سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى (1) اتِّخَاذِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا عَزَمَ عَلَى تَزْوِيجِهَا وَاصْطِفَائِهَا لِنَفْسِهِ؛ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُهَا وَحُسْنُهَا، وَلَكِنْ فِي سَاقَيْهَا هُلْبٌ (2) عَظِيمٌ، وَمُؤَخَّرُ أَقْدَامِهَا كَمُؤَخَّرِ الدَّابَّةِ. فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَاتَّخَذَ هَذَا لِيَعْلَمَ صِحَّتَهُ أَمْ لَا؟ -هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي، وَغَيْرِهِ -فَلَمَّا دَخَلَتْ وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا، رَأَى أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَحْسَنَهُ قَدَمًا، وَلَكِنْ رَأَى عَلَى رِجْلَيْهَا شَعْرًا؛ لِأَنَّهَا مَلِكَةٌ لَيْسَ لَهَا بَعْلٌ (3) فَأَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ ذَلِكَ عَنْهَا فَقِيلَ لَهَا: الْمُوسَى؟ فَقَالَتْ: لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ. وَكَرِهَ سُلَيْمَانُ ذَلِكَ، وَقَالَ (4) لِلْجِنِّ: اصْنَعُوا شَيْئًا غَيْرَ الْمُوسَى يَذْهَبُ بِهِ هَذَا الشَّعْرُ، فَصَنَعُوا لَهُ النُوْرَةَ. وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اتُّخِذَتْ لَهُ النّورَة، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْج، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومان: ثُمَّ قَالَ لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ، لِيُرِيَهَا مُلْكًا هُوَ أَعَزُّ مِنْ مُلْكِهَا، وَسُلْطَانًا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ سُلْطَانِهَا. فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا، لَا تَشُكُّ أَنَّهُ مَاءٌ تَخُوضُهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرّد مِنْ قَوَارِيرَ. فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَى سُلَيْمَانَ، دَعَاهَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَاتَبَهَا فِي عِبَادَتِهَا الشَّمْسَ (5) مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَمَّا رَأَتِ العلْجَةُ الصَّرْحَ عَرَفَتْ -وَاللَّهِ -أَنَّ قَدْ رَأَتْ مُلْكًا أَعْظَمَ مِنْ مُلْكِهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: أَمَرَ سُلَيْمَانُ بِالصَّرْحِ، وَقَدْ عَمِلَتْهُ لَهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ زُجَاجٍ، كَأَنَّهُ الْمَاءُ بَيَاضًا. ثُمَّ أَرْسَلَ الْمَاءَ تَحْتَهُ، ثُمَّ وُضِعَ لَهُ فِيهِ سَرِيرُهُ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، ثُمَّ قَالَ: ادْخُلِي الصَّرْحَ، لِيُرِيَهَا مُلْكًا هُوَ أَعَزُّ مِنْ مُلْكِهَا، وَسُلْطَانًا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ سُلْطَانِهَا {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} ، لَا تَشُكُّ أَنَّهُ مَاءٌ تَخُوضُهُ، قِيلَ لَهَا: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَى سُلَيْمَانَ، دَعَاهَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَعَاتَبَهَا فِي عِبَادَتِهَا الشَّمْسَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَقَالَتْ بِقَوْلِ الزَّنَادِقَةِ، فَوَقَعَ سُلَيْمَانُ سَاجِدًا إِعْظَامًا لِمَا قَالَتْ، وَسَجَدَ مَعَهُ النَّاسُ، فَسَقَطَ فِي يَدَيْهَا حِينَ رَأَتْ سُلَيْمَانَ صَنَعَ مَا صَنَعَ، فَلَمَّا رَفَعَ سُلَيْمَانُ رَأْسَهُ قَالَ: وَيْحَكِ! مَاذَا قُلْتِ؟ -قَالَ: (6) وَأُنْسِيَتْ مَا قَالَتْ (7) فَقَالَتْ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فَأَسْلَمَتْ وَحَسُنَ إِسْلَامُهَا.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي هَذَا أَثَرًا غَرِيبًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (8) حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ، وَنَحْنُ فِي الْأَزْدِ -قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرِهِ، ثُمَّ تُوضَعُ كَرَاسِيُّ حَوْلَهُ، فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا الْإِنْسُ، ثُمَّ يَجْلِسُ (9) الْجِنُّ، ثُمَّ الشَّيَاطِينُ، ثُمَّ تَأْتِي الريح فترفعهم، ثم تظلهم الطير، ثم
__________
(1) في ف: "في".
(2) في أ: "هلف".
(3) في ف، أ: "زوج".
(4) في ف: "وقال سليمان".
(5) في ف، أ: "الشيطان".
(6) في ف: "قالت".
(7) في ف: "ما قلت".
(8) في ف: فقال.
(9) في ف: "تجلس".(6/195)
يَغْدُونَ قَدْرَ مَا يَشْتَهِي الرَّاكِبُ أَنْ يَنْزِلَ شَهْرًا وَرَوَاحَهَا شَهْرًا، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَسِيرٍ لَهُ، إِذْ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَفَقَدَ الْهُدْهُدَ فَقَالَ: (1) {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} ، قَالَ: فَكَانَ عَذَابُهُ إِيَّاهُ أَنْ يَنْتِفَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهِ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ نَمْلَةٍ وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ.
قَالَ عَطَاءٌ: وَذَكَرَ سَعِيدِ بْنِ جُبَير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} -فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ - {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا} وَكَتَبَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، إِلَى بِلْقِيسَ: {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ، فَلَمَّا أَلْقَى الْهُدْهُدُ بِالْكِتَابِ (2) إِلَيْهَا، أُلْقِيَ فِي رُوعها: إِنَّهُ كِتَابٌ كَرِيمٌ، وَإِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ، وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأَتَوْنِي مُسْلِمِينَ. قَالُوا: نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ. قَالَتْ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا، وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ. فَلَمَّا جَاءَتِ الْهَدِيَّةُ سُلَيْمَانَ قَالَ: أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الْغُبَارِ -أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: وَكَانَ بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَبَيْنَ مَلِكَةِ سَبَأٍ ومَنْ مَعَهَا حِينَ نَظَرَ إِلَى الْغُبَارِ كَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحِيرَةِ، قَالَ عَطَاءٌ: وَمُجَاهِدٌ حِينَئِذٍ فِي الْأَزْدِ -قَالَ سُلَيْمَانُ: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا؟ قَالَ: وَبَيْنَ عَرْشِهَا وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ حِينَ نَظَرَ إِلَى الْغُبَارِ مَسِيرَةُ شَهْرَيْنِ، {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} . قَالَ: وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ مَجْلِسٌ يَجْلِسُ فِيهِ لِلنَّاسِ، كَمَا يَجْلِسُ الْأُمَرَاءُ ثُمَّ يَقُومُ -قَالَ: (3) {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} . قَالَ سُلَيْمَانُ: أُرِيدُ أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ: أَنَا أَنْظُرُ فِي كِتَابِ رَبِّي، ثُمَّ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ. قَالَ: [فَنَظَرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ فَلَمَّا قَطَعَ كَلَامَهُ رَدَّ سُلَيْمَانُ بَصَرَهُ] (4) ، فَنَبَعَ عَرْشُهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمِ سُلَيْمَانَ، مِنْ تَحْتِ كُرْسِيٍّ كَانَ سُلَيْمَانُ يَضَعُ عَلَيْهِ رِجْلَهُ، ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَى السَّرِيرِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَى سُلَيْمَانُ عَرْشَهَا [مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ] (5) قَالَ: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} ، {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} ، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ لَهَا: أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟ قَالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ. قَالَ: فَسَأَلَتْهُ عَنْ أَمْرَيْنِ، قَالَتْ لِسُلَيْمَانَ: أُرِيدُ مَاءً [مِنْ زَبَدٍ رِوَاءً] (6) لَيْسَ مِنْ أَرْضٍ وَلَا مِنْ سَمَاءٍ -وَكَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ، سَأَلَ الْإِنْسَ ثُمَّ الْجِنَّ ثُمَّ الشَّيَاطِينَ. [قَالَ] (7) فَقَالَتِ الشَّيَاطِينُ: هَذَا هَيِّنٌ، أجْرِ الخيلَ ثُمَّ خُذْ عَرَقَهَا، ثُمَّ امْلَأْ مِنْهُ الْآنِيَةَ. قَالَ: فَأَمَرَ بِالْخَيْلِ (8) فَأُجْرِيَتْ، ثُمَّ أَخَذَ عَرَقَهَا فَمَلَأَ مِنْهُ الْآنِيَةَ. قَالَ: وَسَأَلَتْ عَنْ لَوْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَوَثَبَ سُلَيْمَانُ عَنْ سَرِيرِهِ، فَخَرَّ سَاجِدًا، فَقَالَ: يَا رَبِّ، لَقَدْ سألَتْني عَنْ أَمْرٍ إِنَّهُ يَتَكَايَدُ (9) ، أَيْ: يَتَعَاظَمُ فِي قَلْبِي أَنْ أَذْكُرَهُ لَكَ. قَالَ: ارْجِعْ فَقَدْ كَفَيتكهم، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ: مَا سَأَلْتِ عَنْهُ؟ قَالَتْ: مَا سَأَلْتُكَ إِلَّا عَنِ الْمَاءِ. فَقَالَ لِجُنُودِهِ: مَا سَأَلَتْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: مَا سَأَلَتْكَ إِلَّا عَنِ الْمَاءِ. قَالَ: ونَسوه كُلُّهُمْ. قَالَ: وَقَالَتِ الشَّيَاطِينُ لسُلَيمان: تُريدُ أَنْ تَتَّخِذَهَا لِنَفْسِكَ (10) ، فَإِنِ اتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ ثُمَّ وُلِدَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ نَنْفَكَّ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ. قَالَ: فَجَعَلُوا صَرْحًا مُمَرَّدًا مِنْ قَوَارِيرَ، فِيهِ السَّمَكُ. قَالَ: فقيل لها:
__________
(1) في ف: "قال وتفقد الهدهد قال".
(2) في ف، أ: "هذا الكتاب".
(3) في ف، أ: "فقال".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) زيادة من ف، أ.
(6) زيادة من ف.
(7) زيادة من ف.
(8) في ف: "أمر الخيل".
(9) في ف، أ: "ليتكابر".
(10) في ف، أ: "يريد أن يتخذها لنفسه".(6/196)
ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً، وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا، فَإِذَا هِيَ شَعْرَاء. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: هَذَا قَبِيحٌ، مَا يُذْهِبُهُ؟ فَقَالُوا: تُذْهِبُهُ (1) الْمَوَاسِي. فَقَالَ: أَثَرُ الْمُوسَى (2) قَبِيحٌ! قَالَ: فَجَعَلَتِ الشَّيَاطِينُ النورَة. قَالَ: فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جُعلت لَهُ النُّورَةُ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: مَا أَحْسَنَهُ مِنْ حَدِيثٍ.
قُلْتُ: بَلْ هُوَ مُنْكَرٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَلَعَلَّهُ مِنْ أَوْهَامِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْأَقْرَبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ أَنَّهَا مُتَلَقَّاةٌ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِمَّا يُوجَدُ فِي صُحُفِهِمْ، كَرِوَايَاتِ كَعْبٍ وَوَهْبٍ -سَامَحَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -فِيمَا نَقَلَاهُ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنَ الْأَوَابِدِ (3) وَالْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ، مِمَّا كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ، وَمِمَّا حُرِّفَ وَبُدِّلَ وَنُسِخَ. وَقَدْ أَغْنَانَا اللَّهُ، سُبْحَانَهُ، عَنْ ذَلِكَ بِمَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ وَأَنْفَعُ وَأَوْضَحُ وَأَبْلَغُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
أَصْلُ الصَّرْحِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: هُوَ الْقَصْرُ، وَكُلُّ بِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ، قَالَ اللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ -لَعَنَهُ اللَّهُ -أَنَّهُ قَالَ لِوَزِيرِهِ هَامَانَ {ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} الْآيَةَ [غَافِرٍ:36، 37] . وَالصَّرْحُ: قَصْرٌ فِي الْيَمَنِ عَالِي الْبَنَّاءِ، وَالْمُمَرَّدُ أَيِ: الْمَبْنِيُّ بَنَّاءً مُحْكَمًا أَمْلَسَ {مِنْ قَوَارِيرَ} أَيْ: زُجَاجٍ. وَتَمْرِيدُ الْبِنَاءِ تَمْلِيسُهُ. وَمَارِدٌ: حِصْنٌ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ.
وَالْغَرَضُ أَنَّ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، اتَّخَذَ قَصْرًا عَظِيمًا مَنِيفًا مِنْ زُجَاجٍ لِهَذِهِ الْمَلِكَةِ؛ لِيُرِيَهَا عَظَمَةَ سُلْطَانِهِ وَتَمَكُّنِهِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا آتَاهُ اللَّهُ، تَعَالَى، وَجَلَالَةَ مَا هُوَ فِيهِ، وَتَبَصَّرَتْ فِي أَمْرِهِ انْقَادَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ (4) وعَرَفت أَنَّهُ نَبِيٌّ كَرِيمٌ، وَمَلِكٌ عَظِيمٌ، فَأَسْلَمَتْ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَتْ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} أَيْ: بِمَا سَلَفَ مِنْ كُفْرِهَا وَشِرْكِهَا وَعِبَادَتِهَا وَقَوْمِهَا الشَّمْسَ (5) مِنْ دُونِ اللَّهِ، {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ: مُتَابَعَةً لِدِينِ سُلَيْمَانَ فِي عِبَادَتِهِ لِلَّهِ (6) وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا.
__________
(1) في ف، أ:"يذهبه".
(2) في أ: "المواسي".
(3) في أ: "النوادر".
(4) في أ: "لأوامر الله".
(5) في ف: "للشمس".
(6) في ف: "في عبادة الله".(6/197)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ثَمُودَ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا مَعَ نَبِيِّهَا صَالِحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ -كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 75، 76] .(6/197)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
{قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} ، أَيْ: لِمَ تَدْعُونَ بِحُضُورِ الْعَذَابِ، وَلَا تَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ رَحْمَتَهُ؟ وَلِهَذَا قَالَ: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} أَيْ: مَا رَأَيْنَا عَلَى وَجْهِكَ وَوُجُوهِ مَنْ اتَّبَعَكَ خَيْرًا. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ -لِشَقَائِهِمْ -كَانَ لَا يُصِيبُ أَحَدًا مِنْهُمْ سوءٌ إِلَّا قَالَ: هَذَا مِنْ قِبَلِ صَالِحٍ وَأَصْحَابِهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: تَشَاءَمُوا بِهِمْ. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الْأَعْرَافِ: 131] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النِّسَاءِ: 78] أَيْ: بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ (1) . وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 18، 19] . وَقَالَ هَؤُلَاءِ: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} أَيِ: اللَّهُ يُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: تُبْتَلُونَ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {تُفْتَنُونَ} أَيْ: تُسْتَدْرَجُونَ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ.
