاءِ: 42] ، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَامِ: 23] ، فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ وَقَالَ: {أَمِ السَّمَاءُ (3) بَنَاهَا} إِلَى قَوْلِهِ: {دَحَاهَا} [النَّازِعَاتِ: 27 -30] ، فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ [خَلْقِ] (4) الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ: {طَائِعِينَ} فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ؟ وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: 96] ، {عَزِيزًا حَكِيمًا} [النِّسَاءِ: 56] ، {سَمِيعًا بَصِيرًا} [النِّسَاءِ: 58] ، فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى.
قَالَ -يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ-: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزُّمَرِ: 68] ، فلا أنساب بينهم عند
__________
(1) في س: "يعبدونها".
(2) في أ: "السموات".
(3) في س: "والسماء".
(4) زيادة من س.(7/165)
ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْأُخْرَى {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: تَعَالَوْا نَقُولُ: "لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ"، فَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُعْرَفُ (1) أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ [الْحِجْرِ: 2] .
وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ، ودَحْيُها: أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْجَمَادَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {دَحَاهَا} وَقَوْلُهُ {خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} فَخُلِقت الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَخُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: 96] ، سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ، أَيْ: لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ، فَلَا يَخْتَلِفَنَّ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِيهِ يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَة (2) ، عَنِ الْمِنْهَالِ -هُوَ ابْنُ عَمْرٍو-بِالْحَدِيثِ (3) .
فَقَوْلُهُ: {خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} يَعْنِي: يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} أَيْ: جَعَلَهَا مُبَارَكَةً قَابِلَةً لِلْخَيْرِ وَالْبَذْرِ وَالْغِرَاسِ، {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} ، وَهُوَ: مَا يَحْتَاجُ (4) أَهْلُهَا إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُزْرَعُ وَتُغْرَسُ، يَعْنِي: يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ، فَهُمَا مَعَ الْيَوْمَيْنِ السَّابِقَيْنِ أَرْبَعَةٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} أَيْ: لِمَنْ أَرَادَ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ لِيَعْلَمَهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} جَعَلَ فِي كُلِّ أَرْضٍ مَا لَا يَصْلُحُ فِي غَيْرِهَا، وَمِنْهُ: الْعَصَبُ بِالْيَمَنِ، وَالسَّابِرِيُّ بِسَابُورَ وَالطَّيَالِسَةُ بِالرَّيِّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} أَيْ: لِمَنْ أَرَادَ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} أَيْ: عَلَى وَفْقِ مُرَادِ مَنْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى رِزْقٍ أَوْ حَاجَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُ مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ يُشْبِهُ مَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إِبْرَاهِيمَ: 34] ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} ، وَهُوَ: بُخَارُ الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض،
__________
(1) في أ: "عرفوا".
(2) في أ: "شيبة".
(3) صحيح البخاري (8/556) "فتح".
(4) في س: "ما تحتاج".(7/166)
{فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أَيِ: اسْتَجِيبَا لِأَمْرِي، وَانْفَعِلَا لِفِعْلِي طَائِعَتَيْنِ أَوْ مُكْرَهَتَيْنِ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ [تَعَالَى] (1) {فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلسَّمَوَاتِ: أَطْلِعِي شَمْسِي وَقَمَرِي وَنُجُومِي. وَقَالَ لِلْأَرْضِ: شَقِّقِي أَنْهَارَكِ، وَأَخْرِجِي ثِمَارَكِ. فَقَالَتَا: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ}
وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ.
{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أَيْ: بَلْ نَسْتَجِيبُ لَكَ مُطِيعِينَ بِمَا فِينَا، مِمَّا تُرِيدُ خَلْقَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ جَمِيعًا مُطِيعِينَ (2) لَكَ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ قَالَ: وَقِيلَ: تَنْزِيلًا لَهُنَّ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ بِكَلَامِهِمَا.
وَقِيلَ (3) إِنَّ الْمُتَكَلِّمَ مِنَ الْأَرْضِ بِذَلِكَ هُوَ مَكَانُ الْكَعْبَةِ، وَمِنَ السَّمَاءِ مَا يُسَامِتُهُ مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ أَبَيَا عَلَيْهِ أَمْرَهُ لَعَذَّبَهُمَا عَذَابًا يَجِدَانِ أَلَمَهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} أَيْ: فَفَرَغَ مِنْ تَسْوِيَتِهِنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ، أَيْ: آخَرَيْنِ، وَهُمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ وَيَوْمُ الْجُمْعَةِ.
{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} أَيْ: وَرَتَّبَ مُقَرِّرًا فِي كُلِّ سَمَاءٍ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} وَهُنَّ الْكَوَاكِبُ الْمُنِيرَةُ الْمُشْرِقَةُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، {وَحِفْظًا} أَيْ: حَرَسًا مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ تَسْتَمِعَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى.
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أَيِ: الْعَزِيزُ الَّذِي قَدْ عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ فَغَلَبَهُ وَقَهَرَهُ، الْعَلِيمُ بِجَمِيعِ حَرَكَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَسَكَنَاتِهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا هَنَّاد بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (4) الْبَقَّالِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -قَالَ هَنَّادٌ: قَرَأْتُ سَائِرَ الْحَدِيثِ-أَنَّ الْيَهُودَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَمَا فِيهِنَّ مِنْ مَنَافِعَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الشَّجَرَ وَالْمَاءَ وَالْمَدَائِنَ وَالْعُمْرَانَ وَالْخَرَابَ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} لِمَنْ سَأَلَ، قَالَ: "وَخَلَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْمَلَائِكَةَ إِلَى ثَلَاثِ سَاعَاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ، فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْآجَالَ، حِينَ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَلْقَى الْآفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ، وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ". ثُمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ: ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ". قَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ لَوْ أتممت! قالوا:
__________
(1) زيادة من س.
(2) في س: "مطيعون".
(3) في س، أ: "ويقال".
(4) في س: "سعد".(7/167)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
ثُمَّ اسْتَرَاحَ. فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَنَزَلَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ.فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق: 38] (1) .
هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ غَرَابَةٌ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ" فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابَيْهِمَا، عَنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهِ (2) . وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ عَلَّله الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ فَقَالَ: رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (3) عَنِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) }
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ: إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ حُلُولَ نِقْمَةِ اللَّهِ بِكُمْ، كَمَا حَلَّتْ بِالْأُمَمِ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْمُرْسَلِينَ {صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} أَيْ: وَمَنْ شَاكَلَهُمَا (4) مِمَّنْ فَعَلَ كَفِعْلِهِمَا.
{إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الْأَحْقَافِ: 21] ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الْأَحْقَافِ: 21] أَيْ: فِي الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ لِبِلَادِهِمْ، بعث الله إليهم الرسل
__________
(1) تفسير الطبري (24/31) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم 878 والحاكم في المستدرك (2/543) من طريق هناد به، وقال الحاكم صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي فقال: أبو سعيد البقال قال ابن معين: لا يكتب حديثه."
(2) صحيح مسلم برقم (2789) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11010) .
(3) زيادة من ت.
(4) في أ: "شاكلهم".(7/168)
يَأْمُرُونَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَرَأَوْا مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِأَعْدَائِهِ مِنَ النِّقَمِ، وَمَا أَلْبَسَ (1) أَوْلِيَاءَهُ مِنَ النِّعَمِ، وَمَعَ هَذَا مَا آمَنُوا وَلَا صَدَّقُوا، بَلْ كَذَّبُوا وَجَحَدُوا، وَقَالُوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً} أَيْ: لَوْ أَرْسَلَ اللَّهُ رُسُلًا (2) لَكَانُوا مَلَائِكَةً مِنْ عِنْدِهِ، {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أَيْ: أَيُّهَا الْبَشَرُ {كَافِرُونَ} أَيْ: لَا نَتَّبِعُكُمْ وَأَنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبرَوُا فِي الأرْضِ [بِغَيْرِ الحَقٍّ] } (3) أَيْ: بَغَوْا وَعَتَوْا وَعَصَوْا، {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} أَيْ: مَنُّوا بِشِدَّةِ تَرْكِيبِهِمْ وَقُوَاهُمْ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ بِهِ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ! {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أَيْ: أَفَمَا يَتَفَكَّرُونَ (4) فِيمَنْ يُبَارِزُونَ بِالْعَدَاوَةِ؟ فَإِنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ وَرَكَّبَ فِيهَا قُوَاهَا الْحَامِلَةَ لَهَا، وَإِنَّ بَطْشَهُ شَدِيدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذَّارِيَاتِ: 47] ، فَبَارَزُوا الْجَبَّارَ بِالْعَدَاوَةِ، وَجَحَدُوا بِآيَاتِهِ وَعَصَوْا رَسُولَهُ، فَلِهَذَا قَالَ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهِيَ الشَّدِيدَةُ الْهُبُوبِ. وَقِيلَ: الْبَارِدَةُ. وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي لَهَا صَوْتٌ.
وَالْحَقُّ أَنَّهَا مُتَّصِفَةٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ رِيحًا شَدِيدَةً قَوِيَّةً؛ لِتَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ مِنْ جِنْسِ مَا اغْتَرُّوا بِهِ مِنْ قُوَاهُمْ، وَكَانَتْ بَارِدَةً شَدِيدَةَ الْبَرْدِ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الْحَاقَّةِ:6] ، أَيْ: بَارِدَةٍ شَدِيدَةٍ، وَكَانَتْ ذَاتَ صَوْتٍ مُزْعِجٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّهْرُ الْمَشْهُورُ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ "صَرْصَرًا (5) لِقُوَّةِ صَوْتِ جَرْيِهِ.
وَقَوْلُهُ: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} أَيْ: مُتَتَابِعَاتٍ، {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الْحَاقَّةِ: 7] ، كَقَوْلِهِ {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [الْقَمَرِ: 19] ، أَيِ: ابْتُدِئُوا بِهَذَا الْعَذَابِ فِي يَوْمِ نَحْسٍ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَمَرَّ بِهِمْ هَذَا النَّحْسُ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أَبَادَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَاتَّصَلَ بِهِمْ خِزْيُ الدُّنْيَا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى} [أَيْ] (6) أَشَدُّ خِزْيًا لَهُمْ، {وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} أَيْ: فِي الْأُخْرَى (7) ، كَمَا لَمْ يُنْصَرُوا فِي الدُّنْيَا، وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ يَقِيهِمُ الْعَذَابَ وَيَدْرَأُ عَنْهُمُ النَّكَالَ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: بَيَّنَّا لَهُمْ (8) .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: دَعَوْنَاهُمْ.
{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أَيْ: بَصَّرْنَاهُمْ، وَبَيَّنَّا لَهُمْ، وَوَضَّحْنَا لَهُمُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ صَالِحٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (9) ، فَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، وَعَقَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَهَا آيَةً وَعَلَامَةً عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِمْ، {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} أَيْ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَرَجْفَةً وَذُلًّا وَهَوَانًا وَعَذَابًا وَنَكَالًا {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: من التكذيب والجحود.
__________
(1) في س: "ألبس الله".
(2) في ت: "رسولا".
(3) زيادة من ت، أ.
(4) في ت، س: "أفما يفكرون"، وفي أ: "فيما يتفكرون".
(5) في ت، س: "صرصر".
(6) زيادة من أ.
(7) في ت: "الآخرة".
(8) في ت: "وسعيد بن جبير وغيرهم".
(9) في ت، س: "عليه السلام".(7/169)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
{وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا [وَكَانُوا يَتَّقُونَ] (1) } أَيْ: مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، لَمْ يَمَسَّهُمْ سُوءٌ، وَلَا نَالَهُمْ مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ، بَلْ نَجَّاهُمُ اللَّهُ مَعَ نَبِيِّهِمْ صَالِحٍ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (2) بِإِيمَانِهِمْ، وَتَقْوَاهُمْ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) }
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) زيادة من ت، أ.(7/170)
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} أَيِ: اذْكُرْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ يَحْشُرُونَ إِلَى النَّارِ (1) {يُوزَعُونَ} ، أَيْ: تَجْمَعُ الزَّبَانِيَةُ أَوَّلَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مَرْيَمَ: 86] ، أَيْ: عِطَاشًا.
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} أَيْ: وَقَفُوا عَلَيْهَا، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) أَيْ: بِأَعْمَالِهِمْ مِمَّا قَدَّمُوهُ وَأَخَّرُوهُ، لَا يُكْتَم مِنْهُ حَرْفٌ.
{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} أَيْ: لَامُوا أَعْضَاءَهُمْ وَجُلُودَهُمْ حِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَجَابَتْهُمُ الْأَعْضَاءُ: {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أَيْ: فَهُوَ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ، وَإِلَيْهِ تَرْجِعُونَ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ قَادِمٍ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عُبَيْدٍ المُكْتَب، عَنِ الشَّعْبِيِّ (3) ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَتَبَسَّمَ (4) ، فَقَالَ: "أَلَا تَسْأَلُونِي عَنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتُ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ؟ قَالَ: "عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: أَيْ رَبِّي، أَلَيْسَ وَعَدْتَنِي أَلَّا تَظْلِمَنِي؟ قَالَ: بَلَى فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أَقْبَلُ عَلَيَّ شَاهِدًا إِلَّا مِنْ نَفْسِي. فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَوَ لَيْسَ كَفَى بِي شَهِيدًا، وَبِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ؟! قَالَ: فَيُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ مِرَارًا". قَالَ: "فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَتَتَكَلَّمُ أَرْكَانُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لكُنَّ وسُحقا، عَنْكُنَّ كُنْتُ أُجَادِلُ".
ثُمَّ رَوَاهُ (5) هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ الْأَسَدِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُبيد المُكْتَب، عَنْ فُضيل بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ (6) ثُمَّ قَالَ: "لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ غَيْرَ الشَّعْبِيِّ". وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
__________
(1) في ت، أ: "جهنم".
(2) في ت: "يكسبون" وهو خطأ.
(3) في ت: "وروى الحافظ أبو بكر البزار بإسناده".
(4) في أ: "أو تبسم".
(5) في ت: "ورواه".
(6) ورواه ابن أبي الدنيا في التوبة برقم (18) من طريق مهران بن أبي عمر عن سفيان الثوري بنحوه.(7/170)
وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ أَبِي بكرِ بنِ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْجَعِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِهِ (1) . ثُمَّ قَالَ النَّسَائِيُّ: "لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ غَيْرَ الْأَشْجَعِيِّ". وَلَيْسَ كَمَا قَالَ كَمَا رَأَيْتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حدثنا إسماعيل بن عُلَّية، عن يونس ابن عُبَيْد، عَنْ حُميد بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بُرْدَة: قَالَ أَبُو مُوسَى: وَيُدْعَى الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ لِلْحِسَابِ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-عَمَلَهُ، فَيَجْحَدُ وَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، وَعَزَّتِكَ لَقَدْ كَتَبَ عَلَيَّ هَذَا الْمَلَكُ مَا لَمْ أَعْمَلْ! فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ: أَمَا عَمِلْتَ كَذَا، فِي يَوْمِ كَذَا، فِي مَكَانِ كَذَا؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، أَيْ رَبِّ مَا عَمِلْتُهُ. [قَالَ] (2) فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ خُتِم عَلَى فِيهِ -قَالَ الْأَشْعَرِيُّ: فَإِنِّي لَأَحْسَبُ أَوَّلَ مَا يَنْطِقُ مِنْهُ فَخِذَهُ الْيُمْنَى.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْر حَدَّثَنَا حَسَنٌ، عَنِ ابْنِ لَهِيعة: قَالَ دَرّاج عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ (3) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرّف الْكَافِرُ بِعَمَلِهِ، فَجَحَدَ وَخَاصَمَ، فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ جِيرَانُكَ، يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ؟ فَيَقُولُ: كَذَبُوا. فَيَقُولُ: أَهْلُكَ [وَ] (4) عَشِيرَتُكَ؟ فَيَقُولُ: كَذَبُوا. فَيَقُولُ: احْلِفُوا فَيَحْلِفُونَ، ثُمَّ يُصمِتُهُمُ اللَّهُ وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ" (5) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ: سَمِعْتُ أَبِي: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبيْح أَبِي الضُّحى، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ الْأَزْرَقِ: إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْهُ حِينٌ، لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَعْتَذِرُونَ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُمْ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَخْتَصِمُونَ، فَيَجْحَدُ الْجَاحِدُ بِشِرْكِهِ بِاللَّهِ، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ يَجْحَدُونَ شُهَدَاءَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، جُلُودَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُمُ الْأَفْوَاهَ فَتُخَاصِمُ الْجَوَارِحَ، فَتَقُولُ: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فَتُقِرُّ الْأَلْسِنَةُ بَعْدَ الْجُحُودِ.
وَقَالَ (6) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ رَافِعٍ أَبِي الْحَسَنِ -وَصَفَ رَجُلًا جَحَدَ-قَالَ: فَيُشِيرُ اللَّهُ إِلَى لِسَانِهِ، فَيَرْبُو فِي فَمِهِ (7) حَتَّى يَمْلَأَهُ، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ، ثُمَّ يَقُولُ لِآرَابِهِ (8) كُلِّهَا: تَكَلَّمِي وَاشْهَدِي عَلَيْهِ. فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَجِلْدُهُ، وَفَرْجُهُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ: صَنَعْنَا، عَمِلْنَا، فَعَلْنَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَآثَارٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65] ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هاهنا.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2969) ، والنسائي في السنن الكبرى برقم (11653) .
(2) زيادة من أ.
(3) في ت: "وقال الحافظ أبو يعلى بإسناده".
(4) زيادة من أ.
(5) مسند أبي يعلى (5262) ، ودراج عن أبي الهيثم، ضعيف.
(6) في ت: "وروى".
(7) في ت، س، أ: "فيه".
(8) في أ: "لأركانه".(7/171)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيم الطَّائِفِيُّ، عَنِ ابْنِ خُثَيْم، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ (1) ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا رَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ (2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ قَالَ: "أَلَا تُحَدِّثُونَ بِأَعَاجِيبِ (3) مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟ " فَقَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَا (4) نَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ مَرَّتْ عَلَيْنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا. فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَر، إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا؟ قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَتْ [وَ] (5) صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقدس اللَّهُ قَوْمًا لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟ ".
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْأَهْوَالِ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، بِهِ (6)
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} أَيْ: تَقُولُ لَهُمُ الْأَعْضَاءُ وَالْجُلُودُ حِينَ يَلُومُونَهَا عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ: مَا كُنْتُمْ تَتَكَتَّمُونَ (7) مِنَّا الَّذِي كُنْتُمْ تَفْعَلُونَهُ بَلْ كُنْتُمْ تُجَاهِرُونَ اللَّهَ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَلَا تُبَالُونَ مِنْهُ فِي زَعْمِكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَعْلَمُ جَمِيعَ أَفْعَالِكُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أَيْ: هَذَا الظَّنُّ الْفَاسِدُ -وَهُوَ اعْتِقَادُكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ-هُوَ الَّذِي أَتْلَفَكُمْ وَأَرْدَاكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أَيْ: فِي مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ خَسِرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن يَزِيدَ (8) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: قُرَشِيٌّ، وَخَتَنَاهُ ثَقَفِيَّانِ -أَوْ ثَقَفِيٌّ وَخَتَنَاهُ قُرَشِيَّانِ-كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَمْ أَسْمَعْهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا هَذَا؟ فَقَالَ الْآخَرُ: إِنَّا إِذَا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا سَمِعَهُ (9) ، وَإِذَا لَمْ نَرْفَعْهُ لَمْ يَسْمَعْهُ، فَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا سَمِعَهُ كُلَّهُ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {مِنَ الْخَاسِرِينَ}
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ هَنَّادٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ (10) . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمارة بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ
__________
(1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(2) في أ: "رسول الله".
(3) في ت: "بأعجب".
(4) في ت، س، أ: "بينما".
(5) زيادة من أ.
(6) الأهوال لابن أبي الدنيا برقم (243) ورواه ابن ماجه في السنن برقم (4010) حدثنا سويد بن سعيد فذكره. قال البوصيري في زوائد ابن ماجه: "هذا إسناد حسن، سويد مختلف فيه".
(7) في أ: "تكتمون".
(8) في ت: "رواه الإمام أحمد بإسناده".
(9) في ت: "يسمعه".
(10) المسند (1/381) وسنن الترمذي برقم (3249) .(7/172)
رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِنَحْوِهِ (1) . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ السُّفْيَانَيْنِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخْبرة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِهِ (2) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} قَالَ: "إِنَّكُمْ تُدعَون مُفَدَّمًا عَلَى أَفْوَاهِكُمْ بِالْفِدَامِ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يُبِينُ (3) عَنْ أَحَدِكُمْ فَخِذُهُ وَكَفُّهُ (4) (5) ".
قَالَ مَعْمَرٌ: وَتَلَا الْحَسَنُ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ أَنَا مَعَ عَبْدِي عِنْدَ ظَنِّهِ بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي" ثُمَّ أفترَّ الْحَسَنُ يَنْظُرُ فِي هَذَا فَقَالَ: أَلَا إِنَّمَا عَمَلُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ ظُنُونِهِمْ بِرَبِّهِمْ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَأَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَحْسَنَ الْعَمَلَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَأَسَاءَا الظَّنَّ بِاللَّهِ فَأَسَاءَا الْعَمَلَ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقَاصُّ (6) -وَهُوَ أَبُو الْمُغِيرَةِ-حَدَّثَنَا ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ (7) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ، فَإِنَّ قَوْمًا قَدْ أَرْدَاهُمْ سُوءُ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (8) .
وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أَيْ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَصَبَرُوا أَمْ لَمْ يَصْبِرُوا هُمْ فِي النَّارِ، لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا، وَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا. وَإِنْ طَلَبُوا أَنْ يَسْتَعْتِبُوا وَيُبْدُوا أَعْذَارًا (9) فَمَا لَهُمْ أَعْذَارٌ، وَلَا تُقَال لَهُمْ عَثَرَاتٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا} أَيْ: يَسْأَلُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا، فَلَا جَوَابَ لَهُمْ -قَالَ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 106 -108] .
__________
(1) المسند (1/408) وصحيح مسلم برقم (2775) وسنن الترمذي برقم (3249) .
(2) صحيح البخاري برقم (4817) ، وصحيح مسلم برقم (2775) .
(3) في أ: "ينطق".
(4) في أ: "وكتفه".
(5) تفسير عبد الرزاق (2/151) ، والمصنف (20115) ، ورواه النسائي في السنن (5/4) وابن ماجه في السنن برقم (2536) من طريق عن بهز بن حكيم بنحوه.
(6) في أ: "القاضي".
(7) في ت: "وروى الإمام أحمد عن جابر".
(8) المسند (3/390) .
(9) في ت، أ: "أعذارهم".(7/173)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ (29) }
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَضَلَّ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَكَوْنِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ، بِمَا قَيَّض لَهُمْ مِنَ الْقُرَنَاءِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ: {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أَيْ: حَسَّنوا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فِي الْمَاضِي، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَلَمْ يَرَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا مُحْسِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزُّخْرُفِ: 36، 37] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أَيْ: كَلِمَةُ الْعَذَابِ كَمَا حَقَّ عَلَى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ، مِمَّنْ فَعَلَ كَفِعْلِهِمْ، مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} أَيِ: استوَوَا هُمْ وَإِيَّاهُمْ فِي الْخَسَارِ وَالدَّمَارِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} أَيْ: تَوَاصَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَلَّا يُطِيعُوا لِلْقُرْآنِ، وَلَا يَنْقَادُوا لِأَوَامِرِهِ (1) ، {وَالْغَوْا فِيهِ} أَيْ: إِذَا تُلِيَ لَا تَسْمَعُوا لَهُ. كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَالْغَوْا فِيهِ} يَعْنِي: بِالْمُكَاءِ (2) وَالصَّفِيرِ وَالتَّخْلِيطِ فِي الْمَنْطِقِ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قَرَأَ الْقُرْآنَ قُرَيْشٌ تَفْعَلُهُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالْغَوْا فِيهِ} عِيبُوهُ (3) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: اجْحَدُوا بِهِ، وَأَنْكِرُوهُ وَعَادُوهُ.
{لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} هَذَا حَالُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 204] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُنْتَصِرًا لِلْقُرْآنِ، وَمُنْتَقِمًا مِمَّنْ عَادَاهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرَانِ: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} أَيْ: فِي مُقَابَلَةِ مَا اعْتَمَدُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَعِنْدَ سَمَاعِهِ، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ: بشَرِّ أَعْمَالِهِمْ وسيِّئ أَفْعَالِهِمْ {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ}
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْل، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُصَيْنِ الفزاري، عن أبيه (4) ، عن علي،
__________
(1) في ت: "لأمره".
(2) في ت، أ: "بالمكاء والتصدية".
(3) في ت، س: "قعوا فيه، عيبوه".
(4) في ت: "عن أبيه روى".(7/174)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {الَّذَيْنِ أَضَلانَا} قَالَ: إِبْلِيسُ وَابْنُ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ.
وَهَكَذَا رَوَى حَبَّةُ العُرَنِي عَنْ عَلِيٍّ، مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ عَلِيٍّ: فَإِبْلِيسُ يَدْعُو بِهِ كُلُّ صَاحِبِ شِرْكٍ، وَابْنُ آدَمَ يَدْعُو بِهِ كُلُّ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ، فَإِبْلِيسُ -لَعَنَهُ اللَّهُ-هُوَ الدَّاعِي إِلَى كُلِّ شَرٍّ مِنْ شِرْكٍ فَمَا دُونَهُ، وَابْنُ آدَمَ الْأَوَّلُ. كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: "مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (1) .
وَقَوْلُهُ (2) {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} أَيْ: أَسْفَلَ مِنَّا فِي الْعَذَابِ لِيَكُونَا أَشَدَّ عَذَابًا مِنَّا؛ وَلِهَذَا قَالُوا: {لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ} أَيْ: فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي "الْأَعْرَافِ" مِنْ سُؤَالِ الْأَتْبَاعِ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعَذِّبَ قَادَتَهُمْ أَضْعَافَ عَذَابِهِمْ، قَالَ: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 38] أَيْ: إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلًّا مِنْهُمْ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، بِحَسَبِ عَمَلِهِ وَإِفْسَادِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88] .
__________
(1) الحديث أخرجه الجماعة سوى أبي داود، وانظر تخريجه عند الآية: 29 من سورة المائدة.
(2) في س: "وقولهم".(7/175)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) }
يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أَيْ: أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ، وَعَمِلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا الْجَرَّاحُ، حَدَّثَنَا سَلْمُ (1) بْنُ قُتَيْبَةَ أَبُو قُتَيْبَةَ الشَّعِيري، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ (2) بْنُ أَبِي حَزْمٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ (3) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قَدْ قَالَهَا نَاسٌ ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ (4) ، فَمَنْ قَالَهَا حَتَّى (5) يَمُوتَ فَقَدِ (6) اسْتَقَامَ عَلَيْهَا.
وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ، عَنْ سَلْمِ (7) بْنِ قُتَيْبَةَ، بِهِ (8) . وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الْفَلَّاسِ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عامر بن سعد (9)
__________
(1) في أ: "مسلم".
(2) في أ: "سهل".
(3) في ت: "قال الحافظ أبو يعلى الموصلي بسنده".
(4) في أ: "ثم كفروا".
(5) في ت: "حين".
(6) في ت، س: "فهو ممن".
(7) في أ: "مسلم".
(8) مسند أبي يعلى 06/213) ، والنسائي في السنن الكبرى برقم (11470) وتفسير الطبري (24/73) .
(9) في أ: "سعيد".(7/175)
، عَنْ سَعِيدِ (1) بْنِ نِمْرَانِ (2) قَالَ: قَرَأْتُ (3) عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا.
ثُمَّ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ؟ قَالَ: فَقَالُوا: {رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} مِنْ ذَنْبٍ. فَقَالَ: لَقَدْ حَمَلْتُمُوهَا عَلَى غَيْرِ الْمَحْمَلِ، {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيْرِهِ.
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ (4) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ (5) ، أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ (6) ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَرْخَصُ؟ قَالَ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} عَلَيَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تَلَا عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَقَامُوا -وَاللَّهِ-لِلَّهِ بِطَاعَتِهِ، وَلَمْ يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِهِ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، قَالَ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا، فَارْزُقْنَا الِاسْتِقَامَةَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أَخْلَصُوا لَهُ الْعَمَلَ وَالدِّينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْم، حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ (7) ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِأَمْرٍ فِي الْإِسْلَامِ لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ. قَالَ: "قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ" قُلْتُ: فَمَا أَتَّقِي؟ فَأَوْمَأَ إِلَى لِسَانِهِ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، بِهِ (8) .
ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَاعِزٍ الْغَامِدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ (9) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ. قَالَ: "قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرَفِ لِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا".
وَهَكَذَا (10) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، به (11) . وقال الترمذي: حسن صحيح.
__________
(1) في ت: "رواه ابن جرير عن سعيد".
(2) في أ: "مهران".
(3) في ت: "قرنت".
(4) في ت: "مجاهد وغيره".
(5) في أ: "الطبراني".
(6) في ت: "وروى ابن أبي الدنيا بسنده عن ابن عباس أنه سئل".
(7) في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده".
(8) المسند (4/384) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11489) .
(9) في ت: "وروى أحمد عن سفيان".
(10) في أ: "هكذا وكذا".
(11) المسند (3/413) ، وسنن الترمذي برقم (2410) وسنن ابن ماجه برقم (3972) .(7/176)
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ. قَالَ: "قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ" وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ (1) .
وَقَوْلُهُ: {تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُهُ: يَعْنِي عِنْدَ الْمَوْتِ قَائِلِينَ: {أَلا تَخَافُوا} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَيْ مِمَّا تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، {وَلا تَحْزَنُوا} [أَيْ] (2) عَلَى مَا خَلَّفْتُمُوهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، مِنْ وَلَدٍ وَأَهْلٍ، وَمَالٍ أَوْ دَيْنٍ، فَإِنَّا نَخْلُفُكُمْ فِيهِ، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فَيُبَشِّرُونَهُمْ بِذَهَابِ الشَّرِّ وَحُصُولِ الْخَيْرِ.
وَهَذَا كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ (3) ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لِرُوحِ الْمُؤْمِنِ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ، اخْرُجِي إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ".
وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حدثنا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا قَرَأَ سُورَةَ "حم السَّجْدَةِ" (4) حَتَّى بَلَغَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} فَوَقَفَ فَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ حِينَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مِنْ قَبْرِهِ، يَتَلَقَّاهُ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ كَانَا مَعَهُ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ لَهُ: لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (5) قَالَ: فَيُؤَمِّنُ اللَّهُ خَوْفَهُ، وَيُقِرُّ عَيْنَهُ فَمَا عَظِيمَةٌ يَخْشَى النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هِيَ لِلْمُؤْمِنِ قُرَّةُ عَيْنٍ، لِمَا هَدَاهُ اللَّهُ، وَلِمَا كَانَ يَعْمَلُ لَهُ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: يُبَشِّرُونَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَفِي قَبْرِهِ، وَحِينَ يُبْعَثُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا، وَهُوَ الْوَاقِعُ.
وَقَوْلُهُ: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} أَيْ: تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ: نَحْنُ كُنَّا أَوْلِيَاءَكُمْ، أَيْ: قُرَنَاءَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، نُسَدِّدُكُمْ وَنُوَفِّقُكُمْ، وَنَحْفَظُكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ نَكُونُ مَعَكُمْ فِي الْآخِرَةِ نُؤْنِسُ مِنْكُمُ الْوَحْشَةَ فِي الْقُبُورِ، وَعِنْدَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ، وَنُؤَمِّنُكُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَنُجَاوِزُ بِكُمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَنُوصِلُكُمْ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ. {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} أَيْ: فِي الْجَنَّةِ مِنْ جَمِيعِ مَا تَخْتَارُونَ (6) مِمَّا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ، وَتَقَرُّ بِهِ الْعُيُونُ، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أَيْ: مَهْمَا طَلَبْتُمْ وَجَدْتُمْ، وَحَضَرَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، [أَيْ] (7) كَمَا اخْتَرْتُمْ،
{نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} أَيْ: ضِيَافَةً وَعَطَاءً وَإِنْعَامًا مِنْ غَفُورٍ لِذُنُوبِكُمْ، رَحِيمٍ بِكُمْ رَءُوفٍ، حَيْثُ غَفَرَ، وَسَتَرَ، وَرَحِمَ، وَلَطَفَ.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (38) .
(2) زيادة من ت، س، أ.
(3) حديث البراء سبق تخريجه عند تفسير الآية: 40 من سورة الأعراف إلا أن هذا اللفظ هو لفظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو مخرج في نفس الموضع.
(4) في ت: وروى ابن أبي حاتم عن ثابت أنه قرأ السجدة".
(5) في ت، س، أ: "وأبشر" وهو خطأ.
(6) في ت: "تختارونه".
(7) زيادة من ت.(7/177)
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثَ "سُوقِ الْجَنَّةِ" عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} ، فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ حَبِيبِ (1) بْنِ أَبِي الْعِشْرِينَ أَبِي سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (2) فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَسْأَلُ (3) اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي سُوقِ الجنة. فقال سعيد: أو فيها سُوقٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إن أهل الجنة إذا دَخَلُوا فِيهَا، نَزَلُوا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ، فَيُؤْذَنُ لَهُمْ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمْعَةِ فِي أَيَّامِ الدُّنْيَا فَيَزُورُونَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيُبْرِزَ لَهُمْ عَرْشَهُ، وَيَتَبَدَّى لَهُمْ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَتُوضَعُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ، وَيَجْلِسُ [فِيهِ] (4) أَدْنَاهُمْ وَمَا فِيهِمْ دَنِيءٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ، مَا يَرَوْنَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْكَرَاسِيِّ بِأَفْضَلَ مِنْهُمْ مَجْلِسًا.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ نَرَى رَبَّنَا [يَوْمَ الْقِيَامَةِ] (5) ؟ قَالَ: "نَعَمْ هَلْ تَتَمَارَوْنَ (6) فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ " قُلْنَا: لَا. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَكَذَلِكَ لَا تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ تَعَالَى، وَلَا يَبْقَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَحَدٌ إِلَّا حَاضَرَهُ اللَّهُ مُحَاضَرَةً، حَتَّى إِنَّهُ لِيَقُولَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، أَتَذْكُرُ يَوْمَ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ -يذكِّره بِبَعْضِ غَدَرَاتِهِ فِي الدُّنْيَا-فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَفَلَمْ تَغْفِرْ لِي؟ فَيَقُولُ: بَلَى فَبِسِعَةِ مَغْفِرَتِي بَلَغْتَ مَنْزِلَتَكَ هَذِهِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ غَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ طِيبًا لَمْ يَجِدُوا مِثْلَ رِيحِهِ شَيْئًا قَطُّ". قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-: قُومُوا إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لَكُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَخُذُوا مَا اشْتَهَيْتُمْ". قَالَ: "فَنَأْتِي سُوقًا قَدْ حَفَّت بِهِ الْمَلَائِكَةُ، فِيهَا مَا لَمْ تَنْظُرِ الْعُيُونُ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوبِ. قَالَ: فَيَحْمِلُ لَنَا مَا اشْتَهَيْنَا، لَيْسَ يُبَاعُ فِيهِ شَيْءٌ وَلَا يُشْتَرَى، وَفِي ذَلِكَ السُّوقِ يَلْقَى أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا". قَالَ: "فَيُقْبِلُ الرَّجُلُ ذُو الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ، فَيَلْقَى مَنْ هُوَ دُونَهُ-وَمَا فِيهِمْ دَنِيءٌ فَيُرَوِّعُهُ مَا يَرَى عَلَيْهِ مِنَ اللِّبَاسِ، فَمَا يَنْقَضِي آخِرُ حَدِيثِهِ حَتَّى يَتَمَثَّلَ عَلَيْهِ أَحْسَنُ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْزَنَ فِيهَا.
ثُمَّ نَنْصَرِفُ إِلَى مَنَازِلِنَا، فَيَتَلَقَّانَا أَزْوَاجُنَا فَيَقُلْنَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِحِبَّنا، لَقَدْ جِئْتَ وَإِنَّ بِكَ مِنَ الْجِمَالِ وَالطِّيبِ أَفْضَلَ مِمَّا فَارَقْتَنَا عَلَيْهِ. فَيَقُولُ: إِنَّا جَالَسْنَا الْيَوْمَ رَبَّنَا الْجَبَّارَ -عَزَّ وَجَلَّ-وَبِحَقِّنَا أَنْ نَنْقَلِبَ بِمِثْلِ (7) مَا انْقَلَبْنَا بِهِ".
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "صِفَةِ الْجَنَّةِ" مِنْ جَامِعِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، بِهِ نَحْوَهُ (8) . ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
__________
(1) في أ: "الوليد".
(2) زيادة من ت.
(3) في أ: "أسأل".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في ت، س، أ: "تمارون".
(7) في أ: "على".
(8) سنن الترمذي برقم (2549) وسنن ابن ماجه برقم (4336) .(7/178)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِي، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ". قُلْنَا (1) يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ؟ قَالَ: "لَيْسَ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حُضِر جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ اللَّهِ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ اللَّهَ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ" قَالَ: "وَإِنَّ الْفَاجِرَ -أَوِ الْكَافِرَ-إِذَا حُضِر (2) جَاءَهُ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ -أَوْ: مَا يَلْقَى مِنَ الشَّرِّ-فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ فَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ".
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ (3) ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ (4) .
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} أَيْ: دَعَا عِبَادَ اللَّهِ إِلَيْهِ، {وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أَيْ: وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُهْتَدٍ بِمَا يَقُولُهُ، فَنَفْعُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ لَازِمٌ ومُتَعَدٍ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَأْتُونَهُ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَأْتُونَهُ، بَلْ يَأْتَمِرُ بِالْخَيْرِ وَيَتْرُكُ الشَّرَّ، وَيَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَهَذِهِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ دَعَا إِلَى خَيْرٍ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُهْتَدٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَالسُّدِّيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْمُؤَذِّنُونَ الصُّلَحَاءُ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (5) وَفِي السُّنَنِ مَرْفُوعًا: "الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، فَأَرْشَدَ اللَّهُ الْأَئِمَّةَ، وَغَفَرَ لِلْمُؤَذِّنِينَ" (6) .
وَقَالَ (7) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرُوبَة الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا غَسَّانُ قَاضِي هَرَاةَ وَقَالَ أَبُو زَرْعَةَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مَطَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ أَنَّهُ قَالَ: "سِهَامُ الْمُؤَذِّنِينَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَسِهَامِ الْمُجَاهِدِينَ، وَهُوَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ كَالْمُتَشَحِّطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي دَمِهِ".
قَالَ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّنًا مَا بَالَيْتُ ألا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد".
__________
(1) في أ: "قال".
(2) في أ: "احتضر".
(3) المسند (3/107) .
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (6507) ومسلم في صحيحه برقم (2683) من طريق قتادة عن أنس عن عبادة بن الصامت بنحو الحديث المتقدم.
(5) صحيح مسلم برقم (387) من حديث مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(6) رواه أحمد في مسنده (2/232) وأبو داود في السنن برقم (8/5) والترمذي في السنن برقم (207) .
(7) في ت: "وروى".(7/179)
قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّنًا لَكَمُلَ أَمْرِي، وَمَا بَالَيْتُ أَلَّا أَنْتَصِبَ لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَلَا لِصِيَامِ النَّهَارِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ" ثَلَاثًا، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ نَجْتَلِدُ عَلَى الْأَذَانِ بِالسُّيُوفِ. قَالَ: "كَلَّا يَا عُمَرُ، إِنَّهُ يَأْتِي (1) عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتْرُكُونَ الْأَذَانَ عَلَى ضُعَفَائِهِمْ، وَتِلْكَ لُحُومٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ، لُحُومُ الْمُؤَذِّنِينَ" (2) .
قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قَالَتْ: فَهُوَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا قَالَ: "حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ" فَقَدْ دَعَا إِلَى اللَّهِ.
وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعِكْرِمَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَعَمِلَ صَالِحًا} قَالَ: يَعْنِي صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَغَوِيُّ حَدِيثَ "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ" قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ". ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: "لِمَنْ شَاءَ" (3) وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْهُ (4) وَحَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِي إِيَاسٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا أَرَاهُ إِلَّا وَقَدْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي "الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ" كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، بِهِ (5) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، بِهِ (6) .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْمُؤَذِّنِينَ وَفِي غَيْرِهِمْ، فَأَمَّا حَالُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَذَانُ مَشْرُوعًا بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَالْأَذَانُ إِنَّمَا شُرِعَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، حِينَ أُرِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبَدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيُّ فِي مَنَامِهِ، فَقَصَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُلْقِيَهُ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، فَالصَّحِيحُ إِذًا أَنَّهَا عَامَّةٌ، كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فَقَالَ: هَذَا حَبِيبُ اللَّهِ، هَذَا وَلِيُّ اللَّهِ، هَذَا صَفْوَةُ اللَّهِ، هَذَا خِيَرَة اللَّهِ، هَذَا أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ، أَجَابَ اللَّهُ فِي دَعْوَتِهِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مَا أَجَابَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ دَعْوَتِهِ، وَعَمِلَ صَالِحًا فِي إِجَابَتِهِ، وقال:
__________
(1) في ت، س: "سيأتي".
(2) ورواه الإسماعيلي في مسنده كما في مسند عمر لابن كثير (1/144) من طريق إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مَطَرٍ عَنِ الْحَسَنِ البصري عن عمر به والحسن لم يسمع من عمر.
(3) معالم التنزيل للبغوي (7/174) .
(4) صحيح البخاري برقم (627) وصحيح مسلم برقم (838) وسنن أبي داود برقم (2283) وسنن الترمذي برقم (185) وسنن النسائي (2/28) وسنن ابن ماجه برقم (1162) .
(5) سنن أبي داود برقم (521) وسنن الترمذي برقم (212) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9896) .
(6) النسائي في السنن الكبرى برقم (9899) .(7/180)
إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا خَلِيفَةُ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أَيْ: فَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فَادْفَعْهُ عَنْكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (1) مَا عَاقَبْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وَهُوَ الصَّدِيقُ، أَيْ: إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ قَادَتْهُ تِلْكَ الْحَسَنَةُ إِلَيْهِ إِلَى مُصَافَاتِكَ وَمَحَبَّتِكَ، وَالْحُنُوِّ عَلَيْكَ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ لَكَ حَمِيمٌ أَيْ: قَرِيبٌ إِلَيْكَ مِنَ (2) الشَّفَقَةِ عَلَيْكَ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ.
ثُمَّ قَالَ: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} أَيْ: وَمَا يَقْبَلُ (3) هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَيَعْمَلُ بِهَا إِلَّا مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أَيْ: ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أَيْ: إِنَّ شَيْطَانَ الْإِنْسِ رُبَّمَا يَنْخَدِعُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَأَمَّا شَيْطَانُ الْجِنِّ فَإِنَّهُ لَا حِيلَةَ فِيهِ إِذَا وَسْوَسَ إِلَّا الِاسْتِعَاذَةَ بِخَالِقِهِ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْكَ، فَإِذَا اسْتَعَذْتَ بِاللَّهِ وَلَجَأْتَ إِلَيْهِ، كَفَّهُ عَنْكَ وَرَدَّ كَيْدَهُ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَقُولُ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ" (4) .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي "سُورَةِ الْأَعْرَافِ" عِنْدَ قَوْلِهِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الْأَعْرَافِ: 199، 200] ، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 96 -98] .
[لَكِنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْأَعْرَافِ أَخَفُّ عَلَى النَّفْسِ مِمَّا ذُكِرَ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْجَاهِلِ وَتَرْكَهُ أَخَفُّ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُسِيءِ فَتَتَلَذَّذُ النَّفْسُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا انْتِقَادَ لَهُ إِلَّا بِمُعَالَجَةٍ وَيُسَاعِدُهَا الشَّيْطَانُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَتَنْفَعِلُ لَهُ وَتَسْتَعْصِي عَلَى صَاحِبِهَا، فَتَحْتَاجُ إِلَى مُجَاهَدَةٍ وَقُوَّةِ إِيمَانٍ؛ فَلِهَذَا أَكَّدَ ذَلِكَ هَاهُنَا بِضَمِيرِ الْفَصْلِ وَالتَّعْرِيفِ بِاللَّامِ فَقَالَ: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ] (5) .
__________
(1) زيادة من ت، س.
(2) في ت، أ: "في".
(3) في أ: "يتقبل".
(4) انظر تخريج الحديث عند تفسير الآية: 97 من سورة "المؤمنون".
(5) زيادة من ت، س.(7/181)
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) }(7/182)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) }
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا خَلْقَهُ عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ، وَأَنَّهُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَأَنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ، {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أَيْ: أَنَّهُ خَلَقَ اللَّيْلَ بِظَلَامِهِ، وَالنَّهَارَ بِضِيَائِهِ، وَهُمَا مُتَعَاقِبَانِ لَا يَقِرَّانِ، وَالشَّمْسَ وَنُورَهَا وَإِشْرَاقَهَا، وَالْقَمَرَ وَضِيَاءَهُ وَتَقْدِيرَ مَنَازِلِهِ فِي فَلَكِهِ، وَاخْتِلَافَ سَيْرِهِ فِي سَمَائِهِ، ليُعرف بِاخْتِلَافِ سَيْرِهِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ مَقَادِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْجُمَعُ وَالشُّهُورُ وَالْأَعْوَامُ، وَيَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ حُلُولُ الْحُقُوقِ، وَأَوْقَاتُ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أَحْسَنَ الْأَجْرَامِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمَا مَخْلُوقَانِ عَبْدَانِ مِنْ عَبِيدِهِ، تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ، فَقَالَ: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أَيْ: وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ فَمَا تَنْفَعُكُمْ عِبَادَتُكُمْ لَهُ مَعَ عِبَادَتِكُمْ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} أَيْ: عَنْ إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يُشْرِكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ، {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} ، كَقَوْلِهِ {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الْأَنْعَامِ: 89] .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ -يَعْنِي ابْنَ وَكِيعٍ-حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "لا تَسُبُّوا اللَّيْلَ وَلَا النَّهَارَ، وَلَا الشَّمْسَ وَلَا الْقَمَرَ، وَلَا الرِّيَاحَ فَإِنَّهَا تُرْسَلُ رَحْمَةً لِقَوْمٍ، وَعَذَابًا لِقَوْمٍ" (2) .
وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ} أَيْ: عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ الْمَوْتَى {أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً} أَيْ: هَامِدَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا، بَلْ هِيَ مَيْتَةٌ {فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أَيْ: أَخْرَجَتْ مِنْ جَمِيلِ أَلْوَانِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
__________
(1) في ت: "روى الحافظ أبو يعلى عن جابر".
(2) مسند أبي يعلى (4/139) ، قال الهيثمي في المجمع (8/71) : "إسناده ضعيف".(7/182)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) }
قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِلْحَادُ: وَضْعُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: هُوَ الْكُفْرُ وَالْعِنَادُ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} أَيْ: فِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، أَيْ: إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَنْ يُلْحِدُ فِي آيَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَسَيَجْزِيهِ عَلَى ذَلِكَ بِالْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ؟ أَيْ: أَيَسْتَوِي هَذَا وَهَذَا؟ لَا يَسْتَوِيَانِ.
ثُمَّ قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-تَهْدِيدًا (1) لِلْكَفَرَةِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} : وَعِيدٌ، أَيْ: مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِكُمْ وَبَصِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} قَالَ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ: وَهُوَ الْقُرْآنُ {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} أَيْ: مَنِيعُ الْجَنَابِ، لَا يُرَامُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدٌ بِمِثْلِهِ،
{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} أَيْ: لَيْسَ لِلْبُطْلَانِ إِلَيْهِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} أَيْ: حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، حَمِيدٌ بِمَعْنَى مَحْمُودٍ، أَيْ: فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ الْجَمِيعُ مَحْمُودَةٌ عَوَاقِبُهُ وَغَايَاتُهُ.
ثُمَّ قَالَ: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمَا: مَا يُقَالُ لَكَ مِنَ التَّكْذِيبِ إِلَّا كَمَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، فَكَمَا قَدْ كُذِّبْتَ فَقَدْ كُذِّبُوا، وَكَمَا صَبَرُوا عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ لَهُمْ، فَاصْبِرْ أَنْتَ عَلَى أَذَى قَوْمِكَ لَكَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَلَمْ يَحْكِ هُوَ، وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ غَيْرَهُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ [لِلنَّاسِ] } (2) أَيْ: لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ: لِمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ، وَطُغْيَانِهِ، وَعِنَادِهِ، وَشِقَاقِهِ وَمُخَالَفَتِهِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ (3) عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا غَفْر (4) اللَّهِ وَتَجَاوُزُهُ مَا هَنَأ أَحَدًا العيشُ، وَلَوْلَا وَعِيدُهُ وَعِقَابُهُ لَاتَّكَلَ كُلُّ أَحَدٍ" (5) .
__________
(1) في ت، س، أ: "مهددا".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت: "روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب".
(4) في ت، س، أ: "عفو".
(5) إسناده مرسل، وعلي بن زيد متفق على ضعفه.(7/183)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) }
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْقُرْآنَ وَفَصَاحَتَهُ وَبَلَاغَتَهُ، وَإِحْكَامَهُ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ بِهِ كُفْرُ عِنَادٍ وَتَعَنُّتٍ، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 198، 199] . وَكَذَلِكَ لَوْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ، لَقَالُوا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ: {لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أَيْ: لَقَالُوا: هَلَّا أُنْزِلَ مُفَصَّلًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَلَأَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟ أَيْ: كَيْفَ يَنْزِلُ كَلَامٌ أَعْجَمِيٌّ عَلَى مُخَاطَبٍ عَرَبِيٍّ لَا يَفْهَمُهُ.
هَكَذَا رُوي هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: {لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أَيْ: هَلَّا أُنْزِلَ بَعْضُهَا بِالْأَعْجَمِيِّ، وَبَعْضُهَا بِالْعَرَبِيِّ.
هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ بِلَا اسْتِفْهَامٍ فِي قَوْلِهِ {أَعْجَمِيٌّ} وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَهُوَ فِي [التَّعَنُّتِ وَ] (1) الْعِنَادِ أَبْلَغُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: هَذَا الْقُرْآنُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ هُدًى لِقَلْبِهِ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الشُّكُوكِ (2) وَالرَّيْبِ، {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} أَيْ: لَا يَفْهَمُونَ مَا فِيهِ، {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أَيْ: لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الْإِسْرَاءِ: 82] .
{أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي بعيد مِنْ قُلُوبِهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ: كَأَنَّ مَنْ يُخَاطِبُهُمْ يُنَادِيهِمْ (3) مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، لَا يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُ (4) .
قُلْتُ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الْبَقَرَةِ: 171] .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُنَادَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَشْنَعِ أَسْمَائِهِمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (5) جَالِسًا عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْضِي، إِذْ قَالَ: يَا لبَّيكاه. فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تُلَبِّي؟ هَلْ رَأَيْتَ أَحَدًا، أَوْ دَعَاكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: دَعَانِي دَاعٍ مِنْ وَرَاءِ (6) الْبَحْرِ. فَقَالَ عُمَرُ: أُولَئِكَ يُنَادُونَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} أَيْ: كُذِّبَ وَأُوذِيَ، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الْأَحْقَافِ: 35] . {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الشورى: 14] بتأخير
__________
(1) زيادة من ت، س.
(2) في أ: "الشرك".
(3) في أ: "يدعوهم".
(4) تفسير الطبري (24/81) .
(5) زيادة من ت.
(6) في ت، س، أ: "خلف".(7/184)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
الْحِسَابِ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أَيْ: لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أَيْ: وَمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ لَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ مِنْهُمْ لِمَا قَالُوا، بَلْ كَانُوا شَاكِّينَ فِيمَا قَالُوا (1) ، غَيْرَ مُحَقِّقِينَ لِشَيْءٍ كَانُوا فِيهِ. هَكَذَا وَجَّهَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (46) }
__________
(1) في ت، س: "قالوه".(7/185)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) }
يَقُولُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} أَيْ: إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} أَيْ: إِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} أَيْ: لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أَيْ: لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْبَشَرِ لِجِبْرِيلَ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ -حِينَ سَأَلَهُ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"، وَكَمَا (1) قَالَ تَعَالَى: {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [النَّازِعَاتِ: 44] ، وَقَالَ {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ} [الْأَعْرَافِ: 187] .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} أَيِ: الْجَمِيعُ بِعِلْمِهِ، لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ (2) مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} [الْأَنْعَامِ: 59] ، وَقَالَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرَّعْدِ: 8] ، وَقَالَ {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فَاطِرٍ: 11] .
وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنَادِي اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ: أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ مَعِي؟ {قَالُوا آذَنَّاكَ} أَيْ: أَعْلَمْنَاكَ، {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} أَيْ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا الْيَوْمَ يَشْهَدُ أَنَّ مَعَكَ شَرِيكًا،
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: ذَهَبُوا فَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ، {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ: وَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ: لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53] .
__________
(1) في ت: "ولهذا".
(2) في ت: "عمله".(7/185)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
{لَا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) }
يَقُولُ تَعَالَى: لَا يَمَلّ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَائِهِ رَبَّهُ بِالْخَيْرِ -وَهُوَ: الْمَالُ، وَصِحَّةُ الْجِسْمِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ-وَإِنَّ مَسَّهُ الشَّرُّ -وَهُوَ الْبَلَاءُ أَوِ الْفَقْرُ- {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} أَيْ: يَقَعُ فِي ذِهْنِهِ أَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ بَعْدَ هَذَا خَيْرٌ.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} أَيْ: إِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ وَرِزْقٌ بَعْدَ مَا كَانَ فِي شِدَّةٍ لَيَقُولَنَّ: هَذَا لِي، إِنِّي كُنْتُ أَسْتَحِقُّهُ عِنْدَ رَبِّي، {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أَيْ: يَكْفُرُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّهُ خُوِّل نِعْمَةً يَفْخَرُ، وَيَبْطَرُ، وَيَكْفُرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [الْعَلَقِ: 6، 7] .
{وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} أَيْ: وَلَئِنْ كَانَ ثَمّ مَعَادٌ فليُحسنَنّ إِلَيَّ رَبِّي، كَمَا أَحْسَنَ إِلَيَّ فِي هَذِهِ الدَّارِ، يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، مَعَ إِسَاءَتِهِ الْعَمَلَ وَعَدَمِ الْيَقِينِ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} يَتَهَدَّدُ تَعَالَى مَنْ كَانَ هَذَا عَمَلُهُ وَاعْتِقَادُهُ بِالْعِقَابِ وَالنَّكَالِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أَيْ: أَعْرَضَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَاسْتَكْبَرَ عَنِ الِانْقِيَادِ لِأَوَامِرَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} [الذَّارِيَاتِ: 39] .
{وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} أَيِ: الشِّدَّةُ، {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} أَيْ: يُطِيلُ الْمَسْأَلَةَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَالْكَلَامُ الْعَرِيضُ: مَا طَالَ لَفْظُهُ وَقَلَّ مَعْنَاهُ، وَالْوَجِيزُ: عَكْسُهُ، وَهُوَ: مَا قَلَّ وَدَلَّ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا (1) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يُونُسَ: 12] .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) }
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ} هَذَا الْقُرْآنُ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} أَيْ: كَيْفَ تُرَون حَالَكُمْ عِنْدَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ؟ وَلِهَذَا قَالَ: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} ؟
__________
(1) في ت، س: "أو قائما أو قاعدا" وهو خطأ.(7/186)
أَيْ: فِي كُفْرٍ وَعِنَادٍ وَمُشَاقَّةٍ لِلْحَقِّ، ومَسْلَك بَعِيدٍ مِنَ الْهُدَى.
ثُمَّ قَالَ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} أَيْ: سَنُظْهِرُ لَهُمْ دَلَالَاتِنَا وحُجَجنا عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَائِلَ خَارِجِيَّةٍ {فِي الآفَاقِ} ، مِنَ الْفُتُوحَاتِ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَقَالِيمِ وَسَائِرِ الْأَدْيَانِ.
قَالَ (1) مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: وَدَلَائِلُ فِي أَنْفُسِهِمْ، قَالُوا: وَقْعَةُ بَدْر، وَفَتْحُ مَكَّةَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي حَلّت بِهِمْ، نَصَرَ اللَّهُ فِيهَا مُحَمَّدًا وَصَحْبَهُ، وَخَذَلَ فِيهَا الْبَاطِلَ وحِزْبَه.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ مَا الْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنْهُ وَفِيهِ وَعَلَيْهِ مِنَ الْمَوَادِّ وَالْأَخْلَاطِ وَالْهَيْئَاتِ الْعَجِيبَةِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ الدَّالِّ عَلَى حِكْمَةِ الصَّانِعِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَكَذَلِكَ مَا هُوَ مَجْبُولٌ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمُتَبَايِنَةِ، مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَمَا هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ تَحْتَ الْأَقْدَارِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ بِحَوْلِهِ، وَقُوَّتِهِ، وحِيَله، وَحَذَرِهِ أَنْ يَجُوزَهَا، وَلَا يَتَعَدَّاهَا، كَمَا أَنْشَدَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِهِ "التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ"، عَنْ شَيْخِهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْقُرَشِيِّ:
وَإذَا نَظَرْتَ تُريدُ مُعْتَبَرا ... فَانظُرْ إليْكَ فَفِيكَ مُعْتَبَرُ ...
أنتَ الَّذِي يُمْسِي وَيُصْبحُ فِي ... الدُّنْيَا وكُلّ أمُوره عبَرُ ...
أنتَ المصرّفُ كانَ فِي صِغَرٍ ... ثُمّ استَقَلَّ بِشَخْصِكَ الكِبَرُ ...
أنتَ الَّذِي تَنْعَاه خلْقَتُه ... يَنْعاه مِنْهُ الشَّعْرُ والبَشَرُ ...
أنتَ الَّذِي تُعْطَى وَتُسْلَب لَا ... يُنْجيه مِنْ أنْ يُسْلَبَ الحَذَرُ ...
أنْتَ الَّذِي لَا شَيءَ منْه لَهُ ... وَأحَقُّ منْه بِمَاله القَدَرُ ...
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؟ أَيْ: كَفَى بِاللَّهِ (2) شَهِيدًا عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ وَأَقْوَالِهِمْ، وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النِّسَاءِ: 166] .
وَقَوْلُهُ: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} أَيْ: فِي شَكٍّ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهِ، وَلَا يَعْمَلُونَ لَهُ، وَلَا يَحْذَرُونَ مِنْهُ، بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ هَدَرٌ لَا يَعْبَئُونَ بِهِ وَهُوَ وَاقِعٌ لَا رَيْبَ فِيهِ وَكَائِنٌ لَا مَحَالَةَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ صَعد الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي لَمْ أَجْمَعْكُمْ لِأَمْرٍ أُحْدِثُهُ فِيكُمْ، وَلَكِنْ فَكَّرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي أَنْتُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ، فَعَلِمْتُ أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِهَذَا الْأَمْرِ أَحْمَقُ، وَالْمُكَذِّبَ بِهِ هالك ثم نزل.
__________
(1) في ت، أ: "قاله".
(2) في ت: "به".(7/187)
وَمَعْنَى قَوْلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِهِ أَحْمَقُ" أَيْ: لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ لَهُ عَمَلَ مِثْلِهِ، وَلَا يَحْذَرُ مِنْهُ وَلَا يَخَافُ مِنْ هَوْلِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُصَدِّقٌ بِهِ مُوقِنٌ بِوُقُوعِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَمَادَى فِي لَعِبِهِ وَغَفْلَتِهِ وَشَهَوَاتِهِ وَذُنُوبِهِ، فَهُوَ أَحْمَقُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَالْأَحْمَقُ فِي اللُّغَةِ: ضَعِيفُ الْعَقْلِ.
وَقَوْلُهُ: "وَالْمُكَذِّبُ بِهِ هَالِكٌ" هَذَا وَاضِحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى -مُقَرِّرًا عَلَى أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، وَإِقَامَةُ السَّاعَةِ لَدَيْهِ يَسِيرٌ سَهْلٌ عَلَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} أَيِ: الْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا تَحْتَ قَهْرِهِ وَفِي قَبْضَتِهِ، وَتَحْتَ طَيِّ عِلْمِهِ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا كُلِّهَا بِحُكْمِهِ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. [آخر تفسير سورة فصلت] (1) .
__________
(1) زيادة من ت، س، أ.(7/188)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الشُّورَى
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) }
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا عَجِيبًا مُنْكَرًا، فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَير، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الحَوْطي، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَرْطَاةَ بْنِ الْمُنْذِرِ (1) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ -وَعِنْدَهُ حُذيفة بْنُ الْيَمَانِ-: أَخْبِرْنِي عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ: {حم عسق} قَالَ: فَأَطْرَقَ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ كَرَّرَ مَقَالَتَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ وَكَرِهَ مَقَالَتَهُ، ثُمَّ كَرَّرَهَا الثَّالِثَةَ فَلَمْ يُحِرْ إِلَيْهِ شَيْئًا. فَقَالَ حُذَيْفَةُ (2) : أَنَا أُنْبِئُكَ بِهَا، قَدْ عَرَفْتُ لِمَ كَرِهَهَا؟ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يُقَالُ لَهُ "عَبْدُ الْإِلَهِ" -أَوْ: عَبْدُ اللَّهِ-يَنْزِلُ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْمَشْرِقِ تُبْنَى عَلَيْهِ مَدِينَتَانِ (3) ، يَشُقُّ النَّهْرُ بَيْنَهُمَا شَقًّا، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ فِي زَوَالِ مُلْكِهِمْ وَانْقِطَاعِ دَوْلَتِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ، بَعَثَ اللَّهُ عَلَى إِحْدَاهُمَا نَارًا لَيْلًا فَتُصْبِحُ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً وَقَدِ احْتَرَقَتْ، كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَكَانَهَا، وَتُصْبِحُ صَاحِبَتُهَا مُتَعَجِّبَةً: كَيْفَ أَفْلَتَتْ؟ فَمَا هُوَ إِلَّا بَيَاضُ يَوْمِهَا ذَلِكَ، حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهَا كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهَا وَبِهِمْ جَمِيعًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {حم عسق} يَعْنِي: عَزِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِتْنَةٌ وَقَضَاءٌ حُمّ: {حُمَّ} عَيْنٌ: يَعْنِي عَدْلًا مِنْهُ، سِينٌ: يَعْنِي سَيَكُونُ، ق: يَعْنِي واقع بِهَاتَيْنِ الْمَدِينَتَيْنِ (4) .
وَأَغْرَبَ مِنْهُ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ جِدًّا وَمُنْقَطِعٌ، فَإِنَّهُ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الخُشَني الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَالَ: صَعِدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ هَلْ سَمِعَ مِنْكُمْ أَحَدٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَسِّرُ {حم عسق} ؟ فَوَثَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنَا: قَالَ: " {حم} اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى" قَالَ: فَعَيْنٌ؟ قَالَ: "عَايَنَ الْمُوَلُّونَ عَذَابَ يَوْمِ بَدْرٍ" قَالَ: فَسِينٌ؟ قال: "سيعلم الذين ظلموا أي منقلب
__________
(1) في ت: "وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا عجيبا بسنده".
(2) في أ: "فقال له حذيفة".
(3) في ت، م، أ: "مدينتين".
(4) تفسير الطبري (25/5) ورواه نعيم بن حماد في الفتن برقم (568) من طريق أبي المغيرة عن أرطأة بن المنذر عمن حدثه عن ابن عباس فذكره.(7/189)
يَنْقَلِبُونَ" قَالَ: فَقَافٌ؟ فَسَكَتَ فَقَامَ أَبُو ذَرٍّ، فَفَسَّرَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ: قَافٌ: قَارِعَةٌ مِنَ السَّمَاءِ تَغْشَى النَّاسَ (1) .
وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيْ: كَمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ، كَذَلِكَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَالصُّحُفَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ. وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ الْعَزِيزُ} أَيْ: فِي انْتِقَامِهِ، {الْحَكِيمُ} فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
قَالَ: الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللَّهِ-عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَس، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيّ فَيَفْصِمُ عَنِّي قَدْ وَعَيت مَا قَالَ. وَأَحْيَانًا يَأْتِينِي الْمَلَكُ رجُلا فَيُكَلِّمُنِي، فَأَعِي مَا يَقُولُ" قَالَتْ عَائِشَةُ (2) فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لِيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ (3) .
وَقَدْ (4) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عائشة، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ؛ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ يَنْزِلُ عَلَيْكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ: "مِثْلَ (5) صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ فيفصمُ عَنِّي وَقَدْ وعَيتُ مَا قَالَهُ" قَالَ: "وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ" قَالَ: "وَأَحْيَانًا يَأْتِينِي الْمَلَكُ فَيَتَمَثَّلُ لِي فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ" (6) .
وَقَالَ: الْإِمَامُ (7) أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (8) ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ تُحِسُّ بِالْوَحْيِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَسْمَعُ صَلَاصِلَ ثُمَّ أَسْكُتُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إليَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تُقبَض" تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (9) .
وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ إِتْيَانِ الْوَحْيِ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي: الْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ وَمِلْكٌ لَهُ، تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَصْرِيفِهِ، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرَّعْدِ: 9] {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سَبَأٍ: 23] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ: أَيْ فَرَقًا، مِنَ الْعَظَمَةِ {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ} كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غَافِرٍ:7] .
__________
(1) ورواه ابن عساكر في تاريخه كما في الدر المنثور (7/336) .
(2) في ت: "عائشة رضي الله عنها".
(3) الموطأ (1/202) وصحيح البخاري برقم (2) وصحيح مسلم برقم (2333) .
(4) في أ: "ولقد".
(5) في أ: "فقال: في مثل".
(6) المعجم الكبير (3/259) .
(7) في ت: "وروى".
(8) في ت: عمر".
(9) المسند (2/222) .(7/190)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
وَقَوْلُهُ: {أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} إِعْلَامٌ بِذَلِكَ وَتَنْوِيهٌ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ، {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أَيْ: شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، يُحْصِيهَا وَيَعُدُّهَا عَدًّا، وَسَيَجْزِيهِمْ بِهَا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ. {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أَيْ: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) }
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ، {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أَيْ: وَاضِحًا جَلِيًّا بَيِّنًا، {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} وَهِيَ مَكَّةُ، {وَمَنْ حَوْلَهَا} أَيْ: مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَسُمِّيَتْ مَكَّةُ "أُمَّ الْقُرَى"؛ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ، لِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي مَوَاضِعِهَا. وَمِنْ أَوْجَزِ ذَلِكَ وَأَدَلِّهِ مَا قَالَ (1) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِي، أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِي بْنِ الْحَمْرَاءِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (2) -وَهُوَ وَاقِفٌ بالحَزْوَرَة فِي سُوقِ مَكَّةَ-: "وَاللَّهِ، إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" (3) .
وَهَكَذَا رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (4) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} أَيْ: لَا شَكَّ فِي وُقُوعِهِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ، كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التَّغَابُنِ:9] أَيْ: يَغْبَن أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هُودٍ:103-105] (5) .
قَالَ (6) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا لَيْث، حَدَّثَنِي أَبُو قَبِيلٍ الْمَعَافِرِيُّ، عَنْ شُفَيّ (7)
__________
(1) في ت: "ما رواه".
(2) في ت: "قال".
(3) المسند (4/305) .
(4) سنن الترمذي برقم (3925) والنسائي في السنن الكبرى برقم (4252) وسنن ابن ماجه برقم (3108) .
(5) قبلها في ت، م، أ: " (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة) ".
(6) في ت: "روى".
(7) في أ: "شقيق".(7/191)
الْأَصْبَحِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟ " قَالَ: قُلْنَا: لَا إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قال للذي في يده اليمينى: "هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِأَسْمَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ -لَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا" ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي يَسَارِهِ: "هَذَا كِتَابُ أَهْلِ النَّارِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ -لَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا" فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِأَيِّ شَيْءٍ إذًا نعمل إن كان هذا أمر قَدْ فُرِغ مِنْهُ؟ فَقَالَ (1) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ الْجَنَّةِ (2) ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمل، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ النَّارِ (3) ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ" ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ فَقَبَضَهَا، ثُمَّ قَالَ: "فَرَغَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْعِبَادِ" ثُمَّ قَالَ بِالْيُمْنَى فَنَبَذَ بِهَا فَقَالَ: "فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ"، وَنَبَذَ بِالْيُسْرَى فَقَالَ: "فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ"
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا، عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَبَكْرِ بْنِ مُضَرَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنْ شُفَيّ بْنِ مَاتِعٍ (4) الْأَصْبَحِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، بِهِ (5) .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَسَاقَهُ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ (6) ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ. وَعِنْدَهُ زِيَادَاتٌ مِنْهَا: ثُمَّ قَالَ: "فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (7) .
وَرَوَاهُ (8) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن أبيه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ -كَاتِبِ اللَّيْثِ-عَنِ اللَّيْثِ، بِهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي قَبِيل، عَنْ شُفَيٍّ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَذَكَرَهُ (9) .
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ وَهْب، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وحَيْوَة بْنِ (10) شُرَيْح، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ؛ أَنَّ أَبَا فِرَاسٍ (11) حَدَّثَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ نَفَضَهُ نَفْضَ المزْوَد (12) ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ ذُرِّيَّتِهِ، فَخَرَجَ أَمْثَالَ النَّغَف، فَقَبَضَهُمْ قَبْضَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، ثُمَّ أَلْقَاهُمَا، ثُمَّ قَبَضَهُمَا فَقَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (13) .
وَهَذَا الْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَاللَّهُ أعلم.
__________
(1) في ت، م: "قال".
(2) في م: "بعمل أهل الجنة".
(3) في م، ت، أ: "بعمل أهل النار"
(4) في أ: "رافع".
(5) المسند (2/167) وسنن الترمذي برقم (2141) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11473) .
(6) في م: "بكير".
(7) معالم التنزيل للبغوي (7/185) .
(8) في ت: "روى".
(9) تفسير الطبري (25/7) .
(10) في أ: "عن".
(11) في ت: "عن أبي فراس".
(12) في م: "المرود".
(13) تفسير الطبري (25/7) .(7/192)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ-أَخْبَرَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ -دَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالُوا لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ أَلَمْ يَقُلْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذْ مِنْ شَارِبِكَ ثُمَّ أَقِرَّهُ حَتَّى تَلْقَانِي" قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إن اللَّهَ قَبَضَ بِيَمِينِهِ قَبْضَةً، وَأُخْرَى بِالْيَدِ الْأُخْرَى، قَالَ: هَذِهِ لِهَذِهِ، وَهَذِهِ لِهَذِهِ وَلَا أُبَالِي" فَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ أَنَا (1) .
وَأَحَادِيثُ الْقَدَرِ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ، وَجَمَاعَةٍ جَمَّةٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ: إِمَّا عَلَى الْهِدَايَةِ أَوْ عَلَى الضَّلَالَةِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى فَاوَتَ بَيْنَهُمْ، فَهَدَى مَنْ يَشَاءُ (2) إِلَى الْحَقِّ، وَأَضَلَّ مَنْ يَشَاءُ عَنْهُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
وَقَالَ: ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي سُوَيْدٍ، حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ: أَنَّهُ بَلَغَهُ (3) أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ:: يَا رَبِّ خَلقُك الَّذِينَ (4) خَلَقْتَهُمْ، جَعَلْتَ مِنْهُمْ فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقًا فِي النَّارِ، لَوْ مَا أَدْخَلْتَهُمْ كُلَّهُمُ الْجَنَّةَ؟! فَقَالَ: يَا مُوسَى، ارْفَعْ ذَرْعك. فَرَفَعَ، قَالَ: قَدْ رَفَعْتُ. قَالَ: ارْفَعْ. فَرَفَعَ، فَلَمْ يُتْرَكْ شَيْئًا، قَالَ: يَا رَبِّ قَدْ رَفَعْتُ، قَالَ: ارْفَعْ. قَالَ: قَدْ رَفَعْتُ، إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. قَالَ: كَذَلِكَ أُدْخِلُ خَلْقِي كُلَّهُمُ الْجَنَّةَ، إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فِيهِ.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) }
__________
(1) المسند (4/1769) .
(2) في أ: "شاء".
(3) في ت: "وروى ابن جرير بسنده".
(4) في ت: "الذي".(7/193)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
{فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) }
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمُخْبِرًا أَنَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَقُّ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثُمَّ قَالَ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أَيْ: مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أَيْ: هُوَ الْحَاكِمُ فِيهِ بِكِتَابِهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاءِ:59] . .
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} أَيِ: الْحَاكِمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أَيْ: أَرْجِعُ فِي جَمِيعِ الأمور.(7/193)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
وَقَوْلُهُ: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أَيْ: خَالِقُهُمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أَيْ: مِنْ جِنْسِكُمْ وَشَكْلِكُمْ، مِنَّةً عَلَيْكُمْ وَتَفَضُّلًا جَعَلَ مِنْ جِنْسِكُمْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، {وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا} أَيْ: وَخَلَقَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ.
وَقَوْلُهُ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أَيْ: يَخْلُقُكُمْ فِيهِ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَزَالُ يَذْرَؤُكُمْ (1) فِيهِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَنَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ، مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أَيْ: فِي الرَّحِمِ. وَقِيلَ: فِي الْبَطْنِ. وَقِيلَ: فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْخِلْقَةِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَنَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ.
وَقِيلَ: "فِي" بِمَعْنَى "الْبَاءِ"، أَيْ: يَذْرَؤُكُمْ بِهِ.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أَيْ: لَيْسَ كَخَالِقِ الْأَزْوَاجِ كُلِّهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
وَقَوْلُهُ: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي "سُورَةِ الزُّمَرِ"، وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ الْحَاكِمُ فِيهِمَا، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أَيْ: يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ التَّامُّ، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) }
يَقُولُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، فَذَكَرَ أَوَّلَ الرُّسُلِ بَعْدَ آدَمَ وَهُوَ نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ وَآخِرَهُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ وَهُمْ: إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ انْتَظَمَتْ ذِكْرَ الْخَمْسَةِ كَمَا اشْتَمَلَتْ آيَةُ "الْأَحْزَابِ" عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ:7] . وَالدِّينُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ هُوَ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] . وفي
__________
(1) في أ: "نوعكم".(7/194)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
الْحَدِيثِ: "نَحْنُ مَعْشَرَ (1) الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ" أَيِ: الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمْ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمْ وَمَنَاهِجُهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [الْمَائِدَةِ:48] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أَيْ: وَصَّى اللَّهُ [سُبْحَانَهُ وَ] (2) تَعَالَى جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بِالِائْتِلَافِ وَالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ.
وَقَوْلُهُ: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أَيْ: شَقَّ عَلَيْهِمْ وَأَنْكَرُوا مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ مِنَ التَّوْحِيدِ.
ثُمَّ قَالَ: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} أَيْ: هُوَ الَّذِي يُقدّر الْهِدَايَةَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَيَكْتُبُ الضَّلَالَةَ عَلَى مَنْ آثَرَهَا عَلَى طَرِيقِ الرُّشْدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} أَيْ: إِنَّمَا كَانَ مُخَالَفَتُهُمْ لِلْحَقِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَيْهِمْ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا البغيُ والعنادُ وَالْمُشَاقَّةُ.
ثُمَّ قَالَ [اللَّهُ] (3) تَعَالَى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ: لَوْلَا الْكَلِمَةُ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ بِإِنْظَارِ الْعِبَادِ بِإِقَامَةِ حِسَابِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا سَرِيعًا.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} يَعْنِي: الْجِيلَ الْمُتَأَخِّرَ بَعْدَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الْمُكَذِّبِ لِلْحَقِّ {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أَيْ: لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَإِنَّمَا هُمْ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرهان، وَهُمْ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَشَكٍّ مُرِيبٍ، وَشِقَاقٍ بَعِيدٍ.
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) }
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى عَشْرِ كَلِمَاتٍ مُسْتَقِلَّاتٍ، كُلٌّ مِنْهَا مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، [لَهَا] (4) حُكْمٌ بِرَأْسِهِ-قَالُوا: وَلَا نَظِيرَ لَهَا سِوَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَإِنَّهَا أَيْضًا عَشَرَةُ (5) فُصُولٍ كَهَذِهِ.
قَوْلُهُ (6) {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} أَيْ: فَلِلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي وَصَّيْنَا بِهِ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَكَ أَصْحَابَ الشَّرَائِعِ الْكِبَارِ الْمُتَّبَعَةِ كَأُولِي الْعَزْمِ وَغَيْرِهِمْ، فادعُ النَّاسَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أَيْ: وَاسْتَقِمْ أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ، وَكَذَّبُوهُ وَافْتَرَوْهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ.
وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} أَيْ: صَدَّقْتُ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ مِنَ السَّمَاءِ على
__________
(1) في ت، م: "معاشر".
(2) زيادة من ت، م، أ.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من ت، أ.
(5) في ت: "عشر".
(6) في ت: "فقوله".(7/195)
الْأَنْبِيَاءِ لَا نُفَرِّقُ (1) بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أَيْ: فِي الْحُكْمِ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أَيْ: هُوَ الْمَعْبُودُ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَنَحْنُ نُقِرُّ بِذَلِكَ اخْتِيَارًا، وَأَنْتُمْ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوهُ اخْتِيَارًا، فَلَهُ يَسْجُدُ مَنْ فِي الْعَالَمِينَ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا.
وَقَوْلُهُ: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أَيْ: نَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يُونُسَ:41] .
وَقَوْلُهُ: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا خُصُومَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ السَّيْفِ. وَهَذَا مُتَّجَهٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَآيَةَ السَّيْفِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سَبَأٍ:26] .
وَقَوْلُهُ: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمآب يوم الحساب.
__________
(1) في ت: "لا يفرق".(7/196)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) }
يَقُولُ تَعَالَى -مُتَوَعِّدًا الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ-: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} أَيْ: يُجَادِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، لِيَصُدُّوهُمْ عَمَّا سَلَكُوهُ مِنْ طَرِيقِ الْهُدَى، {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أَيْ: بَاطِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} أَيْ: مِنْهُ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: جَادَلُوا الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَا اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، لِيَصُدُّوهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَطَمِعُوا أَنْ تَعُودَ الْجَاهِلِيَّةُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالُوا لَهُمْ: دِينُنَا خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَأَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ. وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: {اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يَعْنِي: الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ {وَالْمِيزَانَ} ، وَهُوَ: الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الْحَدِيدِ:25] وَقَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرَّحْمَنِ:7-9] .(7/196)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
وَقَوْلُهُ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} فِيهِ تَرْغِيبٌ فِيهَا، وَتَرْهِيبٌ مِنْهَا، وَتَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} أَيْ: يَقُولُونَ: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سَبَأٍ:29] ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ (1) ذَلِكَ تَكْذِيبًا وَاسْتِبْعَادًا، وَكُفْرًا وَعِنَادًا، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أَيْ: خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ وُقُوعِهَا {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أَيْ: كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهَا عَامِلُونَ مِنْ أَجْلِهَا.
وَقَدْ رُوي مِنْ طُرُقٍ تَبْلُغُ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ، فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ، وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ؛ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيّ، وَهُوَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ صَوْتِهِ "هَاؤُمُ". فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْحَكَ، إِنَّهَا كَائِنَةٌ، فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ " فَقَالَ: حُب اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ (2) .
فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"، هَذَا مُتَوَاتِرٌ لَا مَحَالَةَ، وَالْغَرَضُ أَنَّهُ لَمْ يُجِبْهُ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، بَلْ أَمَرَهُ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهَا.
وَقَوْلُهُ: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ} أَيْ: يُحَاجُّونَ فِي وُجُودِهَا وَيَدْفَعُونَ وُقُوعَهَا، {لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أَيْ: فِي جَهْلٍ بَيِّنٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، كَمَا قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ:27] .
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ لُطْفِهِ بِخَلْقِهِ فِي رِزْقِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، لَا يَنْسَى أَحَدًا مِنْهُمْ، سَوَاءٌ فِي رِزْقِهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هُودٍ:6] وَلَهَا (3) نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} أَيْ: يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} أَيْ: لَا يعجزه شيء.
__________
(1) في ت: "يقول".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (6167) ومسلم في صحيحه برقم (2639) مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(3) في ت: "ولهذا".(7/197)
ثُمَّ قَالَ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} أَيْ: عَمَلَ الْآخِرَةِ {نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أَيْ: نُقَوِّيهِ وَنُعِينُهُ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَنُكْثِرُ نَمَاءَهُ، وَنَجْزِيهِ بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أَيْ: وَمَنْ كَانَ إِنَّمَا سَعْيُهُ لِيَحْصُلَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ لَهُ إِلَى الْآخِرَةِ همَّة (1) أَلْبَتَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ، حَرَمه اللَّهُ الْآخِرَةَ وَالدُّنْيَا إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَحْصُلْ (2) لَهُ لَا هَذِهِ وَلَا هَذِهِ، وَفَازَ هَذَا السَّاعِي بِهَذِهِ النِّيَّةِ بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هَاهُنَا مُقَيَّدَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي "سُبْحَانَ" وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} [الْإِسْرَاءِ:18-21] .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُغيرة، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (3) قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بالسَّنَاء وَالرِّفْعَةِ، وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمِنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ" (4) .
وَقَوْلُهُ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} أَيْ: هُمْ لَا يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَكَ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ، بَلْ يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ لَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ، مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَتَحْلِيلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْقِمَارِ، إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الضَّلَالَاتِ وَالْجَهَالَةِ (5) الْبَاطِلَةِ، الَّتِي كَانُوا قَدِ اخْتَرَعُوهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَالْعِبَادَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيّ بْنِ قَمَعَة يَجُر قُصْبَه فِي النَّارِ" (6) لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ. وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ أَحَدَ مُلُوكِ خُزَاعَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَهُوَ الَّذِي حَمَل قُرَيْشًا عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أَيْ: لَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ، لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِنْظَارِ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ: شَدِيدٌ مُوجِعٌ (7) فِي جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا} أَيْ: فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أَيِ: الَّذِي يَخَافُونَ مِنْهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، هَذَا حَالُهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، وَهُمْ فِي هَذَا الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هذا:
__________
(1) في ت: "وهم".
(2) في أ: "يجعل".
(3) زيادة من ت.
(4) رواه البغوي في شرح السنة (14/335) من طريق الثوري به.
(5) في أ: "الجهالات".
(6) انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: 103 من سورة المائدة.
(7) في ت، أ: "وجيع".(7/198)
أَيْنَ مَنْ هُوَ فِي العَرَصَات فِي الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَالْخَوْفِ الْمُحَقَّقِ عَلَيْهِ بِظُلْمِهِ، مِمَّنْ هُوَ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، فِيمَا يَشَاءُ مِنْ مَآكِلَ وَمُشَارِبَ وَمَلَابِسَ وَمَسَاكِنَ وَمَنَاظِرَ وَمَنَاكِحَ وَمَلَاذَّ، فِيمَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
قَالَ: الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَبَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ (1) عَنْ أَبِي طَيْبَة، قَالَ: إِنَّ الشَّرْب مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَتُظِلُّهُمُ السَّحَابَةُ فَتَقُولُ: مَا أمْطِرُكُم. قَالَ: فَمَا يَدْعُو دَاعٍ مِنَ (2) الْقَوْمِ بِشَيْءٍ إِلَّا أَمْطَرَتْهُمْ، حَتَّى إِنَّ الْقَائِلَ مِنْهُمْ لَيَقُولُ: أَمْطِرِينَا كَوَاعِبَ أَتْرَابًا.
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، بِهِ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أَيِ: الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَالنِّعْمَةُ التَّامَّةُ السابغة الشاملة العامة.
__________
(1) في ت: "روى الحسن بن عرفة بسنده".
(2) في أ: "في".(7/199)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) }
يَقُولُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ رَوْضَاتِ الْجَنَّةِ، لِعِبَادِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ: هَذَا حَاصِلٌ لَهُمْ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، بِبِشَارَةِ اللَّهِ لَهُمْ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى هَذَا الْبَلَاغِ وَالنُّصْحِ لَكُمْ مَا لَا تُعْطُونِيهِ، وَإِنَّمَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ أَنْ تَكُفُّوا شَرَّكُمْ عَنِّي وَتَذَرُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَاتِ (1) رَبِّي، إِنْ لَمْ تَنْصُرُونِي فَلَا تُؤْذُونِي بِمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ طَاوُسًا (2) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِلْتَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ (3) .