{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عن طغاة ثمود ورؤوسهم، الَّذِينَ كَانُوا دُعَاةَ قَوْمِهِمْ إِلَى الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ صَالِحٍ، وَآلَ بِهِمُ الْحَالُ إِلَى أَنَّهُمْ عَقَرُوا النَّاقَةَ، وَهَمُّوا بِقَتْلِ صَالِحٍ أَيْضًا، بِأَنْ يُبَيِّتُوهُ فِي أَهْلِهِ لَيْلًا فَيَقْتُلُوهُ غيْلَة، ثُمَّ يَقُولُوا لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَقْرَبِيهِ: إِنَّهُمْ مَا عَلِمُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَإِنَّهُمْ لَصَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ، مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ} أَيْ: مَدِينَةِ ثَمُودَ، {تِسْعَةُ رَهْطٍ} أَيْ: تِسْعَةُ نَفَرٍ، {يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} وَإِنَّمَا غَلَبَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَمْرِ ثَمُودَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُبَرَاءَ فِيهِمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ.
قَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ، أَيِ: الَّذِي صَدَرَ ذَلِكَ عَنْ آرَائِهِمْ وَمَشُورَتِهِمْ -قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُمْ -وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ السُّدِّي، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ أَسْمَاءُ هَؤُلَاءِ التِّسْعَةِ: دعمى، ودعيم،
__________
(1) في ف، أ: "بقدر الله وقضائه".(6/198)
وَهِرْمَا، وَهُرَيْمٌ، وَدَابٌ، وَصَوَابٌ، وَرِيَابٌ، وَمِسْطَعٌ، وَقَدَارُ بْنُ سَالِفٍ عَاقِرُ النَّاقَةِ، أَيِ: الَّذِي بَاشَرَ ذَلِكَ بِيَدِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [الْقَمَرِ: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشَّمْسِ: 12] .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ رَبِيعَةَ الصَّنْعَانِيُّ، سَمِعْتُ عَطَاءً -هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ -يَقُولُ: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} قَالَ: كَانُوا يَقْرِضُونَ الدَّرَاهِمَ (1) ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْهَا، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا عَدَدًا، كَمَا كَانَ الْعَرَبُ يَتَعَامَلُونَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: قَطْع الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ (2) .
وَفِي الْحَدِيثِ -الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرِهِ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةِ بَيْنَهُمْ إِلَّا مِنْ بَأْسٍ (3) .
وَالْغَرَضُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ الْفَسَقَةَ، كَانَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} أَيْ: تَحَالَفُوا وَتَبَايَعُوا عَلَى قَتْلِ نَبِيِّ اللَّهِ صَالِحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَنْ لَقِيَهُ لَيْلًا غِيلَةً. فَكَادَهُمُ اللَّهُ، وَجَعَلَ الدَّائِرَةَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: تَقَاسَمُوا وَتَحَالَفُوا (4) عَلَى هَلَاكِهِ، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ حَتَّى هَلَكُوا وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: تَوَافَقُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذُوهُ لَيْلًا فَيَقْتُلُوهُ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ مَعَانيق إِلَى صَالِحٍ لِيَفْتِكُوا بِهِ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَخْرَةً فَأَهْمَدَتْهُمْ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ، قَالُوا حِينَ عَقَرُوهَا: نُبَيِّت صَالِحًا [وَأَهْلَهُ] (5) وَقَوْمَهُ فَنَقْتُلُهُمْ، ثُمَّ نَقُولُ لِأَوْلِيَاءِ صَالِحٍ: مَا شَهِدْنَا مِنْ هَذَا شَيْئًا، وَمَا لَنَا بِهِ مِنْ عِلْمٍ. فَدَمَّرَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ هَؤُلَاءِ التِّسْعَةُ بَعْدَمَا عَقَرُوا النَّاقَةَ: هَلُم فَلْنَقْتُلْ صَالِحًا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا عَجَّلْنَاهُ قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كُنَّا قَدْ أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ! فَأَتَوْهُ لَيْلًا ليبيِّتوه فِي أَهْلِهِ، فَدَمْغَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا أَبَطَؤُوا عَلَى أَصْحَابِهِمْ، أَتَوْا مَنزل صَالِحٍ، فَوَجَدُوهُمْ مُنْشَدِخِينَ قَدْ رُضِخُوا بِالْحِجَارَةِ، فَقَالُوا لِصَالِحٍ: أَنْتَ قَتَلْتَهُمْ، ثُمَّ هَمُّوا بِهِ، فَقَامَتْ عَشِيرَتُهُ دُونَهُ، وَلَبِسُوا السِّلَاحَ، وَقَالُوا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَا تَقْتُلُونَهُ أَبَدًا، وَقَدْ وَعَدَكُمْ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا تَزِيدُوا رَبَّكُمْ عَلَيْكُمْ غَضَبًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَنْتُمْ مِنْ وَرَاءِ مَا تُرِيدُونَ. فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك.
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (2/70) .
(2) الموطأ (2/635) .
(3) سنن أبي داود برقم (3449) .
(4) في ف: "تحالفوا".
(5) زيادة من أ.(6/199)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ وَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هُودٍ: 65] ، قَالُوا: زَعَمَ صَالِحٌ أَنَّهُ يُفْرُغُ مِنَّا إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَنَحْنُ نَفْرُغُ مِنْهُ وَأَهْلِهِ قَبْلَ ثَلَاثٍ. وَكَانَ لِصَالِحٍ مَسْجِدٌ فِي الحجْر عِنْدَ شِعْبٍ هُنَاكَ يُصَلِّي فِيهِ، فَخَرَجُوا إِلَى كَهْفٍ، أَيْ: غَارٍ هُنَاكَ لَيْلًا فَقَالُوا: إِذَا جَاءَ يُصَلِّي قَتَلْنَاهُ (1) ، ثُمَّ رَجَعْنَا إِذَا فَرَغْنَا مِنْهُ إِلَى أَهْلِهِ، فَفَرَغْنَا مِنْهُمْ. فَبَعَثَ اللَّهُ صَخْرَةً مِنَ الهضَب حِيَالَهُمْ، فَخَشُوا أَنْ تَشْدَخَهُمْ فَتَبَادَرُوا (2) فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةُ وَهُمْ فِي ذَلِكَ الْغَارِ، فَلَا يَدْرِي قَوْمُهُمْ أَيْنَ هُمْ، وَلَا يَدْرُونَ مَا فُعِلَ بِقَوْمِهِمْ. فَعَذَّبَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ هَاهُنَا، وَهَؤُلَاءِ هَاهُنَا، وَأَنْجَى اللَّهُ صَالِحًا وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} أَيْ: فَارِغَةً لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ {بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) }
__________
(1) في ف، أ: "فقلناه".
(2) في ف، أ: "فبادروا".(6/200)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ أَنْذَرَ قَوْمَهُ نِقْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ، فِي فِعْلِهِمُ الْفَاحِشَةَ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهِيَ إِتْيَانُ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَذَلِكَ فَاحِشَةٌ عَظِيمَةٌ، اسْتَغْنَى الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ -قَالَ (1) {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أَيْ: يَرَى بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ؟
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أَيْ: لَا تَعْرِفُونَ شَيْئًا لَا طَبْعًا وَلَا شَرْعًا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 165، 166] .
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أَيْ: يَتَحَرَّجُونَ (2) مِنْ فِعْلِ مَا تَفْعَلُونَهُ، وَمِنْ إِقْرَارِكُمْ عَلَى صَنِيعِكُمْ، فَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَصْلُحُونَ لِمُجَاوَرَتِكُمْ فِي بِلَادِكُمْ. فَعَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ، فَدَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} أَيْ: مِنَ الْهَالِكِينَ مَعَ قَوْمِهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ رِدْءًا لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي رِضَاهَا بِأَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، فَكَانَتْ (3) تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى ضِيفَانِ لُوطٍ، لِيَأْتُوا إِلَيْهِمْ، لَا أَنَّهَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْفَوَاحِشَ (4) تَكْرِمَةً لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) لَا كَرَامَةً لها (6) .
__________
(1) في ف: "فقال".
(2) في أ: "يخرجون".
(3) في ف: "وكانت".
(4) في أ: "الفاحشة".
(5) في ف: "صلوات الله عليه وسلامه".
(6) في أ: "بها".(6/200)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
وَقَوْلُهُ: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أَيْ: حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} أَيِ: الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَوَصَلَ إِلَيْهِمُ الْإِنْذَارُ، فَخَالَفُوا الرَّسُولَ وَكَذَّبُوهُ، وَهمُّوا بِإِخْرَاجِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ.
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) } .
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أَيْ: عَلَى نعَمه عَلَى عِبَادِهِ، مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَعَلَى مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ العُلى وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَأَنْ يُسَلِّم عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمْ وَاخْتَارَهُمْ، وَهُمْ رُسُلُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ الْكِرَامُ، عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، هَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِعِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، قَالَ: وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصَّافَّاتِ: 180 -182] .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالسُّدِّيُّ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَضِيَ [اللَّهُ] (1) عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَلَا مُنَافَاةَ، فَإِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، فَالْأَنْبِيَاءُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَالْقَصْدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ بعد ما ذَكَرَ لَهُمْ (2) مَا فَعَلَ بِأَوْلِيَائِهِ مِنَ النَّجَاةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَمَا أَحَلَّ بِأَعْدَائِهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَالْقَهْرِ، أَنْ يَحْمَدُوهُ عَلَى جَمِيعِ (3) أَفْعَالِهِ، وَأَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى عِبَادِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ صَبِيح، حَدَّثَنَا طَلْق بْنُ غَنَّامٍ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْر، عَنِ السُّدِّيِّ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ -عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (4) .
وَقَوْلُهُ: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} : اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى.
ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى يُبَيِّنُ (5) أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّدْبِيرِ دُونَ غَيْرِهِ، فَقَالَ: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ} أَيْ: تِلْكَ السَّمَوَاتُ بِارْتِفَاعِهَا وَصَفَائِهَا، وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ وَالنُّجُومِ الزَّاهِرَةِ وَالْأَفْلَاكِ الدَّائِرَةِ، وَالْأَرْضُ بِاسْتِفَالِهَا وَكَثَافَتِهَا، وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ وَالْأَوْعَارِ وَالسُّهُولِ، وَالْفَيَافِي وَالْقِفَارِ، وَالْأَشْجَارِ وَالزُّرُوعِ، وَالثِّمَارِ وَالْبُحُورِ (6) وَالْحَيَوَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف: "بعد ذكره لهم".
(3) في ف: "جميل".
(4) مسند البزار برقم (2243) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/87) : "وفيه الحكم بن ظهير، وهو متروك".
(5) في ف: "شرع يبين تعالى".
(6) في ف: "والبحار".(6/201)
وَقَوْلُهُ: {وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أَيْ: جَعَلَهُ رِزْقًا لِلْعِبَادِ، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} أَيْ: بَسَاتِينَ {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أَيْ: مَنْظَرٍ حَسَنٍ وَشَكْلٍ بَهِيٍّ، {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} أَيْ: لَمْ تَكُونُوا تَقْدِرُونَ عَلَى إِنْبَاتِ شَجَرِهَا، وَإِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، الْمُسْتَقِلُّ بِذَلِكَ الْمُتَفَرِّدُ بِهِ، دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، كَمَا يَعْتَرِفُ (1) بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزُّخْرُفِ: 87] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الْعَنْكَبُوتِ: 63] أَيْ: هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ الْفَاعِلُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ هُمْ يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ مِمَّا يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ وَلَا يَرْزُقُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفرَدَ بِالْعِبَادَةِ مَن هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أَيْ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ يُعْبَدُ. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ، وَلِكُلِّ ذِي لُبٍّ مِمَّا يَعْرِفُونَ (2) بِهِ أَيْضًا أَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [أَيْ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ] (3) فَعَلَ هَذَا. وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْجَوَابِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ ثَمَّ أحدٌ فَعَلَ هَذَا مَعَهُ، بَلْ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِهِ. فَيُقَالُ: فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَهُوَ الْمُسْتَقِلُّ الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ؟ كَمَا قَالَ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النَّحْلِ: 17] .
وَقَوْلُهُ هَاهُنَا: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ} : {أَمَّنْ} فِي هَذِهِ الْآيَاتِ [كُلِّهَا] (4) تَقْدِيرُهُ: أَمَّنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا؟ هَذَا مَعْنَى السِّيَاقِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ مَا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} .
ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أَيْ: يَجْعَلُونَ لِلَّهِ عِدْلًا وَنَظِيرًا. وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزُّمَرِ: 9] أَيْ: أَمَّنْ هُوَ هَكَذَا كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟ وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ} [الزُّمَرِ: 9] ، {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزُّمَرِ: 22] ، وَقَالَ {أَفَمَنْ (5) هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرَّعْدِ: 33] أَيْ: أمَنْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَى أَفْعَالِ الْخَلْقِ، حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، يَعْلَمُ الْغَيْبَ جَلِيلَهُ وَحَقِيرَهُ، كَمَنْ هُوَ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي عَبَدُوهَا؟ وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرَّعْدِ: 33] ، وَهَكَذَا هَذِهِ الآيات الكريمات كلها.
__________
(1) في ف: "كما يعرف".
(2) في ف، أ: "يعترفون".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في جميع النسخ: "أمن" والصواب ما أثبتناه.(6/202)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
{أَمْ مَنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) } .
يَقُولُ: {أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا} أَيْ: قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً، لَا تَمِيدُ وَلَا تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا وَلَا تَرْجُفُ بِهِمْ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا طَابَ عَلَيْهَا الْعَيْشُ وَالْحَيَاةُ، بَلْ جَعَلَهَا مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ مِهَادًا بِسَاطًا ثَابِتَةً لَا تَتَزَلْزَلُ وَلَا تَتَحَرَّكُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [غَافِرٍ: 64] .
{وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا} أَيْ: جَعَلَ فِيهَا الْأَنْهَارَ الْعَذْبَةَ الطَّيِّبَةَ تَشُقُّهَا فِي خِلَالِهَا، وَصَرَّفَهَا فِيهَا مَا بَيْنَ أَنْهَارٍ كِبَارٍ وَصِغَارٍ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَسَيَّرَهَا شَرْقًا وَغَرْبًا وَجَنُوبًا وَشَمَالًا بِحَسَبِ مَصَالِحِ عِبَادِهِ فِي أَقَالِيمِهِمْ وَأَقْطَارِهِمْ حَيْثُ ذَرَأَهُمْ فِي أَرْجَاءِ الْأَرْضِ، سَيَّرَ لَهُمْ (1) أَرْزَاقَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} أَيْ: جِبَالًا شَامِخَةً تُرْسِي الْأَرْضَ وَتُثَبِّتُهَا؛ لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} أَيْ: جَعَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الْعَذْبَةِ وَالْمَالِحَةِ (2) حَاجِزًا، أَيْ: مَانِعًا يَمْنَعُهَا مِنَ الِاخْتِلَاطِ، لِئَلَّا يَفْسُدَ هَذَا بِهَذَا وَهَذَا بِهَذَا، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي بِقَاءَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى صِفَتِهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْبَحْرَ الْحُلْوَ هُوَ هَذِهِ الْأَنْهَارُ السَّارِحَةُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا: أن تكون عذبة زلالا تسقى الْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ وَالثِّمَارُ مِنْهَا. وَالْبِحَارُ الْمَالِحَةُ هِيَ الْمُحِيطَةُ بِالْأَرْجَاءِ وَالْأَقْطَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مَاؤُهَا مِلْحًا أُجَاجًا، لِئَلَّا يَفْسُدَ الْهَوَاءُ بِرِيحِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الْفُرْقَانِ: 53] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أَيْ: فَعَلَ هَذَا؟ أَوْ يُعْبَدُ عَلَى (3) الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالْآخَرِ؟ وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمٌ صَحِيحٌ، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ: فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ.