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ شُعْبَةَ بِهِ. وَهَكَذَا رَوَى عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، والعَوْفي، وَيُوسُفُ بْنُ مِهْران وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ (4) حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ يَزِيدَ الطَّبَرَانِيُّ وَجَعْفَرٌ الْقَلَانِسِيُّ قَالَا حدثنا
__________
(1) في ت، م، أ: "رسالة".
(2) في ت: "روى البخاري بسنده".
(3) صحيح البخاري برقم (4818) والمسند (1/229) .
(4) في ت: "وروى الطبراني".(7/199)
آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شَرِيكٍ، عَنْ خُصَيف، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدّوني فِي نَفْسِي لِقَرَابَتِي مِنْكُمْ، وَتَحْفَظُوا الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ" (1) .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى: حَدَّثَنَا قَزَعَة يَعْنِي ابْنَ سُوَيد -وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ-عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَزَعة بْنِ سُوَيْدٍ-عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى أَجْرًا، إِلَّا أَنْ تُوَادوا اللَّهَ، وَأَنْ تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ" (2) .
وَهَكَذَا رَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، مِثْلَهُ.
وَهَذَا كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِقَوْلٍ ثَانٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أَيْ: إِلَّا أَنْ تَعْمَلُوا بِالطَّاعَةِ الَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ زُلْفَى.
وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، رِوَايَةً عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي، أَيْ: تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ وَتَبَرُّوهُمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي الدَّيْلَمِ قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَسِيرًا، فَأُقِيمَ عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ، قَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَتَلَكُمْ وَاسْتَأْصَلَكُمْ، وَقَطَعَ قَرْنَيِ الْفِتْنَةِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَقَرَأْتَ آلَ حم؟ قَالَ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ، وَلَمْ أَقْرَأْ آلَ حم. قَالَ: مَا قَرَأْتَ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ؟ قَالَ: وَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ (3) هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَالَ: أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعيّ: سَأَلْتُ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فَقَالَ: قُرْبَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ (4) .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ، حَدَّثَنِي يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ: فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا، وَكَأَنَّهُمْ فَخَرُوا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -أَوِ: الْعَبَّاسُ، شَكَّ عَبْدُ السَّلَامِ-: لَنَا الْفَضْلُ عَلَيْكُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللَّهُ بِي؟ " قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَلَمْ تَكُونُوا ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "أَفَلَا تُجِيبُونِي؟ " قَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَلَا تَقُولُونَ: أَلَمْ يخرجك قومك فآويناك؟ أو لم يكذبوك فصدقناك؟ أو لم يَخْذُلُوكَ فَنَصَرْنَاكَ"؟ قَالَ: فَمَا زَالَ يَقُولُ حَتَّى جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، وَقَالُوا: أَمْوَالُنَا وَمَا فِي أَيْدِينَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ: فَنَزَلَتْ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (5) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ، عن عبد السلام، عن
__________
(1) المعجم الكبير (11/435) .
(2) المسند (1/268) .
(3) في ت، أ: "لأنتم".
(4) تفسير الطبري (25/17) .
(5) تفسير الطبري (25/16) .(7/200)
يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ -وَهُوَ ضَعِيفٌ-بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ -فِي قَسْمِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ-قَرِيبٌ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وذكْرُ نُزُولِهَا فِي الْمَدِينَةِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَيْسَ يَظْهَرُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَبَيْنَ السِّيَاقِ مُنَاسَبَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا علي بن الحسين، حَدَّثَنَا رَجُلٌ سَمَّاهُ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْأَشْقَرُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِمَوَدَّتِهِمْ؟ قَالَ: "فَاطِمَةُ وَوَلَدُهَا، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ" (2) .
وَهَذَا إِسْنَادٌ (3) ضَعِيفٌ، فِيهِ مُبْهَمٌ لَا يُعْرَفُ، عَنْ شَيْخٍ شِيعِيٍّ مُتَخَرّق (4) ، وَهُوَ حُسَيْنٌ الْأَشْقَرُ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ. وَذِكْرُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمَدِينَةِ بَعِيدٌ؛ فَإِنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ لِفَاطِمَةَ أَوْلَادٌ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْلِيٍّ إِلَّا بَعْدَ بَدْرٍ مِنَ (5) السَّنَةِ الثانية من الهجرة.
والحق تفسير الآية بِمَا فَسَّرَهَا بِهِ الْإِمَامُ حَبرُ الْأُمَّةِ، وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ [رَحِمَهُ اللَّهُ] (6) وَلَا تُنْكَرُ الْوَصَاةُ (7) بِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَاحْتِرَامِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةٍ طَاهِرَةٍ، مِنْ أَشْرَفِ بَيْتٍ وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَخْرًا وَحَسَبًا وَنَسَبًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِلسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الصَّحِيحَةِ الْوَاضِحَةِ الْجَلِيَّةِ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ، كَالْعَبَّاسِ وَبَنِيهِ، وَعَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، رَضِيَ الله عنهم أجمعين.
و [قد ثَبَتَ] (8) فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ بغَدِير خُمّ: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي، وَإِنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ" (9) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ (10) ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قُرَيْشًا إِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَقُوهُمْ بِبِشْرٍ حَسَنٍ، وَإِذَا لَقُونَا لَقُونَا بِوُجُوهٍ لَا نَعْرِفُهَا؟ قَالَ: فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَدْخُلُ قَلْبَ الرَّجُلِ الْإِيمَانُ حَتَّى يُحِبَّكُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ" (11) .
ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ (12) حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: دَخَلَ الْعَبَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّا لَنَخْرُجُ فَنَرَى قُرَيْشًا تُحدث، فإذا رأونا
__________
(1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/444) من طريق حرب الطحان عن حسين الأشقر به.
(3) في أ: "الإسناد".
(4) في أ: "مخترق".
(5) في أ: "في".
(6) زيادة من ت، م، أ.
(7) في ت: "ولا ينكر الوصاية".
(8) زيادة من ت، أ.
(9) صحيح مسلم برقم (2408) بنحوه من حديث زيد بن الأرقم.
(10) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(11) المسند (1/207) .
(12) في ت: "ثم روى الإمام أحمد".(7/201)
سَكَتُوا. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودَرّ عِرْقُ بَيْنَ عَيْنِهِ (1) ، ثُمَّ قَالَ: "وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُ قَلْبَ امْرِئٍ (2) إِيمَانٌ حَتَّى يُحِبَّكُمْ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِي" (3) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدٍ قَالَ: سمعتُ أَبِي يُحَدِّثُ (4) عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ (5) .
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ لَعَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَاللَّهِ لِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي (6) (7) .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْعَبَّاسِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إليَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ؛ لَأَنَّ إِسْلَامَكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ.
فَحَالُ الشَّيْخَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَا أَفْضَلَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي حَيّان التيمي، حدثني يزيد ابن حَيَّانَ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وحُسَيْن بْنُ مَيْسَرة، وَعُمَرُ (8) بْنُ مُسْلِمٍ إِلَى زَيْدِ (9) بْنِ أَرْقَمَ، فَلَمَّا جَلَسْنَا إِلَيْهِ قَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: لَقَدْ لقيتَ يَا زَيْدُ (10) خَيْرًا كَثِيرًا، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ وَغَزَوْتَ مَعَهُ، وَصَلَّيْتَ مَعَهُ. لَقَدْ رَأَيْتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا. حَدِّثْنَا يَا زَيْدُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ كَبُرت (11) سِنِّي، وَقَدِمَ عَهْدِي، وَنَسِيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا حَدَّثْتُكُمْ فَاقْبَلُوهُ، وَمَا لَا فَلَا تُكَلّفونيه. ثُمَّ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطِيبًا فِينَا، بِمَاءٍ يُدْعَى خُمّا -بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ-فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكَرَ وَوَعَظَ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَوَّلُهُمَا: كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، وَقَالَ: "وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي" فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: إِنَّ نِسَاءَهُ من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرم الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وَآلُ الْعَبَّاسِ، قَالَ: أَكُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قال: نعم.
وهكذا رواه مسلم [في فضائل] (12) وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيّان به (13) .
__________
(1) في ت، أ: "عينيه".
(2) في ت، أ: "امرئ مسلم".
(3) المسند (1/207) .
(4) في ت: "وروى البخاري بإسناده".
(5) صحيح البخاري برقم (3713) .
(6) في أ: "أحب إلي من أن أصل قرابتي".
(7) صحيح البخاري برقم (3712) .
(8) في ت، أ: "وعمرو".
(9) في أ: "يزيد".
(10) في أ: "يزيد".
(11) في ت، أ: "والله لقد كبرت".
(12) زيادة من ت، م، أ.
(13) المسند (4/366) وصحيح مسلم برقم (2408) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8175) .(7/202)
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ (1) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -وَالْأَعْمَشُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ (2) السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْآخَرُ عِتْرَتِي: أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا"
تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ التِّرْمِذِيُّ (3) ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا (4) حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (5) قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي: أَهْلَ بَيْتِي"
تَفَرَّدَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا (6) ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ.
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِين، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ (7) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ (8) مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي (9) بِحُبِّ اللَّهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بِحُبِّي"
ثُمَّ قَالَ (10) حَسَنٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (11) .
وَقَدْ أَوْرَدْنَا أَحَادِيثَ أُخَر عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 33] (12) ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهَا هَاهُنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيد، حَدَّثَنَا مُفَضَّلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَنَش قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ الْبَابِ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ أَنْكَرَنِي فَأَنَا أَبُو ذَرٍّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّمَا مَثَلُ أهل بيتي فيكم مَثَل سفينة نوح،
__________
(1) في ت: "وروى الترمذي".
(2) في ت: "بين".
(3) سنن الترمذي برقم (3788) .
(4) في ت: "وروى الترمذي".
(5) في ت: "عبد الله رضي الله عنه".
(6) سنن الترمذي برقم (3786) .
(7) قي ت: "وروى الترمذي أيضا عن ابن عباس".
(8) في ت: "يغدوكم به".
(9) في ت: "فأحبوني".
(10) في ت: "وقال".
(11) سنن الترمذي برقم (3789) .
(12) انظر تفسير الآية: 33 من سورة لأحزاب.(7/203)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
مَنْ دَخَلَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ" (1) .
هَذَا بِهَذَا الْإِسْنَادِ ضَعِيفٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أَيْ: وَمَنْ يَعْمَلُ حَسَنَةً {نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أَيْ: أَجْرًا وَثَوَابًا، كَقَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّسَاءِ:40] .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: [إِنَّ] (2) مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا، وَمِنْ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ (السَّيِّئَةَ) بَعْدَهَا.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} أَيْ: يَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَيُكَثِّرُ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَسَنَاتِ، فَيَسْتُرُ وَيَغْفِرُ، وَيُضَاعِفُ فَيَشْكُرُ.
وَقَوْلُهُ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أَيْ: لَوِ افْتَرَيْتَ عَلَيْهِ كَذِبًا كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ {يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أَيْ: لَطَبَعَ عَلَى قَلْبِكَ وَسَلَبَكَ مَا كَانَ آتَاكَ مِنَ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الْحَاقَّةِ:44-47] أَيْ: لَانْتَقَمْنَا مِنْهُ أَشَدَّ الِانْتِقَامِ، وَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَحْجِزَ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: {يَخْتِمْ} فَيَكُونَ مَجْزُومًا، بَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: وَحُذِفَتْ مِنْ كِتَابَتِهِ "الْوَاوُ" فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، كَمَا حُذِفَتْ فِي (3) قَوْلِهِ: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [الْعَلَقِ:18] وَقَوْلُهُ: {وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الْإِسْرَاءِ:11] .
وَقَوْلُهُ: {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} مَعْطُوفٌ عَلَى {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} أَيْ: يُحَقِّقُهُ وَيُثْبِتُهُ وَيُبَيِّنُهُ وَيُوَضِّحُهُ بِكَلِمَاتِهِ، أَيْ: بِحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ: بِمَا تُكِنُّهُ الضَّمَائِرُ، وَتَنْطَوِي عَلَيْهِ السَّرَائِرُ.
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) }
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ إِلَيْهِ إِذَا تَابُوا وَرَجَعُوا إِلَيْهِ: أَنَّهُ مِنْ كَرَمِهِ وَحِلْمِهِ أَنَّهُ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَيَسْتُرُ وَيَغْفِرُ، كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النِّسَاءِ:110] وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مسلم، رحمه الله، حيث قال:
__________
(1) ورواه الحاكم في المستدرك وصححه (3/150) من طريق مفضل بن صالح عن أبي إسحاق به، وتعقبه الذهبي بقوله: "فيه مفضل ابن صالح واه"، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (3/37) من طريق عبد الله بن داهر عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَنِ الْأَعْمَشِ عن أبي إسحاق به، وفي إسناده عبد الله بن داهر الرازي متروك.
(2) زيادة من ت، م، أ.
(3) في ت، أ: "من".(7/204)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ (1) حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -وَهُوَ عَمُّهُ (2) -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ رَاحِلَتُهُ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ -أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ" (3) .
وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ (4) (5) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ (6) فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَخَافُ أَنْ يَقْتُلَهُ الْعَطَشُ فِيهِ" (7) .
وَقَالَ هَمَّامُ بْنُ الْحَارِثِ: سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ الرَّجُلِ يَفْجُرُ بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَرَأَ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} الْآيَةَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ الْقَاضِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ هَمَّامٍ فَذَكَرَهُ (8) .
وَقَوْلُهُ: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} أَيْ: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ فِي الْمَاضِي، {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أَيْ: هُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا فَعَلْتُمْ وَصَنَعْتُمْ وَقُلْتُمْ، وَمَعَ هَذَا يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي يَسْتَجِيبُ لَهُمْ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ يَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ لَهُمْ (9) [لِأَنْفُسِهِمْ] (10) وَلِأَصْحَابِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ. وَحَكَاهُ عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَأَنَّهُ جَعَلَهَا كَقَوْلِهِ: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 195] .
ثُمَّ رَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا مُعَاذٌ بِالشَّامِ فَقَالَ: أَنْتُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنْتُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ. وَاللَّهِ إِنِّي أَرْجُو أَنْ يُدْخِلَ اللَّهُ مَنْ تَسْبُونَ مِنْ فَارِسَ وَالرُّومِ الْجَنَّةَ، وَذَلِكَ بِأَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا عَمِلَ لَهُ -يَعْنِي أحدُهم عَمَلًا-قَالَ: أَحْسَنْتَ رَحِمَكَ (11) اللَّهُ، أَحْسَنْتَ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}
__________
(1) في أ: "قالا".
(2) في ت: "عمه رضي الله عنه".
(3) صحيح مسلم برقم (2747) .
(4) في ت: "مثله".
(5) صحيح مسلم برقم (2744) .
(6) في ت: "راحلته".
(7) تفسير عبد الرزاق (2/156) وقد روى متصلا، فرواه مسلم في صحيحه برقم (2675) مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ همام ابن منبه عن أبي هريرة به.
(8) تفسير الطبري (25/18) .
(9) في ت، م: "لهم الدعاء".
(10) زيادة من ت، م.
(11) في ت، م، أ: "يرحمك".(7/205)
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ جَعَلَ (1) [مِثْلَ] (2) قَوْلِهِ: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} [الزُّمَرِ:18] أَيْ: هُمُ الَّذِينَ يَسْتَجِيبُونَ لِلْحَقِّ وَيَتَّبِعُونَهُ، كَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الْأَنْعَامِ:36] وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِقَوْلِهِ (3) تَعَالَى: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أَيْ: يَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (4) قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قَالَ: "الشَّفَاعَةُ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، مِمَّنْ صَنَعَ إِلَيْهِمْ مَعْرُوفًا (5) فِي الدُّنْيَا" (6) .
وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ اللَّخْمِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قَالَ: يُشَفَّعُونَ فِي إِخْوَانِهِمْ، {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قَالَ: يُشَفَّعُونَ فِي إِخْوَانِ إِخْوَانِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، ذَكَرَ الْكَافِرِينَ وَمَا لَهُمْ عِنْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الْمُوجِعِ الْمُؤْلِمِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ وَحِسَابِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ} أَيْ: لَوْ أَعْطَاهُمْ فَوْقَ حَاجَتِهِمْ مِنَ الرِّزْقِ، لَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، أَشَرًا وَبَطَرًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ: خَيْرُ الْعَيْشِ مَا لَا يُلْهِيكَ وَلَا يُطْغِيكَ. وَذَكَرَ قَتَادَةُ حَدِيثَ: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" وَسُؤَالَ السَّائِلِ: أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} أَيْ: وَلَكِنْ يَرْزُقُهُمْ مِنَ الرِّزْقِ مَا يَخْتَارُهُ مِمَّا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ فَيُغْنِي مَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِنَى، وَيُفْقِرُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْفَقْرَ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ: "إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ (7) لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ"
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِيَاسِ النَّاسِ مِنْ نُزُولِ الْمَطَرِ، يُنَزِّلُهُ عَلَيْهِمْ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الرُّومِ:49] .
وَقَوْلُهُ: {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} أَيْ: يَعُمُّ بِهَا الْوُجُودَ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ القُطْر وتلك الناحية.
__________
(1) في ت، م: "جعله".
(2) زيادة من ت، أ.
(3) في ت: "كقوله".
(4) في ت: "روى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله".
(5) في أ: "المعروف".
(6) ورواه أبي عاصم في السنة برقم (846) من طريق محمد بن مصفى عن بقية به، وفي إسيناده إسماعيل الكندي. قال الذهبي في الميزان (1/235) : "عن الأعمش، وعنه بقية، بخبر عجيب منكر".
(7) في ت: "من".(7/206)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قُحط الْمَطَرُ وَقَنَطَ النَّاسُ؟ فَقَالَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مُطِرْتُمْ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} (1) .
{وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} أَيْ: هُوَ الْمُتَصَرِّفُ لِخَلْقِهِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَفْعَلُهُ.
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ:} الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ وَسُلْطَانِهِ الْقَاهِرِ {خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} أَيْ: ذَرَأَ فِيهِمَا، أَيْ: فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، {مِنْ دَابَّةٍ} وَهَذَا يَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَسَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ، وَطِبَاعِهِمْ وَأَجْنَاسِهِمْ، وَأَنْوَاعِهِمْ، وَقَدْ فَرَّقَهُمْ فِي أَرْجَاءِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، {وَهُوَ} مَعَ هَذَا كُلِّهِ {عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَسَائِرَ الْخَلَائِقِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ الْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أَيْ: مَهْمَا أَصَابَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنَ الْمَصَائِبِ فَإِنَّمَا هُوَ (2) عَنْ سَيِّئَاتٍ تَقَدَّمَتْ لَكُمْ {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} أَيْ: مِنَ السَّيِّئَاتِ، فَلَا يُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا بَلْ يَعْفُو عَنْهَا، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فَاطِرٍ: 45] وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَب وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزَن، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ (3) يُشَاكُهَا" (4) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُليَّة، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: قَرَأْتُ فِي كِتَابِ أَبِي قِلابَةَ قَالَ: نَزَلَتْ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ:7، 8] وَأَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ، فَأَمْسَكَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَرَاءٍ مَا عَمِلْتُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؟ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ مَا رَأَيْتَ مِمَّا تَكْرَهُ، فَهُوَ مِنْ مَثَاقِيلِ ذَرّ الشَّرِّ، وَتُدَّخَرُ مَثَاقِيلُ الْخَيْرِ حَتَّى تُعْطَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ: قَالَ أَبُو إِدْرِيسَ: فَإِنِّي أَرَى مِصْدَاقَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (5) .
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عن أنس (6) ، قال: والأول أصح.
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (25/19) .
(2) في ت، أ: "هي".
(3) في ت، أ: "بالشوكة".
(4) صحيح البخاري برقم (5641، 5642) وصحيح مسلم برقم (2573) "من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما".
(5) تفسير الطبري (25/20) .
(6) تفسير الطبري (25/21) .(7/207)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الفَزَاري، حَدَّثَنَا الْأَزْهَرُ بْنُ رَاشِدٍ الْكَاهِلِيُّ، عَنِ الخَضْر بْنِ القَوَّاس الْبَجْلِيِّ، عَنْ أَبِي سُخَيْلَةَ (1) عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَدَّثَنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} . وَسَأُفَسِّرُهَا لَكَ يَا عَلِيُّ: "مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا، فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (2) وَاللَّهُ تَعَالَى أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّى عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ (3) تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ عَفْوِهِ"
وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وعَبْدة، عَنْ أَبِي سُخَيلة قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ ... فَذَكَرَ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا (4) .
ثُمَّ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ [نَحْوَهُ] (5) مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي جُحَيفَة قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعيَه (6) ؟ قَالَ: فَسَأَلْنَاهُ فَتَلَا (7) هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} قَالَ: مَا عَاقَبَ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّي عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِي عَفْوِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ (8) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ -يَعْنِي ابْنَ يَحْيَى-عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ-هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي جَسَدِهِ يُؤْذِيهِ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ" (9) .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (10) ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُكَفِّرُهَا، ابْتَلَاهُ اللَّهُ بالحَزَنِ لِيُكَفِّرَهَا" (11) .
وَقَالَ (12) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ -هُوَ الْبَصْرِيُّ-قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ خَدْش عُودٍ، وَلَا اخْتِلَاجِ عِرْقٍ، وَلَا عَثْرة قَدَمٍ، إِلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ" (13) .
وَقَالَ (14) أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا هُشَيمْ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الحسن، عن
__________
(1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(2) في أ: "أيديكم ويعفو عن كثير".
(3) في ت: "والله".
(4) المسند (1/85) .
(5) زيادة من أ.
(6) في أ: "يصيبه".
(7) في ت: "قبل".
(8) في ت: "وروى".
(9) المسند (4/98) قال الهيثمي في المجمع (3/301) : "رجال أحمد رجال الصحيح".
(10) في ت، م: "عن مجاهد، وروى أيضا".
(11) المسند (6/157) .
(12) في ت: "وروى".
(13) ورواه هناد بن السري في الزهد برقم (431) من طريق إسماعيل بن مسلم به مرسلا.
(14) في ت: "وروى".(7/208)
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَقَدْ كَانَ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ إِنَّا لَنَبْتَئِسُ لَكَ لِمَا نَرَى فِيكَ. قَالَ: فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا تَرَى، فَإِنَّ مَا تَرَى بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}
[قَالَ:] (1) وَحَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الحمَّاني، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَبِي الْبِلَادِ (2) قَالَ: قُلْتُ لِلْعَلَاءِ بْنِ بَدْرٍ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ، وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرِي وَأَنَا غُلَامٌ؟ قَالَ: فَبِذُنُوبِ وَالِدَيْكَ.
وَحَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافسي، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عَبْدِ العزيز بن أبي راود، عَنِ الضَّحَّاكِ (3) قَالَ: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَفِظَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ (4) إِلَّا بِذَنْبٍ، ثُمَّ قَرَأَ الضَّحَّاكُ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} . ثُمَّ يَقُولُ الضَّحَّاكُ: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن.
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) في أ: "أبي العلا".
(3) في ت: "وروى أيضا عن الضحاك".
(4) في أ: "سيبه".(7/209)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَار فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) }
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، تَسْخِيرُهُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ فِيهِ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وَهِيَ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، أَيْ: كَالْجِبَالِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، أَيْ: هِيَ (1) فِي الْبَحْرِ كَالْجِبَالِ فِي الْبَرِّ،.
{إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} أَيِ: الَّتِي تَسِيرُ بِالسُّفُنِ (2) ، لَوْ شَاءَ لَسَكَّنَهَا حَتَّى لَا تَتَحَرَّكَ (3) السُّفُنُ، بَلْ تَظَلَّ رَاكِدَةً لَا تَجِيءُ وَلَا تَذْهَبُ، بَلْ وَاقِفَةً عَلَى ظَهْرِهِ، أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ} أَيْ: فِي الشَّدَائِدِ {شَكُورٍ} أَيْ: إِنَّ فِي تَسْخِيرِهِ الْبَحْرَ وَإِجْرَائِهِ الْهَوَى بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لِسَيْرِهِمْ، لَدَلَالَاتٍ عَلَى نِعَمِهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ {لِكُلِّ صَبَّارٍ} أَيْ: فِي الشَّدَائِدِ، {شَكُورٍ} فِي الرَّخَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أَيْ: وَلَوْ شَاءَ لَأَهْلَكَ السُّفُنَ وَغَرَّقَهَا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا الَّذِينَ هُمْ رَاكِبُونَ عَلَيْهَا (4) {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} أَيْ: مِنْ ذُنُوبِهِمْ. وَلَوْ أَخَذَهُمْ بِجَمِيعِ ذُنُوبِهِمْ لِأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ (5) .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أَيْ: لَوْ شَاءَ لَأَرْسَلَ الرِّيحَ قَوِيَّةً عَاتِيَةً، فَأَخَذَتِ السُّفُنَ وَأَحَالَتْهَا (6) عَنْ سَيْرِهَا الْمُسْتَقِيمِ، فَصَرَفَتْهَا ذَاتَ الْيَمِينِ أَوْ ذَاتَ الشِّمَالِ، آبِقَةً لَا تَسِيرُ عَلَى طَرِيقٍ، وَلَا إِلَى جِهَةِ مَقْصِدٍ.
__________
(1) في أ: "هذه".
(2) في ت: "تسير بها السفن".
(3) في ت: "يتحرك".
(4) في ت، م، أ: "فيها".
(5) في م: "كل من يركب في البحر"، وفي أ: "كل من يركب البحر".
(6) في ت، أ: "فأجالتها"ن وفي م: "فاجتالتها".(7/209)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ يَتَضَمَّنُ هَلَاكَهَا، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْأَوَّلِ (1) ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَسَكَّنَ الرِّيحَ فَوَقَفَتْ، أَوْ لَقَوَّاهُ فَشَرَدَتْ وَأَبْقَتْ وَهَلَكَتْ. وَلَكِنْ مِنْ لُطْفِهِ (2) وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُهُ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ، كَمَا يُرْسِلُ الْمَطَرَ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ، وَلَوْ أَنْزَلَهُ كَثِيرًا جِدًّا لَهَدَمَ الْبُنْيَانَ، أَوْ قَلِيلًا لَمَا أَنْبَتَ الزَّرْعَ (3) وَالثِّمَارَ، حَتَّى إِنَّهُ يُرْسِلُ إِلَى مِثْلِ بِلَادِ مِصْرَ سَيْحًا مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى غَيْرِهَا (4) ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى مَطَرٍ، وَلَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ لَهَدَمَ بُنْيَانَهُمْ، وَأَسْقَطَ جُدْرَانَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ: لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْ بَأْسِنَا وَنِقْمَتِنَا، فَإِنَّهُمْ مَقْهُورُونَ بِقُدْرَتِنَا.
{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) }
يَقُولُ تَعَالَى مُحَقِّرًا بِشَأْنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ وَالنَّعِيمِ الْفَانِي، بِقَوْلِهِ: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ: مَهْمَا حَصَلْتُمْ وَجَمَعْتُمْ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهِيَ دَارٌ دَنِيئَةٌ فَانِيَةٌ زَائِلَةٌ لَا مَحَالَةَ، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أَيْ: وَثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَهُوَ بَاقٍ سَرْمَدِيٌّ، فَلَا تُقَدِّمُوا الْفَانِيَ عَلَى الْبَاقِي؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ: لِلَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى تَرْكِ الْمَلَاذِّ فِي الدُّنْيَا، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أَيْ: لِيُعِينَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ فِي "سُورَةِ الْأَعْرَافِ" {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أَيْ: سَجِيَّتُهُمْ [وَخَلْقُهُمْ وَطَبْعُهُمْ] (5) تَقْتَضِي الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ عَنِ النَّاسِ، لَيْسَ سَجِيَّتُهُمُ الِانْتِقَامَ مِنَ النَّاسِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ (6) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا (7) عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: مَا لَهُ؟ تَرِبَتْ جَبِينُهُ" (8) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ (9) ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَذِلُّوا، وكانوا إذا قدروا عفوا.
__________
(1) في ت، أ: "للقول الأول".
(2) في أ: "لطف الله".
(3) في ت، م: "الزروع".
(4) في أ: "عليها".
(5) زيادة من أ.
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (6126) من حديث عائشة بلفظ: "وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم بها الله".
(7) في أ: "للرجل".
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (6031) مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(9) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".(7/210)
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أَيِ: اتَّبَعُوا رُسُلَهُ وَأَطَاعُوا أَمْرَهُ، وَاجْتَنَبُوا زَجْرَهُ، {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} وَهِيَ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أَيْ: لَا يُبْرِمُونَ أَمْرًا حَتَّى يَتَشَاوَرُوا (1) فِيهِ، لِيَتَسَاعَدُوا بِآرَائِهِمْ فِي مِثْلِ الْحُرُوبِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آلِ عمران: 159] ولهذا كان عليه [الصلاة] (2) السلام، يُشَاوِرُهُمْ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا، لِيُطَيِّبَ بِذَلِكَ قُلُوبَهُمْ. وَهَكَذَا لَمَّا حَضَرَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (3) الْوَفَاةُ حِينَ طُعِنَ، جَعَلَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ شُورَى فِي سِتَّةِ نَفَرٍ، وَهُمْ: عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَيْهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ، الْأَقْرَبِ إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبِ.
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} أَيْ: فِيهِمْ قُوَّةُ الِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، لَيْسُوا بِعَاجِزِينَ وَلَا أَذِلَّةٍ، بَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مع هذا إذا قدروا وعفوا، كَمَا قَالَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِإِخْوَتِهِ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] (4) } [يُوسُفَ:92] ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مُؤَاخَذَتِهِمْ وَمُقَابَلَتِهِمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ إِلَيْهِ، وَكَمَا عَفَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ الثَّمَانِينَ الَّذِينَ قَصَدُوهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَنَزَلُوا مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ، فَلَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِمْ مَنَّ عَلَيْهِمْ (5) مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَكَذَلِكَ عَفْوُهُ عَنْ غَوْرَث بْنِ الْحَارِثِ، الَّذِي أَرَادَ الْفَتْكَ بِهِ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (6) حِينَ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتا، فَانْتَهَرَهُ فَوَضَعَهُ مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ، وَدَعَا أَصْحَابَهُ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ، وَعَفَا عَنْهُ. وَكَذَلِكَ عَفَا عَنْ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ (7) ، الَّذِي سَحَرَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَعْرِضْ لَهُ، وَلَا عَاتَبَهُ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ عَفْوُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنِ الْمَرْأَةِ الْيَهُودِيَّةِ -وَهِيَ زَيْنَبُ أُخْتُ (8) مَرْحَبٍ الْيَهُودِيِّ الْخَيْبَرِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ-الَّتِي سَمَّتِ الذِّرَاعَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَأَخْبَرَهُ الذِّرَاعُ بِذَلِكَ، فَدَعَاهَا فَاعْتَرَفَتْ فَقَالَ: "مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ" قَالَتْ: أَرَدْتُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْكَ، فَأَطْلَقَهَا، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَكِنْ لَمَّا مَاتَ مِنْهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ قَتَلَهَا بِهِ، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ (9) .
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ (43) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]
__________
(1) في أ: "يشاورون".
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من أ.
(5) في ت، م، أ: "عنهم".
(6) زيادة من ت.
(7) في ت: "أعصم".
(8) في ت، م: "بنت".
(9) في أ: "ولله الحمد والمنة".(7/211)
وَكَقَوْلِهِ (1) {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النَّحْلِ:129] فَشَرَعَ الْعَدْلَ وَهُوَ الْقَصَاصُ، وَنَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ وَهُوَ الْعَفْوُ، كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] (2) {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [الْمَائِدَةِ:45] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أَيْ: لَا يَضِيعُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ: "وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا" وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أَيِ: الْمُعْتَدِينَ، وَهُوَ الْمُبْتَدِئُ بِالسَّيِّئَةِ.
[وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا كَانَتِ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمُقْتَصِدٌ، وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ، ذَكَرَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَذَكَرَ الْمُقْتَصِدَ وَهُوَ الَّذِي يُفِيضُ بِقَدْرِ حَقِّهِ لِقَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّابِقَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ثُمَّ ذَكَرَ الظَّالِمَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} فَأَمَرَ بِالْعَدْلِ،وَنَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ، وَنَهَى مِنَ الظُّلْمِ] (3) .
ثُمَّ قَالَ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} أَيْ: لَيْسَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ فِي الِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ (4) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزيع (5) حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا (6) ابْنُ عَوْن قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُ عَنِ الِانْتِصَارِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ (7) بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أُمِّ مُحَمَّدٍ -امْرَأَةِ أَبِيهِ-قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ (8) -قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَنَا زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَجَعَلَ يَصْنَعُ بِيَدِهِ شَيْئًا فَلَمْ يَفْطِن لَهَا، فَقُلْتُ بِيَدِهِ حَتَّى (9) فَطَّنته لَهَا، فَأَمْسَكَ. وَأَقْبَلَتْ زَيْنَبُ تُقْحِمُ لِعَائِشَةَ، فَنَهَاهَا، فَأَبَتْ أَنْ تَنْتَهِيَ. فَقَالَ لِعَائِشَةَ: "سُبّيها" فَسَبَّتْهَا فَغَلَبَتْهَا، وَانْطَلَقَتْ زَيْنَبُ فَأَتَتْ عَلِيًّا فَقَالَتْ: إِنَّ عَائِشَةَ تَقَعُ بِكُمْ، وَتَفْعَلُ بِكُمْ. فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَقَالَ (10) لَهَا "إِنَّهَا حِبَّةُ أَبِيكِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ" فَانْصَرَفَتْ، وَقَالَتْ لِعَلِيٍّ: إِنِّي قُلْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَجَاءَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ (11) .
هَكَذَا وَرَدَ هَذَا السِّيَاقُ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ يَأْتِي فِي رِوَايَاتِهِ بِالْمُنْكَرَاتِ غَالِبًا، وَهَذَا فِيهِ نَكَارَةٌ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ خِلَافُ هَذَا السِّيَاقِ، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ الْفَأْفَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ البَهِيّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا علمتُ حَتَّى دَخَلَتْ عليَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذَنٍ وَهِيَ غَضْبَى، ثُمَّ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ إِذَا قَلَبَتْ لَكَ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ذُرَيّعَتَيهَا ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيَّ فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دُونَكِ فَانْتَصِرِي" فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا وَقَدْ يَبِسَ رِيقُهَا فِي فَمِهَا، مَا (12) تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا. فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يتهلل وجهه. وهذا لفظ
__________
(1) في ت: "وقوله".
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت، أ.
(4) في ت: "وروى ابن جرير".
(5) في أ: "سويع".
(6) في ت: "عن".
(7) في ت: "يزيد".
(8) في ت: "عائشة رضي الله عنها".
(9) في أ: "فقلت له حتى".
(10) في ت: "فقالت".
(11) تفسير الطبري (25/24) .
(12) في م: "لم".(7/212)
النَّسَائِيِّ (1) .
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ (2) ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ -وَاسْمُهُ مَيْمُونٌ-ثُمَّ قَالَ: "لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ" (3) .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا السَّبِيلُ} أَيْ: إِنَّمَا الْحَرَجُ وَالْعَنَتُ {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أَيْ: يَبْدَؤُونَ النَّاسَ بِالظُّلْمِ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "الْمُسْتَبَّانُ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَد الْمَظْلُومُ".
{أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ: شَدِيدٌ مُوجِعٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ -أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ-حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الشَّحَّامُ، حَدَّثَنَا (4) مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ فَإِذَا عَلَى الْخَنْدَقِ مَنْظَرَة، فَأُخِذْتُ فَانْطُلِقَ بِي إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَقَالَ: حَاجَتَكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. قُلْتُ حَاجَتِي إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ. قَالَ: وَمَنْ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ؟ قَالَ: الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ، اسْتَعْمَلَ صَدِيقًا لَهُ مَرَّةً عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تَبِيتَ إِلَّا وَظَهْرُكَ خَفِيفٌ، وَبَطْنُكَ خَمِيصٌ، وَكَفُّكَ نَقِيَّةٌ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ (5) ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ سَبِيلٌ، {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَقَالَ (6) صَدَقَ وَاللَّهِ وَنَصَحَ ثُمَّ قَالَ: مَا حَاجَتُكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: حَاجَتِي أَنْ تُلْحِقَنِي بِأَهْلِي. قَالَ: نَعَمْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (7) .
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الظُّلْمَ وَأَهْلَهُ وَشَرَّعَ الْقَصَاصَ، قَالَ نَادِبًا إِلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} أَيْ: صَبَرَ عَلَى الْأَذَى وَسَتَرَ السَّيِّئَةَ، {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ}
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: [يَعْنِي] (8) لَمِنْ حَقِّ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، أَيْ: لَمِنَ الْأُمُورِ الْمَشْكُورَةِ وَالْأَفْعَالِ الْحَمِيدَةِ (9) الَّتِي عَلَيْهَا ثَوَابٌ جَزِيلٌ وَثَنَاءٌ جَمِيلٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الطَّرْسُوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ يَزِيدَ -خَادِمُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ-قَالَ: سَمِعْتُ (10) الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يقول (11) إذا أتاك رجل
__________
(1) النسائي في السنن الكبرى برقم (11476) وسنن ابن ماجه برقم (1981) قال البوصيري في الزوائد (2/115) : "هذا إسناد صحيح على شرط مسلم".
(2) في ت: "وروى البزار بسنده".
(3) سنن الترمذي برقم (3552) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (10/347) وابن عدي في الكامل (6/412) من طريق أبي الأحوص به، وقال ابن عدي: "لا أعلم من يرويه عن أبي حمزة غير أبي الأحوص".
(4) في ت: "عن".
(5) في أ: "قبلت".
(6) في ت، أ: "فقال مروان".
(7) المصنف لابن أبي شيبة (14/63) .
(8) زيادة من أ.
(9) في ت: "المحمودة".
(10) في ت: "وعن".
(11) في ت: "قال".(7/213)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
يَشْكُو إِلَيْكَ رَجُلًا فَقُلْ: "يَا أَخِي، اعْفُ عَنْهُ". فَإِنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، فَإِنْ قَالَ: لَا يَحْتَمِلُ قَلْبِي الْعَفْوَ، وَلَكِنْ أَنْتَصِرُ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ (1) عَزَّ وَجَلَّ. فَقُلْ لَهُ (2) إِنْ كُنْتُ تُحْسِنُ أَنْ تَنْتَصِرَ وَإِلَّا فَارْجِعْ إِلَى بَابِ الْعَفْوِ، فَإِنَّهُ بَابٌ وَاسِعٌ، فَإِنَّهُ مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَصَاحِبُ الْعَفْوِ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ بِاللَّيْلِ، وَصَاحِبُ الِانْتِصَارِ يُقَلِّبُ الْأُمُورَ (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ-عَنِ ابْنِ عَجْلان، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، (4) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ! قَالَ: "إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ حَضَرَ (5) الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ". ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ، مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلم بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ، إِلَّا أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَه، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً، إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً، إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا قِلَّةً"
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ -قَالَ: وَرَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلان (6) وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِي، عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْمُحَرِّرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا (7) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ سببُ سَبِّهِ لِلصِّدِّيقِ (8) .
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) }
__________
(1) في ت: "ربي".
(2) في ت، أ: "قال له الفضيل".
(3) بعدها: "رواه ابن أبي حاتم".
(4) في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده".
(5) في ت، م، أ: "وقع".
(6) المسند (2/436) وسنن أبي داود برقم (4896، 4897) .
(7) سنن أبي داود برقم (4897) .
(8) في ت، أ: "وهذا الحديث في غاية الحسن وهو مناسب للصديق"، وفي م: "وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي الْمَعْنَى وهو مناسب للصديق".(7/214)
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ مَا شَاءَ (1) كَانَ وَلَا رَادَّ لَهُ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَلَا مُوجِدَ لَهُ (2) وَأَنَّهُ مَنْ هَدَاهُ فَلَا مُضِل لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ (3) فَلَا هَادِيَ لَهُ، كَمَا قَالَ: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الْكَهْفِ: 17]
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنِ الظَّالِمِينَ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} أَيْ: يَوْمَ القيامة يتمنون
__________
(1) في ت: "ما شاء الله".
(2) في أ: "فلا مؤاخذة له".
(3) في ت، م: "يضلل الله".(7/214)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا، {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (1) {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الْأَنْعَامِ:27، 28] .
وَقَوْلُهُ: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أَيْ: عَلَى النَّارِ {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} أَيِ: الَّذِي قَدِ اعْتَرَاهُمْ بِمَا أَسْلَفُوا مِنْ عِصْيَانِ اللَّهِ، {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} قَالَ مجاهد: يعني ذليل، أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا مُسَارقَة خَوْفًا مِنْهَا، وَالَّذِي يَحْذَرُونَ مِنْهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، وَمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا فِي نُفُوسِهِمْ، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.
{وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ: يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ} أَيِ: الْخَسَارُ (2) الْأَكْبَرُ {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ: ذَهَبَ بِهِمْ إِلَى (3) النَّارِ فَعُدِمُوا لَذَّتَهُمْ فِي دَارِ الْأَبَدِ، وَخَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِمْ وَأَحْبَابِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ وَقَرَابَاتِهِمْ، (4) فَخَسِرُوهُمْ، {أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} أَيْ: دَائِمٍ سَرْمَدِيٍّ أَبَدِيٍّ، لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا وَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيْ: يُنْقِذُونَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} أَيْ: لَيْسَ لَهُ خَلَاصٌ.
{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ (48) }
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ الْهَائِلَةِ حَذَّر مِنْهُ وَأَمَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، فَقَالَ: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أَيْ: إِذَا أَمَرَ بِكَوْنِهِ فَإِنَّهُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ يَكُونُ، وَلَيْسَ لَهُ دَافِعٌ وَلَا مَانِعٌ.
وَقَوْلُهُ: {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ حِصْنٌ تَتَحَصَّنُونَ فِيهِ، وَلَا مَكَانٌ يَسْتُرُكُمْ وَتَتَنَكَّرُونَ فِيهِ، فَتَغِيبُونَ عَنْ بَصَرِهِ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِكُمْ بِعِلْمِهِ وَبَصَرِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، {يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [الْقِيَامَةِ:10-12] .
وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أَيْ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ:272] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرَّعْدِ:40] وَقَالَ هَاهُنَا: {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} أَيْ: إِنَّمَا كَلَّفْنَاكَ أَنْ تُبْلِغَهُمْ رسالة الله إليهم.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في أ: "الخاسر".
(3) في ت: "في".
(4) في ت: "وأقربائهم".(7/215)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} أَيْ: إِذَا أَصَابَهُ رَخَاءٌ وَنِعْمَةٌ فَرِحَ بِذَلِكَ، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ} يَعْنِي النَّاسَ {سَيِّئَةٌ} أَيْ: جَدْبٌ وَنِقْمَةٌ وَبَلَاءٌ وَشِدَّةٌ، {فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ} أَيْ: يَجْحَدُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النِّعْمَةِ (1) وَلَا يَعْرِفُ إِلَّا السَّاعَةَ الرَّاهِنَةَ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ أَشِرَ وَبَطِرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مِحْنَةٌ يَئِسَ وَقَنِطَ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [لِلنِّسَاءِ] (2) يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ" فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: ولِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِأَنَّكُنَّ تُكثرن الشِّكَايَةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ تَرَكْتَ يَوْمًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ" (3) وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ النَّاسِ (4) إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فَالْمُؤْمِنُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ" (5) .
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) }
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَالِكُهُمَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَ {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} أَيْ: يَرْزُقُهُ الْبَنَاتِ فَقَطْ -قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَمِنْهُمْ لُوطٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} أَيْ: يَرْزُقُهُ الْبَنِينَ فَقَطْ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ -لَمْ يُولَدْ لَهُ أُنْثَى،. {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} أَيْ: وَيُعْطِي مَنْ يَشَاءُ مِنَ النَّاسِ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَيْ: مِنْ هَذَا وَهَذَا (6) . قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} أَيْ: لَا يُولَدُ لَهُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَيَحْيَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَجَعَلَ النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، مِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ مِنَ النَّوْعَيْنِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ هَذَا وَهَذَا، فَيَجَعَلُهُ عَقِيمًا لَا نَسْلَ لَهُ وَلَا يُولَدُ لَهُ، {إِنَّهُ عَلِيمٌ} أَيْ: بِمَنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، {قَدِيرٌ} أَيْ: عَلَى مَنْ يَشَاءُ، مِنْ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ.
وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ عِيسَى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مَرْيَمَ: 21] أَيْ: دَلَالَةً لَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، حَيْثُ خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، فَآدَمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَحَوَّاءُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، [مَخْلُوقَةٌ] (7) مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَسَائِرُ الْخَلْقِ سِوَى عِيسَى [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (8) مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ فَتَمَّتِ الدَّلَالَةُ بِخَلْقِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} ، فَهَذَا الْمَقَامُ فِي الْآبَاءِ، وَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي الْأَبْنَاءِ، وَكُلٌّ منهما أربعة أقسام، فسبحان العليم القدير.
__________
(1) في ت، م: "النعم".
(2) زيادة من ت، م، أ.
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (79) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وبرقم (80) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) في ت، م: "النساء".
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (299) من حديث صهيب رضي الله عنه.
(6) في ت: "هذا من هذا".
(7) زيادة من ت.
(8) زيادة من ت، م، وفي أ: "عيسى ابن مريم عليهما السلام".(7/216)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) }(7/217)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ (53) }
هَذِهِ مَقَامَاتُ (1) الْوَحْيِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَنَابِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يَقْذِفُ فِي رَوْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَا يَتَمَارَى فِيهِ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ رُوح القُدُس نَفَثَ فِي رُوعي: إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، فَاتَّقَوُا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ" (2) .
وَقَوْلُهُ: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} كَمَا كَلَّمَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ بَعْدَ التَّكْلِيمِ، فَحُجِبَ عَنْهَا.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا" الْحَدِيثَ (3) ، وَكَانَ [أَبُوهُ] (4) قَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي عَالَمِ الْبَرْزَخِ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي الدَّارِ (5) الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} كَمَا يُنْزِلُ جِبْرِيلَ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (6) وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} ، فَهُوَ عَلِيٌّ عَلِيمٌ خَبِيرٌ حَكِيمٌ.
وَقَوْلُهُ (7) {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ} أَيْ: عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي شُرِعَ لَكَ فِي الْقُرْآنِ، {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} أَيِ: الْقُرْآنَ {نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} ، كَقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فُصِّلَتْ:44] .
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّكَ} [أَيْ] (8) يَا مُحَمَّدُ {لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وَهُوَ الْخُلُقُ (9) الْقَوِيمُ. ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {صِرَاطِ اللَّهِ [الَّذِي] } (10) أَيْ: شَرْعُهُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ اللَّهُ، {الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أَيْ: رَبُّهُمَا وَمَالِكُهُمَا، وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} ، أَيْ: تَرْجِعُ الْأُمُورُ، فَيَفْصِلُهَا وَيَحْكُمُ فِيهَا.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ " [حم] (11) الشورى" والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) في ت: "مقدمات".
(2) ورواه البغوي في شرح السنة (14/304) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي عمن أخبره عن ابن مسعود به.
(3) رواه الترمذي في السنن برقم (3010) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ".
(4) زيادة من ت، أ.
(5) في ت: "دار".
(6) زيادة من م.
(7) في ت: "فقوله".
(8) زيادة من م.
(9) في ت، م، أ: "الحق".
(10) زيادة من أ.
(11) زيادة من أ.(7/217)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الزُّخْرُفِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ (8) }
يَقُولُ تَعَالَى: {حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} أَيِ: الْبَيِّنِ (1) الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّهُ نَزَلَ (2) بِلُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي هِيَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ لِلتَّخَاطُبِ (3) بَيْنَ النَّاسِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أَيْ: بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَصِيحًا وَاضِحًا، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أَيْ: تَفْهَمُونَهُ وَتَتَدَبَّرُونَهُ، كَمَا قَالَ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشُّعَرَاءِ: 195] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} بَيَّنَ شَرَفَهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، لِيُشَرِّفَهُ وَيُعَظِّمَهُ وَيُطِيعَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ} أَيِ: الْقُرْآنَ {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} أَيِ: اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، {لَدَيْنَا} أَيْ: عِنْدَنَا، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، {لَعَلِيٌّ} أَيْ: ذُو مَكَانَةٍ عَظِيمَةٍ وَشَرَفٍ وَفَضْلٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ {حَكِيمٌ} أَيْ: مُحْكَمٌ بَرِيءٌ مِنَ اللَّبْسِ وَالزَّيْغِ.
وَهَذَا كُلُّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ، كَمَا قَالَ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لَا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ. تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الْوَاقِعَةِ: 77 -80] وَقَالَ: {كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عَبَسَ: 11 -16] ؛ وَلِهَذَا اسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: أَنَّ المُحدِثَ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ، كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ إِنْ صَحَّ؛ لِأَنَّ (4) الْمَلَائِكَةَ يُعَظِّمُونَ الْمَصَاحِفَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقُرْآنِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فَأَهْلُ الْأَرْضِ بِذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى، لِأَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ، وَخِطَابُهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ أَحَقُّ أَنْ يُقَابِلُوهُ بِالْإِكْرَامِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، لِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}
وَقَوْلُهُ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهَا، فَقِيلَ: مَعْنَاهَا: أَتَحْسَبُونَ أَنْ نَصْفَحَ عَنْكُمْ فَلَا نُعَذِّبَكُمْ وَلَمْ تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ؟ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. (5)
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ:: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} : وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ هذا القرآن رفع حين ردته
__________
(1) في أ: "النير".
(2) في ت، م: "منزل".
(3) في ت، م: "المتخاطب".
(4) في ت، أ: "إن صح، وقوله: "لا تمس المصحف إلا وانت طاهر" لأن".
(5) في ت: "ومجاهد وغيرهما".(7/218)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
أَوَائِلُ (1) هَذِهِ الْأُمَّةِ لَهَلَكُوا، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَادَ بِعَائِدَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكَرَّرَهُ عَلَيْهِمْ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ عِشْرِينَ سَنَةً، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُ قَتَادَةَ لَطِيفُ الْمَعْنَى جِدًّا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَقُولُ فِي مَعْنَاهُ: إِنَّهُ تَعَالَى مِنْ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ لَا يَتْرُكُ دُعَاءَهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَالذِّكْرِ (2) الْحَكِيمِ -وَهُوَ الْقُرْآنُ-وَإِنْ كَانُوا مُسْرِفِينَ مُعْرِضِينَ عَنْهُ، بَلْ أَمَرَ (3) بِهِ لِيَهْتَدِيَ مَنْ قَدّر هِدَايَتَهُ، وَتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ كَتَبَ شَقَاوَتَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى -مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَآمِرًا لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِمْ-: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ} أَيْ: فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ، {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ: يُكَذِّبُونَهُ وَيَسْخَرُونَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} أَيْ: فَأَهْلَكْنَا الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ، وَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ بَطْشًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ. كَقَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً} [غَافِرٍ: 82] وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: سُنَّتُهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عُقُوبَتُهُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: عِبْرَتُهُمْ، أَيْ: جَعَلْنَاهُمْ عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ} [الزُّخْرُفِ: 56] . وَكَقَوْلِهِ: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غَافِرٍ: 85] وَقَالَ: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الْأَحْزَابِ: 62] .
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) }
__________
(1) في ت: "أول".
(2) في ت، م، أ: "إلى الخير وإلى الذكر".
(3) في ت، م: "يأمر".(7/219)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
{وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) }
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَ -يَا مُحَمَّدُ-هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ: {مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} أَيْ: لَيَعْتَرِفُنَّ بِأَنَّ الْخَالِقَ لِذَلِكَ هُوَ اللَّهُ [تَعَالَى] (1) وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُمْ مَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ.
ثُمَّ قَالَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا} أَيْ: فِرَاشًا قَرَارًا ثَابِتَةً، يَسِيرُونَ عَلَيْهَا وَيَقُومُونَ وَيَنَامُونَ وَيَنْصَرِفُونَ، مَعَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ، لَكِنَّهُ أَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ لِئَلَّا تَمِيدَ هَكَذَا وَلَا هَكَذَا، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} أَيْ: طُرُقًا بَيْنَ الْجِبَالِ وَالْأَوْدِيَةِ {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أَيْ: فِي سَيْرِكُمْ مِنْ بلد إلى بلد،
__________
(1) زيادة من أ.(7/219)
وَقُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، وَإِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ.
{وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أَيْ: بِحَسَبِ الْكِفَايَةِ لِزُرُوعِكُمْ (1) وَثِمَارِكُمْ وَشُرْبِكُمْ، لِأَنْفُسِكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ. وَقَوْلُهُ: {فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أَيْ: أَرْضًا مَيْتَةً، فَلَمَّا جَاءَهَا الْمَاءُ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
ثُمَّ نَبَّهَ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ يَوْمَ الْمَعَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَقَالَ: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}
ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا} أَيْ: مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ، مِنْ نَبَاتٍ وَزُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَأَزَاهِيرَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ [أَيْ] (2) مِنَ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَأَصْنَافِهَا، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ} أَيِ: السُّفُنِ {وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} أَيْ: ذَلَّلَهَا لَكُمْ وَسَخَّرَهَا وَيَسَّرَهَا لِأَكْلِكُمْ لُحُومَهَا، وَشُرْبِكُمْ أَلْبَانَهَا وَرُكُوبِكُمْ ظُهُورَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} (3) أَيْ: لِتَسْتَوُوا (4) مُتَمَكِّنِينَ مُرْتَفِقِينَ {عَلَى ظُهُورِهِ} أَيْ: عَلَى ظُهُورِ هَذَا الْجِنْسِ، {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} أَيْ: فِيمَا سَخَّرَ لَكُمْ {إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أَيْ: مُقَاوِمِينَ. وَلَوْلَا تَسْخِيرُ (5) اللَّهِ لَنَا هَذَا مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (6) ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: {مُقْرِنِينَ} أَيْ: مُطِيقِينَ. (7)
{وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} أَيْ: لَصَائِرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَمَاتِنَا، وَإِلَيْهِ سَيْرُنَا الْأَكْبَرُ. وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِسَيْرِ الدُّنْيَا عَلَى سَيْرِ الْآخِرَةِ، كَمَا نَبَّهَ بِالزَّادِ الدُّنْيَوِيِّ عَلَى [الزَّادِ] (8) الْأُخْرَوِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [الْبَقَرَةِ: 197] وَبِاللِّبَاسِ الدُّنْيَوِيِّ عَلَى الْأُخْرَوِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ] } [الْأَعْرَافِ: 26] .
ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عِنْدَ رُكُوبِ الدَّابَّةِ:
حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أُتِيَ (9) بِدَابَّةٍ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكاب قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ. فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَيْهَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا، وَكَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي. ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْتُ لَهُ: مِنْ أَيْ شَيْءٍ ضَحِكْتَ (10) يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: رأيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ (11) ، ثُمَّ ضَحِكَ. فَقُلْتُ: مِمَّ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "يَعْجَبُ الرَّبُّ (12) مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي. وَيَقُولُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي".
__________
(1) في ت، م: "لزرعكم".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت: "ظهره".
(4) في أ: "لتستقروا".
(5) في م: "ولولا ما يسخر".
(6) في أ: "عياض".
(7) في أ: "مطيعين".
(8) زيادة من ت، م، أ.
(9) في ت: "أنه أتى".
(10) في ت، م: "مم ضحكت".
(11) في ت، م، أ: "فعل مثل ما فعلت".
(12) في ت، م: "الرب عز وجل".(7/220)
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ -زَادَ النَّسَائِيُّ: وَمَنْصُورٌ-عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الْأَسَدِيِّ الْوَالِبِيِّ، بِهِ (1) (2) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ، عَنْ شُعْبَةَ: قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعي: مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ؟ قَالَ: مِنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ. فَلَقِيتُ يُونُسَ بْنَ خَبَّابٍ فَقُلْتُ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ: مِنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ عُقْبَةَ الْأَسَدِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الْوَالِبِيِّ، بِهِ. (3)
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْدَفَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَيْهَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا، وَحَمِدَ (4) ثَلَاثًا، وَهَلَّلَ اللَّهَ وَاحِدَةً. ثُمَّ اسْتَلْقَى عَلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: "مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَرْكَبُ دَابَّةً فَيَصْنَعُ كَمَا صَنَعْتُ، إِلَّا أَقْبَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ، فَضَحِكَ إِلَيْهِ كَمَا ضَحِكْتُ إِلَيْكَ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. (5)
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} . ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِي سَفَرِي هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى. اللَّهُمَّ، هَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ وَاطْوِ لَنَا الْبَعِيدَ. اللَّهُمَّ، أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ. اللَّهُمَّ، اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا، وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا". وَكَانَ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ قَالَ: "آيِبُونَ تَائِبُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، بِهِ. (6)
حَدِيثٌ آخَرُ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبراهيم، عن
__________
(1) في ت: "رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي".
(2) المسند (1/97) وسنن أبي داود برقم (2602) وسنن الترمذي برقم (3446) والنسائي في السنن الكبري برقم (8800) .
(3) تحفة الأشراف للمزي (7/436) .
(4) في ت، أ: "وحمد الله ثلاثا".
(5) المسند (2/330) قال الهيثمي في المجمع (10/131) : "فيه أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف".
(6) المسند (2/144) وصحيح مسلم برقم (1342) وسنن أبي داود برقم (2599) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10382) وسنن الترمذي برقم (3447) .(7/221)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
عَمْرِو بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ (1) ، عَنْ أَبِي لَاسٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: حَمَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِبِلٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ إِلَى الْحَجِّ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَرَى (2) أَنْ تَحَمِلَنَا هَذِهِ! فَقَالَ: "مَا مِنْ بَعِيرٍ إِلَّا فِي ذُرْوَتِهِ شَيْطَانٌ، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِذَا رَكِبْتُمُوهَا كَمَا آمُرُكُمْ (3) ، ثُمَّ امْتَهِنُوهَا لِأَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّمَا يَحْمِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ". (4)
أَبُو لَاسٍ اسْمُهُ: مُحَمَّدُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَف.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي مَعْنَاهُ:
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَتَّاب، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (ح) وَعَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ-أَخْبَرَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "عَلَى ظَهْرِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ، فَإِنْ رَكِبْتُمُوهَا فَسَمُّوا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ لَا تُقَصِّرُوا عَنْ حَاجَاتِكُمْ". (5)
{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (20) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا افْتَرَوْهُ وَكَذَّبُوهُ فِي جَعْلِهِمْ بَعْضَ الْأَنْعَامِ لِطَوَاغِيتِهِمْ وَبَعْضَهَا لِلَّهِ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ "الْأَنْعَامِ"، فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الْأَنْعَامِ: 136] . وَكَذَلِكَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ قِسْمَيِ (6) الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ أخسَّهما وَأَرْدَأَهُمَا وَهُوَ الْبَنَاتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النَّجْمِ: 21، 22] . وَقَالَ هَاهُنَا: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}
ثُمَّ قَالَ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} وَهَذَا إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ غَايَةَ الْإِنْكَارِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْإِنْكَارِ فَقَالَ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} أَيْ: إِذَا بُشِّرَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ بِمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ مِنَ الْبَنَاتِ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ غَايَةَ الْأَنَفَةِ، وَتَعْلُوهُ كَآبَةٌ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ،
__________
(1) في ت: "رواه الإمام أحمد بسنده".
(2) في م: "ما ترى".
(3) في ت: "أمرتم".
(4) المسند (4/221) ورجاله ثقات.
(5) المسند (3/494) وقال الهيثمي في المجمع (10/131) : "رجاله رجال الصحيح غير محمد بن حمزة وهو ثقة".
(6) في ت: "من كل قسم".(7/222)
وَيَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ خَجَلِهِ مِنْ ذَلِكَ، يَقُولُ تَعَالَى: فَكَيْفَ تَأْنَفُونَ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَتَنْسُبُونَهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟.
ثُمَّ قَالَ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أَيِ: الْمَرْأَةُ نَاقِصَةٌ يَكْمُلُ نَقْصُهَا بِلُبْسِ الْحُلِيِّ مُنْذُ تَكُونُ طِفْلَةً، وَإِذَا خَاصَمَتْ فَلَا عِبَارَةَ لَهَا، بَلْ هِيَ عَاجِزَةٌ عَيِيَّة، أوَ مَنْ يَكُونُ هَكَذَا يُنْسَبُ إِلَى جَنَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (1) ؟! فَالْأُنْثَى نَاقِصَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، فَيَكْمُلُ نَقْصُ ظَاهِرِهَا وَصُورَتِهَا بِلُبْسِ الْحُلِيِّ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، لِيُجْبَرَ مَا فِيهَا مِنْ نَقْصٍ، كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْعَرَبِ:
وَمَا الحَلْي إِلَّا زينَةٌ مِنْ نقيصةٍ ... يتمّمُ مِنْ حُسْن إِذَا الحُسْن قَصَّرا ...
وأمَّا إذَا كَانَ الجمالُ موفَّرا ... كحُسْنك، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يزَوَّرا ...
وَأَمَّا نَقْصُ مَعْنَاهَا، فَإِنَّهَا ضَعِيفَةٌ عَاجِزَةٌ عَنِ الِانْتِصَارِ عِنْدَ الِانْتِصَارِ، لَا عِبَارَةَ لَهَا وَلَا هِمَّةَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ وَقَدْ بُشِّرَ بِبِنْتٍ: "مَا هِيَ بِنِعْمَ الْوَلَدِ: نَصْرُهَا بِالْبُكَاءِ، وَبِرُّهَا سَرِقَةٌ".
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} أَيِ: اعْتَقَدُوا فِيهِمْ ذَلِكَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَعَالَى قَوْلَهُمْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أَيْ: شَاهَدُوهُ وَقَدْ خَلَقَهُمُ اللَّهُ إِنَاثًا، {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} أَيْ: بِذَلِكَ، {وَيُسْأَلُونَ} عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ.
{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} أَيْ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ لَحَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، الَّتِي هِيَ عَلَى صُوَرِ (2) الْمَلَائِكَةِ الَّتِي هِيَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِذَلِكَ وَهُوَ يُقْرِرُنَا عَلَيْهِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْخَطَأِ:
أَحَدُهَا: جَعْلُهم لِلَّهِ وَلَدًا، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
الثَّانِي: دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ اصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ، فَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا.
الثَّالِثُ: عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ، بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَلَا إِذَنٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، وَالتَّقْلِيدِ لِلْأَسْلَافِ وَالْكُبَرَاءِ وَالْآبَاءِ، وَالْخَبْطِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءِ.
الرابع: احتجاجهم بتقديرهم عَلَى ذَلِكَ قَدَرا [وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالشَّرْعِ] (3) ، وَقَدْ جَهِلُوا فِي هَذَا الِاحْتِجَاجِ جَهْلًا كَبِيرًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، فَإِنَّهُ مُنْذُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ يَأْمُرُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَنْهَى عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، قَالَ [تَعَالَى] (4) ، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النَّحْلِ: 36] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] .
__________
(1) في ت: "الله تعالى"، وفي م، أ: "الله العظيم".
(2) في أ: "صورة".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.(7/223)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ -بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حُجَّتَهُمْ هَذِهِ-: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أَيْ: بِصِحَّةِ مَا قَالُوهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ {إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} أَيْ: يُكَذِّبُونَ وَيَتَقَوَّلُونَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} أَيْ (1) مَا يَعْلَمُونَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ.
{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) }
__________
(1) في ت، م: "يعني".(7/224)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) }
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} أَيْ: مِنْ قَبْلِ شِرْكِهِمْ، {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} أَيْ: فِيمَا هُمْ فِيهِ، أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {أَمْ أَنزلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الرُّومِ: 35] أَيْ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ (1) فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ سِوَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أُمَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الدِّينُ هَاهُنَا، وَفِي قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الْأَنْبِيَاءِ: 92] .
وَقَوْلُهُمْ: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ} أَيْ: وَرَائِهِمْ {مُهْتَدُونَ} ، دَعْوَى مِنْهُمْ بِلَا دَلِيلٍ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَيْهَا أَشْبَاهُهُمْ وَنُظَرَاؤُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، فَقَالُوا مِثْلَ مَقَالَتِهِمْ: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذَّارِيَاتِ: 52، 53] ، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ} أَيْ: يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أَيْ: وَلَوْ عَلِمُوا وَتَيَقَّنُوا صِحَّةَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ، لَمَا انْقَادُوا لِذَلِكَ بِسُوءِ قَصْدِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا فَصَّلَهُ تَعَالَى فِي قَصَصِهِمْ، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} ؟ أَيْ: كَيْفَ بادوا وهلكوا، وكيف نجى الله المؤمنين؟ .
__________
(1) في أ: "سند".(7/224)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) }(7/225)
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
{وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، وَوَالِدِ مَنْ بُعِثَ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، الَّذِي تَنْتَسِبُ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فِي نَسَبِهَا وَمَذْهَبِهَا: أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، فَقَالَ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أَيْ: هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَخَلْعِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَوْثَانِ، وَهِيَ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" أَيْ: جَعَلَهَا دَائِمَةً فِي ذُرِّيَّتِهِ يَقْتَدِي بِهِ فِيهَا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أَيْ: إِلَيْهَا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ (1) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} يَعْنِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَزَالُ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَقُولُهَا. ورُوي نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ. وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قَالَهُ الْجَمَاعَةُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ، {وَآبَاءَهُمْ} أَيْ: فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فِي ضَلَالِهِمْ (2) ، {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} أَيْ: بَيِّنُ الرِّسَالَةِ وَالنِّذَارَةِ.
{وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} أَيْ: كَابَرُوهُ وَعَانَدُوهُ وَدَفَعُوا (3) بِالصُّدُورِ وَالرَّاحِ كُفْرًا وَحَسَدًا وَبَغْيًا، {وَقَالُوا} [أَيْ] (4) كَالْمُعْتَرِضِينَ عَلَى الَّذِي أَنْزَلَهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ: {لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أَيْ: هَلَّا كَانَ إِنْزَالُ هَذَا الْقُرْآنِ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ كَبِيرٍ فِي أَعْيُنِهِمْ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ؟ يَعْنُونَ مَكَّةَ وَالطَّائِفَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وابن زيد.
__________
(1) في ت: "وغيرهما".
(2) في م: "ضلالتهم".
(3) في أ: "ودفعوه".
(4) زيادة من ت، م.(7/225)
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ (1) : أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ: يَعْنُونَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَمَسْعُودَ بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيَّ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: عُمَيْرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُمْ يَعْنُونَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَحَبِيبَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيَّ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: يَعْنُونَ عُتْبَةَ بن ربيعة بمكة، وابن عبد يا ليل بِالطَّائِفِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَنَوْا [بِذَلِكَ] (2) الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَكِنَانَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيَّ.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ مُرَادَهُمْ رَجُلٌ كَبِيرٌ مِنْ أَيِّ الْبَلْدَتَيْنِ كَانَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الِاعْتِرَاضِ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} ؟ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ مَرْدُودًا إِلَيْهِمْ، بَلْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجَعَلُ رِسَالَاتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْزِلُهَا إِلَّا عَلَى أَزْكَى الْخَلْقِ قَلْبًا وَنَفْسًا، وَأَشْرَفِهِمْ بَيْتًا وَأَطْهَرِهِمْ أَصْلًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا أَنَّهُ قَدْ فَاوَتَ بَيْنَ خَلْقِهِ فِيمَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْعُقُولِ وَالْفُهُومِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقُوَى الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَقَالَ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}
وَقَوْلُهُ: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} قِيلَ: مَعْنَاهُ لِيُسَخِّرَ (3) بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْأَعْمَالِ، لِاحْتِيَاجِ هَذَا إِلَى هَذَا، وَهَذَا إِلَى هَذَا، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: لِيَمْلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وهو (4) راجع إلى الأول.
ثم قال: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أَيْ: رَحْمَةُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ: لَوْلَا أَنْ يَعْتَقِدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْجَهَلَةِ أَنَّ إِعْطَاءَنَا الْمَالَ دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّتِنَا لِمَنْ أَعْطَيْنَاهُ، فَيَجْتَمِعُوا عَلَى الْكُفْرِ لِأَجْلِ الْمَالِ -هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ- {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ [عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ] } (5) أَيْ: سَلَالِمَ وَدَرَجًا مِنْ فِضَّةٍ -قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ- {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} ، أَيْ: يَصْعَدُونَ.
{وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا} (6) أَيْ: أَغْلَاقًا عَلَى أَبْوَابِهِمْ {وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} ، أَيْ: جَمِيعُ ذَلِكَ يَكُونُ فِضَّةً، {وَزُخْرُفًا} ، أَيْ: وَذَهَبًا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وقتادة، والسدي، وابن زيد. (7)
__________
(1) في م، أ: "منهم وقتادة".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "لتسخير".
(4) في ت، أ: "وهذا".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت: (أبوابا وسررا) .
(7) في ت: "ابن عباس وغيرهم".(7/226)
ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ: إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ الْحَقِيرَةِ عِنْدَ اللَّهِ [تَعَالَى] (1) أَيْ: يُعَجِّلُ (2) لَهُمْ بِحَسَنَاتِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا مَآكِلَ وَمَشَارِبَ، لِيُوَافُوا الْآخِرَةَ وَلَيْسَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنَةً يَجْزِيهِمْ بِهَا، كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ (3) . [وَقَدْ] (4) وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى مِنْهَا كَافِرًا شَرْبَةَ مَاءٍ"، أَسْنَدَهُ الْبَغَوِيُّ مِنْ رِوَايَةِ زَكَرِيَّا بْنِ مَنْظُورٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ (5) وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ عَدَلَتِ الدُّنْيَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا أَعْطَى كَافِرًا مِنْهَا شَيْئًا". (6)
ثُمَّ قَالَ: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ: هِيَ لَهُمْ خَاصَّةً لَا يُشَارِكُهُمْ: فِيهَا [أَحَدٌ] (7) غَيْرُهُمْ وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَعِدَ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَشْرُبَةِ لَمَّا آلَى مِنْ نِسَائِهِ، فَرَآهُ [عُمَرُ] (8) عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِهِ (9) فَابْتَدَرَتْ عَيْنَاهُ بِالْبُكَاءِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متكئا فجلس وقال: "أوَ في (10) شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ " ثُمَّ قَالَ: "أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا" وَفِي رِوَايَةٍ: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ؟ " (11)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ". وَإِنَّمَا خَوَّلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا لِحَقَارَتِهَا، كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى مِنْهَا كَافِرًا شَرْبَةَ مَاءٍ أَبَدًا"، قَالَ الترمذي: حسن صحيح (12) .
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "يجعل".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2808) مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(4) زيادة من م.
(5) معالم التنزيل للبغوي (7/213) .
(6) المعجم الكبير (6/178) وفي إسناده زمعة بن صالح وهو ضعيف.
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من أ.
(9) في ت، م، أ: "بجلده".
(10) في ت: "أفي".
(11) انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: 131 من سورة طه.
(12) سنن الترمذي برقم (2320) وسنن ابن ماجه برقم (4110) .(7/227)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ} أَيْ: يَتَعَامَى وَيَتَغَافَلُ وَيُعْرِضُ، {عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} وَالْعَشَا فِي الْعَيْنِ: ضَعْفُ بَصَرِهَا. وَالْمُرَادُ هَاهُنَا: عَشَا الْبَصِيرَةِ، {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النِّسَاءِ: 115] ، وَكَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصَّفِّ: 5] ، وَكَقَوْلِهِ: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فُصِّلَتْ:25] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} أَيْ: هَذَا الَّذِي تَغَافَلَ عَنِ الْهُدَى نُقَيِّضُ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يُضِلُّهُ، وَيَهْدِيهِ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ. فَإِذَا وَافَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يتبرم بالشيطان الذي وكل به، {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [أَيْ: فَبِئْسَ الْقَرِينُ كُنْتَ لِي فِي الدُّنْيَا] (1) وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "حَتَّى إِذَا جَاءَانَا" يَعْنِي: الْقَرِينَ وَالْمُقَارِنَ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ سَعِيدٍ الجُرَيري قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُعِثَ مِنْ قَبْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَفَع بِيَدِهِ شَيْطَانٌ فَلَمْ يُفَارِقْهُ، حَتَّى يُصَيِّرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَى النار، فذلك حين يقول: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} (2)
وَالْمُرَادُ بِالْمَشْرِقَيْنِ هُنَا (3) هُوَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ هَاهُنَا تَغْلِيبًا، كَمَا يُقَالُ (4) الْقَمَرَانِ، وَالْعُمَرَانُ، وَالْأَبَوَانِ، [وَالْعُسْرَانِ] (5) . قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
[وَلَمَّا كَانَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمُصِيبَةِ فِي الدُّنْيَا يَحْصُلُ بِهِ تَسْلِيَةٌ لِمَنْ شَارَكَهُ فِي مُصِيبَتِهِ، كَمَا قَالَتِ الْخَنْسَاءُ تَبْكِي أَخَاهَا:
ولَوْلا كثرةُ الْبَاكِينَ حَوْلي ... عَلَى قَتْلاهم لقتلتُ نَفْسي ...
وَمَا يَبْكُون مثلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أُسَلِّي النفسَ عَنْهُ بالتأسِّي ...
قَطَعَ اللَّهُ بِذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ النَّارِ، فلا يحصل لهم بذلك تأسي وَتَسْلِيَةٌ وَلَا تَخْفِيفٌ] . (6)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} أَيْ: لَا يُغْنِي عَنْكُمُ اجْتِمَاعُكُمْ فِي النَّارِ وَاشْتِرَاكُكُمْ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ.
وَقَوْلُهُ: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ، إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، ويضل من يشاء، وهو الحكم العدل (7) في ذلك.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) تفسير عبد الرزاق (2/161) .
(3) في ت، م، أ: "هاهنا".
(4) في ت، م: "قيل".
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من ت، أ.
(7) في ت، م، أ: "الحاكم العادل".(7/228)
ثُمَّ قَالَ: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} أَيْ: لَا بُدَّ أَنْ نَنْتَقِمَ مِنْهُمْ وَنُعَاقِبَهُمْ، وَلَوْ ذَهَبْتَ أَنْتَ، {أَوْ (1) نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} أَيْ: نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا. وَلَمْ يَقْبِضِ اللَّهُ رَسُولَهُ حَتَّى أَقَرَّ عَيْنَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَحَكَّمَهُ فِي نَوَاصِيهِمْ، وَمَلَّكَهُ مَا تَضَمَّنَتْهُ صَيَاصِيهِمْ. هَذَا مَعْنَى قَوْلِ السُّدِّيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ (2) حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ (3) ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} فَقَالَ: ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَتِ النِّقْمَةُ، وَلَمْ يُرِ اللَّهُ (4) نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، حَتَّى مَضَى (5) ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا وَرَأَى (6) الْعُقُوبَةَ فِي أُمَّتِهِ، إِلَّا نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وذُكر لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرِيَ مَا يُصِيبُ أُمَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا رُئِي ضَاحِكًا مُنْبَسِطًا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. (7)
وَذُكِرَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَ ذَلِكَ أَيْضًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: "النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أمَنَة لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ". (8)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ: خُذْ بِالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى قَلْبِكَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، وَمَا يَهْدِي إِلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ الْمُفْضِي إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ، الْمُوصِلِ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَالْخَيْرِ الدَّائِمِ الْمُقِيمِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ لَشَرَفٌ (9) لَكَ وَلِقَوْمِكَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلَمْ يَحْكِ سِوَاهُ.
وَأَوْرَدَ الْبَغَوِيُّ هَاهُنَا حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا أكَبَّه اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. (10)
وَ [قِيلَ] (11) مَعْنَاهُ: أَنَّهُ شَرَفٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أُنْزِلَ بَلُغَتِهِمْ، فَهُمْ أَفْهَمُ النَّاسِ لَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا أَقْوَمَ النَّاسِ بِهِ وَأَعْمَلَهُمْ بِمُقْتَضَاهُ، وَهَكَذَا كَانَ خِيَارُهُمْ وَصَفْوَتُهُمْ مِنَ الخُلَّص مِنَ الْمُهَاجِرِينَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَمَنْ شَابَهَهُمْ وَتَابَعَهُمْ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} أَيْ: لَتَذْكِيرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، وَتَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي مَنْ سِوَاهُمْ، كَقَوْلِهِ: {لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] ، وكقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] .
__________
(1) في ت، أ: "وإما" وهو خطأ.
(2) في ت: "وروى هو قال".
(3) في ت: "أبو".
(4) في أ: "الله تعالى".
(5) في ت، م: "قبض".
(6) في ت، م، أ: "إلا وقد رأى".
(7) تفسير الطبري (25/45) .
(8) رواه مسلم في صحيحه برقم (2531) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
(9) في م: "الشرف".
(10) معالم التنزيل للبغوي (7/215) وصحيح البخاري برقم (3500) .
(11) زيادة من ت، م.(7/229)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)
{وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} أَيْ: عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ وَكَيْفَ كُنْتُمْ فِي الْعَمَلِ بِهِ وَالِاسْتِجَابَةِ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ؟ أَيْ: جَمِيعُ الرُّسُلِ دَعَوْا إِلَى مَا دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَهَوْا عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النَّحْلِ: 36] . قَالَ مُجَاهِدٌ: فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "وَاسْأَلِ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ رُسُلَنَا". وَهَكَذَا حَكَاهُ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَهَذَا كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَا تِلَاوَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: وَاسْأَلْهُمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ جُمِعوا لَهُ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الْأَوَّلَ، [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (1) .
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) }
__________
(1) زيادة من أ.(7/230)
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ ابْتَعَثَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْقَادَةِ، وَالْأَتْبَاعِ وَالرَّعَايَا، مِنَ الْقِبْطِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَأَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُ آيَاتٍ عِظَامًا، كَيَدِهِ وَعَصَاهُ، وَمَا أَرْسَلَ مَعَهُ مِنَ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ، وَمِنْ نَقْصِ الزُّرُوعِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهَا وَالِانْقِيَادِ لَهَا، وَكَذَّبُوهَا وَسَخِرُوا مِنْهَا، وَضَحِكُوا مِمَّنْ جَاءَهُمْ بِهَا. {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} وَمَعَ هَذَا مَا رَجَعُوا عَنْ غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَجَهْلِهِمْ وَخَبَالِهِمْ. وَكُلَّمَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ يَضَّرَّعُونَ إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَتَلَطَّفُونَ لَهُ فِي الْعِبَارَةِ بِقَوْلِهِمْ: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} أَيِ: الْعَالِمُ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَكَانَ عُلَمَاءُ زَمَانِهِمْ هُمُ السَّحَرَةَ. وَلَمْ يَكُنِ السِّحْرُ عِنْدَهُمْ فِي زَمَانِهِمْ مَذْمُومًا، فَلَيْسَ هَذَا مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِانْتِقَاصِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالَ ضَرُورَةٍ مِنْهُمْ إِلَيْهِ لَا تُنَاسِبُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْظِيمٌ فِي زَعْمِهِمْ، فَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يَعِدُون مُوسَى [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (1) إِنْ كَشْفَ عَنْهُمْ هَذَا أَنْ يُؤْمِنُوا وَيُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يَنْكُثُونَ مَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] (2) {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى (3) ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 133 -135] .
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من ت.
(3) في ت، م: "يا أيها الساحر" وهو خطأ.(7/230)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ (56) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَتَمَرُّدِهِ وَعُتُوِّهِ وَكُفْرِهِ وَعِنَادِهِ: أَنَّهُ جَمَعَ قَوْمَهُ، فَنَادَى فِيهِمْ مُتَبَجِّحًا مُفْتَخِرًا بِمُلْكِ مِصْرَ وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} ، قَالَ قَتَادَةُ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ جِنَانٌ وَأَنْهَارُ مَاءٍ، {أَفَلا تُبْصِرُونَ} ؟ أَيْ: أَفَلَا تَرَوْنَ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْعَظْمَةِ وَالْمُلْكِ، يَعْنِي: وَمُوسَى وَأَتْبَاعُهُ (1) فُقَرَاءُ ضُعَفَاءُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَحَشَرَ فَنَادَى. فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى} [النَّازِعَاتِ: 23 -25] .
وَقَوْلُهُ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَقُولُ: بَلْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ. وَهَكَذَا قَالَ بَعْضُ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ: إِنَّ "أَمْ" هَاهُنَا بِمَعْنَى "بَلْ". وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَهَا: "أَمَا أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ". قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَكَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا وَاضِحًا، وَلَكِنَّهَا خِلَافُ قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، فَإِنَّهُمْ قرؤوا: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} ؟ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ.
قُلْتُ: وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِنَّمَا يَعْنِي فِرْعَوْنُ -عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ (2) -أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ كَذَبَ فِي قَوْلِهِ هَذَا كَذِبًا بَيِّنًا وَاضِحًا، فَعَلَيْهِ لِعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {مَهِينٌ} كَمَا قَالَ سُفْيَانُ: حَقِيرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ والسدي: يعني: ضعيف. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي: لَا مُلْكَ لَهُ وَلَا سُلْطَانَ وَلَا مَالَ.
{وَلا يَكَادُ يُبِينُ} يَعْنِي: لَا يَكَادُ يُفْصِحُ عَنْ كَلَامِهِ (3) ، فَهُوَ عَيِيٌّ حَصِرٌ. (4)
قَالَ السُّدِّيُّ: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} أَيْ: لَا يَكَادُ يُفْهِمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي عَيِيَّ اللِّسَانِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي فِي لِسَانِهِ شَيْءٌ مِنَ الْجَمْرَةِ حِينَ (5) وَضَعَهَا فِي فِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِرْعَوْنُ -لَعَنَهُ اللَّهُ-كَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا الْكُفْرُ وَالْعِنَادُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِعَيْنٍ كَافِرَةٍ شَقِيَّةٍ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى (6) ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْجَلَالَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْبَهَاءِ فِي صُورَةٍ يُبْهِرُ (7) أَبْصَارَ ذَوِي [الْأَبْصَارِ وَ] (8) الْأَلْبَابِ. وَقَوْلُهُ: {مَهِينٌ} كَذِبٌ، بَلْ هُوَ الْمَهِينُ الْحَقِيرُ خِلْقةً وَخُلُقًا وَدِينًا. وَمُوسَى [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (9) هُوَ الشَّرِيفُ الرَّئِيسُ الصَّادِقُ الْبَارُّ
__________
(1) في أ: "ومن معه".
(2) في ت، م، أ: "لعنة الله".
(3) في ت: "بكلامه".
(4) في ت، أ: "حصير".
(5) في ت: "التي".
(6) في ت: "الموسى".
(7) في ت، م: "تبهر".
(8) زيادة من ت.
(9) زيادة من ت، م.(7/231)
الرَّاشِدُ (1) . وَقَوْلُهُ: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} افْتِرَاءٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَ لِسَانَهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ تِلْكَ الْجَمْرَةِ، فَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَحُلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ لِيَفْقَهُوا قَوْلَهُ، وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ (2) لَهُ فِي [ذَلِكَ فِي] (3) قَوْلِهِ: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 26] ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَقِيَ شَيْءٌ لَمْ يَسْأَلْ إِزَالَتَهُ، كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِنَّمَا سَأَلَ زَوَالَ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْإِبْلَاغُ وَالْإِفْهَامُ، فَالْأَشْيَاءُ الْخِلْقِيَّةِ (4) الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ لَا يُعَابُ بِهَا وَلَا يُذَمُّ عَلَيْهَا، وَفِرْعَوْنُ وَإِنْ كَانَ يَفْهَمُ وَلَهُ عَقْلٌ فَهُوَ يَدْرِي هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّرْوِيجَ عَلَى رَعِيَّتِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا جَهَلَةً أَغْبِيَاءَ، وَهَكَذَا كَقَوْلِهِ: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ (5) مِنْ ذَهَبٍ} أَيْ: وَهِيَ مَا يُجْعَلُ فِي الْأَيْدِي مِنَ الْحُلِيِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} أَيْ: يَكْتَنِفُونَهُ خِدْمَةً لَهُ وَيَشْهَدُونَ بِتَصْدِيقِهِ، نَظَرَ (6) إِلَى الشَّكْلِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَفْهَمِ السِّرَّ الْمَعْنَوِيَّ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ مِمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ، لَوْ كَانَ يَعْلَمُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أَيِ: اسْتَخَفَّ عُقُولَهُمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {آسَفُونَا} أَسْخَطُونَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنْهُ: أَغْضَبُونَا. وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ (7) مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ (8) ابْنِ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ التُّجِيبِيِّ (9) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا شَاءَ، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُ" ثُمَّ تَلَا {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (10) .