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (62) } .
يُنَبِّهُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ المدعُوّ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، المرجُوّ عِنْدَ النَّوَازِلِ، كَمَا قَالَ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الْإِسْرَاءِ: 67] ، وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النَّحْلِ: 53] . وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} أَيْ: مَنْ هُوَ الَّذِي لَا يَلْجَأُ الْمُضْطَرُّ إِلَّا إِلَيْهِ، وَالَّذِي لَا يَكْشِفُ ضُرَّ الْمَضْرُورِينَ سِوَاهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْب، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الحَذّاء، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الهُجَيْمي، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَلْهُجَيْمٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَامَ تَدْعُو؟ قَالَ: "أَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، الَّذِي إِنْ مَسّك ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَ عَنْكَ، وَالَّذِي إِنْ أضْلَلْت بِأَرْضٍ قَفْر فدعوتَه رَدّ عَلَيْكَ، وَالَّذِي إِنْ أَصَابَتْكَ سَنة فدعوتَه أنبتَ لَكَ". قَالَ: قُلْتُ: أَوْصِنِي. قَالَ: "لَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا، وَلَا تَزْهَدنّ فِي الْمَعْرُوفِ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهَكَ، وَلَوْ أَنْ تُفرغَ مِنْ دَلوك فِي إِنَاءِ المستقي،
__________
(1) في أ: "إليهم".
(2) في ف، أ: "والملحة".
(3) في ف، أ: "أو بعد هذا".(6/203)
وَاتَّزِرْ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ. وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ، فَإِنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ، [وَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ تَعَالَى -لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ] (1) (2) .
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَذَكَرَ اسْمَ الصَّحَابِيِّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ -هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ -حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ الهُجَيْمي (3) عَنْ أَبِي تَميمَةَ الهُجَيْمي، عَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيم الهُجَيمي قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْتَبٍ بِشَمْلَة، وَقَدْ وَقَعَ هُدْبها عَلَى قَدَمَيْهِ، فَقُلْتُ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ -أَوْ: رَسُولُ اللَّهِ؟ -فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى نَفْسِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وفِيَّ جَفَاؤُهُمْ، فَأَوْصِنِي. فَقَالَ: "لَا تحقرَنّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسط، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَقِي، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمك بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلَا تَشْتِمْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَكَ أَجْرُهُ وَعَلَيْهِ وزْرُه. وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ، فَإِنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنَ المَخيلَة، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَلَا تَسُبَّنّ أَحَدًا". قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ أَحَدًا، وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا (4) .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقًا، وَعِنْدَهُمَا طَرَفٌ صَالِحٌ مِنْهُ (5) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ (6) حَدَّثَنَا عبدَةَ بْنُ نُوحٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: دَخَلَ عليَّ طَاوُسٌ يَعُودُنِي، فَقُلْتُ (7) لَهُ: ادْعُ اللَّهَ لِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ. فَقَالَ: ادْعُ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّهُ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: بِعِزَّتِي إِنَّهُ مَنِ اعْتَصَمَ بِي فَإِنْ كَادَتْهُ السَّمَوَاتُ وَمَنْ (8) فِيهِنَّ، وَالْأَرْضُ بِمَنْ فِيهَا، فَإِنِّي (9) أَجْعَلُ لَهُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ مَخْرَجًا. وَمَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِي فَإِنِّي (10) أَخْسِفُ بِهِ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ الْأَرْضَ، فَأَجْعَلُهُ فِي الْهَوَاءِ، فَأَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ رَجُلٍ -حَكَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الدّينَوَري، الْمَعْرُوفُ بالدّقّيِّ الصُّوفِيُّ -قَالَ هَذَا الرَّجُلُ (11) : كُنْتُ أُكَارِي عَلَى بَغْلٍ لِي مِنْ دِمَشْقَ إِلَى بَلَدِ الزّبَدَاني، فَرَكِبَ مَعِي ذَاتَ مَرَّةٍ رَجُلٌ، فَمَرَرْنَا عَلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ، عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكَةٍ، فَقَالَ لِي: خُذْ فِي هَذِهِ، فَإِنَّهَا أَقْرَبُ. فَقُلْتُ: لَا خبرَةَ لِي فِيهَا، فَقَالَ: بَلْ هِيَ أَقْرَبُ. فَسَلَكْنَاهَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَكَانٍ وَعْر وَوَادٍ عَمِيقٍ، وَفِيهِ قَتْلَى كَثِيرٌ، فَقَالَ لِي: أَمْسِكْ رَأْسَ الْبَغْلِ حَتَّى أَنْزِلَ. فَنَزَلَ وَتَشَمَّرَ، وَجَمَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، وَسَلَّ سِكِّينًا مَعَهُ وَقَصَدَنِي، فَفَرَرْتُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَتَبِعَنِي، فَنَاشَدْتُهُ اللَّهَ وَقُلْتُ: خُذِ الْبَغْلَ بِمَا عَلَيْهِ. فَقَالَ: هُوَ لِي، وَإِنَّمَا أُرِيدُ قَتْلَكَ. فَخَوَّفْتُهُ اللَّهَ وَالْعُقُوبَةَ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَاسْتَسْلَمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقُلْتُ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَتْرُكَنِي حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ؟ فَقَالَ: [صَلِّ] (12) وَعَجِّلْ. فقمت أصلي فَأرْتِج
__________
(1) زيادة من ف، أ، والمسند.
(2) المسند (5/64) .
(3) في هـ، ف، أ: "الهجيمي عن أبيه".
(4) المسند (5/63) .
(5) سنن أبي داود برقم (4084) والنسائي في السنن الكبرى برقم (1049-1052) .
(6) في أ: "هشام".
(7) في ف، أ: "قال".
(8) في ف: "بمن".
(9) في ف: "أن"، وفي أ: "أي".
(10) في ف: "فإنه".
(11) في ف: "بالرجل".
(12) زيادة من ف.(6/204)
عليَّ الْقُرْآنُ فَلَمْ يَحضرني مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ، فَبَقِيتُ وَاقِفًا مُتَحَيِّرًا وَهُوَ يَقُولُ: هِيهِ. افرُغ. فَأَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} ، فَإِذَا أَنَا بِفَارِسٍ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ فَمِ الْوَادِي، وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ، فَرَمَى بِهَا الرَّجُلَ فَمَا أَخْطَأَتْ فُؤَادَهُ، فَخَرَّ صَرِيعًا، فَتَعَلَّقْتُ بِالْفَارِسِ وَقُلْتُ: بِاللَّهِ مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ [اللَّهِ] (1) الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ. قَالَ: فَأَخَذْتُ الْبَغْلَ وَالْحَمْلَ وَرَجَعْتُ سَالِمًا.
وَذُكِرَ فِي تَرْجَمَةِ "فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحَسَنِ أَمِّ أَحْمَدَ الْعِجْلِيَّةِ" قَالَتْ: هَزَمَ الْكَفَّارُ يَوْمًا الْمُسْلِمِينَ فِي غَزَاةٍ، فَوَقَفَ جَوَاد جَيّد بِصَاحِبِهِ، وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ وَمِنَ الصُّلَحَاءِ، فَقَالَ لِلْجَوَادِ: مَا لَكَ؟ وَيْلَكَ. إِنَّمَا كُنْتُ أَعُدُّكَ لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ. فَقَالَ لَهُ الْجَوَادُ: وَمَا لِيَ لَا أُقَصِّرُ وَأَنْتَ تَكلُ عَلُوفَتِي إِلَى السُّوَّاسِ فَيَظْلِمُونَنِي وَلَا يُطْعِمُونَنِي (2) إِلَّا الْقَلِيلَ؟ فَقَالَ: لَكَ عليَّ عَهْدُ اللَّهِ أَنِّي لَا أَعْلُفُكَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَّا فِي حِجْري. فَجَرَى الْجَوَادُ عِنْدَ ذَلِكَ، ونجَّى صَاحِبَهُ، وَكَانَ لَا يَعْلِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فِي حِجْره، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَجَعَلُوا يَقْصِدُونَهُ لِيَسْمَعُوا مِنْهُ ذَلِكَ، وَبَلَغَ مَلِكَ الرُّومِ أمرُه، فَقَالَ: مَا تُضَام (3) بَلْدَةٌ يَكُونُ هَذَا الرَّجُلُ فِيهَا. وَاحْتَالَ لِيُحَصِّلَهُ فِي بَلَدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلًا مِنَ الْمُرْتَدِّينَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ أَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ حَسُنت نِيَّتُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَقَوْمِهِ، حَتَّى اسْتَوْثَقَ، ثُمَّ خَرَجَا يَوْمًا يَمْشِيَانِ عَلَى جَنْبِ السَّاحِلِ، وَقَدْ وَاعَدَ شَخْصًا آخَرَ مِنْ جِهَةِ مَلِكِ الرُّومِ لِيَتَسَاعَدَا عَلَى أَسْرِهِ، فَلَمَّا اكْتَنَفَاهُ لِيَأْخُذَاهُ رَفَع طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ، إِنَّهُ إِنَّمَا خَدَعني بِكَ فَاكْفِنِيهِمَا بِمَا شِئْتَ، قَالَ: فَخَرَجَ سَبُعَانِ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَاهُمَا، وَرَجَعَ الرَّجُلُ سَالِمًا (4) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ} أَيْ: يُخْلفُ قَرنا لِقَرْنٍ قَبْلَهُمْ وخَلَفًا لِسَلَفٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الْأَنْعَامِ: 133] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الْأَنْعَامِ: 165] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً} [الْبَقَرَةِ: 30] ، أَيْ: قَوْمًا يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَدَّمْنَا تَقْرِيرَهُ. وَهَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ} أَيْ: أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ. وَلَوْ شَاءَ لَأَوْجَدَهُمْ كُلَّهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ بعضَهم مِنْ ذُرِّيَّةِ بَعْضٍ، بَلْ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُمْ (5) كُلَّهُمْ أَجْمَعِينَ، كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ. وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ بَعْضَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَعْضٍ (6) وَلَكِنْ لَا يُمِيتُ أَحَدًا حَتَّى تَكُونَ وَفَاةُ الْجَمِيعِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَكَانَتْ تَضِيقُ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ (7) وَتَضِيقُ عَلَيْهِمْ مَعَايِشُهُمْ وَأَكْسَابُهُمْ، وَيَتَضَرَّرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. وَلَكِنِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَقُدْرَتُهُ أَنْ يَخْلُقَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يُكْثِرَهُمْ غَايَةَ الْكَثْرَةِ، وَيَذْرَأَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَيَجْعَلَهُمْ قُرُونًا بَعْدَ قُرُونٍ، وَأُمَمًا بَعْدَ أُمَمٍ، حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ وَتَفْرُغَ البَرية، كَمَا قَدَّرَ ذَلِكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَكَمَا أَحْصَاهُمْ وعَدّهم عَدًا، ثُمَّ يُقِيمُ (8) الْقِيَامَةَ، ويُوفي كُلَّ عَامِلٍ عمله إذا بلغ الكتاب
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف، أ: "فيظلموني ولا يطعموني".
(3) في ف، أ: "ما نظام".
(4) تاريخ دمشق (19/489 "المخطوط") .
(5) في أ: "لجعلهم".
(6) في ف، أ: "من ذرية بعضهم بعضا".
(7) في ف: "تضيق الأرض عليهم".
(8) في ف: "يوم".(6/205)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
أَجَلَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أَيْ: يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ إِلَهٌ مَعَ اللَّهِ يُعْبد، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِفِعْلِ ذَلِكَ {قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} (1) أَيْ: مَا أَقَلَّ تَذَكُّرَهُمْ فِيمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) } .
يَقُولُ: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أَيْ: بِمَا خَلَقَ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، كَمَا قَالَ: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النَّحْلِ: 16] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 97] .
{وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أَيْ: بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ الَّذِي فِيهِ مَطَرٌ، يُغِيثُ بِهِ عِبَادَهُ الْمُجْدِبِينَ الْأَزِلِينَ الْقَنِطِينَ، {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
__________
(1) في ف، أ: "ما تذكرون".(6/206)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
{أَمَّنْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) } .
أَيْ: هُوَ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ يَبْدَأُ (1) الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [الْبُرُوجِ: 12، 13] ، وَقَالَ {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ: 27] .
{وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} أَيْ: بِمَا يُنْزِلُ مِنْ مَطَرِ السَّمَاءِ، وَيُنْبِتُ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ. وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطَّارِقِ: 11، 12] ، وَقَالَ {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الْحَدِيدِ: 4] ، فَهُوَ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَيُسْكِنُهُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ [مِنْهَا] (2) أَنْوَاعَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَزَاهِيرِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانٍ شَتَّى، {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى} [طَهَ: 54] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أَيْ: فَعَلَ هَذَا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ: يُعْبَدُ؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} عَلَى صِحَّةِ مَا تَدَّعُونَهُ (3) مِنْ عِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فِي ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ وَلَا بُرْهَانَ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] : (4) {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] .
__________
(1) في ف، أ: "بدأ".
(2) زيادة من ف.
(3) في أ: "من يدعونه".
(4) زيادة من أ.(6/206)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) } .
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ مُعَلِّمًا لِجَمِيعِ الْخَلْقِ: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ. وَقَوْلُهُ: {إِلا اللَّهَ} اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِذَلِكَ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 59] ، وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لُقْمَانَ: 34] ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أَيْ: وَمَا يَشْعُرُ الْخَلَائِقُ السَّاكِنُونَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِوَقْتِ السَّاعَةِ، كَمَا قَالَ: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً} [الْأَعْرَافِ: 187] ، أَيْ: ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْد، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عن مسروق، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ -يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الفِرْية؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} (1) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثِ خَصَلَاتٍ (2) : جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَجَعَلَهَا يُهْتَدَى بِهَا، وَجَعَلَهَا رُجُومًا [لِلشَّيَاطِينِ] (3) ، فَمَنْ تَعَاطَى فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِرَأْيِهِ، وَأَخْطَأَ حَظَّهُ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ وتكلَّف مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَإِنَّ نَاسًا جَهَلَة بِأَمْرِ اللَّهِ، قَدْ (4) أَحْدَثُوا مِنْ هَذِهِ النُّجُومِ كِهَانَةً: مَنْ أعْرَس بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا، كَانَ كَذَا وَكَذَا. ومَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا، كَانَ كَذَا وَكَذَا. ومَنْ وُلِدَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا، كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَعَمْرِي مَا مِنْ نَجْمٍ إِلَّا يُولَدُ بِهِ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ، وَالْقَصِيرُ وَالطَّوِيلُ، وَالْحَسَنُ وَالدَّمِيمُ، وَمَا علْمُ هَذَا النَّجْمِ وَهَذِهِ الدَّابَّةِ وَهَذَا الطَّيْرِ بِشَيْءٍ مِنَ الْغَيْبِ! وَقَضَى اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ بِحُرُوفِهِ، وَهُوَ كَلَامٌ جَلِيلٌ مَتِينٌ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: {بَلِ ادَّارَكَ (5) عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} أَيِ: انْتَهَى عِلْمُهُمْ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ وَقْتِهَا.