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الحِمَّاني، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ (11) ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فَذُكِرَ عِنْدَهُ مَوْتُ الْفَجْأَةِ، فَقَالَ: تَخْفِيفٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ، وَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِ. ثُمَّ قَرَأَ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} .
وَقَالَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَجَدْتُ النِّقْمَةَ مَعَ الْغَفْلَةِ، يَعْنِي قَوْلَهُ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} .
وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ} : قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: {سَلَفًا} لِمِثْلِ مَنْ عمل بعملهم.
__________
(1) في ت: "الرشيد".
(2) في ت: "استجاب الله دعاءه له".
(3) زيادة من ت، م.
(4) في ت: "الخلقية"، وفي م: "الخلقة".
(5) في أ: "أسورة".
(6) في ت، أ: "نظرا".
(7) في ت: "غير واحد".
(8) في أ: "عبد الله".
(9) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(10) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4926) "مجمع البحرين"، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (4540) من طريق عبد الله ابن صالح عن حرملة بن عمران به، ورواه أحمد في مسنده (4/145) عن رشدين بن سعد، والدولابي في الكنى (1/111) عن حجاج بن سليمان كلاهما عن حرملة بن عمران به، وقد حسنه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء.
(11) في ت: "وروى أيضا".(7/232)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
وَقَالَ هُوَ وَمُجَاهِدٌ: {وَمَثَلًا} أَيْ: عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَعَنُّتِ قُرَيْشٍ فِي كُفْرِهِمْ وَتَعَمُّدِهِمُ الْعِنَادَ وَالْجَدَلَ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ: يَضْحَكُونَ (1) ، أَيْ: أُعْجِبُوا بِذَلِكَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يَجْزَعُونَ وَيَضْحَكُونَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُعْرِضُونَ.
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ حَيْثُ قَالَ: وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِيمَا بَلَغَنِي-يَوْمًا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى جَلَسَ مَعَهُمْ، وَفِي الْمَجْلِسِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَفْحَمَهُ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} الْآيَاتِ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] . ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزّبعَرى التَّمِيمِيُّ (2) حَتَّى جَلَسَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَهُ: وَاللَّهِ مَا قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لِابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَا قَعَدَ، وَقَدْ زَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّا وَمَا نَعْبُدُ مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصَمْتُه، سَلُوا (3) مُحَمَّدًا: أَكُلُّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي جَهَنَّمَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَالْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا، وَالنَّصَارَى تَعْبُدُ الْمَسِيحَ [عِيسَى] (4) ابْنَ مَرْيَمَ؟ فَعَجِبَ الْوَلِيدُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى، وَرَأَوْا أَنَّهُ قَدْ احْتَجَّ وَخَاصَمَ، فذُكِر ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "كُلُّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ وَمَنْ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 101] أَيْ: عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَمَنْ عُبِدَ (5) مَعَهُمَا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَاتَّخَذَهُمْ مَنْ يَعْبُدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَنَزَلَ فِيمَا يَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَأَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} الآيات [الأنبياء: 26] ، ونزل
__________
(1) في ت، أ: "وعكرمة وغيرهم يعني يعجبون".
(2) في ت، م، أ: "السهمي".
(3) في ت، م: "فسلوا".
(4) زيادة من ت، م، أ.
(5) في ت، م: "عبدوا".(7/233)
فِيمَا يُذْكَرُ مَنْ أَمْرِ عِيسَى وَأَنَّهُ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَعَجَبِ (1) الْوَلِيدِ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ حُجَّتِهِ وَخُصُومَتِهِ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} أَيْ: يَصِدُّونَ عَنْ أَمْرِكَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ عِيسَى فَقَالَ: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أَيْ: مَا وَضَعْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ، فَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ، يَقُولُ: {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (2) .
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ العَوفي، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قَالَ: يَعْنِي قُرَيْشًا، لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: فَمَا ابْنُ مَرْيَمَ؟ قَالَ: "ذَاكَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ". فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا يُرِيدُ هَذَا إِلَّا أَنْ نَتَّخِذَهُ رَبًّا، كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَبًّا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى (3) {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} .
وَقَالَ (4) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا شَيْبَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُود، عَنْ أَبِي رَزِين، عَنْ أَبِي يَحْيَى -مَوْلَى ابْنِ عُقَيْلٍ الْأَنْصَارِيِّ-قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ عَلِمْتُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ مَا سَأَلَنِي عَنْهَا رَجُلٌ قَطُّ، فَمَا أَدْرِي أَعَلِمَهَا النَّاسُ فَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْهَا، أَمْ لَمْ يَفْطِنُوا لَهَا فَيَسْأَلُوا عَنْهَا. قَالَ: ثُمَّ طَفِقَ يُحَدِّثُنَا، فَلَمَّا قَامَ تَلَاوَمْنَا أَلَّا نَكُونَ سَأَلْنَاهُ عَنْهَا. فَقُلْتُ: أَنَا لَهَا إِذَا رَاحَ غَدًا. فَلَمَّا رَاحَ الْغَدُ قُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، ذَكَرْتَ أَمْسِ أَنَّ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَسْأَلْكَ عَنْهَا رَجُلٌ قَطُّ، فَلَا تَدْرِي أَعَلِمَهَا النَّاسُ (5) أَمْ لَمْ يَفْطِنُوا لَهَا؟ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْهَا وَعَنِ اللَّاتِي قَرَأْتَ قَبْلَهَا. قَالَ: نَعَمْ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لِقُرَيْشٍ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ"، وَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ النَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَمَا تَقُولُ فِي مُحَمَّدٍ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى كَانَ نَبِيًّا وَعَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ صَالِحًا، فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا كَانَ (6) آلِهَتُهُمْ كَمَا تَقُولُونَ؟ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} . قُلْتُ: مَا يَصِدون؟ قَالَ: يَضْحَكُونَ، {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قَالَ: هُوَ خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَبْلَ الْقِيَامَةِ. (7)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُود، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ مَوْلَى الْأَنْصَارِ (8) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ". فَقَالُوا لَهُ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى كَانَ نَبِيًّا وَعَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ صَالِحًا، فَقَدْ كَانَ يُعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} .
__________
(1) في أ: "وتعجب".
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/358) .
(3) في ت، م: "عز وجل".
(4) في ت: "وروى".
(5) في أ: "أعلمها الناس فلم يسألوا عنها".
(6) في م، أ: "فإن".
(7) المسند (1/318) .
(8) في أ: "الأنصاريين".(7/234)
(1)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} : قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ نَعْبُدَهُ كَمَا عَبَدَ قَوْمُ عِيسَى عِيسَى. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ قَتَادَةُ.
وَقَوْلُهُ: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} : قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُونَ: آلِهَتُنَا خَيْرٌ مِنْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هَذَا"، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا} أَيْ: مِرَاءً، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] . ثُمَّ هِيَ خُطَّابٌ لِقُرَيْشٍ، وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْأَنْدَادَ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ حَتَّى يُورِدُوهُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَقَالَتَهُمْ إِنَّمَا كَانَتْ جَدَلًا مِنْهُمْ، لَيْسُوا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهَا.
وَقَدْ قَالَ (2) الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أُورِثُوا الْجَدَلَ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} .
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ، بِهِ (3) . ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ كَذَا قَالَ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بِزِيَادَةٍ فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَيَّاشٍ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا مؤمَّل، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مَخْزُومٍ، عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّامِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -قَالَ حَمَّادٌ: لَا أَدْرِي رَفَعَهُ (4) أَمْ لَا؟ -قَالَ: مَا ضَلَّتْ أُمَّةٌ بَعْدَ نَبِيِّهَا إِلَّا كَانَ أَوَّلَ ضَلَالِهَا التَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ، وَمَا ضَلَّتْ أُمَّةٌ بَعْدَ نَبِيِّهَا إِلَّا أُعْطُوا الْجَدَلَ، ثُمَّ قَرَأَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (5)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ (6) ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقُرْآنِ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى كَأَنَّمَا صُبَّ عَلَى وَجْهِهِ الْخَلُّ، ثُمَّ قَالَ: "لَا تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَإِنَّهُ مَا ضَلَّ قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا أُوتُوا (7) الْجَدَلَ"، ثُمَّ تَلَا {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/154) .
(2) في ت: "روى".
(3) المسند (5/256) وسنن الترمذي برقم (3253) وسنن ابن ماجه برقم (48) وتفسير الطبري (25/53) .
(4) في أ: "أرفعه".
(5) وفي إسناده القاسم بن عبد الرحمن الشامي، ضعفه ابن حبان، وقال: "كان يروى عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم المعضلات".
(6) في أ: "جعفر بن القاسم".
(7) في ت: "أورثوا".(7/235)
(1)
وَقَوْلُهُ: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} يَعْنِي: عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا هُوَ إِلَّا عَبْدٌ [مِنْ عِبَادِ اللَّهِ] (2) أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ: دَلَالَةً وَحُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى مَا نَشَاءُ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ} أَيْ: بَدَلَكُمْ (3) {مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ} ، قَالَ السُّدِّيُّ: يَخْلُفُونَكَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا يَخْلُفُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَهَذَا الْقَوْلُ يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُعَمِّرُونَ الْأَرْضَ بَدَلَكُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} : تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ: مَا بُعث بِهِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْقَامِ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَا حَكَاهُ قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَيِ الضَّمِيرُ فِي {وَإِنَّهُ} ، عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى عِيسَى [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (4) ، فَإِنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ نُزُولُهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أَيْ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 159] ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى: "وَإِنَّهُ لعَلَم لِلسَّاعَةِ" أَيْ: أَمَارَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ السَّاعَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أَيْ: آيَةٌ لِلسَّاعَةِ خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (5) ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَعِكْرِمَةَ، والحسنن وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أَخْبَرَ بِنُزُولِ عِيسَى [ابْنِ مَرْيَمَ] (6) ، عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِمَامًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا.
وَقَوْلُهُ: {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} أَيْ: لَا تَشُكُّوا (7) فِيهَا، إِنَّهَا وَاقِعَةٌ وَكَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، {وَاتَّبَعُونِ} أَيْ: فِيمَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} أَيْ: عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} أَيْ: بِالنُّبُوَّةِ {وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لَا الدُّنْيَوِيَّةِ (8) . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ جَيِّدٌ، ثُمَّ رَدَّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ "بَعْضَ" هَاهُنَا بمعنى "كل"، واستشهد بقول لبيد الشاعر:
__________
(1) تفسير الطبري (25/53) .
(2) زيادة من ت، م.
(3) في ت: "بدلا منكم".
(4) زيادة من ت.
(5) زيادة من ت.
(6) زيادة من ت، م.
(7) في ت، م، أ: "تشكون".
(8) تفسير الطبري (25/55) .(7/236)
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
تَرّاك أمْكنَة إذَا لَمْ أرْضَها (1) أَوْ يَعْتَلق (2) بَعْضَ النُّفُوسِ حمَامُها (3)
وَأَوَّلُوهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ النُّفُوسِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّمَا أَرَادَ نَفْسَهُ فَقَطْ، وَعَبَّرَ بِالْبَعْضِ عَنْهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَلٌ.
وَقَوْلُهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ: [فِيمَا] (4) أَمَرَكُمْ بِهِ، {وَأَطِيعُونِ} ، فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أَيْ: أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ لَهُ، فُقَرَاءُ إِلَيْهِ، مُشْتَرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أَيْ: هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ عِبَادَةُ الرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ، وَحْدَهُ.
وَقَوْلُهُ: {فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} أَيِ: اخْتَلَفَتْ الْفِرَقُ وَصَارُوا شِيَعًا فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ -وَهُوَ الْحَقُّ-وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ وُلَدُ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ اللَّهِ -تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا-وَلِهَذَا قَالَ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}
{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ (60) }
__________
(1) في أ: "أرمنها".
(2) في أ: "يقتلوا".
(3) البيت في تفسير الطبري (25/55) وديوان لبيد العامري (ص313) .
(4) زيادة من ت، م، أ.(7/237)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) } .
يَقُولُ تَعَالَى: هَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ {إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} ؟ أَيْ: فَإِنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ وَوَاقِعَةٌ، وَهَؤُلَاءِ غَافِلُونَ عَنْهَا غَيْرُ مُسْتَعِدِّينَ [لَهَا] (1) فَإِذَا جَاءَتْ إِنَّمَا تَجِيءُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِهَا، فَحِينَئِذٍ يَنْدَمُونَ كُلَّ النَّدَمِ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} أَيْ: كُلُّ صَدَاقَةٍ وَصَحَابَةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدَاوَةً إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ دَائِمٌ بِدَوَامِهِ. وَهَذَا كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِقَوْمِهِ: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ:25] .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ (2) ، عَنْ عَلِيٍّ، رضي الله
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "وروى ابن أبي حاتم عن علي".(7/237)
عَنْهُ: {الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} قَالَ: خَلِيلَانِ مُؤْمِنَانِ، وَخَلِيلَانِ كَافِرَانِ، فَتُوُفِّيَ أَحَدُ الْمُؤْمِنَيْنِ وَبُشِّرَ بِالْجَنَّةِ فَذَكَرَ خَلِيلَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ، إِنْ فُلَانًا خَلِيلِي كَانَ يَأْمُرُنِي بِطَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ، وَيَأْمُرُنِي بِالْخَيْرِ وَيَنْهَانِي عَنِ الشَّرِّ، وَيُنْبِئُنِي أَنِّي مُلَاقِيكَ، اللَّهُمَّ فَلَا تُضِلَّهُ بَعْدِي حَتَّى تُرِيَهُ مِثْلَ مَا أَرَيْتَنِي، وَتَرْضَى عَنْهُ كَمَا رَضِيتَ عَنِّي. فَيُقَالُ لَهُ: اذْهَبْ فَلَوْ تَعْلَمُ مَا لَهُ عِنْدِي لَضَحِكْتَ كَثِيرًا وَبَكَيْتَ قَلِيلًا. قَالَ: ثُمَّ يَمُوتُ الْآخَرُ، فَتَجْتَمِعُ أَرْوَاحُهُمَا، فَيُقَالُ: لِيُثْنِ أَحَدُكُمَا (1) عَلَى صَاحِبِهِ، فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: نِعْمَ الْأَخُ، وَنِعْمَ الصَّاحِبُ، وَنِعْمَ الْخَلِيلُ. وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْكَافِرَيْنِ، وَبُشِّرَ بِالنَّارِ ذَكَرَ خَلِيلَهُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ خَلِيلِي فُلَانًا كَانَ يَأْمُرُنِي بِمَعْصِيَتِكَ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِكَ، وَيَأْمُرُنِي بِالشَّرِّ وَيَنْهَانِي عَنِ الْخَيْرِ، وَيُخْبِرُنِي أَنِّي غَيْرُ مُلَاقِيكَ، اللَّهُمَّ فَلَا تَهْدِهِ بَعْدِي حَتَّى تُرِيَهُ مِثْلَ مَا أَرَيْتَنِي، وَتَسْخَطَ عَلَيْهِ كَمَا (2) سَخِطْتَ عَلَيَّ. قَالَ: فَيَمُوتُ الْكَافِرُ الْآخَرُ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ أَرْوَاحِهِمَا فَيُقَالُ: لِيُثْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: بِئْسَ الْأَخُ، وَبِئْسَ الصَّاحِبُ، وَبِئْسَ الْخَلِيلُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (3) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: صَارَتْ كُلُّ خِلَّةٍ عَدَاوَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا الْمُتَّقِينَ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ -فِي تَرْجَمَةِ هِشَامِ بْنِ أَحْمَدَ-عَنْ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْخَضِرِ بِالرِّقَّةِ، عَنْ مُعَافًى: حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، أَحَدُهُمَا بِالْمُشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ، لَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَحْبَبْتَهُ فِيَّ" (4) .
وَقَوْلُهُ: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} ثُمَّ بَشَّرَهُمْ.
فَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} أَيْ: آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ، وَانْقَادَتْ لِشَرْعِ اللَّهِ جَوَارِحُهُمْ وَظَوَاهِرُهُمْ.
قَالَ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ النَّاسَ حِينَ يُبْعَثُونَ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ إلا فزع، فينادي مناد: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} فَيَرْجُوهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ، قَالَ: فيتبعُها: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} ، قَالَ: فَيَيْأَسُ النَّاسُ مِنْهَا غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ. {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ {أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} أَيْ: نُظَرَاؤُكُمْ {تُحْبَرُونَ} أَيْ: تَنْعَمُونَ وَتَسْعَدُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ الرُّومِ.
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} أَيْ: زَبَادِيِّ آنِيَةِ الطَّعَامِ، {وَأَكْوَابٍ} وَهِيَ: آنِيَةُ الشَّرَابِ، أَيْ: مِنْ ذَهَبٍ لَا خَرَاطِيمَ لَهَا وَلَا عُرَى، {وَفِيهَا مَا تَشْهِي الأنْفُسُ} -وَقَرَأَ بعضهم: "تشتهيه
__________
(1) في أ: "أحدهما".
(2) في ت: "مثل ما".
(3) تفسير عبد الرزاق (2/164) .
(4) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (27/79) .(7/238)
الْأَنْفُسُ"- {وَتَلَذُّ الأعْيُنُ} أَيْ: طِيبَ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ وَحُسْنَ الْمَنْظَرِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ (1) ، عَنْ (2) عِكْرِمَةَ -مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ-أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً وَأَسْفَلَهُمْ دَرَجَةً لَرَجُلٌ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدَهُ أَحَدٌ، يُفْسَحُ لَهُ فِي بَصَرِهِ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ فِي قُصُورٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَخِيَامٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ، لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا مَعْمُورٌ يُغَدَّى عَلَيْهِ وَيُرَاحُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ صَحْفَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، لَيْسَ فِيهَا صَحْفَةٌ إِلَّا فِيهَا لَوْنٌ لَيْسَ فِي الْأُخْرَى، مِثْلُهُ شَهْوَتُهُ فِي آخِرِهَا كَشَهْوَتِهِ فِي أَوَّلِهَا، لَوْ نَزَلَ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَ عَلَيْهِمْ مِمَّا أُعْطِيَ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِمَّا أُوتِيَ شَيْئًا" (3) .
وَقَالَ (4) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَادٍ السَّرْحِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ -وَذَكَرَ الْجَنَّةَ-فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَيَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمُ اللُّقْمَةَ فَيَجْعَلُهَا فِي فِيهِ، ثُمَّ يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِ طَعَامٌ آخَرُ، فَيَتَحَوَّلُ الطَّعَامُ الَّذِي فِي فِيهِ عَلَى الَّذِي اشْتَهَى" ثُمَّ قَرَأَ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ (5) الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (6) .
وَقَالَ (7) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ -هُوَ ابْنُ مُوسَى-حَدَّثَنَا سُكَيْن بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا الْأَشْعَثُ الضَّرِيرُ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (8) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً إِنَّ لَهُ لَسَبْعَ دَرَجَاتٍ، وَهُوَ عَلَى السَّادِسَةِ وَفَوْقَهُ السَّابِعَةُ، وَإِنَّ لَهُ ثلثمائة خادم، ويغدى عليه ويراح كل يوم بثلثمائة صَحْفَةٍ -وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: مِنْ ذَهَبٍ-فِي كُلِّ صَحْفَةٍ لَوْنٌ لَيْسَ فِي الْأُخْرَى، وَإِنَّهُ لَيَلَذُّ أَوَّلَهُ كَمَا يَلَذُّ آخِرَهُ، وَمِنَ الْأَشْرِبَةِ ثَلَاثَمِائَةِ إِنَاءٍ، فِي كُلِّ إِنَاءٍ لَوْنٌ لَيْسَ فِي الْآخَرِ، وَإِنَّهُ لَيَلَذُّ أَوَّلَهُ كَمَا يَلَذُّ آخِرَهُ، وَإِنَّهُ يَقُولُ: يَا رَبِّ، لَوْ أَذِنْتَ لِي لَأَطْعَمْتُ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَسَقَيْتُهُمْ، لَمْ يَنْقُصْ مِمَّا عِنْدِي شَيْءٌ، وَإِنَّ لَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ لَاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً، سِوَى أَزْوَاجِهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ لَيَأْخُذُ مَقْعَدُهَا قَدْرَ مَيْلٍ مِنَ الْأَرْضِ" (9) .
{وَأَنْتُمْ فِيهَا} أَيْ: فِي الْجَنَّةِ {خَالِدُونَ} أَيْ: لَا تَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا تَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا. ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّفَضُّلِ وَالِامْتِنَانِ: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ: أَعْمَالُكُمُ الصَّالِحَةُ كَانَتْ سَبَبًا لِشُمُولِ رَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَلَكِنْ بِفَضْلٍ من الله ورحمته.
__________
(1) في م: "سعد".
(2) في أ: "أن".
(3) تفسير عبد الرزاق (2/165) .
(4) في ت: "وروى".
(5) في ت: "ما تشتهي" وهو خطأ.
(6) وفي إسناده الحسن البصري لم يسمع من أبي هريرة.
(7) في ت: "وروى".
(8) في ت: "أبي هريرة رضي الله عنه".
(9) المسند (2/537) .(7/239)
وَإِنَّمَا الدَّرَجَاتُ تَفَاوُتُهَا (1) بِحَسَبِ عَمَلِ الصَّالِحَاتِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ -يَعْنِي الصَّفَّارَ-حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ (2) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ حَسْرَةً، فَيَقُولُ: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزُّمَرِ: 57] وَكُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الْأَعْرَافِ: 43] ، لِيَكُونَ (3) لَهُ شُكْرًا". قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما من أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَالْكَافِرُ يَرِثُ المؤمنَ منزلَه مِنَ النَّارِ، وَالْمُؤْمِنُ يَرِثُ الكافرَ مَنْزِلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ" وَذَلِكَ (4) قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (5) .
وَقَوْلُهُ: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} أَيْ: مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ، {مِنْهَا تَأْكُلُونَ} أَيْ: مَهْمَا اخْتَرْتُمْ وَأَرَدْتُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ [اللَّهُ تَعَالَى] (6) الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، ذَكَرَ بَعْدَهُ الفاكهة لتتم [هذه] (7) النعمة والغبطة.
__________
(1) في أ: "وإنما الدرجات ينال تفاوتها".
(2) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(3) في ت، م: "فيكون".
(4) في ت، م: "فيكون".
(5) ورواه أحمد في مسنده (2/512) من طريق أبي بكر بن عياش به مختصرا.
(6) زيادة من ت.
(7) زيادة من ت.(7/240)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } .
لَمَّا ذَكَرَ [تَعَالَى] (1) حَالَ السُّعَدَاءِ، ثَنَّى بِذِكْرِ الْأَشْقِيَاءِ، فَقَالَ: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ. لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أَيْ: سَاعَةً وَاحِدَةً {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أَيْ: آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} أَيْ: بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، فَكَذَّبُوا وَعَصَوْا، فَجُوزُوا بِذَلِكَ جَزَاءً وِفَاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
{وَنَادَوْا يَامَالِكُ} وَهُوَ: خَازِنُ النَّارِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهال، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ (2) ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "روى البخاري بإسناده".(7/240)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
(1) أَيْ: لِيَقْبِضْ أَرْوَاحَنَا فَيُرِيحَنَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فَاطِرٍ: 36] . وَقَالَ: {وَيَتَجَنَّبُهَا (2) الأشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى. ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [الْأَعْلَى: 11 -13] ، فَلَمَّا سَأَلُوا أَنْ يَمُوتُوا أَجَابَهُمْ مَالِكٌ، {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَكَثَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
أَيْ: لَا خُرُوجَ لَكُمْ مِنْهَا وَلَا مَحِيدَ لَكُمْ عَنْهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ شِقْوَتِهِمْ وَهُوَ مُخَالَفَتُهُمْ لِلْحَقِّ وَمُعَانَدَتُهُمْ لَهُ فَقَالَ: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} أَيْ: بَيَّنَّاهُ لَكُمْ وَوَضَّحْنَاهُ وَفَسَّرْنَاهُ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أَيْ: وَلَكِنْ كَانَتْ سَجَايَاكُمْ لَا تَقْبَلُهُ وَلَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَنْقَادُ لِلْبَاطِلِ وَتُعَظِّمُهُ، وَتَصِدُّ عَنِ الْحَقِّ وَتَأْبَاهُ، وَتُبْغِضُ أَهْلَهُ، فَعُودُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِالْمَلَامَةِ، وَانْدَمُوا حَيْثُ لَا تَنْفَعُكُمُ (3) النَّدَامَةُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادُوا كَيْدَ شَرٍّ فَكِدْنَاهُمْ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النَّمْلِ:50] ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَتَحَيَّلُونَ فِي رَدِّ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ بِحِيَلٍ وَمَكْرٍ يَسْلُكُونَهُ، فَكَادَهُمُ اللَّهُ، وَرَدَّ وَبَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} أَيْ: سَرَّهُمْ وَعَلَانِيَتَهُمْ، {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} أَيْ: نَحْنُ نَعْلَمُ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَالْمَلَائِكَةُ أَيْضًا يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ، صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا.
{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) }
يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ: لَوْ فُرِضَ هذا لعبدته
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4819) .
(2) في م: "وسيجنبها".
(3) في ت، م: "لا تنفع".(7/241)
عَلَى ذَلِكَ لِأَنِّي عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِهِ، مُطِيعٌ لِجَمِيعِ مَا يَأْمُرُنِي بِهِ، لَيْسَ عِنْدِي اسْتِكْبَارٌ وَلَا إِبَاءٌ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلَوْ فُرِضَ كَانَ هَذَا، وَلَكِنْ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَالشَّرْطُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْوُقُوعُ وَلَا الْجَوَازُ أَيْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزُّمَرِ: 4] .
[وَ] (1) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيِ: الْآنِفِينَ. وَمِنْهُمْ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ حَكَاهُ فَقَالَ: وَيُقَالُ: {أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} الْجَاحِدِينَ، مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الشَّوَاهِدِ مَا رَوَاهُ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ أَبِي قُسَيْط (2) ، عَنْ بَعَجة بْنِ زَيْدٍ الْجُهَنِيِّ؛ أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ دَخَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا -وَهُوَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَيْضًا-فَوَلَدَتْ لَهُ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ زَوْجُهَا لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُرْجَمَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الْأَحْقَافِ: 15] ، وَقَالَ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لُقْمَانَ: 14] ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا عَبَدَ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنْ بَعْثَ إِلَيْهَا: تُرَدُّ -قَالَ يُونُسُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: عَبَدَ: اسْتَنْكَفَ. (3)
[وَ] (4) قَالَ الشَّاعِرُ:
مَتَى مَا يَشَأ ذُو الوُدِّ يصْرِمْ خَليله ... ويَعْبَدُ عَلَيه لَا مِحَالَة ظَالمًا (5)
وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ كَيْفَ يَلْتَئِمُ مَعَ الشَّرْطِ فَيَكُونَ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كَانَ هَذَا فَأَنَا مُمْتَنِعٌ مِنْهُ؟ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَلْيُتَأَمَّلْ. اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: "إِنْ" لَيْسَتْ شَرْطًا، وَإِنَّمَا هِيَ نَافِيَةٌ كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} ، يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الشَّاهِدِينَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ كَلِمَةٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ: إِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَنْبَغِي.
وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ: فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ عَبَدَهُ بِأَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ وَحَّدَهُ. وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ: أَوَّلُ مَنْ عَبَدَهُ وَوَحَّدَهُ وَكَذَّبَكُمْ.
__________
(1) زيادة من ت، م.
(2) في ت: "ما رواه بإسناده".
(3) تفسير الطبري (25/61) .
(4) زيادة من ت، م.
(5) البيت في تفسير الطبري (25/60) .(7/242)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} الْآنِفِينَ. وَهُمَا لُغَتَانِ، رَجُلٌ عَابِدٌ وَعَبِدٌ (1) .
وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَلَكِنْ هُوَ مُمْتَنِعٌ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ [فِي قَوْلِهِ] (2) {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} يَقُولُ: لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ عَبَدَهُ، بِأَنَّ لَهُ وَلَدًا، لَكِنْ لَا وَلَدَ لَهُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَرَدَّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ "إِنْ" نَافِيَةٌ.
وَلِهَذَا قَالَ: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أَيْ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنَّهُ فَرْدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا كُفْءَ لَهُ، فَلَا (3) وَلَدَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} أَيْ: فِي جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ {وَيَلْعَبُوا} فِي دُنْيَاهُمْ {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ مَصِيرُهُمْ، وَمَآلُهُمْ، وَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ} أَيْ: هُوَ إِلَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، يَعْبُدُهُ أَهْلُهُمَا، وَكُلُّهُمْ خَاضِعُونَ لَهُ، أَذِلَّاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}
وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الْأَنْعَامِ: 3] أَيْ: هُوَ الْمَدْعُوُّ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
{وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ: هُوَ خَالِقُهُمَا وَمَالِكُهُمَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، بِلَا مُدَافَعَةٍ وَلَا مُمَانَعَةٍ، فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْوَلَدِ، وَتَبَارَكَ: أَيِ اسْتَقَرَّ لَهُ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ؛ لِأَنَّهُ الرَّبُّ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، الْمَالِكُ لِلْأَشْيَاءِ، الَّذِي بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ نَقْضًا وَإِبْرَامًا، {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أَيْ: لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ: فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أَيْ: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ {الشَّفَاعَةَ} أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الشَّفَاعَةِ لَهُمْ، {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ عَلَى بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ، فَإِنَّهُ تَنْفَعُ شَفَاعَتُهُ عِنْدَهُ بِإِذْنِهِ لَهُ.
ثُمَّ قَالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أَيْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ {مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أَيْ: هُمْ يَعْتَرِفُونَ (4) أَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ جَمِيعِهَا، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا يَقْدِرُ على شيء، فهم في
__________
(1) صحيح البخاري (8/568) "فتح الباري".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت: "ولا".
(4) في ت: "يعرفون".(7/243)
ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالسَّفَاهَةِ وَسَخَافَةِ الْعَقْلِ؛ ولهذا قال: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}
وقوله: {وَقِيلِهِ (1) يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ: وَقَالَ: مُحَمَّدٌ: قِيلُهُ، أَيْ: شَكَا إِلَى رَبِّهِ شَكْوَاهُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الْفُرْقَانِ: 30] وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ [مَعْنَى] (2) قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَعَلَيْهِ فَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ (3) .
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ-: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ". (4)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ في قوله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} ، قَالَ: فَأَبَرَّ اللَّهُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ قَوْلُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو قَوْمَهُ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ حكى ابن جرير في قوله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} قِرَاءَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا النَّصْبُ، وَلَهَا تَوْجِيهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزُّخْرُفِ: 80] وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ فِعْلٌ، وَقَالَ: قيلَه. وَالثَّانِيَةُ: الْخَفْضُ، وقيلِهِ، عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} تَقْدِيرُهُ: وعِلم قِيلِهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} أَيِ: الْمُشْرِكِينَ، {وَقُلْ سَلامٌ} أَيْ: لَا تُجَاوِبْهُمْ بِمِثْلِ مَا يُخَاطِبُونَكَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ السَّيِّئِ، وَلَكِنْ تَأَلَّفْهُمْ وَاصْفَحْ عَنْهُمْ فِعْلًا وَقَوْلًا {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (5) } ، هَذَا تَهْدِيدٌ مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ، وَلِهَذَا أَحَلَّ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَأَعْلَى دِينَهُ وَكَلِمَتَهُ، وَشَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ الْجِهَادَ وَالْجِلَادَ، حَتَّى دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سورة الزخرف
__________
(1) في ت: "وقيل هو".
(2) زيادة من ت، أ.
(3) تفسير الطبري (25/62) .
(4) صحيح البخاري (8/568) "فتح الباري".
(5) في م: "تعلمون".(7/244)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الدُّخَانِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ عُمَر بْنِ أَبِي خَثْعَم، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (1) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ (حم الدُّخَانَ) فِي لَيْلَةٍ أَصْبَحَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلِكٍ".
ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وعمَر (2) بْنُ أَبِي خَثْعَمٍ يُضَعَّفُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ (3) .
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ هِشَامِ أَبِي الْمِقْدَامِ، عَنِ الْحَسَنِ (4) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قَرَأَ (حم الدُّخَانَ) فِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ، غُفِرَ لَهُ".
ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهِشَامٌ (5) أَبُو الْمِقْدَامِ يُضَعَّفُ، وَالْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَذَا قَالَ أَيُّوبُ، وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ (6) .
وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِابْنِ صَيَّاد: "إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ خَبَأً فَمَا هُوَ؟ " وَخَبَّأَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الدُّخَانِ، فَقَالَ: هُوَ الدُّخ. فَقَالَ: "اخْسَأْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ". ثُمَّ انْصَرَفَ (7) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (8) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: إِنَّهُ أَنْزَلَهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ، وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [الْقَدْرِ: 1] وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، كَمَا قَالَ: تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]
__________
(1) في ت: "روى الترمذي بإسناده".
(2) في ت: "الوجه، وفي إسناده عمر".
(3) سنن الترمذي برقم (2888) .
(4) في ت: "وروى الترمذي بإسناده".
(5) في ت: "الوجه، وفي إسناده هشام".
(6) سنن الترمذي برقم (2889) .
(7) مسند البزار برقم (3399) "كشف الأستار" ورواه الطبراني في المعجم الكبير (5/88) من طريق زياد بن الفرات عن أبي الطفيل به. قال الهيثمي في المجمع (8/4) : "فيه زياد بن الحسن بن فرات، ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبان".(7/245)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ (1) الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ فِي "سُورَةِ الْبَقَرَةِ" بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ -كَمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ-فَقَدْ أَبْعَدَ النَّجْعَة فَإِنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تُقْطَعُ الْآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى شَعْبَانَ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ، وَقَدْ أُخْرِجَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى" (2) فَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وَمِثْلُهُ لَا يُعَارَضُ بِهِ النُّصُوصُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} أَيْ: مُعَلِّمِينَ النَّاسَ مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ شَرْعًا، لِتَقُومَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ.
وَقَوْلُهُ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أَيْ: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يُفْصَلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى الْكَتَبَةِ أَمْرُ السَّنَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْآجَالِ وَالْأَرْزَاقِ، وَمَا يَكُونُ فِيهَا إِلَى آخِرِهَا. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَقَوْلُهُ: {حَكِيمٌ} أَيْ: مُحْكَمٌ لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} أَيْ: جَمِيعَ مَا يَكُونُ وَيُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا يُوحِيهِ (3) فَبِأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ وَعِلْمِهِ، {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أَيْ: إِلَى النَّاسِ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ كَانَتْ مَاسَّةً إِلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيِ: الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَالِقُهُمَا وَمَالِكُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مُتَحَقِّقِينَ.
ثُمَّ قَالَ: {لَا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ} وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ] } (4) الْآيَةَ [الْأَعْرَافِ: 158] .
{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) }
يَقُولُ تَعَالَى: بَلْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ، أَيْ: قَدْ جَاءَهُمُ الْيَقِينُ (5) ، وَهُمْ يَشُكُّونَ فِيهِ، وَيَمْتَرُونَ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ مُتَوَعِّدًا لَهُمْ وَمُتَهَدِّدًا: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} .
قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَان الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْح (6) ، عَنِ مسروق قال: دخلنا
__________
(1) في ت: "ألآثار".
(2) رواه الطبراني في تفسيره (25/65) والبيهقي في شعب الإيمان برقم (3839) من طريق الليث عن عقيل به.
(3) في أ: "يوجبه".
(4) زيادة من ت، أ.
(5) في ت: "المبين".
(6) في ت: "روى البخاري ومسلم في صحيحيهما".(7/246)
الْمَسْجِدَ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْكُوفَةِ-عِنْدَ أَبْوَابِ كِنْدَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُصُّ عَلَى أَصْحَابِهِ: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} تَدْرُونَ مَا ذَلِكَ الدُّخَانُ؟ ذَلِكَ دُخَانٌ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ، وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ شِبْهُ الزُّكَامِ. قَالَ: فَأَتَيْنَا ابْنَ مَسْعُودٍ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، وَكَانَ مُضْطَجِعًا فَفَزِعَ فَقَعَدَ، وَقَالَ (1) إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] ، إِنَّ مِنَ العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: "اللَّهُ أَعْلَمُ" سَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَبْطَأَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَعْصَتْ (2) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ، وَجَعَلُوا يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَلَا يَرَوْنَ إِلَّا الدُّخَانَ -وَفِي رِوَايَةٍ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجَهْدِ-[قَالَ] (3) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ، فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ. فَاسْتَسْقَى لَهُمْ فَسُقُوا فأنزل الله: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} قَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ: فَيُكْشَفُ الْعَذَابُ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَمَّا أَصَابَهُمُ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حَالِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} ، قَالَ: يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَقَدْ مَضَى خَمْسَةٌ: الدُّخَانُ، وَالرُّومُ، وَالْقَمَرُ، وَالْبَطْشَةُ، واللِّزام. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. (4) وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ فِي تَفْسِيرِهِمَا (5) ، وَعِنْدَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ (6) وَقَدْ وَافَقَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهَذَا، وَأَنَّ الدُّخَانَ مَضَى، جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ كَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالضَّحَّاكِ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُسَافِرٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا (7) عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} قَالَ: كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ غَرِيبٌ جِدًّا بَلْ مُنْكَرٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَمْضِ الدُّخَانُ بَعْدُ، بَلْ هُوَ مِنْ أَمَارَاتِ (8) السَّاعَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَرِيحة (9) حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غُرْفَةٍ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ السَّاعَةَ، فَقَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ، وَالدَّابَّةُ، وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَخُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَالدَّجَّالُ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمُشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تَسُوقُ النَّاسَ
__________
(1) في ت، م: "فقال".
(2) في أ: "واستصعبت".
(3) زيادة من أ.
(4) صحيح البخاري برقم (4820) وصحيح مسلم برقم (2798) .
(5) في م: "تفسيريهما".
(6) المسند (1/380، 431) وسنن الترمذي برقم (3254) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11481) وتفسير الطبري (25/66)
(7) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن".
(8) في ت: "آيات".
(9) في ت: "أبي سريحة في".(7/247)
-أَوْ: تَحْشُرُ النَّاسَ-: تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا" تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ (1) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِابْنِ الصَّيَّادِ: "إِنِّي خَبَأْتُ لَكَ خَبْأ" قَالَ: هُوَ الدُّخ. فَقَالَ لَهُ: "اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ" قَالَ: وخبأ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (2) .
وَهَذَا فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُنْتَظَرِ الْمُرْتَقَبِ، وَابْنُ صَيَّادٍ كَاشِفٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْكُهَّانِ بِلِسَانِ الْجَانِّ، وَهُمْ يُقَرطمون الْعِبَارَةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: "هُوَ الدُّخ" يَعْنِي: الدُّخَانَ. فَعِنْدَهَا عَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّتَهُ وَأَنَّهَا شَيْطَانِيَّةٌ، فَقَالَ لَهُ: "اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ".
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَدَّثَنِي عِصَامُ بْنُ رَوَّاد بْنِ الْجَرَّاحِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ رِبْعِي بْنِ حِرَاش قَالَ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ (3) : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ الدَّجَّالُ، وَنُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ أَبْيَنُ، تَسُوقُ النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ، تَقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا، وَالدُّخَانُ-قَالَ حُذَيْفَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الدُّخَانُ؟ فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} -يَمْلَأُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، يَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُصِيبُهُ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزُّكْمَةِ (4) ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ السَّكْرَانِ، يَخْرُجُ مِنْ مَنْخِرَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَدُبُرِهِ" (5) .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَكَانَ فَاصِلًا وَإِنَّمَا لَمْ أَشْهَدْ لَهُ بِالصِّحَّةِ؛ لَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِيَّ حَدَّثَنِي أَنَّهُ سَأَلَ رَوَّادًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ: هَلْ سَمِعَهُ مِنْ سُفْيَانَ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا قَالَ: فَقُلْتُ: أَقَرَأْتَهُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: فَقُرِئَ عَلَيْهِ وَأَنْتَ حَاضِرٌ فَأَقَرَّ بِهِ؟ فَقَالَ: لَا فَقُلْتُ لَهُ: فَمِنْ أَيْنَ جِئْتَ بِهِ؟ فَقَالَ: جَاءَنِي بِهِ قَوْمٌ فَعَرَضُوهُ عَلَيَّ، وَقَالُوا لِي: اسْمَعْهُ مِنَّا. فَقَرَءُوهُ عليَّ ثُمَّ ذَهَبُوا بِهِ، فَحَدَّثُوا بِهِ عَنِّي، أَوْ كَمَا قَالَ (6) .
وَقَدْ أَجَادَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِهَذَا السَّنَدِ، وَقَدْ أَكْثَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ سِيَاقِهِ فِي أَمَاكِنَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَفِيهِ مُنْكَرَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَا سِيَّمَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ "بَنِي إِسْرَائِيلَ" فِي ذِكْرِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا خَلِيلٌ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَهِيجُ الدُّخَانُ بِالنَّاسِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَأْخُذُهُ كَالزُّكْمَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَنْفُخُهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ كُلِّ مسمع منه".
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2901) .
(2) صحيح البخاري برقم (3055) وصحيح مسلم برقم (2930) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(3) في ت: "وروى ابن أبي حاتم عن حذيفة قال".
(4) في ت، م: "الزكام".
(5) تفسير الطبري (25/68) ومن طريقه رواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (1174) والبغوي في معالم التنزيل (7/230) .
(6) تفسير الطبري (25/68) .(7/248)
وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَوْقُوفًا. وَرَوَاهُ عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ قَوْلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي ضَمْضَم بْنُ زُرعَة، عَنْ شُريح بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن رَبَّكُمْ أَنْذَرَكُمْ ثَلَاثًا: الدُّخَانَ يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَالزُّكْمَةِ، وَيَأْخُذُ الْكَافِرَ فَيَنْتَفِخُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ كُلِّ مَسْمَعٍ مِنْهُ وَالثَّانِيَةُ الدَّابَّةُ وَالثَّالِثَةُ الدَّجَّالُ".
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ هَاشِمِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، بِهِ (1) وَهَذَا
إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمْ تَمْضِ آيَةُ الدُّخَانِ بَعْدُ، يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزكام، وتنفخ الكافر حتى ينفذ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يَخْرُجُ الدُّخَانُ فَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، وَيَدْخُلُ فِي مَسَامِعِ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ حَتَّى يَكُونَ كَالرَّأْسِ الْحَنِيذِ، أَيِ: الْمَشْوِيِّ عَلَى الرَّضف.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ (2) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: غَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: مَا نِمْتُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ. قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: قَالُوا طَلَعَ الْكَوْكَبُ ذُو الذَّنَبِ، فَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ الدُّخَانُ قَدْ طَرَقَ، فَمَا نِمْتُ حَتَّى أَصْبَحْتُ (3) وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (4) ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ حَبْرِ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ. وَهَكَذَا قَوْلُ مَنْ وَافَقَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَجْمَعِينَ، مَعَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ مِنَ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَغَيْرِهِمَا، الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا مِمَّا فِيهِ مَقْنَعٌ وَدَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الدُّخَانَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُنْتَظَرَةِ، مَعَ أَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} أَيْ: بَيِّنٍ وَاضِحٍ يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ. وَعَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا هُوَ خَيَالٌ رَأَوْهُ فِي أَعْيُنِهِمْ مِنْ شَدَّةِ الْجُوعِ وَالْجَهْدِ. وَهَكَذَا قَوْلُهُ: {يَغْشَى النَّاسَ} أَيْ: يَتَغَشَّاهُمْ ويَعُمهم (5) ، وَلَوْ كَانَ أَمْرًا خَيَالِيًّا يَخُصُّ أَهْلَ مكة المشركين لما
__________
(1) تفسير الطبري (25/68) والمعجم الكبير (3/292) وقول الحافظ ابن كثير هنا: "هذا إسناد جيد" متعقب فإن لهذه النسخة ثلاث علل:
الأولى: محمد بن إسماعيل بن عياش قال أبو حاتم: "لم يسمع من أبيه شيئا، حملوه على أن يحدث فحدث".
الثانية: ضمضم بن زرعة، ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن معين ومحمد بن إسماعيل بن عياش قال أبو داود: "لم يكن بذاك".
الثالثة: شريح بن عبيد، قد كلم في سماعه من أبي مالك الأشعري قال أبو حاتم: "شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مرسل".
(2) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(3) تفسير الطبري (25/68) .
(4) في ت: "ورواه ابن جرير هكذا"، وفي أ: "وهكذا رواه ابن جرير".
(5) في أ: "ويغمهم".(7/249)
قِيلَ فِيهِ: {يَغْشَى النَّاسَ}
وَقَوْلُهُ: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطُّورِ: 13، 14] ، أَوْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} أَيْ: يَقُولُ الْكَافِرُونَ إِذَا عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ سَائِلِينَ رَفْعَهُ وَكَشْفَهُ عَنْهُمْ، كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَنْعَامِ: 27] . وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 44] ، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}
يَقُولُ: كَيْفَ لَهُمْ بِالتَّذَكُّرِ، وَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رَسُولًا بَيِّنَ الرِّسَالَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَمَعَ هَذَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَمَا وَافَقُوهُ، بَلْ كَذَّبُوهُ وَقَالُوا: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الْفَجْرِ: 23، 24] ، وَقَوْلُهُ (1) تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سَبَأٍ: 51 -54] .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} (2) يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقُولُهُ (3) تَعَالَى: وَلَوْ كَشَفْنَا عَنْكُمُ الْعَذَابَ وَرَجَعْنَاكُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا، لَعُدْتُمْ إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 75] ، وَكَقَوْلِهِ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الْأَنْعَامِ: 28] .
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: إِنَّا مُؤَخِّرُو الْعَذَابِ عَنْكُمْ قَلِيلًا بَعْدَ انْعِقَادِ أَسْبَابِهِ (4) وَوُصُولِهِ إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ مُسْتَمِرُّونَ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالضَّلَالِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْكَشْفِ عَنْهُمْ أَنْ يَكُونَ بَاشَرَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يُونُسَ: 98] ، وَلَمْ يَكُنِ الْعَذَابُ بَاشَرَهُمْ، وَاتَّصَلَ بِهِمْ بَلْ كَانَ قَدِ انْعَقَدَ سَبَبُهُ [وَوُصُولُهُ] (5) عَلَيْهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَقْلَعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ ثُمَّ عَادُوا إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ حِينَ قَالُوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّه مِنْهَا} [الْأَعْرَافِ: 88، 89] ، وَشُعَيْبٌ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (6) لَمْ يَكُنْ قَطُّ عَلَى مِلَّتِهِمْ وَطَرِيقَتِهِمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} إلى عذاب الله.
__________
(1) في ت، م: "وكقوله".
(2) في ت: "كاشف".
(3) في أ: "يقول".
(4) في ت، م، أ: "سببه".
(5) زيادة من ت، أ.
(6) زيادة من ت، م، أ.(7/250)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} فَسَّرَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِيَوْمِ بَدْرٍ. وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ وَافَقَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَلَى تَفْسِيرِهِ الدُّخَانَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [وَجَمَاعَةٍ] (1) مِنْ رِوَايَةِ الْعَوْفِيِّ، عَنْهُ. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَجَمَاعَةٍ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ يَوْمَ بَطْشَةٍ أَيْضًا.
قَالَ (2) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْبَطْشَةُ الْكُبْرَى: يَوْمُ بَدْرٍ، وَأَنَا أَقُولُ: هِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (3) .
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَنْهُ، وَبِهِ يَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعِكْرِمَةُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ (4) ، عَنْهُ.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) }
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت: "وروى".
(3) تفسير الطبري (25/70) .
(4) في ت: "القولين".(7/251)
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
{وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ (33) }
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَقَدِ اخْتَبَرْنَا قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَهُمْ قِبْطُ مِصْرَ، {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} يَعْنِي: مُوسَى كَلِيمَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} ، كَقَوْلِهِ: {فَأَرْسِلْ (1) مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] .
وَقَوْلُهُ: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أَيْ: مَأْمُونٌ عَلَى مَا أُبَلِّغُكُمُوهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} أَيْ: لَا تَسْتَكْبِرُوا عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِهِ، وَالِانْقِيَادِ لِحُجَجِهِ وَالْإِيمَانِ بِبَرَاهِينِهِ (2) ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِرٍ: 60] .
{إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ [مُبِينٍ] } (3) أَيْ: بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ وَاضِحَةٍ، وَهِيَ مَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ البينات والأدلة القاطعة (4) .
__________
(1) في ت، م، أ: "وأن أرسل" وهو خطأ.
(2) في أ: "بألوهيته".
(3) زيادة من ت، م، أ.
(4) في ت، من أ: "القاطعات".(7/251)
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو صَالِحٍ: هُوَ الرَّجْمُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الشَّتْمُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: [هُوَ] (1) الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ.
أَيْ (2) أَعُوذُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَكُمْ [مِنْ] (3) أَنْ تَصِلُوا إليَّ بِسُوءٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
{وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} أَيْ: فَلَا تَتَعَرَّضُوا (4) إليَّ، وَدَعُوا الْأَمْرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مُسَالِمَةً إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَنَا. فَلَمَّا طَالَ مَقَامُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَأَقَامَ حُجَجَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ وَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا كُفْرًا وَعِنَادًا، دَعَا رَبَّهُ عَلَيْهِمْ دَعْوَةً نَفَذَتْ فِيهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يُونُسَ: 88، 89] . وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ فِرْعَوْنَ وَمُشَاوَرَتِهِ وَاسْتِئْذَانِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه: 77] .
وَقَوْلُهُ هَاهُنَا: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا جَاوَزَ هُوَ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، أَرَادَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، لِيَصِيرَ حَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ. فَأَمَرَهُ اللَّهُ (5) أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ سَاكِنًا، وَبَشَّرَهُ بِأَنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ فِيهِ (6) ، وَأَنَّهُ لَا يَخَافُ دَرَكًا وَلَا يَخْشَى.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} كَهَيْئَتِهِ وامضِهْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {رَهْوًا} طَرِيقًا يَبْسًا كَهَيْئَتِهِ، يَقُولُ: لَا تَأْمُرْهُ يَرْجِعُ، اتْرُكْهُ حَتَّى يَرْجِعَ آخِرُهُمْ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وسِمَاك بْنُ حَرْبٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ (7) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ} وَهِيَ الْبَسَاتِينُ {وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ} وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَنْهَارُ وَالْآبَارُ، {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} وَهِيَ الْمَسَاكِنُ الْكَرِيمَةُ الْأَنِيقَةُ وَالْأَمَاكِنُ الْحَسَنَةُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} الْمَنَابِرُ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعة، عَنْ وَهْبِ (8) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُعَافِرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: نِيلُ مِصْرَ سَيِّدُ الْأَنْهَارِ، سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ نَهْرٍ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وذلَّلَهُ لَهُ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُجْرِيَ نِيلَ مِصْرَ أَمَرَ كُلَّ نَهْرٍ أَنْ يَمُدَّهُ، فَأَمَدَّتْهُ الْأَنْهَارُ بِمَائِهَا، وَفَجَّرَ اللَّهُ لَهُ الْأَرْضَ عُيُونًا، فَإِذَا انْتَهَى جَرْيُهُ إِلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَى كُلِّ مَاءٍ أَنْ يرجع إلى عنصره.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في أ: "إني".
(3) زيادة من ت، م.
(4) في أ: "تعترضوا".
(5) في ت: "تعالى".
(6) في ت: "أي في البحر"، وفي أ: "أي فيه".
(7) في ت: "وغيرهما".
(8) في م: "ولهب".(7/252)
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمْ تَرَكُوا (1) مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} قَالَ:، كَانَتِ الْجِنَانُ بِحَافَّتَيْ هَذَا النِّيلِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فِي الشِّقَّيْنِ جَمِيعًا، مَا بَيْنَ أَسْوَانَ إِلَى رَشِيدٍ، وَكَانَ لَهُ تِسْعَةُ (2) خُلُجٍ: خَلِيجُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَخَلِيجُ دِمْيَاطَ، وَخَلِيجُ سَرْدُوسَ، وَخَلِيجُ مَنْفٍ، وَخَلِيجُ الْفَيُّومِ، وَخَلِيجُ الْمَنْهَى، مُتَّصِلَةٌ لَا يَنْقَطِعُ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، وَزُرُوعٌ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ كُلُّهُ مِنْ أَوَّلِ مِصْرَ إِلَى آخِرِ مَا يَبْلُغُهُ الْمَاءُ، وَكَانَتْ جَمِيعُ أَرْضِ مِصْرَ تُرْوَى مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، لِمَا قَدَّرُوا وَدَبَّرُوا مِنْ قَنَاطِرِهَا وَجُسُورِهَا وَخُلُجِهَا.
{وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} أَيْ: عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاؤوا وَيَلْبَسُونَ مَا أَحَبُّوا مَعَ الْأَمْوَالِ وَالْجَاهَاتِ وَالْحُكْمِ فِي الْبِلَادِ، فَسُلِبُوا ذَلِكَ جَمِيعُهُ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفَارَقُوا الدُّنْيَا وَصَارُوا إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَتِلْكَ الْحَوَاصِلِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ وَالْمَمَالِكِ الْقِبْطِيَّةِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشُّعَرَاءِ: 59] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (3) : {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الْأَعْرَافِ: 137] . وَقَالَ هَاهُنَا: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ} أَيْ: لَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ تَصْعَدُ فِي أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَتَبْكِي عَلَى فَقْدِهِمْ، وَلَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِقَاعٌ عَبَدُوا اللَّهَ فِيهَا فَقَدَتْهُمْ؛ فَلِهَذَا اسْتَحَقُّوا أَلَّا يُنْظَرُوا وَلَا يُؤَخَّرُوا لِكُفْرِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ، وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ، حَدَّثَنِي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (4) ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ فِي السَّمَاءِ بَابَانِ: بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِزْقُهُ، وَبَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ (5) عَمَلُهُ وَكَلَامُهُ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدَاهُ وَبَكَيَا عَلَيْهِ" وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ} وذُكر أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا (6) عَلَى الْأَرْضِ عَمَلًا صَالِحًا يَبْكِي عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَصْعَدْ لَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ كَلَامِهِمْ وَلَا مِنْ عَمَلِهِمْ كَلَامٌ طَيِّبٌ، وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ فَتَفْقِدَهُمْ فَتَبْكِيَ عَلَيْهِمْ (7) .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ وَهُوَ الرَّبَذِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (8) إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا. أَلَا لَا غُرْبَةَ عَلَى مُؤْمِنٍ مَا مَاتَ مُؤْمِنٌ فِي غُرْبَةٍ غَابَتْ عَنْهُ فِيهَا بَوَاكِيهِ إِلَّا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ والأرض". ثم
__________
(1) في ت، م: "فأخرجناهم" وهو خطأ ولعل الناسخ أراد الآية: 75 من سورة الشعراء.
(2) في ت، م: "تسع".
(3) في ت، م، أ: "الآية".
(4) في ت: "وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي بإسناده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ".
(5) في ت، أ: "فيه".
(6) في ت، م: "يعملون".
(7) مسند أبي يعلى (7/160) ورواه الترمذي في السنن برقم (3255) من طريق موسى بن عبيدة به مختصر، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وموسى بن عبيدة ويزيد بن أبان الرقاشي يضعفان في الحديث".
(8) في ت: "وروى ابن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال".(7/253)
قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ} ثُمَّ قَالَ: "إِنَّهُمَا لَا يَبْكِيَانِ عَلَى الْكَافِرِ" (1) .
وَقَالَ (2) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ -يَعْنِي الزُّبَيْرِيَّ-حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ تَبْكِي السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ عَلَى أَحَدٍ؟ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، إِنَّهُ لَيْسَ [مِنْ] (3) عَبْدٍ إِلَّا لَهُ مُصَلًّى فِي الْأَرْضِ، وَمَصْعَدُ عَمَلِهِ مِنَ السَّمَاءِ. وَإِنَّ آلَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي الْأَرْضِ، وَلَا عَمَلٌ يَصْعَدُ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّام، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مِنْهَالٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَتَى ابنَ عَبَّاسٍ رجلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} فَهَلْ تَبْكِي السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ عَلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ إِلَّا وَلَهُ بَابٌ فِي السَّمَاءِ مِنْهُ يَنْزِلُ رِزْقُهُ، وَفِيهِ يَصْعَدُ عَمَلُهُ، فَإِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ فَأُغْلِقَ بَابُهُ مِنَ السَّمَاءِ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ فِيهِ عَمَلُهُ وَيَنْزِلُ مِنْهُ رِزْقُهُ بَكَى عَلَيْهِ، وَإِذَا فُقِدَ مُصَلَّاهُ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي فِيهَا وَيَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا بَكَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ آثَارٌ صَالِحَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ خَيْرٌ، فَلَمْ تَبْكِ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ (4) .
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَحْوَ هَذَا.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي يَحْيَى القَتَّات، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ (5) ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (6) قَالَ: كَانَ يُقَالُ: تَبْكِي الْأَرْضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: مَا مَاتَ مُؤْمِنٌ إِلَّا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَتَبْكِي الْأَرْضُ؟ فَقَالَ: أَتَعْجَبُ؟ وَمَا لِلْأَرْضِ لَا تَبْكِي عَلَى عَبْدٍ، كَانَ يُعَمِّرُهَا بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؟ وَمَا لِلسَّمَاءِ لَا تَبْكِي عَلَى عَبْدٍ كَانَ لِتَكْبِيرِهِ وَتَسْبِيحِهِ فِيهَا دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ؟
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ تَبْكِيَ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا الْمُسْتَوْرِدُ بْنُ سَابِقٍ، عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: مَا بَكَتِ السَّمَاءُ مُنْذُ كَانَتِ الدُّنْيَا إِلَّا عَلَى اثْنَيْنِ قُلْتُ لِعُبَيْدٍ: أَلَيْسَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ تَبْكِي عَلَى الْمُؤْمِنِ؟ قَالَ: ذَاكَ مَقَامُهُ حَيْثُ يَصْعَدُ عَمَلُهُ. قَالَ: وَتَدْرِي مَا بُكَاءُ السَّمَاءِ؟ قُلْتُ (7) لَا قَالَ: تَحْمَرُّ وَتَصِيرُ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ، إِنَّ يحيى
__________
(1) تفسير الطبري (25/75) ورواه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت كما في الدر المنثور (7/412) وهو مرسل.
(2) في ت: "وروى".
(3) زيادة من ت، أ.
(4) تفسير الطبري (25/74) .
(5) في ت: "وعن".
(6) زيادة من ت.
(7) في أ: "قال".(7/254)
بْنَ زَكَرِيَّا لَمَّا قُتِلَ احْمَرَّتِ السَّمَاءُ وَقَطَرَتْ دَمًا. وَإِنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ لَمَّا قُتِلَ احْمَرَّتِ السَّمَاءُ.
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو -زُنَيج-حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ حُسَيْنُ (1) بْنُ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، احْمَرَّتْ آفَاقُ السَّمَاءِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قَالَ يَزِيدُ: وَاحْمِرَارُهَا بُكَاؤُهَا. وَهَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: بُكَاؤُهَا: أَنْ تَحْمَرَّ أَطْرَافُهَا.
وَذَكَرُوا (2) أَيْضًا فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ مَا قُلِبَ حَجَرٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا وُجِدَ تَحْتَهُ دَمٌ عَبِيط، وَأَنَّهُ كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَاحْمَرَّ الْأُفُقُ، وَسَقَطَتْ حِجَارَةٌ. وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ سُخْف الشِّيعَةِ وَكَذِبِهِمْ، لِيُعَظِّمُوا الْأَمْرَ -وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَظِيمٌ-وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ هَذَا الَّذِي اخْتَلَقُوهُ وَكَذَبُوهُ، وَقَدْ وَقَعَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ [ذَلِكَ] (3) -قُتِلَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّهُ قَدْ قُتِلَ أَبُوهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَقَعْ (4) [شَيْءٌ مِنْ] (5) ذَلِكَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ قُتِلَ مَحْصُورًا مَظْلُومًا، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قُتِلَ فِي الْمِحْرَابِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَكَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ تَطْرُقْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَيِّدُ الْبَشَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَوْمَ مَاتَ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوهُ. وَيَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ النَّاسُ: [الشَّمْسُ] (6) خَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم صلاة الْكُسُوفِ، وَخَطَبَهُمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ (7) .
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} يَمْتَنُّ عَلَيْهِمْ تَعَالَى بِذَلِكَ، حَيْثُ أَنْقَذَهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ إِهَانَةِ فِرْعَوْنَ وَإِذْلَالِهِ لَهُمْ، وَتَسْخِيرِهِ إِيَّاهُمْ فِي (8) الْأَعْمَالِ الْمُهِينَةِ الشَّاقَّةِ.
وَقَوْلُهُ: {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا [مِنَ الْمُسْرِفِينَ] } (9) أَيْ: مُسْتَكْبِرًا جَبَّارًا عَنِيدًا، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ [وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا] (10) } [الْقِصَصِ: 4] .
وَقَوْلُهُ: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 46] ، [وَقَوْلُهُ {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} ] (11) [الْعَنْكَبُوتِ: 39] ، [فَكَانَ فِرْعَوْنَ] سِرفًا (12) فِي أَمْرِهِ، سَخِيفَ الرَّأْيِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: {اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} عَلَى مَنْ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَيْهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: اخْتِيرُوا عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ ذَلِكَ. وكان يقال: إن
__________
(1) في ت، م: "الحسين".
(2) في ت: "وذكر".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت، أ: "يكن".
(5) زيادة من ت، أ.
(6) زيادة من ت، وفي أ: "خسفت الشمس".
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (1043) ومسلم في صحيحه برقم (915) .
(8) في أ: "من".
(9) زيادة من أ.
(10) زيادة من أ.
(11) [فكان فرعون] زيادة من ت، أ.
(12) في ت، أ: "مسرفا".(7/255)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
لِكُلِّ زَمَانٍ عَالَمًا. وَهَذِهِ (1) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الْأَعْرَافِ: 144] أَيْ: أَهْلِ زَمَانِهِ، وَكَقَوْلِهِ لِمَرْيَمَ: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 42] أَيْ: فِي زَمَانِهَا؛ فَإِنَّ خَدِيجَةَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَكَذَا آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، أَوْ مُسَاوِيَةٌ لَهَا فِي الْفَضْلِ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.
وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ} أَيْ: [مِنَ] (2) الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ {مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} أَيِ: اخْتِبَارٌ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ لِمَنِ اهْتَدَى بِهِ.
{إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) }
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْمَعَادَ، وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَلَا حَيَاةَ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَلَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ. وَيَحْتَجُّونَ بِآبَائِهِمُ الْمَاضِينَ الَّذِينَ ذَهَبُوا فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَإِنْ كَانَ الْبَعْثُ حَقًّا {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَهَذِهِ حُجَّةٌ بَاطِلَةٌ وَشُبْهَةٌ فَاسِدَةٌ، فَإِنَّ الْمَعَادَ إِنَّمَا هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَا فِي هَذِهِ الدَّارِ، [بَلْ] (3) بَعْدَ انْقِضَائِهَا وَذَهَابِهَا وَفَرَاغِهَا يُعِيدُ اللَّهُ الْعَالَمِينَ خَلْقًا جَدِيدًا، وَيَجْعَلُ الظَّالِمِينَ لِنَارِ جَهَنَّمَ وقودًا، يوم تكون (4) شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا لَهُمْ، وَمُتَوَعِّدًا وَمُنْذِرًا لَهُمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، كَمَا حَلَّ بِأَشْبَاهِهِمْ (5) وَنُظَرَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَكَقَوْمِ تُبَّعٍ -وَهُمْ سَبَأٌ-حَيْثُ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ وخَرَّب بِلَادَهُمْ، وَشَرَّدَهُمْ فِي الْبِلَادِ، وَفَرَّقَهُمْ شَذَرَ مَذَرَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ، وَهِيَ مُصَدَّرة بِإِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمَعَادِ. وَكَذَلِكَ هَاهُنَا شَبَّهَهُمْ بِأُولَئِكَ، وَقَدْ كَانُوا عَرَبًا مِنْ قَحْطَانَ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ عَرَبٌ مِنْ عَدْنَانَ، وَقَدْ كَانَتْ حِمْيَرُ -وَهُمْ سَبَأٌ-كُلَّمَا مَلَكَ فِيهِمْ رَجُلٌ سَمَّوْهُ تُبَّعًا، كَمَا يُقَالُ: كِسْرَى لِمَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ، وَقَيْصَرُ لِمَنْ مَلَكَ الرُّومَ، وَفِرْعَوْنُ لِمَنْ مَلَكَ مِصْرَ كَافِرًا، وَالنَّجَاشِيُّ لِمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَعْلَامِ الْأَجْنَاسِ. وَلَكِنِ اتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ تَبَابِعَتِهِمْ خَرَجَ مِنَ الْيَمَنِ وَسَارَ فِي الْبِلَادِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَاشْتَدَّ (6) مُلْكُهُ وَعَظُمَ سُلْطَانُهُ وَجَيْشُهُ، وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَتُهُ وَبِلَادُهُ، وَكَثُرَتْ رَعَايَاهُ وَهُوَ الَّذِي مَصَّر الْحِيرَةَ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ مَرَّ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَرَادَ قِتَالَ أَهْلِهَا فَمَانَعُوهُ وَقَاتَلُوهُ بِالنَّهَارِ، وَجَعَلُوا يَقْرُونه بِاللَّيْلِ، فَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ وَكَفَّ عَنْهُمْ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ حَبْرَيْنِ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ كَانَا قَدْ نَصَحَاهُ وَأَخْبَرَاهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْبَلْدَةِ؛ فَإِنَّهَا مُهَاجَرُ نَبِيٍّ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَرَجَعَ عَنْهَا وَأَخَذَهُمَا مَعَهُ إِلَى بِلَادِ الْيَمَنِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِمَكَّةَ أَرَادَ هَدْمَ الْكَعْبَةِ فَنَهَيَاهُ [عَنْ ذَلِكَ] (7) أَيْضًا، وَأَخْبَرَاهُ بِعَظَمَةِ هَذَا الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ مِنْ بِنَايَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَأَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ عَلَى يدي
__________
(1) في م: "وهذا".
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت، أ.
(4) في ت: "تكونوا" وفي م: "تكونون".
(5) في ت: "بأشياعهم".
(6) في أ: "واستمد".
(7) زيادة من أ.(7/256)
ذَلِكَ النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَعَظَّمَهَا وَطَافَ بِهَا (1) ، وَكَسَاهَا الْمِلَاءَ وَالْوَصَائِلَ وَالْحَبِيرَ. ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ وَدَعَا أَهْلَهَا إِلَى التَّهَوُّدِ مَعَهُ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ دِينُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِيهِ مَنْ يَكُونُ عَلَى الْهِدَايَةِ قَبْلَ بَعْثَةِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَتَهَوَّدَ مَعَهُ عَامَّةُ أَهْلِ الْيَمَنِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ السِّيرَةُ (2) وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ تَرْجَمَةً حَافِلَةً، أَوْرَدَ فِيهَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِمَّا ذَكَرْنَا وَمَا لَمْ نَذْكُرْ (3) . وَذَكَرَ أَنَّهُ مَلَكَ دِمَشْقَ، وَأَنَّهُ كَانَ إِذَا اسْتَعْرَضَ الْخَيْلَ صُفَّت لَهُ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ (4) ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا أَدْرِي الْحُدُودُ طَهَّارَةٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا؟ وَلَا أَدْرِي تُبَّعٌ لَعِينًا (5) كَانَ أَمْ لَا؟ وَلَا أَدْرِي ذُو الْقَرْنَيْنِ نَبِيًّا كَانَ أَمْ مَلِكًا؟ " وَقَالَ غَيْرُهُ: "أَعُزَيْرًا كَانَ نَبِيًّا أَمْ لَا؟ ". وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمَّادٍ الظَّهْرَانِيِّ، (6) عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (7) .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ (8) . ثُمَّ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كُرَيْب، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مَرْفُوعًا: "عُزيرُ لَا أَدْرِي أَنَبِيًّا كَانَ أَمْ لَا؟ وَلَا أَدْرِي أَلَعِينٌ تُبَّع أَمْ لَا؟ " (9) .
ثُمَّ أَوْرَدَ مَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنْ سَبِّهِ وَلَعْنَتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي. وَكَأَنَّهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-كَانَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ وَتَابَعَ دِينَ الْكَلِيمِ (10) عَلَى يَدَيْ مَنْ كَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى الْحَقِّ قَبْلَ بَعْثَةِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَحَجَّ الْبَيْتَ فِي زَمَنِ الجُرهُميين، وَكَسَاهُ الْمُلَاءَ وَالْوَصَائِلَ مِنَ الْحَرِيرِ وَالْحِبَرِ وَنَحَرَ عِنْدَهُ سِتَّةَ آلَافِ بَدَنَةٍ وَعَظَّمَهُ وَأَكْرَمَهُ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الْيَمَنِ. وَقَدْ سَاقَ قِصَّتَهُ بِطُولِهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُطَوَّلَةٍ (11) مَبْسُوطَةٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَيْضًا، وَهُوَ أَثْبَتُ وَأَكْبُرُ وَأَعْلَمُ. وَكَذَا رَوَى قِصَّتَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّه، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِيهَا. وَقَدِ اخْتَلَطَ عَلَى الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ فِي بَعْضِ السِّيَاقَاتِ تَرْجَمَةُ تُبَّع هَذَا بِتَرْجَمَةِ آخَرَ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، فَإِنَّ تُبَّعًا هَذَا الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ أَسْلَمَ قَوْمُهُ عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ (12) عَادُوا بَعْدَهُ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالنِّيرَانِ، فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ، وَقَدْ بَسَطْنَا قِصَّتَهُمْ هُنَالِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَسَا تُبَّعٌ الْكَعْبَةَ، وكان سعيد ينهى عن سبه.
__________
(1) في ت: "فمعظم الكعبة فطاف بها".
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/19) .
(3) تاريخ دمشق (3/500 "القسم المخطوط") .
(4) في ت، أ: "ذؤيب".
(5) في ت: "أمينا".
(6) في م: "الطبراني".
(7) ورواه الحاكم في المستدرك (1/36) من طريق عبد الرزاق به، ورواه أبو داود في سننه برقم (4674) من طريق عبد الرزاق به إلا أنه قال: "عزيز" بدل: "ذو القرنين".
(8) قال الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/50) : "وحديث عبادة بن الصامت: "إن الحدود كفارة لأهلها" أصح وأثبت سندا" ثم ساقه من طريق البخاري بسنده إلى عبادة بن الصامت.
(9) تاريخ دمشق (3/501 "القسم المخطوط") .
(10) في ت، م، أ: "الخليل".
(11) في م: "طويلة".
(12) في ت، م، أ: "توفي".(7/257)
وتُبَّع هَذَا هُوَ تُبَّع الْأَوْسَطُ، وَاسْمُهُ أَسْعَدُ أَبُو (1) كُرَيْب بْنُ مَلْكيكرب (2) الْيَمَانِيُّ ذَكَرُوا أَنَّهُ مَلَكَ عَلَى قَوْمِهِ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتًّا (3) وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَكُنْ فِي حِمْيَرَ أَطْوَلُ مُدَّةً مِنْهُ، وَتُوُفِّيَ قَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ مِنْ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ الْحَبْرَانِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ أَنَّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ مُهَاجَرُ نَبِيٍّ آخِرٍ فِي الزَّمَانِ (4) ، اسْمُهُ أَحْمَدُ، قَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا وَاسْتَوْدَعَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَهُ وَيَرْوُونَهُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ. وَكَانَ مِمَّنْ يَحْفَظُهُ أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ الَّذِي نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِهِ، وَهُوَ:
شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدَ أنَّه ... رَسُولٌ مِنَ اللهِ بَاري النَّسَمْ ...
فَلَو مُدَّ عُمْري إِلَى عُمْرِهِ ... لَكُنْت وَزيرا لَهُ وَابْنَ عَمْ ...
وَجَاهَدْتُ بالسَّيفِ أعْدَاءَهُ ... وَفرَّجتُ عَنْ صَدْرِه كُلَّ غَمْ ...
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّهُ حُفِر قَبْرٌ بِصَنْعَاءَ فِي الْإِسْلَامِ، فَوَجَدُوا فِيهِ امْرَأَتَيْنِ صَحِيحَتَيْنِ، وَعِنْدَ رُءُوسِهِمَا لَوْحٌ مِنْ فِضَّةٍ مَكْتُوبٌ فِيهِ بِالذَّهَبِ: "هَذَا قَبْرُ حُبَّى وَلَمِيسَ -وَرُوِيَ: حُبَّى وَتُمَاضِرَ-ابْنَتَيْ تُبَّع مَاتَتَا، وَهُمَا تَشْهَدَانِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا تُشْرِكَانِ بِهِ شَيْئًا، وَعَلَى ذَلِكَ مَاتَ الصَّالِحُونَ قَبْلَهُمَا.
وَقَدْ ذَكَرَنَا فِي "سُورَةِ سَبَأٍ" شِعْرَ سَبَأٍ فِي ذَلِكَ أَيْضًا.
قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ كَعْبًا كَانَ يَقُولُ فِي تُبَّعٍ: نُعِت نَعْت الرَّجُلِ الصَّالِحِ، ذَمَّ اللَّهَ تَعَالَى قَوْمُهُ وَلَمْ يَذُمَّهُ، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن لَهِيعَة عَنْ أَبِي زُرْعَة -يَعْنِي عَمْرَو بْنَ جَابِرٍ الْحَضْرَمِيَّ-قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ".
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ لَهِيعة، بِهِ (5) .
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَزَّة، حدثنا مؤمل ابن إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سمَاك بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ" (6) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ المقْبُري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَدْرِي، تُبَّع نَبِيًّا كَانَ أَمْ غير نبي" (7) .
__________
(1) في ت: "بن".
(2) في م: "مليكرب".
(3) في ت، م، أ: "وستة".
(4) في ت، م، أ: "نبي في آخر الزمان".
(5) المسند (5/340) قال الحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف: "فيه ابن لهيعة، وعمرو بن جابر، وهما ضعيفان".
(6) المعجم الكبير (11/296) وقال الهيثمي في المجمع (8/769: "فيه أحمد بن أبي بزة المكي، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات".
(7) ورواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (3/270) من طريق عبد الرزاق بهذا اللفظ.(7/258)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
وَتَقَدَّمَ بِهَذَا السَّنَدِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ كَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ: "لَا أَدْرِي تُبَّع كَانَ لَعِينًا (1) أَمْ لَا؟ ". فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْبَدِّيِّ (2) ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ أَبُو الْهُذَيْلِ، أَخْبَرَنِي تَمِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى (3) عَنْ سَبِّهِ (4) .
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) }
__________
(1) في أ: "نبيا".
(2) في أ: "المدني".
(3) في ت، أ: "قد نهى".
(4) تفسير عبد الرزاق (2/171) .(7/259)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ وَتَنْزِيهِهِ نَفْسَهُ عَنِ اللَّعِبِ وَالْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، كَقَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] ، وَقَالَ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 115، 116] .
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَفْصِلُ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، فَيُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ وَيُثِيبُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: {مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} أَيْ: يَجْمَعُهُمْ كُلَّهُمْ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ.
{يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} أَيْ: لَا يَنْفَعُ قَرِيبٌ قَرِيبًا، كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101] ، وَكَقَوْلِهِ {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا. يُبَصَّرُونَهُمْ} [الْمَعَارِجِ: 10، 11] أَيْ: لَا يَسْأَلُ أَخًا لَهُ عَنْ حَالِهِ وَهُوَ يَرَاهُ عِيَانًا.
وَقَوْلُهُ: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أَيْ: لَا يَنْصُرُ الْقَرِيبُ قَرِيبَهُ، وَلَا يَأْتِيهِ نَصْرُهُ مِنْ خَارِجٍ.
ثُمَّ قَالَ: {إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} أَيْ: لَا يَنْفَعُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لِخَلْقِهِ (1) {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أَيْ: هُوَ عَزِيزٌ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ.
{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يُعَذِّبُ بِهِ [عِبَادَهُ] (2) الْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ لِلِقَائِهِ: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ}
__________
(1) في أ: "إلا رحمة الله بخلقه".
(2) زيادة من ت، أ.(7/259)
وَالْأَثِيمُ أَيْ: فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَهُوَ الْكَافِرُ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ أَبُو جَهْلٍ، وَلَا شَكَّ فِي دُخُولِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ (1) عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنْ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يُقْرِئُ رَجُلًا {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ} فَقَالَ: طَعَامُ الْيَتِيمِ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قُلْ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْفَاجِرِ. أَيْ: لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ غَيْرُهَا.
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَوْ وَقَعَتْ مِنْهَا قَطْرَةٌ فِي (2) الْأَرْضِ لَأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَعَايِشَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُهُ مَرْفُوعًا.
وَقَوْلُهُ: {كَالْمُهْلِ} قَالُوا: كَعَكَرِ الزَّيْتِ {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} أَيْ: مِنْ حَرَارَتِهَا وَرَدَاءَتِهَا.
وَقَوْلُهُ: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} أَيْ: [خُذُوا] (3) الْكَافِرَ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا قَالَ لِلزَّبَانِيَةِ {خُذُوهُ} ابْتَدَرَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْهُمْ.
{فَاعْتِلُوهُ} أَيْ: سُوقُوهُ سَحْبًا وَدَفْعًا فِي ظَهْرِهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} أَيْ: خُذُوهُ فَادْفَعُوهُ.
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
لَيسَ الكِرَامُ بِنَاحِلِيكَ أَبَاهُمُ ... حَتَّى تُرَدَّ إِلَى عَطيَّة تُعْتَلُ (4) (5)
{إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} أَيْ: وَسَطِهَا.
{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} كَقَوْلِهِ {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الْحَجِّ: 19، 20] .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَلَكَ يَضْرِبُهُ بِمِقْمَعَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، تَفْتَحُ (6) دِمَاغَهُ، ثُمَّ يُصَبُّ الْحَمِيمُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَنْزِلُ فِي بَدَنِهِ، فَيَسْلِتُ مَا فِي بَطْنِهِ مِنْ أَمْعَائِهِ، حَتَّى تَمْرُقَ (7) مِنْ كَعْبَيْهِ -أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} أَيْ: قُولُوا لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ وَالتَّوْبِيخِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ لَسْتَ بِعَزِيزٍ وَلَا كَرِيمٍ.
وَقَدْ قَالَ (8) الْأُمَوِيُّ فِي مُغَازِيهِ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا جَهْلٍ -لَعَنَهُ اللَّهُ-فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ لَكَ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [الْقِيَامَةِ: 34، 35] قَالَ: فَنَزَعَ ثَوْبَهُ مِنْ يَدِهِ (9) وَقَالَ: مَا تَسْتَطِيعُ لِي أَنْتَ وَلَا صَاحِبُكَ مِنْ شَيْءٍ. وَلَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي أَمْنَعُ (10) أَهْلِ الْبَطْحَاءِ، وَأَنَا الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. قَالَ: فَقَتَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ وَأَذَلَّهُ وَعَيَّرَهُ بِكَلِمَتِهِ، وَأَنْزَلَ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (11) .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} ، كَقَوْلِهِ {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور: 13 -15] ،
__________
(1) في ت: "وروى ابن جرير بإسناده".
(2) في ت: "على".
(3) زيادة من ت.
(4) في أ: "مقتل".
(5) البيت في تفسير الطبري (25/80) .
(6) في أ: "فيفتح".
(7) في أ: "يمزق".
(8) في ت: "روى".
(9) في ت، أ: "بدنه".
(10) في ت: "أني من أمنع".
(11) ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/418) وهو مرسل.(7/260)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) }
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ عَطَفَ بِذِكْرِ [حَالِ] (1) السُّعَدَاءِ -وَلِهَذَا سُمّي الْقُرْآنُ مَثَانِيَ-فَقَالَ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أَيْ: لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} أَيْ: فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، قَدْ أَمِنُوا فِيهَا مِنَ الْمَوْتِ وَالْخُرُوجِ، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ وَحُزْنٍ وَجَزَعٍ (2) وَتَعَبٍ وَنَصَبٍ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ، وَسَائِرِ الْآفَاتِ وَالْمَصَائِبِ.
{فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا أُولَئِكَ فِيهِ مِنْ شَجَرِ (3) الزَّقُّومِ، وَشُرْبِ الْحَمِيمِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} وَهُوَ: رَفِيعُ الْحَرِيرِ، كَالْقُمْصَانِ وَنَحْوِهَا (4) {وَإِسْتَبْرَقٍ} وَهُوَ مَا فِيهِ بَرِيقٌ وَلَمَعَانٌ وَذَلِكَ كَالرِّيَاشِ، وَمَا يُلْبَسُ عَلَى أَعَالِي الْقُمَاشِ، {مُتَقَابِلِينَ} أَيْ: عَلَى السُّرُرِ لَا يَجْلِسُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَظَهْرُهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أَيْ: هَذَا الْعَطَاءُ مَعَ مَا قَدْ مَنَحْنَاهُمْ مِنَ الزَّوْجَاتِ الْحُورِ الْعِينِ الْحِسَانِ اللَّاتِي {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرَّحْمَنِ: 56، 74] {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرَّحْمَنِ: 58] {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ} [الرَّحْمَنِ: 60] .
قَالَ (5) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ مُزَاحِمٍ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ -رَفَعَهُ نُوحٌ-قَالَ: لَوْ أَنَّ حَوْرَاءَ بَزَقَت فِي بَحْرٍ لُجِّي، لعَذُبَ ذَلِكَ الْمَاءُ لِعُذُوبَةِ رِيقِهَا (6) .
وَقَوْلُهُ: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} أَيْ: مَهْمَا طَلَبُوا مِنْ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ أُحْضِرَ لَهُمْ، وَهُمْ آمِنُونَ مِنِ انْقِطَاعِهِ وَامْتِنَاعِهِ، بَلْ يَحْضُرُ إِلَيْهِمْ (7) كُلَّمَا أَرَادُوا.
وَقَوْلُهُ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى} هَذَا اسْتِثْنَاءٌ يُؤَكِّدُ النَّفْيَ، فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أَبَدًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا (8) مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا (9) مَوْتَ" وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ (10) .
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في م: "وجوع".
(3) في ت، م: "شرب".
(4) في ت: "وغيرها".
(5) في ت: "وروى".
(6) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (386) من وجه آخر، فرواه من طريق محمد بن إسماعيل الحساني، عن منصور الواسطي، عن أبي النصر الأبار، عن أنس مرفوعا بنحوه.
(7) في ت، م، أ: "لهم".
(8) في أ: "بلا".
(9) في أ: "بلا".
(10) انظر: تخريج الحديث عند الآية: 39 من سورة مريم.(7/261)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: إِنْ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَعِيشُوا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأسوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ (1) .
هَكَذَا يَقُولُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ "أَبُو مُسْلِمٍ الْأَغَرُّ"، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: "أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرُّ" (2) .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَان، عَنِ الْحَجَّاجِ -هُوَ ابْنُ حَجَّاجٍ (3) -عَنْ عُبَادَةَ (4) ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنِ اتَّقَى اللَّهَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، يَنْعَمُ فِيهَا وَلَا يَبْأَسُ، وَيَحْيَا فِيهَا فَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ" (5) .
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ الرَّبِيعِ الْكُوفِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِر، عَنْ جَابِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سُئل نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: "النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ" (6) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُرْدَويه فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ صَدَقَةَ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْمِقْدَامُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمنكَدِر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ" (7) .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفِريابي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "لَا النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ" ثُمَّ قَالَ: "لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ إِلَّا الثَّوْرِيَّ، وَلَا عَنِ الثَّوْرِيِّ، إِلَّا الْفِرْيَابِيَّ" (8) هَكَذَا قَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أَيْ: مَعَ هَذَا النَّعِيمِ الْعَظِيمِ الْمُقِيمِ قَدْ وَقَاهُمْ، وَسَلَّمَهُمْ وَنَجَّاهُمْ وَزَحْزَحَهُمْ مِنَ (9) الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي دَرَكَاتِ الْجَحِيمِ، فَحَصَلَ لَهُمُ المطلوب، ونجاهم من المرهوب؛
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2837) .
(2) والأول هو الصواب كما بين ذلك الإمام المزي في تهذيب الكمال.
(3) في أ: "الحجاج".
(4) في م، أ: "قتادة".
(5) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4895) "مجمع البحرين" من طريق أحمد بن حفص به.