وَقَرَأَ آخَرُونَ: "بَلْ أَدْرَكَ (6) عِلْمُهُمْ"، أَيْ: تَسَاوَى عِلْمُهُمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ لِمُسْلِمٍ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِجِبْرِيلَ -وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ -مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ (7) أَيْ: تَسَاوَى فِي الْعَجْزِ عَنْ دَرْك ذَلِكَ عِلْمُ الْمَسْؤُولِ والسائل.
__________
(1) أصله في الصحيحين لكن فيهما الشاهد قوله تعالى: (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) بدل هذه الآية: (قل لا يعلم من في السموات) .
(2) في ف، أ: "خصال".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف، أ: "فقد".
(5) في أ: "أدرك".
(6) في أ: "ادارك".
(7) صحيح مسلم برقم (8) .(6/207)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: {بَلِ ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَة} أَيْ: غَابَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {بَلِ ادَّارَكَ (1) عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} يَعْنِي: يُجَهِّلهم (2) رَبُّهُمْ، يَقُولُ: لَمْ يَنْفُذْ (3) لَهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ عِلْمٌ، هَذَا قَوْلٌ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيج، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "بَلْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ" حِينَ لَمْ يَنْفَعِ الْعِلْمُ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَالسُّدِّيُّ: أَنَّ عِلْمَهُمْ إِنَّمَا يُدرك وَيَكْمُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مَرْيَمَ: 38] .
وَقَالَ سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: "بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ" قَالَ: اضْمَحَلَّ عِلْمُهُمْ فِي الدُّنْيَا، حِينَ عَايَنُوا الْآخِرَةَ.
وَقَوْلُهُ: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} عَائِدٌ عَلَى الْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ الْكَافِرُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الْكَهْفِ: 48] أَيِ: الْكَافِرُونَ مِنْكُمْ. (4) وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} أَيْ: شاكُّون فِي وُجُودِهَا وَوُقُوعِهَا، {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} أَيْ: فِي عمَاية وَجَهْلٍ كَبِيرٍ فِي أَمْرِهَا وَشَأْنِهَا.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: أَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا إِعَادَةَ الْأَجْسَادِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا عِظَامًا وَرُفَاتًا وَتُرَابًا، ثُمَّ قَالَ: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} أَيْ: مَا زِلْنَا نَسْمَعُ بِهَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا، وَلَا نَرَى لَهُ حَقِيقَةً وَلَا وُقُوعًا.
وَقَوْلُهُمْ: {إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} : يَعْنُونَ: مَا هَذَا الْوَعْدُ بِإِعَادَةِ الْأَبْدَانِ، {إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} أَيْ: أَخَذَهُ (5) قَوْمٌ عَمَّن قَبْلَهُمْ، مَنْ قَبْلِهُمْ (6) يَتَلَقَّاهُ بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ، وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ عَمَّا ظَنُّوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْمَعَادِ: {قُلْ} -يَا مُحَمَّدُ -لِهَؤُلَاءِ: {سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أَيِ: المكذِّبين بِالرُّسُلِ وَمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَغَيْرِهِ، كَيْفَ حَلَّتْ بِهِمْ نقَمُ اللَّهِ وَعَذَابُهُ وَنَكَالُهُ، ونجَّى اللَّهُ مِنْ بَيْنِهِمْ رُسُلَهُ الْكِرَامَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَصِحَّتِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أَيِ: الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَلَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ وَتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} أي:
__________
(1) في أ: "أدرك".
(2) في أ: "بجهلهم".
(3) في ف: "يتقدم".
(4) في ف، أ: "منهم".
(5) في ف: "يأخذه" وفي أ: "أخذ".
(6) في أ: "كتبهم".(6/208)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
فِي كَيْدِكَ ورَدّ مَا جِئْتَ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُكَ وَنَاصِرُكَ، ومظهرٌ دِينَكَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَعَانَدَهُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فِي سُؤَالِهِمْ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاسْتِبْعَادِهِمْ وُقُوعَ ذَلِكَ: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قَالَ اللَّهُ مُجِيبًا لَهُمْ: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} . [قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يَكُونَ قَرُبَ -أَوْ: أَنْ يُقَرَّبَ -لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ] (1) . وَهَكَذَا (2) قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ.
وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الْإِسْرَاءِ: 51] ، وَقَالَ تَعَالَى {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 54] .
وَإِنَّمَا دَخَلَتِ "اللَّامُ" فِي قَوْلِهِ: {رَدِفَ لَكُمْ} ؛ لِأَنَّهُ ضُمن مَعْنَى "عَجِل لَكُمْ" كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} : عَجِلَ لَكُمْ.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أَيْ: فِي إِسْبَاغِهِ نعمَه عَلَيْهِمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَشْكُرُونَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أَيْ: يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالضَّمَائِرَ، كَمَا يَعْلَمُ الظَّوَاهِرَ، {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} [الرَّعْدِ: 10] ، {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طَهَ: 7] ، {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [هُودٍ: 5] .
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ -وَهُوَ مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ وَمَا شَاهَدُوهُ -فَقَالَ: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي: وَمَا مِنْ شَيْءٍ، {فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] .
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف: "وعنده".(6/209)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) }(6/210)
وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ وَالْفُرْقَانِ (1) : إِنَّهُ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ -وَهُمْ حَمَلَةُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ - {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي عِيسَى وَتَبَايُنِهِمْ فِيهِ، فَالْيَهُودُ افْتَرَوْا، وَالنَّصَارَى غَلَوا، فَجَاءَ [إِلَيْهِمُ] (2) الْقُرْآنُ بِالْقَوْلِ الْوَسَطِ الْحَقِّ الْعَدْلِ: أَنَّهُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ الْكِرَامِ، عَلَيْهِ [أَفْضَلُ] (3) الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مَرْيَمَ: 34] .
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: هُدًى لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَحْمَةٌ لَهُمْ فِي الْعَمَلِيَّاتِ.
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ} فِي انْتِقَامِهِ، {الْعَلِيمُ} بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ وَأَقْوَالِهِمْ.
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أَيْ: فِي أُمُورِكَ، وبَلّغ رِسَالَةَ رَبِّكَ، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أَيْ: أَنْتَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وَإِنْ خَالَفَكَ مَنْ خَالَفَكَ، مِمَّنْ كُتِبَتْ (4) عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ وحَقَّت عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أَيْ: لَا تُسْمِعُهُمْ شَيْئًا يَنْفَعُهُمْ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ عَلَى قُلُوبِهِمْ غِشَاوَةٌ، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْر الْكُفْرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [أَيْ] (5) : إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لَكَ مَنْ هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، السَّمْعُ وَالْبَصَرُ النافعُ فِي الْقَلْبِ وَالْبَصِيرَةِ الْخَاضِعُ لِلَّهِ، وَلِمَا جَاءَ عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) } .
هَذِهِ الدَّابَّةُ تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ وتَرْكِهم أَوَامِرَ اللَّهِ وَتَبْدِيلِهِمُ الدِّينَ الْحَقَّ، يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ -قِيلَ: مِنْ مَكَّةَ. وَقِيلَ: مِنْ غَيْرِهَا. كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ -فَتُكَلِّم النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وقَتَادَةُ -ورُوي عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تُكَلِّمُهُمْ كَلَامًا أَيْ: تُخَاطِبُهُمْ مُخَاطَبَةً.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: تُكَلِّمُهُمْ فَتَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِي هَذَا [الْقَوْلِ] (6) نَظَرٌ لَا يَخْفَى، وَاللَّهُ أعلم.
__________
(1) في ف: "والبيان".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف، أ: "كتب".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) زيادة من ف، أ.(6/210)
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -فِي رِوَايَةٍ -تَجْرَحُهُمْ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ، قَالَ: كُلًّا (1) تَفْعَلُ يَعْنِي هَذَا وَهَذَا، وَهُوَ قولٌ حَسَنٌ، وَلَا مُنَافَاةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي ذِكْرِ الدَّابَّةِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ، فَلْنَذْكُرْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ فُرَات، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيفة بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غُرْفَةٍ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ أَمْرَ السَّاعَةَ فَقَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى بن مَرْيَمَ، وَالدَّجَّالُ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعر عَدَنٍ تَسُوقُ -أَوْ: تَحْشُرُ -النَّاسَ، تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا" (2) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ فُرَات الْقَزَّازِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، عَنْ حُذَيفة مَوْقُوفًا (3) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (4) . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْع، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْهُ مَرْفُوعًا (5) (6) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو، وَجَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، فَأَمَّا طَلْحَةُ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عمَير اللِّيثِيُّ: أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ حَدَّثَهُ، عَنْ حذَيفة بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ أَبِي سَريحَةَ، وَأَمَّا جَرِيرٌ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبيد، عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -وَحَدِيثُ طَلْحَةَ أَتَمُّ وَأَحْسَنُ -قَالَ: ذَكَرَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّابَّةَ فَقَالَ: "لَهَا ثَلَاثُ خَرْجَاتٍ مِنَ الدَّهْرِ، فَتَخْرُجُ خَرجة مِنْ أَقْصَى الْبَادِيَةِ، وَلَا يَدْخُلُ ذِكْرُهَا الْقَرْيَةَ -يَعْنِي: مَكَّةَ -ثُمَّ تَكْمُنُ زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ تَخْرُجُ خَرْجة أُخْرَى دُونَ تِلْكَ، فَيَعْلُو ذِكْرُهَا فِي أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَيَدْخُلُ ذِكْرُهَا الْقَرْيَةَ" يَعْنِي: مَكَّةَ. -قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثُمَّ بَيْنَمَا النَّاسُ فِي أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ عَلَى اللَّهِ حُرْمَةً وَأَكْرَمِهَا: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لَمْ يَرُعْهم إِلَّا وَهِيَ تَرْغو (7) بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، تَنْفُضُ عَنْ رَأْسِهَا التُّرَابَ. فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا شتَّى وَمَعًا، وَبَقِيَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْجِزُوا اللَّهَ، فَبَدَأَتْ بِهِمْ فجَلَت وُجُوهَهُمْ حَتَّى جَعَلَتْهَا كَأَنَّهَا الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ، وَوَلَّتْ فِي الْأَرْضِ لَا يُدْرِكُهَا طَالِبٌ، وَلَا يَنْجُو مِنْهَا هَارِبٌ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَعَوَّذُ مِنْهَا بِالصَّلَاةِ، فَتَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِهِ فَتَقُولُ: يَا فُلَانُ، الآن تصلي؟
__________
(1) في ف: "كل".
(2) رواه الإمام أحمد في المسند (4/6) ولكن باختلاف في الألفاظ، وهذا اللفظ هو سياق حديث ابن مهدي عن سفيان وهو في المسند (4/7) .
(3) في ف، أ: "به مرفوعا".
(4) صحيح مسلم برقم (2901) وسنن أبي داود برقم (4311) وسنن الترمذي برقم (2183) وسنن ابن ماجه برقم (4041) .
(5) في ف، أ: "موقوفا".
(6) صحيح مسلم برقم (2901) .
(7) في أ: "تربو".(6/211)
فَيُقْبِلُ عَلَيْهَا فَتَسِمُهُ (1) فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ تَنْطَلِقُ وَيَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي الْأَمْوَالِ، وَيَصْطَحِبُونَ فِي الْأَمْصَارِ، يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ، حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَقُولُ: يَا كَافِرُ، اقْضِنِي حَقِّي. وَحَتَّى إِنَّ الْكَافِرَ لَيَقُولُ: يَا مُؤْمِنُ، اقْضِنِي حَقِّي" (2) .
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْد مَوْقُوفًا (3) فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَاهُ مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مَرْفُوعًا، وَأَنَّ ذَلِكَ فِي زمان عيسى بن مَرْيَمَ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ لَا يَصِحُّ (4) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ أَبِي حَيَّان، عَنْ أَبِي زُرْعَة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: حَفظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ (5) بَعْدُ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنْ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحى، وَأَيَّتُهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا، فَالْأُخْرَى (6) عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا" (7) .
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ -مَوْلَى الحُرَقَة -عَنْ أَبِيهِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا (8) : طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدَّابَّةَ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ، أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ" (9) . وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: الدَّجَّالَ، وَالدُّخَانَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ وخُويّصة أَحَدِكُمْ" (10) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ مَاجَةَ: حَدَّثَنَا حَرْمَلَة بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ وابن لَهِيعة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سِنَان بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ، وَالدَّجَّالَ، وخُوَيّصة أَحَدِكُمْ، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ". تَفَرَّدَ بِهِ (11) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَوْسِ (12) بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَخْرُجُ دَابَّةُ الْأَرْضِ، وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْعَصَا، وتُجلي وجه المؤمن
__________
(1) في أ: "فتشمه".
(2) مسند الطيالسي برقم (1069) .
(3) تفسير الطبري (20/10) .
(4) تفسير الطبري (20/11) .
(5) في ف: "لم أنساه".
(6) في ف: "والأخرى".
(7) صحيح مسلم برقم (2941) .
(8) في ف، أ: "ستة".
(9) صحيح مسلم برقم (2947) .
(10) صحيح مسلم برقم (2947) .
(11) سنن ابن ماجه برقم (4056) وقال البوصيري في الزوائد (3/256) : "هذا إسناد حسن، سنان بن سعد مختلف فيه وفي اسمه".
(12) في هـ، ف، أ: "أويس". والمثبت من المسند.(6/212)
بِالْخَاتَمِ، حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى الْخُوَانِ يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ".
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ بَهْز وَعَفَّانَ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ (1) . وَقَالَ: "فَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْخَاتَمِ، وَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْخُوَانِ الْوَاحِدِ لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ هَذَا: يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ هَذَا: يَا كَافِرُ".
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدَّبِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ (2) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلة، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عُبَيْد، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيدة، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَهَبَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَوْضِعٍ بِالْبَادِيَةِ، قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ، فَإِذَا أَرْضٌ يَابِسَةٌ حَوْلَهَا رَمْلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِذَا فِتْر فِي شِبْرٍ".
قَالَ ابْنُ بُرَيدة: فَحَجَجْتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِنِينَ، فَأَرَانَا عَصًا لَهُ، فَإِذَا هُوَ بعَصاي هَذِهِ (3) ، كَذَا وَكَذَا (4) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ؛ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ دابةٌ ذَاتُ زَغَب، لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ، تَخْرُجُ مِنْ بَعْضِ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ (5) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاء، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنْ صِدْع مِنَ الصَّفَا كجَرْي الْفَرَسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَمْ يَخْرُجْ ثُلُثُهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ الدَّابَّةِ، فَقَالَ: الدَّابَّةُ تَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ صَخْرَةٍ بِجِيَادٍ، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ مَعَهُمْ -أَوْ لَوْ شِئْتُ بِعَصَايَ الصَّخْرَةَ الَّتِي تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنْ تَحْتِهَا. قِيلَ: فتصنعُ مَاذَا يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو؟ قَالَ: تَسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقَ فَتَصْرُخُ صَرْخَةً تنفُذُه، ثُمَّ تَسْتَقْبِلُ الشَّامَ فَتَصْرُخُ (6) صَرْخَةً تُنْفِذُهُ، ثُمَّ تَسْتَقْبِلُ الْمَغْرِبَ فَتَصْرُخُ صَرْخَةً تُنْفِذُهُ، ثُمَّ تَسْتَقْبِلُ الْيَمَنَ فَتَصْرُخُ صَرْخَةً تُنْفِذُهُ، ثُمَّ تَرُوحُ مِنْ مَكَّةَ فَتُصْبِحُ (7) بِعُسْفَانَ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: تَخْرُجُ الدَّابَّةُ لَيْلَةَ جَمْع (8) . وَرَوَاهُ ابن أبي حاتم. وفي
__________
(1) مسند الطيالسي برقم (2564) والمسند (2/295) من حديث عفان ويزيد، و (2/291) من حديث بهز.
(2) سنن ابن ماجه برقم (4066) .
(3) في ف، أ: "هذا".
(4) سنن ابن ماجه برقم (4067) وقال البوصيري في الزوائد (3/259) : "هذا إسناد ضعيف".
(5) تفسير عبد الرزاق (2/71) .
(6) في أ: "ثم تصرخ".
(7) في أ: "فتضع".
(8) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (15/180) من طريق عبد الملك بن المغيرة، عن ابن البيلمان، عن ابن عمر قال: "تخرج الدابة ليلة جمع والناس يسيرون إلى منى فتحملهم بين عجزها وذنبها فلا يبقى منافق إلا خطمته، قال: وتمسح المؤمن، قال: فيصبحون وهم أشر من الدجال".(6/213)
إِسْنَادِهِ ابْنُ الْبَيْلَمَانِ (1) .
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّهُ حَكَى مِنْ كَلَامٍ عُزَير، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: وَتَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ سَدُومَ دَابَّةٌ تُكَلِّمُ النَّاسَ كُلٌّ يَسْمَعُهَا، وَتَضَعُ الْحَبَالَى قَبْلَ التَّمَامِ، وَيَعُودُ الْمَاءُ الْعَذْبُ أُجَاجًا، وَيَتَعَادَى الْأَخِلَّاءُ، وتُحرَقُ الْحِكْمَةُ، ويُرفَعُ الْعِلْمُ، وَتُكَلِّمُ الْأَرْضُ الَّتِي تَلِيهَا. وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَرْجُو النَّاسُ مَا لَا يَبْلُغُونَ، وَيَتْعَبُونَ فِيمَا لَا يَنَالُونَ، وَيَعْمَلُونَ فِيمَا لَا يَأْكُلُونَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ -كَاتَبِ اللَّيْثِ -حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: إِنَّ الدَّابَّةَ فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، مَا بَيْنَ قَرْنَيْهَا فَرْسَخٌ (2) لِلرَّاكِبِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مِثْلُ الْحَرْبَةِ الضَّخْمَةِ.
وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا دَابَّةٌ لَهَا رِيشٌ وَزَغَبٌ وَحَافِرٌ، وَمَا لَهَا ذَنَبٌ، وَلَهَا لِحْيَةٌ، وَإِنَّهَا لَتُخْرِجُ حُضْر الْفَرَسِ الْجَوَادِ ثَلَاثًا، وَمَا خَرَجَ ثُلُثُهَا (3) . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ وَصَفَ الدَّابَّةَ فَقَالَ: رَأْسُهَا رَأْسُ ثَوْرِ، وَعَيْنُهَا عَيْنُ خِنْزِيرٍ، وَأُذُنُهَا أُذُنُ فِيلٍ، وَقَرْنُهَا قَرْنُ أيَّل، وَعُنُقُهَا عُنُقُ نَعَامَةٍ، وَصَدْرُهَا صَدْرُ أَسَدٍ، وَلَوْنُهَا لَوْنُ نَمر، وَخَاصِرَتُهَا خَاصِرَةُ هِرّ، وَذَنَبُهَا ذَنَبُ كَبْشٍ، وَقَوَائِمُهَا قَوَائِمُ بَعِيرٍ، بَيْنَ كُلِّ مَفْصَلَيْنِ اثْنَا [عَشَرَ] (4) ذِرَاعًا، تَخْرُجُ مَعَهَا عَصَا مُوسَى، وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ، فَلَا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إِلَّا نَكتَت فِي وَجْهِهِ بِعَصَا مُوسَى نُكْتَةً بَيْضَاءَ، فَتَفْشُو تِلْكَ النُّكْتَةُ حَتَّى يَبْيَضَّ لَهَا وَجْهُهُ، وَلَا يَبْقَى كَافِرٌ إِلَّا نَكَتت فِي وَجْهِهِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ بِخَاتَمِ سُلَيْمَانَ، فَتَفْشُو تِلْكَ النُّكْتَةُ حَتَّى يَسْوَدَّ لَهَا وَجْهُهُ، حَتَّى إِنَّ النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ: بِكَمْ ذَا يَا مُؤْمِنُ، بِكَمْ ذَا يَا كَافِرُ؟ وَحَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يَجْلِسُونَ عَلَى مَائِدَتِهِمْ، فَيَعْرِفُونَ مُؤْمِنَهُمْ مِنْ كَافِرِهِمْ، ثُمَّ تَقُولُ لَهُمُ الدَّابَّةُ: يَا فُلَانُ، أَبْشِرْ، أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَا فُلَانُ، أَنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (5) .
__________
(1) في ف: "البيلماني".
(2) في أ: "فرح".
(3) في ف، أ: "ثلثاها".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) وهذا من الإسرائيليات مما لا فائدة من ذكره، وأوصاف الدابة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.(6/214)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَحَشْرِ الظَّالِمِينَ الْمُكَذِّبِينَ (1) بِآيَاتِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ إِلَى بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لِيَسْأَلَهُمْ عَمَّا فَعَلُوهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، وَتَصْغِيرًا وَتَحْقِيرًا فَقَالَ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} أَيْ: مِنْ كُلِّ قَوْمٍ وَقَرْنٍ (2) فَوْجًا، أَيْ: جَمَاعَةً، {مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصَّافَّاتِ: 22] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التَّكْوِيرِ: 7] .
وَقَوْلُهُ: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُدْفَعُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَزَعَةٌ تَرُدُّ (3) أَوَّلَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يُسَاقُونَ.
{حَتَّى إِذَا جَاءُوا} أَيْ: أُوقِفُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فِي مَقَامِ الْمُسَاءَلَةِ، {قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ: وَيُسْأَلُونَ (4) عَنِ اعْتِقَادِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمْ فَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الْقِيَامَةِ: 31، 32] ، فَحِينَئِذٍ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُذْرٌ يَعْتَذِرُونَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الْمُرْسَلَاتِ: 35، 37] ، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} أَيْ: بُهِتُوا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا ظَلَمَةً لِأَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ رُدُّوا إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الَّذِي لَا تَخْفَى (5) عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ، وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، وَشَأْنِهِ الرَّفِيعِ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُ وَالِانْقِيَادُ لِأَوَامِرِهِ، وَتَصْدِيقِ أَنْبِيَائِهِ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي لَا مَحيد عَنْهُ، فَقَالَ {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} أَيْ: فِيهِ ظَلَامٌ تَسْكُنُ (6) بِسَبَبِهِ حَرَكَاتُهُمْ، وَتَهْدَأُ أَنْفَاسُهُمْ، وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ نَصَب التَّعَبِ فِي نَهَارِهِمْ. {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أَيْ: مُنِيرًا مُشْرِقًا، فَبِسَبَبِ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْمَعَايِشِ والمكاسب، والأسفار والتجارات، وغير ذلك من شؤونهم الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
__________
(1) في ف، أ: "الظالمين مع المكذبين".
(2) في ف: "قرن وقوم".
(3) في ف، أ: "يرد".
(4) في ف: "فيسألون".
(5) في ف: "لا يخفى".
(6) في ف: "يسكن".(6/215)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) }(6/216)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَوْلِ يَوْمِ نَفْخَةِ الفَزَع فِي الصُّور، وَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ". وَفِي حَدِيثِ (الصُّور) أَنَّ إِسْرَافِيلَ هُوَ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْفُخُ فِيهِ أَوَّلًا نَفْخَةَ الْفَزَعِ وَيُطَوِّلُهَا، وَذَلِكَ فِي آخِرِ عُمْرِ الدُّنْيَا، حِينَ تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى شَرَارِ النَّاسِ مِنَ الْأَحْيَاءِ، فَيَفْزَعُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ ومَنْ فِي الْأَرْضِ {إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ، وَهُمُ الشُّهَدَاءُ، فَإِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
قَالَ الْإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: حَدَّثَنَا عُبَيد اللَّهِ (1) بْنِ مُعاذ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ: سَمِعْتُ يَعْقُوبَ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَة بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ، سَمِعْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي تَحدث إِنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ إِلَى كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ -أَوْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهُمَا -لَقَدْ هَمَمْتُ أَلَّا أُحَدِّثَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا، إِنَّمَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدَ قَلِيلٍ أَمْرًا عَظِيمًا يُخَرِّبُ الْبَيْتُ، وَيَكُونُ وَيَكُونُ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ -[لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ] (2) يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا، أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا -فَيَبْعَثُ الله عيسى بن مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ. ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ، لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ، فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ فِي كَبَدِ جَبَلٍ لدخَلَتْه (3) عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ". قَالَ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ (4) دَارٌّ رِزْقُهُمْ، حسنٌ عَيْشُهُمْ. ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا [وَرَفَعَ لِيتًا] (5) . قَالَ: "وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوط حَوْضَ إِبِلِهِ". قَالَ: "فَيَصْعَقُ ويَصعقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ -أَوْ قَالَ: يُنْزِلُ اللَّهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّل -أَوْ قَالَ: الظِّلُّ -نُعْمَانُ الشَّاكُّ -فَتَنْبُتُ (6) مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ ينفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ. ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون. ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ. فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ". قَالَ: "فَذَلِكَ (7) يَوْمٌ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شَيْبًا، وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ" (8) .
وَقَوْلُهُ (9) : ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا" اللِّيتُ (10) : هُوَ صَفْحَةُ الْعُنُقِ، أَيْ: أَمَالَ عُنُقَهُ لِيَسْتَمِعَهُ مِنَ السَّمَاءِ جَيِّدًا.
فَهَذِهِ نَفْخَةُ الْفَزَعِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَهُوَ الْمَوْتُ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ النُّشُورُ مِنَ الْقُبُورِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} -قُرئ بِالْمَدِّ، وَبِغَيْرِهِ (11) عَلَى الْفِعْلِ، وكلٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ -وَ {دَاخِرِينَ} أَيْ: صَاغِرِينَ مُطِيعِينَ، لا يتخلف أحد
__________
(1) في أ: "عبد الله".
(2) زيادة من ف، أ، وصحيح مسلم.
(3) في ف، أ: "لدخلت".
(4) في أ: "وهي في تلك".
(5) زيادة من ف، وصحيح مسلم. وفي أ: "أصغى ليثا ورفع ليثا".
(6) في ف: "فينبت".
(7) في أ: "فكذلك".
(8) صحيح مسلم برقم (2940) .
(9) في ف، أ: "فقوله".
(10) في أ: "إلا أصغى ليثا ورفع ليثا الليث".
(11) في ف: "وغيره".(6/216)
عَنْ أَمْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الْإِسْرَاءِ: 52] ، وَقَالَ {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الرُّومِ: 25] . وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ: أَنَّهُ فِي النَّفْخَةِ الثَّالِثَةِ يَأْمُرُ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ، فَتُوضَعُ فِي ثُقْبٍ (1) فِي الصُّورِ، ثُمَّ يَنْفُخُ إِسْرَافِيلُ فِيهِ بَعْدَمَا تَنْبُتُ (2) الْأَجْسَادُ فِي قُبُورِهَا وَأَمَاكِنِهَا، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ طَارَتِ الْأَرْوَاحُ، تَتَوَهَّجُ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ نُورًا، وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ ظُلمة، فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ (3) إِلَى جَسَدِهَا. فَتَجِيءُ الْأَرْوَاحُ إِلَى أَجْسَادِهَا، فَتَدِبُّ فِيهَا كَمَا يَدب السُّمُّ فِي اللَّدِيغِ، ثُمَّ يَقُومُونَ فَيَنْفُضُونَ التُّرَابَ مِنْ قُبُورِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [الْمَعَارِجِ: 43] .
وَقَوْلُهُ: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} أَيْ: تَرَاهَا كَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، أَيْ: تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطُّورِ: 9، 10] ، وَقَالَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طَهَ: 105، 107] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} [الْكَهْفِ: 47] .
وَقَوْلُهُ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أَيْ: يَفْعَلُ ذَلِكَ بِقُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ الَّذِي قَدْ أَتْقَنَ كُلَّ مَا خَلَقَ، وَأَوْدَعَ فِيهِ (4) مِنَ الْحِكْمَةِ مَا أَوْدَعَ، {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} أَيْ: هُوَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُ عِبَادُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} -قَالَ قَتَادَةُ: بِالْإِخْلَاصِ. وَقَالَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ -وَقَدْ بيَّن فِي الْمَكَانِ (5) الْآخَرِ (6) أَنَّ لَهُ عَشْر أَمْثَالِهَا {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ} [الْأَنْبِيَاءِ: 103] ، وَقَالَ: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فُصِّلَتْ: 40] ، وَقَالَ: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سَبَأٍ: 37] .
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} أَيْ: مَنْ لَقِيَ اللَّهَ مُسِيئًا لَا حَسَنَةَ لَهُ، أَوْ: قَدْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، كُلٌّ بِحَسْبِهِ (7) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعي، وَأَبُو وَائِلٍ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَالزُّهْرِيُّ، والسُّدِّي، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} يعني: بالشرك.
__________
(1) في أ: "نقب".
(2) في أ: "ما نبتت".
(3) في ف: "كل ريح".
(4) في ف: "به".
(5) في أ: "الموضع".
(6) يشير ابن كثير - رحمه الله - إلى الآية: 160 من سورة الأنعام، وهي قوله تَعَالَى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يظلمون) .
(7) في أ: "الحسنة".(6/217)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا رَسُولَهُ وَآمِرًا لَهُ أَنْ يَقُولَ: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} ، كَمَا قَالَ: {قُلْ (1) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [يُونُسَ: 104] .