(6) المعجم الأوسط برقم (4875) "مجمع البحرين" وفي إسناده مصعب بن إبراهيم العبسي، منكر الحديث.
(7) ورواه أبو نعيم في الحلية (7/90) من طريق أحمد بن القاسم عن المقدام بن داود به، وقال: "غريب من حديث الثوري، تفرد به عبد الله".
(8) مسند البزار برقم (3517) "كشف الأستار" قال الهيثمي في المجمع (10/415) : "رجال البزار رجال الصحيح".
(9) في ت: "عن".(7/262)
وَلِهَذَا قَالَ: {فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أَيْ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا (1) بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (2) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اعْمَلُوا وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا لَنْ يُدخله عَمَلُهُ الْجَنَّةَ" قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يتغمَّدني اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ" (3) .
وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ: إِنَّمَا يَسَّرْنَا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ سَهْلًا وَاضِحًا بَيِّنًا جَلِيًّا بِلِسَانِكَ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَجْلَاهَا وَأَحْلَاهَا وَأَعْلَاهَا {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ: يَتَفَهَّمُونَ وَيَعْمَلُونَ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَفَرَ وَخَالَفَ وَعَانَدَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُسَلِّيًا لَهُ وَوَاعِدًا لَهُ بِالنَّصْرِ، وَمُتَوَعِّدًا لِمَنْ كَذَّبَهُ بِالْعَطَبِ وَالْهَلَاكِ: {فَارْتَقِبْ} أَيِ: انْتَظِرْ {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} أَيْ: فَسَيَعْلَمُونَ (4) لِمَنْ يَكُونُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وعُلُو الْكَلِمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ وَلِإِخْوَانِكَ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَمَنِ اتَّبَعَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الْمُجَادَلَةِ: 21] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غَافِرٍ: 51، 52] .
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الدُّخَانِ، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة
__________
(1) في ت: "ذلك".
(2) في أ: "الصحيحين".
(3) صحيح البخاري برقم (6467) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(4) في م: "فستعلمون".(7/263)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) }
يُرشد تَعَالَى خَلْقَهُ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي آلَائِهِ وَنِعَمِهِ، وَقُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي خَلَقَ بِهَا السَّمَوَاتِ الْأَرْضَ، وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ، وَمَا فِي الْبَحْرِ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي تَعَاقُبِهِمَا دَائِبَيْنِ لَا يَفْتُرَانِ، هَذَا بِظَلَامِهِ وَهَذَا بِضِيَائِهِ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ السَّحَابِ مِنَ الْمَطَرِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَسَمَّاهُ رِزْقًا؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الرِّزْقُ، {فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أَيْ: بَعْدَ مَا كَانَتْ هَامِدَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شَيْءَ.
وَقَوْلُهُ: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} أَيْ: جَنُوبًا وَشَآمًا (1) ، وَدَبُورًا وَصَبًا، بَحْرِيَّةً وَبَرِّيَّةً، لَيْلِيَّةً وَنَهَارِيَّةً. وَمِنْهَا مَا هُوَ لِلْمَطَرِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ لِلِّقَاحِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غِذَاءٌ لِلْأَرْوَاحِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَقِيمٌ [لَا يَنْتِجُ] (2) .
وَقَالَ أَوَّلًا {لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} (3) ، ثُمَّ {يُوقِنُونَ} ثُمَّ {يَعْقِلُونَ} وَهُوَ تَرَقٍّ مِنْ حَالٍ شَرِيفٍ إِلَى مَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَأَعْلَى. وَهَذِهِ الْآيَاتُ شَبِيهَةٌ بِآيَةِ "الْبَقَرَةِ" وَهِيَ قَوْلُهُ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الْبَقَرَةِ: 164] . وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّه أَثَرًا طَوِيلًا غَرِيبًا فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ.
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) }
__________
(1) في ت، أ: "وشمالا".
(2) زيادة من ت، م، أ.
(3) في ت، أ: "لقوم يؤمنون" وهو خطأ.(7/264)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
يَقُولُ تَعَالَى: هَذِهِ آيَاتُ اللَّهِ -يَعْنِي الْقُرْآنَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ- {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أَيْ: مُتَضَمِّنَةً الْحَقَّ مِنَ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَلَا يَنْقَادُونَ لَهَا، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ؟!
ثُمَّ قَالَ: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أَيْ: أَفَّاكٍ فِي قَوْلِهِ كَذَّابٍ، حَلَّافٍ مَهِينٍ أَثِيمٍ فِي فِعْلِهِ وَقِيلِهِ (1) كَافِرٍ بِآيَاتِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} أَيْ: تُقْرَأُ عَلَيْهِ {ثُمَّ يُصِرُّ} أَيْ: عَلَى كُفْرِهِ وَجُحُودِهِ اسْتِكْبَارًا وَعِنَادًا {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} أَيْ: كَأَنَّهُ مَا سَمِعَهَا، {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [أَيْ] (2) فَأَخْبِرْهُ أَنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابًا أَلِيمًا مُوجِعًا.
{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا} أَيْ: إِذَا حَفِظَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ كَفَرَ بِهِ وَاتَّخَذَهُ سُخْرِيًّا وَهُزُوًا، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أَيْ: فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَهَانَ بِالْقُرْآنِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ؛ وَلِهَذَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إن يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ (3) .
ثُمَّ فَسَّرَ الْعَذَابَ الْحَاصِلَ لَهُ يَوْمَ مَعَادِهِ (4) فَقَالَ: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} أَيْ: كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ سَيَصِيرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا} أَيْ: لَا تَنْفَعُهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، {وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} أَيْ: وَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ شَيْئًا، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {هَذَا هُدًى} يَعْنِي الْقُرْآنَ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} وَهُوَ الْمُؤْلِمُ (5) الْمُوجِعُ.
{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) }
__________
(1) في ت، أ: "وقلبه".
(2) زيادة من ت، م.
(3) صحيح مسلم برقم (1869) .
(4) في أ: "القيامة".
(5) في أ: "المقلق".(7/265)
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) }
يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْبَحْرِ {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} ، وَهِيَ السُّفُنُ فِيهِ بِأَمْرِهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ الْبَحْرَ أَنْ يَحْمِلَهَا {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أَيْ: فِي الْمَتَاجِرِ وَالْمَكَاسِبِ، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ: عَلَى حُصُولِ الْمَنَافِعِ الْمَجْلُوبَةِ إِلَيْكُمْ مِنَ الْأَقَالِيمِ النَّائِيَةِ وَالْآفَاقِ الْقَاصِيَةِ.(7/265)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أَيْ: مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْجِبَالِ، وَالْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَجَمِيعِ مَا تَنْتَفِعُونَ بِهِ، أَيِ: الْجَمِيعُ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَامْتِنَانِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {جَمِيعًا مِنْهُ} أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النَّحْلِ: 53] .
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} كُلُّ شَيْءٍ هُوَ مِنَ اللَّهِ، وَذَلِكَ الِاسْمُ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَذَلِكَ جَمِيعًا مِنْهُ، وَلَا يُنَازِعُهُ فِيهِ الْمُنَازِعُونَ، وَاسْتَيْقَنَ أَنَّهُ كَذَلِكَ.
وَقَالَ (1) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَف الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا الفِرْياني، عَنْ سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ المِنْهال بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي أَرَاكَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: مِمَّ خُلِقَ الْخَلْقُ؟ قَالَ: مِنَ النُّورِ وَالنَّارِ، وَالظُّلْمَةِ وَالثَّرَى. قَالَ وَائْتِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَاسْأَلْهُ. فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَسَلْهُ: مِمَّ خُلِقَ ذَلِكَ كُلُّهُ؟ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ، فَتَلَا {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} هَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ نَكَارَةٌ.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
وَقَوْلُهُ: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} أَيْ: يَصْفَحُوا عَنْهُمْ وَيَحْمِلُوا (2) الْأَذَى مِنْهُمْ. وَهَذَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، أُمِرُوا أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ لِتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ (3) ، ثُمَّ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ شَرَعَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْجِلَادَ وَالْجِهَادَ. هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ [فِي قَوْلِهِ] (4) {لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} لَا يُبَالُونَ (5) نِعَمَ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أَيْ: إِذَا صَفَحُوا (6) عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ اللَّهَ مُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ فِي الْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أَيْ: تَعُودُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُعْرَضُونَ بِأَعْمَالِكُمْ [عَلَيْهِ] (7) فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) }
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) في أ: "ويحتملوا".
(3) في ت، م، أ: "كالتأليف لهم".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "ينالون".
(6) في أ: "أي اصفحوا".
(7) زيادة من ت، م، أ.(7/266)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ إِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَجَعْلِهِ الْمُلْكَ فِيهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أَيْ: مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أَيْ: فِي زَمَانِهِمْ.
{وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ} أَيْ: حُجَجًا وَبَرَاهِينَ وَأَدِلَّةً قَاطِعَاتٍ، فَقَامَتْ (1) عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَغْيًا مِنْهُمْ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا، {إِنَّ رَبَّكَ} يَا مُحَمَّدُ {يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَيْ: سَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ. وَهَذَا فِيهِ تَحْذِيرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ تَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ، وَأَنْ تَقْصِدَ مَنْهَجَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا} أَيِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ هَاهُنَا: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أَيْ: وَمَاذَا تُغْنِي (2) عَنْهُمْ وِلَايَتُهُمْ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَإِنَّهُمْ لَا يَزِيدُونَهُمْ إِلَّا خَسَارًا وَدَمَارًا وَهَلَاكًا، {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} ، وَهُوَ تَعَالَى يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ.
ثُمَّ قَالَ: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) }
__________
(1) في ت: "فقامت به".
(2) في ت: "وما يغني".(7/267)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) }
يَقُولُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، كَمَا قَالَ: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الْحَشْرِ: 20] وَقَالَ هَاهُنَا: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} أَيْ: عَمِلُوهَا وَكَسَبُوهَا {أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} أَيْ: نُسَاوِيهِمْ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ! {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ: سَاءَ مَا ظَنُّوا بِنَا وَبِعَدْلِنَا أَنْ نُسَاوي بَيْنَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَفِي هَذِهِ الدَّارِ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُؤمَّل بْنُ إهابَ، حَدَّثَنَا بُكَير (1) بْنُ عُثْمَانَ التَّنُوخِي، حَدَّثَنَا الوَضِين بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَرْثَد الْبَاجِيِّ (2) ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَنَى دِينَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَيْهِنَّ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِنَّ لَقِيَ اللَّهَ [وَهُوَ] (3) مِنَ الْفَاسِقِينَ. قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا أَبَا ذَرٍّ؟ قَالَ: يُسْلِمُ حَلَالَ اللَّهِ لِلَّهِ، وَحَرَامَ اللَّهِ لِلَّهِ، وَأَمْرَ اللَّهِ لِلَّهِ، وَنَهْيَ اللَّهِ لله، لا يؤتمن عليهن إلا الله.
__________
(1) في أ: "بكر".
(2) في ت: "وروى الحافظ أبو يعلى بإسناده".
(3) زيادة من ت.(7/267)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَمَا أَنَّهُ لَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ (1) الْعِنَبُ، كَذَلِكَ لَا يَنَالُ الْفُجَّارُ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ" (2) .
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ "السِّيرَةُ" أَنَّهُمْ وَجَدُوا حَجَرًا بِمَكَّةَ فِي أسِّ الْكَعْبَةِ مَكْتُوبٌ (3) عَلَيْهِ: تَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَتَرْجُونَ الْحَسَنَاتِ؟ أَجَلْ كَمَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ (4) .
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ (5) ، أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}
، وَقَالَ (6) {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ} أَيْ: بِالْعَدْلِ، {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (7) .
ثُمَّ قَالَ [تَعَالَى] (8) {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أَيْ: إِنَّمَا يَأْتَمِرُ بِهَوَاهُ، فَمَهْمَا رَآهُ حَسَنًا فَعَلَهُ، وَمَهْمَا رَآهُ قَبِيحًا تَرَكَهُ: وَهَذَا قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ.
وَعَنْ مَالِكٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ التَّفْسِيرِ: لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا عَبَدَهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ:
أحدها (9) وَأَضَلَّهُ اللَّهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ. وَالْآخَرُ: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ إِلَيْهِ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ، وَلَا يَنْعَكِسُ.
{وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} أَيْ: فَلَا يَسْمَعُ مَا يَنْفَعُهُ، وَلَا يَعِي شَيْئًا يَهْتَدِي بِهِ، وَلَا يَرَى حُجَّةً يَسْتَضِيءُ بِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} كَقَوْلِهِ: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ (10) وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْأَعْرَافِ: 186] .
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي إِنْكَارِ الْمَعَادِ: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا}
__________
(1) في ت: "الشوكة".
(2) وذكره ابن حجر في المطالب العالية (3/154) وعزاه لأبي يعلى، وأظنه في الكبير، ويزيد بن مرثد الهمداني روايته عن أبي ذر مرسله. تنبيه: وقع هنا "الباجي" ولم يقع لي هذه النسبة له.
(3) في ت، م: "مكتوبا" وهو الصواب.
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/196) .
(5) في ت: "وقد روى الطبراني بسنده".
(6) في ت، م، أ: "وقوله".
(7) المعجم الكبير (2/50) .
(8) زيادة من ت.
(9) في أ: "أحدهما".
(10) في ت، م: "وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" وهو خطأ.(7/268)
أَيْ: مَا ثَمَّ إِلَّا هَذِهِ الدَّارُ، يَمُوتُ قَوْمٌ وَيَعِيشُ آخَرُونَ وَمَا ثَمَّ مَعَادٌ وَلَا قِيَامَةٌ وَهَذَا يَقُولُهُ مُشْرِكُو (1) الْعَرَبِ الْمُنْكِرُونَ لِلْمَعَادِ، وَيَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الْإِلَهِيُّونَ مِنْهُمْ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ الْبُدَاءَةَ (2) وَالرَّجْعَةَ، وَيَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ الدَّوْرِيَّةُ الْمُنْكِرُونَ لِلصَّانِعِ الْمُعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَعُودُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا قَدْ تَكَرَّرَ مَرَّاتٍ لَا تَتَنَاهَى، فَكَابَرُوا الْمَعْقُولَ (3) وَكَذَّبُوا الْمَنْقُولَ، وَلِهَذَا قَالُوا (4) {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} أَيْ: يَتَوَهَّمُونَ وَيَتَخَيَّلُونَ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ، أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ" (5) وَفِي رِوَايَةٍ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ" (6) .
وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِسِيَاقٍ غَرِيبٍ جِدًّا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّمَا يُهْلِكُنَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَهُوَ الَّذِي يُهْلِكُنَا، يُمِيتُنَا وَيُحْيِينَا، فَقَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} قَالَ: "وَيَسُبُّونَ الدَّهْرَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" (7) .
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ شُرَيْح بْنِ النُّعْمَانِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مِثْلَهُ: ثُمَّ رُوِيَ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ".
وَأَخْرَجَهُ (8) صَاحِبَا الصَّحِيحِ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ زَيْدٍ، بِهِ (9) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ: اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُعْطِنِي، وسَبّنِي عَبْدِي، يَقُولُ: وَادَهْرَاهُ. وَأَنَا الدَّهْرُ" (10) .
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ": كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا إِذَا أَصَابَهُمْ شِدَّةٌ أَوْ بلاء أو نكبة، قالوا: يا
__________
(1) في أ: "منكرو".
(2) في أ: "البداوة".
(3) في ت، أ: "وكابروا العقول".
(4) في ت، أ: "قال".
(5) صحيح البخاري برقم (4826) وصحيح مسلم برقم (2246) وسنن أبي داود برقم (5274) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11687) .
(6) صحيح مسلم برقم (2246) .
(7) تفسير الطبري (25/92) .
(8) في ت: "أخرجاه" وهو خطأ، والصواب: "أخرجه"؛ حتى لا يجتمع عاملان على معمول واحد.
(9) صحيح البخاري برقم (6181) وصحيح مسلم برقم (2246) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11686) .
(10) رواه الطبري في تفسيره (25/92) من طريق سلمة عن محمد بن إسحاق به، وخالفه يزيد بن هارون، فرواه عن محمد ابْنَ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هريرة، به وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/453) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم".(7/269)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
خَيْبَةَ الدَّهْرِ. فَيُسْنِدُونَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ إِلَى الدَّهْرِ وَيَسُبُّونَهُ، وَإِنَّمَا فَاعِلُهَا هُوَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (1) فَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَبُّوا، اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ فَاعِلُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَلِهَذَا نُهي (2) عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ الَّذِي يَعْنُونَهُ، وَيُسْنِدُونَ إِلَيْهِ تِلْكَ الْأَفْعَالَ.
هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ غَلِطَ ابْنُ حَزْمٍ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ فِي عَدِّهِمُ الدَّهْرَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، أَخْذًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ. .
وَقَوْلُهُ (3) تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} (4) أَيْ: إِذَا اسْتُدِلَّ عَلَيْهِمْ وَبُيِّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، وَأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَبْدَانِ بَعْدَ فَنَائِهَا وَتَفَرُّقِهَا، {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ: أَحْيَوْهُمْ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَهُ حَقًّا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} أَيْ: كَمَا تُشَاهِدُونَ ذَلِكَ يُخْرِجُكُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 28] أَيِ: الَّذِي قَدَرَ عَلَى الْبُدَاءَةِ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.. {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ 27] ، {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} أَيْ: إِنَّمَا يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُعِيدُكُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى تَقُولُوا: {ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} [التَّغَابُنِ: 9] (5) {لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. لِيَوْمِ الْفَصْلِ} [الْمُرْسَلَاتِ: 12، 13] ، {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ} [هُودٍ: 104] وَقَالَ هَاهُنَا: {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} أَيْ: لَا شَكَّ فِيهِ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ: فَلِهَذَا يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ، وَيَسْتَبْعِدُونَ قِيَامَ الْأَجْسَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [الْمَعَارِجِ: 6، 7] أَيْ: يَرَوْنَ وُقُوعَهُ بَعِيدًا، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ ذَلِكَ سَهْلًا قَرِيبًا.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) }
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَالِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، الْحَاكِمُ فِيهِمَا (6) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} أَيْ: يَوْمَ (7) الْقِيَامَةِ {يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} وَهُمُ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ الْجَاحِدُونَ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قَدِمَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْمَدِينَةَ، فَسَمِعَ الْمُعَافِرِيَّ (8) يَتَكَلَّمُ بِبَعْضِ مَا يَضْحَكُ بِهِ النَّاسُ. فَقَالَ لَهُ: يَا شَيْخُ، أَمَّا عَلِمْتَ أَنَّ لِلَّهِ يَوْمًا يَخْسَرُ فِيهِ الْمُبْطِلُونَ؟ قَالَ: فَمَا زَالَتْ تُعْرَفُ فِي الْمُعَافِرِيِّ (9) حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، عز وجل. ذكره ابن أبي حاتم.
__________
(1) زيادة من ت، م.
(2) في أ: "أنهى".
(3) في ت: "وقال".
(4) في م: "عليه" وهو خطأ.
(5) في ت: "الفصل" وهو خطأ.
(6) في م: "فيما".
(7) في ت، أ: "تقوم".
(8) في ت، م، أ: "العاضري".
(9) في ت، م، أ: "العاضري".(7/270)
ثُمَّ قَالَ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} أَيْ: عَلَى رُكَبِهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْعَظَمَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّ هَذَا [يَكُونُ] (1) إِذَا جِيءَ بِجَهَنَّمَ فَإِنَّهَا تَزْفِرُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ، وَيَقُولُ: نَفْسِي، نَفْسِي، نَفْسِي لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، وَحَتَّى أَنَّ عِيسَى لَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، لَا أَسْأَلُكَ [الْيَوْمَ] (2) مَرْيَمَ الَّتِي وَلَدَتْنِي.
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} أَيْ: عَلَى الرُّكَبِ. وَقَالَ عِكْرِمة: {جَاثِيَةً} مُتَمَيِّزَةً عَلَى نَاحِيَتِهَا، (3) وَلَيْسَ عَلَى الرُّكَبِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ (4) ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (5) قَالَ: "كَأَنِّي أَرَاكُمْ جَاثِينَ بِالْكَوَمِ دُونَ جَهَنَّمَ" (6) .
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ الْمَدِينِيُّ (7) ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَرْفُوعًا فِي حَدِيثِ الصُّورَةِ (8) : فَيَتَمَيَّزُ النَّاسُ وَتَجْثُو الْأُمَمُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} (9) .
وَهَذَا فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ: وَلَا مُنَافَاةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} يَعْنِي: كِتَابَ أَعْمَالِهَا، كَقَوْلِهِ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزُّمَرِ: 69] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ: تُجَازَوْنَ بِأَعْمَالِكُمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ. بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [الْقِيَامَةِ: 13 -15] .
ثُمَّ قَالَ: {هَذَا (10) كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} أَيْ: يَسْتَحْضِرُ (11) جَمِيعَ أَعْمَالِكُمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ (12) ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 49] .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ: إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُ الْحَفَظَةَ أَنْ تَكْتُبَ أَعْمَالَكُمْ عَلَيْكُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: تَكْتُبُ الْمَلَائِكَةُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، ثُمَّ تَصْعَدُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُقَابِلُونَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ فِي دِيوَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا قَدْ أُبْرِزَ لَهُمْ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ، مِمَّا كَتَبَهُ (13) اللَّهُ فِي الْقِدَمِ عَلَى الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، فَلَا يَزِيدُ حَرْفًا وَلَا يَنْقُصُ حَرْفًا، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "ناصيتها".
(4) في ت: "وقال ابن أبي حاتم بإسناده".
(5) زيادة من ت.
(6) ورواه أبو نعيم في زوائد زهد ابن المبارك برقم (360) وأبو نعيم في الحلية (7/299) من طريق سفيان بن عيينة به.
(7) في أ: "المدني".
(8) في ت، م، أ: "الصور".
(9) انظر تفسير حديث الصور عند الآية: 73 من سورة الأنعام.
(10) في ت، م، أ: "ولهذا" وهو خطأ.
(11) في أ: "سيحضر".
(12) في م: "نقصان".
(13) في أ: "مما قد كتبه".(7/271)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) }(7/272)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السمواتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حُكْمِهِ فِي خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ: آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَعَمِلَتْ جَوَارِحُهُمُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ (1) ، وَهِيَ الْخَالِصَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلشَّرْعِ، {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} ، وَهِيَ الْجَنَّةُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِلْجَنَّةِ: "أَنْتِ رَحْمَتِي، أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ" (2) .
{ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} أَيِ: الْبَيِّنُ الْوَاضِحُ.
ثُمَّ قَالَ: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ} أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا: أَمَا (3) قُرِئَتْ عَلَيْكُمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ فَاسْتَكْبَرْتُمْ عَنِ اتِّبَاعِهَا، وَأَعْرَضْتُمْ عِنْدَ (4) سَمَاعِهَا، {وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} أَيْ: فِي أَفْعَالِكُمْ، مَعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ؟
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا} أَيْ: إِذَا قَالَ لَكُمُ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ، {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} أَيْ: لَا نَعْرِفُهَا، {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا} أَيْ: إِنْ نَتَوَهَّمُ وُقُوعَهَا إِلَّا تَوَهُّمًا، أَيْ مَرْجُوحًا (5) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} أَيْ: بِمُتَحَقِّقِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} أَيْ: وَظَهَرَ لَهُمْ عُقُوبَةُ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ، {وَحَاقَ بِهِمْ} أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ: مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} أَيْ: نُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ النَّاسِي لَكُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ {كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أَيْ: فَلَمْ تَعْمَلُوا لَهُ لِأَنَّكُمْ لَمْ تُصَدِّقُوا بِهِ، {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِبَعْضِ الْعَبِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "أَلَمْ أُزَوِّجْكَ؟ أَلَمْ أُكْرِمْكَ؟
__________
(1) في ت، أ: "الصالحة".
(2) صحيح البخاري برقم (4850) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(3) في أ: "لما".
(4) في أ: "عن".
(5) في أ: "مرجوعا".(7/272)
أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَع؟ فَيَقُولُ: بَلَى، يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاقيّ؟ فَيَقُولُ: لَا. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي" (1) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} أَيْ: إِنَّمَا جَازَيْنَاكُمْ هَذَا الْجَزَاءَ لِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ حُجَجَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ سُخْرِيًّا، تَسْخَرُونَ وَتَسْتَهْزِئُونَ بِهَا، {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أَيْ: خَدَعَتْكُمْ فَاطْمَأْنَنْتُمْ إِلَيْهَا، فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} أَيْ: مِنَ النَّارِ {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أَيْ: لَا يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْعُتْبَى، بَلْ يُعَذَّبُونَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عِتَابٍ، كَمَا تَدْخُلُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَذَابٍ وَلَا حِسَابٍ.
ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ قَالَ: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السمواتِ وَرَبِّ الأرْضِ} أَيِ: الْمَالِكِ لَهُمَا وَمَا فِيهِمَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ثُمَّ قَالَ: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السمواتِ وَالأرْضِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي السُّلْطَانَ. أَيْ: هُوَ الْعَظِيمُ الْمُمَجَّدُ، الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ خَاضِعٌ لَدَيْهِ فَقِيرٌ إِلَيْهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى (2) الْعَظَمَةُ إِزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَسْكَنْتُهُ نَارِي". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَحْوِهِ (3) .
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أَيِ: الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، {الْحَكِيمُ} فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (4) .
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ [وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ] (5)
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2968) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(2) في ت: "أن الله تعالى يقول".
(3) صحيح مسلم برقم (2620) .
(4) في أ: "لا إله غيره ولا رب سواه".
(5) زيادة من ت، م، أ.(7/273)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْأَحْقَافِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) }(7/274)
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ نَزَّلَ الْكِتَابَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِزَّةِ الَّتِي لَا تُرَامُ، وَالْحِكْمَةِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، ثُمَّ قَالَ: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} أَيْ: لَا عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} أَيْ: إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مَضْرُوبَةٍ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ.
قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} أَيْ: لَاهُونَ (1) عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ، وَقَدْ أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا وَأُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ، وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَيْ: وَسَيَعْلَمُونَ غِبَّ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: {قُلْ} أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْعَابِدِينَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ: {أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ} أَيْ: أَرْشِدُونِي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي اسْتَقَلُّوا بِخَلْقِهِ مِنَ الْأَرْضِ، {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} أَيْ: وَلَا شِرْكَ لَهُمْ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَمَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنِ المُلْك والتصرّف كله إلا الله، عَزَّ وَجَلَّ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَتُشْرِكُونَ بِهِ؟ مَنْ أَرْشَدَكُمْ إِلَى هَذَا؟ مَنْ دَعَاكُمْ إِلَيْهِ؟ أَهْوَ أَمَرَكُمْ بِهِ؟ أَمْ هُوَ شَيْءٌ اقْتَرَحْتُمُوهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ؟ وَلِهَذَا قَالَ: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} أَيْ: هَاتُوا كِتَابًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ (2) ، عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يَأْمُرُكُمْ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أَيْ: دَلِيلٍ بَيِّن عَلَى هَذَا الْمَسْلَكِ الَّذِي سَلَكْتُمُوهُ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ: لَا دَلِيلَ لَكُمْ نَقْلِيًّا وَلَا عَقْلِيًّا عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَرَأَ آخَرُونَ: "أَوْ أثَرَة مِنْ عِلْمٍ" أَيْ: أَوْ عِلْمٍ صَحِيحٍ يَأْثُرُونَهُ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أَوْ أحد يأثُر علما.
__________
(1) في ت، م، أ: "لاهين".
(2) في ت، م، أ: "هاتوا كتابا من الكتب المنزلة على أنبيائهم".(7/274)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
وَقَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ بَيِّنَةٍ مِنَ الْأَمْرِ.
وَقَالَ (1) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ (2) سُلَيم، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سُفْيَانُ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوْ أثَرَة مِنْ عِلْمٍ" قَالَ: "الْخَطُّ" (3) .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: أَوْ بَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {أَوْ أَثَارَةٍ} شَيْءٌ يَسْتَخْرِجُهُ فَيُثِيرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ أَيْضًا: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} يَعْنِي الْخَطَّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} خَاصَّةٍ مِنْ عِلْمٍ.
وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا قُلْنَاهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَهُ، وَأَحْسَنَ مَثْوَاهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} أَيْ: لَا أَضَلَّ مِمَّنْ يَدْعُو أَصْنَامًا، وَيَطْلُبُ مِنْهَا مَا لَا تَسْتَطِيعُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ غَافِلَةٌ عَمَّا يَقُولُ، لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَبْطِشُ؛ لِأَنَّهَا جَمَادٌ حجَارة صُمّ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مَرْيَمَ: 81، 82] أَيْ: سَيَخُونُونَهُمْ (4) أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 25] .
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ: أَنَّهُمْ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ بَيِّنَاتٍ، أَيْ: فِي حَالِ بَيَانِهَا وَوُضُوحِهَا وَجَلَائِهَا، يَقُولُونَ: {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} أَيْ: سِحْرٌ وَاضِحٌ، وَقَدْ كَذَبوا وَافْتَرَوْا وضَلّوا وَكَفَرُوا {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يَعْنُونَ: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ اللَّهُ [تَعَالَى] (5) {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أَيْ: لَوْ كَذَبْتُ عَلَيْهِ وَزَعَمْتُ أنه أرسلني -وليس كذلك-لعاقبني أشد
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) في أ: "عن" وهو خطأ.
(3) المسند (1/226) .
(4) في أ: "سيجدونهم".
(5) زيادة من ت، أ.(7/275)
الْعُقُوبَةِ، وَلَمْ يَقْدرْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، لَا أَنْتُمْ وَلَا غَيْرُكُمْ أَنْ يُجِيرَنِي مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الْجِنِّ: 22، 23] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ. لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الْحَاقَّةِ: 44 -47] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} ، هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، وَتَرْهِيبٌ شَدِيدٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} تَرْغِيبٌ لَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، أَيْ: وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ إِنْ رَجَعْتُمْ وَتُبْتُمْ، تَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ، وَغَفَرَ [لَكُمْ] (1) وَرَحِمَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا. قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الْفُرْقَانِ: 5، 6] .
وَقَوْلُهُ: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} أَيْ: لَسْتُ بِأَوَّلِ رَسُولٍ طَرَقَ الْعَالَمَ، بَلْ قَدْ جَاءَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِي، فَمَا أَنَا بِالْأَمْرِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ حَتَّى تَسْتَنْكِرُونِي وَتَسْتَبْعِدُوا (2) بَعْثَتِي إِلَيْكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ قَبْلِي جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى الْأُمَمِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} مَا أَنَا بِأَوَّلِ رَسُولٍ. وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: نَزَلَ بَعْدَهَا {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الْفَتْحِ: 2] . وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ، قَالُوا: وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: هَذَا قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ مَا هُوَ فَاعِلٌ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا هُوَ فَاعِلٌ بِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الْفَتْحِ: 5] .
هَكَذَا قَالَ، وَالَّذِي هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا لَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} : مَا أَدْرِي بِمَاذَا أُومَرَ، وَبِمَاذَا أُنْهَى بَعْدَ هَذَا؟
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الهذلِيّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} قَالَ: أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَمَعَاذَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي الدُّنْيَا، أُخْرَجُ كَمَا أُخْرِجَتِ الْأَنْبِيَاءُ [مِنْ] (3) قَبْلِي؟ أَمْ أُقْتَلُ كَمَا قُتِلَتِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي؟ وَلَا أَدْرِي أَيُخْسَفُ بِكُمْ أَوْ تُرمون بِالْحِجَارَةِ؟
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي عَوّل عَلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ جَازِمٌ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَدْرِ مَا كَانَ يئُول إِلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ إِلَى مَاذَا: أَيُؤْمِنُونَ أَمْ يَكْفُرُونَ، فيعذبون
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت، م، أ: "وتستبعدون".
(3) زيادة من أ.(7/276)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
فَيُسْتَأْصَلُونَ بِكُفْرِهِمْ (1) ؟ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ -وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِمْ-أَخْبَرَتْهُ -وَكَانَتْ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَتْ: طَارَ لَهُمْ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ عثمانُ بْنُ مَظْعُونٍ. فَاشْتَكَى عُثْمَانُ عِنْدَنَا فَمرَّضناه، حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ أدْرَجناه فِي أَثْوَابِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، شَهَادَتِي عَلَيْكَ، لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ؟ " فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ (2) الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي! " قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا. وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ، فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذَاكَ (3) عَمَلُهُ".
فَقَدِ انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ (4) ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: "مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ" (5) . وَهَذَا أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحْفُوظُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهَا: "فَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ". وَفِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِمُعَيَّنٍ بِالْجَنَّةِ إِلَّا الَّذِي (6) نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى تَعْيِينِهِمْ، كَالْعَشَرَةِ، وَابْنِ سَلَامٍ، والغُميصاء، وَبِلَالٍ، وَسُرَاقَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَالِدِ (7) جَابِرٍ، وَالْقُرَّاءِ السَّبْعِينَ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ، وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرٍ، وَابْنِ رَوَاحَةَ، وَمَا أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أَيْ: إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ عليَّ مِنَ الْوَحْيِ، {وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أَيْ: بَيِّنُ النّذَارة، وَأَمْرِي (8) ظَاهِرٌ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ وَعَقْلٍ.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْكَافِرِينَ بِالْقُرْآنِ: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ} هَذَا الْقُرْآنُ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} أَيْ: مَا ظَنُّكُمْ أَنَّ اللَّهَ صَانِعٌ بِكُمْ إِنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ قد أنزله
__________
(1) في ت، أ: "كغيرهم".
(2) في أ: "جاءه والله".
(3) في ت: "ذلك".
(4) المسند (6/436) وصحيح البخاري برقم (1243) .
(5) صحيح البخاري برقم (2687) .
(6) في أ: "الذين".
(7) في ت: "أبو".
(8) في أ: "أرى".(7/277)
عليَّ لِأُبَلِّغَكُمُوهُ، وَقَدْ كَفَرتم بِهِ وَكَذَّبْتُمُوهُ، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} أَيْ: وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِدْقِهِ وَصِحَّتِهِ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، بَشَّرَتْ بِهِ وَأَخْبَرَتْ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ هَذَا الْقُرْآنُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَآمَنَ} أَيْ: هَذَا الَّذِي شَهِدَ بِصِدْقِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمَعْرِفَتِهِ بِحَقِّيَّتِهِ {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أَنْتُمْ: عَنِ اتِّبَاعِهِ.
وَقَالَ مَسْرُوقٌ: فَآمَنَ هَذَا الشَّاهِدُ بِنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ، وَكَفَرْتُمْ أَنْتُمْ بِنَبِيِّكُمْ وَكِتَابِكُمْ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
وَهَذَا الشَّاهِدُ اسْمُ جِنْسٍ يعم عبد الله بن سلام وغير، هـ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [الْقَصَصِ: 53] ، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} [الْإِسْرَاءِ: 107، 108] .
قَالَ مَسْرُوقٌ، وَالشَّعْبِيُّ: لَيْسَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَإِسْلَامُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ. رَوَاهُ عَنْهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْر، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ (1) ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ: "إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ}
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، بِهِ (2) . وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَيُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَهِلَالُ بْنُ يَسَاف، والسُّدَّي، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ؛ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} أَيْ: قَالُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ: لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا هَؤُلَاءِ إِلَيْهِ (3) . يَعْنُونَ بِلَالًا وَعَمَّارًا وصُهَيبا وَخَبَّابًا وَأَشْبَاهَهُمْ وَأَقْرَانَهُمْ (4) مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَجَاهَةً وَلَهُ بِهِمْ عِنَايَةً. وَقَدْ غَلِطُوا فِي ذَلِكَ غَلَطًا فَاحِشًا، وَأَخْطَئُوا خَطَأً بَيِّنًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الْأَنْعَامِ: 53] أَيْ: يَتَعَجَّبُونَ: كَيْفَ اهْتَدَى هَؤُلَاءِ دُونَنَا؛ وَلِهَذَا قَالُوا: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ (5) وَالْجَمَاعَةِ فَيَقُولُونَ فِي كُلِّ فِعْلٍ وَقَوْلٍ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ الصَّحَابَةِ: هُوَ بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَيْرًا لسبقونا إليه، لأنهم
__________
(1) في أ: "سعيد".
(2) صحيح البخاري برقم (3812) وصحيح مسلم برقم (2483) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8252) .
(3) في ت: "ما سبقونا إليه هؤلاء".
(4) في أ: "وأضرابهم".
(5) في م، ت، أ: "يعني المؤمنين، وأما أهل السنة".(7/278)
لَمْ يَتْرُكُوا خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ إِلَّا وَقَدْ بَادَرُوا إِلَيْهَا (1) .
وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} أَيْ: بِالْقُرْآنِ {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ} أَيْ: كَذِبٌ {قَدِيمٌ} أَيْ: مَأْثُورٌ عَنِ الْأَقْدَمِينَ، فَيَنْتَقِصُونَ الْقُرْآنَ وَأَهْلَهُ، وَهَذَا هُوَ الْكِبْرُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَطَرُ (2) الْحَقِّ، وغَمْط النَّاسِ" (3) .
ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} وَهُوَ التَّوْرَاةُ {إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {مُصَدِّقٌ} أَيْ: لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ {لِسَانًا عَرَبِيًّا} أَيْ: فَصِيحًا بَيِّنًا وَاضِحًا، {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} أَيْ: مُشْتَمِلٌ عَلَى النِّذَارَةِ لِلْكَافِرِينَ وَالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ "حم، السَّجْدَةِ". (4)
وَقَوْلُهُ: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أَيْ: فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} عَلَى مَا خَلَّفُوا، {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيِ: الْأَعْمَالُ سَبَبٌ لِنَيْلِ الرَّحْمَةِ لَهُمْ وسُبُوغها (5) عليهم.
__________
(1) في ت، م: "إليه".
(2) في أ: "الكبر بطر".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (91) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(4) راجع تفسير هذه الآية عند الآية: 30 من سورة السجدة.
(5) وشيوعها".(7/279)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
{وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) } .
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى التَّوْحِيدَ لَهُ وَإِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ إِلَيْهِ، عَطَفَ بِالْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ، كَمَا هُوَ مَقْرُونٌ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الْإِسْرَاءِ:23] وَقَالَ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لُقْمَانَ: 14] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ. وَقَالَ هَاهُنَا: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} أَيْ: أَمَرْنَاهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَالْحُنُوِّ عَلَيْهِمَا.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي سِمَاك بْنُ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُصْعب بْنَ سَعْدٍ (1) يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ لِسَعْدٍ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ، فَلَا آكُلُ طَعَامًا، وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى تَكْفُرَ بِاللَّهِ. فَامْتَنَعَتْ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، حَتَّى جَعَلُوا يَفْتَحُونَ فَاهَا بِالْعَصَا، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} الآية [العنكبوت: 8] .
__________
(1) في أ: "حرب".(7/279)
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِإِسْنَادِهِ، نَحْوَهُ وَأَطْوَلَ مِنْهُ (1) .
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} أَيْ: قَاسَتْ بِسَبَبِهِ فِي حَالِ حَمْلِهِ مَشَقَّةً وَتَعَبًا، مِنْ وِحَام وَغَشَيَانٍ وَثِقَلٍ وَكَرْبٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَنَالُ الْحَوَامِلُ مِنَ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، {وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} أَيْ: بِمَشَقَّةٍ أَيْضًا مِنَ الطَّلْقِ وَشِدَّتِهِ، {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا}
وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الَّتِي فِي لُقْمَانَ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لُقْمَانَ: 14] ، وَقَوْلُهُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [الْبَقَرَةِ: 233] ، عَلَى أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ قَوِيٌّ صَحِيحٌ. وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ عُثْمَانُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنَ يَسَارٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْط، عَنْ بَعْجَةَ (2) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ قَالَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنَّا امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنة، فَوَلَدَتْ لَهُ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَانْطَلَقَ زَوْجُهَا إِلَى عُثْمَانَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا قَامَتْ لِتَلَبِسَ ثِيَابَهَا بَكَتْ أُخْتُهَا، فَقَالَتْ: مَا يُبْكِيكِ؟! فَوَاللَّهِ مَا الْتَبَسَ بِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ غَيْرَهُ قَطُّ، فَيَقْضِي اللَّهُ فِيَّ مَا شَاءَ. فَلَمَّا أُتِيَ بِهَا عُثْمَانُ أَمَرَ بِرَجْمِهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: وَلَدَتْ تَمَامًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ لَهُ [عَلِيٌّ] (3) أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} وَقَالَ: { [يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ] حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (4) ، فَلَمْ نَجِدْهُ بَقَّى إِلَّا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، قَالَ: فَقَالَ عُثْمَانُ: وَاللَّهِ مَا فَطِنْتُ لِهَذَا، عَلَيَّ بِالْمَرْأَةِ فَوَجَدُوهَا قَدْ فُرِغَ مِنْهَا، قَالَ: فَقَالَ بَعْجَةُ: فَوَاللَّهِ مَا الْغُرَابُ بِالْغُرَابِ، وَلَا الْبَيْضَةُ بِالْبَيْضَةِ بِأَشْبَهَ مِنْهُ بِأَبِيهِ. فَلَمَّا رَآهُ أَبُوهُ قَالَ: ابْنِي إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَشُكُّ فِيهِ، قَالَ: وَأَبْلَاهُ (5) اللَّهُ بِهَذِهِ الْقُرْحَةِ قُرْحَةِ الْأَكَلَةِ، فَمَا زَالَتْ تَأْكُلُهُ حَتَّى مَاتَ (6) .
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزُّخْرُفِ: 81] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا فَرْوَة بْنُ أَبِي المَغْرَاء، حَدَّثَنَا عَلِيِّ بْنِ مِسْهَر، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (7) قَالَ: إِذَا وَضَعَتِ الْمَرْأَةُ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ كَفَاهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَإِذَا وَضَعَتْهُ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ كَفَاهُ مِنَ الرَّضَاعِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَإِذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَحَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا}
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أَيْ: قَوِيَ وَشَبَّ وَارْتَجَلَ {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} أَيْ: تَنَاهَى عَقْلُهُ وَكَمُلَ فَهْمُهُ وَحِلْمُهُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ غَالِبًا عَمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ ابْنُ الْأَرْبَعِينَ.
__________
(1) مسند الطيالسي برقم (208) وصحيح مسلم يرقم (1748) وسنن أبي داود برقم (2740) وسنن الترمذي برقم (3079) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11196) لكن النسائي لم يرو الشاهد هنا وإنما روى أوله.
(2) في ت، أ: "معمر".
(3) زيادة من ت، أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ت، م، أ: "وابتلاه".
(6) ورواه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي 07/441) .
(7) في ت: "عن عكرمة وروى عن ابن عباس".(7/280)
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قُلْتُ لِمَسْرُوقٍ: مَتَى يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِذُنُوبِهِ؟ قَالَ: إِذَا بَلَغْتَ الْأَرْبَعِينَ، فَخُذْ حِذْرَكَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيد اللَّهِ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا عَزْرَة بْنُ قَيْسٍ الْأَزْدِيُّ -وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ-حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّلُولِيُّ (1) عَنْهُ وَزَادَنِي (2) قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ إِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً خَفَّفَ اللَّهُ حِسَابَهُ، وَإِذَا بَلَغَ (3) سِتِّينَ سَنَةً رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَإِذَا بَلَغَ سَبْعِينَ سَنَةً أَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَإِذَا بَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً ثَبَّتَ اللَّهُ حَسَنَاتِهِ وَمَحَا سَيِّئَاتِهِ، وَإِذَا بَلَغَ تِسْعِينَ سَنَةً غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وشفَّعه اللَّهُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وَكُتِبَ فِي السَّمَاءِ: أَسِيرَ (4) اللَّهِ فِي أَرْضِهِ" (5) .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ (6) (7) .
وَقَدْ قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ أَحَدُ أُمَرَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ بِدِمَشْقَ: تَرَكْتُ الْمَعَاصِيَ وَالذُّنُوبَ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَيَاءً مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ تَرَكْتُهَا حَيَاءً مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
صَبَا مَا صَبَا حَتى عَلا الشَّيبُ رأسَهُ ... فلمَّا عَلاهُ قَالَ لِلْبَاطِلِ: ابطُل (8)
{قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أَيْ: أَلْهِمْنِي {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} أَيْ: فِي الْمُسْتَقْبَلِ، {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أَيْ: نَسْلِي وَعَقِبِي، {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَهَذَا فِيهِ إِرْشَادٌ لِمَنْ بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ أَنْ يُجَدِّدَ التَّوْبَةَ وَالْإِنَابَةَ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيَعْزِمُ عَلَيْهَا.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي التَّشَهُّدِ: "اللَّهُمَّ، أَلِّفْ بَيْنِ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سبُل (9) السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِنَا، وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجَعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، مُثْنِينَ بِهَا قَابِلِيهَا، وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا" (10) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} أَيْ: هَؤُلَاءِ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذَكَرْنَا، التَّائِبُونَ إِلَى اللَّهِ الْمُنِيبُونَ إِلَيْهِ، الْمُسْتَدْرِكُونَ مَا فَاتَ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، هُمُ الَّذِينَ يَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَيَغْفِرُ لَهُمُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ، وَيَتَقَبَّلُ مِنْهُمُ الْيَسِيرَ مِنَ الْعَمَلِ، {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} أَيْ: هُمْ فِي جُمْلَةِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا حُكْمُهُمْ عِنْدَ الله كما وعد
__________
(1) في م، أ: "أبو الحسن الكوفي- عمر بن أوس".
(2) في ت: "وروى الحافظ".
(3) في ت، م: "رزقه".
(4) في ت، م، أ: "أمين".
(5) قال الهيثمي في المجمع (10/205) : "رواه أبو يعلى في الكبير وفيه عزرة بن قيس الأزدي، وهو ضعيف".
(6) في ت: "وهذا الحديث في مسند الإمام أحمد".
(7) رواه الإمام أحمد مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، المسند (3/218) .
(8) في ت، م، أ: "أبعد".
(9) في ت: "سبيل".
(10) سنن أبي داود برقم (969) .(7/281)
اللَّهُ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}
قَالَ (1) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا المُعْتَمِر بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ الغطْرِيف، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2) ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الرُّوحِ الْأَمِينِ، عَلَيْهِ (3) السَّلَامُ، قَالَ: "يُؤْتَى (4) بِحَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَسَيِّئَاتِهِ (5) ، فَيَقْتَصُّ (6) بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَإِنْ بَقِيَتْ حَسَنَةٌ وَسَّعَ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ" قَالَ: فدخلتُ عَلَى يَزْدَادَ فَحُدّث بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ ذَهَبَتِ الْحَسَنَةُ؟ قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (7) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ -وَزَادَ عَنِ الرُّوحِ الْأَمِينِ. قَالَ: قَالَ الرَّبُّ، جَلَّ جَلَالُهُ: يُؤْتَى بِحَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَسَيِّئَاتِهِ ... فَذَكَرَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وإسنادٌ جَيِّدٌ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَد، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكَلَّائِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ (8) جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشية، عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ (9) ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: وَنَزَلَ فِي دَارِي حَيْثُ ظَهَرَ عَلِيٌّ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ لِي يَوْمًا: لَقَدْ شهدتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا، وَعِنْدَهُ عمارا وَصَعْصَعَةُ وَالْأَشْتَرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرُوا عُثْمَانَ فَنَالُوا مِنْهُ، وَكَانَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى السَّرِيرِ، وَمَعَهُ عُودٌ فِي يَدِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنَّ عِنْدَكُمْ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: كَانَ عُثْمَانُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} قَالَ: وَاللَّهِ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُ عُثْمَانَ -قَالَهَا ثَلَاثًا-قَالَ يُوسُفُ: فَقُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ: آللَّهِ لَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ؟ قَالَ: آللَّهِ لَسَمِعْتُ هذا من علي، رضي الله عنه.
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) في ت: "ابن عباس رضي الله عنه".
(3) في م: "عليهما".
(4) في ت: "تؤتى".
(5) في أ: "وسيئاته يوم القيامة".
(6) في أ: "فيقبض".
(7) تفسير الطبري (26/12) ورواه أبو نعيم في الحلية (3/91) من طريق معتمر بن سليمان به، وقال أبو نعيم: "هذا حديث غريب من حديث جابر، والغطويف تفرد به عنه الحكم بن أبان العدني".
(8) في أ: "بشير".
(9) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".(7/282)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) } .
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الدَّاعِينَ لِلْوَالِدَيْنِ الْبَارِّينَ بِهِمَا وَمَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ، عَطَفَ بِحَالِ الْأَشْقِيَاءِ الْعَاقِّينَ لِلْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} -وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ قَالَ هَذَا، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ زَمَانِهِ.
وَرَوَى العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنٍ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَفِي صِحَّةِ هَذَا نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ مُجَاهِدٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. وَهَذَا أَيْضًا قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَهُ (1) السُّدِّيُّ. وَإِنَّمَا هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ وَكَذَّبَ بِالْحَقِّ، فَقَالَ لِوَالِدَيْهِ: {أُفٍّ لَكُمَا} عَقَّهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمَدِينِيُّ قَالَ: إِنِّي لَفِي الْمَسْجِدِ حِينَ خَطَبَ مَرْوان، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَرَى (2) أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي يَزِيدَ رَأْيًا حَسَنًا، وَإِنْ يَسْتَخْلِفْهُ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: أَهِرْقِلِيَّةٌ؟! إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَاللَّهِ مَا جَعَلَهَا فِي أَحَدٍ من ولده، ولا أحدا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَا جَعَلَهَا مُعَاوِيَةُ فِي وَلَدِهِ إِلَّا رَحْمَةً وَكَرَامَةً لِوَلَدِهِ. فَقَالَ مَرْوَانُ: أَلَسْتَ الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ: أُفٍّ لَكُمَا؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَلَسْتَ ابْنَ اللَّعِينِ الَّذِي لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاكَ؟ قَالَ: وَسَمِعَتْهُمَا عَائِشَةُ فَقَالَتْ: يَا مَرْوَانُ، أَنْتَ الْقَائِلُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ كَذَا وَكَذَا؟ كذبتَ، مَا فِيهِ نَزَلَتْ، وَلَكِنْ نَزَلَتْ فِي فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ. ثُمَّ انْتَحَبَ مَرْوَانُ، ثُمَّ نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ حَتَّى أَتَى بَابَ حُجْرَتِهَا،فَجَعَلَ يُكَلِّمُهَا حَتَّى انْصَرَفَ (3) .
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادٍ آخَرَ وَلَفْظٍ آخَرَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوانة، عَنْ أَبِي بِشْر، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَك قَالَ: كَانَ مَرْوان عَلَى الْحِجَازِ، اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَخَطَبَ وَجَعَلَ يَذْكُرُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لِكَيْ يُبَايَعَ لَهُ بَعْدَ أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا، فَقَالَ: خُذُوهُ. فَدَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ (4) مَرْوَانُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} فَقَالَتْ عَائِشَةُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عُذرِي (5) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أميَّة بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: لَمَّا بَايَعَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِهِ، قَالَ مَرْوَانُ: سُنَّة أَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن أبي
__________
(1) في ت، م: "وهذا قول".
(2) في م، أ: "الله قد أرى".
(3) ورواه ابن مردويه فغي تفسيره كما في الدر المنثور (7/444) .
(4) في أ: "فلم يقدر عليه فقام فقال".
(5) صحيح البخاري برقم (4827) .(7/283)
بَكْرٍ: سُنَّة هِرَقْلَ وَقَيْصَرَ. فَقَالَ مَرْوَانُ: هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} الْآيَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: كَذَبَ مَرْوَانُ! وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهِ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ لَسَمَّيْتُهُ، وَلَكِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ أَبَا مَرْوَانَ ومروانُ فِي صُلْبِهِ، فَمَرْوَانُ فَضَضٌ (1) مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ (2) .
وَقَوْلُهُ: {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} أَيْ: [أَنْ] (3) أُبْعَثَ {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} أَنْ (4) قَدْ مَضَى النَّاسُ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} أَيْ: يَسْأَلَانِ اللَّهَ فِيهِ أَنْ يَهْدِيَهُ وَيَقُولَانِ لِوَلَدِهِمَا: {وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} قَالَ اللَّهُ [تَعَالَى] (5) {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} أَيْ: دَخَلُوا فِي زُمْرَةِ أَشْبَاهِهِمْ وَأَضْرَابِهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ الْخَاسِرِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَالَّذِي قَالَ} دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ جِنْسٌ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْكَافِرُ الْفَاجِرُ الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، الْمُكَذِّبُ بِالْبَعْثِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ سَهْلِ بْنِ دَاوُدَ، مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ الْحَلَبِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْبَعَةٌ لَعَنَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ، وأَمَّنتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ: مُضِلُّ الْمَسَاكِينِ -قَالَ خَالِدٌ: الَّذِي يَهْوِي بِيَدِهِ إِلَى الْمِسْكِينِ فَيَقُولُ: هَلُمَّ أُعْطِيكَ، فَإِذَا جَاءَهُ قَالَ: لَيْسَ مَعِي شَيْءٌ-وَالَّذِي يَقُولُ لِلْمَكْفُوفِ: اتَّقِ الدَّابَّةَ، وَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ. وَالرَّجُلُ يَسْأَلُ عَنْ دَارِ الْقَوْمِ فَيَدُلُّونَهُ عَلَى غَيْرِهَا، وَالَّذِي يَضْرِبُ الْوَالِدَيْنِ حَتَّى يَسْتَغِيثَا" (6) . غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أَيْ: لِكُلٍّ عَذَابٌ بِحَسَبِ عَمَلِهِ، {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أَيْ: لَا يَظْلِمُهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فَمَا دُونَهَا.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: دَرَجَاتُ النَّارِ تَذْهَبُ سَفَالًا وَدَرَجَاتُ الْجَنَّةِ تَذْهَبُ عُلُوًّا.
وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا. وَقَدْ تَوَرَّعَ [أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ] (7) عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ (8) كَثِيرٍ مِنْ طَيِّبَاتِ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَتَنَزَّهَ عَنْهَا، وَيَقُولُ: [إِنِّي] (9) أَخَافُ أَنْ أَكُونَ كَالَّذِينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ وقَرَّعهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}
__________
(1) في أ: "بعض".
(2) النسائي في السنن الكبرى برقم (11491) .
(3) زيادة من ت.
(4) في ت، أ: "أي".
(5) زيادة من ت، م.
(6) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (10/221) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/251) من طريق هشام بن عمار به. قال ابن أبي حاتم في العلل (2/413) : "سألت أبي عن هذا الحديث فقال: هذا حديث منكر". قال الهيثمي في المجمع (4/251) : "حماد بن عبد الرحمن العكي عن خالد بن الزبرقان، وكلاهما ضعيف".
(7) زيادة من ت، م، أ.
(8) في أ: "على".
(9) زيادة من ت، م، أ.(7/284)
وَقَالَ أَبُو مِجْلَز: ليتفقَّدَنّ أقوامٌ حَسَنات كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيُقَالُ لَهُمْ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}
وَقَوْلُهُ: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} فَجُوزُوا مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ، فَكَمَا نَعَّموا أَنْفُسَهُمْ وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَتَعَاطَوُا الْفِسْقَ وَالْمَعَاصِيَ، جَازَاهُمُ اللَّهُ بِعَذَابِ الْهُونِ، وَهُوَ الْإِهَانَةُ وَالْخِزْيُ وَالْآلَامُ الْمُوجِعَةُ، وَالْحَسَرَاتُ الْمُتَتَابِعَةُ وَالْمُنَازِلُ فِي الدَّرَكَاتِ الْمُفْظِعَةِ، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.(7/285)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} وَهُوَ هُودٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى عَادٍ الْأُولَى، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ الْأَحْقَافَ -جَمْعُ حقْف وَهُوَ: الْجَبَلُ مِنَ الرَّمْلِ-قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْأَحْقَافُ: الْجَبَلُ وَالْغَارُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْأَحْقَافُ: وَادٍ بِحَضْرَمَوْتَ، يُدْعَى بُرْهوت، تُلْقَى فِيهِ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكر لَنَا أَنَّ عَادًا كَانُوا حَيًّا بِالْيَمَنِ أَهْلَ رَمْلٍ مُشْرِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: الشِّحْر.
قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: "بَابُ إِذَا دَعَا فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ": حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَرْحَمُنَا اللَّهُ، وَأَخَا عَادٍ" (1) .
وَقَوْلُهُ: {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} يَعْنِي: وَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَى مَنْ حَول بِلَادِهِمْ مِنَ الْقُرَى مُرْسَلِينَ وَمُنْذِرِينَ، كَقَوْلِهِ: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [الْبَقَرَةِ: 66] ، وَكَقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فُصِّلَتْ: 13، 14] (2) (3) أَيْ: قَالَ لَهُمْ هُودٌ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ قَوْمُهُ قَائِلِينَ: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} أَيْ: لِتَصُدَّنَا {عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
__________
(1) سنن ابن ماجه (3852) وقال البوصيري في الزوائد (3/204) : "هذا إسناد صحيح وله شواهد في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي بن كعب".
(2) في م: "تولوا"، وهو خطأ.
(3) في ت، م، أ، هـ: "إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم"، والصواب ما أثبتناه.(7/285)
اسْتَعْجَلُوا عَذَابَ اللَّهِ وَعُقُوبَتَهُ، اسْتِبْعَادًا مِنْهُمْ وُقُوعَهُ، كَقَوْلِهِ: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشُّورَى: 18] .
{قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} (1) أَيِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِتَعْجِيلِ الْعَذَابِ فَيَفْعَلُ (2) ذَلِكَ بِكُمْ، وَأَمَّا أَنَا فَمِنْ شَأْنِي أَنِّي أُبْلِغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ، {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} أَيْ: لَا تَعْقِلُونَ وَلَا تَفْهَمُونَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} أَيْ: لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ مُسْتَقْبِلَهُمْ، اعْتَقَدُوا أَنَّهُ عَارِضٌ مُمْطِرٌ، فَفَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا بِهِ (3) ، وَقَدْ كَانُوا مُمْحِلِينَ مُحْتَاجِينَ إِلَى الْمَطَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ: هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي قُلْتُمْ: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
{تُدَمِّرُ} أَيْ: تُخَرِّبُ {كُلِّ شَيْءٍ} مِنْ بِلَادِهِمْ، مِمَّا مِنْ شَأْنِهِ الْخَرَابُ {بِأَمْرِ رَبِّهَا} أَيْ: بِإِذْنِ اللَّهِ لَهَا فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذَّارِيَاتِ: 42] أَيْ: كَالشَّيْءِ الْبَالِي. وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ} أَيْ: قَدْ بَادُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ، {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أَيْ: هَذَا حُكْمُنَا فِيمَنْ كَذَّبَ رُسُلَنَا، وَخَالَفَ أَمْرَنَا.
وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ فِي قِصَّتِهِمْ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ غَرَائِبِ الْحَدِيثِ وَأَفْرَادِهِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَاب، حَدَّثَنِي أَبُو الْمُنْذِرِ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّحْوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُود، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْحَارِثِ الْبَكْرِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ أَشْكُو الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَرْتُ بالرَبْذَة، فَإِذَا عَجُوزٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٌ بِهَا، فَقَالَتْ لِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنَّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَةً، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغِي إِلَيْهِ؟ قَالَ: فَحَمَلْتُهَا فَأَتَيْتُ بِهَا الْمَدِينَةَ، فَإِذَا الْمَسْجِدُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، وَإِذَا رَايَةٌ سَوْدَاءُ تَخْفُقُ، وَإِذَا بِلَالٌ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَجْهًا. قَالَ: فَجَلَسْتُ، فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ -أَوْ قَالَ: رَحْلَهُ-فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ، فَقَالَ: "هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ تَمِيمٍ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَكَانَتْ لَنَا الدَّبَرَةُ (4) عَلَيْهِمْ، وَمَرَرْتُ بِعَجُوزٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٍ، بِهَا فَسَأَلَتْنِي أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَيْكَ، وَهَا هِيَ بِالْبَابِ: فَأَذِنَ لَهَا فَدَخَلَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ تَمِيمٍ حَاجِزًا فَاجْعَلِ الدَّهْنَاءَ، فَحَمِيَتِ الْعَجُوزُ وَاسْتَوْفَزَتْ، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِلَى أَيْنَ يُضْطَرُّ مُضْطَرُّكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ مَثَلِي مَا قَالَ الْأَوَّلُ: "مِعْزَى حَمَلَت حَتْفَها"، حَمَلْتُ هَذِهِ وَلَا أَشْعُرُ أَنَّهَا كَانَتْ لِي خَصْمًا، أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ. قَالَ: "هِيهْ، وَمَا وَافِدُ عَادٍ؟ " -وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَسْتَطْعِمُهُ (5) -قُلْتُ: إِنْ عَادًا قُحِطُوا فَبَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: قَيل، فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ الْخَمْرَ وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا "الْجَرَادَتَانِ"-فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ إِلَى جِبَالِ مَهْرة فقال: اللهم،
__________
(1) في م: "وقال" وهو خطأ.
(2) في م، أ: "فسيفعل".
(3) في م، ت: "ففرحوا به واستبشروا به".
(4) في ت، أ: "الدائرة".
(5) في أ: "يستعظمه".(7/286)
إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجِئْ إِلَى مَرِيضٍ فَأُدَاوِيهِ، وَلَا إِلَى أَسِيرٍ فَأُفَادِيهِ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ. فَمَرَّتْ بِهِ سَحَّابَاتٌ سُودُ، فَنُودِيَ مِنْهَا: "اخْتَرْ"، فَأَوْمَأَ إِلَى سَحَابَةٍ مِنْهَا سَوْدَاءَ، فَنُودِيَ مِنْهَا: "خُذْهَا رَمَادًا رِمْدِدًا (1) ، لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا". قَالَ: فَمَا بَلَغَنِي أَنَّهُ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا كَقَدْرِ مَا يَجْرِي فِي خَاتَمِي هَذَا، حَتَّى هَلَكُوا-قَالَ أَبُو وَائِلٍ: وَصَدَقَ -وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ إِذَا بَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ قَالُوا: "لَا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ".
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "الْأَعْرَافِ" (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو: أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ (3) أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ. قَالَتْ: وَكَانَ (4) إِذَا رَأَى غَيْمًا -أَوْ رِيحًا-عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ؟ فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا". وَأَخْرَجَاهُ (5) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ (6) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى نَاشِئًا فِي أُفُقٍ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ، تَرَكَ عَمَلَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ" (7) . فَإِنْ كَشَفَهُ اللَّهُ حَمِدَ اللَّهَ، وَإِنْ أَمْطَرَتْ قَالَ: "اللَّهُمَّ، صَيِّبًا نَافِعًا" (8) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: "اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ". قَالَتْ: وَإِذَا تَخَيَّلت السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ، فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: "لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} (9) .
وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ هَلَاكِ عَادٍ (10) فِي سُورَتَيِ "الْأَعْرَافِ وَهُودٍ" (11) بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله
__________
(1) في ت: "رمدا".
(2) المسند (3/482) وانظر تخريج بقية هذا الحديث عند الآية: 73 من سورة الأعراف.
(3) في ت: "عائشة رضي الله عنها".
(4) في ت، م: "وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
(5) في ت: "أخرجه".
(6) المسند (6/66) وصحيح البخاري برقم (4828، 4829) وصحيح مسلم برقم (899) .
(7) في م: "من سوء عاقبته".
(8) المسند (6/190) .
(9) صحيح مسلم برقم (899) .
(10) في ت، م، أ: "هلاك قوم عاد".
(11) راجع قصة هلاك قوم عاد عند تفسير الآيات: 65- 72 من سورة الاعراف والآيات: 50- 60 من سورة هود.(7/287)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ مُسْلِمٍ الْمُلَائِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (1) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا فُتِحَ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا مِثْلُ مَوْضِعِ الْخَاتَمِ، ثُمَّ أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ [فَحَمَلَتْهُمُ] الْبَدْوَ إِلَى الْحَضَرِ فَلَمَّا رَآهَا أَهْلُ الْحَضَرِ قَالُوا: هَذَا عَارَضٌ مُمْطِرُنَا مُسْتَقْبَلُ أَوْدِيَتِنَا. وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي فِيهَا، فَأُلْقِي أَهْلُ الْبَادِيَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ حَتَّى هَلَكُوا. قَالَ: عَتَتْ عَلَى خُزَّانِهَا حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ خِلَالِ الْأَبْوَابِ (2) " (3) .
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) } .
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَكَّنَّا الْأُمَمَ السَّالِفَةَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ مِنْهَا (4) مَا لَمْ نُعْطِكُمْ مِثْلَهُ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ: وَأَحَاطَ بِهِمُ الْعَذَابُ وَالنَّكَالُ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ، أَيْ: فَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ، فَيُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، قَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ بِالرُّسُلِ مِمَّا حَوْلَهَا كَعَادٍ، وَكَانُوا بِالْأَحْقَافِ بِحَضْرَمَوْتَ عِنْدَ الْيَمَنِ وَثَمُودَ، وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ، وَكَذَلِكَ سَبَأٌ وَهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَمَدْيَنُ وَكَانَتْ فِي طَرِيقِهِمْ وَمَمَرِّهِمْ إِلَى غَزَّةَ، وَكَذَلِكَ بُحَيْرَةُ قَوْمِ لُوطٍ، كَانُوا يَمُرُّونَ بِهَا أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: {وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ} أَيْ: بَيَّنَّاهَا وَوَضَّحْنَاهَا، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَة} أَيْ: فَهَلَّا نَصَرُوهُمْ عِنْدَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِمْ، {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أَيْ: بَلْ ذَهَبُوا عَنْهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ، {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} أَيْ: كَذِبُهُمْ، {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أَيْ: وَافْتِرَاؤُهُمْ فِي اتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ آلِهَةً، وَقَدْ خَابُوا وَخَسِرُوا في عبادتهم لها، واعتمادهم عليها.
__________
(1) في ت: "وروى الطبراني بإسناده".
(2) في ت: "البيوت".
(3) المعجم الكبير (12/42) ، قال الهيثمي في المجمع (7/113) : "فيه مسلم الملائي وهو ضعيف".
(4) في ت: "فيها".(7/288)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) } .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} قَالَ: بِنَخْلَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الْجِنِّ: 19] ، قَالَ سُفْيَانُ: اللِّبَدُ: بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَاللِّبَدِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ (1) .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَسَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ سَبْعَةٌ مِنْ جِنِّ نَصِيبين.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ (ح) -وَقَالَ (2) الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ "دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ": أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (3) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظَ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَبْتَغُونَ مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدًا إِلَى سُوقِ عُكَاظَ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا -وَاللَّهِ-الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، قَالُوا: يَا قَوْمَنَا، إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ (4) : {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الْجِنِّ: 1] ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسَدَّد بِنَحْوِهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ أبي عوانة، به. ورواه
__________
(1) المسند (1/167) .
(2) في م: "الحافظ الشهير".
(3) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(4) في ت، م، أ: "نبيه صلى الله عليه وسلم".(7/289)
التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ (1) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو أحمد، حدثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (2) ، عن ابن عباس، قال: كَانَ الْجِنُّ يَسْتَمِعُونَ (3) الْوَحْيَ، فَيَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ فَيَزِيدُونَ فِيهَا عَشْرًا، فَيَكُونُ مَا سَمِعُوا حَقًّا وَمَا زَادُوا بَاطِلًا وَكَانَتِ النُّجُومُ لَا يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحَدُهُمْ لَا يَأْتِي مَقْعَدَهُ إِلَّا رُمِيَ بِشِهَابٍ يَحْرِقُ مَا أَصَابَ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا مِنْ أَمْرٍ قَدْ حَدَثَ. فَبَثَّ جُنُودَهُ، فَإِذَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْ نَخْلَةَ، فَأَتَوْهُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدَثُ الَّذِي حَدَثَ فِي الْأَرْضِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابَيِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنَيْهِمَا، مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ بِهِ (4) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، بِمِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ بِطُولِهِ، وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا شَعَرَ بِأَمْرِهِمْ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِخَبَرِهِمْ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قِصَّةَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِبَائِهِمْ عَلَيْهِ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَأَوْرَدَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ الْحَسَنَ: "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي" إِلَى آخِرِهِ. قَالَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُمْ بَاتَ بِنَخْلَةَ، فَقَرَأَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْقُرْآنِ فَاسْتَمَعَهُ الْجِنُّ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ (5) .
وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: "إِنَّ الْجِنَّ كَانَ اسْتِمَاعُهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ". فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْجِنَّ كَانَ اسْتِمَاعُهُمْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِيحَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ، وَخُرُوجُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى الطَّائِفِ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ عَمِّهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ، كَمَا قَرَّرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (6) .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ (7) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: هَبَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلَمَّا سَمِعُوهُ قَالُوا: أَنْصِتُوا. قَالَ (8) صَهٍ، وَكَانُوا تِسْعَةً (9) أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} إلى: {ضَلالٍ مُبِينٍ} (10) .
__________
(1) المسند (1/252) ، ودلائل النبوة للبيهقي (2/225) .
(2) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(3) في ت، م: "فيستمعون".
(4) صحيح البخاري برقم (773) وصحيح مسلم برقم (449) ، وسنن الترمذي برقم (3323) ، والنسائي في السنن الكبرى برقم (1164) .
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/419) .
(6) زيادة من ت.
(7) في ت: "وروى أبو بكر بن أبي شيبة بسنده".
(8) في ت، م: "قالوا".
(9) في أ: "سبعة".
(10) ورواه الحاكم في المستدرك (2/456) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة به، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.(7/290)
فَهَذَا مَعَ الْأَوَّلِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْتَضِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْعُرْ بِحُضُورِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ وَإِنَّمَا اسْتَمَعُوا قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَفَدُوا إِلَيْهِ أَرْسَالًا قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ، وَفَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ، كَمَا سَيَأْتِي بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ فِي مَوْضِعِهَا وَالْآثَارُ، مِمَّا سَنُورِدُهَا (1) هَاهُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
فَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا، عَنْ أَبِي قُدَامَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ السَّرْخَسِيِّ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ، عَنْ مَعْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَأَلْتُ مَسْرُوقًا: مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ (2) -أَنَّهُ آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَةٌ (3) -فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَيَكُونُ إِثْبَاتًا مُقَدَّمًا عَلَى نَفْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمَرَّاتِ الْمُتَأَخِّرَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُولَى وَلَكِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ حَالَ اسْتِمَاعِهِمْ حَتَّى آذَنَتْهُ بِهِمُ الشَّجَرَةُ، أَيْ: أَعْلَمَتْهُ بِاسْتِمَاعِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (4) ، إِنَّمَا هُوَ فِي أَوَّلِ مَا سَمِعَتِ (5) الْجِنُّ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَتْ حَالَهُ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَرَهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ دَاعِي الْجِنِّ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا رَوَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (6) .
ذَكَرَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِذَلِكَ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنِ الشَّعْبِيِّ -وَابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ (7) -عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةُ الْجِنِّ مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ فَقَالَ: مَا صَحِبَهُ مِنَّا أَحَدٌ، وَلَكِنَّا فَقَدْنَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِمَكَّةَ، فَقُلْنَا: اغْتِيلَ؟ اسْتُطِيرَ؟ مَا فَعَلَ؟ قَالَ: فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ -أَوْ قَالَ: فِي السَّحَرِ-إِذَا نَحْنُ بِهِ يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ -فَذَكَرُوا لَهُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ-فَقَالَ: "إِنَّهُ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ، فَأَتَيْتُهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ". قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ -قَالَ: وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سَأَلُوهُ الزَّادَ-قَالَ عَامِرٌ: سَأَلُوهُ بِمَكَّةَ، وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ، فَقَالَ: "كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ أَوْ رَوْثَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ -قَالَ-فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا، فَإِنَّهُمَا زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، بِهِ نَحْوَهُ (8) .
وَقَالَ مُسْلِمٌ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا دَاوُدُ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ-عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ: هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة
__________
(1) في ت: "نوردها".
(2) في ت: "ابن مسعود رضي الله عنه".
(3) صحيح البخاري برقم (3859) وصحيح مسلم برقم (450) .
(4) في م، أ: "عنه".
(5) في أ: "ما استمعت".
(6) دلائل النبوة للبيهقي (2/227) .
(7) في ت: "فروى الإمام أحمد بسنده".
(8) المسند (1/436) ، وصحيح مسلم برقم (450) .(7/291)
الْجِنِّ؟ قَالَ: فَقَالَ عَلْقَمَةُ: أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ؛ فَقُلْتُ: هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الْجِنِّ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ فَالْتَمَسْنَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ، فَقُلْنَا: اسْتُطِيرَ؟ اغْتِيلَ؟ قَالَ: فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا هُوَ جَاءَ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْنَاكَ فَطَلَبْنَاكَ فَلَمْ نَجِدْكَ، فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ. فَقَالَ: "أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ، فَذَهَبْتُ مَعَهُمْ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ". قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ: "كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ أَوْ رَوْثَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا، فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ" (1) .
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي عَمِّي، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ أن بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بِتُّ اللَّيْلَةَ أَقْرَأُ عَلَى الْجِنِّ رُبْعًا (2) بِالْحَجُونِ" (3) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: فِيهَا أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ بْنِ سَنَّةَ الْخُزَاعِيِّ -وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ (4) -أَنَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: "مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ الْجِنِّ اللَّيْلَةَ فَلْيَفْعَلْ". فَلَمْ يَحْضُرْ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرِي، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَعْلَى مَكَّةَ خَطَّ لِي بِرِجْلِهِ خَطًّا، ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَامَ، فَافْتَتَحَ الْقُرْآنَ فَغَشِيَتْهُ أَسْوِدَةٌ كَثِيرَةٌ حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، حَتَّى مَا أَسْمَعُ صَوْتَهُ، ثُمَّ طَفِقُوا يَتَقَطَّعُونَ مِثْلَ قِطَعِ السَّحَابِ ذَاهِبِينَ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهُمْ رَهْطٌ، فَفَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْفَجْرِ، فَانْطَلَقَ فَتَبَرَّزَ، ثُمَّ أَتَانِي فَقَالَ: "مَا فَعَلَ الرَّهْطُ؟ " فَقُلْتُ: هُمْ أُولَئِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُمْ عَظْمًا وَرَوْثًا زَادًا، ثُمَّ نَهَى أَنْ يَسْتَطِيبَ أَحَدٌ بِرَوْثٍ أَوْ عَظْمٍ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ وَهْبِ اللَّهِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الْأَيْلِيِّ، بِهِ (5) .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ -كَاتِبِ اللَّيْثِ-عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ بِهِ (6) .
وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، عَنْ جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابن مسعود، فذكر نحو ما تقدم (7) .
__________
(1) صحيح مسلم برقم (450) .
(2) في م: "وقفا"، وفي أ: "رفعا".
(3) تفسير الطبري (26/21) ورواه أحمد في المسند (1/416) من طريق يونس عن الزهري، به.
(4) في ت: "روى مسلم وروى ابن جرير بسنده".
(5) تفسير الطبري (26/21) .
(6) دلائل النبوة للبيهقي (2/330) ، ورواه الحاكم في المستدرك (2/503) من طريق عبد الله بن صالح به، قال الذهبي: "هو صحيح عند جماعة".
(7) وفي إسناده قابوس بن أبي ظبيان، ضعفه أبو حاتم والنسائي وأحمد، وقال ابن حبان: "ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، فربما رفع المرسل وأسند الموقوف".(7/292)
وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُوُ نُعَيْمٍ، مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الْمُعَلَّى (1) ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ أَيْضًا (2) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ وَعِكْرِمَةُ قَالَا حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: قَالَ أَبِي: حَدَّثَنِي أَبُو تَمِيمَةَ، عَنْ عَمْرٍو -وَلَعَلَّهُ قَدْ يَكُونُ قَالَ: الْبِكَالِيُّ-يُحَدِّثُهُ عَمْرٌو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اسْتَتْبَعَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَخَطَّ لِي خَطًّا فَقَالَ: "كُنْ بَيْنَ ظَهْرِ هَذِهِ لَا تَخْرُجُ مِنْهَا؛ فَإِنَّكَ إِنْ خَرَجْتَ مِنْهَا هَلَكْتَ" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَفِيهِ غَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ (3) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ (4) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ غَيْلَانَ الثَّقَفِيِّ؛ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: حُدِّثْتُ أَنَّكَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ وَفْدِ الْجِنِّ؟ قَالَ: أَجَلْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا، وَقَالَ: "لَا تَبْرَحْ مِنْهَا" فَذَكَرَ مِثْلَ العَجَاجة السَّوْدَاءِ غَشِيَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذُعِرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الصُّبْحِ، أَتَانِي النَّبِيُّ (5) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَنِمْتَ؟ " فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ مِرَارًا أَنْ أَسْتَغِيثَ بِالنَّاسِ حَتَّى سَمِعْتُكَ تُقَرِّعُهُمْ بِعَصَاكَ، تَقُولُ: "اجْلِسُوا" فَقَالَ: "لَوْ خَرَجْتَ لَمْ آمَنْ أَنْ يَخْطَفَكَ (6) بَعْضُهُمْ". ثُمَّ قَالَ: "هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ رَأَيْتُ رِجَالًا سُودًا مُسْتَشْعِرِينَ (7) ثِيَابًا بَيَاضًا. قَالَ: "أُولَئِكَ جِنُّ نَصِيبِينَ سَأَلُونِي الْمَتَاعَ -وَالْمَتَاعُ: الزَّادُ-فَمَتَّعْتُهُمْ بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ، أَوْ بَعْرَةٍ أَوْ رَوْثَةٍ"-فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِي ذَلِكَ عَنْهُمْ؟ فَقَالَ: "إِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ عَظْمًا إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ يَوْمَ أُكِلَ، وَلَا رَوْثًا إِلَّا وَجَدُوا فِيهَا حَبَّهَا يَوْمَ أُكِلَتْ، فَلَا يَسْتَنْقِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ بِعَظْمٍ وَلَا بَعْرَةٍ وَلَا رَوْثَةٍ" (8) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةُ قَالَا أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ البُوشَنْجي، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ صَلَاحٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: اسْتَتْبَعَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ -خَمْسَةَ عَشَرَ بَنِي إِخْوَةٍ وَبَنِي عَمٍّ-يَأْتُونَنِي اللَّيْلَةَ، فَأَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ"، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ، فَخَطَّ لِي خَطًّا وَأَجْلَسَنِي فِيهِ، وَقَالَ لِي: "لَا تَخْرُجْ مِنْ هَذَا". فَبِتُّ فِيهِ حَتَّى أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ السَّحَرِ فِي يَدِهِ عَظْمٌ حَائِلٌ وَرَوْثَةٌ حُمَمة فَقَالَ لِي: "إِذَا ذَهَبْتَ إِلَى الْخَلَاءِ فَلَا تَسْتَنْجِ بِشَيْءٍ مِنْ هَؤُلَاءِ". قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قُلْتُ: لَأَعْلَمَنَّ عِلْمِي حَيْثُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال، فَذَهَبْتُ فَرَأَيْتُ مَوْضِعَ مَبْرِكِ (9) سِتِّينَ بَعِيرًا (10) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرْنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ
__________
(1) في أ: "إسماعيل".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/80) من طريق موسى بن عبيدة الربذي، به.
(3) لم أجده في دلائل النبوة وهو في المسند للإمام أحمد (1/399) .
(4) في ت: "روى ابن جرير بسنده".
(5) في م: "رسول الله".
(6) في أ: "يختطفك".
(7) في ت، أ: "مستثفرين".
(8) تفسير الطبري (26/21) .
(9) في أ: "منزل".
(10) دلائل النبوة للبيهقي (2/231) .(7/293)
بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّوري، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ (1) ، عَنِ الْمُسْتَمِرِّ بْنِ الرَّيَّانِ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ، حَتَّى أَتَى الْحَجُونَ، فَخَطَّ لِي خَطًّا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ سَيِّدٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: "وَرْدَانُ": أَنَا أُرَحِّلُهُمْ عَنْكَ. فَقَالَ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ (2) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي فَزَارَةَ الْعَبْسِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ -مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ-عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْجِنِّ قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَعَكَ مَاءٌ؟ " قُلْتُ: لَيْسَ مَعِيَ مَاءٌ، وَلَكِنَّ مَعِيَ إِدَاوَةً فِيهَا نَبِيذٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ: "تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ" فَتَوَضَّأَ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي زَيْدٍ، بِهِ (3) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَمَعَكَ مَاءٌ؟ " قَالَ: مَعِيَ نَبِيذٌ فِي إِدَاوَةٍ، فَقَالَ (4) اصْبُبْ عَلَيَّ". فَتَوَضَّأَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ شَرَابٌ وَطَهُورٌ" (5) .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، [بِهِ] (6) (7) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ مِينَاءَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ وَفْدِ الْجِنِّ، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَنَفَّسَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: "نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي يَا ابْنَ مَسْعُودٍ".
هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي الْمُسْنَدِ مُخْتَصَرًا (8) ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ "دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ"، فَقَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مِينَاءَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ وَفْدِ الْجِنِّ، فَتَنَفَّسَ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي يَا ابْنَ مَسْعُودٍ". قُلْتُ: اسْتَخْلِفْ. قَالَ: "مَنْ؟ " قُلْتُ: أَبَا بَكْرٍ. فَسَكَتَ (9) ، ثُمَّ مَضَى سَاعَةً فَتَنَفَّسَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي يَا ابْنَ مَسْعُودٍ". قُلْتُ: اسْتَخْلِفْ. قَالَ: "مَنْ؟ " قُلْتُ: عُمَرَ [بْنَ الْخَطَّابِ] (10) . فَسَكَتَ، ثُمَّ مَضَى سَاعَةً، ثُمَّ تَنَفَّسَ فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: "نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي". قُلْتُ: فَاسْتَخْلِفْ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ؟ " قُلْتُ: عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ أَطَاعُوهُ ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين. (11) .
__________
(1) في أ: "عن عمر".
(2) دلائل النبوة للبيهقي (2/231) .
(3) المسند (1/449) ، وسنن أبي داود برقم (84) وسنن الترمذي برقم (88) وسنن ابن ماجه برقم (384) .
(4) في م: "قال".
(5) المسند (1/398) وقد تفرد به ابن لهيعة، وهو ضعيف.
(6) زيادة من م.
(7) سنن الدارقطني (1/77) من طريق داود بن أبي هند عن عامر بن علقمة بن قيس. قال: قلت لعبد الله بن مسعود: أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن؟ قال: لا، قال الدارقطني: "هذا الصحيح عن ابن مسعود".
(8) المسند (1/449) .
(9) في ت، م: "أبو بكر. قال: فسكت".
(10) زيادة من م.
(11) المعجم الكبير للطبراني (10/82) وفيه ميناء بن أبي ميناء، كذاب.(7/294)
وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَحْرَى بِهِ أَلَّا يَكُونَ مَحْفُوظًا، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا بَعْدَ وُفُودِهِمْ إِلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ عَلَى مَا سَنُورِدُهُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ، وَدَخَلَ النَّاسُ وَالْجَانُّ أَيْضًا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، نَزَلَتْ سُورَةُ (1) {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} ، وَهِيَ السُّورَةُ الَّتِي نُعِيَتْ نَفْسُهُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا إِلَيْهِ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ سَنُورِدُهُ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا، عَنِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ (2) الْأَسْلَمَيِّ، عَنْ حَرْبِ بْنِ صَبِيح، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَذَكَرَهُ وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ الِاسْتِخْلَافِ (3) ، وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ، وَسِيَاقٌ عَجِيبٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) خَطَّ حَوْلَهُ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ (5) مِثْلَ سَوَادِ النَّحْلِ، وَقَالَ لِي: "لَا تَبْرَحْ مَكَانَكَ"، فَأَقْرَأَهُمْ كِتَابَ اللَّهِ "، فَلَمَّا رَأَى الزُّط قَالَ: كَأَنَّهُمْ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَعَكَ مَاءٌ؟ " قُلْتُ: لَا. قَالَ: "أَمَعَكَ نَبِيذٌ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. فَتَوَضَّأَ بِهِ (6) .
طَرِيقٌ أُخْرَى مُرْسَلَةٌ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ (7) ، أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} قَالَ: هم اثنا عشر ألفا جاؤوا مِنْ جَزِيرَةِ الْمُوصِلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: "أَنْظِرْنِي حَتَّى آتِيَكَ"، وَخَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا، وَقَالَ: "لَا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ". فَلَمَّا خَشِيَهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ كَادَ أَنْ يَذْهَبَ، فَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَبْرَحْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ ذَهَبْتَ مَا الْتَقَيْنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (8) .