وَإِضَافَةُ الرُّبُوبِيَّةِ إِلَى الْبَلْدَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ لَهَا وَالِاعْتِنَاءِ بِهَا، كَمَا قَالَ: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قُرَيْشٍ: 3، 4] .
وَقَوْلُهُ: {الَّذِي حَرَّمَهَا} أَيِ: الَّذِي إِنَّمَا صَارَتْ حَرَامًا قَدَرًا وَشَرْعًا، بِتَحْرِيمِهِ لَهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعضَد شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتُه إِلَّا لِمَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا" الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ طُرُقِ جَمَاعَةٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ (2) ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ (3) كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} : مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، أَيْ: هُوَ رَبُّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أَيِ: الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ المطيعين له. ب
وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} أَيْ: عَلَى النَّاسِ أُبَلِّغُهُمْ إِيَّاهُ، كَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آلِ عِمْرَانَ: 58] ، وَكَقَوْلِهِ: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الْقَصَصِ: 3] أَيْ: أَنَا مُبَلِّغٌ وَمُنْذِرٌ، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أَيْ: لِي سَوِيَّةُ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَنْذَرُوا قَوْمَهُمْ، وَقَامُوا بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ، وخَلَصُوا مِنْ عُهْدَتِهِمْ، وَحِسَابُ أُمَمِهِمْ عَلَى اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرَّعْدِ: 40] ، وَقَالَ: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هُودٍ: 12] .
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} ، أَيِ: لِلَّهِ الْحَمْدُ الَّذِي لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ
__________
(1) في هـ: "قال" والمثبت من ف، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (1834) وصحيح مسلم برقم (1353) وسنن أبي داود برقم (2018) وسنن الترمذي برقم (1590) وسنن النسائي (5/203) والمسند (1/259) .
(3) في ف: "في".(6/218)
عَلَيْهِ، وَالْإِعْذَارِ إِلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فُصِّلَتْ: 53] .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أَيْ: بَلْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ أَبِي عُمَرَ الْحَوْضِيِّ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ يَعْلَى الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغْترَّنَّ أَحَدُكُمْ بِاللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ كَانَ غَافِلًا شَيْئًا لَأَغْفَلَ الْبَعُوضَةَ وَالْخَرْدَلَةَ وَالذَّرَّةَ" (1) .
[قَالَ أَيْضًا] (2) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ أَبِي: أَخْبَرَنِي خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ مَطَرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: فَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُغْفِلًا شَيْئًا لَأَغْفَلَ مَا تُعَفِّي الرِّيَاحُ مِنْ أَثَرِ قَدَمَيِ ابْنِ آدَمَ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ، إِمَّا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ:
إذَا مَا خَلَوتَ الدهْرَ يَومًا فَلا تَقُل ... خَلَوتُ وَلكن قُل عَليّ رَقيب ...
وَلا تَحْسَبَن اللَّهَ يَغْفُل سَاعَةً ... وَلا أَنَّ مَا يَخْفى عَلَيْه يَغيب ...
__________
(1) ورواه الديملي في مسند الفردوس برقم (8167) من طريق أبي أمية بن يعلى به.
(2) زيادة من ف، أ.(6/219)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. رَبِّ يَسِّرْ بِفَضْلِكَ] (1)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْقَصَصِ
[وَهِيَ مَكِّيَّةٌ] (2)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَعْدِ يكَرِبَ قَالَ: أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ فَسَأَلْنَاهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْنَا {طسم} الْمِائَتَيْنِ، فَقَالَ: مَا هِيَ مَعِي، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ مَن أَخَذَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَبَّاب بْنَ الأرَت. قَالَ: فَأَتَيْنَا خَبَّاب بْنَ الْأَرَتِّ، فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) .
{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) } .
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من ف.
(3) المسند (1/419) .(6/220)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) } .
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ.
وَقَوْلُهُ: {تِلْكَ} أَيْ: هَذِهِ {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أَيْ: الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الْكَاشِفِ عَنْ حَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَعِلْمِ مَا قَدْ كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ.
وَقَوْلُهُ: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يُوسُفَ: 3] أَيْ: نَذْكُرُ لَكَ الْأَمْرَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، كَأَنَّكَ تُشَاهِدُ وَكَأَنَّكَ حَاضِرٌ.
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ} أَيْ: تَكَبَّرَ وَتَجَبَّرَ وَطَغَى. {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} أَيْ: أَصْنَافًا، قَدْ صَرَّفَ كُلَّ صِنْفٍ فِيمَا يُرِيدُ مِنْ أُمُورِ دَوْلَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خِيَارَ أَهْلِ زَمَانِهِمْ. هَذَا وَقَدْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَلِكُ الْجَبَّارُ الْعَنِيدُ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي أَخَسِّ الْأَعْمَالِ، ويكُدُّهُم لَيْلًا وَنَهَارًا فِي أَشْغَالِهِ وَأَشْغَالِ رَعِيَّتِهِ، وَيَقْتُلُ مَعَ هَذَا أَبْنَاءَهُمْ، وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، إِهَانَةً لَهُمْ وَاحْتِقَارًا، وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمُ الْغُلَامُ الَّذِي كَانَ قَدْ تَخَوَّفَ هُوَ وَأَهْلُ مَمْلَكَتِهِ مِنْ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ غلام،(6/220)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
يَكُونُ سَبَبُ هَلَاكِهِ وَذَهَابُ دَوْلَتِهِ عَلَى يَدَيْهِ. وَكَانَتِ الْقِبْطُ قَدْ تَلَقَّوْا هَذَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا كَانُوا يَدْرُسُونَهُ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، حِينَ وَرَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَجَرَى لَهُ مَعَ جَبَّارِهَا مَا جَرَى، حِينَ أَخَذَ سَارَّةَ لِيَتَّخِذَهَا جَارِيَةً، فَصَانَهَا اللَّهُ مِنْهُ، وَمَنَعَهُ مِنْهَا (1) بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ. فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَدَهُ أَنَّهُ سَيُولَدُ مِنْ صُلْبِهِ وَذَرِّيَّتِهِ مَن يَكُونُ هَلَاكُ مَلِكِ مِصْرَ عَلَى يَدَيْهِ، فَكَانَتِ الْقِبْطُ تَتَحَدَّثُ بِهَذَا عِنْدَ فِرْعَوْنَ، فَاحْتَرَزَ فِرْعَوْنُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ؛ لِأَنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} . وَقَدْ فَعَلَ تَعَالَى ذَلِكَ بِهِمْ، كَمَا قَالَ: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الْأَعْرَافِ: 137] وَقَالَ: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشُّعَرَاءِ: 59] ، أَرَادَ فِرْعَوْنُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ مُوسَى، فَمَا نَفَعَهُ ذَلِكَ مَعَ قَدَر الْمَلِكِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يُخَالَفُ أَمْرُهُ الْقَدَرِيُّ، بَلْ نَفَذَ حُكْمُهُ وَجَرَى قَلَمُهُ فِي القِدَم بِأَنْ يَكُونَ إِهْلَاكُ فِرْعَوْنَ عَلَى يَدَيْهِ، بَلْ يَكُونُ هَذَا الْغُلَامُ الَّذِي احْتَرَزْتَ مِنْ وُجُودِهِ، وَقَتَلْتَ بِسَبَبِهِ أُلُوفًا مِنَ الْوِلْدَانِ إِنَّمَا مَنْشَؤُهُ وَمُرَبَّاهُ عَلَى فِرَاشِكَ، وَفِي دَارِكَ، وَغِذَاؤُهُ مِنْ طَعَامِكَ، وَأَنْتَ تُرَبِّيهِ وَتُدَلِّلُهُ وَتَتَفَدَّاهُ، وَحَتْفُكَ، وَهَلَاكُكَ وَهَلَاكُ جُنُودِكَ عَلَى يَدَيْهِ، لِتَعْلَمَ أَنَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ الْعُلَا هُوَ الْقَادِرُ الْغَالِبُ الْعَظِيمُ، الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ الْمِحَالِ، الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) } .
ذَكَرُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَكْثَرَ مِنْ قَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، خَافَتِ الْقِبْطُ أَنْ يُفْني بَنِي إِسْرَائِيلَ (2) فَيَلُون (3) هُمْ مَا كَانُوا يَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: إِنَّهُ يُوشِكُ -إِنِ اسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ -أَنْ يَمُوتَ شُيُوخُهُمْ، وَغِلْمَانُهُمْ لَا يَعِيشُونَ، وَنِسَاؤُهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُمْن بِمَا يَقُومُ بِهِ رِجَالُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَيَخْلُصُ إِلَيْنَا ذَلِكَ. فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْوِلْدَانِ عَامًا وَتَرْكِهِمْ عَامًا، فَوُلِدَ هَارُونُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي السَّنَةِ الَّتِي يَتْرُكُونَ فِيهَا الْوِلْدَانَ، وَوُلِدَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي السَّنَةِ الَّتِي يَقْتُلُونَ فِيهَا الْوِلْدَانَ، وَكَانَ لِفِرْعَوْنَ أُنَاسٌ مُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ، وَقَوَابِلُ يَدُرْنَ عَلَى النِّسَاءِ، فَمَنْ رَأَيْنَهَا قَدْ حَمَلَتْ
__________
(1) في ف، أ: "ومنعها منه".
(2) في ف: "أن تفنى بنو إسرائيل" وفي أ: "أن يفنى ينو إسرائيل".
(3) في أ: "فيكون".(6/221)
أَحْصَوُا اسْمَهَا، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ وِلَادَتِهَا لَا يَقْبَلُها إِلَّا نِسَاءُ الْقِبْطِ، فَإِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ جَارِيَةً تَرَكْنَهَا وَذَهَبْنَ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا دَخَلَ أُولَئِكَ الذبَّاحون، بِأَيْدِيهِمُ الشِّفَارُ الْمُرْهَفَةُ، فَقَتَلُوهُ وَمَضَوْا قَبَّحَهُم اللَّهُ. فَلَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَمْلِ كَغَيْرِهَا، وَلَمْ تَفْطِنْ لَهَا الدَّايَاتُ، وَلَكِنْ لَمَّا وَضَعَتْهُ ذَكَرًا ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعًا، وَخَافَتْ عَلَيْهِ خَوْفًا شَدِيدًا وَأَحَبَّتْهُ حُبًّا زَائِدًا، وَكَانَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ، فَالسَّعِيدُ مَنْ أَحَبَّهُ طَبْعًا وَشَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طَهَ: 39] . فَلَمَّا ضَاقَتْ ذَرْعًا بِهِ أُلْهِمَتْ فِي سِرِّهَا، وَأُلْقِي فِي خَلَدِهَا، وَنُفِثَ فِي رَوْعِهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} . وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ دَارُهَا عَلَى حَافَّةِ النِّيلِ، فَاتَّخَذَتْ تَابُوتًا، ومهدَت فِيهِ مَهْدًا، وَجَعَلَتْ تُرْضِعُ وَلَدَهَا، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِمَّنْ تَخَافُ جَعَلَتْهُ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ، وَسَيَّرَتْهُ (1) فِي الْبَحْرِ، وَرَبَطَتْهُ (2) بِحَبْلٍ عِنْدَهَا. فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا مَنْ تَخَافُهُ، فَذَهَبَتْ فَوَضَعَتْهُ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ، وَأَرْسَلَتْهُ فِي الْبَحْرِ وَذَهَلَتْ عَنْ أَنْ تَرْبِطَهُ، فَذَهَبَ مَعَ الْمَاءِ وَاحْتَمَلَهُ، حَتَّى مَرَّ بِهِ (3) عَلَى دَارِ فِرْعَوْنَ، فَالْتَقَطَهُ الْجَوَارِي فَاحْتَمَلْنَهُ، فَذَهَبْنَ بِهِ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَلَا يَدْرِينَ مَا فِيهِ، وَخَشِينَ أَنْ يَفْتَتْنَ عَلَيْهَا فِي فَتْحِهِ دُونَهَا. فَلَمَّا كَشَفَتْ عَنْهُ إِذَا هُوَ غُلَامٌ مِنْ أَحْسَنِ الْخَلْقِ وَأَجْمَلِهِ وَأَحْلَاهُ وَأَبْهَاهُ، فَأَوْقَعَ اللَّهُ مَحَبَّتَهُ فِي قَلْبِهَا حِينَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِسَعَادَتِهَا وَمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ كَرَامَتِهَا وَشَقَاوَةِ بَعْلِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [وَحَزَنًا] } (4) .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: "اللَّامُ" هُنَا لَامُ الْعَاقِبَةِ لَا لَامُ التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِالْتِقَاطِهِ ذَلِكَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي مَا قَالُوهُ، وَلَكِنْ إِذَا نُظِرَ إِلَى مَعْنَى السِّيَاقِ فَإِنَّهُ تَبْقَى (5) اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، قَيَّضَهُمْ لِالْتِقَاطِهِ لِيَجْعَلَهُ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا فَيَكُونَ أَبْلَغَ فِي إِبْطَالِ حَذَرِهِمْ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ، فِي تَكْذِيبِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِأَقْدَارِهِ النَّافِذَةِ فِي عِلْمِهِ السَّابِقِ: وَمُوسَى فِي عِلْمِ اللَّهِ السَّابِقِ لِفِرْعَوْنَ عَدُوٌّ وَحَزَنٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ، وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: لَوْ شَاءَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ لِمُوسَى وَلِيًّا وَنَصِيرًا، وَاللَّهُ يَقُولُ: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} يَعْنِي: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا رَآهُ همَّ بِقَتْلِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلَتِ امْرَأَتُهُ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ تُحَاجُّ عَنْهُ وتَذب دُونَهُ، وَتُحَبِّبُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَتْ: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} فَقَالَ: أَمَّا لَكِ فَنَعَم، وَأَمَّا لِي فَلَا. فَكَانَ كَذَلِكَ، وَهَدَاهَا اللَّهُ بِهِ، وَأَهْلَكَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ فِي سُورَةِ "طَهَ" هَذِهِ الْقِصَّةُ بِطُولِهَا، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عباس مرفوعًا عن النسائي وغيره.
__________
(1) في ت: "وأرسلته".
(2) في أ: "وأوثقته".
(3) في أ: "حتى قربه".
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) في ت: "يعني".(6/222)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
وَقَوْلُهُ": {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} ، وَقَدْ حَصَلَ لَهَا ذَلِكَ، وَهَدَاهَا اللَّهُ بِهِ، وَأَسْكَنَهَا الْجَنَّةَ بِسَبَبِهِ. وَقَوْلُهَا: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أَيْ: أَرَادَتْ أَنْ تَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَتَتَبَنَّاهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أَيْ: لَا يَدْرُونَ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ بِالْتِقَاطِهِمْ إِيَّاهُ، مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ.
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فُؤَادِ أُمِّ مُوسَى، حِينَ ذَهَبَ وَلَدُهَا فِي الْبَحْرِ، إِنَّهُ أَصْبَحَ فَارِغًا، أَيْ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ مُوسَى. قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ.