طَرِيقٌ أُخْرَى مُرْسَلَةٌ أَيْضًا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ صُرِفُوا إِلَيْهِ مِنْ نِينَوَى، وَأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى الْجِنِّ فَأَيُّكُمْ يَتْبَعُنِي؟ " فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ اسْتَتْبَعَهُمْ فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ اسْتَتْبَعَهُمُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ذَاكَ لَذُو نُدْبَةٍ فَأَتْبَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَخُو هُذَيْلٍ، قَالَ: فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْبًا يُقَالُ لَهُ: "شِعْبُ الْحَجُونِ"، وَخَطَّ عَلَيْهِ، وَخَطَّ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ لِيُثْبِتَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَهَالُ وَأَرَى أَمْثَالَ النُّسُورِ تَمْشِي فِي دَفُوفِهَا، وَسَمِعْتُ لَغَطًا شَدِيدًا، حَتَّى خِفْتُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا اللَّغَطُ الَّذِي سَمِعْتُ؟ قَالَ: "اخْتَصَمُوا فِي قَتِيلٍ، فَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ". رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أبي حاتم (9) .
__________
(1) في ت: "سورة النصر".
(2) في أ: "يعلى".
(3) المعجم الكبير للطبراني (10/81) وفي إسناده يحيى الأسلمي وهو ضعيف.
(4) في م، أ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن".
(5) في أ: "فكان يجيء أحدهم".
(6) المسند (1/455) .
(7) في م: "الطبراني".
(8) وفي إسناده الحكم بن أبان، وهو ضعيف.
(9) تفسير الطبري (26/20) .(7/295)
فَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا تَدُلُّ (1) عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إِلَى الْجِنِّ قَصْدًا، فَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَشَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَا هُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ أَوَّلَ مَرَّةٍ سَمِعُوهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ [وَ] (2) لَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3) ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَفَدُوا إِلَيْهِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ مُخَاطَبَتِهِ الْجِنَّ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ سِوَاهُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَشْهَدْ حَالَ الْمُخَاطَبَةِ، هَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَيْهَقِيِّ.
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَرَّةٍ خَرَجَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَلَا غَيْرُهُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ طَرِيقِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ خَرَجَ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ: {قُلْ أُوحِيَ} ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْجِنُّ الَّذِينَ لَقُوهُ بِنَخْلَةَ فَجِنُّ نِينَوَى، وَأَمَّا الْجِنُّ الَّذِينَ لَقُوهُ بِمَكَّةَ فَجِنُّ نَصِيبِينَ، وَتَأَوَّلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ: "فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ"، عَلَى غَيْرِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ بِخُرُوجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجِنِّ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ عَلَى بُعْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (4) الْأَدِيبُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ جَدِّهِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ (5) كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتْبَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِدَاوَةٍ لِوُضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَأَدْرَكَهُ يَوْمًا فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟ " قَالَ: أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: "ائْتِنِي بِأَحْجَارٍ أَسْتَنْجِ بِهَا، وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثَةٍ". فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ فِي ثَوْبِي، فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ حَتَّى إِذَا فَرَغَ وَقَامَ اتَّبَعْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ (6) ؟ قَالَ: "أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ، فَسَأَلُونِي الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَلَّا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ إِلَّا وَجَدُوهُ طَعَامًا" (7) .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، بِإِسْنَادِهِ قَرِيبًا مِنْهُ (8) فَهَذَا يَدُلُّ مَعَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّهُمْ وَفَدُوا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَسَنَذْكُرُ مَا يَدُلُّ عَلَى تَكْرَارِ ذَلِكَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ مَا ذُكِرَ (9) عَنْهُ أَوَّلًا مِنْ وَجْهٍ جَيِّدٍ، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} الْآيَةَ، [قَالَ] (10) كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ فَجَعَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ (11) .
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى القصتين.
__________
(1) في ت: "فهذه الأحاديث التي ذكرناها كلها تدل".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت، أ: "عنه".
(4) في أ: "عبد الوهاب".
(5) في ت: "وقال الحافظ أبو بكر البيهقي بسنده".
(6) في ت: "الروث".
(7) دلائل النبوة للبيهقي (2/233) .
(8) صحيح البخاري برقم (3860) .
(9) في أ: "ما روي".
(10) زيادة من أ.
(11) تفسير الطبري (26/22) .(7/296)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا رَجُلٌ سَمَّاهُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} الْآيَةَ، قَالَ: كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ، ثَلَاثَةً مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ، وَأَرْبَعَةً مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ، وَكَانَتْ أَسْمَاؤُهُمْ حَيَى وَحَسَى وَمَسَى، وَشَاصَرَ وَنَاصَرَ، وَالْأَرَدَ وَإِبْيَانَ وَالْأَحْقَمَ.
وَذَكَرَ أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ أَنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْجِنِّ كَانَ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو الشَّيْصِبَانِ، وَكَانُوا أَكْثَرَ الْجِنِّ عَدَدًا وَأَشْرَفَهُمْ نَسَبًا، وَهُمْ كَانُوا عَامَّةَ جُنُودِ إِبْلِيسَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ ذَرّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كَانُوا تِسْعَةً، أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، أَتَوْهُ مِنْ أَصْلِ نَخْلَةَ.
وَتَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى سِتِّينَ رَاحِلَةً، وَتَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّ اسْمَ سَيِّدِهِمْ وَرْدَانُ، وَقِيلَ: كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ، وَتَقَدَّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَلَعَلَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ دَلِيلٌ عَلَى تَكَرُّرِ وِفَادَتِهِمْ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ (1) الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ -هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ-أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِشَيْءٍ قَطُّ: "إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَذَا" إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ، بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ، فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي -أَوْ: إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ-أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ-عَلَيَّ بِالرَّجُلِ، فَدُعِيَ لَهُ (2) ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ لَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ. قَالَ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي. قَالَ: كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِيَّتُك. قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ، فَقَالَتْ:
أَلَمْ تَرْ الجِنَّ وإبْلاسَهَا ... ويَأسَها مِنْ بَعْدِ إنْكَاسِها ...
ولُحوقَها بِالْقِلَاصِ وَأَحْلاسها
قَالَ عُمَرُ: صَدَقَ، بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ، فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ، لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ: يَا جَلِيحُ، أَمْرٌ نَجِيحٌ، رَجُلٌ فَصِيحٌ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَوَثَبَ (3) الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا؟ ثُمَّ نَادَى يَا جَلِيحُ، أَمْرٌ نَجِيحٌ، رَجُلٌ فَصِيحٌ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ". فَقُمْتُ، فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ: هَذَا نَبِيٌّ.
هَذَا سِيَاقُ الْبُخَارِيِّ (4) ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ، بِنَحْوِهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُوهِمُ أَنَّ عُمَرَ بِنَفْسِهِ سَمِعَ الصَّارِخَ يَصْرُخُ مِنَ الْعِجْلِ الَّذِي ذُبِحَ، وَكَذَلِكَ هُوَ صَرِيحٌ (5) فِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ عَنْ عُمَرَ فِي إِسْلَامِهِ، وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَاهِنَ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ بذلك عن
__________
(1) في م: "ما رواه".
(2) في ت، م، أ: "فدعى فجيء به له".
(3) في م، أ: "قال: فوثب".
(4) صحيح البخاري برقم (3866) .
(5) في ت، م، أ: "صريحا" وهو خطأ.(7/297)
رُؤْيَتِهِ وَسَمَاعِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (1) .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ البيهقي هو المتجهن وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذَا (2) مُسْتَقْصًى فِي سِيرَةِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَأْخُذْهُ مِنْ ثَمَّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ [وَالْمِنَّةُ] (3) .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: "حَدِيثُ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْكَاهِنَ الَّذِي لَمْ يُذْكَرِ اسْمُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ".
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الْمُفَسِّرُ مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ الْأَصْبِهَانِيُّ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى الْحَمَّارُ الْكُوفِيُّ بِالْكُوفَةِ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ بَادَوَيْهِ أَبُو بَكْرٍ القصري، حدثنا محمد بن نواس الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (4) قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَفِيكُمْ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالَ: فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ تِلْكَ السَّنَةَ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الْمُقْبِلَةُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَفِيكُمْ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ سَوَادَ بْنَ قَارِبٍ كَانَ بَدءُ إِسْلَامِهِ شَيْئًا عَجِيبًا، قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا سَوَادُ حَدِّثْنَا بِبَدْءِ إِسْلَامِكَ، كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ سَوَادٌ: فَإِنِّي كُنْتُ نَازِلًا بِالْهِنْدِ، وَكَانَ لِي رَئِيّ مِنَ الْجِنِّ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَائِمٌ، إِذْ جَاءَنِي فِي مَنَامِي ذَلِكَ. قَالَ: قُمْ فَافْهَمْ وَاعْقِلْ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، قَدْ بُعِثَ رَسُولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
عَجِبتُ للجنِّ وأنْجَاسِها (5) وشَدّها العيسَ بأحْلاسهَا ...
تَهْوي إِلَى مَكةَ تَبْغي الهُدَى ... مَا مُؤمنو الجِنِّ كَأرْجَاسهَا ...
فَانْهَض إِلَى الصَّفْوةِ مِنْ هَاشمٍ ... واسْمُ بعينَيْك إِلَى رَاسِهَا ...
قَالَ: ثُمَّ أَنْبَهَنِي فَأَفْزَعَنِي، وَقَالَ: يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ، إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ نَبِيًّا فَانْهَضْ إِلَيْهِ تَهْتَدِ وَتَرْشُدْ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ أَتَانِي فَأَنْبَهَنِي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ كَذَلِكَ:
عَجِبتُ للجنِّ وَتَطْلابِها ... وَشَدهَا العِيسَ بأقْتَابِهَا ...
تَهْوي إِلَى مَكّةَ تَبْغي الهُدَى ... ليسَ قُداماها كَأذْنَابِها ...
فَانْهَضْ إِلَى الصّفْوةِ مِنْ هَاشمٍ ... واسْمُ بعَيْنَيك إِلَى نَابِها (6)
فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَتَانِي فَأَنْبَهَنِي، ثُمَّ قَالَ:
عَجِبتُ للجِنّ وَتَخْبارها ... وَشَدَّها العِيسَ بأكْوَارهَا ...
تَهْوي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الهُدَى ... لَيْسَ ذَوُو الشَّر كَأخْيَارهَا ...
فَانْهَضْ إِلَى الصَّفْوةِ مِنْ هَاشمٍ ... مَا مُؤمِنو الجِنِّ كَكُفَّارهَا ...
__________
(1) دلائل النبوة للبيهقي 02/245) .
(2) في ت: "ذلك".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من ت.
(5) في أ: "وأجناسها".
(6) في أ: "يابها".(7/298)
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهُ تَكَرَّرَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ، وَقَعَ فِي قَلْبِي حُبُّ الْإِسْلَامِ مِنْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَحْلِي فَشَدَدْتُهُ عَلَى رَاحِلَتِي، فَمَا حَلَلْتُ [عَلَيْهِ] (1) نَسْعَةً وَلَا عَقَدْتُ أُخْرَى حَتَّى أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ بِالْمَدِينَةِ -يَعْنِي مَكَّةَ-وَالنَّاسُ عَلَيْهِ كَعُرْفِ الْفَرَسِ، فَلَمَّا رَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَرْحَبًا بِكَ يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ، قَدْ عَلِمْنَا مَا جَاءَ بِكَ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ قُلْتُ شِعْرًا، فَاسْمَعْهُ مِنِّي. قَالَ سَوَادٌ: فَقُلْتُ:
أتَانِي رئيَّ بَعْدَ لُيَلٍ وهَجْعةٍ ... وَلم يَكُ فِيمَا قَدْ بَلوَتُ بكَاذبِ ...
ثَلاثٍ لَيَال قَولُه كُلَّ لَيْلَة: ... أَتَاكَ رَسُولٌ (2) مِنْ لُؤيّ بْنِ غَالبِ ...
فَشَمَّرتُ عَنْ سَاقي الإزَارَ وَوَسَّطَتْ ... بِيَ الدَّعلب الوَجْنَاءُ عِنْدَ السَّبَاسبِ ...
فَأشْهَدُ أَنَّ اللهَ لَا شَيء غَيْرهُ ... وَأَنّكَ مَأْمُونٌ عَلَى كُِّل غَائبِ ...
وأَنَّك أَدْنَى المُرْسَلِينَ شَفَاعَة ... إِلَى اللهِ يَا ابنَ الأكرَمينَ الأطايبِ ...
فَمُرنَا بمَا يَأتِيكَ يَا خَيرَ مُرْسل (3) وإنْ كَانَ فِيمَا جَاءَ شَيبُ الذّوَائبِ ...
وَكُنْ لِي شَفِيعا يَومَ لَا ذُو شَفَاعةٍ ... سِوَاك بِمغْنٍ عَنْ سَوَاد بْنِ قَاربِ ...
قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ لِي: "أَفْلَحْتَ يَا سَوَادُ": فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ يَأْتِيكَ رِئِيُّكَ الْآنَ؟ فَقَالَ: مُنْذُ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ لَمْ يَأْتِنِي، وَنِعْمَ الْعِوَضُ كِتَابُ اللَّهِ مِنَ الْجِنِّ (4) .
ثُمَّ أَسْنَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ (5) . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وِفَادَتِهِمْ إِلَيْهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (6) ، بَعْدَ مَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ "دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ" [فَقَالَ] (7) :
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدَةَ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَة الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي مَنْ حَدَّثَهُ عَمْرُو بْنُ غَيْلَانَ الثَّقَفِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقُلْتُ لَهُ: حُدِّثْتُ أَنَّكَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ وَفْدِ الْجِنِّ؟ قَالَ: أَجَلْ قُلْتُ: حَدِّثْنِي كَيْفَ كَانَ شَأْنُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ أَخَذَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ (8) يُعَشِّيهِ، وَتُرِكْتُ فَلَمْ يَأْخُذْنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "مَنْ هَذَا؟ " فَقُلْتُ: أَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ. فَقَالَ: "مَا أَخَذَكَ أَحَدٌ يُعَشِّيكَ؟ " فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: "فَانْطَلِقْ لَعَلِّي أَجِدُ لَكَ شَيْئًا". قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَى حُجْرَةَ أَمِّ سَلَمَةَ فَتَرَكَنِي (9) وَدَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ خَرَجَتِ الْجَارِيَةُ فَقَالَتْ: يَا ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجِدْ لَكَ عَشَاءً، فَارْجِعْ إِلَى مَضْجَعِكَ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَمَعْتُ حَصْبَاءَ الْمَسْجِدِ فَتَوَسَّدْتُهُ، وَالْتَفَفْتُ بِثَوْبِي، فَلَمْ أَلْبَثْ إلا قليلا حتى جاءت الجارية، فقالت:
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت، م: "نبي".
(3) في ت: "من مشى".
(4) دلائل النبوة للبيهقي (1/248) .
(5) دلائل النبوة للبيهقي (1/252) .
(6) في أ: "على الإسلام".
(7) زيادة من أ.
(8) في ت، أ: "رجلا" وهو خطأ.
(9) في أ: "فتركني قائما".(7/299)
أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ (1) . فَاتَّبَعْتُهَا وَأَنَا أَرْجُو الْعَشَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ مَقَامِي، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ عَسِيبٌ مِنْ نَخْلٍ، فَعَرَضَ بِهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ: "أَتَنْطَلِقُ أَنْتَ مَعِي (2) حَيْثُ انْطَلَقْتُ؟ " قُلْتُ: مَا شَاءَ اللَّهُ. فَأَعَادَهَا عَلَيَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ أَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ. فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا بَقِيعَ الْغَرْقَدِ، فَخَطَّ بِعَصَاهُ خطا، ثم قال: "اجلس فيها، ولا تبرج حَتَّى آتِيَكَ". ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ خِلَالَ النَّخْلِ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ حَيْثُ لَا أَرَاهُ ثَارَتِ (3) العَجَاجة السَّوْدَاءُ، فَفَرِقْتُ فَقُلْتُ: أَلْحَقُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ (4) هَوَازِنَ مَكَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلُوهُ، فَأَسْعَى إِلَى الْبُيُوتِ، فَأَسْتَغِيثُ النَّاسَ. فَذَكَرْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَانِي: أَنْ لَا أَبْرَحَ مَكَانِي الَّذِي أَنَا فِيهِ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَعُهُمْ بِعَصَاهُ وَيَقُولُ: "اجْلِسُوا". فَجَلَسُوا حَتَّى كَادَ يَنْشَقُّ عَمُودُ الصُّبْحِ، ثُمَّ ثَارُوا وَذَهَبُوا، فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَنِمْتَ بَعْدِي؟ " فَقُلْتُ: لَا (5) ، وَلَقَدْ فَزِعْتُ الْفَزْعَةَ الْأُولَى، حَتَّى رَأَيْتُ أَنْ آتِيَ الْبُيُوتَ فَأَسْتَغِيثَ النَّاسَ حَتَّى سَمِعْتُكَ تَقْرَعُهُمْ بِعَصَاكَ، وَكُنْتُ أَظُنُّهَا هَوَازِنَ، مَكَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلُوهُ. فَقَالَ: "لَوْ أَنَّكَ خَرَجْتَ مِنْ هَذِهِ الْحَلْقَةِ مَا آمَنُهُمْ (6) عَلَيْكَ أَنْ يَخْتَطِفَكَ بَعْضُهُمْ، فَهَلْ رَأَيْتَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُمْ؟ " فَقُلْتُ: رَأَيْتُ رِجَالًا سُودًا مُسْتَشْعِرِينَ (7) بِثِيَابٍ بِيضٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُولَئِكَ وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ، أَتَوْنِي فَسَأَلُونِي الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَمَتَّعْتُهُمْ بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ أَوْ رَوْثَةٍ أَوْ بَعْرَةٍ". قُلْتُ: وَمَا يُغْنِي عَنْهُمْ ذَلِكَ؟ قَالَ: "إِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ عَظْمًا إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ أُكِلَ، وَلَا رَوْثَةً إِلَّا وَجَدُوا فِيهَا حَبَّهَا الَّذِي كَانَ فِيهَا يَوْمَ أُكِلَتْ، فَلَا يَسْتَنْقِي أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَظْمٍ وَلَا بَعْرَةٍ (8) " (9) .
وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ جِدًّا (10) ، وَلَكِنْ فِيهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ لَمْ يُسَمَّ [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (11) ، وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنِي نُمَيْرُ بْنُ زَيْدٍ الْقَنْبَرُ (12) ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا قُحَافَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم صلاة الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "أَيُّكُمْ يَتْبَعُنِي إِلَى وَفْدِ الْجِنِّ اللَّيْلَةَ؟ " فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ ثَلَاثًا، فَمَرَّ بِي فَأَخَذَ بِيَدِي، فَجَعَلْتُ أَمْشِي مَعَهُ حَتَّى حُبِسَتْ عَنَّا جِبَالُ الْمَدِينَةِ كُلُّهَا، وَأَفْضَيْنَا إِلَى أَرْضِ بَرَازٍ، فَإِذَا بِرِجَالٍ طُوَالٍ كَأَنَّهُمُ الرِّمَاحُ، مُسْتَشْعِرِينَ (13) بِثِيَابِهِمْ مِنْ بَيْنِ أَرْجُلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ غَشِيَتْنِي رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمِ (14) ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِوُفُودِ الْجِنِّ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الطَّيِّبِ أَحْمَدُ بْنُ رَوْحٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقي، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ بُكَيْرٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عمر (15)
__________
(1) في ت: "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(2) في ت، م: "انطلق معي"، وفي أ: "انطلق أنت معي".
(3) في ت، م، أ: "ثارت مثل العجاجة".
(4) في ت، م، أ: "هذه".
(5) في أ: "لا والله".
(6) في ت، م: "ما أمنت" وفي أ: "ما آمن".
(7) في ت، أ: "مستثفرين".
(8) في ت: "ولا روثة".
(9) لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.
(10) في تن أ: "وهذا سياق غريب".
(11) زيادة من ت، أ.
(12) في ت، أ: "حدثني بهز بن يزيد الليثي".
(13) في ت، أ: "مستثفرين".
(14) لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.
(15) في م: "عمير".(7/300)
، أَخْبَرَنِي عُبَيْدٌ المُكتب، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: خَرَجَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ (1) يُرِيدُونَ الْحَجَّ، حَتَّى إِذَا كَانُوا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، إِذَا هُمْ بِحَيَّةٍ تَنْثَنِي (2) عَلَى الطَّرِيقِ أَبْيَضَ، يَنْفُخُ مِنْهُ رِيحُ الْمِسْكِ، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: امْضُوا، فَلَسْتُ بِبَارِحٍ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذِهِ الْحَيَّةِ. قَالَ: فَمَا لَبِثَتْ أَنْ مَاتَتْ، فَعَمَدْتُ إِلَى خِرْقَةٍ بَيْضَاءَ فَلَفَفْتُهَا فِيهَا، ثُمَّ نَحَّيْتُهَا عَنِ الطَّرِيقِ فَدَفَنْتُهَا، وَأَدْرَكْتُ أَصْحَابِي فِي الْمُتَعَشَّى. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَقُعُودٌ إِذْ أَقْبَلَ (3) أَرْبَعُ نِسْوَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ، فَقَالَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ: أَيُّكُمْ دَفَنَ عَمْرًا؟ قُلْنَا: وَمَنْ عَمْرٌو، قَالَتْ: أَيُّكُمْ دَفَنَ الْحَيَّةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا. قَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ دَفَنْتَ صَوَّامًا قَوَّامًا، يَأْمُرُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلَقَدْ آمَنَ بِنَبِيِّكُمْ، وَسَمِعَ صِفَتَهُ مِنَ (4) السَّمَاءِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ بِأَرْبَعِمِائَةِ عَامٍ. قَالَ الرَّجُلُ فَحَمِدْنَا (5) اللَّهَ، ثُمَّ قَضَيْنَا حَجَّتَنَا (6) ، ثُمَّ مَرَرْتُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الْمَدِينَةِ، فَأَنْبَأْتُهُ بِأَمْرِ الْحَيَّةِ، فَقَالَ: صَدَقْتَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَقَدْ آمَنَ بِي قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ بِأَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ" (7) .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، بِنَحْوِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ والِّظهراني، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ -هُوَ الَّذِي نَزَلَ وَدَفَنَ تِلْكَ الْحَيَّةَ مِنْ بَيْنِ الصَّحَابَةِ-وَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَمَا إِنَّهُ آخِرُ التِّسْعَةِ مَوْتًا الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ (8) .
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الماجِشُون، عَنْ عَمِّهِ (9) ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عُبَيْد اللَّهِ (10) بْنِ مَعْمَرٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي كُنْتُ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى ثُعْبَانَيْنِ (11) اقْتَتَلَا ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى الْمُعْتَرَكِ، فَوَجَدْتُ حَيَّاتٍ كَثِيرَةً مَقْتُولَةً، وَإِذْ يَنْفَحُ مِنْ بَعْضِهَا رِيحُ الْمِسْكِ، فَجَعَلْتُ أشمُّها وَاحِدَةً وَاحِدَةً، حَتَّى وَجَدْتُ ذَلِكَ مِنْ حَيَّةٍ صَفْرَاءَ رَقِيقَةٍ، فَلَفَفْتُهَا فِي عِمَامَتِي وَدَفَنْتُهَا. فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ نَادَانِي (12) مُنَادٍ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَقَدْ هُدِيتَ! هَذَانَ حَيَّانِ (13) مِنَ الْجِنِّ بَنُو أَشْعِيبَانَ وَبَنُو أُقَيْشٍ الْتَقَوْا، فَكَانَ مِنَ الْقَتْلَى مَا رَأَيْتَ، وَاسْتُشْهِدَ الَّذِي دَفَنْتَهُ، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا الْوَحْيَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فَقَالَ عُثْمَانُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ رَأَيْتَ عَجَبًا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَعَلَيْكَ كَذِبُكَ (14) .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} أَيْ: طَائِفَةً مِنَ الْجِنِّ، {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا}
__________
(1) في م: "عبيد الله".
(2) في أ: "تمشي".
(3) في ت، م: "جاء".
(4) في ت: "في".
(5) في أ: "فحمدت".
(6) في ت، م، أ: "حجنا".
(7) دلائل النبوة لأبي نعيم (ص306) .
(8) لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.
(9) في ت: "وروى أبو نعيم بإسناده".
(10) في ت، م، أ: "عبد الله".
(11) في ت، أ، م: "إعصارين".
(12) في أ: "هذا جان".
(13) في ت، م: "نادى".
(14) دلائل النبوة لأبي نعيم (ص305) .(7/301)
أَيْ: اسْتَمِعُوا (1) وَهَذَا أَدَبٌ مِنْهُمْ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو الطَّيِّبِ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّقَّاقُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ البُوشَنْجي، حَدَّثَنَا هِشام بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ "الرَّحْمَنِ" حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: "مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا، لَلْجِنّ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا، مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مَرَّةٍ: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إِلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ آلَائِكَ -أَوْ نِعَمِكَ-رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ بِهِ (2) . قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ، فَذَكَرَهُ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: "غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ، عَنْ زُهَيْرٍ" كَذَا قَالَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيِّ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، بِهِ مِثْلَهُ (3) (4) .
وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا قُضِيَ} أَيْ: فَرَغَ. كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] ، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فُصِّلَتْ: 12] ، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 200] {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} أَيْ: رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَأَنْذَرُوهُمْ مَا سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَقَوْلِهِ: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التَّوْبَةِ: 122] .
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ فِي الْجِنِّ نُذُرٌ، وَلَيْسَ فِيهِمْ رُسُلٌ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجِنَّ لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ مِنْهُمْ رَسُولًا؛ لِقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يُوسُفَ: 109] ، وَقَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ} [الْفُرْقَانِ: 20] ، وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 27] .
فَكُلُّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ فَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَسُلَالَتِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي [سُورَةِ] (5) الْأَنْعَامِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الْأَنْعَامِ: 130] ، فَالْمُرَادُ مِنْ مَجْمُوعِ الْجِنْسَيْنِ، فَيَصْدُقُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْإِنْسُ، كَقَوْلِهِ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرَّحْمَنِ: 22] أَيْ: أَحَدُهُمَا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ إِنْذَارَ الْجِنِّ لِقَوْمِهِمْ فَقَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ] } (6) ، وَلَمْ يَذْكُرُوا عِيسَى؛ لِأَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْإِنْجِيلُ فِيهِ مَوَاعِظُ وَتَرْقِيقَاتٌ وَقَلِيلٌ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَالْمُتَمِّمِ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، فَالْعُمْدَةُ هُوَ التَّوْرَاةُ؛ فَلِهَذَا قَالُوا: أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى. وَهَكَذَا قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، حِينَ أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ
__________
(1) في ت، م: "استمعوه".
(2) دلائل النبوة للبيهقي (1/232) وسنن الترمذي برقم (3291) .
(3) في ت: "بمعناه".
(4) دلائل النبوة للبيهقي (1/232) .
(5) زيادة من ت.
(6) زيادة من أ.(7/302)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِصَّةِ نِزُولِ جِبْرِيلَ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (1) عَلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: بَخ بَخ، هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا.
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أَيْ: مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَقَوْلُهُمْ: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} أَيْ: فِي الِاعْتِقَادِ وَالْإِخْبَارِ، {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} فِي الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ (2) خَبَرٍ وَطَلَبٍ (3) ، فَخَبَرُهُ صِدْقٌ، وَطَلَبُهُ عَدْلٌ، كَمَا قَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الْأَنْعَامِ: 115] ، وَقَالَ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التَّوْبَةِ: 33] ، فَالْهُدَى هُوَ: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ: هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَهَكَذَا قَالَتِ الْجِنُّ: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} فِي الِاعْتِقَادَاتِ، {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ: فِي الْعَمَلِيَّاتِ.
{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (4) إِلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ حَيْثُ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا خِطَابُ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَكْلِيفُهُمْ وَوَعْدُهُمْ وَوَعِيدُهُمْ، وَهِيَ سُورَةُ الرَّحْمَنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ (5) {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ}
وَقَوْلُهُ: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} قِيلَ: إِنَّ "مِنْ" هَاهُنَا زَائِدَةٌ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ قليل، وقيل: إنها على بابها للتبغيض، {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ: وَيَقِيكُمْ مِنْ عَذَابِهِ الْأَلِيمِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْجِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَإِنَّمَا جَزَاءُ صَالِحِيهِمْ أَنْ يُجَارُوا مِنْ عَذَابِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا هَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ مَقَامُ تَبَجُّحٍ وَمُبَالَغَةٍ فَلَوْ كَانَ لَهُمْ جَزَاءٌ عَلَى الْإِيمَانِ أَعْلَى مِنْ هَذَا لَأَوْشَكَ أَنْ يَذْكُرُوهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَدْخُلُ مُؤْمِنُو الْجِنِّ الْجَنَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ، وَلَا تَدْخُلُ ذُرِّيَّةُ إِبْلِيسَ الْجَنَّةَ.
وَالْحُقُّ أَنَّ مُؤمِنَهم كَمُؤْمِنِي الْإِنْسِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ (6) مِنَ السَّلَفِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرَّحْمَنِ: 74] ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46، 47] ، فَقَدِ امْتَنَّ تَعَالَى عَلَى الثَّقَلَيْنِ بِأَنْ جَعَلَ جَزَاءَ مُحْسِنِهِمُ الْجَنَّةَ، وَقَدْ قَابَلَتِ الجِنّ هَذِهِ الْآيَةَ بِالشُّكْرِ الْقَوْلِيِّ أَبْلَغَ مِنَ الْإِنْسِ، فَقَالُوا: "وَلَا بِشَيء مِنْ آلَائِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ" فَلَمْ يَكُنْ تَعَالَى لِيَمْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِجَزَاءٍ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يُجَازِي كَافِرَهُمْ بِالنَّارِ -وَهُوَ مَقَامُ عَدْلٍ-فَلأنْ يُجَازِيَ مُؤْمِنَهُمْ بِالْجَنَّةِ -وَهُوَ مَقَامُ فَضْل-بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ عمومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا} [الكهف: 107] ، وما
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "نوعين".
(3) في أ: "خبرا وطلبا".
(4) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(5) في م: "قالوا".
(6) في ت، أ: "طائفة".(7/303)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
أَشْبَهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ أَفْرَدْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي جُزْءٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَهَذِهِ الْجَنَّةُ لَا يَزَالُ فِيهَا فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا، أَفَلَا يُسْكِنُهَا مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ لَهُ صَالِحًا؟ وَمَا ذَكَرُوهُ هَاهُنَا مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ وَالْإِجَارَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، هُوَ يَسْتَلْزِمُ دُخُولَ الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ، فَمَنْ أُجِيرَ مِنَ النَّارِ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَا مَحَالَةَ. وَلَمْ يَرِدْ مَعَنَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَلَا ظَاهِرٌ عَنِ (1) الشَّارِعِ أَنَّ مُؤْمِنِي الْجِنِّ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَإِنْ أُجِيرُوا مِنَ النَّارِ، وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَقُولُ لِقَوْمِهِ: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نُوحٍ: 4] ، (2) وَلَا خِلَافَ أَنَّ مُؤْمِنِي قَوْمِهِ فِي الْجَنَّةِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ حُكِيَ فِيهِمْ أَقْوَالٌ غَرِيبَةٌ فَعَنْ عُمَر بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ فِي رَبَضها وَحَوْلَهَا وَفِي أَرْجَائِهَا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ يَرَاهُمْ بَنُو آدَمَ وَلَا يَرَوْنَ بَنِي آدَمَ عَكْسَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا يَأْكُلُونَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا يَشْرَبُونَ، وَإِنَّمَا يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ وَالتَّقْدِيسَ، عِوَضا عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَالْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِيهَا نَظَرٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُ: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ} أَيْ: بَلْ قُدْرَةُ اللَّهِ شَامِلَةٌ لَهُ وَمُحِيطَةٌ بِهِ، {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ} أَيْ: لَا يُجِيرُهُمْ مِنْهُ أحدٌ {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وَهَذَا مقامُ تَهْدِيدٍ وَتَرْهِيبٍ، فَدَعَوا قَوْمَهُمْ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ؛ وَلِهَذَا نَجَعَ فِي كَثِيرٍ منهم، وجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وُفُودًا وُفُودًا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} أَيْ: هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمُسْتَبْعِدُونَ لِقِيَامِ الْأَجْسَادِ يَوْمَ الْمَعَادِ {أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} أَيْ: وَلَمْ يَكْرثهُ خَلْقُهن، بَلْ قَالَ لَهَا: "كُونِي" فَكَانَتْ، بِلَا مُمَانَعَةٍ وَلَا مُخَالَفَةٍ، بَلْ طَائِعَةٌ مُجِيبَةٌ خَائِفَةٌ وَجِلَةٌ، أَفَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غَافِرٍ: 57] ، وَلِهَذَا قَالَ: {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
__________
(1) في أ: "من".
(2) في ت، أ: "ويجركم" وهو خطأ.(7/304)
ثُمَّ قَالَ مُتَهَدِّدًا وَمُتَوَعِّدًا لِمَنْ كَفَرَ بِهِ: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ: أَمَا هَذَا حَقٌّ؟ أَفَسِحْرٌ هَذَا؟ أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ؟ {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} أَيْ: لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ، {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ (1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} أَيْ: عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِهِمْ لَهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْدَادِ أُولِي الْعَزْمِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَأَشْهَرُهَا أَنَّهُمْ: نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى أَسْمَائِهِمْ مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ فِي آيَتَيْنِ مِنْ (2) سُورَتَي "الْأَحْزَابِ" وَ "الشُّورَى"، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأُولِي الْعَزْمِ جَمِيعُ الرّسُل، وَتَكُونَ {مِنَ} فِي قَوْلِهِ: {مِنَ الرُّسُلِ} لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ حَيَّان، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا مَجَالِدُ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] (3) : ظَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا ثُمَّ طَوَاهُ، ثُمَّ ظَلَّ صَائِمًا ثُمَّ طَوَاهُ، ثُمَّ ظَلَّ صَائِمًا، [ثُمَّ] (4) قَالَ: "يَا عَائِشَةُ، إِنَّ الدُّنْيَا لَا تَنْبَغِي لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ. يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى مَكْرُوهِهَا وَالصَّبْرِ عَنْ مَحْبُوبِهَا، ثُمَّ لَمْ يَرْضَ مِنِّي إِلَّا أَنْ يُكَلِّفَنِي مَا كَلَّفَهُمْ، فَقَالَ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وَإِنِّي -وَاللَّهِ-لَأَصْبِرَنَّ كَمَا صَبَرُوا جَهدي، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" (5)
{وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} أَيْ: لَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ حُلُولَ الْعُقُوبَةِ بِهِمْ، كَقَوْلِهِ: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا} [الْمُزَّمِّلِ: 11] ، وَكَقَوْلِهِ {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطَّارِقِ: 17] .
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} ، كَقَوْلِهِ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النَّازِعَاتِ: 46] ، وَكَقَوْلِهِ {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يُونُسَ: 45] ، [وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُمِ اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْبَرْزَخِ حِينَ عَايَنُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشَدَائِدَهَا وَطُولَهَا] (6) .
وَقَوْلُهُ: {بَلاغٌ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: وَذَلِكَ لَبثَ بَلَاغٌ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: هَذَا الْقُرْآنُ بَلَاغٌ.
وَقَوْلُهُ: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} أَيْ: لَا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالِكٌ، وَهَذَا مِنْ عَدْلِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ إِلَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ.
آخِرُ تفسير سورة الأحقاف
__________
(1) في ت: "لرسوله".
(2) في ت: "في".
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من ت، م، أ.
(5) ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (8628) "مكرر" من طريق محمد بن حجاج الحضرمي به.
(6) زيادة من ت، أ.(7/305)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْقِتَالِ
[وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ] (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: بِآيَاتِ اللَّهِ، {وَصَدُّوا} غَيْرَهُمْ {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أَيْ: أَبْطَلَهَا وَأَذْهَبَهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا جَزَاءً وَلَا ثَوَابًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الْفُرْقَانِ: 23] .
ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ: آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَسَرَائِرُهُمْ، وَانْقَادَتْ جَوَارِحُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ وَظَوَاهِرُهُمْ، {وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} ، عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بَعْدَ بِعْثَتِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ حَسَنَةٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ أَمْرَهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَأْنَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: حَالَهُمْ. وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ: "يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ" (2) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} أَيْ: إِنَّمَا أَبْطَلْنَا أَعْمَالَ الْكُفَّارِ، وَتَجَاوَزْنَا عَنْ سَيِّئَاتِ الأبرار، وأصلحنا شؤونهم؛ لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ، أَيِ: اخْتَارُوا الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ، {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أَيْ: يُبَيِّنُ لَهُمْ مَآلَ أَعْمَالِهِمْ، وَمَا يصيرون إليه في معادهم.
__________
(1) زيادة من ت، م، أ.
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (5038) والترمذي في السنن برقم (2739) وابن ماجه في السنن برقم (3715) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".(7/306)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُرْشِدًا لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي حُرُوبِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أَيْ: إِذَا وَاجَهْتُمُوهُمْ فَاحْصُدُوهُمْ حَصْدًا بِالسُّيُوفِ، {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا} أَيْ: أَهْلَكْتُمُوهُمْ قَتْلًا {فَشُدُّوا} [وَثَاقَ] (1) الْأُسَارَى الَّذِينَ تَأْسِرُونَهُمْ، ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَانْفِصَالِ الْمَعْرَكَةِ مُخَيَّرُونَ فِي أَمْرِهِمْ، إِنْ شِئْتُمْ مَنَنْتُمْ عَلَيْهِمْ فَأَطْلَقْتُمْ أُسَارَاهُمْ مَجَّانًا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ بِمَالٍ تَأْخُذُونَهُ مِنْهُمْ وَتُشَاطِرُونَهُمْ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ، عَاتَبَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْأُسَارَى يَوْمَئِذٍ لِيَأْخُذُوا مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، وَالتَّقَلُّلِ مِنَ الْقَتْلِ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الْأَنْفَالِ: 67، 68] .
ثُمَّ قَدِ ادَّعَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ -الْمُخَيِّرَةَ بَيْنَ مُفَادَاةِ الْأَسِيرِ وَالْمَنِّ عَلَيْهِ-مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ] } (2) الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 5] ، رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَهُ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْج.
وَقَالَ الْآخَرُونَ -وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ-: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ.
ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا الْإِمَامُ مُخَيَّر بَيْنَ الْمَنِّ عَلَى الْأَسِيرِ وَمُفَادَاتِهِ فَقَطْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ شَاءَ، لِحَدِيثِ قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيط مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَالَ ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ " فَقَالَ: إِنْ تَقْتَلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تَمْنُنْ تَمْنُنْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ (3) .
وَزَادَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِهِ أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِ، أَوْ مُفَادَاتِهِ أَوِ اسْتِرْقَاقِهِ أَيْضًا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحَرّرة فِي عِلْمِ الْفُرُوعِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا "الْأَحْكَامِ"، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: حَتَّى يَنْزِلَ عيسى ابن مريم
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) زيادة من أ.
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (4372) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(7/307)
[عَلَيْهِ السَّلَامُ] . (1) وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الدَّجَّالَ" (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجُرَشي (3) ، عَنْ جُبَير بْنِ نُفيَر؛ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ نُفيَل أَخْبَرَهُمْ: أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي سَيَّبْتُ الْخَيْلَ، وَأَلْقَيْتُ السِّلَاحَ، وَوَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَقُلْتُ: "لَا قِتَالَ" فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ يُزيغ (4) اللَّهُ قُلُوبَ أَقْوَامٍ فَيُقَاتِلُونَهُمْ: وَيَرْزُقُهُمُ اللَّهُ (5) مِنْهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. أَلَا إِنَّ عُقْرَ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ، والخيلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ، عَنْ جُبَيْر بْنِ نُفَير، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْل السَّكُونِيِّ، بِهِ (6) .
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْد، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجُرَشي، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَير، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: لَمَّا فُتِحَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْح فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سُيِّبَتِ الْخَيْلُ، وَوُضِعَتِ السِّلَاحُ، وَوَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، قَالُوا: لَا قِتَالَ، قَالَ: "كَذَبُوا، الْآنَ، جَاءَ الْقِتَالُ، لَا يَزَالُ اللَّهُ يُرَفِّع (7) قُلُوبَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَهُمْ، فَيَرْزَقُهُمْ مِنْهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وعُقْر دَارِ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ رُشَيْد، بِهِ (8) . وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْل كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا يُقَوِّي الْقَوْلَ بِعَدَمِ النَّسْخِ، كَأَنَّهُ شَرَّعَ هَذَا الْحُكْمَ فِي الْحَرْبِ إِلَى أَلَّا يَبْقَى حَرْبٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} حَتَّى لَا يَبْقَى شِرْكٌ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 193] . ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أَيْ: أَوْزَارَ الْمُحَارِبِينَ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، بِأَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: أَوْزَارُ أَهْلِهَا (9) بِأَنْ يَبْذُلُوا الْوُسْعَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} أَيْ: هَذَا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَانْتَقَمَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِعُقُوبَةٍ ونَكَال مِنْ عِنْدِهِ، {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أَيْ: وَلَكِنْ شَرَعَ لَكُمُ الْجِهَادَ وَقِتَالَ الْأَعْدَاءِ لِيَخْتَبِرَكُمْ، وَيَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ. كَمَا ذَكَرَ حِكْمَتَهُ فِي شَرْعِيَّةِ الْجِهَادِ فِي سُورَتَيْ "آلِ عِمْرَانَ" وَ "بَرَاءَةَ" فِي قَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آلِ عمران: 142] .
__________
(1) زيادة من ت.
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (2484) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
(3) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(4) في أ: "يرفع".
(5) في أ: "قاتلونهم ويرزقه الله".
(6) المسند (4/104) وسنن النسائي (6/214) .
(7) في أ: "يرفع".
(8) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1617) "موارد" من طريق أبي يعلى عن داود بن رشيد به، ورواه النسائي في السنن (6/214) من طريق إبراهيم بن أبي عبلة، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُرَشِيِّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ مرفوعا بنحوه.
(9) في ت، أ: "وقيل: أوزارها".(7/308)
وَقَالَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 14، 15] .
ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْقِتَالِ أَنْ يُقتل كثيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أَيْ: لَنْ يُذْهِبَهَا بَلْ يُكَثِّرُهَا وَيُنَمِّيهَا وَيُضَاعِفُهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْرِي عَلَيْهِ عَمَلُهُ فِي طُولِ بَرْزَخه، كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، حَيْثُ قَالَ:
حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ يَحْيَى الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرّة (1) ، عَنْ قَيْسٍ الْجُذَامِيِّ -رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "يُعْطَى الشَّهِيدُ سِتُّ خِصَالٍ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ: يُكَفر عَنْهُ كُلُّ خَطِيئَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُؤَمَّنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيُحَلَّى حُلَّة (2) الْإِيمَانِ" (3) . تَفَرَّدَ (4) بِهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ (5) أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عن بَحِير (6) ابن سَعِيدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدان، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ معد يكرب الْكِنْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتَّ خِصَالٍ: أَنْ يُغْفَرَ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَة مِنْ دَمِهِ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حُلَّة (7) الْإِيمَانِ، وَيُزَوَّجَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُجَارَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، ويَأمَن مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، ويُشَفَّع فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ".
وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ مَاجَهْ (8) .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو، وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: "يُغفر لِلشَّهِيدِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْن" (9) . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (10) . وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الشَّهِيدِ (11) كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ: {سَيَهْدِيهِمْ} أَيْ: إِلَى الْجَنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9] .
__________
(1) في ت: "أحمد بإسناده".
(2) في أ: "بحلة".
(3) المسند (4/200) قال الهيثمي في المجمع (5/293) : "فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبانن وثقه أبو حاتم وجماعة وضعفه جماعة".
(4) في ت: "انفرد".
(5) في ت: "وروى أحمد".
(6) في م، أ: "يحيى".
(7) في ت، م، أ: "حلية".
(8) المسند (4/131) وسنن الترمذي برقم (1663) وسنن ابن ماجه برقم (2799) .
(9) صحيح مسلم برقم (1886) .
(10) سنن أبي داود برقم (2522) .
(11) في ت، م: "الشهداء".(7/309)
وَقَوْلُهُ: {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} أَيْ: أَمْرَهُمْ وَحَالَهُمْ، {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أَيْ: عَرَّفَهُمْ بِهَا وَهَدَاهُمْ إِلَيْهَا.
قَالَ مُجَاهِدٌ: يَهْتَدِي أَهْلُهَا إِلَى بُيُوتِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، وَحَيْثُ قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْهَا، لَا يُخْطِئُونَ كَأَنَّهُمْ سَاكِنُوهَا مُنْذُ خُلِقُوا، لَا يَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهَا أَحَدًا. وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَ هَذَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: يَعْرِفُونَ بُيُوتَهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ، كَمَا تَعْرِفُونَ بُيُوتَكُمْ إِذَا انْصَرَفْتُمْ مِنَ الْجُمُعَةِ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان: بَلَغَنَا أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي كَانَ وُكِّل بِحِفْظِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْجَنَّةِ، وَيَتْبَعُهُ ابْنُ آدَمَ حَتَّى يَأْتِيَ أَقْصَى مَنْزِلٍ هُوَ لَهُ، فَيُعَرِّفُهُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى أَقْصَى مَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ دَخَلَ [إِلَى] (1) مَنْزِلِهِ وَأَزْوَاجِهِ، وَانْصَرَفَ الْمَلَكُ عَنْهُ ذَكَرَهُنَّ (2) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِذَلِكَ أَيْضًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (3) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَتَقَاصُّونَ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذّبوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَهُمْ بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ أَهْدَى مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا" (4) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، كَقَوْلِهِ: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الْحَجِّ: 40] ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ بَلَّغ ذَا سُلْطَانٍ حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا، ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} ، عَكْسُ تَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ لِلْمُؤْمِنِينَ النَّاصِرِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "تَعِس عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ القَطِيفة -[وَفِي رِوَايَةٍ: تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ] (5) -تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ"، أَيْ: فَلَا شَفَاهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أَيْ: أَحْبَطَهَا وَأَبْطَلَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ} أَيْ: لَا يُرِيدُونَهُ وَلَا يحبونه، {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) في ت: "ذكر هذا".
(3) زيادة من ت.
(4) صحيح البخاري برقم (6535) .
(5) زيادة من تن أ.(7/310)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) }(7/311)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْمُكَذِّبِينَ لِرَسُولِهِ {فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أَيْ: عَاقَبَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، أَيْ: وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}
ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ صخرُ بْنُ حَرْبٍ رَئِيسُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ سَأَلَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلَمْ يُجَبْ، وَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ هَلَكُوا، وَأَجَابَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، بَلْ أَبْقَى اللَّهُ لَكَ مَا يَسُوؤُكَ، وَإِنَّ الَّذِينَ عَدَدت لَأَحْيَاءٌ [كُلُّهُمْ] (1) . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجال، أَمَا إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ ذَهَبَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: اعْلُ هُبَل، اعْلُ هُبَلْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا تُجِيبُوهُ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا نَقُولُ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ" ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى، وَلَا عُزّى لَكُمْ. فَقَالَ: "أَلَا تُجِيبُوهُ؟ " قَالُوا: وَمَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ" (2) .
ثُمَّ قَالَ [تَعَالَى (3) {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ} أَيْ: فِي دُنْيَاهُمْ، يَتَمَتَّعُونَ بِهَا وَيَأْكُلُونَ مِنْهَا كَأَكْلِ الْأَنْعَامِ، خَضْما وَقَضْمًا وَلَيْسَ لَهُمْ هِمَّةٌ إِلَّا فِي ذَلِكَ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعيّ وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ" (4) .
ثُمَّ قَالَ: {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} أَيْ: يَوْمَ جَزَائِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} يَعْنِي: مَكَّةَ، {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، فِي تَكْذِيبِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ (5) وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ أَهْلَكَ الْأُمَمَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ قَبْلَهُ بِسَبَبِهِمْ، وَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ هَؤُلَاءِ، فَمَاذَا ظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى؟ فَإِنْ رَفَعَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا لِبَرَكَةِ وُجُودِ الرَّسُولِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، فَإِنَّ الْعَذَابَ يوفر على
__________
(1) زيادة من أ.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (4043) من حديث البراء رضي الله عنه.
(3) زيادة من أ.
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (5393) ومسلم في صحيحه برقم (2060) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(5) في ت: "الرسل".(7/311)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
الْكَافِرِينَ بِهِ فِي مَعَادِهِمْ، {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هُودٍ: 20] .
وَقَوْلُهُ: {مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} أَيِ: الَّذِينَ أَخْرَجُوكَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذَكَرَ أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَنَش (1) ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ (2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْغَارِ أُرَاهُ قَالَ: الْتَفَتَ (3) إِلَى مَكَّةَ -وَقَالَ: "أَنْتِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَأَنْتِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَلَوْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُخْرِجُونِي لَمْ أَخْرُجْ مِنْكِ" (4) . فَأَعْدَى الْأَعْدَاءِ مَنْ عَدَا عَلَى اللَّهِ فِي حَرَمِهِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ بذُحُول الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ}
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) } .
يَقُولُ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أَيْ: عَلَى بَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَدِينِهِ، بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، وَبِمَا جَبَله اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أَيْ: لَيْسَ هَذَا، كَهَذَا كَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرَّعْدِ: 19] ، وَكَقَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الْحَشْرِ: 20] .
ثُمَّ قَالَ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} قَالَ عِكْرِمَةُ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} أَيْ: نَعْتُهَا (5) : {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: يَعْنِي غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: غَيْرُ مُنْتِنٍ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَسِن الْمَاءُ، إِذَا تَغَيَّر رِيحُهُ.
وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: {غَيْرِ آسِنٍ} يَعْنِي: الصَّافِي الَّذِي لَا كَدَر فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّة (6) ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تُفَجَّر من جبل من مسك.
__________
(1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(2) في ت: "أن رسول الله".
(3) في ت، م: "وداراه".
(4) ورواه الطبري في تفسيره (26/31) .
(5) في ت، م، أ: "نعيمها".
(6) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".(7/312)
{وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} أَيْ: بَلْ فِي غَايَةِ الْبَيَاضِ وَالْحَلَاوَةِ وَالدُّسُومَةِ. وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: "لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ضُرُوع الْمَاشِيَةِ".
{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أَيْ: لَيْسَتْ كَرِيهَةَ الطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ كَخَمْرِ الدُّنْيَا، بَلْ [هِيَ] (1) حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ وَالطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ وَالْفِعْلِ، {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ} [الصَّافَّاتِ: 47] ، {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 19] ، {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصَّافَّاتِ: 46] ، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: "لَمْ تَعْصُرْهَا الرِّجَالُ بِأَقْدَامِهَا".
[وَقَوْلُهُ] (2) {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} أَيْ: وَهُوَ فِي غَايَةِ الصَّفَاءِ، وَحُسْنِ اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَالرِّيحِ، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: "لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بُطُونِ النَّحْلِ".
وَقَالَ (3) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا الجُريري، عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "فِي الْجَنَّةِ بَحْرُ اللَّبَنِ، وَبَحْرُ الْمَاءِ، وَبَحْرُ الْعَسَلِ، وَبَحْرُ الْخَمْرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ الْأَنْهَارُ مِنْهَا بَعْدُ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "صِفَةِ الْجَنَّةِ"، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشار، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الجَريري، بِهِ (4) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ (5) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ أَبُو قُدَامَةَ الْإِيَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذِهِ الْأَنْهَارُ تَشخُبُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ فِي جَوْبَة، ثُمَّ تَصَدَّعُ بَعْدُ أَنْهَارًا" (6)
وَفِي الصَّحِيحِ: "إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تُفَجَّر أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ" (7) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمْزَةَ الزُّبَيْرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصفر السُّكَّرِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ دَلْهَمِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَاجِبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ الْعُقَيْلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ دَلْهَمٌ: وَحَدَّثَنِيهِ أَيْضًا أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطٍ أَنَّ لقيط
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) زيادة من ت.
(3) في ت: "وروى".
(4) المسند (5/5) وسنن الترمذي برقم (2571) ورواه أبو نعيم في الحلية (6/204) عن طريق الجريري به، وقال: "غريب عن الجريري تفرد به عن حكيم".
(5) في ت: "وروى ابن مردويه".
(6) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (314) من طريق معلى بن أسد عن الحارث بن عبيد به.
(7) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية: 133 من سورة آل عمران.(7/313)
بْنَ عَامِرٍ خَرَجَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول اللَّهِ، فَعَلَامَ نَطَّلِعُ مِنَ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "عَلَى أَنْهَارِ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَأَنْهَارٍ مِنْ خَمْرٍ (1) مَا بِهَا صُدَاعٌ وَلَا نَدَامَةٌ، وَأَنْهَارٍ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَفَاكِهَةٍ، لَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَعْلَمُونَ وَخَيْرٍ مِنْ مِثْلِهِ، وأزواج مطهرة" قلت: يا رسول الله، أو لنا فِيهَا أَزْوَاجٌ مُصْلِحَاتٌ؟ قَالَ: "الصَّالِحَاتُ لِلصَّالِحِينَ تَلَذُّونَهُنَّ مِثْلَ لَذَّاتِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَلَذُّونَكُمْ، غَيْرَ أَلَّا تَوَالُدَ" (2) .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عُبَيْدَةَ (3) ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، أَخْبَرَنِي الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ (4) ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَجْرِي فِي أُخْدُودٍ فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهِ إِنَّهَا لَتَجْرِي سَائِحَةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، حَافَّاتُهَا قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ، وَطِينُهَا الْمِسْكُ الأذْفَر (5) .
وَقَدْ رواه أبو بكر ابن مَرْدُويه، مِنْ حَدِيثِ مَهْدِيِّ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، بِهِ مَرْفُوعًا (6) .
وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ، كَقَوْلِهِ: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدُّخَانِ: 55] . وَقَوْلِهِ: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرَّحْمَنِ: 52] .
وَقَوْلُهُ: {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} أَيْ: مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَقَوْلُهُ: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} أَيْ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا مَنْزِلَتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ؟ لَيْسَ هَؤُلَاءِ كَهَؤُلَاءِ، أَيْ: لَيْسَ مَنْ هُوَ فِي الدَّرَجَاتِ كَمَنْ هُوَ (7) فِي الدَّرَكَاتِ، {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} أَيْ: حَارًّا (8) شَدِيدَ الْحَرِّ، لَا يُسْتَطَاعُ. {فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} أَيْ: قَطَّعَ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الْأَمْعَاءِ وَالْأَحْشَاءِ، عِيَاذًا بالله من ذلك.
__________
(1) في ت، م، أ: "كأس".
(2) المعجم الكبير (19/211) من حديث طويل كأن الحافظ اختصره، وصورة السند في المعجم الكبير: "حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمْزَةَ الزُّبَيْرِيُّ وعبد الله بن الصقر العسكري -وصوابه: السُّكَّرِيُّ- قَالَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام، حدثني عبد الرحمن بن عياش الأنصاري ثم المسعودي عن دلهم بن الْأَسْوَدِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطٍ أَنَّ لَقِيطَ بن عامر خرج ... الحديث". وهناك عطف بالواو يوهم أن هناك إسنادا آخر رواه الطبراني، وليس عنده إلا من هذا الطريق، وقد رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي زوائد المسند (4/13) من طريق إبراهيم بن حمزة بن مصعب بن الزبير عن عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي عن عبد الله بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ دَلْهَمِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَاجِبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ الْعُقَيْلِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ لَقِيطِ بن عامر فذكره.
(3) في م: "عبيد".
(4) في ت: "وروى ابن أبي الدنيا بسنده".
(5) وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (4/518) وقال: "وروى ابن أبي الدنيا بسنده".
(6) ورواه أبو نعيم في الحلية (6/205) من طريق محمد بن أحمد الزهري عن مهدي بن حكيم بن مهدي به مرفوعا.
(7) في م: "هو خالد".
(8) في ت: "صار".(7/314)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي بَلَادَتِهِمْ وَقِلَّةِ فَهْمِهِمْ حَيْثُ كَانُوا يَجْلِسُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَمِعُونَ كَلَامَهُ وَلَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ {قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} مِنَ الصَّحَابَةِ: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} أَيِ: السَّاعَةَ، لَا يَعْقِلُونَ مَا يُقَالُ (1) ، وَلَا يَكْتَرِثُونَ لَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أَيْ: فَلَا فَهْمٌ صَحِيحٌ، وَلَا قَصْدٌ صَحِيحٌ.
ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} أَيْ: وَالَّذِينَ قَصَدُوا الْهِدَايَةَ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لَهَا فَهَدَاهُمْ إِلَيْهَا، وَثَبَّتَهُمْ عَلَيْهَا وَزَادَهُمْ مِنْهَا، {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} أَيْ: أَلْهَمَهُمْ رُشْدَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أَيْ: وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْهَا، {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أَيْ: أَمَارَاتُ اقْتِرَابِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى أَزِفَتِ الآزِفَةُ} [النَّجْمِ: 56، 57] ، وَكَقَوْلِهِ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [الْقَمَرِ: 1] وَقَوْلُهُ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النَّحْلِ: 1] ، وَقَوْلِهِ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 1] ، فَبِعْثَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؛ لِأَنَّهُ خَاتَمُ الرُّسُلِ الَّذِي أَكْمَلَ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ، وَأَقَامَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَقَدْ أَخْبَرَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-بِأَمَارَاتِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا، وَأَبَانَ عَنْ ذَلِكَ وَأَوْضَحَهُ بِمَا لَمْ يُؤْتَهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: بَعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي أَسْمَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ نَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ، وَالْحَاشِرُ الَّذِي يُحشَر النَّاسُ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ.
وَقَالَ (2) الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، حَدَّثَنَا (3) سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بِأُصْبُعَيْهِ هَكَذَا، بِالْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ" (4) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} أَيْ: فَكَيْفَ لِلْكَافِرِينَ بِالتَّذَكُّرِ (5) إِذَا جَاءَتْهُمُ الْقِيَامَةُ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ (6) ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الْفَجْرِ: 23] ،
__________
(1) في أ: "ما يقول".
(2) في ت: "وروى".
(3) في ت: "عن".
(4) صحيح البخاري برقم (4936) .
(5) في ت: "التذكير".
(6) في ت: "التذكير".(7/315)
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سَبَأٍ: 52] .
وَقَوْلُهُ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} هَذَا إِخْبَارٌ: بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَتَأَتَّى (1) كَوْنُهُ آمِرًا بِعِلْمِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلي وَجِدِّي، وخَطَئي وعَمْدي، وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي" (2) . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ" (3) وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً" (4)
وَقَالَ (5) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ: سَمِعْتُ (6) عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَرْجِسَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلْتُ مَعَهُ مِنْ طَعَامِهِ، فَقُلْتُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْتُ: أَسْتَغْفَرَ لَكَ (7) ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ، وَلَكُمْ"، وَقَرَأَ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى نُغْض كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ -أَوْ: كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ شُعْبَةُ الَّذِي شَكَّ-فَإِذَا هُوَ كَهَيْئَةِ الْجَمْعِ عَلَيْهِ الثَّآلِيلُ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ (8) ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، بِهِ (9) .
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَرَّز بْنُ عَوْنٍ (10) ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفُورِ، عَنْ أَبِي نَصِيرَة، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَأَكْثِرُوا مِنْهُمَا، فَإِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: أَهْلَكْتُ (11) النَّاسَ بِالذُّنُوبِ، وَأَهْلَكُونِي بِـ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، وَالِاسْتِغْفَارِ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالْأَهْوَاءِ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ" (12) .
وَفِي الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ: "قَالَ إِبْلِيسُ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي
__________
(1) في أ: "إلا هو ولا ينافي".
(2) صحيح البخاري برقم (6398) .
(3) صحيح مسلم برقم (769) .
(4) صحيح البخاري برقم (6307) .
(5) في ت: "وروى".
(6) في ت: "عن".
(7) في ت، م، أ: "استغفر لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
(8) في ت: "والنسائي وابن ماجه".
(9) المسند (5/82) وصحيح مسلم برقم (2346) والشمائل للترمذي برقم (22) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11496) .
(10) في م: "محمد بن عوف" وفي هـ: "محمد بن عون". والتصويب من مسند أبي يعلى.
(11) في م: "قال: إنما أهلكت".
(12) مسند أبي يعلى (1/123) ، وقال الهيثمي في المجمع (10/207) : "فيه عثمان بن مطر وهو ضعيف".(7/316)
أَجْسَادِهِمْ. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَلَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي" (1)
وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الِاسْتِغْفَارِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} أَيْ: يَعْلَمُ تَصَرُّفَكُمْ فِي نَهَارِكُمْ وَمُسْتَقَرَّكُمْ فِي لَيْلِكُمْ، كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الْأَنْعَامِ: 60] ، وَكَقَوْلِهِ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هُودٍ: 6] . وَهَذَا الْقَوْلُ ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُتَقَلَّبَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَثْوَاكُمْ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُتَقَلَّبَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَثْوَاكُمْ فِي قُبُورِكُمْ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أعلم.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (3/29) من حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.(7/317)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا شَرْعِيَّةَ الْجِهَادِ، فَلَمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ (1) ، وَأَمَرَ بِهِ نَكَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء:77] .
وقال ها هنا: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ} أَيْ: مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حُكْم الْقِتَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أَيْ: مِنْ فَزَعِهِمْ وَرُعْبِهِمْ وَجُبْنِهِمْ مِنْ لِقَاءِ الْأَعْدَاءِ. ثُمَّ قَالَ مُشَجِّعًا لَهُمْ: {فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} أَيْ: وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِمْ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا، أَيْ: فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ، {فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ} أَيْ: جَدَّ الْحَالُ، وَحَضَرَ الْقِتَالُ، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} أَيْ: أَخْلَصُوا لَهُ النِّيَّةَ، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}
وَقَوْلُهُ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أَيْ: عَنِ الْجِهَادِ وَنَكَلْتُمْ عَنْهُ، {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
__________
(1) في ت: "الله تعالى".(7/317)
أَيْ: تَعُودُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءِ، تَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَتُقَطِّعُونَ الْأَرْحَامَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} وَهَذَا نَهْيٌ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ عُمُومًا، وَعَنْ قَطْعِ الْأَرْحَامِ خُصُوصًا، بَلْ قَدْ أَمَرَ [اللَّهُ] (1) تَعَالَى بِالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْأَقَارِبِ فِي الْمَقَالِ وَالْأَفْعَالِ وَبَذْلِ الْأَمْوَالِ. وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ وَالْحِسَانُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ، وَوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَد، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرّد، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ (2) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: مَهْ! فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ. فَقَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكَ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَذَاكَ (3) . قال أبو هريرة: اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (4) .
ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، بِهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (5) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، بِهِ (6) .
وَقَالَ (7) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَوْشَنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَكَرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ، مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ".
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ -هُوَ ابْنُ عُلَية-بِهِ (8) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ (9) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا مَيْمُونٌ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْئِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من سَرَّهُ النِّساء فِي الْأَجَلِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الرِّزْقِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" (10) . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَلَهُ شَاهِدٌ في الصحيح.
__________
(1) زيادة من ت، م، أ.
(2) في ت: "فروى البخاري بسنده".
(3) في أ: "فذلك لك".
(4) صحيح البخاري برقم (4830) .
(5) صحيح البخاري برقم (4831، 4832) لكن زاد أبو الحباب بين معاوية وسعيد بن يسار.
(6) صحيح مسلم برقم (2554) مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ عَنْ عمه أبي الحباب عن سعيد بن يسار به.
(7) في ت: "وروى".
(8) المسند (5/38) وسنن أبي داود برقم (4902) وسنن الترمذي برقم (2511) وسنن ابن ماجه برقم (4211) .
(9) في ت: "وروى".
(10) المسند (5/279) وشاهده حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مرفوعا: "من سره أن يبسط عليه رزقه، أو ينسأ في أثره فليصل رحمه". رواه البخاري في صحيحه برقم (5986) ومسلم في صحيحه برقم (2557) واللفظ لمسلم.(7/318)
وَقَالَ (1) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي ذَوِي أَرْحَامٍ، أَصِلُ وَيَقْطَعُونَ، وَأَعْفُو وَيَظْلِمُونَ، وَأُحْسِنُ وَيُسِيئُونَ، أَفَأُكَافِئُهُمْ؟ قَالَ: "لَا إِذَنْ تُتْرَكُونَ جَمِيعًا، وَلَكِنْ جُدْ بِالْفَضْلِ وَصِلْهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ ظَهِيرٌ مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، مَا كُنْتَ عَلَى ذَلِكَ" (2) .
تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ (3) مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، حَدَّثَنَا فِطْر، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (4) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إِنَّ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، وَلَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (5) (6) .
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي ثُمَامَةَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُوضَعُ الرَّحِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا حُجْنَة كَحُجْنَةِ الْمِغْزَلِ، تَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ طُلَق ذُلَق، فَتَصِلُ مَنْ وَصَلَهَا وَتَقْطَعُ مَنْ قَطَعَهَا" (7) .
وَقَالَ (8) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ أَبِي قَابُوسَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ (9) يَرْحَمُكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَالرَّحِمُ شُجْنَة مِنَ الرَّحْمَنِ، مَنْ وَصَلَهَا وَصَلَتْهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَّتْهُ".
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (10) وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو بْنِ دِينَارٍ، بِهِ (11) . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُرْوَى بِتَسَلْسُلِ الْأَوَّلِيَّةِ (12) ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوائي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارِظٍ؛ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَصَلَتْكَ رَحمٌ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا مِنَ اسْمِي، فَمَنْ يَصِلْهَا أَصِلْهُ، وَمَنْ يَقْطَعْهَا أَقْطَعْهُ فَأَبُتَّهُ -أَوْ قَالَ: مَنْ يَبُتَّهَا أَبُتَّهُ".
تَفَرُّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (13) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ الرداد-
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) المسند (2/181) .
(3) في أ: "شواهد".
(4) في ت: "عن ابن عمر".
(5) في ت: "انفرد به".
(6) المسند (2/163) وصحيح البخاري برقم (5991) .
(7) المسند (2/189) قال الهيثمي في المجمع (8/150) : "رجال أحمد رجال الصحيح غير أبي ثمامة الثقفي، وثقه ابن حبان".
(8) في ت: "رواه".
(9) في أ: "ارحموا من في الأرض".
(10) في ت: "وقد رواه أحمد وأبو داود".
(11) المسند (2/160) وسنن أبي داود برقم (4941) وسنن الترمذي برقم (1924) .
(12) وأروي هذا الحديث بالإجازة مسلسلا بأول ما سمع، إلا أن الأولية تنقطع فيما فوق سفيان، وعلى هذا فشرط المسلسل غير كتحقق عند التدقيق.
(13) المسند (1/191) .(7/319)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
أَوْ أَبِي الرَّدَّادِ-عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، بِهِ (1) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ (2) . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلَاثَةَ (3) ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الفُرَافِصَة، عَنْ أَبِي عُمَرَ الْبَصْرِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ (4) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعارف مِنْهَا ائْتَلَفَ/، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ" (5) .
وَبِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا ظَهَرَ الْقَوْلُ، وَخُزِّنَ الْعَمَلُ، وَائْتَلَفَتِ الْأَلْسِنَةُ، وَتَبَاغَضَتِ الْقُلُوبُ، وَقَطَعَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ رَحِمَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ" (6) .
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) } .
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ، وَنَاهِيًا عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، فَقَالَ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أَيْ: بَلْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، فَهِيَ مُطْبَقَة لَا يَخْلُصُ إِلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعَانِيهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا (7) حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ، فَقَالَ شَابٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ: بَلْ عَلَيْهَا (8) أَقْفَالُهَا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَفْتَحُهَا أَوْ يُفَرِّجُهَا. فَمَا زَالَ الشَّابُّ فِي نَفْسِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى وَلِيَ، فَاسْتَعَانَ بِهِ (9) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} أَيْ: فَارَقُوا الْإِيمَانَ وَرَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} أَيْ: زَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَحَسَّنَهُ، {وَأَمْلَى لَهُمْ} أي: غرهم
__________
(1) المسند (1/194) وقال الترمذي في السنن: "روى معمر عن الزهري هذا الحديث عن أبي سلمة عن رداد الليثي عن عبد الرحمن ابن عوف، قال محمد -يعني البخاري-: حديث معمر خطأ" والصحيح الرواية الآتية في السنن.
(2) سنن أبي داود برقم (1624) وسنن الترمذي برقم (1907) .
(3) في هـ: "الحجاج بن يونس" والتصويب من المعجم الكبير.
(4) في هـ: "سليمان" والتصويب من المعجم الكبير.
(5) المعجم الكبير (6/263) وقال الهيثمي في المجمع (7/287) : "فيه جماعة لم أعرفهم". وله شاهد من حديث أبي هريرة رواه أحمد في المسند (2/295) .
(6) المعجم الكبير (6/263) والكلام عليه كالذي قبله.
(7) في ت، م: "ابن".
(8) في تن م: "بل على قلوب".
(9) تفسير الطبري (26/37) .(7/320)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
وَخَدَعَهُمْ، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ} أَيْ: مَالَئُوهُمْ وَنَاصَحُوهُمْ فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ يُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أَيْ: [يَعْلَمُ] (1) مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُخْفُونَ، اللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ وَعَالِمٌ بِهِ، كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النِّسَاءِ: 81] .
ثُمَّ قَالَ: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أَيْ: كَيْفَ حَالُهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَعَصَّتِ الْأَرْوَاحُ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَاسْتَخْرَجَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْعُنْفِ وَالْقَهْرِ وَالضَّرْبِ، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} الْآيَةَ [الْأَنْفَالِ: 50] ، وَقَالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} أَيْ: بِالضَّرْبِ {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الْأَنْعَامِ: 93] ؛ ولهذا قال ها هنا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) }
__________
(1) زيادة من ت.(7/321)
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
{وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} أَيْ: اعْتَقَدَ (1) الْمُنَافِقُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْشِفُ أَمْرَهُمْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ؟ بَلْ سَيُوَضِّحُ أَمْرَهُمْ وَيُجَلِّيهِ حَتَّى يَفْهَمَهُمْ (2) ذَوُو الْبَصَائِرِ، وَقَدْ أَنْزَلَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ سُورَةَ "بَرَاءَةَ"، فَبَيَّنَ فِيهَا فَضَائِحَهُمْ وَمَا يَعْتَمِدُونَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى نِفَاقِهِمْ؛ وَلِهَذَا إِنَّمَا كَانَتْ تُسَمَّى الْفَاضِحَةَ. وَالْأَضْغَانُ: جَمْعُ ضِغْنٍ، وَهُوَ مَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَالْقَائِمِينَ بِنَصْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} يَقُولُ تَعَالَى: وَلَوْ نَشَاءُ يَا مُحَمَّدُ لَأَرَيْنَاكَ أَشْخَاصَهُمْ، فَعَرَفْتَهُمْ (3) عِيَانًا، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ تَعَالَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ سِتْرًا مِنْهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَحَمْلًا لِلْأُمُورِ عَلَى ظَاهِرِ السَّلَامَةِ، وَرَدَّ السَّرَائِرِ إِلَى عَالِمِهَا، {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أَيْ: فِيمَا يَبْدُو مِنْ كَلَامِهِمُ الدَّالِّ عَلَى مَقَاصِدِهِمْ، يَفْهَمُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَيِّ الْحِزْبَيْنِ هُوَ بِمَعَانِي كَلَامِهِ وَفَحْوَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ لَحْنِ الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ، وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا أسر أحد سريرة إلا كساه الله
__________
(1) في م: "أيعتقد".
(2) في أ: "يفهمه".
(3) في ت: "تعرفهم".(7/321)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
جِلْبَابَهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ" (1) . وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نِفَاقِ الرَّجُلِ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى نِفَاقِ الْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ (2) فِي أَوَّلِ "شَرْحِ الْبُخَارِيِّ"، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ها هنا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ تَعْيِينُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مِنْكُمْ (3) مُنَافِقِينَ، فَمَنْ سَمَّيْتُ فَلْيَقُمْ". ثُمَّ قَالَ: "قُمْ يَا فُلَانُ، قُمْ يَا فُلَانُ، قُمْ يَا فُلَانُ". حَتَّى سَمَّى سِتَّةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ فِيكُمْ -أَوْ: مِنْكُمْ (4) -فَاتَّقُوا اللَّهَ". قَالَ: فَمَرَّ عُمَرُ بِرَجُلٍ مِمَّنْ سَمَّى مُقَنَّعٌ قَدْ كَانَ يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَحَدَّثَهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بُعْدًا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ (5) .
وَقَوْلُهُ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أَيْ: وَلَنَخْتَبِرَنَّكُمْ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} . وَلَيْسَ فِي تَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ أَنَّهُ سَيَكُونُ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ، فَالْمُرَادُ: حَتَّى نَعْلَمَ وُقُوعَهُ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مِثْلِ هَذَا: إِلَّا لِنَعْلَمَ، أَيْ: لِنَرَى.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ كَفَرَ وَصَدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَخَالَفَ الرَّسُولَ وَشَاقَّهُ، وَارْتَدَّ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى: أَنَّهُ لَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَضُرُّ نَفْسَهُ وَيَخْسَرُهَا يَوْمَ مَعَادِهَا، وَسَيُحْبِطُ اللَّهُ عَمَلَهُ فَلَا يُثِيبُهُ عَلَى سَالِفِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي عَقَّبَهُ بِرِدَّتِهِ مِثْقَالَ بَعُوضَةٍ مِنْ خَيْرٍ، بَلْ يُحْبِطُهُ وَيَمْحَقُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: حَدَّثَنَا أَبُو قُدَامَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عن أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: (6) كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" ذَنْبٌ، كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ، فَنَزَلَتْ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} k فخافوا أن يبطل الذنب العمل.
__________
(1) سيأتي تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: 29 من سورة الفتح.
(2) في أ: "النفاق العملي والاعتقادي".
(3) في ت: "فيكم".
(4) في ت: "ومنكم".
(5) المسند (5/273) قال الهيثمي في المجمع (1/112) : "فيه عياض بن أبي عياض عن أبيه ولم أر من ترجمهما".
(6) في ت: "روى الإمام أحمد بإسناده".(7/322)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: أَخْبَرَنِي بُكَيْرُ بْنُ مَعْرُوفٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ إِلَّا مَقْبُولٌ، حَتَّى نَزَلَتْ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ، فَقُلْنَا: مَا هَذَا الَّذِي يُبْطِلُ أَعْمَالَنَا؟ فَقُلْنَا: الْكَبَائِرُ الْمُوجِبَاتُ وَالْفَوَاحِشُ، حَتَّى نَزَلَتْ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّسَاءِ: 48] ، فَلَمَّا نَزَلَتْ كَفَفْنَا عَنِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، فَكُنَّا نَخَافُ عَلَى مَنْ أَصَابَ الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ، وَنَرْجُو لِمَنْ لَمْ يصيبها (1) .
ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ الَّتِي هِيَ سَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِارْتِدَادِ الَّذِي هُوَ مُبْطِلٌ لِلْأَعْمَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} أَيْ: بِالرِّدَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ، كَقَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الْآيَةَ.
ثُمَّ قَالَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: {فَلا تَهِنُوا} أَيْ: لَا تَضْعُفُوا عَنِ الْأَعْدَاءِ، {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} أَيِ: الْمُهَادَنَةِ وَالْمُسَالَمَةِ، وَوَضْعِ الْقِتَالِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فِي حَالِ قُوَّتِكُمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِكم وعُدَدِكُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ} أَيْ: فِي حَالِ عُلُوِّكُمْ عَلَى عَدُّوِكُمْ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكُفَّارُ فِيهِمْ قُوَّةٌ وَكَثْرَةٌ (2) بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَرَأَى الْإِمَامُ فِي الْمُعَاهَدَةِ وَالْمُهَادَنَةِ مَصْلَحَةً، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، كَمَا فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَدَّهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَنْ مَكَّةَ، وَدَعَوْهُ إِلَى الصُّلْحِ وَوَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَشْرَ سِنِينَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} فِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أَيْ: وَلَنْ يُحْبِطَهَا وَيُبْطِلَهَا وَيَسْلُبَكُمْ إِيَّاهَا، بَلْ يُوَفِّيكُمْ ثَوَابَهَا وَلَا يُنْقِصُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا.
{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) } .
يَقُولُ تَعَالَى تَحْقِيرًا لِأَمْرِ الدُّنْيَا وَتَهْوِينًا لِشَأْنِهَا: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أَيْ: حَاصِلُهَا ذَلِكَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} أَيْ: هُوَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ لَا يَطْلُبُ مِنْكُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا فَرَضَ عَلَيْكُمُ الصَّدَقَاتِ مِنَ الْأَمْوَالِ مُوَاسَاةً لإخوانكم
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة للمروزي برقم (698، 699) .
(2) في ت: "فئة كثيرة".(7/323)
الْفُقَرَاءِ، لِيَعُودَ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، وَيَرْجِعَ ثَوَابُهُ إِلَيْكُمْ.
ثُمَّ قَالَ: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} أَيْ: يُحْرِجُكُمْ (1) تَبْخَلُوا: {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ}
قَالَ قَتَادَةُ: "قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي إِخْرَاجِ الْأَمْوَالِ إِخْرَاجُ الْأَضْغَانِ". وَصَدَقَ قَتَادَةُ فَإِنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ، وَلَا يُصْرَفُ إِلَّا فِيمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَى الشخص منه.
وقوله: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} أَيْ: لَا يُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} أَيْ: إِنَّمَا نَقَصَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَجْرِ، وَإِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} أَيْ: عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ دَائِمًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} أَيْ: بِالذَّاتِ إِلَيْهِ. فَوَصْفُهُ بِالْغِنَى وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ، وَوَصْفُ الْخَلْقِ بِالْفَقْرِ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُمْ، [أَيْ] (2) لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} أَيْ: عَنْ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ (3) {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} أَيْ: وَلَكِنْ يَكُونُونَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ لَهُ وَلِأَوَامِرِهِ.
وَقَالَ (4) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (5) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتَبْدَلَ بِنَا ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى كَتِفِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ ثُمَّ قَالَ: "هَذَا وَقَوْمُهُ، وَلَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنَ الْفُرْسِ" (6) تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ، وَرَوَاهُ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
آخر تفسير سورة القتال
__________
(1) في أ: "يحوجكم".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت: "شرعته" وفي أ: "شريعته".
(4) في ت: "وروى".
(5) زيادة من ت.
(6) تفسير الطبري (26/43) ومسلم بن خالد الزنجي ضعفه ابن معين وقال البخاري: منكر الحديث لكنه لم ينفرد به، فقد توبع:
تابعه شيخ من أهل المدينة عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ به، أخرجه الترمذي برقم (3260) وقال: "هذا حديث غريب في إسناده مقال".
تابعه عبد الله بن جعفر بن نجيح عن العلاء عن أبيه به، أخرجه الترمذي برقم (3261) وعبد الله بن جعفر والد على بن المديني ضعيف.(7/324)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْفَتْحِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (1) حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا شُعْبَة، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فِي مَسِيرِهِ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فرجَّع فِيهَا -قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْلَا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْنَا لَحَكَيْتُ لَكُمْ قِرَاءَتَهُ، أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ (2) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) } .
نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، حِينَ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِيَقْضِيَ عُمْرَتَهُ فِيهِ، وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَالُوا إِلَى الْمُصَالَحَةِ وَالْمُهَادَنَةِ، وَأَنْ يَرْجِعَ عَامَهُ هَذَا ثُمَّ يَأْتِيَ مِنْ قَابِلٍ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ عَلَى تَكَرُّهٍ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا نَحَرَ هَدْيَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ، وَرَجَعَ، أَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، هَذِهِ السُّورَةَ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ، وَجَعَلَ ذَلِكَ الصُّلْحَ فَتْحًا بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَمَا آلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تَعُدُّونَ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: مَا كُنَّا نَعُدُّ الْفَتْحَ إِلَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ (3) .
وَقَالَ (4) الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ، وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ. فَنَزَحْنَاهَا فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهَا فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَدَعَا، ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا، فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ إِنَّهَا أَصْدَرَتْنَا مَا شِئْنَا نَحْنُ وَرَكَائِبُنَا (5) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُوحٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ (6) ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سَفَرٍ، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-فلم
__________
(1) في ت: "وروى البخاري ومسلم والإمام أحمد".
(2) المسند (5/24) وصحيح البخاري برقم (4835) وصحيح مسلم برقم (794) .
(3) رواه الطبري (26/44) .
(4) في ت: "وروى".
(5) صحيح البخاري برقم (4150) .
(6) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".(7/325)
يَرُدَّ عَلَيَّ، قَالَ: فَقُلْتُ لِنَفْسِي: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا ابن الْخَطَّابِ، نَزَرْتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَرَكِبْتُ رَاحِلَتِي فَتَقَدَّمْتُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ، قَالَ: فَإِذَا أَنَا بِمُنَادٍ يُنَادِي: يَا عُمَرُ، أَيْنَ عُمَرُ؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٍ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَزَلَتْ (1) عَلَيَّ اللَّيْلَةَ (2) سُورَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مَالِكٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ (3) ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: هَذَا إِسْنَادٌ مَدِينِيٌّ [جَيِّدٌ] (4) لَمْ نَجِدْهُ إِلَّا عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن قتادة، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ"، ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هَنِيئًا مَرِيئًا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، مَاذَا يَفْعَلُ بِكَ، فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا؟ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} حَتَّى بَلَغَ: {فَوْزًا عَظِيمًا} [الْفَتْحِ: 5] ، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ بِهِ (5) .
وَقَالَ (6) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا مُجَمِّعُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ -وَكَانَ أَحَدَ (7) الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ-قَالَ: شَهِدْنَا الْحُدَيْبِيَةَ فَلَمَّا انْصَرَفْنَا عَنْهَا إِذَا النَّاسُ يُنَفِّرُونَ الْأَبَاعِرَ، فَقَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا لِلنَّاسِ؟ قَالُوا: أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجْنَا مَعَ النَّاسِ نُوجِفُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ كَرَاعِ الْغَمِيمِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أي رَسُولَ اللَّهِ، وَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: "إِي وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَفَتْحٌ". فَقُسِّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ، وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْجِهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ، بِهِ (8) .
وَقَالَ (9) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَحْرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ (10) : لما
__________
(1) في م: "نزل".
(2) في ت، م: "البارحة".
(3) المسند (1/31) وصحيح البخاري برقم (4833) وسنن الترمذي برقم (3262) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11499) .
(4) زيادة من م.
(5) المسند (3/197) وصحيح البخاري برقم (4148) وصحيح مسلم برقم (1786) .
(6) في ت: "وروى".
(7) في ت: "أحب".
(8) المسند (3/420) وسنن أبي داود برقم (2736) .
(9) في ت: "وروى".
(10) في ت: "عن ابن مسعود قال".(7/326)
أَقْبَلْنَا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَعْرَسْنَا فَنِمْنَا، فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ إِلَّا بِالشَّمْسِ قَدْ طَلَعَتْ، فَاسْتَيْقَظْنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمٌ، قَالَ: فَقُلْنَا: "امْضُوا" (1) . فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ: "افْعَلُوا مَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ وَكَذَلِكَ [يَفْعَلُ] (2) مَنْ نَامَ أَوْ نَسِيَ". قَالَ: وَفَقَدْنَا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبنها، فَوَجَدْنَاهَا قَدْ تَعَلَّقَ خِطَامُهَا بِشَجَرَةٍ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَرَكِبَهَا (3) ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذْ أَتَاهُ الْوَحْيُ، قَالَ: وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ [الْوَحْيُ] (4) اشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} .
وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ بِهِ (5) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَلَاقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ (6) يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ (7) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا".
أَخْرَجَاهُ (8) وَبَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ زِيَادٍ بِهِ (9) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَتَفَطَّرَ رَجُلَاهُ (10) .
فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ ".
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، بِهِ (11) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ الْخَرَّازُ -وَكَانَ ثِقَةً بِمَكَّةَ-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ (12) حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ -أَوْ قَالَ سَاقَاهُ-فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ " غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (13) .
__________
(1) في م: "انصتوا".
(2) زيادة من ت، أ.
(3) في ت: "فركب".
(4) زيادة من م.
(5) تفسير الطبري (26/43) والمسند (1/464) وسنن أبي داود برقم (447) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8853) .