{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أَيْ: إِنْ كَادَتْ مِنْ شَدَّةِ وَجْدِهَا وَحُزْنِهَا وَأَسَفِهَا لَتُظهر أَنَّهُ ذَهَبَ لَهَا وَلَدٌ، وَتُخْبِرُ بِحَالِهَا، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ثَبَّتها وصبَّرها، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ} أَيْ: أَمَرَتِ ابْنَتَهَا -وَكَانَتْ كَبِيرَةً تَعِي مَا يُقَالُ لَهَا -فَقَالَتْ لَهَا: {قُصِّيهِ} أَيْ: اتْبَعِي أَثَرَهُ، وَخُذِي خَبَرَهُ، وتَطَلَّبي شَأْنَهُ مِنْ نَوَاحِي الْبَلَدِ. فَخَرَجَتْ لِذَلِكَ، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ جَانِبٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} : عَنْ بَعِيدٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِدَارِ فِرْعَوْنَ، وَأَحَبَّتْهُ امْرَأَةُ الْمَلِكِ، وَاسْتَطْلَقَتْهُ مِنْهُ، عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ الَّتِي فِي دَارِهِمْ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهَا ثَدْيًا، وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجُوا بِهِ إِلَى سُوقٍ لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ امْرَأَةً تَصْلُحُ لِرَضَاعَتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ بِأَيْدِيهِمْ عَرَفَتْهُ، وَلَمْ تُظْهِرْ ذَلِكَ وَلَمْ (1) يَشْعُرُوا بِهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: تَحْرِيمًا قَدَريا، وَذَلِكَ لِكَرَامَةِ اللَّهِ لَهُ صَانَهُ (2) عَنْ أَنْ يَرْتَضِعَ غَيْرَ ثَدْيِ أُمِّهِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ -جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى رُجُوعِهِ إِلَى أُمِّهِ، لِتُرْضِعَهُ وَهِيَ آمِنَةٌ، بَعْدَمَا كَانَتْ خَائِفَةً. فَلَمَّا رَأَتْهُمْ [أُخْتُهُ] (3) حَائِرِينَ فِيمَنْ يُرْضِعُهُ قَالَتْ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ} (4) لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ.
__________
(1) ففي ت، ف: "فلم".
(2) في ت: "صيانة".
(3) زيادة من ت.
(4) في ت: "يرضعونه".(6/223)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ أَخَذُوهَا، وَشَكُّوا فِي أَمْرِهَا، وَقَالُوا لَهَا: وَمَا يُدْرِيكِ نُصْحَهُمْ لَهُ وَشَفَقَتَهُمْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَتْ: نُصْحُهُمْ لَهُ وَشَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ رَغْبَتُهُمْ فِي ظُؤُورة (1) الْمَلِكِ وَرَجَاءُ مَنْفَعَتِهِ. فَأَرْسَلُوهَا، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ وخَلَصت مِنْ أَذَاهُمْ، ذَهَبُوا مَعَهَا إِلَى مَنْزِلِهِمْ، فَدَخَلُوا بِهِ (2) عَلَى أُمِّهِ، فَأَعْطَتْهُ ثَدْيَهَا فَالْتَقَمَهُ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا. وَذَهَبَ الْبَشِيرُ إِلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ، فَاسْتَدْعَتْ أُمَّ مُوسَى، وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهَا، وَأَعْطَتْهَا عَطَاءً جَزِيلًا وَهِيَ لَا تَعْرِفُ أَنَّهَا أُمُّهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ وَافَقَ ثَدْيَهَا. ثُمَّ سَأَلْتُهَا آسِيَةُ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهَا فَتُرْضِعُهُ، فَأَبَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ: إِنَّ لِي بَعْلًا وَأَوْلَادًا، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الْمَقَامِ عِنْدَكِ. وَلَكِنْ إِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُرْضِعَهُ فِي بَيْتِي فَعَلْتُ. فَأَجَابَتْهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى ذَلِكَ، وأجْرَتْ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ وَالصِّلَاتِ وَالْكَسَاوِي وَالْإِحْسَانَ الْجَزِيلَ. فَرَجَعَتْ أُمُّ مُوسَى بِوَلَدِهَا رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، قَدْ أَبْدَلَهَا اللَّهُ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهَا أَمْنًا، فِي عِزٍّ وَجَاهٍ وَرِزْقٍ دَارٍّ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَثَلُ الَّذِي يَعْمَلُ وَيَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، كَمَثَلِ أَمِّ مُوسَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا" وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الشِّدَّةِ وَالْفَرَجِ إِلَّا الْقَلِيلُ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، أَوْ نَحْوُهُ، وَاللَّهُ [سُبْحَانَهُ] (3) أَعْلَمُ، فَسُبْحَانَ مَنْ بِيَدَيْهِ الْأَمْرُ! مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، الَّذِي يَجْعَلُ لِمَنِ اتَّقَاهُ بَعْدَ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَبَعْدَ كُلِّ ضِيقٍ (4) مَخْرَجًا. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} أَيْ: بِهِ، {وَلا تَحْزَنْ} أَيْ: عَلَيْهِ: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أَيْ: فِيمَا وَعَدَهَا مِنْ رَدِّهِ إِلَيْهَا، وَجَعْلِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَحِينَئِذٍ تَحَقَّقَتْ بِرَدِّهِ إِلَيْهَا أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْهُ رَسُولٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَعَامَلَتْهُ فِي تَرْبِيَتِهِ مَا يَنْبَغِي لَهُ طَبْعًا وَشَرْعًا.
وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ: حُكْمَ اللَّهِ فِي أَفْعَالِهِ وَعَوَاقِبَهَا الْمَحْمُودَةَ، الَّتِي هُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَرُبَّمَا يَقَعُ الْأَمْرُ كَرِيهًا إِلَى النُّفُوسِ، وَعَاقِبَتُهُ مَحْمُودَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 216] وَقَالَ تَعَالَى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] .
__________
(1) في هـ، ت، ف، أ: "صهر" والمثبت من حديث الفتون. انظر: الجزء الخامس، تفسير سورة طه.
(2) في ت: "بها".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت: "ضيقة".(6/224)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) } .
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَبْدَأَ أَمْرِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى، آتَاهُ اللَّهُ حُكْمًا وَعِلْمًا -قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي النُّبُوَّةَ {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .(6/224)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ وُصُولِهِ إِلَى مَا كَانَ تَعَالَى قَدَّر لَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالتَّكْلِيمِ: قَضِيَّةَ قَتْلِهِ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، الَّذِي كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بِلَادِ مَدْيَنَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} قَالَ ابْنُ جُرَيج، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَقَالَ ابْنِ المنْكَدر، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ ذَلِكَ نِصْفَ النَّهَارِ. وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وعِكْرمة، والسُّدِّي، وَقَتَادَةُ.
{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ} أَيْ: يَتَضَارَبَانِ وَيَتَنَازَعَانِ، {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} أَيْ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (1) ، {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} أَيْ: قِبْطِيٌّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسَّدِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. فَاسْتَغَاثَ الْإِسْرَائِيلِيُّ بِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَوَجَدَ مُوسَى فُرْصَةً، وَهِيَ غَفْلَةُ النَّاسِ، فَعَمَدَ إِلَى الْقِبْطِيِّ {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} .
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَزَهُ، أَيْ: طَعَنَهُ بجُمْع (2) كَفِّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَزَهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ.
{فَقَضَى عَلَيْهِ} أَيْ: كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ فَمَاتَ، قَالَ مُوسَى: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أَيْ: بِمَا جَعَلْتَ لِي مِنَ الْجَاهِ وَالْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا} أَيْ: مُعِينًا {لِلْمُجْرِمِينَ} أَيِ: الْكَافِرِينَ بِكَ، الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِكَ.
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ (3) ، لَمَّا قَتَلَ ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ: إِنَّهُ أَصْبَحَ {فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا} أَيْ: مِنْ مَعَرّة مَا فَعَلَ، {يَتَرَقَّبُ} أَيْ: يَتَلَفَّتُ وَيَتَوَقَّعُ (4) مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَمَرَّ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، فَإِذَا ذَاكَ (5) الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ عَلَى ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ يُقَاتِلُ آخَرَ، فَلَمَّا مَرَّ مُوسَى، اسْتَصْرَخَهُ عَلَى الْآخَرِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أَيْ: ظَاهِرُ الْغَوَايَةِ كَثِيرُ الشَّرِّ. ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الْبَطْشِ بِذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، فَاعْتَقَدَ الْإِسْرَائِيلِيُّ لخوَرِه وَضَعْفِهِ وَذِلَّتِهِ أَنَّ مُوسَى إِنَّمَا يُرِيدُ قَصْدَهُ لَمَّا سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ، فَقَالَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم
__________
(1) في ت: "أي إسرائيلي".
(2) في ت: "بجميع".
(3) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(4) في هـ، ت: "أي يتقلب أي يتوقع" والمثبت من ف، أ.
(5) في ت، ف: "ذلك".(6/225)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا هُوَ وَمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا ذَلِكَ الْقِبْطِيُّ لقَفَها مِنْ فَمِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهَا إِلَى بَابِ فِرْعَوْنَ فَأَلْقَاهَا عِنْدَهُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ، فَاشْتَدَّ حَنَقُهُ، وَعَزَمَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى، فَطَلَبُوهُ فَبَعَثُوا وَرَاءَهُ لِيُحْضِرُوهُ لِذَلِكَ.
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) } .
قَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَجُلٌ} وَصَفَهُ بالرّجُولية لِأَنَّهُ خَالَفَ الطَّرِيقَ، فَسَلَكَ طَرِيقًا أَقْرَبَ مِنْ طَرِيقِ الَّذِينَ بُعثوا وَرَاءَهُ، فَسَبَقَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: يَا مُوسَى {إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أَيْ: يَتَشَاوَرُونَ فِيكَ {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} أَيْ: مِنَ الْبَلَدِ {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} .
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) }(6/226)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) }
لَمَّا أَخْبَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِمَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ وَدَوْلَتُهُ فِي أَمْرِهِ، خَرَجَ مِنْ مِصْرَ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَأْلَفْ ذَلِكَ قَلْبُهُ، بَلْ كَانَ فِي رَفَاهِيَةٍ وَنِعْمَةٍ وَرِئَاسَةٍ، {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} أَيْ: يتلفَّت {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ: مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ. فَذَكَرُوا أَنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بَعَثَ لَهُ مَلَكًا عَلَى فَرَسٍ، فَأَرْشَدَهُ إِلَى الطَّرِيقِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أَيْ: أَخَذَ طَرِيقًا سَالِكًا مَهْيَعا فَرِحَ بِذَلِكَ، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} أَيْ: إِلَى الطَّرِيقِ الْأَقْوَمِ. فَفَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ، وَهُدَاهُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَجُعِلَ هَادِيًا مَهْدِيًّا.
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} أَيْ: وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ وَوَرَدَ مَاءَهَا، وَكَانَ لَهَا بِئْرٌ تَرده رِعَاءُ الشَّاءِ {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ} أَيْ: جَمَاعَةً {يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} أَيْ: تُكَفْكِفَانِ غَنَمَهُمَا أَنْ تَرِدَ مَعَ غَنَمِ أُولَئِكَ الرِّعَاءِ لِئَلَّا يُؤذَيا. فَلَمَّا رَآهُمَا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَقَّ لَهُمَا وَرَحِمَهُمَا، {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} أَيْ: مَا خَبَرُكُمَا لَا تَرِدَانِ مَعَ هَؤُلَاءِ؟ {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} أَيْ: لَا يَحْصُلُ لَنَا سَقْيٌ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ هَؤُلَاءِ، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} أَيْ: فَهَذَا الْحَالُ الْمُلْجِئُ لَنَا إِلَى مَا تَرَى.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَقَى لَهُمَا} قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عَمْرو (1)
__________
(1) في هـ، ت، ف، أ: "عروة بن ميمون" والمثبت من مصنف ابن أبي شيبة.(6/226)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
بْنِ مَيْمُونٍ الأوْدي، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغُوا أَعَادُوا الصَّخْرَةَ عَلَى الْبِئْرِ، وَلَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا عَشَرَةُ رِجَالٍ، فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ، قَالَ: مَا خَطْبُكُمَا؟ فَحَدَّثَتَاهُ، فَأَتَى الْحَجَرَ فَرَفَعَهُ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَقِ إِلَّا ذَنُوبًا وَاحِدًا حَتَّى رَوِيَتِ الْغَنَمُ. إِسْنَادٌ صَحِيحٌ (1) .
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَارَ مُوسَى مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ، لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ إِلَّا الْبَقْلُ وَوَرَقُ الشَّجَرِ، وَكَانَ حَافِيًا فَمَا وَصَلَ مَدْيَن حَتَّى سَقَطَتْ نَعْلُ قَدَمِهِ. وَجَلَسَ (2) فِي الظِّلِّ وَهُوَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّ بَطْنَهُ لَاصِقٌ بِظَهْرِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنَّ خُضْرَةَ الْبَقْلِ لَتُرَى مِنْ دَاخِلِ جَوْفِهِ وَإِنَّهُ لَمُحْتَاجٌ إِلَى شِقِّ تَمْرَةٍ.
وَقَوْلُهُ: {إِلَى الظِّلِّ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالسُّدِّيُّ: جَلَسَ تَحْتَ شَجَرَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرٍو العَنْقَزِيّ (3) ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ -قَالَ: حَثثتُ (4) عَلَى جَمَلٍ لَيْلَتَيْنِ، حَتَّى صَبَّحت مَدْيَنَ، فَسَأَلْتُ عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوَى إِلَيْهَا مُوسَى، فَإِذَا شَجَرَةٌ خَضْرَاءُ تَرِفُّ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا جَمَلِي -وَكَانَ جَائِعًا -فَأَخَذَهَا جَمَلِي فَعَالَجَهَا سَاعَةً، ثُمَّ لَفِظَهَا، فَدَعَوْتُ اللَّهَ لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ (5) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ مِنْهَا لِمُوسَى، كَمَا سَيَأْتِي وَاللَّهُ (6) أَعْلَمُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ مِنْ شَجَرِ السَّمُر.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: لَمَّا قَالَ مُوسَى {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ، أسمعَ الْمَرْأَةَ.
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) } .
لَمَّا رَجَعَتِ الْمَرْأَتَانِ سِرَاعًا (7) بِالْغَنَمِ إِلَى أَبِيهِمَا، أَنْكَرَ حَالَهُمَا ومجيئهما سريعا، فسألهما عن
__________
(1) المصنف لابن أبي شيبة (11/530) .
(2) في هـ، أ: "ولما جلس".
(3) في ف: "عمير العنقزي" وفي أ: "عمير القفقري".
(4) في ف أ: "أخببت".
(5) تفسير الطبري (20/37) .
(6) في ف: "فالله".