(6) في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده".
(7) في أ: "رسول الله".
(8) في ت: "أخرجه البخاري ومسلم".
(9) المسند (4/55) وصحيح البخاري برقم (4836) وصحيح مسلم برقم (2819) وسنن الترمذي برقم (412) وسنن النسائي (3/219) وسنن ابن ماجه برقم (1419) .
(10) في أ: "ينفطر قدماه".
(11) المسند (6/115) وصحيح مسلم برقم (2820) .
(12) في ا: "بشير".
(13) ورواه أبو يعلى في المسند (5/280) من طريق عبد الله بن عون الخراز به، ورواه البزار في مسنده برقم (2380) "كشف الأستار" من طريق الحسين بن الأسود عن محمد بن بشر به، وقال البزار: "لا نعلم أحدا حدث بهذا الحديث بهذا الإسناد إلا الحسين بن بشر وعبد الله بن عون الخزار، وقد رواه غيرهما عن محمد بن بشر عن مسعر، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبةن وهو الصواب" فكلام الإمام البزار هنا موضح لقول الحافظ ابن كثير: "غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ".(7/327)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
فَقَوْلُهُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} أَيْ: بَيِّنًا ظَاهِرًا، وَالْمُرَادُ بِهِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ فَإِنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِهِ خَيْرٌ جَزِيلٌ، وَآمَنَ النَّاسُ وَاجْتَمَعَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ (1) ، وَتَكَلَّمَ الْمُؤْمِنُ مَعَ الْكَافِرِ، وَانْتَشَرَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْإِيمَانُ.
وَقَوْلُهُ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} : هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-الَّتِي لا يشاركه فيها غيره. وليس صحيح فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ لِغَيْرِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. وَهَذَا فِيهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْبِرِّ وَالِاسْتِقَامَةِ الَّتِي لَمْ يَنَلْهَا بَشَرٌ سِوَاهُ، لَا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنَ الْآخِرِينَ، وَهُوَ أَكْمَلُ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَيِّدُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلَمَّا كَانَ أَطْوَعَ خَلْقِ اللَّهِ لِلَّهِ، وَأَكْثَرَهُمْ (2) تَعْظِيمًا لِأَوَامِرِهِ (3) وَنَوَاهِيهِ. قَالَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ النَّاقَةُ: "حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ" ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئًا يُعَظِّمُونَ بِهِ حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَجَبْتُهُمْ إِلَيْهَا" (4) فَلَمَّا أَطَاعَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ وَأَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أَيْ: بِمَا يُشَرِّعُهُ لَكَ مِنَ الشَّرْعِ الْعَظِيمِ وَالدِّينِ الْقَوِيمِ.
{وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} أَيْ: بِسَبَبِ خُضُوعِكَ لِأَمْرِ اللَّهِ يَرْفَعُكَ اللَّهُ وَيَنْصُرُكَ عَلَى أَعْدَائِكَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ" (5) . وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (6) أَنَّهُ قَالَ: مَا عَاقَبْتَ -أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ-أَحَدًا عَصَى اللَّهَ تَعَالَى فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ.
{هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) }
يَقُولُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ} أَيْ: جَعَلَ الطُّمَأْنِينَةَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنْهُ: الرَّحْمَةُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَقَارُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهُمُ الصَّحَابَةُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَانْقَادُوا لِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَمَّا اطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ لِذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّتْ، زادهم إيمانًا مع إيمانهم.
__________
(1) في م: "بعضا".
(2) في ت، أ: "وأشدهم"
(3) في ت: "لأوامر الله".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (2731، 2732) .
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) زيادة من ت.(7/328)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى تَفَاضِلِ الْإِيمَانِ فِي الْقُلُوبِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَانْتَصَرَ مِنَ الْكَافِرِينَ، فقال: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أَيْ: وَلَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا وَاحِدًا لَأَبَادَ خَضْرَاءَهُمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى شَرَّعَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَالْبَرَاهِينِ الدَّامِغَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} ، قَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ: قَالُوا: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لَكَ فَمَا لَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ: مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا. {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أَيْ: خَطَايَاهُمْ وَذُنُوبَهُمْ، فَلَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَيَغْفِرُ، وَيَسْتُرُ وَيَرْحَمُ وَيَشْكُرُ، {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} ، كَقَوْلِهِ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمرن: 185] .
وَقَوْلُهُ: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} أَيْ: يَتَّهِمُونَ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ، وَيَظُنُّونَ بِالرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ أَنْ يُقْتَلُوا وَيَذْهَبُوا بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} أَيْ: أَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} .
ثُمَّ قَالَ مُؤَكِّدًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنَ الْأَعْدَاءِ -أَعْدَاءِ الإسلام من الكفرة والمنافقين-: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} .
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (9) }(7/329)
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) }
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (1) {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} أَيْ: عَلَى الْخَلْقِ، {وَمُبَشِّرًا} أَيْ: لِلْمُؤْمِنِينَ، {وَنَذِيرًا} أَيْ: لِلْكَافِرِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ "الْأَحْزَابِ" (2) .
{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يُعَظِّمُوهُ، {وَتُوَقِّرُوهُ} مِنَ التَّوْقِيرِ وَهُوَ الِاحْتِرَامُ وَالْإِجْلَالُ وَالْإِعْظَامُ، {وَتُسَبِّحُوهُ} أَيْ: يُسَبِّحُونَ اللَّهَ، {بُكْرَةً وَأَصِيلا} أَيْ: أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} كَقَوْلِهِ {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النِّسَاءِ: 80] ، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أَيْ: هُوَ حَاضِرٌ مَعَهُمْ يَسْمَعُ أَقْوَالَهُمْ وَيَرَى مَكَانَهُمْ، وَيَعْلَمُ ضَمَائِرَهُمْ وَظَوَاهِرَهُمْ، فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسوله
__________
(1) في ت، م: "صلى الله عليه وسلم".
(2) عند الآية الخامسة والأربعين.(7/329)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التَّوْبَةِ: 111] .
وَقَدْ قَالَ (1) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى الْأَنْبَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ" (2) .
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في الْحَجَرِ: "وَاللَّهِ لَيَبْعَثُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يَنْظُرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ، بِهِ وَيَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِالْحَقِّ، فَمَنِ اسْتَلَمَهُ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ"، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (3) .
وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أَيْ: إِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَى النَّاكِثِ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ، {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} أَيْ: ثَوَابًا جَزِيلًا. وَهَذِهِ الْبَيْعَةُ هِيَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَكَانَتْ تَحْتَ شَجَرَةِ سَمُر بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ قيل: ألف وثلثمائة. وَقِيلَ: أَرْبَعُمِائَةٍ. وَقِيلَ: وَخَمْسُمِائَةٍ. وَالْأَوْسَطُ (4) أَصَحُّ.
ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ:
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ (5) . وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَئِذٍ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَوَضَعَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ، فَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، حَتَّى رَوَوْا كُلُّهُمْ (6) .
وَهَذَا مُخْتَصَرٌ مِنْ سِيَاقٍ آخَرَ حِينَ ذَكَرَ قِصَّةَ عَطَشِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَوَضَعُوهُ فِي بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَجَاشَتْ بِالْمَاءِ، حَتَّى كَفَتْهُمْ، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: كُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَلَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا (7) . وَفِي رِوَايَةٍ [فِي] (8) الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مائة (9) .
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) ورواه ابن مردويه كما في الجامع الصغير، ورمز له السيوطي بالضعف.
(3) ورواه الترمذي في السنن برقم (961) من طريق قتيبة عن جرير بإسناده إلى قوله: "يشهد على من استلمه بالحق" ولم يذكر الآية، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".
(4) في ت: "والأول".
(5) صحيح البخاري برقم (4840) وصحيح مسلم برقم (1856) .
(6) صحيح البخاري برقم (4154) وصحيح مسلم برقم (1856) .
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (5639) .
(8) زيادة من م، أ.
(9) صحيح البخاري برقم (4152) وصحيح مسلم برقم (1856) .(7/330)
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: كَمْ كَانَ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ؟ قَالَ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً.
قُلْتُ: فَإِنَّ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهِمَ، هُوَ حَدَّثَنِي أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً (1) .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْقَدِيمِ يَقُولُ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَهْمَ فَقَالَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً (2) .
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ. وَالْمَشْهُورُ الَّذِي رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْهُ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنِ الْعَبَّاسِ الدُّورِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنْ شَبَّابَةَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ (3) . وَكَذَلِكَ هُوَ فِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. وَبِهِ يَقُولُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ. وَقَدْ أَخْرَجَ صَاحِبَا الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ: كَانَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَكَانَتْ أَسْلَمُ يَوْمَئِذٍ ثُمُنَ الْمُهَاجِرِينَ (4) .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ المسور بن مخرمة، ومروان بن الْحَكَمِ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ قَالَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لَا يُرِيدُ قِتَالًا وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةِ نَفَرٍ، وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُ يَقُولُ: كُنَّا أَصْحَابَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً (5) .
كَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ أَوْهَامِهِ، فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُمْ كَانُوا بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً.
ذِكْرُ سَبَبِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ الْعَظِيمَةِ:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي السِّيرَةِ: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ لِيُبَلِّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مَنْ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا، وَغِلَظِي (6) عَلَيْهَا، وَلَكِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أَعَزَّ بِهَا مِنِّي، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَبَعَثَهُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبٍ، وَأَنَّهُ جَاءَ زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4153) .
(2) دلائل النبوة للبيهقي (4/97) .
(3) دلائل النبوة للبيهقي (4/98) .
(4) صحيح البخاري برقم (4155) وصحيح مسلم برقم (1857) .
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/308) .
(6) في ت، م: "غلظتي".(7/331)
فَخَرَجَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَجَارَهُ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (1) مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ حِينَ فَرَغَ مِنْ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ: "لَا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ". وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ. فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: بَايَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَوْتِ. وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَايِعْهُمْ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعَنَا عَلَى أَلَّا نَفِرَّ.
فَبَايَعَ النَّاسُ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهَا إِلَّا الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، فَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ لَاصِقًا بِإِبِطِ نَاقَتِهِ، قَدْ ضَبَأَ إِلَيْهَا يَسْتَتِرُ بِهَا مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ بَاطِلٌ. (2)
وَذَكَرَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ (3) . عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَزَادَ فِي سِيَاقِهِ: أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا وَعِنْدَهُمْ عُثْمَانُ [بْنُ عَفَّانَ] (4) سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى، وَمِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عِنْدَهُمْ إِذْ وَقَعَ كَلَامٌ بَيْنَ (5) بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، وَصَاحَ الْفَرِيقَانِ كِلَاهُمَا، وَارْتَهَنَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ قَدْ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِالْبَيْعَةِ، فَاخْرُجُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ فَبَايِعُوا، فَسَارَ الْمُسْلِمُونَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَبَايَعُوهُ عَلَى أَلَّا يَفِرُّوا أَبَدًا، فَأَرْعَبَ ذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ (6) ، وَأَرْسَلُوا مَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَدَعَوْا إِلَى الْمُوَادَعَةِ وَالصُّلْحِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا تَمْتَامٌ (7) ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ (8) ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ (9) بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (10) رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَبَايَعَ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ". فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم (11) .
__________
(1) زيادة من ت، م.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (2/315) .
(3) في ت: "أبي الأسود".
(4) زيادة من أ.
(5) في م: "من".
(6) في ت: "المشركون" وهو خطأ.
(7) في أ، م: "هشام".
(8) في أ: "بشير".
(9) في ت: "وروى البيهقي بسنده".
(10) زيادة من ت.
(11) لم أجده في دلائل النبوة ولعله في غيره.(7/332)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ (1) : حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ بِإِسْنَادٍ لَهُ، عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ (2) ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ، فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ النَّحْوِيُّ: فَذَكَرَ وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ أَبُو سِنَانٍ الْأَسَدِيُّ (3) .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ، كَانَ أَوَّلَ مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ أَبُو سِنَانٍ [الْأَسَدِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (4) ، فَقَالَ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَامَ تُبَايِعُنِي؟ ". فَقَالَ أَبُو سِنَانٍ: عَلَى مَا فِي نَفْسِكَ. هَذَا أَبُو سِنَانِ [بْنُ] (5) وَهْبٍ الْأَسَدِيُّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (6) (7) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، سَمِعَ النَّضْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا صَخْرُ [بْنُ الرَّبِيعِ] (8) ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ عُمَرَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْسَلَ عبد الله إلى الفرس لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ لِيُقَاتِلَ عَلَيْهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ، وَعُمَرُ لَا يَدْرِي بِذَلِكَ، فَبَايَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْفَرَسِ فَجَاءَ بِهِ إِلَى عُمَرَ، وَعُمَرُ يَسْتَلْئِمُ لِلْقِتَالِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَانْطَلَقَ، فَذَهَبَ مَعَهُ حَتَّى بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ الَّتِي يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ (9) أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ:وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيُّ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ قَدْ تَفَرَّقُوا فِي ظِلَالِ الشَّجَرِ، فَإِذَا النَّاسُ مُحْدِقُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ -يَعْنِي عُمَرُ-: يَا عَبْدَ اللَّهِ، انْظُرْ مَا شَأْنُ النَّاسِ قَدْ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَوَجَدَهُمْ يُبَايِعُونَ، فَبَايَعَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عُمَرَ فَخَرَجَ فَبَايَعَ.
وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي (10) عَمْرٍو الْأَدِيبِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ دُحَيْمٍ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ فَذَكَرَهُ (11) .
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ فَبَايَعْنَاهُ، وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَهِيَ سَمُرَةٌ، وَقَالَ: بَايَعْنَاهُ عَلَى أَلَّا نَفِرَّ، وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْهُ (12) .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ الشَّجَرَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يبايع الناس (13) ، وأنا رافع
__________
(1) في أ: "شهاب".
(2) في أ: "عن أبي بكر بن أبي مليكة".
(3) السيرة النبوية (2/316) .
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من م، أ.
(6) زيادة من م، أ.
(7) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (4/137) من طريق الحميدي به.
(8) زيادة من ت، أ.
(9) في أ: "عبد الله بن عمر".
(10) في أ: "ابن".
(11) صحيح البخاري برقم (4187) .
(12) صحيح مسلم برقم (1856) .
(13) في م: "والناس يبايعون النبي".(7/333)
غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، قَالَ: وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَلَّا نَفِرَّ (1) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ. قَالَ يَزِيدُ: قُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ (2) ، عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ (3) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ تَنَحَّيْتُ، فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ أَلَا تُبَايِعُ؟ " قُلْتُ: بَايَعْتُ، قَالَ: "أَقْبِلْ فَبَايِعْ". فَدَنَوْتُ فَبَايَعْتُهُ. قُلْتُ: عَلَامَ بَايَعْتَهُ يَا سَلَمَةُ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ (4) . وَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، أَنَّهُمْ بَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْتِ (5) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرْنَا أبو الفضل بن إبراهم، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبراهم، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ الْيَمَامِيُّ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ سَلَمَةَ (6) بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: قَدِمْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَعَلَيْهَا خَمْسُونَ شَاةً لَا تَرْوِيهَا، فَقَعَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على جَبَاهَا -يَعْنِي الرَّكِيَّ-فَإِمَّا دَعَا وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا، فَجَاشَتْ، فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم دعا إِلَى الْبَيْعَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ. فَبَايَعْتُهُ أَوَّلَ النَّاسِ، ثُمَّ بَايَعَ وَبَايَعَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطِ النَّاسِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَايِعْنِي يَا سَلَمَةُ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَايَعْتُكَ فِي أَوَّلِ النَّاسِ. قَالَ:"وَأَيْضًا". قَالَ: وَرَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزِلًا فَأَعْطَانِي حَجَفَةً -أَوْ دَرَقَةً-ثُمَّ بَايَعَ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ النَّاسِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا تُبَايِعُ يَا سَلَمَةُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَايَعْتُكَ (7) فِي أَوَّلِ النَّاسِ وَأَوْسَطِهِمْ. قَالَ: "وَأَيْضًا". فَبَايَعْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ، أَيْنَ حَجَفَتُكَ أَوْ دَرَقَتُكَ الَّتِي أَعْطَيْتُكَ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقِيَنِي عَامِرٌ عَزِلًا فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهُ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّكَ كَالَّذِي قَالَ الْأَوَّلُ: اللَّهُمَّ أَبْغِنِي حَبِيبًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي" قَالَ: ثُمَّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رَاسَلُونَا فِي الصُّلْحِ حَتَّى مَشَى بَعْضُنَا فِي بَعْضٍ فَاصْطَلَحْنَا. قَالَ: وَكُنْتُ خَادِمًا لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَسْقِي فَرَسَهُ وَأُحِسُّهُ (8) وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِ، وَتَرَكْتُ أَهْلِي وَمَالِي مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا، ثُمَّ اضْطَجَعْتُ (9) فِي أَصْلِهَا فِي ظِلِّهَا، فَأَتَانِي أَرْبَعَةٌ مِنْ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يَقَعُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبْغَضْتُهُمْ، وَتَحَوَّلْتُ إِلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى فَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ وَاضْطَجَعُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَادَى مُنَادٍ مِنَ أَسْفَلِ الْوَادِي: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ. فَاخْتَرَطْتُ سيفي، فشددت على أولئك الأربعة وهم
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1858) .
(2) في م: "مسلمة".
(3) صحيح البخاري برقم (2960) .
(4) صحيح مسلم برقم (1860) .
(5) صحيح البخاري برقم (2959) .
(6) في ت: "وقال البيهقي بسنده عن سلمة".
(7) في ت: "بايعت".
(8) في ت، م: "وأجنبه".
(9) في تن م، أ: "واضطجعت".(7/334)
رُقُودٌ، فَأَخَذْتُ سِلَاحَهُمْ وَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا فِي يَدِي، ثُمَّ قُلْتُ (1) : وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ إِلَّا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَجَاءَ عَمِّي عَامِرٌ بِرَجُلٍ مِنَ العَبَلات يُقَالُ لَهُ: "مِكْرَزٌ" مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَقُودُهُ، حَتَّى وَقَفْنَا بِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في سَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "دَعُوهُمْ يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ وَثِنَاهُ"، فَعَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (2) : {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ [الْفَتْحِ: 24] .
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهَوَيْهِ بِسَنَدِهِ نَحْوَهُ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ (3) .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: كَانَ أَبِي مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا مِنْ قَابَلٍ حَاجِّينَ، فَخَفِيَ عَلَيْنَا مَكَانُهَا، فَإِنْ كَانَ تَبَيَّنَتْ لَكُمْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ (4) .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنَا (5) جَابِرٌ، قَالَ: لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ، وَجَدْنَا رَجُلًا مِنَّا يُقَالُ لَهُ "الْجِدُّ بْنُ قَيْسٍ" مُخْتَبِئًا تَحْتَ إِبِطِ بَعِيرِهِ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، بِهِ (6) .
وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (7) ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرًا، قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ". قَالَ جَابِرٌ: لَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ (8) لَأَرَيْتُكُمْ مَوْضِعَ الشَّجَرَةِ. قَالَ سُفْيَانُ: إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِهَا. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ (9) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ. عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ" (10) .
وَقَالَ (11) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْفَلَّاسُ الْمَخْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ الْعَبْدِيُّ، عَنْ خِدَاشِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَدْخُلُ مَنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ كُلُّهُمُ الْجَنَّةَ إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ". قَالَ: فَانْطَلَقْنَا نَبْتَدِرُهُ فَإِذَا رَجُلٌ قَدْ أَضَلَّ بَعِيرُهُ، فَقُلْنَا: تَعَالَ فَبَايِعْ. فَقَالَ: أُصِيبُ بِعِيرِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبَايِعَ (12) .
__________
(1) في تن م: "وقلت".
(2) زيادة من ت، م.
(3) دلائل النبوة للبيهقي (4/138) ، وصحيح مسلم برقم (1807) .
(4) صحيح البخاري برقم (4164) وصحيح مسلم برقم (1859) واللفظ لمسلم.
(5) في م: "عن".
(6) مسند الحميدي (2/537) وصحيح مسلم برقم (1856) .
(7) في ت: "وفي الصحيحين من حديث سفيان".
(8) في ت، م: "انظر".
(9) مسند الحميدي (2/514) وصحيح البخاري برقم (4154) وصحيح مسلم برقم (1856) .
(10) المسند (3/350) .
(11) في ت: "وروى".
(12) وفي إسناده محمد بن ثابت العبدي، ضعفه ابن معين وشيخه خداش بن عياش وثقه ابن حبان، وقال الترمذي: "لا نعرف خداشا هذا من هو".(7/335)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا قُرَّةُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ (1) ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ يَصْعَدُ الثَّنِيَّةَ، ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ، فَإِنَّهُ يُحَطُّ عَنْهُ مَا حُطَّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ". فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَعِدَ خَيْلُ بَنِي (2) الْخَزْرَجِ، ثُمَّ تَبَادَرَ النَّاسُ بَعْدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ". فَقُلْنَا: تَعَالَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (3) . فَقَالَ: وَاللَّهُ لَأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي صَاحِبُكُمْ. فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ يُنْشِدُ ضَالَّةً (4) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، بِهِ (5) .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ-مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا أَحَدٌ". قَالَتْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ لِحَفْصَةَ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مَرْيَمَ: 71] ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ قَالَ اللَّهُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مَرْيَمَ: 72] ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ (6) .
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ؛ أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ جَاءَ يَشْكُو حَاطِبًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَذَبْتَ، لَا يَدْخُلُهَا؛ فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ" (7) .
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الْفَتْحِ: 10] ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الْفَتْحِ: 18] .
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) }
__________
(1) في ت: "وقال عبد الله بن أحمد بسنده".
(2) في أ: "من".
(3) زيادة من ت.
(4) في أ: "ضالته".
(5) صحيح مسلم برقم (2780) .
(6) صحيح مسلم برقم (2496) .
(7) صحيح مسلم برقم (2494) .(7/336)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا رَسُولَهُ (1) -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (2) -بِمَا يَعْتَذِرُ بِهِ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ اخْتَارُوا الْمُقَامَ فِي أَهْلِيهِمْ وَشُغْلِهِمْ (3) ، وَتَرَكُوا الْمَسِيرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاعْتَذَرُوا بِشُغْلِهِمْ بِذَلِكَ، وَسَأَلُوا أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمُ الرَّسُولُ (4) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ قَوْلٌ مِنْهُمْ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ، بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ وَالْمُصَانَعَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَرُدَّ مَا أَرَادَهُ فِيكُمْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِسَرَائِرِكُمْ وَضَمَائِرِكُمْ، وَإِنْ صَانَعْتُمُونَا وَتَابَعْتُمُونَا (5) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .
ثُمَّ قَالَ: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} أَيْ: لَمْ يَكُنْ تَخَلُّفُكُمْ تَخَلُّفَ مَعْذُورٍ وَلَا عَاصٍ، بَلْ تَخَلُّفَ نِفَاقٍ، {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} أَيْ: اعْتَقَدْتُمْ أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ وَتُسْتَأْصَلُ شَأْفَتُهُمْ وَتُسْتَبَادُ خَضْرَاؤُهُمْ، وَلَا يَرْجِعُ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} أَيْ: هَلْكَى. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَاسِدِينَ. وَقِيلَ: هِيَ بِلُغَةِ عُمَانَ.
ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ: مَنْ لَمْ يُخْلِصِ الْعَمَلَ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِلَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُعَذِّبُهُ فِي السَّعِيرِ، وَإِنْ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ مَا يَعْتَقِدُونَ خِلَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ الْحَاكِمُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ في أهل السموات وَالْأَرْضِ: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أَيْ: لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ، وَخَضَعَ لَدَيْهِ.
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا (15) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ (6) الْحُدَيْبِيَةِ، إِذْ ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى خَيْبَرَ يَفْتَتِحُونَهَا: أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُمْ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَقَدْ تَخَلَّفُوا عَنْ وَقْتِ مُحَارَبَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُجَالَدَتِهِمْ وَمُصَابَرَتِهِمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَأْذَنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، مُعَاقَبَةً لَهُمْ مِنْ جِنْسِ ذَنْبِهِمْ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ بِمَغَانِمِ خَيْبَرَ وَحْدَهُمْ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ الْمُتَخَلِّفِينَ، فَلَا (7) يَقَعُ غَيْرُ ذَلِكَ شَرْعًا وَقَدَرًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَجُوَيْبِرٌ: وَهُوَ الْوَعْدُ الَّذِي وُعِدَ بِهِ أهل الحديبية. واختاره ابن جرير (8) .
__________
(1) في ت، م: "لرسوله".
(2) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(3) في ت، أ: "والشغل بهم".
(4) في م: "رسول الله".
(5) في ت: "أو نافقتمونا".
(6) في ت، م، أ: "عمرة".
(7) في ت: "ولا".
(8) تفسير الطبري (26/50) .(7/337)
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التَّوْبَةِ: 83] .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي "بَرَاءَةَ" نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ غَزْوَةِ (1) الْحُدَيْبِيَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} يَعْنِي: بِتَثْبِيطِهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْجِهَادِ.
{قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ سُؤَالِكُمُ (2) الْخُرُوجَ مَعَهُمْ، {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أَيْ: أَنْ نُشْرِكَكُمْ فِي الْمَغَانِمِ، {بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا} أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، وَلَكِنْ لَا فَهْمَ لهم (3) .
__________
(1) في ت، م، أ: "عمرة".
(2) في ت، م: "قبل أن يسألوكم".
(3) في ت، أ: "لأنهم عدو لهم".(7/338)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) }
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُدْعَوْنَ إِلَيْهِمْ، الَّذِينَ هُمْ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ، عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ هَوَازِنُ. رَوَاهُ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْر، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ -أَوْ عِكْرِمَةَ (1) ، أَوْ جَمِيعًا-وَرَوَاهُ هُشيم عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْهُمَا. وَبِهِ يَقُولُ قَتَادَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ.
الثاني: ثقف، قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
الثَّالِثُ: بَنُو حَنِيفَةَ، قَالَهُ جُوَيْبِرٌ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ سَعِيدٍ وَعِكْرِمَةَ.
الرَّابِعُ: هُمْ أَهْلُ فَارِسَ. رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ يَقُولُ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ -فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هُمُ الرُّومُ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هُمْ أَهْلُ الْأَوْثَانِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: هُمْ رِجَالٌ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْ فِرْقَةً. وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَوَارِيرِيُّ، عَنْ مَعْمَر (2) ، عن
__________
(1) في ت: "هوازن قاله عكرمة".
(2) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".(7/338)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
الزُّهْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قَالَ: لَمْ يَأْتِ أُولَئِكَ بَعْدُ.
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قَالَ: هُمُ الْبَارِزُونَ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا صِغَارَ الْأَعْيُنِ، ذُلْفَ الْآنُفِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ". قَالَ سُفْيَانُ: هُمُ التُّرْكُ (1) .
قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: وَجَدْتُ فِي مَكَانٍ (2) آخَرَ: ابْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَزَلَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَفَسَّرَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعْر" قَالَ: هُمُ الْبَارِزُونَ، يَعْنِي الْأَكْرَادَ (3) .
وَقَوْلُهُ: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} يَعْنِي: يُشْرِّعُ لَكُمْ جِهَادَهُمْ وَقِتَالَهُمْ، فَلَا يَزَالُ ذَلِكَ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهِمْ، وَلَكُمُ النُّصْرَةُ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُسْلِمُونَ فَيَدْخُلُونَ فِي دِينِكُمْ بِلَا قِتَالٍ بَلْ بِاخْتِيَارٍ.
ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ تُطِيعُوا} أَيْ: تَسْتَجِيبُوا وَتَنْفِرُوا فِي الْجِهَادِ وَتُؤَدُّوا الَّذِي عَلَيْكُمْ فِيهِ، {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي: زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، حَيْثُ دُعِيتُمْ (4) فَتَخَلَّفْتُمْ، {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}
ثُمَّ ذَكَرَ الْأَعْذَارَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ، فَمِنْهَا لَازِمٌ كَالْعَمَى وَالْعَرَجِ الْمُسْتَمِرِّ، وَعَارِضٌ كَالْمَرَضِ الَّذِي يَطْرَأُ أَيَّامًا ثُمَّ يَزُولُ، فَهُوَ فِي حَالِ مَرَضِهِ مُلْحِقٌ بِذَوِي الْأَعْذَارِ اللَّازِمَةِ حَتَّى يَبْرَأَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُرَغِّبًا فِي الْجِهَادِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ} أَيْ: يَنْكُلُ عَنِ الْجِهَادِ، وَيُقْبِلُ عَلَى الْمَعَاشِ {يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} فِي الدُّنْيَا بِالْمَذَلَّةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ.
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ عِدَّتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية.
__________
(1) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف برقم (19199) والبخاري في صحيحه برقم (2929) من طريق سفيان عن الزهري بإسناده: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة" ورواه البخاري في صحيحه برقم (2928) من طريق صالح، عن الأعرج عن أبي هريرة بنحوه.
(2) في ت: "وقال ابن أبي عمرو حديث في موضع".
(3) وقد ذكر بعض المؤرخين أن أصحاب بابك المخرمي كانوا ينتعلون الشعر، فهم المقصودون بهذا الحديث.
(4) في ت: "ذهبتم".(7/339)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: انْطَلَقْتُ حَاجًّا فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ يُصَلُّونَ، فَقُلْتُ (1) مَا هَذَا الْمَسْجِدُ؟ قَالُوا: هَذِهِ الشَّجَرَةُ، حَيْثُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، فَأَتَيْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ نَسِينَاهَا فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَعَلِمْتُمُوهَا أَنْتُمْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ (2) .
وَقَوْلُهُ: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أَيْ: مِنَ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، {فَأَنزلَ السَّكِينَةَ} : وَهِيَ الطُّمَأْنِينَةُ، {عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} : وَهُوَ مَا أَجْرَى اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِمْ، وَمَا حَصَلَ بِذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ الْعَامِّ الْمُسْتَمِرِّ الْمُتَّصِلِ بِفَتْحِ خَيْبَرَ وَفَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ فَتْحِ سَائِرِ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ عَلَيْهِمْ، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعِزِّ وَالنَّصْرِ وَالرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا (3) وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}
قَالَ (4) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا مُوسَى، أَخْبَرَنَا مُوسَى -يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدَةَ-حَدَّثَنِي إِيَاسُ (5) بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ قَائِلُونَ. إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ، الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ، نَزَلَ رُوحُ الْقُدُسِ. قَالَ: فَثُرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ تَحْتَ شَجَرَةِ سَمُرَةٍ فَبَايَعْنَاهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (6) : {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [قَالَ] (7) : فَبَايَعَ لِعُثْمَانَ بإحد يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لِابْنِ عَفَّانَ، طَوَّفَ بِالْبَيْتِ وَنَحْنُ (8) هَاهُنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ مَكَثَ كَذَا كَذَا سَنَةً مَا طَافَ حَتَّى أَطُوفَ" (9) .
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (23) }
__________
(1) في م: "وقلت".
(2) صحيح البخاري برقم (4163) .
(3) في ت: "تأخذونها".
(4) في ت: "وروى".
(5) في ت: "عن أبان".
(6) في ت، م: "فذلك قوله تعالى".
(7) زيادم من ت، م.
(8) في ت، م: "وذكر".
(9) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/90) من طريق عبيد الله بن موسى به، قال الهيثمي في المجمع (9/84) : "فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف".(7/340)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) }(7/340)
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} : هِيَ جَمِيعُ الْمَغَانِمِ إِلَى الْيَوْمِ، {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يَعْنِي: فَتْحَ خَيْبَرَ.
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يَعْنِي: صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ.
{وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} أَيْ: لَمْ يَنَلْكُمْ سُوءٌ مِمَّا كَانَ أَعْدَاؤُكُمْ أَضْمَرُوهُ لَكُمْ مِنَ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ. وَكَذَلِكَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ [عَنْكُمْ] (1) الَّذِينَ خَلَّفْتُمُوهُمْ وَرَاءَ أَظْهُرِكُمْ عَنْ عِيَالِكُمْ وَحَرِيمِكُمْ، {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: يَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ حَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَعْدَاءِ، مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَلِيَعْلَمُوا بِصَنِيعِ اللَّهِ هَذَا بِهِمْ أَنَّهُ الْعَلِيمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَأَنَّ الْخِيَرَةَ فِيمَا يَخْتَارُهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كِرِهُوهُ فِي الظَّاهِرِ، كَمَا قَالَ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 216] .
{وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أَيْ: بِسَبَبِ انْقِيَادِكُمْ لِأَمْرِهِ وَاتِّبَاعِكُمْ طَاعَتَهُ، وَمُوَافَقَتِكُمْ رَسُولَهُ (2) .
وَقَوْلُهُ: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} أَيْ: وَغَنِيمَةً أُخْرَى وَفَتْحًا آخَرَ مُعَيَّنًا لَمْ تَكُونُوا تَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، قَدْ يَسَّرها اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَأَحَاطَ بِهَا لَكُمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ عِبَادَهُ الْمُتَّقِينَ لَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْغَنِيمَةِ، مَا الْمُرَادُ بِهَا؟ فَقَالَ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ خَيْبَرُ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} إِنَّهَا صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَكَّةُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ فَارِسُ وَالرُّومُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ كُلُّ فَتْحٍ وَغَنِيمَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ الْحَنَفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} قَالَ: هَذِهِ الْفُتُوحُ الَّتِي تُفْتَحُ إِلَى الْيَوْمِ (3) .
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} يَقُولُ تَعَالَى مُبَشِّرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: بِأَنَّهُ لَوْ نَاجَزَهُمُ الْمُشْرِكُونَ لَنَصَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَلَانْهَزَمَ جَيْشُ الْكُفَّارِ (4) فَارًّا مُدْبِرًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا؛ لِأَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِحِزْبِهِ (5) الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ قَالَ: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} أَيْ: هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ وَعَادَتُهُ فِي خَلْقِهِ، مَا تَقَابَلَ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ فِي مَوْطِنٍ فَيَصِلُ إِلَى نَصْرِ اللَّهِ الْإِيمَانُ عَلَى الْكُفْرِ، فَرَفَعَ الْحَقَّ وَوَضَعَ الْبَاطِلَ، كَمَا فَعَلَ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ نَصَرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَ قِلَّةِ عدد المسلمين وعُدَدهم، وكثرة المشركين وعددهم (6) .
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت، م: "لرسوله".
(3) في ت: "إلى يوم القيامة".
(4) في م: "الكفر".
(5) في ت، أ: "ولعباده".
(6) في ت، م: "ومددهم".(7/341)
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} : هَذَا امْتِنَانٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ كَفَّ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَصِلْ (1) إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ سُوءٌ، وَكَفَّ أَيْدِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بَلْ صَانَ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَوْجَدَ بَيْنَهُمْ صُلْحًا فِيهِ خيَرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَعَاقِبَةٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ حِينَ جَاءُوا بِأُولَئِكَ السَّبْعِينَ الْأُسَارَى فَأَوْثَقُوهُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: "أَرْسِلُوهُمْ يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ وثنَاه". قَالَ: وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الْآيَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ هَبَطَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي السِّلَاحِ، مِنْ قِبَلِ جَبَلِ التَّنْعِيمِ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَأُخِذُوا -قَالَ عَفَّانُ: فَعَفَا عَنْهُمْ-وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنَيْهِمَا، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ (2) .
وَقَالَ أَحْمَدُ -أَيْضًا-: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ البُنَاني، عَنْ (3) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّل المُزَنِي قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَكَانَ يَقَعُ مِنْ أَغْصَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ عَلَى ظَهْرِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيَّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وسهلُ بْنُ عَمْرٍو بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: "اكْتُبْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، فَأَخَذَ سَهْلٌ بِيَدِهِ وَقَالَ: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ. اكْتُبْ فِي قَضِيَّتِنَا مَا نَعْرِفُ. قَالَ: "اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ"، وَكَتَبَ: "هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَهْلَ مَكَّةَ". فَأَمْسَكَ سَهْلُ بْنُ عَمْرٍو بِيَدِهِ وَقَالَ: لَقَدْ ظَلَمْنَاكَ إِنْ كُنْتَ رَسُولَهُ، اكْتُبْ فِي قَضِيَّتِنَا مَا نَعْرِفُ. فَقَالَ: "اكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا ثَلَاثُونَ شَابًّا عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ، فَثَارُوا فِي (4) وُجُوهِنَا، فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ اللَّهُ بِأَسْمَاعِهِمْ، فَقُمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخَذْنَاهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ جِئْتُمْ فِي عَهْدِ أَحَدٍ؟ أَوْ: هَلْ (5) جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا؟ " فَقَالُوا: لَا. فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، بِهِ (6) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْد، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ القُمّي، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، عن ابن أبْزَى قال: لما
__________
(1) في ت: "تصل".
(2) المسند (3/122) وصحيح مسلم برقم (1808) وسنن أبي داود برقم (2688) وسنن الترمذي برقم (3264) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11510) .
(3) في ت: "بن".
(4) في ت، م: "إلى".
(5) في ت: "وهل".
(6) المسند (4/86) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11511) .(7/342)
خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَدْيِ وَانْتَهَى إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، تَدْخُلُ عَلَى قَوْمٍ لَكَ حَرْب بِغَيْرِ سِلَاحٍ وَلَا كُرَاع؟ قَالَ: فَبَعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يَدَعْ فِيهَا كُرَاعًا وَلَا سِلَاحًا إِلَّا حَمَلَهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَكَّةَ مَنَعُوهُ أَنْ يَدْخُلَ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى مِنًى، فَنَزَلَ بِمِنًى، فَأَتَاهُ عَيْنُهُ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ قَدْ خَرَجَ عَلَيْكَ فِي خَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: "يَا خَالِدُ، هَذَا ابْنُ عَمِّكَ أَتَاكَ فِي الْخَيْلِ (1) ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَنَا سَيْفُ اللَّهِ، وَسَيْفُ رَسُولِهِ -فَيَوْمَئِذَ سُمِّيَ سَيْفَ اللَّهِ-يَا رَسُولَ اللَّهِ، ارْمِ بِي أَيْنَ شِئْتَ. فَبَعَثَهُ عَلَى خَيْلٍ، فَلَقِيَ عِكْرِمَةَ فِي الشِّعْبِ فَهَزَمَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ، ثُمَّ عَادَ فِي الثَّانِيَةِ فَهَزَمَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ، ثُمَّ عَادَ فِي الثَّالِثَةِ فَهَزَمَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ] } (2) إِلَى: {عَذَابًا أَلِيمًا} . قَالَ: فَكَفَّ اللَّهُ النَّبِيَّ عَنْهُمْ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَهُ (3) عَلَيْهِمْ لِبَقَايَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا بَقُوا فِيهَا كَرَاهِيَةَ أَنْ تَطَأَهُمُ الْخَيْلُ (4) .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ أَبْزَى بِنَحْوِهِ. وَهَذَا السِّيَاقُ فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ لِأَنَّ خَالِدًا لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ؛ بَلْ قَدْ كَانَ طَلِيعَةَ الْمُشْرِكِينَ (5) يَوْمَئِذٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُمْ قَاضَوْهُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ (6) فَيَعْتَمِرَ وَيُقِيمَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا قَدِمَ لَمْ يُمَانِعُوهُ، وَلَا حَارَبُوهُ وَلَا قَاتَلُوهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَكُونُ يَوْمَ الْفَتْحِ؟ فَالْجَوَابُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسُقْ عَامَ الْفَتْحِ هَديًا، وَإِنَّمَا جَاءَ مُحَارِبًا مُقَاتِلًا فِي جَيْشٍ عَرَمْرَم، فَهَذَا السِّيَاقُ فِيهِ خَلَلٌ، قَدْ وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ فَلْيُتَأَمَّلْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَوْ خَمْسِينَ، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يَطِيفُوا بِعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصِيبُوا مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا، فأُخذُوا أَخْذًا، فأُتي بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَفَا عَنْهُمْ وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا رَمَوْا إِلَى (7) عَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (8) بِالْحِجَارَةِ وَالنَّبْلِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الْآيَةَ (9) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: "ابْنُ زُنَيْم" اطَّلَعَ عَلَى الثَّنِيَّةِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَرَمَاهُ الْمُشْرِكُونَ بِسَهْمٍ فَقَتَلُوهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا فَأَتَوْهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ فَارِسًا مِنَ الْكُفَّارِ، فَقَالَ لَهُمْ: "هَلْ لَكَمْ عَلَيَّ عَهْدٌ؟ هَلْ لَكَمْ عَلَيَّ ذِمَّةٌ؟ ". قَالُوا: لَا. فَأَرْسَلَهُمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية.
__________
(1) في أ: "الجبل".
(2) زيادة من ت.
(3) في أ: "أظفركم".
(4) تفسير الطبري (26/59) .
(5) في أ: "للمشركين".
(6) في ت: "قابل".
(7) في أ: "في".
(8) في ت، م: "عسكر المسلمين".
(9) رواه الطبري في تفسيره (26/59) .(7/343)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ مَالَأَهُمْ (1) عَلَى نُصْرَتِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: هُمُ الْكُفَّارُ دُونَ غَيْرِهِمْ، {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أَيْ: وَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ، وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أَيْ: وَصَدُّوا الْهَدْيَ أَنْ يَصِلَ (2) إِلَى مَحَلِّهِ، وَهَذَا مِنْ بَغْيِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَكَانَ الهديُ سَبْعِينَ بَدَنَةً، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} أَيْ: بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِمَّنْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَيُخْفِيهِ مِنْهُمْ خِيفَةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، لَكُنَّا سَلَّطناكم عَلَيْهِمْ فَقَتَلْتُمُوهُمْ وَأَبَدْتُمْ خَضْرَاءَهُمْ، وَلَكِنْ بَيْنَ أَفْنَائِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أَقْوَامٌ لَا تَعْرِفُونَهُمْ حَالَةَ (3) الْقَتْلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ} أَيْ: إِثْمٌ وَغَرَامَةٌ {بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أَيْ: يُؤَخِّرُ عُقُوبَتَهُمْ لِيُخَلِّصَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَرْجِعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.
ثُمَّ قَالَ: {لَوْ تَزَيَّلُوا} أَيْ: لَوْ تَمَيَّزَ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أَيْ: لَسَلَّطْنَاكُمْ عَلَيْهِمْ فَلَقَتَلْتُمُوهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنْباع -رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ-حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (4) أَبُو سَعِيدٍ -مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ-حَدَّثَنَا حُجْر بْنُ خَلَفٍ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَوْفٍ (5) يَقُولُ (6) : سَمِعْتُ (7) جُنَيْدَ بْنَ سَبُعٍ يَقُولُ (8) : قَاتَلْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ النَّهَارِ كَافِرًا، وَقَاتَلْتُ مَعَهُ آخِرَ النَّهَارِ مُسْلِمًا، وَفِينَا نَزَلَتْ: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} قَالَ: كُنَّا تِسْعَةَ نَفَرٍ: سَبْعَةَ رِجَالٍ وَامْرَأَتَيْنِ (9) .
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ الْمَكِّيِّ بِهِ، وَقَالَ فِيهِ: عَنْ أَبِي جمعة جنيد بن سبيع، فَذَكَرَهُ (10) وَالصَّوَابُ أَبُو جَعْفَرٍ: حَبِيبُ بْنُ سِبَاعٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُجْرِ بن خلف (11) ،
__________
(1) في ت، أ: "ولا هم".
(2) في ت: "يبلغ".
(3) في أ: "حال".
(4) في م، أ: "عبيد الله".
(5) في أ: "عمرو".
(6) في ت: "روى الحافظ الطبراني بسنده".
(7) في ت: "عن".
(8) في ت: "قال".
(9) المعجم الكبير (2/290) .
(10) المعجم الكبير (4/24) .
(11) في أ: "حنيف".(7/344)
بِهِ. وَقَالَ: كُنَّا ثَلَاثَةَ (1) رِجَالٍ وَتِسْعَ نِسْوَةٍ، وَفِينَا نَزَلَتْ: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ (2) ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (3) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} يَقُولُ: لَوْ تَزَيَّلَ الْكَفَّارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَعَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا بِقَتْلِهِمْ إِيَّاهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} ، وَذَلِكَ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَكْتُبُوا "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وَأَبَوْا أَنْ يَكْتُبُوا: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، {فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} ، وَهِيَ قَوْلُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثُوَيْرٍ (4) ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الطُّفَيْلِ -يَعْنِي: ابْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (5) [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (6) -عَنْ أَبِيهِ [أَنَّهُ] (7) سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ".
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ قَزْعَةَ، وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وَسَأَلْتُ أَبَا زُرْعَة عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (8) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ (9) ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بحقه، وحسابه على الله"، وأنزل الله في كِتَابِهِ، وَذَكَرَ قَوْمًا فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصَّافَّاتِ: 35] ، وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} وَهِيَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، فَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا وَاسْتَكْبَرَ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ (10) يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَاتَبَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قَضِيَّةِ الْمُدَّةِ..
وَكَذَا رَوَاهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَاتِ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ (11) ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُدْرَجَةٌ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {كَلِمَةَ التَّقْوَى} : الْإِخْلَاصُ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ، لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كل شيء قدير.
__________
(1) في م: "ثلاث".
(2) في أ: "عن أبي هريرة".
(3) في ت: "روى ابن أبي حاتم بسنده".
(4) في أ: "ثور".
(5) في ت: "كما روى ابن جرير بسنده عن أبي بن كعب".
(6) زيادة من ت.
(7) زيادة من ت، م.
(8) تفسير الطبري (26/66) وزوائد عبد الله على المسند (5/138) وسنن الترمذي برقم (3265) .
(9) في ت: "وروى بن أبي حاتم بسنده".
(10) في أ: "قريش".
(11) تفسير الطبري (26/66) .(7/345)
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَبَاية بْنِ رِبْعِي، عَنْ عَلِيٍّ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قَالَ: يَقُولُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ رَأْسُ كُلِّ تَقْوَى.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هِيَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَر عن الزُّهْرِيِّ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
{وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} : كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَحَقَّ بِهَا، وَكَانُوا أَهْلَهَا.
{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أَيْ: هُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يستحق الخير من يَسْتَحِقُّ الشَّرَّ.
وَقَدْ قَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الْفَتْحِ: 26] ، وَلَوْ حَمَيْتُمْ كَمَا حَمُوا لَفَسَدَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَغْلَظَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ. فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ عِنْدَكَ عِلْمٌ وَقُرْآنٌ، فَاقْرَأْ وَعَلِّمْ مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (1) .
وَهَذَا ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقِصَّةِ الصُّلْحِ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قَالَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لَا يُرِيدُ قِتَالًا وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، فَكَانَتْ كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشْرَةٍ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِعَسَفَانَ لَقِيَهُ بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيُّ (2) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ سَمِعَتْ بِمَسِيرِكَ فَخَرَجَتْ مَعَهَا العُوذ الْمَطَافِيلُ، قَدْ لَبِسَتْ جُلُودَ النُّمُورِ، يُعَاهِدُونَ اللَّهَ أَلَّا تَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا، وَهَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِمْ قَدْ قَدَّمُوهُ إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ! قَدْ أَكَلَتْهُمُ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بيني وبين سائر
__________
(1) النسائي في السنن الكبرى برقم (11505) .
(2) في ت: "بشر بن كعب الكلبي".(7/346)
النَّاسِ؟ فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرْنِي اللَّهُ [عَلَيْهِمْ] (1) دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَهُمْ وَافِرُونَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ، فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ؟ فَوَاللَّهِ لَا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ حَتَّى يُظْهِرَنِي اللَّهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ". ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ فَسَلَكُوا ذَاتَ الْيَمِينِ بَيْنَ ظَهْرَيِ الْحَمْضِ عَلَى طَرِيقٍ تُخْرِجُهُ (2) عَلَى ثَنِيَّةِ الْمُرَارِ وَالْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ. قَالَ: فَسَلَكَ بِالْجَيْشِ تِلْكَ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا رَأَتْ خَيْلُ قُرَيْشٍ قَتَرَةَ الْجَيْشِ قَدْ خَالَفُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ، رَكَضُوا رَاجِعِينَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا سَلَكَ ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ، بَرَكَتْ نَاقَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: خَلَأَتْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا خَلَأَتْ، وَمَا ذَلِكَ (3) لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكَّةَ، وَاللَّهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ، إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا" [ثُمَّ] (4) قَالَ لِلنَّاسِ: "انْزِلُوا". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بِالْوَادِي مِنْ مَاءٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ النَّاسُ. فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَنَزَلَ فِي قَلِيبٍ مِنْ تِلْكَ الْقُلُبِ، فَغَرَزَهُ فِيهِ فَجَاشَ بِالْمَاءِ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ عَنْهُ بِعَطَنٍ. فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا بُدَيل بْنُ وَرْقَاءَ فِي رِجَالٍ مِنْ خُزَاعَةَ، فَقَالَ لَهُمْ كَقَوْلِهِ لِبِشْرِ بْنِ سُفْيَانَ، فَرَجَعُوا إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ، إِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ مُعَظِّمًا لِحَقِّهِ، فَاتَّهَمُوهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: [وَ] (5) كَانَتْ خُزَاعَةُ فِي عَيْبَة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِكُهَا وَمُسْلِمُهَا، لَا يُخْفُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا كَانَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا جَاءَ لِذَلِكَ فَوَاللَّهِ لَا يَدْخُلُهَا أَبَدًا عَلَيْنَا عَنْوة، وَلَا يَتَحَدَّثُ بِذَلِكَ الْعَرَبُ. ثُمَّ بَعَثُوا إِلَيْهِ مِكْرَز بْنَ حَفْصٍ، أَحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هَذَا رَجُلٌ غَادِرٌ". فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ مَا كَلَّم بِهِ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (6) ؛ فَبَعَثُوا إِلَيْهِ الْحُلَيْسَ بْنَ عَلْقَمَةَ الْكِنَانِيَّ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْأَحَابِيشِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلَّهُونَ، فَابْعَثُوا الهَدْي" فِي وَجْهِهِ، فَبَعَثُوا الْهَدْيَ، فَلَمَّا رَأَى الْهَدْيَ يَسِيلُ عَلَيْهِ مِنْ عُرْض الْوَادِي فِي قَلَائِدِهِ قَدْ أَكَلَ أَوْتَارَهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ عَنْ مَحَلِّهِ، رَجَعَ وَلَمْ يَصِلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِعْظَامًا لِمَا رَأَى (7) ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ رَأَيْتُ مَا لَا يَحِلُّ صَده، الْهَدْيُ فِي قَلَائِدِهِ قَدْ أَكَلَ أَوْتَارَهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ عَنْ مَحَلِّهِ. قَالُوا: اجْلِسْ، إِنَّمَا أَنْتَ أَعْرَابِيٌّ لَا عِلْمَ لَكَ. فَبَعَثُوا إِلَيْهِ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنْ قَدْ رَأَيْتُ مَا يَلْقَى مِنْكُمْ مَنْ تَبْعَثُونَ إِلَى مُحَمَّدٍ إِذَا جَاءَكُمْ، مِنَ التَّعْنِيفِ وَسُوءِ اللَّفْظِ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّكُمْ والد وأنا وَلَدٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ بِالَّذِي نَابَكُمْ، فَجَمَعْتُ مَنْ أَطَاعَنِي مِنْ قَوْمِي، ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى آسَيْتُكُمْ بِنَفْسِي. قَالُوا: صَدَقْتَ مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ. فَخَرَجَ (8) حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ جَمَعْتَ أَوْبَاشَ النَّاسِ، ثُمَّ جِئْتَ بِهِمْ لِبَيْضَتِكَ لِتَفُضَّهَا، إِنَّهَا قُرَيْشٌ قَدْ خَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النُّمُورِ، يُعَاهِدُونَ الله
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "يحرصه".
(3) في ت: "وما ذاك".
(4) زيادة من ت، م، أ.
(5) زيادة من ت، م.
(6) زيادة من ت، م.
(7) في ت: "فلما رجع إلى أصحابه".
(8) في أ: "ثم خرج".(7/347)
أَلَّا تَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا، وَايْمُ اللَّهِ لَكَأَنِّي بِهَؤُلَاءِ قَدِ انْكَشَفُوا عَنْكَ غَدًا. قَالَ: وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدٌ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ! أَنَحْنُ نَنْكَشِفُ عَنْهُ؟! قَالَ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: "هَذَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ". قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَكَافَأْتُكَ بِهَا، وَلَكِنْ هَذِهِ بِهَا. ثُمَّ تَنَاوَلَ لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيدِ (1) ، قَالَ: فَقَرَعَ يَدَهُ. ثُمَّ قَالَ: أَمْسِكْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ -وَاللَّهِ-لَا تَصِلُ إِلَيْكَ. قَالَ: وَيْحَكَ! مَا أَفْظَعَكَ وَأَغْلَظَكَ! فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا ابْنُ أَخِيكَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ". قَالَ: أَغُدَرُ، وَهَلْ غَسَلْتَ سَوْأَتَكَ إِلَّا بِالْأَمْسِ؟! قَالَ فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ مَا كَلَّمَ بِهِ أَصْحَابَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا. قَالَ: فَقَامَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2) وَقَدْ رَأَى مَا يَصْنَعُ بِهِ أَصْحَابُهُ، لَا يَتَوَضَّأُ وَضُوءًا إِلَّا ابْتَدَرُوهُ، وَلَا يَبْصُقُ بُصَاقًا إِلَّا ابْتَدَرُوهُ، وَلَا يَسْقُطُ مِنْ شَعْرِهِ شَيْءٌ إِلَّا أَخَذُوهُ. فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّى جِئْتُ كِسْرَى فِي مُلْكِهِ، وَجِئْتُ قَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيَّ فِي مُلْكِهِمَا، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَلكا قَطُّ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي أَصْحَابِهِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا لَا يُسْلِمُونَهُ لِشَيْءٍ أَبَدًا، فَرَوْا رَأْيَكُمْ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ بَعَثَ خِرَاشَ بْنَ أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ إِلَى مَكَّةَ، وَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: "الثَّعْلَبُ" فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَقَرَتْ (3) بِهِ قُرَيْشٌ، وَأَرَادُوا قَتْلَ خِرَاشٍ، فَمَنَعَتْهُمُ الْأَحَابِيشُ، حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا عُمَرَ لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّى أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِهَا مِنْ بَنِي عَدِيٍّ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ هُوَ أَعَزُّ مِنِّي: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. قَالَ: فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَهُ إِلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَرَدَفَ خَلْفَهُ، وَأَجَارَهُ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ بِهِ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (4) قَالَ: وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، قَالَ: وَبَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ: أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا سَهْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَقَالُوا: ائْتِ مُحَمَّدًا فَصَالِحْهُ وَلَا يَكُونُ فِي صُلْحِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنَّا عَامَهُ هَذَا، فَوَاللَّهِ لَا تُحَدِّثُ الْعَرَبُ أَنَّهُ دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً أَبَدًا. فَأَتَاهُ سَهْلُ بْنُ عَمْرٍو فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ". فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَا وَأَطَالَا الْكَلَامَ، وَتَرَاجَعَا حَتَّى جَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، فَلَمَّا الْتَأَمَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْكِتَابُ، وَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فأت أبا بكر فقال: يا أبا بكر، أو ليس برسول الله؟ أو لسنا بالمسلمين؟ أو ليسوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطَى الذِّلَّةَ فِي دِينِنَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ،
__________
(1) في ت: "بالحدد".
(2) زيادة من ت، أ.
(3) في ت: "عثرت".
(4) زيادة من ت، أ.(7/348)
الْزَمْ غَرْزَهُ حَيْثُ كَانَ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. [ثُمَّ] (1) قَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ. ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أو لسنا بالمسلمين أو ليسوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: "بَلَى" قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطَى الذِّلَّةَ فِي دِينِنَا؟ فَقَالَ: "أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي". ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأُصَلِّي وَأَتَصَدَّقُ وَأُعْتِقُ مِنَ (2) الَّذِي صَنَعْتُ مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ يَوْمَئِذٍ حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا. قَالَ: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (3) فَقَالَ: اكْتُبْ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". فَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَمْرٍو: وَلَا أَعْرِفُ هَذَا، وَلَكِنِ اكْتُبْ: "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَقَالَ رَسُولُ الله: "اكتب باسمك اللهم. هذا ما صلح (4) عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، سَهْلَ بْنَ عَمْرٍو"، فَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَمْرٍو: وَلَوْ شَهِدْتُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ أُقَاتِلْكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو، عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ (5) مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (6) لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ وَأَنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً، وَأَنَّهُ لَا إِسُلَالَ وَلَا إِغْلَالَ، وَكَانَ فِي شَرْطِهِمْ حِينَ كَتَبُوا الْكِتَابَ: أَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ، دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَأَنَّكَ تَرْجِعُ عَنَّا عَامَنَا هَذَا فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْنَا مَكَّةَ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ خَرَجْنَا عَنْكَ فَتَدْخُلُهَا بِأَصْحَابِكَ، وَأَقَمْتَ بِهَا ثَلَاثًا مَعَكَ سِلَاحُ الرَّاكِبِ لَا تَدْخُلُهَا بِغَيْرِ السُّيُوفِ فِي الْقُرُبِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ، إِذَا جَاءَهُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْحَدِيدِ قَدِ انْفَلَتَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) قَالَ: وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ خَرَجُوا وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْحِ، لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنَ الصُّلْحِ وَالرُّجُوعِ، وَمَا تَحَمَّلَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (8) عَلَى نَفْسِهِ، دَخَلَ النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلَكُوا. فَلَمَّا رَأَى سَهْلٌ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ وَجْهَهُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ لَجَّتِ (9) الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا. قَالَ: "صَدَقْتَ". فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخَذَ بِتَلَابِيبِهِ. قَالَ: وَصَرَخَ أَبُو جَنْدَلٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَتَرُدُّونَنِي إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ فَيَفْتِنُونِي فِي دِينِي؟ قَالَ: فَزَادَ النَّاسَ شَرًّا إِلَى مَا بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا (10) ، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ". قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَجَعَلَ يَمْشِي مَعَ [أَبِي] (11) جَنْدَلٍ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اصْبِرْ أَبَا جَنْدَلٍ، فَإِنَّمَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ، قَالَ: وَيُدْنِي قَائِمَ السَّيْفِ مِنْهُ، قَالَ: يَقُولُ: رَجَوْتُ أَنْ يَأْخُذَ السَّيْفَ فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ قَالَ: فَضَنَّ الرَّجُلُ بِأَبِيهِ. قَالَ: وَنَفَذَتِ الْقَضِيَّةُ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنَ الْكِتَابِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ، وَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي الْحَلِّ، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، انْحَرُوا (12) وَاحْلِقُوا". قَالَ: فَمَا قَامَ أَحَدٌ. قَالَ: ثُمَّ عَادَ بِمِثْلِهَا، فَمَا قَامَ رَجُلٌ حَتَّى عَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهَا، فَمَا قَامَ رَجُلٌ.
فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ " قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ دَخَلَهُمْ مَا رَأَيْتَ، فَلَا تُكَلِّمن (13) مِنْهُمْ إِنْسَانًا، وَاعْمِدْ إِلَى هَدْيِكَ حَيْثُ كَانَ فَانْحَرْهُ وَاحْلِقْ، فَلَوْ قَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا حَتَّى أَتَى هَدْيَهُ فَنَحَرَهُ، ثُمَّ جَلَسَ فَحَلَقَ، قَالَ: فَقَامَ النَّاسُ يَنْحَرُونَ وَيَحْلِقُونَ. قَالَ: حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ.
هَكَذَا سَاقَهُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْر وَزِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، بِنَحْوِهِ (14) ، وَفِيهِ إِغْرَابٌ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ الزُّهْرِيِّ، بِهِ نَحْوَهُ (15) وَخَالَفَهُ فِي أَشْيَاءَ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي صَحِيحِهِ، فَسَاقَهُ سِيَاقَةً (16) حَسَنَةً مُطَوَّلَةً بِزِيَادَاتٍ جَيِّدَةٍ، فَقَالَ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ (17) مِنْ صَحِيحِهِ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي عُرْوة بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مُخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ، وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خزاعة، وسار حتى إذا كان بغير الْأَشْطَاطِ أَتَاهُ عَيْنُهُ، فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ وَمَانِعُوكَ. فَقَالَ: "أَشِيرُوا أَيُّهَا الناس عليّ، أترون أن نميل عل عِيَالِهِمْ، وَذَرَارِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ صَدُّونَا عَنِ الْبَيْتِ؟ " وَفِي لَفْظٍ: "أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيلَ عَلَى ذَرَارِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ. فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ اللَّهُ قَدْ قَطَعَ عُنُقا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَإِلَّا تَرَكْنَاهُمْ مَحْزُونِينَ"، وَفِي لَفْظٍ: "فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَجْهُودِينَ محرُوبين وَإِنْ نَجَوْا يَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّهُ، أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ؟ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (18) : يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ، لَا نُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبًا، فَتَوَجَّهْ لَهُ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ. وَفِي لَفْظٍ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ عِلِمَ إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَلَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ مَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَرُوحُوا إِذَنْ"، وَفِي لَفْظٍ: "فَامْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ".
حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ في خيل لقريش طليعة،
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) في ت: "عن".
(3) زيادة من ت.
(4) في أ: "ما صالح".
(5) في أ: "محمدا".
(6) زيادة من ت.
(7) زيادة من ت.
(8) زيادة من ت، أ.
(9) في ت، أ: "تمت".
(10) في ت، م، أ: "عهدنا".
(11) زيادة من ت، م، أ.
(12) في ت، أ: "انحروا في الحرم".
(13) في ت، أ: "فلا تكلمن".
(14) المسند (4/323) والسيرة النبوية لابن هشام (2/316) .
(15) رواه أحمد في مسنده (4/328) من طريق عبد الرزاق به.
(16) في م: "بسياقات".
(17) في ت، م: "الشرط".
(18) زيادة من أ.(7/349)
فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ". فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بقَتَرة الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. فَقَالَ النَّاسُ: حَلِّ حَلِّ فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ". ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ، إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا". ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ، يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يَلْبَثِ (1) النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وَشُكِيَ (2) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ مِنْ كِنَانَتِهِ سَهْمًا ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (3) مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ، نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نهكتهم الحرب فأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددنهم مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ (4) اللَّهُ أَمْرَهُ" قَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ. وَقَالَ: ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ: قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ. قَالُوا: ائْتِهِ. فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ نَحَوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ. فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُ الْأُخْرَى فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَشْوَابًا (5) مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدْعُوَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: امْصُصْ بَظْر اللَّاتِ! أَنَحْنُ نَفِرُّ وَنَدَعُهُ؟! قَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ. قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا، لَأَجَبْتُكَ. قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلَّمَا كَلَّمَهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ مِنْ لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأَسَهُ وَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟! وَكَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيٍّ".
ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ (6) ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (7) نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإذ تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، تَعْظِيمًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحدون النَّظَرَ إِلَيْهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رشْد فَاقْبَلُوهَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا فُلَانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ البُدْن، فَابْعَثُوهَا لَهُ" فبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّون، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: رَأَيْتُ البُدْن قَدْ قُلِّدت وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ (8) رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: "مِكْرَز بْنُ حَفْصٍ"، فَقَالَ: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا مِكْرَزُ [بْنُ حَفْصٍ] (9) وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ"، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سَهْلَ بْنُ عَمْرٍو.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قال: لما جاء سهل بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ سَهُل لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ".
قَالَ معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهل بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ أَكْتُبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ (10) كِتَابًا فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " [اكتب] (11) : بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهل [بْنُ عَمْرٍو] (12) : أَمَّا "الرَّحْمَنُ" فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ"، كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اكْتُبْ: بِاسْمِكِ اللَّهُمَّ". ثُمَّ قَالَ: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". فَقَالَ سَهْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: "مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ"، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي. اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ" قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: "وَاللَّهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا". فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ". فَقَالَ سَهْلٌ: وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سَهْلٌ: "وَعَلَى أَنْ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا". فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟! فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سهل
__________
(1) في ت، م: "يلبثه".
(2) في أ: "شكوا".
(3) زيادة من م.
(4) في ت، م: "أو لينفذن".
(5) في أ: "أوشابا".
(6) في ت: "بعينه".
(7) زيادة من ت.
(8) في أ: "فقام".
(9) زيادة من أ.
(10) في ت: "بينكم".
(11) زيادة من أ.
(12) زيادة من ت، م.(7/351)
بْنِ عَمْرٍو يرسُفُ فِي قُيُودِهِ قَدْ (1) خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سَهْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَنْ أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدّه إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ". قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَا أُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَجِزْهُ لِي" فَقَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزٍ ذَلِكَ لَكَ، قَالَ: "بَلَى فَافْعَلْ". قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. قَالَ مِكْرَزٌ: بَلَى قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ. قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أرَدّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟! وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ عُمَرُ [بْنُ الْخَطَّابِ] (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلَى". قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: "بَلَى". قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، ولستُ أَعْصِيهِ، وهو ناصري"، قلت: أو لست كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: "بَلَى، أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ (3) الْعَامَ؟ " قُلْتُ: لَا قَالَ: "فَإِنَّكَ آتِيهِ ومُطوِّف بِهِ". قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بغَرْزه، فوالله إنه على الحق. قلت: أو ليس كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَإِنَّكَ تَأْتِيهِ وَتَطُوفُ بِهِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ (4) اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: "قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا". قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ!! فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، قَالَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} حَتَّى بَلَغَ: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الْمُمْتَحِنَةِ: 10] . فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ. ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ -رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ-وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ! وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ مِنْهُ ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَد، وفَرّ الْآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (5) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ: "لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعرًا"، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
__________
(1) فِي ت: "حتى".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت: "أنك تأتيه".
(4) في ت: "النبي".
(5) في م: "االنبي".(7/353)
قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ. فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ -وَاللَّهِ-أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ ثُمَّ نَجَّانِي اللَّهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرُ حَرْبٍ! لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ". فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سَيْفَ الْبَحْرِ، قَالَ: وَتَفَلَّتَ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سَهْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّامِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ. فَأَرْسَلَتْ قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ لَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: "فَمَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ فَهُوَ آمِنٌ". فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} حَتَّى بَلَغَ: {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} ، وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُقِرُّوا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ.
هَكَذَا سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ هَاهُنَا (1) ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَفِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِي الْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (2) وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ مَرْوَانَ والمِسْوَر بْنِ [مَخْرَمة] (3) ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ (4) . وَهَذَا أَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ يَسُقْهُ أَبْسَطَ مِنْ هَاهُنَا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ تَبَايُنٌ فِي مَوَاضِعَ، وَهُنَاكَ فَوَائِدُ يَنْبَغِي إِضَافَتُهَا إِلَى مَا هَاهُنَا، وَلِذَلِكَ سُقْنَا تِلْكَ الرِّوَايَةَ وَهَذِهِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ السُّلَمِي، حَدَّثَنَا يَعْلَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ أَسْأَلُهُ فَقَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَعَمْ. فَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْف: اتهمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ -يَعْنِي: الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكِينَ-وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ فَقَالَ: "بَلَى" قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يحكم الله بيننا؟ فقال: "يا ابن الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا"، فَرَجَعَ مُتَغَيِّظًا، فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى جَاءَ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْنَا على الحق وهم على الباطل، فقال: يا ابن الْخَطَّابِ، إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ (5) .
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طرق أخر عن أبي وائل سفيان (6)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2731، 2732) .
(2) صحيح البخاري برقم (4180) .
(3) زيادة من م.
(4) رواه البخاري في صحيحه في أول الشروط برقم (2711) .
(5) صحيح البخاري برقم (4844) .
(6) في هـ: "شقيق".(7/354)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
ابن سَلَمَةَ، عَنْ سَهْلِ (1) بْنِ حَنِيفٍ بِهِ (2) ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا الرَّأْيَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لَرَدَدْتُهُ" وَفِي رِوَايَةٍ: فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهِمْ سَهْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: "اكْتُبْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، فَقَالَ سَهْلٌ: لَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ: "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ". فَقَالَ: "اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ". قَالَ: لَوْ نَعْلَمُ (3) أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَاتَّبَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبِ: اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اكْتُبْ: مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ". وَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ (4) مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ (5) .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سِمَاكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ اعْتَزَلُوا، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ صَالَحَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: "اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "امْحُ يَا عَلِيُّ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، امْحُ يَا عَلِيُّ، وَاكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". وَاللَّهِ لَرَسُولُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ مَحَا نَفْسَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَحْوُهُ ذَلِكَ يَمْحَاهُ مِنَ النُّبُوَّةِ، أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ الْيَمَامِيِّ، بِنَحْوِهِ (6) .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً فِيهَا جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ، فَلَمَّا صُدَّت عَنِ الْبَيْتِ حَنَّتْ كَمَا تَحِنُّ إِلَى أَوْلَادِهَا (7) .
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) } .
__________
(1) في م: "سهل".
(2) صحيح البخاري برقم (3181، 7308، 4189، 3182) وصحيح مسلم برقم (1785) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11504) .
(3) في م: "علمنا".
(4) في م: "أنه".
(5) المسند (3/268) وصحيح مسلم برقم (1784) .
(6) المسند (1/342) وسنن أبي داود برقم (4037) .
(7) المسند (1/314) .(7/355)
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُرِىَ فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا سَارُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَشُكَّ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا تَتَفَسَّرُ (1) هَذَا الْعَامَ، فَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ قَضِيَّةِ الصُّلْحِ وَرَجَعُوا عَامَهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَعُودُوا مِنْ قَابَلَ، وَقَعَ فِي نُفُوسِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، حَتَّى سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: أَفَلَمْ تَكُنْ تُخْبِرُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: "بَلَى، أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ (2) عَامَكَ هَذَا" قَالَ: لَا قَالَ: "فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ". وَبِهَذَا أَجَابَ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَيْضًا حَذْو القُذَّة بالقُذَّة؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} : [وَ] (3) هَذَا لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَتَوْكِيدِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي شَيْءٍ، [وَقَوْلُهُ] (4) : {آمِنِينَ} أَيْ: فِي حَالِ دُخُولِكُمْ. وَقَوْلُهُ: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ، حَالٌ مُقَدَّرَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حَالِ حَرَمِهِمْ (5) لَمْ يَكُونُوا مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي ثَانِي الْحَالِ، كَانَ مِنْهُمْ مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرَهُ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَالْمُقَصِّرِينَ" فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ (6) .
وَقَوْلُهُ: {لَا تَخَافُونَ} : حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْأَمْنَ حَالَ الدُّخُولِ، وَنَفَى عَنْهُمُ الْخَوْفَ حَالَ اسْتِقْرَارِهِمْ فِي الْبَلَدِ لَا يَخَافُونَ مِنْ أَحَدٍ. وَهَذَا كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ، وَخَرَجَ فِي صِفْرَ إِلَى خَيْبَرَ فَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْضَهَا عَنْوَةً وَبَعْضَهَا صُلْحًا، وَهِيَ إِقْلِيمٌ عَظِيمٌ كَثِيرُ النَّخْلِ (7) وَالزُّرُوعِ، فَاسْتَخْدَمَ (8) مَنْ فِيهَا مِنَ الْيَهُودِ عَلَيْهَا عَلَى الشَّطْرِ، وَقِسَّمَهَا بَيْنَ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَحْدَهُمْ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمْ إِلَّا الَّذِينَ قَدِمُوا مِنَ الْحَبَشَةِ، جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَلَمْ يَغِبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِلَّا أَبَا دُجَانَةَ سِمَاك بْنَ خَرَشَة، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ [فِي] (9) سَنَةِ سَبْعٍ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا هُوَ وَأَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ، قِيلَ: كَانَ سِتِّينَ بَدَنَةً، فَلَبَّى وَسَارَ أَصْحَابُهُ يُلَبُّونَ. فَلَمَّا كَانَ قَرِيبًا مِنْ مَرِّ الظَّهْرَانِ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ أَمَامَهُ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُشْرِكُونَ رُعِبُوا رُعْبًا شَدِيدًا، وَظَنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُوهُمْ، وَأَنَّهُ قَدْ نكث العهد الذي بينه بينهم مِنْ وَضْعِ الْقِتَالِ عَشْرَ سِنِينَ، وَذَهَبُوا فَأَخْبَرُوا أَهْلَ مَكَّةَ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ، بَعَثَ السِّلَاحَ مِنَ الْقِسِيِّ وَالنَّبْلِ وَالرِّمَاحِ إِلَى بَطْنِ يَأْجُجَ، وَسَارَ إِلَى مَكَّةَ بِالسَّيْفِ مُغْمَدَةً فِي قُرُبِهَا، كَمَا شَارَطَهُمْ عَلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بعثت قريش مِكْرَز
__________
(1) في أ: "تتعين".
(2) في ت، م: "آتيه".
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من ت، أ.
(5) في م، أ: "دخولهم".
(6) صحيح البخاري برقم (1727) وصحيح مسلم برقم (1301) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(7) في أ: "النخيل".
(8) في ت: "واستخدم".
(9) زيادة من ت.(7/356)
بْنَ حَفْصٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا عَرَفْنَاكَ تَنْقُضُ الْعَهْدَ. قَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ " قَالَ (1) : دَخَلْتَ: عَلَيْنَا بِالسِّلَاحِ وَالْقِسِيِّ وَالرِّمَاحِ. فَقَالَ: "لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، وَقَدْ بَعَثْنَا بِهِ إِلَى يَأْجُجَ"، فَقَالَ: بهذا عرفناك، بالبر والوفاء. وخرجت رؤوس الْكُفَّارِ مِنْ مَكَّةَ لِئَلَّا يَنْظُرُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَ [لَا] (2) إِلَى أَصْحَابِهِ غَيْظًا وَحَنَقًا، وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فَجَلَسُوا فِي الطُّرُقِ وَعَلَى الْبُيُوتِ يَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَدَخَلَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَصْحَابُهُ يُلَبُّونَ، وَالْهَدْيُ قَدْ بَعَثَهُ إِلَى ذِي طُوًى، وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَتَهُ الْقَصْوَاءَ الَّتِي كَانَ رَاكِبُهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الْأَنْصَارِيُّ آخِذٌ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُودُهَا، وَهُوَ يَقُولُ:
بِاسْمِ الَّذِي لَا دِينَ إِلَّا دينُه ... بِاسْمِ الَّذِي محمدٌ رَسُولُهُ ...
خَلُّوا بَنِي الكُفَّار عَنْ سَبِيله ... الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَأْويله ...
كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ... ضَرْبًا يزيلُ الهام عَن مَقِيله ...
ويُذْهِل الخليل عن خليله ... قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ ...
فِي صُحف تُتْلَى عَلَى رسُوله ... بِأَنَّ خَيْرَ القَتْل فِي سَبِيلِهِ ...
يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ
فَهَذَا مَجْمُوعٌ مِنْ رِوَايَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ.
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ (3) بْنِ حَزْمٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، دَخَلَهَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) ، وَهُوَ يَقُولُ:
خُلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... إِنِّي شَهيدٌ أَنَّهُ رَسُولُهُ ...
خَلُّوا فَكُلُّ (5) الْخَيْرِ فِي رَسُولِهِ ... يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ ...
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ ... كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ...
ضَرْبًا يُزيل الْهَامَ عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله ...
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بغرزه، وهو يقول:
__________
(1) في ت، م: "فقال".
(2) زيادة من ت، م، أ.
(3) في ت: "محمد".
(4) في ت: "مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ".
(5) في ت: "وكل".(7/357)
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... قَدْ نَزَّلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ ...
بَأَنَّ خَيْرَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِهِ ... يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ ...
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ ... كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ...
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عَنْ خَلِيلِهِ ...
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنِي: ابْنَ زَكَرِيَّا-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي: ابْنَ عُثْمَانَ-عَنْ أَبِي الطُّفَيْل (1) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي عُمْرَتِهِ، بَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ قُرَيْشًا [تَقُولُ] (2) : مَا يَتَبَاعَثُونَ مِنَ العَجَف. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَوِ انْتَحَرْنَا مِنْ ظَهْرِنَا، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، وحَسَونا مِنْ مَرَقه، أَصْبَحْنَا غَدًا حِينَ نَدْخُلُ عَلَى الْقَوْمِ وَبِنَا جَمَامَة. قَالَ: "لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنِ اجْمَعُوا لِي (3) مِنْ أَزْوَادِكُمْ". فَجَمَعُوا لَهُ وَبَسَطُوا الْأَنْطَاعَ، فَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوا وَحَثَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي جِرَابِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَقَعَدَتْ قُرَيْشٌ نَحْوَ الْحِجْرِ، فَاضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: "لَا يَرَى (4) الْقَوْمُ فِيكُمْ غَمِيرَةً" فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ رَمَل، حَتَّى إِذَا تَغَيَّبَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مَشَى إِلَى الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا تَرْضَوْنَ بِالْمَشْيِ أَمَا إِنَّكُمْ لتنقُزُون نَقْزَ الظِّبَاءِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، فَكَانَتْ سُنَّة. قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: فَأَخْبَرَنِي ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (5) .
وَقَالَ (6) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يُونُسُ؛ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَّنَتْهُمْ حُمّى يَثْرِبَ، وَلَقُوا مِنْهَا سُوءًا، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَّنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، وَلَقُوا مِنْهَا شَرًّا، وَجَلَسَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ النَّاحِيَةِ الَّتِي تَلِي الْحِجْرَ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالُوا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَصْحَابَهُ] (7) أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ؛ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، قَالَ: فَرْمَلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْشُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ حَيْثُ لَا يَرَاهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ يَمْنَعِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَّنَتْهُمْ؟ هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا.
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، بِهِ (8) وَفِي لَفْظٍ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ، أَيْ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ قَدْ وَهَّنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كلها إلا الإبقاء عليهم.
__________
(1) في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده".
(2) زيادة من تن أ.
(3) في ت، أ: "إلي".
(4) في ت: "ألا ترى".
(5) المسند (1/305) .
(6) في ت: "وروى".
(7) زيادة من ت.
(8) المسند (1/295) وصحيح البخاري برقم (4256) وصحيح مسلم برقم (2266) .(7/358)
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَزَادَ ابْنُ سَلَمَةَ -يَعْنِي حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ-عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَامِهِ الَّذِي اسْتَأْمَنَ قَالَ: "ارْمُلُوا". لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ قُوَّتَهُمْ، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ قِبَلَ قُعَيْقِعَانَ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ قُوَّتَهُ (1) .
وَرَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ (2) .
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، سَمِعَ ابْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ: لَمَّا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَتَرْنَاهُ مِنْ غِلْمَانِ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْهُمْ؛ أَنْ يُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ (3) .
وَقَالَ (4) الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأَسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَلَا يَحْمِلَ سِلَاحًا عَلَيْهِمْ إِلَّا سُيُوفًا، وَلَا يُقِيمُ بِهَا إِلَّا مَا أَحَبُّوا. فَاعْتَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فَلَمَّا أَنْ قَامَ بِهَا ثَلَاثًا، أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ.
وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا (5) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعوه يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ كَتَبُوا: "هَذَا مَا قَاضَانَا عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". قَالُوا: لَا نُقِرُّ بِهَذَا، وَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: "أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "امْحُ رَسُولُ اللَّهِ". قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحُوكَ أَبَدًا. فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ، وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ، فَكَتَبَ: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ السِّلَاحُ إِلَّا السَّيْفَ فِي الْقِرَابِ، وَأَلَّا يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهُ، وَأَلَّا يَمْنَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا" فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ، أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ: اخْرُجْ عَنَّا فَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يَا عَمِّ، يَا عَمِّ. فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكَ فَحَمَلَتْهَا، فاختصم فيها علي وزيد
__________
(1) صحيح البخاري برقم (42579.
(2) صحيح البخاري برقم (1649) وصحيح مسلم برقم (1266) والنسائي في السنن الكبرى برقم (39739.
(3) صحيح البخاري برقم (4255) .
(4) في ت: "روى".
(5) صحيح البخاري برقم (4252) .(7/359)
وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَخَذْتُهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي، فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: "الْخَالَةُ بمنزلة الأم"، وقال لعلي: "أنت مني وأنا منك" وقال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي" وقال لِزَيْدٍ: "أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا" قَالَ عَلِيٌّ: أَلَا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ؟ قَالَ: "إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ" انْفَرَدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (1) .
وَقَوْلُهُ: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} أَيْ: فَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْخِيَرَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي صَرْفِكُمْ عَنْ مَكَّةَ وَدُخُولِكُمْ إِلَيْهَا عَامَكُمْ ذَلِكَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ، {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} أَيْ: قَبْلَ دُخُولِكُمُ الَّذِي وُعِدْتُمْ بِهِ فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {فَتْحًا قَرِيبًا} : وَهُوَ الصُّلْحُ الَّذِي كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى، مُبَشِّرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِنُصْرَةِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ [وَسَلَامُهُ] (2) عَلَيْهِ عَلَى عَدُوِّهِ وَعَلَى سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} أَيْ: بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ: عِلْمٍ وَعَمَلٍ، فَالْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ الشَّرْعِيُّ مَقْبُولٌ، فَإِخْبَارَاتُهَا حَقٌّ وَإِنْشَاءَاتُهَا عَدْلٌ، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أَيْ: عَلَى أَهْلِ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، مَنْ عَرَبٍ وَعَجَمٍ وَمِلِّيِّينَ (3) وَمُشْرِكِينَ، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أَيْ: أنه رسوله، وهو ناصره.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4251) .
(2) زيادة من ت.
(3) في أ: "مسلمين".(7/360)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ (1) ، أَنَّهُ رَسُولُهُ حَقًّا بِلَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ، فَقَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} ، وَهَذَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى كُلِّ وَصْفٍ جَمِيلٍ، ثُمَّ ثَنَّى بِالثَّنَاءِ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الْمَائِدَةِ: 54] وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ شَدِيدًا عَنِيفًا عَلَى الْكَفَّارِ، رَحِيمًا بَرًّا بِالْأَخْيَارِ، غَضُوبًا عَبُوسًا فِي وَجْهِ الْكَافِرِ، ضَحُوكًا بَشُوشًا فِي وَجْهِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التَّوْبَةِ: 123] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الواحد، إذا اشتكى
__________
(1) في ت: "صلى الله عليه وسلم" وفي م: "صلوات الله وسلامه عليه".(7/360)
مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بالحمَّى والسَّهر" (1) ، وَقَالَ: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (2) كِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَوْلُهُ: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} : وَصَفَهُمْ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَةِ (3) الصَّلَاةِ، وَهِيَ خَيْرُ الْأَعْمَالِ، وَوَصَفَهُمْ بِالْإِخْلَاصِ فِيهَا لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَالِاحْتِسَابِ عِنْدَ اللَّهِ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ (4) الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، وَهُوَ سَعَةُ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ، وَرِضَاهُ، تَعَالَى، عَنْهُمْ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْأَوَّلِ، كَمَا قَالَ: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التَّوْبَةِ: 72] .
وَقَوْلُهُ: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} يَعْنِي: السَّمْتَ الْحَسَنَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي: الْخُشُوعَ وَالتَّوَاضُعَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّنَافسي، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الجَعْفي، عَنْ زَائِدَةَ (5) ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} قَالَ: الْخُشُوعُ قُلْتُ: مَا كُنْتُ أَرَاهُ إِلَّا هَذَا الْأَثَرَ فِي الْوَجْهِ، فَقَالَ: رُبَّمَا كَانَ بَيْنَ عَيْنَيْ مَنْ هُوَ أَقْسَى قَلْبًا مِنْ فِرْعَوْنَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الصَّلَاةُ تُحَسِّنُ وُجُوهَهُمْ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ.
وَقَدْ أَسْنَدَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّلْحي، عَنْ ثَابِتِ بْنِ مُوسَى، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (6) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ" وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ (7) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ نُورًا فِي الْقَلْبِ، وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ النَّاسِ.
وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَات وَجْهِهِ، وفَلتَات لِسَانِهِ.
وَالْغَرَضُ أَنَّ الشَّيْءَ الْكَامِنَ فِي النَّفْسِ يَظْهَرُ عَلَى صَفَحَاتِ الْوَجْهِ، فَالْمُؤْمِنُ إِذَا كَانَتْ سَرِيرَتُهُ صَحِيحَةً مَعَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ ظَاهِرَهُ لِلنَّاسِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، حدثنا حامد بن آدم المروزي،
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (3011) ومسلم فس صحيحه برقم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (481) ومسلم في صحيحه برقم (2585) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
(3) في ت، م: "وذكر".
(4) في م: "المحبة".
(5) في م: "المحبة".
(6) في ت: "عن النبي".
(7) سنن ابن ماجة برقم (1333) .(7/361)
حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ العَرْزَمي، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْل (1) ، عَنْ جُنْدَب بْنِ سُفْيَانَ البَجَلي قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَلْبَسُهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ"، الْعَرْزَمِيُّ مَتْرُوكٌ (2) .
وَقَالَ (3) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ (4) مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ، لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا (5) كَانَ" (6) .
وَقَالَ (7) الْإِمَامُ أَحْمَدُ [أَيْضًا] (8) : حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا زُهَيْر، حَدَّثَنَا قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظَبْيَان: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ، وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ، وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيِّ، عَنْ زُهَيْرٍ، بِهِ (9) .
فَالصَّحَابَةُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ] (10) خَلُصَتْ نِيَّاتُهُمْ وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ، فَكُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِمْ أَعْجَبُوهُ فِي سَمْتِهِمْ وَهَدْيِهِمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا إِذَا رَأَوُا الصَّحَابَةَ الَّذِينَ فَتَحُوا الشَّامَ يَقُولُونَ: "وَاللَّهِ لَهَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِيمَا بَلَغَنَا". وَصَدَقُوا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مُعَظَّمَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَعْظَمُهَا وَأَفْضَلُهَا أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نَوَّهَ اللَّهُ بِذِكْرِهِمْ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُتَدَاوَلَةِ (11) ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} : {أَخْرَجَ شَطْأَهُ] } (12) أَيْ: فِرَاخَهُ، {فَآزَرَهُ} أَيْ: شَدَّهُ {فَاسْتَغْلَظَ} أَيْ: شَبَّ وَطَالَ، {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أَيْ: فَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آزَرُوهُ وَأَيَّدُوهُ وَنَصَرُوهُ فَهُمْ مَعَهُ كَالشَّطْءِ مَعَ الزَّرْعِ، {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} .
وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ انْتَزَعَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ-بِتَكْفِيرِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ يَغِيظُونَهُمْ، وَمَنْ غَاظَ الصَّحَابَةُ فَهُوَ كَافِرٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِمَسَاءَةٍ كَثِيرَةٌ (13) ، ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم.
__________
(1) في ت: "وروى أبو القاسم الطبراني بإسناده".
(2) المعجم الكبير (2/171) وحامد بن آدم كذاب.
(3) في ت: "وروى".
(4) في أ: "عن".
(5) في ت: "من".
(6) المسند (3/28) .
(7) في ت: "وروى".
(8) زيادة من ت.
(9) المسند (1/296) وسنن أبي داود برقم (4776) .
(10) زيادة من ت، م، أ.
(11) في م: "المقدسة".
(12) زيادة من م.
(13) في م: "كبيرة".(7/362)
ثُمَّ قَالَ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} مِنْ" هَذِهِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، {مَغْفِرَةً} أَيْ: لِذُنُوبِهِمْ. {وَأَجْرًا عَظِيمًا} أَيْ: ثَوَابًا جَزِيلًا وَرِزْقًا كَرِيمًا، وَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ، لَا يُخْلَفُ وَلَا يُبَدَّلُ، وَكُلُّ مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الصَّحَابَةِ فَهُوَ فِي حُكْمِهِمْ، وَلَهُمُ الْفَضْلُ وَالسَّبْقُ وَالْكَمَالُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُمْ (1) ، وَقَدْ فَعَلَ.
قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أحدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ" (2) .
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ، وَلِلَّهِ الحمد والمنة.
__________
(1) في ت، م، أ: "مثواهم".
(2) صحيح مسلم برقم (2540) .(7/363)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ (1) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) }
هَذِهِ آدَابٌ (2) ، أَدَّبَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يُعَامِلُونَ بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْقِيرِ وَالِاحْتِرَامِ وَالتَّبْجِيلِ وَالْإِعْظَامِ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [وَاتَّقُوا اللَّهَ] } (3) ، أَيْ: لَا تُسْرِعُوا فِي الْأَشْيَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيْ: قَبْلَهُ، بَلْ كُونُوا تَبَعًا لَهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي عُمُومِ هَذَا الْأَدَبِ الشَّرْعِيِّ حَدِيثُ مُعَاذٍ، [إِذْ] (4) قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: "بِمَ تَحْكُمُ؟ " قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رسولَ رسولِ اللَّهِ، لِمَا يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ".
وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ (5) . فَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّهُ أَخَّرَ رَأْيَهُ وَنَظَرَهُ وَاجْتِهَادَهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ قَدَّمَهُ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْهُمَا لَكَانَ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} : لَا تَقُولُوا خِلَافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَقَالَ العَوْفي عَنْهُ: نَهَى (6) أَنْ يَتَكَلَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلَامِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا تَقْضُوا أَمْرًا دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ شَرَائِعِ دِينِكُمْ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} بقول ولا فعل.
__________
(1) في أ: "وهي مدنية ثمان عشرة آية".
(2) في م: "آيات".
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من ت، وفي أ: "حيث".
(5) سبق الكلام عليه في مقدمة الكتاب.
(6) في ت، م، أ: "نهوا".(7/364)
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قَالَ: لَا تَدْعُوا قَبْلَ الْإِمَامِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ أُنْزِلَ فِي كَذَا كَذَا، وَكَذَا لَوْ صُنِعَ كَذَا، فَكَرِهَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ فِيهِ.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ: فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} أَيْ: لِأَقْوَالِكُمْ {عَلِيمٌ} بِنِيَّاتِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} : هَذَا أَدَبٌ ثَانٍ أَدَّبَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فَوْقَ صَوْتِهِ] (1) . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا بُسْرَةُ بْنُ صَفْوَانَ اللَّخْمِيُّ، حَدَّثَنَا نَافِعِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَة قَالَ: كَادَ الخيِّران أَنْ يَهْلَكَا، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ -قَالَ نَافِعٌ: لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ-فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي. قَالَ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ. فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَمَا كَانَ عُمَرُ يسمعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ: يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انْفَرَدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ (2) .
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاج، عَنِ ابْنُ جُرَيْج، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ قَدم رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرِ القعقاعَ بْنَ مَعْبد. وَقَالَ عُمَرُ: بَلْ أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَى -أَوْ: إِلَّا-خِلَافِي. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أردتُ خلافَك، فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، حَتَّى انْقَضَتِ الْآيَةُ، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} الْآيَةَ [الْحُجُرَاتِ: 5] .
وَهَكَذَا رَوَاهُ هَاهُنَا مُنْفَرِدًا بِهِ أَيْضًا (3) .
وَقَالَ (4) الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عُمَر، عَنْ مُخَارق، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ إلا كأخي السّرار (5) .
__________
(1) زيادة من ت، م، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4845) .
(3) صحيح البخاري برقم (4847) .
(4) في ت: "وروى".
(5) مسند البزار برقم (2257) "كشف الأستار" وقال: "لا نعلمه يروى متصلا إلا عن أبي بكر، وحصين حدث بأحاديث لم يتابع عليها، ومخارق مشهور، ومن عداه أجلاء".(7/365)
حُصَيْنُ بْنُ عُمَرَ هَذَا -وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا-لَكِنْ قَدْ رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (1) بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (2) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، أَنْبَأَنِي مُوسَى بْنِ أَنَسٍ (3) ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ. فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: شَرٌّ، كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ مُوسَى: فَرَجَعَ إِلَيْهِ الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ: "اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ" تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (4) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، حَدَّثَنَا (5) سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إِلَى: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} ، وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ رَفِيعَ الصَّوْتِ فَقَالَ: أَنَا الَّذِي كُنْتُ أَرْفَعُ صَوْتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبِطَ عَمَلِي، أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَجَلَسَ فِي أَهْلِهِ حَزِينًا، فَفَقَدَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ بَعْضُ الْقَوْمِ إِلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ: تَفَقَّدَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لَكَ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي أَرْفَعُ صَوْتِي فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَجْهَرُ لَهُ بِالْقَوْلِ حَبِطَ عَمَلِي، أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ: "لَا بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ". قَالَ أَنَسٌ: فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ كَانَ فِينَا بَعْضُ الِانْكِشَافِ، فَجَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَقَدْ تَحَنَّطَ وَلَبِسَ كَفَنَهُ، فَقَالَ: بِئْسَمَا تُعوّدون أَقْرَانَكُمْ. فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتل (6) (7) .
وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ البُناني، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، جَلَسَ ثَابِتٌ فِي بَيْتِهِ، قَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ (8) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: "يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا شَأْنُ ثَابِتٍ؟ أَشْتَكَى؟ " فَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي، وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى. قَالَ: فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رسول الله (9) صلى الله عليه وسلم، فقال ثَابِتٌ: أُنزلَت هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "بل، هو من أهل الجنة".
__________
(1) زيادة من أ.
(2) أما حديث أبي هريرة فرواه الحاكم في المستدرك (2/462) من طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عنه، وقال: "صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ" ووافقه الذهبي.
(3) في ت: "وروى البخاري بسنده".
(4) صحيح البخاري برقم (4846) .
(5) في ت: "ابن".
(6) في ت: "حتى قتل رحمه الله".
(7) المسند (3/137) .
(8) في م: "فسأل".
(9) في م: "النبي".(7/366)
ثُمَّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ (1) الدَّارِمِيِّ، عَنْ حَيَّان بْنِ هِلَالٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، بِهِ، قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ. وَعَنْ قَطَنِ بْنِ نُسَير عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ (2) ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
حَدَّثَنَا هُرَيم (3) بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَزَادَ: فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. (4) .
فَهَذِهِ الطُّرُقُ الثَّلَاثُ مُعَلّلة لِرِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ حَالَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مَوْجُودًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ مَاتَ بَعْدَ بَنِي قُرَيْظَةَ بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ، وَالْوُفُودُ إِنَّمَا تَوَاتَرُوا فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَاب، حَدَّثَنَا أَبُو ثَابِتٍ بْنُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شمَّاس، حَدَّثَنِي عَمِّي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} قَالَ: قَعَدَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ (5) فِي الطَّرِيقِ يَبْكِي، قَالَ: فَمَرَّ بِهِ عَاصِمُ بْنُ عِدِيٍّ مِنْ بَنِي العَجلان، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا ثَابِتُ؟ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ، أَتَخَوَّفُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فيَّ وَأَنَا صَيِّتٌ، رَفِيعُ الصَّوْتِ. قَالَ: فَمَضَى عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَغَلَبَهُ الْبُكَاءُ، فَأَتَى امْرَأَتَهُ جَمِيلَةَ ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ فَقَالَ لَهَا: إِذَا دخلتُ بَيْتَ فَرَسي فَشُدِّي عَلَيّ الضبَّة بِمِسْمَارٍ فَضَرَبَتْهُ بِمِسْمَارٍ حَتَّى إِذَا خَرَجَ عَطَفَهُ، وَقَالَ: لَا أَخْرُجُ حَتَّى يَتَوَفَّانِي اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ يَرْضَى عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: وَأَتَى عَاصِمٌ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، فَقَالَ: "اذْهَبْ فَادْعُهُ لِي". فَجَاءَ عَاصِمُ إِلَى الْمَكَانِ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَهُ فِي بَيْتِ الفَرَس، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوكَ. فَقَالَ: اكْسِرِ الضَّبَّةَ. قَالَ: فَخَرَجَا فَأَتَيَا (6) النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يُبْكِيكَ يَا ثَابِتُ؟ ". فَقَالَ: أَنَا صَيِّتٌ وَأَتَخَوَّفُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيَّ: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيش حَميدًا، وَتُقْتَلَ شَهِيدًا، وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟ ". فَقَالَ: رَضِيتُ بِبُشْرَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَرْفَعُ صَوْتِي أَبَدًا عَلَى صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} (7) . (8)
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ كَذَلِكَ، فَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، عن رفع الأصوات
__________
(1) في أ: "سعد".
(2) في م: "مسلم".
(3) في م: "هدبة".
(4) صحيح مسلم برقم (119) .
(5) في أ: "ثابت بن قيس بن شماس".
(6) في أ: "حتى أتيا".
(7) في أ: بعدها: " لهم مغفرة وأجر عظيم " بدل "الآية".
(8) تفسير الطبري (26/75) .(7/367)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (1) أَنَّهُ سَمِعَ صَوت رَجُلَيْنِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ (2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَجَاءَ، فَقَالَ: أَتَدْرِيَانِ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ ثُمَّ قَالَ: مِن أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ. فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَأَوْجَعْتُكُمَا ضَرْبًا (3) .
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ قَبْرِهِ، كَمَا كَانَ يُكْرَهُ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَفِي قَبْرِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (4) ، دَائِمًا. ثُمَّ نَهَى عَنِ الْجَهْرِ لَهُ بِالْقَوْلِ كَمَا يَجْهَرُ الرَّجُلُ لِمُخَاطِبِهِ مِمَّنْ عَدَاهُ، بَلْ يُخَاطَبُ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَتَعْظِيمٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ، كَمَا قَالَ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النُّورِ: 63] .
وَقَوْلُهُ: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} أَيْ: إِنَّمَا نَهَيْنَاكُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَغْضَبَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَغْضَبُ اللَّهُ لِغَضَبِهِ، فَيُحْبِطَ اللَّهُ عَمَلَ مَنْ أَغْضَبَهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلقي لَهَا بَالا يُكْتَبُ لَهُ بِهَا الْجَنَّةُ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَط اللَّهِ لَا يُلقي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السموات وَالْأَرْضِ" (5) .
ثُمَّ نَدَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (6) ، إِلَى خَفْضِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ، وحَثّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ، ورغَّب فِيهِ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} أَيْ: أَخْلَصَهَا لَهَا وَجَعَلَهَا أَهْلًا وَمَحَلًّا {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} .
وَقَدْ قَالَ (7) الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُتب إِلَى عُمَرَ (8) يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، رَجُلٌ لَا يَشْتَهِي الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا، أَفْضَلُ، أَمْ رَجُلٌ يَشْتَهِي الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا؟ فَكَتَبَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَهُونَ الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (9) .
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) }
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت، م: "النبي".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (470) من طريق السائب بن يزيد فذكره.
(4) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(5) صحيح البخاري برقم (6478) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) في ت: "سبحانه وتعالى".
(7) في ت: "وقد روى".
(8) في ت: "عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
(9) ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/552) وعزاه لأحمد في الزهد.(7/368)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَمّ الَّذِينَ يُنَادُونَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ، وَهِيَ بُيُوتُ نِسَائِهِ، كَمَا يَصْنَعُ أَجْلَافُ الْأَعْرَابِ، فَقَالَ: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}
ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى الْأَدَبِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} أَيْ:(7/368)
لَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْخِيَرَةُ وَالْمَصْلَحَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
وَقَدْ ذُكر أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ، فِيمَا أَوْرَدَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْب، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ؛ أَنَّهُ نَادَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ -وَفِي رِوَايَةٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ-فَلَمْ يُجِبْهُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ حَمْدِي لَزَيْنٌ، وَإِنَّ ذَمِّي لَشَيْنٌ، فَقَالَ: " ذَاكَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ" (1) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْث الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ (2) ، عَنِ الْبَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ (3) فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ، وَذَمِّي شَيْنٌ. فَقَالَ: "ذَاكَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ" (4) .
وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ مُرْسَلًا.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَة قَالَ: كَانَ بِشْر بْنُ غَالِبٍ ولَبِيد بْنُ عُطَارِد -أَوْ بِشْرُ بْنُ عُطَارِدٍ وَلِبَيْدُ بْنُ غَالِبٍ-وَهُمَا عِنْدَ الْحَجَّاجِ جَالِسَانِ-فَقَالَ بِشْرُ بْنُ غَالِبٍ لِلَبِيدِ بْنِ عُطَارِدٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْمِكَ بَنِي تَمِيمٍ: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِآخِرِ الْآيَةِ أَجَابَهُ: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الْحُجُرَاتِ: 17] ، قَالُوا: أَسْلَمْنَا، وَلَمْ يُقَاتِلْكَ بَنُو أَسَدٍ (5) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمرو بْنُ عَلِيٍّ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: سَمِعْتُ دَاوُدَ الطُّفَّاوِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ (6) الْبَجَلِيِّ (7) ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: اجْتَمَعَ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ يَكُ نَبِيًّا فَنَحْنُ أَسْعَدُ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ يَكُ مَلِكًا نَعِشْ بِجَنَاحِهِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالُوا، فَجَاءُوا إِلَى حُجْرَتِهِ فَجَعَلُوا يُنَادُونَهُ وَهُوَ فِي حُجْرَتِهِ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (8) : {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنِي فَمَدَّهَا، فَجَعَلَ يَقُولُ: "لَقَدْ صَدَّقَ اللَّهُ قَوْلَكَ يَا زَيْدُ، لِقَدْ صَدَّقَ الله قولك يا زيد".
__________
(1) المسند (3/488) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/108) : "إسناد أحمد رجاله رجال الصحيح إن كان أبو سلمة سمع من الأقرع بن حابس، وإلا فهو مرسل".
(2) في ت: "وروى ابن جرير بسنده".
(3) في ت، أ: "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(4) تفسير الطبري (26/77) .
(5) تفسير الطبري (26/77) .
(6) في م، أ: "سلمة".
(7) في ت: "وروى ابن جرير بسنده".
(8) زيادة من أ.(7/369)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِهِ (1) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) } .
يَأْمُرُ تَعَالَى بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ ليُحتَاطَ لَهُ، لِئَلَّا يُحْكَمَ بِقَوْلِهِ فَيَكُونَ -فِي نَفْسِ الْأَمْرِ-كَاذِبًا أَوْ مُخْطِئًا، فَيَكُونَ الْحَاكِمُ بِقَوْلِهِ قَدِ اقْتَفَى وَرَاءَهُ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُفْسِدِينَ، وَمِنْ هَاهُنَا امْتَنَعَ طَوَائِفُ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبُولِ رِوَايَةِ مَجْهُولِ الْحَالِ لِاحْتِمَالِ فِسْقِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقَبِلَهَا آخَرُونَ لِأَنَّا إِنَّمَا أُمِرْنَا بِالتَّثَبُّتِ عِنْدَ خَبَرِ الْفَاسِقِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُحَقَّقِ الْفِسْقِ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ الْحَالِ. وَقَدْ قَرَّرْنَا (2) هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ، وَمِنْ أَحْسَنِهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ مَلِكِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ ضِرَار، وَالِدُ جُويرية (3) بِنْتِ الْحَارِثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ دِينَارٍ، حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ ضِرَارٍ الْخُزَاعِيَّ يَقُولُ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَدَخَلْتُ فِيهِ وَأَقْرَرْتُ بِهِ، وَدَعَانِي إِلَى الزَّكَاةِ فَأَقْرَرْتُ بِهَا، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فَأَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لِي جَمَعْتُ زَكَاتَهُ، ويُرسل إليَّ رَسُولُ اللَّهِ رَسُولًا لإبَّان كَذَا وَكَذَا لِيَأْتِيَكَ بِمَا جمَعتُ مِنَ الزَّكَاةِ. فَلَمَّا جَمَعَ الْحَارِثُ الزَّكَاةَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لَهُ، وَبَلَغَ الْإِبَّانَ الَّذِي أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن يَبْعَثَ إِلَيْهِ، احْتُبِسَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ فَلَمْ يَأْتِهِ، فَظَنَّ الْحَارِثُ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِيهِ سُخْطة مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَدَعَا بسَرَوات قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَقَّت لِي وَقْتًا يُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولَهُ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدِي مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخُلْف، وَلَا أَرَى حَبْسَ رَسُولِهِ إِلَّا مِنْ سُخْطَةٍ كَانَتْ، فَانْطَلِقُوا فَنَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إِلَى الْحَارِثِ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِمَّا جَمَعَ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا أَنْ سَارَ الْوَلِيدُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقِ فَرَق -أَيْ: خَافَ-فَرَجَعَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْحَارِثَ مَنَعَنِي الزَّكَاةَ وَأَرَادَ قَتْلِي. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعْثَ إِلَى الْحَارِثِ. وَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بِأَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَقْبَلَ الْبَعْثُ وفَصَل عَنِ الْمَدِينَةِ لَقِيَهُمُ الْحَارِثُ، فَقَالُوا: هَذَا الحارث، فلما
__________
(1) تفسير الطبري (26/77) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (5/210) من طريق إسحاق بن راهويه عن معتمر بن سليمان به، قال الهيثمي في المجمع (7/108) : "فيه داود الطفاوي وثقه ابن حبان، وضعفه ابن معين، وبقية رجاله ثقات".
(2) في ت: "قررت".
(3) في أ: "ميمونة".(7/370)
غَشِيَهُمْ قَالَ لَهُمْ: إِلَى مَنْ بُعثتم؟ قَالُوا: إِلَيْكَ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعَثَ إِلَيْكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَزَعَمَ أَنَّكَ مَنَعْتَهُ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَهُ. قَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ بَتَّةً وَلَا أَتَانِي. فَلَمَّا دَخَلَ الْحَارِثُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنَعْتَ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَ رَسُولِي؟ ". قَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ وَلَا أَتَانِي، وَمَا أَقْبَلْتُ إِلَّا حِينَ احْتُبِسَ عَلَيَّ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ (1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ كَانَتْ سُخْطَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَنَزَلَتِ الْحُجُرَاتُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {حَكِيمٌ}
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ شَاذَانَ التَّمَّارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَابِقٍ بِهِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ سَابِقٍ، بِهِ (2) ، غَيْرَ أَنَّهُ سَمَّاهُ الْحَارِثَ بْنَ سِرَارٍ، وَالصَّوَابُ: الْحَارِثُ بْنُ ضِرَارٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ (3) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْن، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ ثَابِتٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فِي صَدَقَاتِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ الْوَقِيعَةِ (4) ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ الْقَوْمُ، فَتَلَقَّوْهُ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: فَحَدَّثَهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، قَالَتْ: فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (5) فَقَالَ: إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ مَنَعُونِي (6) صَدَقَاتِهِمْ. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ. قَالَتْ: فَبَلَغَ الْقَوْمَ رُجُوعُهُ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَفُّوا لَهُ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، فَقَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَسَخَطِ رَسُولِهِ، بَعَثْتَ إِلَيْنَا رَجُلًا مُصَدِّقًا، فَسُرِرْنَا بِذَلِكَ، وَقَرَّتْ بِهِ أَعْيُنُنَا، ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ مِنْ بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَخَشِينَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَضَبًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ رَسُولِهِ، فَلَمْ يَزَالُوا يُكَلِّمُونَهُ حَتَّى جَاءَ بِلَالٌ فَأَذَّنَ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، قَالَتْ: وَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (7) .
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْط إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لِيَأْخُذَ مِنْهُمُ الصَّدَقَاتِ، وَإِنَّهُمْ لَمَّا أَتَاهُمُ الْخَبَرُ فَرِحُوا وَخَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَمَّا حُدِّثَ الْوَلِيدُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ، رَجَعَ الْوَلِيدُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَبَيْنَا هُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ يَغْزُوَهُمْ إِذْ أَتَاهُ الْوَفْدُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا حُدِّثْنَا أَنَّ رَسُولَكَ رَجَعَ مِنْ نِصْفِ الطَّرِيقِ، وَإِنَّا خَشِينَا أَنَّ مَا رَدَّهُ كِتَابٌ جَاءَ مِنْكَ لِغَضَبٍ غَضِبْتَهُ عَلَيْنَا، وَإِنَّا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ. وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَغَشَّهُمْ وَهَمَّ بِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ (8) عُذْرَهُمْ فِي الْكِتَابِ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} إلى آخر الآية (9) .
__________
(1) في ت: "احتبس علي يا رسول الله".
(2) المسند (4/279) والمعجم الكبير (3/274) قال الهيثمي في المجمع (7/109) : "رجال أحمد ثقات"، وهذا متعقب فإن دينار والدعيسي لم يوثقه إلا ابن حبان، ولا يعرف له راويا غير ابنه عيسى.
(3) في ت: "وروى".
(4) في ت: "الوقعة".
(5) في ت، م، أ: "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(6) في ت، م: "منعوا".
(7) تفسير الطبري (26/78) وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، وثابت مولى أم سلمة مجهول.
(8) في م: "الله عز وجل".
(9) تفسير الطبري (26/78) .(7/371)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ ليُصدّقهم، فَتَلَقَّوْهُ بِالصَّدَقَةِ، فَرَجَعَ فَقَالَ: إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ جَمَعَتْ لَكَ لِتُقَاتِلَكَ -زَادَ قَتَادَةُ: وَإِنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ-فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَلَا يَعْجَلَ. فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا فَبَعَثَ عُيُونَهُ، فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرُوا خَالِدًا أَنَّهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَمِعُوا أَذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَتَاهُمْ خَالِدٌ فَرَأَى الَّذِي يُعْجِبُهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "التَّبيُّن مِنَ اللَّهِ، والعَجَلَة مِنَ الشَّيْطَانِ".
وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان، وَغَيْرُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (1) .
وَقَوْلُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} أَيْ: اعْلَمُوا أَنَّ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ رَسُولَ اللَّهِ فعظِّموه وَوَقِّرُوهُ، وَتَأَدَّبُوا مَعَهُ، وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِكُمْ، وَأَشْفَقُ عَلَيْكُمْ مِنْكُمْ، وَرَأْيُهُ فِيكُمْ أَتَمُّ مِنْ رَأْيِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الْأَحْزَابِ: 6] .
ثُمَّ بَيَّن [تَعَالَى] (2) أَنَّ رَأْيَهُمْ سَخِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُرَاعَاةِ مَصَالِحِهِمْ فَقَالَ: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ} أَيْ: لَوْ أَطَاعَكُمْ فِي جَمِيعِ مَا تَخْتَارُونَهُ لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى عَنَتِكُمْ وحَرَجكم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 71] .
وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أَيْ: حَبَّبَهُ إِلَى نُفُوسِكُمْ وَحَسَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ.
قَالَ (3) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْز، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَسْعَدة، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةً، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ" قَالَ: ثُمَّ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: "التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا" (4) .
{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} أَيْ: وَبَغَّضَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ والفسوق، وهي: الذنوب
__________
(1) وقد ذهب إلى ذلك كثير من المفسرين، وهذا القول فيه نظر؛ فإن الروايات التي ساقت القصة معلولة، وأحسنها وهي رواية أحمد عن الحارث بن ضرار الخزاعي، وفي إسنادها مجهول، وقد أنكر القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه "العواصم من القواصم" (ص102) هذه القصة قال: "وقد اختلف فيه، فقيل: نزلت في ذلك -أي في شأن الوليد. وقيل: في علي والوليد في قصة أخرى- وقيل: إن الوليد سيق يوم الفتح في جملة الصبيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح روءسهم وبرك عليهم إلا هو فقال: إنه كان على رأسي خلوق، فامتنع صلى الله عليه وسلم من مسه، فمن يكون في مثل هذه السنن يرسل مصدقا، وبهذا الاختلاف يسقط العلماء الأحاديث القوية، وكيف يفسق رجل هذا الكلام؟ فكيف برجل مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله كلام على الوليد بن عقبة في الأنوار الكاشفة (ص263) أثبت فيه أنه لم يؤثر له رواية عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن جملة ما نفاه هذا الحديث الذي ذكره ابن العربي.
(2) زيادة من ت.
(3) في ت: "وروى".
(4) المسند (3/134) قال الهيثمي في المجمع (1/52) : "رجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة، وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعفه آخرون".(7/372)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
الْكِبَارُ. وَالْعِصْيَانَ وَهِيَ جَمِيعُ الْمَعَاصِي. وَهَذَا تَدْرِيجٌ لِكَمَالِ النِّعْمَةِ.
وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} أَيِ: الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُمُ الرَّاشِدُونَ، الَّذِينَ قَدْ آتَاهُمُ اللَّهُ رُشْدَهُمْ.
قَالَ (1) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ الْمَكِّيُّ، عَنِ ابْنِ رَفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ (2) وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ" فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ. اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضل لِمَنْ هَدَيْتَ. وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ. وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ. اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ. اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ العَيْلَة، وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ. اللَّهُمَّ إِنَّى عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَمِنْ شَرٍّ مَا مَنَعْتَنَا. اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ. اللَّهُمَّ، تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ. اللَّهُمَّ، قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ. اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، إِلَهَ الْحَقِّ".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ مَرْوَان بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ عُبَيْد بْنِ رِفاعة، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ (3) .
وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: "مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ" (4) .
ثُمَّ قَالَ: {فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} أَيْ: هَذَا الْعَطَاءُ (5) الَّذِي مَنَحَكُمُوهُ هُوَ فَضْلٌ مِنْهُ عَلَيْكُمْ وَنِعْمَةٌ مِنْ لَدُنْهُ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ: عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْغَوَايَةَ، حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ.
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) }
__________
(1) في ت: "روى".
(2) في أ: "الحديبية".
(3) المسند (3/424) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10445) .
(4) رواه أحمد في مسنده (1/18) والترمذي في السنن برقم (2165) من حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ من هذا الوجه".
(5) في ت: "القضاء".(7/373)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (1) الْبَاغِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، فَسَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ مَعَ الِاقْتِتَالِ. وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْمَعْصِيَةِ وَإِنْ عَظُمَتْ، لَا كَمَا يَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَهَكَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمًا وَمَعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مَرَّةً وَإِلَى النَّاسِ أُخْرَى وَيَقُولُ: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (2) . فَكَانَ كَمَا قَالَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، بَعْدَ الْحُرُوبِ الطَّوِيلَةِ وَالْوَاقِعَاتِ الْمَهُولَةِ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أَيْ: حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ (3) وَتَسْمَعَ لِلْحَقِّ وَتُطِيعَهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نَصَرْتُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: "تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمَ، فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ" (4) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحِدِّثُ: أَنَّ أَنَسًا قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ؟ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبَ حِمَارًا، وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ، وَهِيَ أَرْضٌ سَبْخَةٌ، فَلَمَّا انْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِلَيْكَ عَنِّي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي رِيحُ حِمَارِكَ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ. قَالَ: فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، قَالَ: فَكَانَ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهُ أُنْزَلَتْ فِيهِمْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "الصُّلْحِ" عَنْ مُسَدَّد، وَمُسْلِمٌ فِي "الْمَغَازِي" عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ نَحْوَهُ (5) .
وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانَ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ بِالسَّعَفِ وَالنِّعَالِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فأمر بالصلح بينهما.
وقال السدي: كان رجلا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: "عِمْرَانُ"، كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تُدْعَى أُمَّ زَيْدٍ (6) ، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَزُورَ أَهْلَهَا فَحَبَسَهَا زَوْجُهَا وَجَعَلَهَا فِي عُلَيَّة لَهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا. وَإِنَّ الْمَرْأَةَ بَعَثَتْ إِلَى أَهْلِهَا، فَجَاءَ قَوْمُهَا وَأَنْزَلُوهَا لِيَنْطَلِقُوا بِهَا، وَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ كَانَ خَرَجَ، فَاسْتَعَانَ أَهْلُ الرَّجُلِ، فَجَاءَ بَنُو عَمِّهِ لِيَحُولُوا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَهْلِهَا، فَتَدَافَعُوا واجتلدوا بالنعال، فنزلت فيهم هذه
__________
(1) في أ: "المقتتلين".
(2) صحيح البخاري برقم (2704) .
(3) في ت، م: "إلى أمر الله ورسوله".
(4) صحيح البخاري برقم (2443) .
(5) المسند (3/157) وصحيح البخاري برقم (2691) وصحيح مسلم برقم (1799) .
(6) في أ: "يزيد".(7/374)
الْآيَةُ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، وَفَاءُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أَيْ: اعْدِلُوا بَيْنَهُمْ فِيمَا كَانَ أَصَابَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدِّمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ (1) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمُقْسِطِينَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، بِمَا أَقْسَطُوا فِي الدُّنْيَا".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ (2) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، بِهِ (3) . وَهَذَا إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، رِجَالُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ الْعَرْشِ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ وَمَا وَلُوا".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ (4) .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} أَيِ: الْجَمِيعُ إِخْوَةٌ فِي الدِّينِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ" (5) . وَفِي الصَّحِيحِ: "وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ" (6) . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: "إِذَا دَعَا الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلِهِ" (7) . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَفِي الصَّحِيحِ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوادِّهم وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بالحُمَّى والسَّهَر". وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (8) .
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، يَأْلَمُ الْمُؤْمِنُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، كَمَا يَأْلَمُ الْجَسَدُ لِمَا فِي الرَّأْسِ" (9) . تَفَرَّدَ بِهِ وَلَا بأس بإسناده.
__________
(1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(2) في ت: "مسلم".
(3) النسائي في السنن الكبرى برقم (5917) .
(4) صحيح مسلم برقم (1827) وسنن النسائي (8/321) .
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (2442) ومسلم في صحيحه برقم (2580) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
(6) صحيح مسلم برقم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) صحيح مسلم برقم (2732) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
(8) صحيح البخاري برقم (6011) وصحيح مسلم برقم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(9) المسند (5/340) وقال الهيثمي في المجمع (8/187) : "رجال أحمد رجال الصحيح".(7/375)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
وَقَوْلُهُ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يَعْنِي: الْفِئَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وَهَذَا تَحْقِيقٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلرَّحْمَةِ لِمَنِ اتَّقَاهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) }
يَنْهَى تَعَالَى عَنِ السُّخْرِيَةِ بِالنَّاسِ، وَهُوَ احْتِقَارُهُمْ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الكِبْر بَطَرُ الْحَقِّ وغَمْص النَّاسِ" وَيُرْوَى: "وَغَمْطُ النَّاسِ" (1) وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ: احْتِقَارُهُمْ وَاسْتِصْغَارُهُمْ، وَهَذَا حَرَامٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُحْتَقَرُ أَعْظَمَ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَأَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ السَّاخِرِ مِنْهُ الْمُحْتَقِرِ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} ، فَنَصَّ عَلَى نَهْيِ الرِّجَالِ وَعَطَفَ بِنَهْيِ النِّسَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: لَا تَلْمِزُوا النَّاسَ. والهمَّاز اللَّماز مِنَ الرِّجَالِ مَذْمُومٌ مَلْعُونٌ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] : (2) {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الْهُمَزَةِ: 1] ، فَالْهَمْزُ بِالْفِعْلِ وَاللَّمْزُ بِالْقَوْلِ، كَمَا قَالَ: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [الْقَلَمِ: 11] أَيْ: يَحْتَقِرُ النَّاسَ وَيَهْمِزُهُمْ طَاعِنًا عَلَيْهِمْ، وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ وَهِيَ: اللَّمْزُ بِالْمَقَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} ، كَمَا قَالَ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النِّسَاءِ: 29] أَيْ: لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا (3) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: لَا يَطْعَنْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ} أَيْ: لَا تَتَدَاعَوْا بِالْأَلْقَابِ، وَهِيَ الَّتِي يَسُوءُ الشَّخْصَ سَمَاعُهَا.
قَالَ (4) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَبِيرة (5) بْنُ الضَّحَّاكِ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ فِي بَنِي سَلِمَةَ: {وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ} قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ فِينَا رَجُلٌ إِلَّا وَلَهُ اسْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، فَكَانَ إِذَا دُعِىَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِاسْمٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَغْضَبُ مِنْ هَذَا. فَنَزَلَتْ: {وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ}
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ وُهَيْب، عَنْ دَاوُدَ، بِهِ (6) .
وَقَوْلُهُ: {بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ} أَيْ: بِئْسَ الصِّفَةُ وَالِاسْمُ الْفُسُوقُ وَهُوَ: التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ، كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَنَاعَتُونَ، بَعْدَمَا دَخَلْتُمْ (7) فِي الْإِسْلَامِ وَعَقَلْتُمُوهُ، {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ}
__________
(1) صحيح مسلم برقم (91) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2) زيادة من ت.
(3) في م: "أي: لا يطعن بعذكم على بعض".
(4) في ت: "وروى".
(5) في ت: "عن أبي جبيرة".
(6) المسند (4/260) وسنن أبي داود برقم (4962) ورواه الترمذي في السنن برقم (3268) مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "حديث حسن صحيح".
(7) في ت: "دخلوا".(7/376)
أَيْ: مِنْ هَذَا {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(7/377)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) }
يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ، وَهُوَ التُّهْمَةُ وَالتَّخَوُّنُ لِلْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالنَّاسِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ ذَلِكَ يَكُونُ إِثْمًا مَحْضًا، فَلْيُجْتَنَبْ كَثِيرٌ مِنْهُ احْتِيَاطًا، وَرُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ إِلَّا خَيْرًا، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا (1) .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي ضَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الحِمْصي، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَيْسٍ النَّضري، حَدَّثَنَا (2) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ (3) قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَيَقُولُ: "مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ، مَالُهُ وَدَمُهُ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرٌ (4) . تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (5) .
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّناد، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ (6) أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْعُتْبِيِّ [ثَلَاثَتُهُمْ] (7) ، عَنْ مَالِكٍ، بِهِ (8) .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (9) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ-مِنْ حديث سفيان بن عيينة، به (10) .
__________
(1) رواه أحمد في الزهد كما في الدر المنثور (7/565) .
(2) في ت: "وروى ابن ماجه بسنده عن".
(3) في ت: "بن عمر رضي الله عنه".
(4) في ت، م: "خيرا".
(5) سنن ابن ماجه برقم (3932) وقال البوصيري في الزوائد (3/223) "هذا إسناد فيه مقال، نصر بن محمد ضعفه أبو حاتم وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد ثقات".
(6) في ت، م: "فإنه".
(7) زيادة من أ.
(8) الموطأ (2/908) وصحيح البخاري برقم (6066) وصحيح مسلم برقم (2563) .
(9) زيادة من ت.
(10) صحيح مسلم برقم (2559) ، وسنن الترمذي برقم (1935) .(7/377)
وَقَالَ (1) الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ القِرْمِطي الْعَدَوِيُّ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "ثلاث لازمات لِأُمَّتِي: الطِّيَرَةُ، وَالْحَسَدُ وَسُوءُ الظَّنِّ". فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يُذْهِبُهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّنْ هُنَّ فِيهِ؟ قَالَ: "إِذَا حَسَدْتَ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ، وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَأمض (2) " (3) . وَقَالَ (4) أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدٍ قَالَ: أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِرَجُلٍ (5) ، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ (6) .
سَمَّاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي رِوَايَتِهِ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ (7) .
وَقَالَ (8) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، حَدَّثَنَا لَيْث، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَشِيط الخَوْلاني، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ دُخَيْن كَاتِبِ عُقْبَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُقْبَةَ: إِنَّ لَنَا جِيرَانًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ فَيَأْخُذُونَهُمْ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ. قَالَ: فَفَعَلَ فَلَمْ يَنْتَهُوا. قَالَ: فَجَاءَهُ دُخَيْن فَقَالَ: إِنِّي قَدْ نَهَيْتُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَإِنِّي دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ فَيَأْخُذُونَهُمْ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ. قَالَ: فَفَعَلَ فَلَمْ يَنْتَهُوا. قَالَ: فَجَاءَهُ دُخَيْنٌ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ نَهَيْتُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَإِنِّي دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ فَتَأْخُذُهُمْ. فَقَالَ لَهُ عُقْبَةُ: وَيْحَكَ لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّمَا اسْتَحْيَا مَوْءُودَةً مِنْ قَبْرِهَا".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، بِهِ نَحْوَهُ (9) .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ" أَوْ: "كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ". فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مُنْفَرِدًا بِهِ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، بِهِ (10) .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا ضَمْضَم بْنُ زُرَعَة، عَنْ شُرَيْح بْنِ عبيد، عن جُبَيْر بْنِ نُفَيْر، وَكَثِيرِ بْنِ مُرَّة، وَعَمْرِو بن الأسود، والمقدام بن معد يكرب (11) ، وَأَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ في الناس،
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) في ت: "وإذا نظرت فاغضض" وفي م، أ: "وإذا تطيرت فاغمض".
(3) المعجم الكبير (3/228) ، قال الهيثمي في المجمع (8/78) : "فيه إسماعيل بن قيس الأنصاري وهو ضعيف".
(4) في ت: "وروى".
(5) لفظة "برجل" غير موجودة بسنن أبي داود.
(6) سنن أبي داود برقم (4890) .
(7) وذلك لما أكثر الناس في الوليد بن عقبة، وقد كان ابن مسعود على بيت المال في ولاية الوليد بن عقبة في عهد عثمان رضي الله عنه وقصة جلد الوليد على الخمر مشهورة في الصحيحين.
(8) في ت: "وروى".
(9) المسند (4/153) وسنن أبي داود برقم (4892) والنسائي في السنن الكبري برقم (7283) .
(10) سنن أبي داود برقم (4888) .
(11) في م: "معدي كرب".(7/378)
أَفْسَدَهُمْ" (1) .
[وَقَوْلُهُ] : (2) {وَلا تَجَسَّسُوا} أَيْ: عَلَى بَعْضِكُمْ بَعْضًا. وَالتَّجَسُّسُ غَالِبًا يُطْلَقُ فِي الشَّرِّ، وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ. وَأَمَّا التَّحَسُّسُ فَيَكُونُ غَالِبًا فِي الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ يَعْقُوبَ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (3) إِنَّهُ قَالَ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يُوسُفَ: 87] ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الشَّرِّ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا" (4) .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: التَّجَسُّسُ: الْبَحْثُ عَنِ الشَّيْءِ. وَالتَّحَسُّسُ: الِاسْتِمَاعُ إِلَى حَدِيثِ الْقَوْمِ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ يَتَسَمَّعُ عَلَى أَبْوَابِهِمْ. وَالتَّدَابُرُ: الصَّرْم. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} فِيهِ نَهْيٌ عَنِ الْغَيْبَةِ، وَقَدْ فَسَّرَهَا الشَّارِعُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا القَعْنَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (5) قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْغِيبَةُ؟ قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ". قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ الدَّرَاوَرْدي، بِهِ (6) . وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بُنْدَار، عَنْ غُنْدَر، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ الْعَلَاءِ (7) . وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَمَسْرُوقٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّة.
وَقَالَ (8) أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّد، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْأَقْمَرِ، عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا! -قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ: تَعْنِي قَصِيرَةً-فَقَالَ: "لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ". قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا، وَإِنَّ لِي كَذَا وَكَذَا".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى القَطَّان، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيّ، ووَكِيع، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ، عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ سَلَمَةَ بْنِ صُهَيْبَةَ الْأَرْحَبِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، بِهِ. وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (9) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ الْمُخَارِقِ (10) ؛ أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ، فَلَمَّا قَامَتْ لِتَخْرُجَ أَشَارَتْ عائشة بيدها
__________
(1) سنن أبي داود برقم (4889) .
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت.
(4) صحيح البخاري برقم (2442) .
(5) في ت: "أبي هريرة رضي الله عنه".
(6) سنن أبي داود برقم (4874) وسنن الترمذي برقم (1935) .
(7) تفسير الطبري (26/86) .
(8) في ت: "وروى".
(9) سنن أبي داود برقم (4875) وسنن الترمذي برقم (2502، 2503) .
(10) في ت: "وروى ابن جرير بسنده".(7/379)
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَيْ: إِنَّهَا قَصِيرَةٌ-فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اغْتَبْتِيهَا" (1) .
وَالْغِيبَةُ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَجَحَتْ مَصْلَحَتُهُ، كَمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالنَّصِيحَةِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) ، لَمَّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْفَاجِرُ: "ائْذَنُوا لَهُ، بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ" (3) ، وَكَقَوْلِهِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -وَقَدْ خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ وَأَبُو الْجَهْمِ-: "أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ (4) ، وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ" (5) . وَكَذَا مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. ثُمَّ بَقِيَّتُهَا عَلَى التَّحْرِيمِ الشَّدِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا الزَّجْرُ الْأَكِيدُ (6) ؛ وَلِهَذَا شَبَّهَهَا تَعَالَى بِأَكْلِ اللَّحْمِ مِنَ الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} ؟ أَيْ: كَمَا تَكْرَهُونَ هَذَا طَبْعًا، فَاكْرَهُوا ذَاكَ شَرْعًا؛ فَإِنَّ عُقُوبَتَهُ أَشَدُّ مِنْ هَذَا وَهَذَا مِنَ التَّنْفِيرِ عَنْهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا، كَمَا قَالَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الْعَائِدِ فِي هِبَتِهِ: "كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ"، وَقَدْ قَالَ: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ". وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ (7) وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ فِي خُطْبَةِ [حَجَّةِ] (8) الْوَدَاعِ: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا" (9) .
وَقَالَ (10) أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حرام: ماله وعرضه ودمه، حسب امرىء مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (11) عَنْ عُبَيْدِ بْنِ أَسْبَاطِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ (12) . وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ (13) ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (14) بْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "يا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فَإِنَّهُ مَنْ يَتْبَعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتْبَعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتْبَعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ".
تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ (15) . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حبيب الزيات، عن أبي إسحاق
__________
(1) تفسير الطبري (26/87) .
(2) في ت: "عليه السلام".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (3132) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) في أ: "فصعلوك لا مال له".
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (1480) .
(6) في ت، م: "الشديد".
(7) في ت، م: "الصحيح".
(8) زيادة من ت، م، أ.
(9) رواه مسلم في صحيحه برقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه.
(10) في ت: "وروى".
(11) في ت: "رواه الترمذي وحسنه".
(12) سنن أبي داود برقم (4882) وسنن الترمذي برقم (1927) .
(13) في ت: "وروى أبو داود".
(14) في أ: "عبيد الله".
(15) سنن أبي داود برقم (4880) .(7/380)
السَّبِيعي (1) ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ (2) قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أَسْمَعَ الْعَوَاتِقَ فِي بُيُوتِهَا -أَوْ قَالَ: فِي خُدُورِهَا-فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتْبَعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ يَتْبَعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتْبَعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ (3) فِي جَوْفِ بَيْتِهِ" (4) .
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاجِيَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى الشَّيْبَانِيُّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَوْفَى بْنِ دَلْهَم، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإيمانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ يَتْبَعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتْبَعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ". قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَلَلْمُؤْمِنُ أعظمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ (5) .
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَحَدَّثَنَا حَيْوَة بْنُ شُرَيْح، حَدَّثَنَا بَقِيَّة، عَنِ ابْنُ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ وَقَّاصِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ؛ أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أُكْلَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا فِي (6) جَهَنَّمَ (7) ، وَمِنْ كُسى ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ فِي (8) جَهَنَّمَ. وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سمعةٍ وَرِيَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ (9) .
وَحَدَّثَنَا ابْنُ مُصَفَّى، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ وَأَبُو الْمُغِيرَةِ قَالَا حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنِي رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا عُرِج بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرَائِيلُ (10) ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ".
تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ الشَّامِيِّ، بِهِ (11) .
وَقَالَ (12) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن عبدة، حدثنا أبو عبد الصمد بن عبد العزيز ابن عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو هَارُونَ العَبْديّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (13) قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا مَا رَأَيْتَ لَيْلَةَ أسريَ بِكَ؟ ... قَالَ: "ثُمَّ انْطُلِقَ بِي إِلَى خَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَثِيرٍ، رِجَالٍ وَنِسَاءٍ مُوَكَّل بِهِمْ رِجَالٌ يَعْمِدُونَ إِلَى عُرْض جنَب أَحَدِهِمْ فَيَحْذُون مِنْهُ الحُذْوَة مِنْ مِثْلِ النَّعْلِ ثُمَّ يَضَعُونَهُ فِي فِيِّ أَحَدِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: "كُلْ كَمَا (14) أَكَلْتَ"، وَهُوَ يَجِدُ من أكله الموت -يا
__________
(1) في ت: "وروى الحافظ أبو يعلى في مسنده بسنده".
(2) في ت: "البراء بن عازب رضي الله عنه".
(3) في ت: "يفضحه ولو في".
(4) مسند أبي يعلى (3/237) قال الهيثمي في المجمع (8/93) : "رجاله ثقات".
(5) ورواه الترمذي في السنن برقم (2032) من طريق الفضل بن موسى بِهِ، وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الحسين بن واقد".
(6) في ت، م، أ: "من".
(7) في ت: "في نار جهنم".
(8) في أ: "من".
(9) سنن أبي داود برقم (4881) .
(10) في ت، م: "جبريل".
(11) سنن أبي داود برقم (4878) ، والمسند (3/224) .
(12) في ت: "وروى".
(13) زيادة من ت.
(14) في ت: "ما".(7/381)
مُحَمَّدُ-لَوْ يَجِدُ الْمَوْتَ وَهُوَ يُكْرَهُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا جِبْرَائِيلُ (1) ، مَنْ هَؤُلَاءِ: قَالَ: هَؤُلَاءِ الهمَّازون اللمَّازون أَصْحَابُ النَّمِيمَةِ. فَيُقَالُ (2) : {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} وَهُوَ يُكْرَهُ عَلَى أَكْلِ لَحْمِهِ.
هَكَذَا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ سُقْنَاهُ بِطُولِهِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ "سُورَةِ سُبْحَانَ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ (3) .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَصُومُوا يَوْمًا وَلَا يَفْطُرَنَّ أحدٌ حَتَّى آذَنَ لَهُ. فَصَامَ النَّاسُ، فَلَمَّا أَمْسَوْا جَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: ظَلِلْتُ مُنْذُ الْيَوْمِ صَائِمًا، فَائْذَنْ لِي. فَأُفْطِرُ فَيَأْذَنُ لَهُ، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ ذَلِكَ، فَيَأْذَنُ لَهُ، حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ فَتَاتَيْنِ مِنْ أَهْلِكَ ظَلَّتَا مُنْذُ الْيَوْمِ صَائِمَتَيْنِ، فَائْذَنْ لَهُمَا فَلْيفطرا فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ أَعَادَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا صَامَتَا، وَكَيْفَ صَامَ مَنْ ظَلَّ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ؟ اذْهَبْ، فَمُرْهُمَا إِنْ كَانَتَا صَائِمَتَيْنِ أَنْ يَسْتَقْيِئَا". فَفَعَلَتَا، فَقَاءَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَقةً علقَةً فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ مَاتَتَا وَهُمَا فِيهِمَا لَأَكَلَتْهُمَا النَّارُ" (4) .
إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، وَمَتْنٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يُحَدِّثُ فِي مَجْلِسِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِي عَنْ عُبَيْدٍ -مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ (5) -أَنَّ امْرَأَتَيْنِ صَامَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَاهُنَا امْرَأَتَيْنِ صَامَتَا، وَإِنَّهُمَا كَادَتَا تَمُوتَانِ مِنَ الْعَطَشِ -أرَاهُ قَالَ: بِالْهَاجِرَةِ-فَأَعْرَضَ عَنْهُ -أَوْ: سَكَتَ عَنْهُ-فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّهُمَا -وَاللَّهِ قَدْ مَاتَتَا أَوْ كَادَتَا تَمُوتَانِ (6) . فَقَالَ: ادْعُهُمَا. فَجَاءَتَا، قال: فجيء بِقَدَحٍ -أَوْ عُسّ-فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا: " قِيئِي" فَقَاءَتْ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ وَصَدِيدٍ حَتَّى قَاءَتْ نِصْفَ الْقَدَحِ. ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى: قِيئِي فَقَاءَتْ قَيْحًا وَدَمًا وَصَدِيدًا وَلَحْمًا وَدَمًا عَبِيطًا وَغَيْرَهُ حَتَّى مَلَأَتِ الْقَدَحَ. فَقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمَا، وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، جَلَسَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى فَجَعَلَتَا تَأْكُلَانِ لُحُومَ النَّاسِ.
وَهَكَذَا قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَابْنِ أَبِي عِدَيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ طِرْخان التَّيْمِيِّ، بِهِ مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ (7) . ثُمَّ رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُسَدَّد، عَنْ يَحْيَى القَطَّان، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ أَظُنُّهُ فِي حَلْقَةِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَعْدٍ -مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِصِيَامٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ فِي نِصْفِ النَّهَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فُلَانَةُ وَفُلَانَةُ قَدْ بَلَغَتَا الْجَهْدَ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: "ادْعُهُمَا". فَجَاءَ بعُس -أَوْ: قَدَح-فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا: "قِيئِي"، فَقَاءَتْ لَحْمًا وَدَمًا عَبِيطًا وَقَيْحًا، وَقَالَ لِلْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: "إِنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمَا، وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، أَتَتْ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى فَلَمْ تَزَالَا تَأْكُلَانِ لُحُومَ النَّاسِ حَتَّى امْتَلَأَتْ أجوافهما
__________
(1) في ت، م: "جبريل".
(2) في أ: "فقال".
(3) عند الآية الأولى.
(4) مسند الطيالسي برقم (2107) .
(5) في ت، م: "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(6) في ت: "أن تموتا".
(7) المسند (5/431) ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت برقم (171) من طريق يزيد بن هارون عن سليمان التيمي به.(7/382)
قَيْحًا" (1) .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَذَا قَالَ "عَنْ سَعْدٍ"، وَالْأَوَّلُ -وَهُوَ عُبَيْدٌ-أَصَحُّ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الضَّحَّاكِ بْنِ مَخْلَد، حَدَّثَنَا أَبِي أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْج، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ (2) عَنْ ابْنِ عَمّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مَاعِزًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ -قَالَهَا أَرْبَعًا-فَلَمَّا كَانَ فِي الْخَامِسَةِ قَالَ: "زَنَيْتَ"؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "وَتَدْرِي مَا الزِّنَا؟ " قَالَ: نَعَمْ، أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ حَلَالًا. قَالَ: "مَا تُرِيدُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ؟ " قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَدْخَلْتَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا كَمَا يَغِيبُ المِيل فِي الْمُكْحُلَةِ والرِّشاء (3) فِي الْبِئْرِ؟ ". قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ فَرُجِمَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ يَقُولُ أَحَدَهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجمَ رَجْمَ الْكَلْبِ. ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَرّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ فَقَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ انْزِلَا فَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ" قَالَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا رَسُولَ، اللَّهِ وَهَلْ يُؤكل هَذَا؟ قَالَ: "فَمَا نِلْتُمَا مِنْ أَخِيكُمَا (4) آنفا أشد أكلا من، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا" (5) ] إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ] (6) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ -مَوْلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ-حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ عُرْفُطَة، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَفَعَتْ رِيحُ جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ (7) " (8) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ بْنُ حُميد فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا الفُضيل بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ -وَهُوَ طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ-عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَهَاجَتْ رِيحُ مُنْتِنَةٌ (9) ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ نَفَرًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ اغْتَابُوا نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلِذَلِكَ بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ" وَرُبَّمَا قَالَ: "فَلِذَلِكَ هَاجَتْ هَذِهِ الرِّيحُ" (10) .
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} : زَعَمَ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ كَانَ مَعَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ يَخْدُمُهُمَا وَيَخِفُّ لَهُمَا، وَيَنَالُ مِنْ طَعَامِهِمَا، وَأَنَّ سَلْمَانَ لَمَّا سَارَ النَّاسُ ذَاتَ يَوْمٍ وَبَقِيَ سَلْمَانُ نَائِمًا، لَمْ يَسِرْ مَعَهُمْ، فَجَعَلَ صَاحِبَاهُ يُكَلِّمَانِهِ (11) فَلَمْ يَجِدَاهُ، فَضَرَبَا الخِباء فقالا ما يريد سليمان -أَوْ: هَذَا الْعَبْدُ-شَيْئًا غَيْرَ هَذَا: أَنْ يَجِيءَ إِلَى طَعَامٍ مَقْدُورٍ، وَخِبَاءٍ مَضْرُوبٍ! فَلَمَّا جَاءَ سَلْمَانُ أَرْسَلَاهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْلُبُ لَهُمَا إِدَامًا، فَانْطَلَقَ فأتى رسول
__________
(1) المسند (5/431) .
(2) في ت: "وروى الحافظ أبو يعلى بمسنده".
(3) في ت، م، أ: "والعصا".
(4) في ت: "من عرض أخيكما".
(5) مسند أبي يعلى (6/524) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (8/227) من طريق عمرو بن الضحاك به؛ ورواه أبو داود في السنن برقم (4429) من طريق الضحاك به.
(6) زيادة من ت.
(7) في ت، أ: "الناس".
(8) المسند (3/351) قال الهيثمي في المجمع (8/91) : "رجاله ثقات".
(9) في م: "ريح شديدة منتنة".
(10) المنتخب برقم (1026) .
(11) في م: "يكلماه".(7/383)
اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (1) وَمَعَهُ قَدَح لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَعَثَنِي أَصْحَابِي لِتؤدِمَهم إِنْ كَانَ عِنْدَكَ؟ قَالَ: "مَا يَصْنَعُ أَصْحَابُكَ بالأدْم؟ قَدِ ائْتَدَمُوا". فَرَجَعَ سَلْمَانُ يُخْبِرُهُمَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَصَبْنَا طَعَامًا مُنْذُ نَزَلْنَا. قَالَ: "إِنَّكُمَا قَدِ ائْتَدَمْتُمَا بِسَلْمَانَ بِقَوْلِكُمَا".
قَالَ: وَنَزَلَتْ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} ، إِنَّهُ كَانَ نَائِمًا (2) .
وَرَوَى الْحَافِظُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ "الْمُخْتَارَةِ" مِنْ طَرِيقِ حَبَّان بْنِ هِلَالٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَخْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الْأَسْفَارِ، وَكَانَ مَعَ أَبِي بكر وعمر ما رَجُلٌ يَخْدِمُهُمَا، فَنَامَا فَاسْتَيْقَظَا وَلَمْ يُهَيِّئْ لَهُمَا طعاما، فقالا إن هذا لنؤوم، فَأَيْقَظَاهُ، فَقَالَا لَهُ: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يُقْرِئَانِكَ السَّلَامَ، وَيَسْتَأْدِمَانِكَ.
فَقَالَ: "إِنَّهُمَا قَدِ ائْتَدَمَا" فَجَاءَا فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَيِّ شَيْءٍ ائْتَدَمْنَا؟ فَقَالَ: "بِلَحْمِ أَخِيكُمَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرَى لَحْمَهُ بَيْنَ ثَنَايَاكُمَا". فَقَالَا اسْتَغْفِرْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: "مُرَاه فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمَا" (3) .
وَقَالَ (4) الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ يَسار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَكَلَ مِنْ لَحْمِ أَخِيهِ فِي الدُّنْيَا، قُرِّب لَهُ لَحْمُهُ فِي الْآخِرَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: كُلْهُ مَيْتًا كَمَا أَكَلْتَهُ حَيًّا. قَالَ: فَيَأْكُلُهُ ويَكْلَح وَيَصِيحُ". غَرِيبٌ جِدًّا (5) .
وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ: فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، فَرَاقِبُوهُ فِي ذَلِكَ وَاخْشَوْا مِنْهُ، {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} أَيْ: تَوَّابٌ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ، رَحِيمٌ بِمَنْ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: طَرِيقُ الْمُغْتَابِ لِلنَّاسِ فِي تَوْبَتِهِ أَنْ يُقلع (6) عَنْ ذَلِكَ، وَيَعْزِمَ عَلَى أَلَّا يَعُودَ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ؟ فِيهِ نِزَاعٌ، وَأَنْ يَتَحَلَّلَ مِنَ الَّذِي اغْتَابَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَتَحَّلَلَهُ فَإِنَّهُ إِذَا (7) أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ رُبَّمَا تَأَذَّى أَشَدَّ مِمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَا كَانَ مِنْهُ، فَطَرِيقُهُ إِذًا أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ فِي الْمَجَالِسِ الَّتِي كَانَ يَذُمُّهُ فِيهَا، وَأَنْ يَرُدَّ عَنْهُ الْغَيْبَةَ بِحَسْبِهِ وَطَاقَتِهِ، فَتَكُونَ (8) تِلْكَ بِتِلْكَ، كَمَا قَالَ (9) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ؛ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ يَحْيَى المعَافِريّ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَهْلَ بْنَ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهَنِيّ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ (10) النَّبِيِّ
__________
(1) زيادة من ت.
(2) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور (7/570) .
(3) المختارة برقم (1697) .
(4) في ت: "وروى".
(5) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4961) "مجمع البحرين" من طريق محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق به، وقال: لم يروه عن ابن إسحاق إلا محمد بن سلمة وقد وقع هنا "محمد بن مسلم" وأظنه تصحيفا، لكني لا أستطيع الجزم بذلك قال الهيثمي في المجمع (8/92) : "فيه ابن إسحاق وهو مدلس ومن لم أعرفه".
(6) في م: "يرجع".
(7) في ت: "لو".
(8) في ت: "لتكون".
(9) في ت: "روى".
(10) في ت: "أن".(7/384)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ يَعِيبُهُ (1) ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ. وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ، حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ". وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ -وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ-بِهِ بِنَحْوِهِ (2) .
وَقَالَ (3) أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَا طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ يَقُولَانِ: قَالَ (4) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما من امرىء يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ يُحِبُّ فِيهَا نُصْرَتَهُ. وَمَا مِنَ امْرِئٍ يَنْصُرُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ (5) ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ يُحِبُّ فِيهَا نُصْرَتَهُ". تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ (6) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا لِلنَّاسِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَهُمَا آدَمُ وَحَوَّاءُ، وَجَعَلَهُمْ شُعُوبًا، وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْقَبَائِلِ، وَبَعْدَ الْقَبَائِلِ مَرَاتِبُ أُخَرُ كَالْفَصَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَالْعَمَائِرِ وَالْأَفْخَاذِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشُّعُوبِ بُطُونُ العَجَم، وَبِالْقَبَائِلِ بُطُونُ الْعَرَبِ، كَمَا أَنَّ الْأَسْبَاطَ بُطُونُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ لَخَّصْتُ هَذَا فِي مُقَدِّمَةٍ مُفْرَدَةٍ جَمَعْتُهَا مِنْ كِتَابِ: "الْإِنْبَاهِ" لِأَبِي عُمَرَ (7) بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَمِنْ كِتَابِ "الْقَصْدِ وَالْأُمَمِ، فِي مَعْرِفَةِ أَنْسَابِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ". فَجَمِيعُ النَّاسِ فِي الشَّرَفِ بِالنِّسْبَةِ الطِّينِيَّةِ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ وَمُتَابَعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْغَيْبَةِ وَاحْتِقَارِ بَعْضِ النَّاسِ بَعْضًا، مُنَبِّهًا عَلَى تَسَاوِيهِمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} أَيْ: لِيَحْصُلَ التَّعَارُفُ بَيْنَهُمْ، كلٌ يَرْجِعُ إِلَى قَبِيلَتِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {لِتَعَارَفُوا} ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ كَذَا وَكَذَا، أَيْ: مِنْ قَبِيلَةِ كَذَا وَكَذَا.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: كَانَتْ حِمْير يَنْتَسِبُونَ إِلَى مُخَاليفها، وَكَانَتْ عَرَبُ الْحِجَازِ يَنْتَسِبُونَ إِلَى قَبَائِلِهَا.
وَقَدْ قَالَ (8) أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ
__________
(1) في أ "بغيبة".
(2) المسند (3/441) وسنن أبي داود برقم (4883) .
(3) في ت: "وروى".
(4) في ت: "أن".
(5) في أ: "عرضه".
(6) سنن أبي داود برقم (4884) .
(7) في م: "عمرو".
(8) في ت: "وروى".(7/385)
الْمَلِكِ بْنِ عِيسَى الثَّقَفِيِّ، عَنْ يَزِيدَ -مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ؛ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ". ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (1) .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} أَيْ: إِنَّمَا تَتَفَاضَلُونَ عِنْدَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى لَا بِالْأَحْسَابِ. وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَالَ (2) الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: "أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ" قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: "فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ". قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: "فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا" (3) .
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ (4) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ -وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ-بِهِ (5) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ مُسْلِمٌ (6) ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا كَثِير بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (7) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ".
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ كَثِير بْنِ هِشَامٍ، بِهِ (8) .
حَدِيثٌ آخَرُ: وَقَالَ (9) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ بَكْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "انْظُرْ، فَإِنَّكَ لَسْتَ بِخَيْرٍ مِنْ أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ إِلَّا أَنْ تَفْضُلَهُ بِتَقْوَى (10) . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (11) .
حَدِيثٌ آخَرُ: وَقَالَ (12) الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلة، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ الطَّائِيُّ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ حَبِيبِ بْنِ خِرَاش العَصَرِيّ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (13) : الْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ، لَا
__________
(1) سنن الترمذي برقم (1979) .
(2) في ت: "فروى".
(3) صحيح البخاري برقم (4689) .
(4) صحيح البخاري برقم (3374، 3383) .
(5) النسائي في السنن الكبرى برقم (11250) .
(6) في ت: "وروى".
(7) في ت: "أبي هريرة رضي الله عنه".
(8) صحيح مسلم برقم (2564) وسنن ابن ماجه برقم (4143) .
(9) في ت: "وروى".
(10) في ت: "بتقوى الله".
(11) المسند (5/158) .
(12) في ت: "وروى".
(13) في ت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال".(7/386)
فَضْلَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى" (1)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (2) أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ -يَعْنِي ابْنَ الرَّبِيعِ-عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَة (3) ، عَنِ الْمُسْتَظِلِّ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ (4) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ. وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ، وَلَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ يَفْخَرُونَ بِآبَائِهِمْ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الجِعْلان".
ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (5) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (6) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عمر قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ القَصْواء يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ (7) بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ، فَمَا وَجَدَ لَهَا مُنَاخًا فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى نَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ، فَخَرَجَ بِهَا إِلَى بَطْنِ الْمَسِيلِ فَأُنِيخَتْ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَهُمْ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ (8) ثُمَّ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّية الْجَاهِلِيَّةِ وَتُعَظُّمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: رَجُلٌ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ثُمَّ قَالَ: "أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ".
هَكَذَا (9) رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الضَّحَّاكِ بْنِ مَخْلَد، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، بِهِ (10) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (11) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَنْسَابَكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمِسَبَّةٍ عَلَى أَحَدٍ، كُلُّكُمْ بنو آدم طَفَّ الصاع لم يملؤه، لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِدِينٍ وَتَقْوًى، وَكَفَى بِالرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ بَذِيّا بَخِيلًا فَاحِشًا".
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعة، بِهِ (12) وَلَفْظُهُ: "النَّاسُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، طَفَّ الصَّاعُ لَمْ يَمْلَئُوه، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْأَلُكُمْ عَنْ أَحِسَابِكُمْ وَلَا عَنْ أَنْسَابِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عند الله أتقاكم".
__________
(1) المعجم الكبير (4/25) وقال الهيثمي في المجمع (8/84) : "فيه عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة، وهو متروك".
(2) في ت: "وروى".
(3) في أ: "عروة".
(4) في ت: "عن حذيفة رضي الله عنه".
(5) مسند البزار برقم (3584) وقال الهيثمي في المجمع (8/86) : "فيه الحسن بن الحسين العرني وهو ضعيف".
(6) في ت: "وروى".
(7) في ت: "الركن".
(8) في ت، أ: "بما هو عليه".
(9) في ت: "وهكذا".
(10) المنتخب لعبد بن حميد برقم (793) وفيه موسى بن عبيدة الزبدي وهو ضعيف.
(11) في ت: "وروى".
(12) المسند (4/158) وتفسير الطبري (26/89) قال الهيثمي في المجمع (8/84) : "فيه ابن لهيعة وفيه لين، وبقية رجاله وثقوا". قلت: الراوي عنه في رواية الطبري عبد اله بن وهب، فهذه متابعة قوية ليحيى بن إسحاق.(7/387)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (1) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمِيرة زَوْجِ دُرَّةَ ابْنَةِ أَبِي لَهَبٍ، عَنْ دُرَّةَ بِنْتِ أَبِي لَهَبٍ قَالَتْ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ النَّاسِ أَقْرَؤُهُمْ، وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ" (2) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (3) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا أَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا أَعْجَبَهُ أَحَدٌ قَطُّ، إِلَّا ذُو تُقًى. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ (4) .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} أَيْ: عَلِيمٌ بِكُمْ، خَبِيرٌ بِأُمُورِكُمْ، فَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعذب مَنْ يَشَاءُ، وَيُفَضِّلُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ، مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي النِّكَاحِ لَا تُشْتَرَطُ، وَلَا يُشْتَرَطُ سِوَى الدِّينِ، لِقَوْلِهِ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وَذَهَبَ الْآخَرُونَ إِلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي "كِتَابِ الْأَحْكَامُ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَقُولُ: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ: غَيْرُكَ أَوْلَى بِهِ مِنْكَ، وَلَكَ مِنْهُ نَسَبُهُ.
{قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) }
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) المسند (6/432) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (24/257) من طريق شريك به، وقال الهيثمي في المجمع (7/263) : "رجالهما ثقات، وفي كلام بعضهم كلام لا يضر".
(3) في ت: "وروى".
(4) المسند (6/69) .(7/388)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْأَعْرَابِ الَّذِينَ أَوَّلَ مَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ ادَّعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ مَقَامَ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ بَعْدُ: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} . وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْإِيمَانَ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ سَأَلَ عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ عَنِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ عَنِ الْإِحْسَانِ، فَتَرَقَّى مِنَ الْأَعَمِّ إِلَى الْأَخَصِّ، ثُمَّ لِلْأَخَصِّ مِنْهُ.
قَالَ (1) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالًا وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا وَلَمْ تُعط فُلَانًا شَيْئًا، وَهُوَ مُؤْمِنٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوْ مُسْلِمٌ" حَتَّى أَعَادَهَا سَعْدٌ ثَلَاثًا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَوْ مُسْلِمٌ" ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا وَأَدَعُ من هو أحب إليّ منهم فلم أعطيه شَيْئًا؛ مَخَافَةَ أَنْ يُكَبُّوا فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ".
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (2) .
فَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُؤْمِنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ بِأَدِلَّتِهِ فِي أَوَّلِ شَرْحِ كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ مُسْلِمًا لَيْسَ مُنَافِقًا؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ مِنَ الْعَطَاءِ وَوَكَلَهُ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى (3) أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسُوا بِمُنَافِقِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مُسْلِمُونَ لَمْ يَسْتَحْكِمِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَادَّعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ مَقَامًا أَعْلَى مِمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ، فَأُدِّبُوا فِي ذَلِكَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مُنَافِقِينَ يُظهرون الْإِيمَانَ وَلَيْسُوا كَذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} أَيِ: اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ الْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ امْتَنُّوا بِإِيمَانِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ أَنَّهُمْ قَوْمٌ ادَّعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ مَقَامَ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ بَعْدُ، فَأُدِّبُوا وَأُعْلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ بَعْدُ، وَلَوْ كَانُوا مُنَافِقِينَ لَعُنِّفُوا وَفُضِحُوا، كَمَا ذُكِرَ الْمُنَافِقُونَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ تَأْدِيبًا: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أَيْ: لَمْ تَصِلُوا إِلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ بَعْدُ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ [شَيْئًا] } (4) أَيْ: لَا يَنْقُصُكُمْ مِنْ أُجُورِكُمْ شَيْئًا، كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطُّورِ: 21] .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: لمن تاب إليه وأناب.
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) المسند (1/176) وصحيح البخاري برقم (27) وصحيح مسلم برقم (150) .
(3) في ت: "إلى".
(4) زيادة من ت.(7/389)
وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكُمَّل {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} أَيْ: لَمْ يَشُكُّوا وَلَا تَزَلْزَلُوا، بَلْ ثَبَتُوا (1) عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ التَّصْدِيقُ الْمَحْضُ، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ: وَبَذَلُوا مُهَجَهُمْ (2) وَنَفَائِسَ أَمْوَالِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ، {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أَيْ: فِي قَوْلِهِمْ إِذَا قَالُوا: "إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ"، لَا كَبَعْضِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنَ الدِّينِ إِلَّا الْكَلِمَةَ الظَّاهِرَةَ.
وَقَالَ (3) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا رِشْدين، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (4) قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ: [الَّذِينَ] (5) آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالَّذِي يَأْمَنُهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ. ثُمَّ الَّذِي إِذَا أَشْرَفَ عَلَى طَمَعٍ تَرَكَهُ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ" (6) .
وَقَوْلُهُ: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} أَيْ: أَتُخْبِرُونَهُ (7) بِمَا فِي ضَمَائِرِكُمْ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
ثُمَّ قَالَ [تَعَالَى] (8) : {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} ، يَعْنِي: الْأَعْرَابُ [الَّذِينَ] (9) يُمَنُّونَ بِإِسْلَامِهِمْ وَمُتَابَعَتِهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ عَلَى الرَّسُولِ، يَقُولُ اللَّهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ: {قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} ، فَإِنَّ نَفْعَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَعُودُ عَلَيْكُمْ، وَلِلَّهِ الْمِنَّةُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ: فِي دَعْوَاكُمْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ يَوْمَ حُنَيْنٍ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ " كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ (10) .
وَقَالَ (11) الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (12) قَالَ: جَاءَتْ بَنُو أَسَدٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْلَمْنَا وَقَاتَلَتْكَ الْعَرَبُ، ولم تقاتلك، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِقْهَهُمْ قَلِيلٌ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْطِقُ (13) عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ". وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
__________
(1) في ت: "تثبتوا".
(2) في ت: "مهجتهم".
(3) في ت: "وروى".
(4) في ت: "أبي سعيد رضي الله عنه".
(5) زيادة من ت، أ، والمسند.
(6) المسند (3/8) وفي إسناده بن أبي السمح عن أبي الهيثم وهو ضعيف.
(7) في ت: "أتخبرون".
(8) زيادة من ت.
(9) زيادة من ت، أ.
(10) رواه البخاري في صحيحه برقم (4330) من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رَضِيَ الله عنه.
(11) في ت: "وروى".
(12) زيادة من ت.
(13) في أ: "ينطق".(7/390)
ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا نَعْلَمُ رَوَى أَبُو عَوْنٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، غَيْرَ (1) هَذَا الْحَدِيثِ (2) .
ثُمَّ كَرَّرَ الْإِخْبَارَ بِعِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَبَصَرِهِ بِأَعْمَالِ الْمَخْلُوقَاتِ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
آخِرُ تَفْسِيرِ الحجرات، ولله الحمد والمنة
__________
(1) في أ: "سوى".
(2) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11519) من طريق يحيى بن سعيد الأموي به.(7/391)
تَفْسِيرُ سُورَةِ ق
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ أَوَّلُ الْحِزْبِ الْمُفَصَّلِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: مِنَ الْحُجُرَاتِ. وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ الْعَامَّةُ (1) : إِنَّهُ مِنْ (عَمّ) فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ (2) فِيمَا نَعْلَمُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ هِيَ أَوَّلُ الْمُفَصَّلِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، بَابُ "تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ" ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنَا مُسَدَّد، حَدَّثَنَا قُرَّان بْنُ تَمَّامٍ، (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ حِبَّانَ -وَهَذَا لَفْظُهُ-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْلَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ جَدِّهِ -قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنِيهِ أَوْسُ بْنُ حُذَيْفَةَ-ثُمَّ اتَّفَقَا. قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، قَالَ: فَنَزَلَتِ الْأَحْلَافُ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَأَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي مَالِكٍ فِي قُبة لَهُ -قَالَ مسَدَّد: وَكَانَ فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَقِيفٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (3) كُلَّ لَيْلَةٍ يَأْتِينَا بَعْدَ الْعَشَاءِ يُحَدِّثُنَا -قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ حَتَّى يُرَاوِحَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ-فَأَكْثَرُ مَا يُحَدِّثُنَا مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ يَقُولُ: لَا سَوَاءَ (4) وَكُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ مُسْتَذَلِّينَ -قَالَ مُسدَّد: بِمَكَّةَ-فَلَمَّا خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ سِجَالُ الْحَرْبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، نُدَالُ عَلَيْهِمْ وَيُدَالُونَ عَلَيْنَا. فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةٌ أَبْطَأَ (5) عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَأْتِينَا فِيهِ، فَقُلْنَا: لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَنَّا (6) اللَّيْلَةَ! قَالَ: "إِنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَجِيءَ حَتَّى أُتِمَّهُ". قَالَ أَوْسٌ: سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟ فَقَالُوا: ثَلَاثٌ، وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ، بِهِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هُوَ ابْنُ (7) يَعْلَى الطَّائِفِيُّ بِهِ (8) .
إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَإِذَا عَدَدْتَ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ سُورَةً، فَالَّتِي بَعْدَهُنَّ سُورَةُ "ق". بَيَانُهُ: ثَلَاثٌ: الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ. وَخَمْسٌ: الْمَائِدَةُ، وَالْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ، وَالْأَنْفَالُ، وَبَرَاءَةُ. وَسَبْعٌ: يُونُسُ، وَهُودٌ، وَيُوسُفُ، وَالرَّعْدُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالْحِجْرُ، وَالنَّحْلُ. وَتِسْعٌ: سُبْحَانَ، وَالْكَهْفُ، وَمَرْيَمُ، وَطَهَ، وَالْأَنْبِيَاءُ، وَالْحَجُّ، وَالْمُؤْمِنُونَ، وَالنُّورُ، وَالْفُرْقَانُ. وَإِحْدَى عَشْرَةَ: الشُّعَرَاءُ، وَالنَّمْلُ، وَالْقَصَصُ، وَالْعَنْكَبُوتُ، وَالرُّومُ، ولقمان، والم، السَّجْدَةِ، وَالْأَحْزَابُ، وَسَبَأٌ، وَفَاطِرٌ، وَيس. وَثَلَاثَ عشرة: الصافات، وص، والزمر، وغافر، وحم، السجدة، وحم عسق، والزخرف، والدخان، والجاثية،
__________
(1) في م، أ: "العوام".
(2) في أ: "المفسرين".
(3) زيادة من م، أ.
(4) في م، أ: "لا أساء".
(5) في م: "أبطأ علينا".
(6) في أ: "علينا".
(7) في أ: "أبو".
(8) سنن أبي داود برقم (1393) وسنن ابن ماجه برقم (1345) ، والمسند (4/9) .(7/392)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
وَالْأَحْقَافُ، وَالْقِتَالُ، وَالْفَتْحُ، وَالْحُجُرَاتُ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْحِزْبُ الْمُفَصَّلُ كَمَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَهُ سُورَةُ "ق" وَهُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ (1) ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ضَمْرة بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيد اللَّهِ (2) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فِي الْعِيدِ؟ قَالَ: بِقَافٍ، وَاقْتَرَبَتْ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، بِهِ (3) . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ فُلَيْحٍ (4) عَنْ ضَمْرَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (5) ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ قَالَ: سَأَلَنِي عُمَرُ، فَذَكَرَهُ (6) .
حَدِيثٌ آخَرُ: وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ (7) بْنِ زُرَارة، عَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ تَنُّورنا وَتَنُّورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا سَنَتَيْنِ، أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ، وَمَا أَخَذْتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إِلَّا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ [أَيْضًا] (8) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، بِهِ (9) .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن خُبَيْبٍ (10) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنٍ، عَنِ ابْنَةِ الْحَارِثِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: مَا حَفِظْتُ "ق" إِلَّا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَخْطُبُ بِهَا كُلَّ جُمُعَةٍ. قَالَتْ: وَكَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا.
وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، بِهِ (11) .
وَالْقَصْدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي الْمَجَامِعِ الْكِبَارِ، كَالْعِيدِ وَالْجُمَعِ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالْمَعَادِ وَالْقِيَامِ، وَالْحِسَابِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) }
__________
(1) في أ: "قدمناه".
(2) في م: "عبد الله".
(3) المسند (5/217) وصحيح مسلم برقم (891) ، وسنن أبي داود برقم (1154) وسنن الترمذي برقم (534) وسنن النسائي (3/183) وسنن ابن ماجه برقم (1282) .
(4) في م، أ: "مالك".
(5) في م: "عبد الله".
(6) صحيح مسلم برقم (891) .
(7) في م، أ: "أسعد".
(8) زيادة من م.
(9) المسند (6/435) وصحيح مسلم برقم (873) .
(10) في م، أ: "حبيب".
(11) سنن أبي داود برقم (1100) وصحيح مسلم برقم (873) وسنن النسائي (2/157) لكنه ليس من هذا الطريق.(7/393)
{ق} : حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ الْمَذْكُورَةِ (1) فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، كَقَوْلِهِ: (ص، ن، الم، حم، طس) وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ أَسْلَفْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا، فِي أَوَّلِ "سُورَةِ الْبَقَرَةِ" بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا {ق} : جَبَلٌ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَرْضِ، يُقَالُ لَهُ جَبَلُ قَافٍ. وَكَأَنَّ هَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-مِنْ خُرَافَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَخَذَهَا عَنْهُمْ بَعْضُ النَّاسِ، لَمَّا رَأَى مِنْ جَوَازِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ فِيمَا (2) لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ وَأَشْبَاهَهُ مِنَ اخْتِلَاقِ بَعْضِ زَنَادِقَتِهِمْ، يُلَبِّسُونَ بِهِ عَلَى النَّاسِ أَمْرَ دِينِهِمْ، كَمَا افْتُرِيَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ -مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِ عُلَمَائِهَا وَحُفَّاظِهَا وَأَئِمَّتِهَا-أَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ، فَكَيْفَ بِأُمَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ طُولِ الْمَدَى، وَقِلَّةِ الْحُفَّاظِ النُّقَّادِ فِيهِمْ، وَشُرْبِهِمُ الْخُمُورَ (3) ، وَتَحْرِيفِ عُلَمَائِهِمُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَتَبْدِيلِ كُتُبِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ! وَإِنَّمَا أَبَاحَ الشَّارِعُ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: "وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا حَرَجَ" فِيمَا قَدْ يُجَوِّزُهُ الْعَقْلُ، فَأَمَّا فِيمَا تُحيله الْعُقُولُ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْبُطْلَانِ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظُّنُونِ كَذِبُهُ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَكْثَرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَذَا طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْخَلَفِ، مِنَ الْحِكَايَةِ عَنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَلَيْسَ بِهِمُ احْتِيَاجٌ إِلَى أَخْبَارِهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، حَتَّى إِنَّ الْإِمَامَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَوْرَدَ هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ: حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الْأَرْضِ بَحْرًا مُحِيطًا، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ "ق" السَّمَاءُ الدُّنْيَا مَرْفُوعَةٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ الْجَبَلِ أَرْضًا مِثْلَ تِلْكَ الْأَرْضِ سَبْعَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ خَلَقَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ بَحْرًا مُحِيطًا بِهَا، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ "ق" السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ مَرْفُوعَةٌ عَلَيْهِ، حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرْضِينَ، وَسَبْعَةَ أَبْحُرٍ، وَسَبْعَةَ أجبل، وسبع سموات. قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لُقْمَانَ: 27] .
فَإِسْنَادُ هَذَا الْأَثَرِ فِيهِ انْقِطَاعٌ، وَالَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {ق} قَالَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَالَّذِي ثَبَتَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ، كَقَوْلِهِ: (ص، ن، حم، طس، الم) وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ تُبْعِد مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ "قضِي الْأَمْرُ واللهِ"، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {ق} دَلَّتْ عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنْ بقية الكلم (4) كقول
__________
(1) في م: "الذي تقدم ذكرها".
(2) في م: "مما".
(3) في أ: "الخمر".
(4) في م، أ: "الكلمة".(7/394)
الشاعر: قلت لها: قفي فقلت: قَافْ ...
وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْحَذْفَ فِي الْكَلَامِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَيْنَ يُفْهَمُ هَذَا مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْحَرْفِ؟.
وَقَوْلُهُ: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} أَيِ: الْكَرِيمُ الْعَظِيمُ الذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ مَا هُوَ؟ فَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ أَنَّهُ قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}
وَفِي هَذَا نَظَرٌ، بَلِ الْجَوَابُ هُوَ مَضْمُونُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقَسَمِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ، وَإِثْبَاتُ الْمَعَادِ، وَتَقْرِيرُهُ وَتَحْقِيقُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَسَمُ مُتَلَقًّى لَفْظًا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَقْسَامِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 1، 2] ، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} أَيْ: تَعَجَّبُوا مِنْ إِرْسَالِ رَسُولٍ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَشَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [يُونُسَ: 2] أَيْ: وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ؛ فَإِنَّ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ.
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ فِي عَجَبِهِمْ أَيْضًا مِنَ الْمَعَادِ وَاسْتِبْعَادِهِمْ لِوُقُوعِهِ: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أَيْ: يَقُولُونَ: أَإِذَا مِتْنَا وَبَلِينَا، وَتَقَطَّعَتِ الْأَوْصَالُ مِنَّا، وَصِرْنَا تُرَابًا، كَيْفَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ؟ {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أَيْ: بَعِيدُ الْوُقُوعِ، وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اسْتِحَالَتَهُ وَعَدَمَ إِمْكَانِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ} أَيْ: مَا تَأْكُلُ مِنْ أَجْسَادِهِمْ فِي الْبِلَى، نَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى عَلَيْنَا أَيْنَ تَفَرَّقَتِ الْأَبْدَانُ؟ وَأَيْنَ ذَهَبَتْ؟ وَإِلَى أَيْنَ صَارَتْ؟ {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} أَيْ: حَافِظٌ لِذَلِكَ، فَالْعِلْمُ شَامِلٌ، وَالْكِتَابُ أَيْضًا فِيهِ كُلُّ الْأَشْيَاءِ مَضْبُوطَةٌ.
قَالَ العوْفِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ} أَيْ: مَا تَأْكُلُ مِنْ لُحُومِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ، وَعِظَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى سَبَبَ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَاسْتِبْعَادِهِمْ مَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ فَقَالَ: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أَيْ: وَهَذَا حَالُ كُلِّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ، مَهْمَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَالْمَرِيجُ: الْمُخْتَلِفُ الْمُضْطَرِبُ الْمُلْتَبِسُ الْمُنْكَرُ خِلَالَهُ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذَّارِيَاتِ: 8، 9] .(7/395)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) }
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا لِلْعِبَادِ عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَظْهَرَ بِهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا تَعَجَّبُوا مُسْتَبْعِدِينَ لِوُقُوعِهِ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} ؟ أَيْ: بِالْمَصَابِيحِ، {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} . قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي مِنْ شُقُوقٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فُتُوقٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مِنْ صُدُوعٍ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الْمُلْكِ: 3، 4] أَيْ: كَلِيلٌ، أَيْ: عَنْ أَنْ يَرَى عَيْبًا أَوْ نَقْصًا.
وَقَوْلُهُ: {وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا} أَيْ: وَسِعْنَاهَا وَفَرَشْنَاهَا، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} وَهِيَ: الْجِبَالُ؛ لِئَلَّا تَمِيدَ بِأَهْلِهَا وَتَضْطَرِبَ؛ فَإِنَّهَا مُقَرة عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ الْمُحِيطِ بِهَا مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أَيْ: مِنْ جَمِيعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَنْوَاعِ، {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذَّارِيَاتِ: 49] ، وَقَوْلُهُ: {بَهِيجٍ} أَيْ: حَسَنٍ نَضِرٍ.
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أَيْ: ومشاهدة خلق السموات [وَالْأَرْضِ] (1) وَمَا جَعَلَ [اللَّهُ] (2) فِيهِمَا مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ تَبْصِرَةٌ وَدَلَالَةٌ وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، أَيْ: خَاضِعٍ خَائِفٍ وَجِلٍ رَجَّاع إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} أَيْ: نَافِعًا، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} أَيْ: حَدَائِقَ مِنْ بَسَاتِينَ وَنَحْوِهَا، {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وَهُوَ: الزَّرْعُ الَّذِي يُرَادُ لِحَبِّهِ وَادِّخَارِهِ.
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} أَيْ: طِوَالًا شَاهِقَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ: الْبَاسِقَاتُ الطِّوَالُ. {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} أَيْ: مَنْضُودٌ. {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} أَيْ: لِلْخَلْقِ، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} وَهِيَ: الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ هَامِدَةً، فَلَمَّا نَزَلَ عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زَوْجٍ بَهِيجٍ، مِنْ أَزَاهِيرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا يَحَارُ الطَّرْفُ فِي (3) حُسْنِهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا كَانَتْ لَا نَبَاتَ بِهَا، فَأَصْبَحَتْ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ، فَهَذَا مِثَالٌ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ، كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى. وَهَذَا الْمُشَاهَدُ مِنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِالْحِسِّ أَعْظَمُ مِمَّا أَنْكَرَهُ الْجَاحِدُونَ لِلْبَعْثِ (4) كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غَافِرٍ: 57] ، وَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْأَحْقَافِ: 33] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً (5) فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] .
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في م: "من".
(4) في م، أ: "البعث".
(5) في م: "هامدة" وهو خطأ.(7/396)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) }
يَقُولُ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا لِكَفَّارِ قُرَيْشٍ بِمَا أَحَلَّهُ بِأَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ، مِنَ النَّقَمَاتِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الدُّنْيَا، كَقَوْمِ نُوحٍ وَمَا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْغَرَقِ الْعَامِّ (1) لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَصْحَابِ الرَّسِّ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُمْ فِي سُورَةِ "الْفُرْقَانِ" (2) {وَثَمُودُ. وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ} ، وَهُمْ أُمَّتُهُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ سَدُومَ وَمُعَامَلَتُهَا مِنَ الْغَوْرِ، وَكَيْفَ خَسَفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، وَأَحَالَ أَرْضَهُمْ بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً خَبِيثَةً؛ بِكُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمُ الْحَقَّ.
{وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ} وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {وَقَوْمُ تُبَّعٍ} وَهُوَ الْيَمَانِيُّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ شَأْنِهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ مَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أَيْ: كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ وَهَؤُلَاءِ الْقُرُونِ كَذَّبَ رَسُولَهُ (3) ، وَمَنْ كَذَّبَ رَسُولًا (4) فَكَأَنَّمَا كَذَّبَ جَمِيعَ الرُّسُلِ، كَقَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 105] ، وَإِنَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ وَاحِدٌ، فَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَوْ جَاءَهُمْ جَمِيعُ الرُّسُلِ كَذَّبُوهُمْ، {فَحَقَّ وَعِيدِ} أَيْ: فَحَقَّ عَلَيْهِمْ مَا أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ، عَلَى التَّكْذِيبِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ فَلْيَحْذَرِ الْمُخَاطَبُونَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ كَمَا كَذَّبَ أُولَئِكَ.
وَقَوْلُهُ: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ} أَيْ: أَفَأَعْجَزَنَا (5) ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ حَتَّى هُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْإِعَادَةِ، {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وَالْمَعْنَى: أَنَّ ابْتِدَاءَ الْخَلْقِ لَمْ يُعْجِزْنَا وَالْإِعَادَةُ أَسْهَلُ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ: 27] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78-79] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَقُولُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بأهون علي من إعادته" (6) .
__________
(1) في م: "العظيم".
(2) تقدم ذلك في سورة الفرقان عند الآية رقم (38) .
(3) في أ: "رسولهم".
(4) في م: "برسول".
(5) في م: "فأعجزنا".
(6) صحيح البخاري برقم (4974) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(7/397)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) }(7/397)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ خَالِقُهُ، وَعَمَلُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أُمُورِهِ، حَتَّى إِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نُفُوسُ بَنِي آدَمَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ (1) تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَقُلْ أَوْ تَعْمَلْ" (2) .
وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} يَعْنِي: مَلَائِكَتُهُ تَعَالَى أقربُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ (3) إِلَيْهِ. وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْعِلْمِ فَإِنَّمَا فَرَّ لِئَلَّا يَلْزَمَ حُلُولٌ أَوِ اتِّحَادٌ، وَهُمَا مَنْفَيَّانِ بِالْإِجْمَاعِ، تَعَالَى اللَّهُ وَتَقَدَّسَ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقِلْ: وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَإِنَّمَا قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} كَمَا قَالَ فِي الْمُحْتَضِرِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 85] ، يَعْنِي مَلَائِكَتَهُ. وَكَمَا قَالَ [تَعَالَى] (4) : {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] ، فَالْمَلَائِكَةُ نَزَلَتْ بِالذِّكْرِ -وَهُوَ الْقُرْآنُ-بِإِذْنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَلِكَ (5) الْمَلَائِكَةُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ إِلَيْهِ بِإِقْدَارِ (6) اللَّهِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فالملك لَمّة فِي الْإِنْسَانِ كَمَا أَنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً وَكَذَلِكَ: "الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ"، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} يَعْنِي: الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ يَكْتُبَانِ عَمَلَ الْإِنْسَانِ. {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} أَيْ: مُتَرَصِّدٌ (7) .
{مَا يَلْفِظُ} أَيِ: ابْنُ آدَمَ {مِنْ قَوْلٍ} أَيْ: مَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ (8) {إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أَيْ: إِلَّا وَلَهَا مَنْ يُرَاقِبُهَا مُعْتَدٍ (9) لِذَلِكَ يَكْتُبُهَا، لَا يَتْرُكُ كَلِمَةً وَلَا حَرَكَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الِانْفِطَارِ: 10 -12] .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يَكْتُبُ الْمَلَكُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ؟ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وقَتَادَةَ، أَوْ إِنَّمَا يَكْتُبُ مَا فِيهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَلَى قَوْلَيْنِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَوَّلُ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ اللَّيْثِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ، عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ (10) . وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا (11) سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ". قَالَ: فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ (12) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ
__________
(1) في أ: "إن الله تعالى".
(2) صحيح البخاري برقم (5269) وصحيح مسلم برقم (127) .
(3) في أ: "الوريد".
(4) زيادة من م، أ.
(5) في أ: "ولذلك".
(6) في م: "باقتدار".
(7) في م: "مرصد".
(8) في م: "بكلام".
(9) في م: "معد".
(10) في أ: "القيامة".
(11) في م: "له بها عليه".
(12) المسند (3/469) وسنن الترمذي برقم (2319) والنسائي في السنن الكبرى، كما في تحفة الأشراف (2/103) وسنن ابن ماجه برقم (3969) .(7/398)
صَحِيحٌ. وَلَهُ شَاهِدٌ (1) فِي الصَّحِيحِ (2) .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: صَاحِبُ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْخَيْرَ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ، فَإِنْ أَصَابَ الْعَبْدُ خَطِيئَةً قَالَ لَهُ: أَمْسِكْ، فَإِنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى نَهَاهُ أَنْ يَكْتُبَهَا، وَإِنْ أَبَى كَتَبَهَا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} : يا ابن آدَمَ، بُسطت لَكَ صَحِيفَةٌ، وَوَكَلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ، فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَسَارِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ فَاعْمَلْ (3) مَا شِئْتَ، أَقْلِلْ أَوْ أَكْثِرْ حَتَّى إِذَا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ، وَجُعِلَتْ فِي عُنُقِكَ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ، حَتَّى تَخْرُجَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الْإِسْرَاءِ: 13، 14] ثُمَّ يَقُولُ: عَدَلَ -وَاللَّهِ-فِيكَ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} قَالَ: يَكْتُبُ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَكْتُبُ قَوْلَهُ: "أَكَلْتُ، شَرِبْتُ، ذَهَبْتُ، جِئْتُ، رَأَيْتُ"، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ عَرَضَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ، فَأَقَرَّ مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَأَلْقَى سَائِرَهُ، وَذَلِكَ قَوْلِهِ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرَّعْدِ: 39] ، وَذُكِرَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَئِنُّ فِي مَرَضِهِ، فَبَلَغَهُ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَكْتُبُ الْمَلَكُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْأَنِينَ. فَلَمْ يَئِنَّ أَحْمَدُ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ (4) .
وَقَوْلُهُ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} ، يَقُولُ تَعَالَى: وَجَاءَتْ -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ-سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، أَيْ: كَشَفَتْ لَكَ عَنِ الْيَقِينِ الَّذِي كُنْتَ تَمْتَرِي فِيهِ، {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أَيْ: هَذَا هُوَ الَّذِي كُنْتَ تَفِرُّ مِنْهُ قَدْ جَاءَكَ، فَلَا مَحِيدَ وَلَا مَنَاصَ، وَلَا فِكَاكَ وَلَا خَلَاصَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ. وَقِيلَ: الْكَافِرُ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ -سَبَلان-أَخْبَرَنَا عَبَّاد بْنُ عَبَّاد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ (5) أَنَّ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: حَضَرْتُ أَبِي وَهُوَ يَمُوتُ، وَأَنَا جَالِسَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَأَخَذَتْهُ غشيةٌ فَتَمَثَّلْتُ بِبَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ:
مَنْ لَا يَزَالُ دَمْعُهُ مُقَنَّعا ... فإنه لا بد مرةً (6) مدقوق (7)
__________
(1) في أ: "شواهد".
(2) شاهده حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6478) .
(3) في أ: "فاملل".
(4) رواه صالح بن الإمام أحمد في سيرة أبيه.
(5) في أ: "أبي وقاص" وهو خطأ. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب.
(6) في أ: "من دمعه".
(7) البيت في النهاية لابن الأثير (4/115) وعنده: لا بد يوما أن يهراق.(7/399)
قَالَتْ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} .
وَحَدَّثَنَا (1) خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ؛ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ [الْخَيَّاطُ] (2) ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الْبَهِيِّ قَالَ: لَمَّا أَنْ ثَقُلَ أَبُو بَكْرٍ (3) ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، جَاءَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَتَمَثَّلَتْ بِهَذَا الْبَيْتِ:
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ (4)
فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ قَوْلِي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} وَقَدْ أَوْرَدْتُ لِهَذَا الْأَثَرِ طُرُقًا [كَثِيرَةً] (5) فِي سِيرَةِ الصِّدِّيقِ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا تَغَشَّاهُ الْمَوْتُ جَعَلَ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: "سُبْحَانَ اللَّهِ! إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ". وَفِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ "مَا" هَاهُنَا مَوْصُولَةٌ، أَيِ: الَّذِي كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ -بِمَعْنَى: تَبْتَعِدُ وَتَنْأَى وَتَفِرُّ-قَدْ حَلَّ بِكَ وَنَزَلَ بِسَاحَتِكَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ "مَا" نَافِيَةٌ بِمَعْنَى: ذَلِكَ مَا كُنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْفِرَارِ مِنْهُ وَلَا الْحَيْدِ عَنْهُ.
وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّائِغُ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْحُدَيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُحَمَّدٍ الهُذَلي، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ سَمُرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الَّذِي يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ مَثَلُ الثَّعْلَبِ، تَطْلُبُهُ الْأَرْضُ بدَيْن، فَجَاءَ يَسْعَى حَتَّى إِذَا أَعْيَى وَأَسْهَرَ دَخَلَ جُحْرَهُ، فَقَالَتْ لَهُ الْأَرْضُ: يَا ثَعْلَبُ، دَيْنِي. فَخَرَجَ وَلَهُ حِصَاصٌ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى تَقَطَّعَتْ عُنُقُهُ وَمَاتَ" (6) .
وَمَضْمُونُ هَذَا الْمَثَلِ: كَمَا لَا انْفِكَاكَ لَهُ وَلَا مَحِيدَ عَنِ الْأَرْضِ كَذَلِكَ الْإِنْسَانُ لَا مَحِيدَ لَهُ عَنِ الْمَوْتِ.
وَقَوْلُهُ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} . قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ النَّفْخِ فِي الصُّوَرِ وَالْفَزَعِ وَالصَّعْقِ وَالْبَعْثِ (7) ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ، وَانْتَظَرَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: "قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ". فَقَالَ الْقَوْمُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل.
__________
(1) في أ: "وحديث".
(2) زيادة من م، أ.
(3) في م: "أبا بكر".
(4) البيت لحاتم الطائي وهو في ديوانه ص (50) أ. هـ مستفادا من طبعة الشعب.
(5) زيادة من م، أ.
(6) المعجم الكبير (7/222) وقال الهيثمي في المجمع (2/320) : "فيه معاذ بن محمد الهذلي، قال العقيلي: لا يتابع على رفع حديثه".
(7) في م: "للفزع وللصعق وللبعث".(7/400)
{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} أَيْ: مَلَكٌ يَسُوقُهُ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَمَلَكٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِ. هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، ثُمَّ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ يَحْيَى بْنِ رَافِعٍ -مَوْلًى لِثَقِيفٍ-قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَخْطُبُ (1) ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} ، فَقَالَ: سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى اللَّهِ، وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا عَمِلَتْ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ.
وَقَالَ مُطَرِّف، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ -مَوْلَى أَشْجَعَ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: السَّائِقُ: الْمَلَكُ وَالشَّهِيدُ: الْعَمَلُ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: السَّائِقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالشَّهِيدُ: الْإِنْسَانُ نَفْسُهُ، يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ. وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزاحِم أَيْضًا.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْكَافِرُ. رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ يَقُولُ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ؛ لِأَنَّ الْآخِرَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدُّنْيَا كَالْيَقِظَةِ وَالدُّنْيَا كَالْمَنَامِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَنَقَلَهُ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِهِ يَقُولُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُهُ. وَالْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِمَا: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ (2) قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْكَ، فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ بِإِنْزَالِهِ إِلَيْكَ، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.
وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ خِلَافُ هَذَا، بَلِ الْخِطَابُ مَعَ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} يَعْنِي: مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أَيْ: قَوِيٌّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ مُسْتَبْصِرًا، حَتَّى الْكُفَّارُ فِي الدُّنْيَا يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، لَكِنْ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مَرْيَمَ: 38] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السَّجْدَةِ: 12] .
__________
(1) في م: "خطب".
(2) في أ: "القرآن".(7/401)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (29) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِعَمَلِ ابْنِ آدَمَ: أَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا فَعَلَ (1) وَيَقُولُ: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أَيْ: مُعْتَدٍ (2) مُحْضَرٌ (3) بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا كَلَامُ الْمَلَكِ السَّائِقِ يَقُولُ: هَذَا ابْنُ آدَمَ الَّذِي وَكَّلْتَنِي بِهِ، قَدْ أَحْضَرْتُهُ.
وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنْ يَعُمَّ السَّائِقَ وَالشَّهِيدَ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ وَقُوَّةٌ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْكُمُ اللَّهُ، سُبْحَانَهُ تَعَالَى، فِي الْخَلِيقَةِ بِالْعَدْلِ فَيَقُولُ: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}
وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي قَوْلِهِ: {أَلْقِيَا} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ يُخَاطِبُونَ الْمُفْرَدَ بِالتَّثْنِيَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَا حَرَسِيُّ، اضْرِبَا عُنُقَهُ، وَمِمَّا أَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى هَذِهِ اللغة قول الشاعر:
فإن تزجراني -يا ابن عَفَّانَ-أَنْزَجِرْ ... وَإِنْ تَتْرُكَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعًا (4)
وَقِيلَ: بَلْ هِيَ نُونُ التَّأْكِيدِ، سُهِّلَتْ إِلَى الْأَلْفِ. وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْوَقْفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ مَعَ السَّائِقِ وَالشَّهِيدِ، فَالسَّائِقُ أَحْضَرَهُ إِلَى عَرْصَةِ الْحِسَابِ، فَلَمَّا أَدَّى الشَّهِيدُ عَلَيْهِ، أَمَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِإِلْقَائِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} أَيْ: كَثِيرُ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، {عَنِيدٌ} : مُعَانِدٌ لِلْحَقِّ، مُعَارِضٌ لَهُ بِالْبَاطِلِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ. {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أَيْ: لَا يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ، وَلَا بِرَّ فِيهِ وَلَا صِلَةَ وَلَا صَدَقَةَ، {مُعْتَدٍ} أَيْ: فِيمَا يُنْفِقُهُ وَيَصْرِفُهُ، يَتَجَاوَزُ فِيهِ الْحَدَّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مُعْتَدٍ فِي مَنْطِقِهِ وَسِيرَتِهِ وَأَمْرِهِ.
{مُرِيبٍ} أَيْ: شَاكٌّ فِي أَمْرِهِ، مُرِيبٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ.
{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أَيْ: أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ عُنُقًا مِنَ النَّارِ يَبْرُزُ لِلْخَلَائِقِ فَيُنَادِي بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، بِكُلِّ جَبَّارٍ، وَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِالْمُصَوِّرِينَ ثُمَّ تُلْوَى (5) عَلَيْهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ -هُوَ ابْنُ هِشَامٍ-حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ فِراس عَنْ عَطِيَّةَ (6) ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَتَكَلَّمُ، يَقُولُ: وُكِّلْتُ الْيَوْمَ بِثَلَاثَةٍ:
__________
(1) في أ: "بما عمل".
(2) في م، أ: "معد".
(3) في أ: "محص".
(4) تفسير الطبري (26/103) .
(5) في م، أ: "تنطوي".
(6) في م: "حدثنا شيبان هو ابن هشام عن فراس عن عطية".(7/402)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
بِكُلِّ جَبَّارٍ، وَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ (1) . فَتَنْطَوِي عَلَيْهِمْ، فَتَقْذِفُهُمْ فِي غَمَرَاتِ جَهَنَّمَ" (2) .
{قَالَ قَرِينُهُ} : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ: هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} أَيْ: يَقُولُ عَنِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَدْ وَافَى الْقِيَامَةَ كَافِرًا، يَتَبَرَّأُ مِنْهُ شَيْطَانُهُ، فَيَقُولُ: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} أَيْ: مَا أَضْلَلْتُهُ، {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أَيْ: بَلْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ ضَالًّا قَابِلًا لِلْبَاطِلِ مُعَانِدًا لِلْحَقِّ. كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إِبْرَاهِيمَ: 22] .
وَقَوْلُهُ: {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} يَقُولُ (3) الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ لِلْإِنْسِيِّ وَقَرِينِهِ مِنَ الْجِنِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا يَخْتَصِمَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَقِّ فَيَقُولُ الْإِنْسِيُّ: يَا رَبِّ، هَذَا أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي. وَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أَيْ: عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ. فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} أَيْ: عِنْدِي، {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} أَيْ: قَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَأَنْزَلْتُ الْكُتُبَ، وَقَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَجُ وَالْبَيِّنَاتُ وَالْبَرَاهِينُ.
{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي قَدْ قَضَيْتُ مَا أَنَا قَاضٍ، {وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} أَيْ: لَسْتُ أُعَذِّبُ أَحَدًا بِذَنْبِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ لَا أُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بِذَنْبِهِ، بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ.
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) }
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَقُولُ لِجَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هَلِ امْتَلَأْتِ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ وَعَدَهَا أَنْ سَيَمْلَؤُهَا مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ بِمَنْ (4) يَأْمُرُ بِهِ إِلَيْهَا، وَيُلْقَى وَهِيَ تَقُولُ: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} أَيْ: هَلْ بَقِيَ شَيْءٌ تَزِيدُونِي؟ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَعَلَيْهِ تَدَلُّ الْأَحَادِيثُ:
قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا حَرَمي بْنُ عُمَارة حَدَّثَنَا شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُلقَى فِي النَّارِ، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ قدمه فيها، فتقول قط قط" (5) .
__________
(1) في م: "حق".
(2) المسند (3/40) .
(3) في م: "يقوله".
(4) في م: "من".
(5) صحيح البخاري برقم (4848) .(7/403)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يَلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطُّ قَطُّ، وَعِزَّتِكَ وكَرَمِك وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ فَيُسْكِنُهُمْ فِي فُضُولِ (1) الْجَنَّةِ" (2) .
ثُمَّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، بِنَحْوِهِ (3) . وَرَوَاهُ أَبَانُ الْعَطَّارُ وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، بِنَحْوِهِ (4) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (5) الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيُّ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَوْف، عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَفَعَهُ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يُوقِفُهُ أَبُو سُفْيَانَ-: "يُقَالُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلَأْتِ، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، فَيَضَعُ الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدَمَهُ عَلَيْهَا (6) ، فَتَقُولُ: قَطُّ قَطُّ" (7) .
رَوَاهُ أَيُّوبُ وَهُشَامُ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، بِهِ (8) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ (9) الْبُخَارِيُّ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ (10) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ. وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقْطُهُمْ. قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي، أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي. وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي، أُعَذِّبُ بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ، فَتَقُولَ: قَطٍ قَطٍ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيَزْوِي (11) بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ" (12) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (13) مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: فيَّ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ. وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فيَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ. فَقَضَى بَيْنَهُمَا، فَقَالَ لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي، أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي. وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أنت عذابي، أعذب بك من
__________
(1) في أ: "فضل".
(2) المسند (3/234) .
(3) صحيح مسلم برقم (4848) .
(4) أخرجه الطبري في تفسيره (26/106) .
(5) في م: "وقال".
(6) في م: "عليها قدمه".
(7) صحيح البخاري برقم (4849) .
(8) رواه احمد في مسنده (2/507) من طريق هشام بن حسان به. ورواه الطبري في تفسيره (26/107) من طريق أيوب وهشام بن حسان به.
(9) في م: "وقال".
(10) في م: "همام بن منبه".
(11) في أ: "ينزوي".
(12) صحيح البخاري برقم (4850) .
(13) في م: "وقال".(7/404)
أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا" انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ (1) مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَاللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فَقَالَ:
حَدَّثَنَا حَسَنٌ وَرَوْحٌ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "افْتَخَرَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: يَا رَبِّ، يَدْخُلُنِي الْجَبَابِرَةُ وَالْمُتَكَبِّرُونَ وَالْمُلُوكُ وَالْأَشْرَافُ. وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: أَيْ رَبِّ، يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ. فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي، أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ. وَقَالَ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي، وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، فَيُلْقَى فِي النَّارِ أَهْلُهَا فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ قَالَ: وَيُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ وَيُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَأْتِيَهَا (2) عَزَّ وَجَلَّ، فَيَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهَا، فَتُزْوَى وَتَقُولُ: قَدِنِي، قَدِنِي. وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَيَبْقَى فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْقَى، فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا مَا يَشَاءُ" (3) .
حَدِيثٌ آخَرُ: وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَم، حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ عُدي بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْش، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُعَرِّفُنِي اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، نَفْسَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَسْجُدُ سَجْدَةً يَرْضَى بِهَا عَنِّي، ثُمَّ أَمْدَحُهُ مِدْحَةً يَرْضَى بِهَا عَنِّي، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ تَمُرُّ أُمَّتِي عَلَى الصِّرَاطِ -مَضْرُوبٍ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ-فَيَمُرُّونَ أَسْرَعَ مِنَ الطَّرْفِ وَالسَّهْمِ، وَأَسْرَعَ مِنْ أَجْوَدِ الْخَيْلِ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ مِنْهَا يَحْبُو، وَهِيَ الْأَعْمَالُ. وَجَهَنَّمُ تَسْأَلُ الْمَزِيدَ، حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطُّ قَطُّ! وَأَنَا عَلَى الْحَوْضِ". قِيلَ: وَمَا الْحَوْضُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ شَرَابَهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ. وَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ، لَا يَشْرَبُ مِنْهُ إِنْسَانٌ فَيَظْمَأُ أَبَدًا، وَلَا يُصْرَفُ فَيَرْوَى أَبَدًا" (4) . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الحمَّاني (5) عَنْ نَضْرٍ الْخَزَّازِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} قَالَ: مَا امْتَلَأَتْ، قَالَ: تَقُولُ: وَهَلْ فِيَّ مِنْ مَكَانٍ يُزَادُ فِيَّ.
وَكَذَا رَوَى الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} : وهل في مدخل واحد، قد
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2847) .
(2) في م: "يأتيها ربها".
(3) المسند (3/13) .
(4) ورواه ابن أبي عاصم في السنة برقم (790) من طريق عقبة بن مكرم به.
وقال الألباني: "إسناده موضوع آفته عبد الغفار بن القاسم، وهو أبو مريم الأنصاري كان يضع الحديث كما قال ابن المديني وأبو داود".
(5) في م: "الحمان".(7/405)
امْتَلَأْتُ.
[وَ] (1) قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: لَا يَزَالُ يُقْذَفُ فِيهَا حَتَّى تَقُولَ: قَدِ امْتَلَأْتُ فَتَقُولُ: هَلْ [فيَّ] (2) مِنْ مَزِيدٍ؟ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَ هَذَا.
فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {هَلِ امْتَلأتِ} ، إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ مَا يَضَعُ عَلَيْهَا قَدَمَهُ، فَتَنْزَوِي وَتَقُولُ حِينَئِذٍ: هَلْ بَقِيَ فِيَّ [مِنْ] (3) مَزِيدٍ؟ يَسَعُ شَيْئًا.
قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ حِينَ لَا يَبْقَى فِيهَا مَوْضِعٌ [يَسَعُ] (4) إِبْرَةً. فَاللَّهُ (5) أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} : قَالَ قَتَادَةُ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَالسُّدِّيُّ: {أُزْلِفَتِ} أُدْنِيَتْ وَقُرِّبَتْ مِنَ الْمُتَّقِينَ، {غَيْرَ بَعِيدٍ} وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ.
{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ} (6) أَيْ: رَجَّاعٌ تَائِبٌ مُقْلِعٌ، {حَفِيظٍ} أَيْ: يَحْفَظُ الْعَهْدَ فَلَا يَنْقُضُهُ وَ [لَا] (7) يَنْكُثُهُ.
وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: الْأَوَّابُ: الْحَفِيظُ الَّذِي لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا [فَيَقُومُ] (8) حَتَّى يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ.
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} أَيْ: مَنْ خَافَ اللَّهَ فِي سِرِّهِ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ. كَقَوْلِهِ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (9) وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".
{وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} أَيْ: وَلَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ مُنِيبٍ إِلَيْهِ خَاضِعٍ لَدَيْهِ.
{ادْخُلُوهَا} أَيِ: الْجَنَّةَ {بِسَلامٍ} ، قَالَ قَتَادَةُ: سَلِمُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} أَيْ: يَخْلُدُونَ فِي الْجَنَّةِ فَلَا يَمُوتُونَ أَبَدًا، وَلَا يَظْعَنُونَ أَبَدًا، وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا.
وَقَوْلُهُ: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} أَيْ: مَهْمَا اخْتَارُوا وَجَدُوا مِنْ أَيِّ أَصْنَافِ الْمَلَاذِّ طَلَبُوا أُحْضِرَ لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا بَقِيَّة، عَنْ بَحِير (10) بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدان، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّة قَالَ: مِنَ الْمَزِيدِ أَنَّ تَمُرَّ السَّحَابَةُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَتَقُولَ: مَاذَا تُرِيدُونَ فَأُمْطِرُهُ لَكُمْ؟ فَلَا يَدْعُونَ بِشَيْءٍ إِلَّا أَمْطَرَتْهُمْ. قَالَ كُثَيِّرٌ: لَئِنْ أَشْهَدَنِي اللَّهُ ذَلِكَ لَأَقُولَنَّ: أَمْطِرِينَا جواري مزينات.
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من م، أ.
(5) في م: "والله".
(6) في أ: (أواب حفيظ) .
(7) زيادة من م.
(8) زيادة من م، أ.
(9) زيادة من م، أ.
(10) في م: "يحيى".(7/406)
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "إِنَّكَ لَتَشْتَهِي الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْوِيًّا" (1) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ (2) ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا اشْتَهَى الْمُؤْمِنُ الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ، كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وسِنّه فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ بُنْدار، عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ، بِهِ (3) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَزَادَ "كَمَا يَشْتَهِي".
وَقَوْلُهُ: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يُونُسَ: 26] . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيب بْنِ سِنَانٍ الرُّومِيِّ: أَنَّهَا النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ. وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ الْقَاضِي، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ أَبِي الْيَقْظَانِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قَالَ: يَظْهَرُ لَهُمُ الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي كُلِّ جُمُعَةٍ (4) .
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ مَرْفُوعًا فَقَالَ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْأَزْهَرِ مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ (5) أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: أَتَى جِبْرَائِيلُ بِمِرْآةٍ بَيْضَاءَ فِيهَا نُكْتَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ (6) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا هَذِهِ؟ " فَقَالَ: هَذِهِ الْجُمُعَةُ، فُضّلتَ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ، فَالنَّاسُ لَكُمْ فِيهَا تَبَعٌ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَلَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ، وَلَكُمْ فِيهَا سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا مُؤْمِنٌ (7) يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، وَهُوَ عِنْدَنَا يَوْمُ الْمَزِيدِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا جِبْرِيلُ، وَمَا يَوْمُ الْمَزِيدِ؟ " قَالَ: إِنْ رَبَّكَ اتَّخَذَ فِي الْفِرْدَوْسِ وَادِيًا أَفْيَحَ فِيهِ كُثُبُ الْمِسْكِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ مَا شَاءَ (8) مِنْ مَلَائِكَتِهِ، وَحَوْلَهُ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، عَلَيْهَا مَقَاعِدُ النَّبِيِّينَ، وَحَفَّ تِلْكَ الْمَنَابِرَ بِمَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ، مُكَلَّلَةٍ بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، عَلَيْهَا الشُّهَدَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ (9) فَجَلَسُوا مِنْ وَرَائِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْكُثُبِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا رَبُّكُمْ، قَدْ صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي، فَسَلُونِي أُعْطِكُمْ. فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا، نَسْأَلُكَ رِضْوَانَكَ، فَيَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ عَنْكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مَا تَمَنَّيْتُمْ، وَلَدَيَّ مَزِيدٌ. فَهُمْ يُحِبُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَا يُعْطِيهِمْ فِيهِ رَبُّهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي اسْتَوَى فِيهِ رَبُّكُمْ عَلَى الْعَرْشِ، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة".
__________
(1) رواه الحسن بن عرفة في جزئه برقم (22) والبزار في مسنده برقم (3532) "كشف الأستار" وابن عدي في الكامل (6/689) من طريق خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنِ ابن مسعود مرفوعا به. وفيه حميد الأعرج، قال البخاري: منكر الحديث وقال ابن حبان: أحاديثه شبه الموضوعة.
(2) في م: "عن أبي بكر الصديق".
(3) المسند (3/9) وسنن الترمذي برقم (2563) وسنن ابن ماجة برقم (4338) .
(4) في أ: "جهة".
(5) في م: "عن عبيد الله بن عمير" وفي الأصل: "عبد الله عمير" والتصويب من الأم للشافعي.
(6) في م: "رسول الله".
(7) في أ: "لا يوافقها عبد مؤمن".
(8) في م: "ناسا".
(9) في أ: "الصالحون".(7/407)
[وَ] (1) هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ "الْجُمُعَةِ" مِنَ الْأُمِّ (2) ، وَلَهُ طُرُقٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَنَسٍ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا (3) وَذَكَرَ هَاهُنَا أَثَرًا مُطَوَّلًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَوْقُوفًا وَفِيهِ غَرَائِبُ كَثِيرَةٌ (4) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا دَراج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَنَّةِ لَيَتَّكِئُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ ثُمَّ تَأْتِيهِ امْرَأَةٌ فَتَضْرِبُ عَلَى مَنْكِبِهِ (5) فَيَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنَ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَيَرُدُّ السَّلَامَ، فَيَسْأَلُهَا: مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا مِنَ الْمَزِيدِ. وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةً، أَدْنَاهَا مِثْلُ النُّعْمَانِ، مِنْ طُوبَى، فَيَنْفُذُهَا بَصَرُهُ حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَإِنَّ عَلَيْهَا مِنَ التِّيجَانِ، إِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ مِنْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" (6) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الحارث، عن دراج، به (7) .
__________
(1) زيادة من م.
(2) الأم (1/185) .
(3) تفسير الطبري (26/109) .
(4) تفسير الطبري (26/109) .
(5) في أ: "منكبيه".
(6) المسند (3/75) وفيه: دراج عن أبي الهيثم، ضعيف.
(7) رواه الطبري في تفسيره (26/110) والكلام عليه كسابقه.(7/408)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) }
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ (1) : {مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا} أَيْ: كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً، وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَثَّرُوا فِيهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} : ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَسَارُوا فِي الْبِلَادِ، أَيْ سَارُوا فِيهَا يَبْتَغُونَ الْأَرْزَاقَ وَالْمَتَاجِرَ وَالْمَكَاسِبَ أَكْثَرَ مِمَّا طُفْتُمْ أَنْتُمْ فِيهَا وَيُقَالُ لِمَنْ طَوَّفَ فِي الْبِلَادِ: نَقَّبَ فِيهَا. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
لَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الْآفَاقِ حَتّى ... رضيتُ من الغَنِيمة بالإيَابِ (2)
__________
(1) في م، أ: "المكذبين".
(2) البيت في تفسير الطبري (26/110) .(7/408)
وَقَوْلُهُ: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ: هَلْ مِنْ مَفَرٍّ كَانَ لَهُمْ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ؟ وَهَلْ نَفَعَهُمْ مَا جَمَعُوهُ وَرَدَّ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ إِذْ جَاءَهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ؟ فَأَنْتُمْ أَيْضًا لَا مَفَرَّ لَكُمْ وَلَا مَحِيدَ وَلَا مَنَاصَ وَلَا مَحِيصَ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} أَيْ: لَعِبْرَةٌ {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أَيْ: لُبٌّ يَعِي بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَقْلٌ {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} أَيِ: اسْتَمَعَ الْكَلَامَ فَوَعَاهُ، وَتَعَقَّلَهُ بِقَلْبِهِ وَتَفَهَّمَهُ بِلُبِّهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} يَعْنِي: لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، {وَهُوَ شَهِيدٌ} وَقَالَ: شَاهِدٌ بِالْقَلْبِ (1) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَلْقَى فُلَانٌ سَمْعَهُ: إِذَا اسْتَمَعَ بِأُذُنَيْهِ وَهُوَ شَاهِدٌ يَقُولُ غَيْرُ غَائِبٍ. وَهَكَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} : فِيهِ تَقْرِيرُ الْمَعَادِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ وَلِمَ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتِ الْيَهُودُ -عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ-: خَلَقَ اللَّهُ السموات وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَهُمْ يُسَمُّونَهُ يَوْمَ الرَّاحَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَكْذِيبَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ وَتَأَوَّلُوهُ: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} أَيْ: مِنْ إِعْيَاءٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا تَعَبٍ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْأَحْقَافِ: 33] ، وَكَمَا قَالَ: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غَافِرٍ:57] وَقَالَ {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النَّازِعَاتِ: 27] .
وَقَوْلُهُ: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} يَعْنِي: الْمُكَذِّبِينَ، اصْبِرْ عَلَيْهِمْ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ ثِنْتَيْنِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أُمَّتِهِ حَوْلًا ثُمَّ نُسِخَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ وُجُوبُهُ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَلَكِنْ مِنْهُنَّ (2) صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، فَهُمَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ (3) ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: "أَمَا إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّكُمْ فَتَرَوْنَهُ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُونَ فِيهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا" ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}
__________
(1) في م: "القلب".
(2) في أ: "بينهن".
(3) في أ: "حاتم".(7/409)
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَبَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ، مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ، بِهِ (1) .
وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أَيْ: فَصَلِّ لَهُ، كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاءِ: 79] .
{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} قَالَ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ التَّسْبِيحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ (2) العُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ " قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ! قَالَ: "أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا إِذَا فَعَلْتُمُوهُ سَبَقْتُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُمْ؟ تُسَبِّحُونَ وَتُحَمِّدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ". قَالَ: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ (3) بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ. قَالَ: "ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ" (4) .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} هُمَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَابْنِهِ الْحَسَنِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَبِهِ يَقُولُ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِي وَالْحَسَنُ، وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَة، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى أَثَرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ رَكْعَتَيْنِ (5) إِلَّا الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، بِهِ (6) . زَادَ النَّسَائِيُّ: وَمُطَرِّفٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، بِهِ (7) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ رِشْدِينَ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، اللَّتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ: "يا ابن عَبَّاسٍ، رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِدْبَارَ النُّجُومِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ إِدْبَارَ السُّجُودِ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، بِهِ (8) . وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا
__________
(1) المسند (4/365) وصحيح البخاري برقم (4851) وصحيح مسلم برقم (633) وسنن أبي داود برقم (3729) وسنن الترمذي برقم (2551) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11330) وسنن ابن ماجه برقم (117) .
(2) في أ: "بالأجور".
(3) في أ: "الإيمان".
(4) صحيح البخاري برقم (6329) وصحيح مسلم برقم (595) .
(5) في م: "ركعتين مكتوبة".
(6) المسند (1/124) وسنن أبي داود برقم (1275) والنسائي في السنن الكبرى برقم (341) .
(7) النسائي في السنن الكبرى برقم (346) .
(8) سنن الترمذي برقم (3275) .(7/410)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّهُ بَاتَ فِي بَيْتِ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ وَصَلَّى تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ (1) وَغَيْرِهِمَا، فَأَمَّا هَذِهِ الزِّيَادَةُ فَغَرِيبَةٌ [وَ] (2) لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، ورِشْدِين بْنُ كُرَيْب ضَعِيفٌ، وَلَعَلَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَاسْتَمِعْ} يَا مُحَمَّدُ {يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: يَأْمُرُ اللَّهُ [تَعَالَى] (3) مَلَكًا (4) أَنْ يُنَادِيَ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ، وَالْأَوْصَالُ الْمُتَقَطِّعَةُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُنَّ أَنْ تَجْتَمِعْنَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ.
{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} يَعْنِي: النَّفْخَةَ فِي الصُّورِ الَّتِي تَأْتِي بِالْحَقِّ الَّذِي كَانَ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ يَمْتَرُونَ. {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} أَيْ: مِنَ الْأَجْدَاثِ.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} أَيْ: هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ مَصِيرُ (5) الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ، فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (6) يُنَزِّلُ مَطَرًا مِنَ السَّمَاءِ تَنْبُتُ بِهِ أَجْسَادُ الْخَلَائِقِ فِي قُبُورِهَا، كَمَا يَنْبُتُ الْحَبُّ فِي الثَّرَى بِالْمَاءِ، فَإِذَا تَكَامَلَتِ الْأَجْسَادُ أَمَرَ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ فَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَقَدْ أُودِعَتِ الْأَرْوَاحُ فِي ثُقْبٍ فِي الصُّورِ، فَإِذَا نَفَخَ إِسْرَافِيلُ فِيهِ خَرَجَتِ الْأَرْوَاحُ تَتَوَهَّجُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى الْجَسَدِ الَّذِي كَانَتْ تَعْمُرُهُ، فَتَرْجِعُ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا، فَتَدِبُّ فِيهِ كَمَا يَدِبُّ السُّمُّ فِي اللَّدِيغِ وَتَنْشَقُّ (7) الْأَرْضُ عَنْهُمْ، فَيَقُومُونَ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ سِرَاعًا، مُبَادِرِينَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [الْقَمَرِ: 8] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} [الْإِسْرَاءِ: 52] ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرض" (8) .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1198) وصحيح مسلم برقم (763) .
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) في م: "ملكان".
(5) في م: "تصير".
(6) في م: "عز وجل".
(7) في م: "وتتشقق".
(8) رواه مسلم في صحيحه برقم (2278) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولم أهتد إليه من حديث أنس.(7/411)
وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أَيْ: تِلْكَ إِعَادَةٌ سَهْلَةٌ عَلَيْنَا، يَسِيرَةٌ لَدَيْنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [الْقَمَرِ: 50] ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لُقْمَانَ: 28] .
وَقَوْلُهُ: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أَيْ: نَحْنُ عِلْمُنَا مُحِيطٌ بِمَا يَقُولُ لَكَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ فَلَا يَهِيدَنَكَّ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] (1) : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الْحِجْرِ: 97 -99] .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أَيْ: وَلَسْتَ بِالَّذِي تُجْبِرُ هَؤُلَاءِ عَلَى الْهُدَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَا كُلِّفْتَ بِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أَيْ: لَا تَتَجَبَّرُ عَلَيْهِمْ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَوْ أَرَادَ مَا قَالُوهُ لَقَالَ: وَلَا تَكُنْ جَبَّارًا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} بِمَعْنَى: وَمَا أَنْتَ بِمُجْبِرِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِنَّمَا أَنْتَ مُبَلِّغٌ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ: جَبَرَ فُلَانٌ فُلَانًا عَلَى كَذَا (2) ، بِمَعْنَى أَجْبَرَهُ (3) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} أَيْ: بَلِّغْ أَنْتَ رِسَالَةَ رَبِّكَ، فَإِنَّمَا (4) يَتَذَكَّرُ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ وَوَعِيدَهُ وَيَرْجُو وَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] (5) : {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرَّعْدِ: 40] ، وَقَوْلِهِ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الْغَاشِيَةِ: 21، 22] ، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 272] ، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [الْقِصَصِ: 56] ، وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَخَافُ وَعِيدَكَ، وَيَرْجُو مَوْعُودَكَ، يَا بَارُّ، يَا رَحِيمُ.
آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ (ق) ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م: "جبر فلان على فلان كذا".
(3) انظر تفسير الطبري (26/115) .
(4) في م: "فأما".
(5) زيادة من م.(7/412)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الذَّارِيَاتِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) }(7/413)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) }
قَالَ شُعْبَةُ (1) بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ سِمَاك، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَة أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا وَشُعْبَةَ أَيْضًا، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بزَّة، عَنْ أَبِي الطُّفَيْل، سَمِعَ عَلِيًّا. وَثَبَتَ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُ صَعِدَ مِنْبَرَ الْكُوفَةِ فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا عَنْ سُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِذَلِكَ. فَقَامَ إِلَيْهِ ابْنُ الْكُوَّاءِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} ؟ قَالَ: الرِّيحُ [قَالَ] (2) : {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} ؟ قَالَ: السَّحَابُ. [قَالَ] (3) : {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} ؟ قَالَ: السُّفُنُ. [قَالَ] (4) : {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} ؟ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ (5) .
وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ الْعَطَارُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي سَبْرَة، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: جَاءَ صَبِيغ التَّمِيمِيُّ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنِي عَنِ {الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} ؟ فَقَالَ: هِيَ الرِّيَاحُ، وَلَوْلَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ مَا قُلْتُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ {الْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} قَالَ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ، ولولا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ مَا قُلْتُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ {الْجَارِيَاتِ يُسْرًا} قَالَ: هِيَ السُّفُنُ، وَلَوْلَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ مَا قُلْتُهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ مِائَةً، وَجُعِلَ فِي بَيْتٍ، فَلَمَّا بَرَأَ (6) [دَعَا بِهِ وَ] (7) ضَرَبَهُ مِائَةً أُخْرَى، وَحَمَلَهُ عَلَى قَتَب، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: امْنَعِ النَّاسَ مِنْ مُجَالَسَتِهِ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى أَتَى أَبَا مُوسَى فَحَلَفَ بِالْأَيْمَانِ الْغَلِيظَةِ مَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ يَجِدُ شَيْئًا. فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ عُمَرُ: مَا إِخَالُهُ إِلَّا صَدَقَ، فَخَلِّ بَيْنَهُ وبين مجالسة الناس.
__________
(1) في أ: "سعيد".
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من م.
(5) رواه الطبري في تفسيره (26/115) عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة به.
(6) في م: "برد".
(7) زيادة من م، أ.(7/413)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: فَأَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ لَيِّنٌ، وَسَعِيدُ بْنُ سَلَامٍ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ (1) .
قُلْتُ: فَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ رَفْعُهُ، وَأَقْرَبُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ، فَإِنَّ قِصَّةَ صَبِيغ بْنِ عَسَلٍ مَشْهُورَةٌ مَعَ عُمَرَ (2) ، وَإِنَّمَا ضَرَبَهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ من أمره فيما يسأل تعنتا وعنادا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي تَرْجَمَةِ صَبِيغٍ مُطَوَّلَةً (3) . وَهَكَذَا فَسَّرَهَا ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ. وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالذَّارِيَاتِ: الرِّيحُ كَمَا تَقَدَّمَ وَبِالْحَامِلَاتِ وَقْرًا: السَّحَابُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ الْمَاءَ، كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
وَأسْلَمْتُ نَفْسي لمَنْ أسْلَمَتْ ... لَهُ المزْنُ تَحْمِلُ عَذْبا زُلالا (4)
فَأَمَّا الْجَارِيَاتُ يُسْرًا، فَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ -كَمَا تَقَدَّمَ-: أَنَّهَا السُّفُنُ، تَجْرِي مُيَسَّرَةً فِي الْمَاءِ جَرْيًا سَهْلًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ النُّجُومُ تَجْرِي يُسْرًا (5) فِي أَفْلَاكِهَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَرَقِّيًا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، فَالرِّيَاحُ فَوْقَهَا السَّحَابُ، وَالنُّجُومُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَالْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا الْمَلَائِكَةُ فَوْقَ ذَلِكَ، تَنْزِلُ بِأَوَامِرِ اللَّهِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ. وَهَذَا قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ جُلَّ عَلَى وُقُوعِ الْمَعَادِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} أَيْ: لَخَبَرُ صِدْقٍ، {وَإِنَّ الدِّينَ} ، وَهُوَ: الْحِسَابُ {لَوَاقِعٌ} أَيْ: لَكَائِنٌ لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ قَالَ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَاتُ الْبَهَاءِ وَالْجَمَالِ وَالْحُسْنِ وَالِاسْتِوَاءِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَأَبُو مَالِكٍ (6) ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالسُّدِّيُّ، وقَتَادَةُ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، والمِنْهَال بْنُ عَمْرٍو، وَغَيْرُهُمَا: مِثْلُ تَجَعُّدِ الْمَاءِ وَالرَّمْلِ وَالزَّرْعِ إِذَا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ، فَيَنْسِجُ بَعْضُهُ بَعْضًا طَرَائِقَ [طَرَائِقَ] (7) ، فَذَلِكَ الْحُبُكُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمُ الْكَذَّابَ الْمُضِلَّ، وَإِنَّ رَأْسَهُ مِنْ وَرَائِهِ حُبُك حُبُك" يَعْنِي بِالْحُبُكِ: الْجُعُودَةَ (8) .
وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ: {ذَاتِ الْحُبُكِ} : الشدة. وقال خصيف: {ذَاتِ الْحُبُكِ} : ذات الصفافة.
__________
(1) مسند البزار برقم (2259) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/112) : "فيه أبو بكر بن أبي سبرة، وهو متروك".
(2) في م: "مع التميمي عمر".
(3) تاريخ دمشق (8/230) "القسم المخطوط".
(4) البيت في سيرة ابن هشام (1/231) .
(5) في أ: "سيرا".
(6) في م: "وابن مالك".
(7) زيادة من م، أ.
(8) تفسير الطبري (26/118) ورواه أحمد في مسنده (5/410) من طريق إسماعيل بن علية به.(7/414)
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: {ذَاتِ الْحُبُكِ} : حُبِكَتْ بِالنُّجُومِ.
وَقَالَ قَتَادَةَ: عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْد، عَنْ مَعْدان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَمْرٍو الْبِكَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} : يَعْنِي: السَّمَاءَ السَّابِعَةَ.
وَكَأَنَّهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-أَرَادَ بِذَلِكَ السَّمَاءَ الَّتِي فِيهَا الْكَوَاكِبُ الثَّابِتَةُ، وَهِيَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ الَّذِي فَوْقَ السَّابِعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَرْجِعُ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْحُسْنُ وَالْبَهَاءُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (1) ، فَإِنَّهَا مِنْ حُسْنِهَا مُرْتَفِعَةٌ شَفَّافَةٌ صَفِيقَةٌ، شَدِيدَةُ الْبِنَاءِ، مُتَّسِعَةُ الْأَرْجَاءِ، أَنِيقَةُ الْبَهَاءِ، مُكَلَّلَةٌ بِالنُّجُومِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، مُوَشَّحَةٌ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ الزَّاهِرَاتِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} أَيْ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ مُضْطَرِبٍ، لَا يَلْتَئِمُ وَلَا يَجْتَمِعُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، [يَعْنِي] (2) مَا بَيْنَ مُصَدِّقٍ بِالْقُرْآنِ وَمُكَذِّبٍ بِهِ.
{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أَيْ: إِنَّمَا يُرَوَّجُ عَلَى مَنْ هُوَ ضَالٌّ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ إِنَّمَا يَنْقَادُ لَهُ وَيَضِلُّ بِسَبَبِهِ وَيُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ هُوَ مَأْفُوكٌ ضَالٌّ غَمْر، لَا فَهْمَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصَّافَّاتِ: 161 -163] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} : يَضِلُّ عَنْهُ مَنْ ضَلَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يُؤْفَنُ عَنْهُ مَنْ أُفِنَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُصْرَفُ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ مَنْ كَذَّبَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَذَّابُونَ. قَالَ: وَهِيَ مِثْلُ الَّتِي فِي عَبَسَ: {قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عَبَسَ: 17] ، وَالْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا نُبْعَثُ وَلَا يُوقِنُونَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} أَيْ: لُعِنَ الْمُرْتَابُونَ.
وَهَكَذَا كَانَ مُعَاذٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ فِي خُطَبِهِ: هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخَرَّاصُونَ أَهْلُ الْغِرَّةِ وَالظُّنُونِ.
وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: فِي الْكُفْرِ وَالشَّكِّ غَافِلُونَ لَاهُونَ.
{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} : وَإِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا تَكْذِيبًا وَعِنَادًا وَشَكًّا وَاسْتِبْعَادًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: {يُفْتَنُونَ} : يُعَذَّبُونَ [قَالَ مجاهد] (3) : كما
__________
(1) في م، أ: "عنه".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من م، أ.(7/415)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
يُفْتَنُ الذَّهَبُ عَلَى النَّارِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ كَمُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَعِكْرِمَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: {يُفْتَنُونَ} : يُحْرَقُونَ.
{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} : قَالَ مُجَاهِدٌ: حَرِيقَكُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَذَابَكُمْ. {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} : أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَتَحْقِيرًا وَتَصْغِيرًا.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُتَّقِينَ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ يَكُونُونَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، بِخِلَافِ مَا أُولَئِكَ الْأَشْقِيَاءُ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَالْحَرِيقِ وَالْأَغْلَالِ.
وَقَوْلُهُ: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} : قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْ عَامِلِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ (1) مِنَ الْفَرَائِضِ. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} أَيْ: قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ (2) عَلَيْهِمُ الْفَرَائِضَ. كَانُوا مُحْسِنِينَ فِي الْأَعْمَالِ أَيْضًا. ثُمَّ رَوَى عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مهْرَان، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي عُمَرَ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} قَالَ: مِنَ الْفَرَائِضِ، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} : قَبْلَ الْفَرَائِضِ يَعْمَلُونَ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ ضَعِيفٌ، وَلَا يَصِحُّ (3) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي عُمَرَ الْبَزَّارِ، عَنْ مُسْلِمٍ (4) الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ. وَالَّذِي فَسَّرَ بِهِ ابْنُ جَرِيرٍ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {آَخِذِينَ} حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} : فَالْمُتَّقُونَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ فِي الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ آخِذُونَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ (5) ، أَيْ: مِنَ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ وَالْغِبْطَةِ.
وَقَوْلُهُ (6) : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} أَيْ: فِي الدَّارِ الدُّنْيَا {مُحْسِنِينَ} ، كَقَوْلِهِ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الْحَاقَّةِ: 24] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّن إِحْسَانَهُمْ فِي الْعَمَلِ فَقَالَ: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} ، اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ "مَا" نَافِيَةٌ، تَقْدِيرُهُ: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ لَا يَهْجَعُونَهُ. قَالَ ابْنُ عباس: لم تكن
__________
(1) في م: "ربهم".
(2) في م: "تفرض".
(3) في م: "لا يصح".
(4) في م: "عن أبي مسلم".
(5) في م: "الله".
(6) في م: "وقولهم".(7/416)
تَمْضِي عَلَيْهِمْ لَيْلَةٌ إِلَّا يَأْخُذُونَ مِنْهَا وَلَوْ شَيْئًا. وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: قلَّ لَيْلَةٌ تَأْتِي عَلَيْهِمْ لَا يُصَلُّونَ فِيهَا لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، إِمَّا مِنْ أَوَّلِهَا وَإِمَّا مَنْ أَوْسَطِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قلَّ مَا يَرْقُدُونَ لَيْلَةً حَتَّى (1) الصَّبَاحِ لَا يَتَهَجَّدُونَ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ: كَانُوا يُصَلُّونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، كَانُوا لَا يَنَامُونَ حَتَّى يُصَلُّوا الْعَتَمَةَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ، تَقْدِيرُهُ: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ هُجُوعُهُمْ وَنَوْمُهُمْ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} : كَابَدُوا قِيَامَ اللَّيْلِ، فَلَا يَنَامُونَ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا أَقَلَّهُ، وَنَشِطُوا فَمَدُّوا إِلَى السَّحَرِ، حَتَّى كَانَ الِاسْتِغْفَارُ بِسَحَرٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} : كَانُوا لَا يَنَامُونَ إِلَّا قَلِيلًا ثُمَّ يَقُولُ: لَسْتُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ يَقُولُ: عَرَضْتُ عَمَلِي عَلَى عَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَوْمٌ قَدْ بَايَنُونَا بَوْنًا بَعِيدًا، إِذَا قَوْمٌ لَا نَبْلُغُ أَعْمَالَهُمْ، كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَعَرَضْتُ عَمَلِي عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَإِذَا قَوْمٌ لَا خَيْرَ فِيهِمْ يُكَذِّبُونَ (2) بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِرُسُلِ اللَّهِ، يُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَوَجَدْتُ مِنْ خَيْرِنَا مَنْزِلَةً قَوْمًا خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ لِأَبِي: يَا أَبَا أُسَامَةَ، صِفَةٌ لَا أَجِدُهَا فِينَا، ذَكَرَ اللَّهُ قَوْمًا فَقَالَ: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} ، وَنَحْنُ وَاللَّهِ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا نَقُومُ. فَقَالَ لَهُ أَبِي: طُوبَى لِمَنْ رَقَدَ إِذَا نَعَسَ، وَاتَّقَى اللَّهَ إِذَا اسْتَيْقَظَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَكُنْتُ فِيمَنِ انْجَفَلَ. فَلَمَّا رَأَيْتُ وَجْهَهُ عَرَفَتْ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ رَجُل كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ، وصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ" (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا". فَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ لِلَّهِ قَائِمًا، وَالنَّاسُ نِيَامٌ" (4) .
وَقَالَ مَعْمَر فِي قَوْلِهِ: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} : كان (5) الزهري والحسن يقولان:
__________
(1) في م: "إلى".
(2) في م: "فيكذبون".
(3) رواه أحمد في المسند (5/451) والترمذي في السنن برقم (2485) وابن ماجه في السنن برقم (1334) .
(4) المسند (2/173) وقال الهيثمي في المجمع 05/16) : "فيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات" ولعل تحسين الحافظ الهيثمي لحديث ابن لهيعة لأنه قد توبع: تابعه عبد الله بن وهب -روايته عن ابن لهيعة صحيحة- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم (103) "الجزء المفقود".
(5) في م: "قال".(7/417)
كَانُوا كَثِيرًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يُصَلُّونَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِي: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} : مَا يَنَامُونَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلا} ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . قَالَ مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يُصَلُّونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: قَامُوا اللَّيْلَ، وَأَخَّرُوا الِاسْتِغْفَارَ إِلَى الْأَسْحَارِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ} [آلِ عِمْرَانَ: 17] ، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِغْفَارُ فِي صَلَاةٍ فَهُوَ أَحْسَنُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَيُعْطَى سُؤْلَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ" (1) .
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ يَعْقُوبَ: أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيهِ: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يُوسُفَ 98] قَالُوا: أَخَّرَهُمْ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ.
وَقَوْلُهُ: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} : لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالصَّلَاةِ ثَنَّى بِوَصْفِهِمْ (2) بِالزَّكَاةِ وَالْبَرِّ وَالصِّلَةِ، فَقَالَ: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} (3) أَيْ: جُزْءٌ مَقْسُومٌ قَدْ أَفْرَزُوهُ {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، أَمَّا السَّائِلُ فَمَعْرُوفٌ، وَهُوَ الَّذِي يَبْتَدِئُ بِالسُّؤَالِ، وَلَهُ حَقٌّ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا وَكِيع وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهَا الْحُسَيْنِ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، بِهِ (4) ثُمَّ أَسْنَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (5) . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الهِرْماس بْنِ زِيَادٍ مَرْفُوعًا (6) .
وَأَمَّا {الْمَحْرُومُ} ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الْمُحَارِفُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ سَهْمٌ. يَعْنِي: لَا سَهْمَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا كَسْبَ لَهُ، وَلَا حِرْفَةَ يَتَقَوَّتُ مِنْهَا.
وَقَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ: هُوَ المحارَف الَّذِي لَا يَكَادُ يَتَيَسَّرُ لَهُ مَكْسَبُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ مَالٌ إلا ذهب، قضى الله له ذلك.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (758) .
(2) في م، أ: "وصفهم".
(3) في م، أ: (حق للسائل والمحروم) .
(4) المسند (1/201) وسنن أبي داود برقم (1665) .
(5) سنن أبي داود برقم (1666) .
(6) رواه الطبراني في المعجم الكبير (22/203) من طريق سليمان الدمشقي عن عثمان بن فايد عن عكرمة بن عمار عن الهرماس مرفوعا به وفيه عثمان بن فايد وهو ضعيف.(7/418)
وَقَالَ أَبُو قِلابَة: جَاءَ سَيْلٌ بِالْيَمَامَةِ فَذَهَبَ بِمَالِ رَجُلٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: هَذَا الْمَحْرُومُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَسَعِيدُ بْنُ المسيَّب، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَنَافِعٌ -مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ-وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ {الْمَحْرُومُ} : الْمَحَارِفُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ: {الْمَحْرُوم} : الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا، قَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ بالطوَّاف الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفطن لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ".
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أَسْنَدَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِيهِمَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (1) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الَّذِي يَجِيءُ وَقَدْ قُسِّم الْمَغْنَمُ، فَيُرْضَخُ لَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَجَاءَ كَلْبٌ فَانْتَزَعَ عُمَرُ كَتِفَ شَاةٍ فَرَمَى بِهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّهُ الْمَحْرُومُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَعْيَانِي أَنْ أَعْلَمَ مَا الْمَحْرُومُ.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَحْرُومَ: [هُوَ] (2) الَّذِي لَا مَالَ لَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ، قَدْ ذَهَبَ مَالُهُ، سَوَاءٌ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ، أَوْ قَدْ هَلَكَ مَالُهُ أَوْ نَحْوُهُ (3) بِآفَةٍ أَوْ نَحْوِهَا.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سَرِيَّةً فَغَنِمُوا، فَجَاءَ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوا الْغَنِيمَةَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (4) .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ مَدَنِيَّةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مَكِّيَّةٌ شَامِلَةٌ لِمَا بَعْدَهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} أَيْ: فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَةِ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ، مِمَّا قَدْ ذَرَأَ فِيهَا مِنْ صُنُوفِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَالْمِهَادِ وَالْجِبَالِ، وَالْقِفَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ، وَاخْتِلَافِ أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَأَلْوَانِهِمْ، وَمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِرَادَاتِ وَالْقُوَى، وَمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْعُقُولِ وَالْفُهُومِ وَالْحَرَكَاتِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَمَا فِي تَرْكِيبِهِمْ مِنَ الْحِكَمِ فِي وَضْعِ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِمْ (5) فِي الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} : قَالَ قَتَادَةُ: مَنْ تَفَكَّرَ فِي خَلْقِ نَفْسِهِ عَرَفَ أَنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ وَلُيِّنَتْ مَفَاصِلُهُ لِلْعِبَادَةِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} يَعْنِي: الْمَطَرَ، {وَمَا تُوعَدُونَ} يَعْنِي: الْجَنَّةَ. قَالَهُ ابن عباس،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4539) وصحيح مسلم برقم (1039) من طريق شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعا.
(2) زيادة من م.
(3) في م: "أو ثمرة".
(4) رواه الطبري في تفسيره (26/125) .
(5) في م، أ: "أجسادهم".(7/419)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: قَرَأَ وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فَقَالَ: أَلَا إِنِّي (1) أَرَى رِزْقِي فِي السَّمَاءِ، وَأَنَا أَطْلُبُهُ فِي الْأَرْضِ؟ فَدَخَلَ خَرِبَةٍ فَمَكَثَ [فِيهَا] (2) ثَلَاثًا لَا يُصِيبُ شَيْئًا، فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إِذَا هُوَ بِدَوْخَلَة مِنْ رُطَبٍ، وَكَانَ لَهُ أَخٌ أَحْسَنُ نِيَّةً مِنْهُ، فَدَخَلَ مَعَهُ فَصَارَتَا دَوْخَلَتَيْنِ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُمَا حَتَّى فَرَّقَ الْمَوْتُ بَيْنَهُمَا (3) .
وَقَوْلُهُ: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} يُقْسِمُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، فَلَا تَشُكُّوا فِيهِ كَمَا لَا تَشُكُّوا فِي نُطْقِكُمْ حِينَ تَنْطِقُونَ. وَكَانَ مُعَاذٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذَا حَدَّثَ بِالشَّيْءِ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: إِنَّ هَذَا لَحَقٌ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا.
قَالَ مُسَدَّدٌ، عَنِ ابْنُ أَبِي عَدِيّ، عَنْ عَوْف، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَاتَلَ اللَّهُ أَقْوَامًا أَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ثُمَّ لَمْ يُصَدِّقُوا".
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ بُنْدَار، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا (4) .
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) }
هَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ "هُودٍ" وَ "الْحِجْرِ" (5) أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} أَيِ: الَّذِينَ أَرْصَدَ لَهُمُ الْكَرَامَةَ. وَقَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِ الضِّيَافَةِ لِلنَّزِيلِ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ.
وَقَوْلُهُ: {قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} : الرَّفْعُ أَقْوَى وَأَثْبَتُ مِنَ النَّصْبِ، فَرَدُّهُ أَفْضَلُ مِنَ التَّسْلِيمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النِّسَاءِ: 86] ، فَالْخَلِيلُ اخْتَارَ الْأَفْضَلُ.
وَقَوْلُهُ: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} : وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَهُمْ: جِبْرِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَمِيكَائِيلُ قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي صُوَرِ شُبَّانٍ حِسَانٍ عَلَيْهِمْ مَهَابَةٌ عَظِيمَةٌ؛ وَلِهَذَا قال: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} .
__________
(1) في م: "لا أرى رزقي".
(2) زيادة من م.
(3) في م: "بينهما الموت".
(4) تفسير الطبري (26/127) .
(5) تقدم تفسير ذلك في سورة هود عند الآيات: 69- 73 وكذلك في سورة الحجر عند الآيات: 51- 56.(7/420)
وَقَوْلُهُ: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} أَيِ: انْسَلَّ خُفْيَةً فِي سُرْعَةٍ، {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} أَيْ: مِنْ خِيَارِ مَالِهِ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هُودٍ: 69] أَيْ: مَشْوِيٌّ عَلَى الرَّضف، {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} أَيْ: أَدْنَاهُ مِنْهُمْ، {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} : تَلَطُّفٌ فِي الْعِبَارَةِ وَعَرْضٌ حَسَنٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ انْتَظَمَتْ آدَابَ الضِّيَافَةِ؛ فَإِنَّهُ جَاءَ بِطَعَامِهِ (1) مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ بِسُرْعَةٍ، وَلَمْ يَمْتَنَّ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا فَقَالَ: "نَأْتِيكُمْ بِطَعَامٍ؟ " بَلْ جَاءَ بِهِ بِسُرْعَةٍ (2) وَخَفَاءٍ، وَأَتَى بِأَفْضَلِ مَا وَجَدَ مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ عِجْلٌ فَتِيٌّ سَمِينٌ مَشْوِيٌّ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، لَمْ يَضَعْهُ، وَقَالَ: اقْتَرِبُوا، بَلْ وَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَمْرًا يَشُقُّ عَلَى سَامِعِهِ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، بَلْ قَالَ: {أَلا تَأْكُلُونَ} عَلَى سَبِيلِ الْعَرْضِ وَالتَّلَطُّفِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ الْيَوْمَ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَتَفَضَّلَ وَتُحْسِنَ وَتَتَصَدَّقَ، فَافْعَلْ (3) .
وَقَوْلُهُ: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} : هَذَا مُحَالٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْقِصَّةِ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ (4) قَوْلُهُ: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هُودٍ: 70، 71] أَيِ: اسْتَبْشَرَتْ بِهَلَاكِهِمْ؛ لِتَمَرُّدِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ عَلَى اللَّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَشَّرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ. {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هُودٍ 72، 73] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} ، فَالْبِشَارَةُ لَهُ هِيَ بِشَارَةٌ لَهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُمَا، فَكُلٌّ مِنْهُمَا بُشِّرَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} أَيْ: فِي صَرْخَةٍ عَظِيمَةٍ (5) وَرَنَّةٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالثَّوْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَهِيَ قَوْلُهَا: {يَا وَيْلَتَا} {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} (6) أَيْ: ضَرَبَتْ بِيَدِهَا عَلَى جَبِينِهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ (7) سَابِطٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَطَمَتْ، أَيْ تَعَجُّبًا كَمَا تَتَعَجَّبُ (8) النِّسَاءُ مِنَ الْأَمْرِ الْغَرِيبِ، {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أَيْ: كَيْفَ أَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ [عَقِيمٌ] (9) ، وَقَدْ كنتُ فِي حَالِ الصِّبَا عَقِيمًا لَا أَحْبَلُ؟.
{قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} (10) أَيْ: عَلِيمٌ بِمَا تَسْتَحِقُّونَ مِنَ الْكَرَامَةِ، حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
__________
(1) في م: "بطعام".
(2) في أ: "في سرعة".
(3) وقد توسع الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "جلاء الأفهام" (ص181- 184) في الكلام على آداب الضيافة في هذه الآيات.
(4) في م: "وهي".
(5) في م، أ: "وعيطة".
(6) في م: "وصكت".
(7) في م: "وأبو".
(8) في م: "يتعجب".
(9) زيادة من أ.
(10) في م: "العليم الحكيم" وهو خطأ.(7/421)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ (37) }(7/421)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
قَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هُودٍ: 74 -76] .
وَقَالَ هَاهُنَا: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} أَيْ: مَا شَأْنُكُمْ وَفِيمَ جِئْتُمْ؟.
{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} يَعْنُونَ قَوْمَ لُوطٍ.
{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً} أَيْ: مُعَلَّمَةً {عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} أَيْ: مُكْتَتَبَةٌ عِنْدَهُ بِأَسْمَائِهِمْ، كُلُّ حَجَرٍ عَلَيْهِ اسْمُ صَاحِبِهِ، فَقَالَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 32] .وَقَالَ هَاهُنَا: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَهُمْ لُوطٌ وَأَهْلُ بَيْتِهِ إِلَّا امْرَأَتَهُ.
{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} احْتَجَّ بِهَذِهِ [الْآيَةِ] (1) مَنْ ذَهَبَ إِلَى رَأْيِ الْمُعْتَزِلَةِ، مِمَّنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنُ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا مُؤْمِنِينَ، وَعِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٍ لَا يَنْعَكِسُ، فَاتَّفَقَ الِاسْمَانِ هَاهُنَا لِخُصُوصِيَّةِ الْحَالِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ} أَيْ: جَعَلْنَاهَا عِبْرَةً، لِمَا أَنْزَلْنَا بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَحِجَارَةِ السِّجِّيلِ، وَجَعَلْنَا (2) مَحَلَّتَهُمْ بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً خَبِيثَةً، فَفِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، {لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ}
{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَفِي مُوسَى} [آيَةٌ] (3) {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أَيْ: بِدَلِيلٍ بَاهِرٍ وَحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ، {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أَيْ: فَأَعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَمَّا جَاءَهُ (4) بِهِ مُوسَى مِنَ الحق المبين، استكبارا
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م، أ: "وجعل".
(3) زيادة من م.
(4) في م: "جاء".(7/422)
وَعِنَادًا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَعَزَّزَ بِأَصْحَابِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: غَلَبَ عدُو اللَّهِ عَلَى قَوْمِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أَيْ: بِجُمُوعِهِ الَّتِي مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هُودٍ: 80] .
وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ قَوِيٌّ كَقَوْلِهِ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الْحَجِّ: 9] أَيْ: مُعْرِضٌ عَنِ الْحَقِّ مُسْتَكْبِرٌ، {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} أَيْ: لَا يَخْلُو أَمْرُكَ فِيمَا جِئْتَنِي بِهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ سَاحِرًا، أَوْ مَجْنُونًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ} أَيْ: أَلْقَيْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ، وَهُوَ الْبَحْرُ، {وَهُوَ مُلِيمٌ} أَيْ: وَهُوَ مَلُومٌ كَافِرٌ جَاحِدٌ فَاجِرٌ مُعَانِدٌ.
ثُمَّ قَالَ: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} أَيِ: الْمُفْسِدَةَ الَّتِي لَا تَنْتِجُ شَيْئًا. قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا.
وَلِهَذَا قَالَ: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} أَيْ: مِمَّا تُفْسِدُهُ الرِّيحُ {إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} أَيْ: كَالشَّيْءِ الْهَالِكِ الْبَالِي.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ بن أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي: ابْنَ عَيَّاشٍ (1) -الْقُتْبَانِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرِّيحُ مُسَخَّرَةٌ مِنَ الثَّانِيَةِ -يَعْنِي مِنَ الْأَرْضِ الثَّانِيَةِ-فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَ عَادًا أَمَرَ خَازِنَ الرِّيحِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا تُهْلِكُ عَادًا، قَالَ: أَيٍ رَبَ، أُرْسِلُ عَلَيْهِمْ [مِنَ] (2) الريح قدر منخر الثور؟ قال له الجبار: لَا إِذًا تَكْفَأُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ أَرْسِلْ [عَلَيْهِمْ] (3) بِقَدْرِ خَاتَمٍ. فَهِيَ الَّتِي يَقُولُ (4) اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}
هَذَا الْحَدِيثُ رَفْعُهُ مُنْكَرٌ (5) ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، مِنْ زَامِلَتَيْهِ اللَّتَيْنِ (6) أَصَابَهُمَا يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} قَالُوا: هِيَ الْجَنُوبُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ" (7) .
{وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي إِلَى وَقْتِ فَنَاءِ آجَالِكُمْ.
__________
(1) في م: "ابن عباس".
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) في م، أ: "قال".
(5) رواه الحاكم في المستدرك (4/594) وابن منده في كتاب التوحيد (1/186) من طريق عبد الله بن وهب بأطول منه.
وقال ابن منده: إسناده متصل مشهور ورواته مصريين. وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله: "بل منكر، فيه عبد الله بن عياس ضعفه أبو داود، وعند مسلم أنه ثقة، ودراج وهو كثير المناكير".
(6) في م: "اللذين".
(7) صححه مسلم برقم (900) .(7/423)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ كَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فُصِّلَتْ: 17] .
وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ انْتَظَرُوا الْعَذَابَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَجَاءَهُمْ فِي صَبِيحَةِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ بُكْرَة النَّهَارِ {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} أَيْ: مِنْ هَرَبٍ وَلَا نُهُوضٍ، {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} أَيْ: وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَنْتَصِرُوا مِمَّا هُمْ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: وَأَهْلَكْنَا قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} وَكُلُّ هَذِهِ الْقِصَصِ قَدْ تَقَدَّمَتْ مَبْسُوطَةً فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ، مِنْ سُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) }
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى خَلْقِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} أَيْ: جَعَلْنَاهَا سَقْفًا [مَحْفُوظًا] (1) رَفِيعًا {بِأَيْدٍ} أَيْ: بِقُوَّةٍ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} ، أَيْ: قَدْ وَسَّعْنَا أَرْجَاءَهَا وَرَفَعْنَاهَا بِغَيْرِ عَمِدٍ، حَتَّى اسْتَقَلَّتْ كَمَا هِيَ.
{وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا} أَيْ: جَعَلْنَاهَا فِرَاشًا لِلْمَخْلُوقَاتِ، {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} أَيْ: وَجَعَلْنَاهَا مَهْدًا لِأَهْلِهَا.
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أَيْ: جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ أَزْوَاجٌ: سَمَاءٌ وَأَرْضٌ، وَلَيْلٌ وَنَهَارٌ، وَشَمْسٌ وَقَمَرٌ، وَبَرٌّ وَبَحْرٌ، وَضِيَاءٌ وَظَلَامٌ، وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ، وَمَوْتٌ وَحَيَاةٌ، وَشَقَاءٌ وَسَعَادَةٌ، وَجَنَّةٌ وَنَارٌ، حَتَّى الْحَيَوَانَاتُ [جِنٌّ وَإِنْسٌ، ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ] (2) وَالنَّبَاتَاتُ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أَيْ: لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْخَالِقَ واحدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} أَيِ: الْجَئُوا إِلَيْهِ، وَاعْتَمِدُوا فِي أُمُورِكُمْ عَلَيْهِ، {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
{وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أَيْ: [وَ] (3) لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من م.(7/424)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) }(7/424)
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَمَا قَالَ لَكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ الْمُكَذِّبُونَ الْأَوَّلُونَ لِرُسُلِهِمْ: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} !.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} أَيْ: أَوْصَى بعضُهم بَعْضًا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ؟ " {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أَيْ: لَكِنْ هُمْ قَوْمٌ طُغَاةٌ، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، فَقَالَ مُتَأَخِّرُهُمْ كَمَا قَالَ مُتَقَدِّمُهُمْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أَيْ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يَا مُحَمَّدُ، {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} يَعْنِي: فَمَا نَلُومُكَ عَلَى ذَلِكَ.
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: إِنَّمَا تَنْتَفِعُ (1) بِهَا الْقُلُوبُ الْمُؤْمِنَةُ.
ثُمَّ قَالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} أَيْ: إِنَّمَا خَلَقْتُهُمْ لِآمُرَهُمْ بِعِبَادَتِي، لَا لِاحْتِيَاجِي إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِلا لِيَعْبُدُونِ} أَيْ: إِلَّا لِيُقِرُّوا بِعِبَادَتِي طَوْعًا أَوْ كَرْهًا (2) وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: إِلَّا لِيَعْرِفُونِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {إِلا لِيَعْبُدُونِ} أَيْ: إِلَّا لِلْعِبَادَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنَ الْعِبَادَةِ مَا يَنْفَعُ وَمِنْهَا مَا لَا يَنْفَعُ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لُقْمَانَ: 25] هَذَا مِنْهُمْ عِبَادَةٌ، وَلَيْسَ يَنْفَعُهُمْ مَعَ الشِّرْكِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ.
وَقَوْلُهُ: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} قَالَ (3) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَأَبُو سَعِيدٍ قَالَا حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ (4) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ (5) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (6) .
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْعِبَادَ لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَمَنْ أَطَاعَهُ جَازَاهُ أَتَمَّ الْجَزَاءِ، وَمِنْ عَصَاهُ عَذَّبَهُ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِمْ، بَلْ هُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، فَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ -يَعْنِي ابْنَ زَائِدَةَ بْنِ نَشِيط-عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ -هُوَ الْوَالِبِيِّ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ: "يَا ابن
__________
(1) في م، أ: "فإنما ينتفع".
(2) في م: "وكرها".
(3) في م: "وقال".
(4) في أ: "زيد".
(5) في م: "النبي".
(6) المسند (1/394) وسنن أبي داود برقم (3989) وسنن الترمذي برقم (2940) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11527) .(7/425)
آدَمَ، تَفَرَّغ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ زَائِدَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ (1) .
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَلَّامٍ أَبِي شُرحْبِيل، سَمِعْتُ حَبَّة وَسَوَاءً ابْنَيْ خَالِدٍ يَقُولَانِ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلًا أَوْ يَبْنِي بِنَاءً -وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: يُصْلِحُ شَيْئًا-فَأَعَنَّاهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا لَنَا وَقَالَ: "لَا تَيْأَسَا مِنَ الرِّزْقِ مَا تَهَزَّزَتْ رُءُوسُكُمَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ تَلِدُهُ أُمُّهُ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ، ثُمَّ يُعْطِيهِ اللَّهُ وَيَرْزُقُهُ" (2) . وَ [قَدْ وَرَدَ] (3) فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ابْنَ آدَمَ، خَلَقْتُكَ لِعِبَادَتِي فَلَا تَلْعَبْ، وَتَكَفَّلْتُ بِرِزْقِكَ فَلَا تَتْعَبْ فَاطْلُبْنِي تَجِدْنِي؛ فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتك فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ".
وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا} أَيْ: نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ، {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} أَيْ: فَلَا يَسْتَعْجِلُونَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ وَاقِعٌ [بِهِمْ] (4) لَا مَحَالَةَ.
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الذَّارِيَاتِ
__________
(1) المسند (2/358) وسنن الترمذي برقم (2466) وسنن ابن ماجه برقم (4107) .
(2) المسند (3/469) .
(3) زيادة من م، أ.
(4) زيادة من أ.(7/426)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الطُّورِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
قَالَ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَير بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا -أَوْ قِرَاءَةً-مِنْهُ.
أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ (1) وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَل، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ: "طُوفي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ"، فَطُفْتُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4845) وصحيح مسلم برقم (463) .
(2) صحيح البخاري برقم (4853) وصحيح مسلم برقم (1276) .(7/427)
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) }
يُقْسِمُ تَعَالَى بِمَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ: أَنَّ عَذَابَهُ وَاقِعٌ بِأَعْدَائِهِ، وَأَنَّهُ لَا دَافِعَ لَهُ عَنْهُمْ. فَالطُّورُ هُوَ: الْجَبَلُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ أَشْجَارٌ، مِثْلَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى، وَأُرْسِلَ مِنْهُ عِيسَى، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَجَرٌ لَا يُسَمَّى طُورًا، إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: جَبَلٌ.
{وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} قِيلَ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقِيلَ: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ الْمَكْتُوبَةُ الَّتِي تُقْرَأُ عَلَى النَّاسِ جِهَارًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} . ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ -بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ-: "ثُمَّ رُفِعَ بِي (1) إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ" يَعْنِي: يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ ويطوفون، كما
__________
(1) في م: "لي".(7/427)
يَطُوفُ أَهْلُ الْأَرْضِ بِكَعْبَتِهِمْ كَذَلِكَ ذَاكَ الْبَيْتُ، هُوَ كَعْبَةُ أَهْلِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ؛ وَلِهَذَا وَجَدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ؛ لِأَنَّهُ بَانِي الْكَعْبَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَهُوَ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ، وَفِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتٌ يَتَعَبَّدُ فِيهِ أَهْلُهَا، وَيُصَلُّونَ إِلَيْهِ، وَالَّذِي فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا يُقَالُ لَهُ: بَيْتُ الْعِزَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ جَنَاحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ: "الْمَعْمُورُ"؛ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ، وَفِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ نَهْرٌ يُقَالُ لَهُ: "الْحَيَوَانُ" يَدْخُلُهُ جِبْرِيلُ كُلَّ يَوْمٍ، فَيَنْغَمِسُ فِيهِ انْغِمَاسَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَنْتَفِضُ انْتِفَاضَةً يَخِرُّ عَنْهُ سَبْعُونَ أَلْفَ قَطْرَةٍ، يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ قَطْرَةٍ مَلَكَا يُؤْمَرُونَ أَنْ يَأْتُوا الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، فَيُصَلُّوا (1) فِيهِ فَيَفْعَلُونَ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ فَلَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا، وَيُوَلِّي عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ، يُؤْمَرُ أَنْ يَقِفَ بِهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَوْقِفًا يُسَبِّحُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ".
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، تَفَرَّدَ بِهِ رَوْحُ بْنُ جَنَاحٍ هَذَا، وَهُوَ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو سَعْدٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ مِنْهُمُ: الْجَوْزَجَانِيُّ، وَالْعُقَيْلِيُّ، وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ الْحَاكِمُ: لَا أَصِلَ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا سَعِيدٍ، وَلَا الزُّهْرِيِّ (2)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا هَنَّاد بْنُ السُّريّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ (3) عُرْعُرَةَ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَعَلِيٍّ: مَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ؟ قَالَ: بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ: "الضُّراح" وَهُوَ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ مِنْ فَوْقِهَا، حُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْبَيْتِ فِي الْأَرْضِ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَا (4) يَعُودُونَ فِيهِ أَبَدًا (5)
وَكَذَا رَوَاهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سِمَاك وَعِنْدَهُمَا أَنَّ ابْنَ الْكُوَّاءِ هُوَ السَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيب، عَنْ طَلْق بْنِ غَنَّامٍ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ الْكُوَّاءِ عَلِيًّا عَنِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، قَالَ: مَسْجِدٌ فِي السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ: "الضُّراح"، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ أَبَدًا. وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْل، عَنْ عَلِيٍّ بِمِثْلِهِ.
وَقَالَ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ بَيْتٌ حِذَاءَ الْعَرْشِ، تُعَمِّرُهُ الْمَلَائِكَةُ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سبعون
__________
(1) في م: "فيصلون".
(2) ورواه ابن عدي في الكامل (3/144) من طريق هشام بن عمار به، وقال: "سمعت ابن حماد يقول: قال السعدي: روح بن جناح ذكر عنالزهري حديثا معضلا في البيت المعمور" ثم ساقه بإسناده وتعقبه بقوله: "ولا يعرف هذا الحديث إلا بروح بن جناح عن الزهري".
(3) في م: "عن".
(4) في م: "ثم لا".
(5) تفسير الطبري (27/10)(7/428)