(7) في أ: "سريعا".(6/227)
خَبَرِهِمَا، فَقَصَّتَا عَلَيْهِ مَا فَعَلَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَبَعَثَ إِحْدَاهُمَا إِلَيْهِ لِتَدْعُوَهُ إِلَى أَبِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} أَيْ: مَشْيَ الْحَرَائِرِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ مستتَرة بِكُمِّ درْعها.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا [أَبِي، حَدَّثَنَا] (1) أبو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَاءَتْ تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ، قَائِلَةً بِثَوْبِهَا عَلَى وَجْهِهَا، لَيْسَتْ بِسَلْفَعٍ (2) خَرَّاجة وَلَاجَّةً. هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السَّلْفَعُ مِنَ الرِّجَالِ: الْجَسُورُ، وَمِنَ النِّسَاءِ: الْجَرِيئَةُ السَّلِيطَةُ، وَمِنَ النُّوقِ: الشَّدِيدَةُ.
{قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} ، وَهَذَا تَأَدُّبٌ فِي الْعِبَارَةِ، لَمْ تَطْلُبْهُ طَلَبًا مُطْلَقًا لِئَلَّا يُوهِمَ رِيبَةً، بَلْ قَالَتْ: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} يَعْنِي: لِيُثِيبَكَ وَيُكَافِئَكَ عَلَى سَقْيِكَ لِغَنَمِنَا، {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} أَيْ: ذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، وَمَا جَرَى لَهُ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ بَلَدِهِ، {قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . يَقُولُ: طِبْ نَفْسًا وَقرّ عَيْنًا، فَقَدْ خرجتَ مِنْ مَمْلَكَتِهِمْ فَلَا حُكْم لَهُمْ فِي بِلَادِنَا. وَلِهَذَا قَالَ: {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الرَّجُلِ: مَنْ هُوَ؟ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ شُعَيْبٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (3) الَّذِي أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرِينَ، وَقَدْ قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الْأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ؛ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ شُعَيْبًا هُوَ الَّذِي قَصَّ عَلَيْهِ مُوسَى الْقَصَصَ قَالَ: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدٍ الْعَنَزِيِّ أَنَّهُ وَفَدَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: "مَرْحَبًا بِقَوْمِ شُعَيْبٍ وأَخْتان مُوسَى، هُديت" (4) .
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ابْنَ أَخِي شُعَيْبٍ. وَقِيلَ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ شُعَيْبٌ قَبْلَ زَمَانِ مُوسَى، عَلَيْهِ (5) السَّلَامُ، بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هُودٍ: 95] . وَقَدْ كَانَ هَلَاكُ قَوْمِ لُوطٍ فِي زَمَنِ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (6) بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ مُوسَى وَالْخَلِيلِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، مُدَّةٌ طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف: "تستلفع".
(3) في ف: "صلى الله عليه وسلم" وفي أ: "صلى الله عليه".
(4) المعجم الكبير (7/55) من طريق حفص بن سلمة عن شيبان بن قيس عن سلمة بن سعد به، وقال الهيثمي: "فيه من لم أعرفهم".
(5) في ت: "عليهما".
(6) في ت: "صلى الله عليه وسلم".(6/228)
ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَمَا قِيلَ: إِنَّ شُعَيْبًا عَاشَ مُدَّةً طَوِيلَةً، إِنَّمَا هُوَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -احْتِرَازٌ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ، ثُمَّ مِنَ الْمُقَوِّي لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِشُعَيْبٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِيَّاهُ لَأَوْشَكَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى اسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ هَاهُنَا. وَمَا جَاءَ فِي (1) بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِهِ فِي قِصَّةِ مُوسَى (2) لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ مِنَ الْمَوْجُودِ فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ اسْمُهُ: "ثَبْرُونُ"، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: وَأَثْرُونُ (3) وَهُوَ ابْنُ أَخِي شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ (4) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الَّذِي اسْتَأْجَرَ مُوسَى يَثْرَى صَاحِبُ مَدْيَنَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِخَبَرٍ، وَلَا خَبَرَ تَجِبُ بِهِ الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ} أَيْ: قَالَتْ إِحْدَى ابْنَتَيْ هَذَا الرَّجُلِ. قِيلَ: هِيَ الَّتِي ذَهَبَتْ وَرَاءَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَتْ لِأَبِيهَا: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} أَيْ: لرعْية هَذِهِ (5) الْغَنَمِ.
قَالَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وشُريح الْقَاضِي، وَأَبُو مَالِكٍ، وقَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَمَّا قَالَتْ: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ} قَالَ لَهَا أَبُوهَا: وَمَا عِلْمُكِ بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ رَفَعَ الصَّخْرَةَ الَّتِي لَا يَطِيقُ حَمْلَهَا إِلَّا عَشَرَةُ رِجَالٍ، وَإِنَّهُ لَمَّا جِئْتُ مَعَهُ تقدمتُ أمامهُ، فَقَالَ لِي: كُونِي مِنْ وَرَائِي، فَإِذَا اجْتَنَبْتُ (6) الطَّرِيقَ فَاحْذِفِي [لِي (7) ] بِحَصَاةٍ أَعْلَمُ بِهَا كَيْفَ الطَّرِيقُ لِأَتَهَدَّى (8) إِلَيْهِ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ -قَالَ: أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: أَبُو بَكْرٍ حِينَ تَفَرَّسَ فِي عُمَر، وَصَاحِبُ يُوسُفَ حِينَ قَالَ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يُوسُفَ: 21] ، وَصَاحِبَةُ مُوسَى حِينَ قَالَتْ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ} .
قاال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} أَيْ: طَلَبَ إِلَيْهِ هَذَا الرَّجُلُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ أَنْ يَرْعَى عَنْهُ (9) وَيُزَوِّجَهُ إِحْدَى ابْنَتَيْهِ هَاتَيْنِ.
قَالَ شُعَيْبٌ الْجِبَائِيُّ: وَهُمَا صَفُورَا، وَلِيَّا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: صَفُورَا وَشَرْقَا، وَيُقَالُ: لِيَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ [رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى] (10) بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ فِيمَا إِذَا قَالَ: "بِعْتُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِمِائَةٍ. فقال: اشتريت" أنه يصح، والله أعلم.
__________
(1) في ت: "من".
(2) في أ: "لموسى".
(3) في أ: "يثرون".
(4) في ف، أ: "أبي هريرة".
(5) في أ: "رعية هذا".
(6) في أ: "اختلفت".
(7) زيادة من أ.
(8) في أ: "لأهتدي".
(9) في ت، ف، أ: "غنمه".
(10) زيادة من ت، ف.(6/229)
وَقَوْلُهُ: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} أَيْ: عَلَى أَنْ تَرْعَى عَلَيَّ ثَمَانِي سِنِينَ، فَإِنْ تَبَرَّعْتَ بِزِيَادَةِ سَنَتَيْنِ فَهُوَ إِلَيْكَ (1) ، وَإِلَّا فَفِي ثَمَانٍ كِفَايَةٌ، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أَيْ: لَا أُشَاقُّكَ، وَلَا أُؤَاذِيكَ، وَلَا أُمَارِيكَ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِمَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ، فِيمَا إِذَا قَالَ: "بِعْتُكَ هَذَا بِعَشَرَةٍ نَقْدًا، أَوْ بِعِشْرِينَ نَسِيئَةً" أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيَخْتَارُ الْمُشْتَرِي بِأَيِّهِمَا أَخَذَهُ صَحَّ. وحُمل الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: "مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، فَلَهُ أَوَكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا " (2) عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ نَظَرٌ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ لِطُولِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ومَنْ تَبِعَهُمْ، فِي صِحَّةِ (3) اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ بِالطُّعْمَةِ وَالْكُسْوَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَاسْتَأْنَسُوا فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَاجَةَ فِي كِتَابِهِ السُّنَنِ، حَيْثُ قَالَ: "بَابُ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ عَلَى طَعَامِ بَطْنِهِ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى الحِمْصي، حَدَّثَنَا بَقيَّة بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ مَسْلَمَةَ (4) بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاح قَالَ: سَمِعْتُ (5) عُتبةَ بْنَ النُّدَّر (6) يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ {طسم} (7) ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قِصَّةَ مُوسَى قَالَ: "إِنَّ مُوسَى أجَّرَ نَفْسَهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ أَوْ: عَشْرَ (8) سِنِينَ عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ (9) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ضَعِيفٌ (10) ، لِأَنَّ مَسْلَمَةَ (11) بْنَ عَلِيٍّ وَهُوَ الخُشَني الدِّمَشْقِيُّ الْبَلَاطِيُّ ضَعِيفُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ قَدْ رُوي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا.
وَقَالَ (12) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهيعة، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاح اللخمي قال: سمعت عتبة بن الندر السُّلَمِيَّ -صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ مُوسَى آجَرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فَرْجِهِ، وَطُعْمَةِ بَطْنِهِ" (13) .
. وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ، يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى قَالَ لِصِهْرِهِ: الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتَ مِنْ أَنَّكَ اسْتَأْجَرْتَنِي عَلَى ثَمَانِ سِنِينَ، فَإِنْ أَتْمَمْتُ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِي، فَأَنَا مَتَى فَعَلْتُ أَقَلَّهُمَا [فَقَدْ] (14) بَرِئْتُ مِنَ الْعَهْدِ، وَخَرَجْتُ مِنَ الشَّرْطِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي: فلا
__________
(1) في ت: "لك".
(2) سنن أبي داود برقم (3461) .
(3) في أ: "حجة".
(4) في أ: "سلمة".
(5) في ت: "ثم روى بإسناده عن".
(6) في هـ، ت: "المنذر" والمثبت من ف، وسنن ابن ماجه.
(7) في ت: "طس".
(8) في ت: "أو عشرة".
(9) سنن ابن ماجه برقم (2444) وضعفه البوصيري في الزوائد (2/260) لتدليس بقية بن الوليد.
(10) في ت: "وهذا الحديث فيه ضعف من هذا الوجه".
(11) في أ: "سلمة".
(12) في أ: "فقال".
(13) ورواه البزار في مسنده برقم (1495) "كشف الأستار" من طريق يحيى بن بكير عن ابن لهيعة بأطول منه، وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف.
(14) زيادة من أ.(6/230)
حَرَجَ عَلَيَّ مَعَ أَنَّ الْكَامِلَ -وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لَكِنَّهُ فَاضِلٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ. كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (1) تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَةِ: 203] .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، وَسَأَلَهُ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ -فَقَالَ: "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ" (2) مَعَ أَنَّ فِعْلَ الصِّيَامِ رَاجِحٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ.
هَذَا وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا فَعَلَ أَكْمَلَ الْأَجَلَيْنِ وَأَتَمَّهُمَا؛ قَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مَرْوان بْنُ شُجاع، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مَنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى حَبْر الْعَرَبِ فأسأَلَه. فَقَدِمْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ. هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (3) وَهَكَذَا رَوَاهُ حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَوَقَعَ فِي "حَدِيثِ الفُتُون"، مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ رُوي مِنْ (4) حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَأَلْتُ جِبْرِيلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى قَالَ: أَكْمَلَهُمَا وَأَتَمَّهُمَا" (5) .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ -وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ -حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ -وَكَانَ مِنْ أَسْنَانِي أَوْ أَصْغَرَ مِنِّي -فَذَكَرَهُ.
قُلْتُ: وَإِبْرَاهِيمُ هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ.
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبَانٍ الْقُرَشِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ. ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (6) .
وَقَالَ (7) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُرئ عَلَى يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَيْمُونٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ تَيْرَحَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) رواه أحمد في مسنده (3/493) والنسائي في السنن (4/185) .
(3) صحيح البخاري برقم (2684) .
(4) في ت: "روى طرق مرسلة من".
(5) تفسير الطبري (20/44) .
(6) قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (1/124) "إبراهيم بن يحيى العدني عن الحكم بن أبان وعنه سفيان بن عيينة بخبر منكر والرجل نكرة، وحديثه عن الحميدي ومتنه: سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أي الأجلين قضى موسى، انتهى. وهذا الرجل ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الأزدي: لا يتابع في حديثه، وأخرج الحاكم حديثه المذكور في المستدرك".
(7) في ف: "ثم قال".(6/231)
الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: "لَا عِلْمَ لِي". فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: لَا عِلْمَ لِي، فَسَأَلَ جِبْرِيلُ مَلَكًا فَوْقَهُ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي. فَسَأَلَ (1) ذَلِكَ المَلَك رَبَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ -عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ جِبْرِيلُ عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: "قَضَى أَبَرَّهُمَا وَأَبْقَاهُمَا -أَوْ قَالَ: أَزْكَاهُمَا" (2) .
وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَقَدْ جَاءَ مُرْسَلًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَالَ (3) سُنَيد: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ جِبْرِيلَ: "أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ " فَقَالَ: سَوْفَ أَسْأَلُ إِسْرَافِيلَ. فَسَأَلَهُ فَقَالَ: سَوْفَ أَسْأَلُ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ. فَسَأَلَهُ فَقَالَ: "أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا" (4) .
طَرِيقٌ أُخْرَى مُرْسَلَةٌ أَيْضًا: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَر، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظي قَالَ: سُئِل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: "أَوْفَاهُمَا وَأَتَمَّهُمَا" (5) .
فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَاضِدَةٌ، ثُمَّ قَدْ (6) رُوِيَ [هَذَا] (7) مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا عَوْبَد بْنُ أَبِي عِمْرَانَ الجَوْني، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: "أَوْفَاهُمَا وَأَبَرَّهُمَا"، قَالَ: "وَإِنْ سئلتَ أَيَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ؟ فَقُلِ الصُّغْرَى مِنْهُمَا".
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ يُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ (8) .
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَوبَد بْنِ أَبِي عِمْرَانَ -وَهُوَ ضَعِيفٌ -ثُمَّ قَدْ رُوِيَ أَيْضًا نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ (9) بِزِيَادَةٍ غَرِيبَةٍ جِدًّا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السِّجِسْتَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْر، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ (10) يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: "أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا". ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ. فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ غَنَمُهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ مِنْ قالِب لَون. قَالَ: فَمَا مَرَّتْ شَاةٌ إِلَّا ضَرَبَ مُوسَى جَنْبَهَا بِعَصَاهُ، فَوَلَدَتْ قَوَالب أَلْوَانٍ كُلُّهَا، وَوَلَدَتْ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا كُلُّ شَاةٍ لَيْسَ فِيهَا فَشُوش وَلَا ضبُوب، وَلَا كَمِيشة تُفَوّت الْكَفَّ، وَلَا ثَعُول". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا (11) افْتَتَحْتُمُ الشَّامَ فَإِنَّكَمْ ستجدون بقايا منها، وهي السامرية" (12) .
__________
(1) في ف، أ:"عز وجل".
(2) مسند البزار برقم (2245) "كشف الأستار".
(3) في ف، أ: "فقال".
(4) تفسير الطبري (20/44) .
(5) تفسير الطبري (20/44) .
(6) في ف: "وقد".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) مسند البزار برقم (2244) "كشف الأستار".
(9) في ف، أ: "المنذر".
(10) في ف، أ: "المنذر".
(11) في أ: "إنكم إذا".
(12) مسند البزار برقم (2246) "كشف الأستار".(6/232)
هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْبَزَّارُ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا (1) فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَير، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بْنَ النُّدّر (2) السُّلَمِيَّ -صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ (3) آجَرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فَرْجِهِ وطُعمة بَطْنِهِ. فَلَمَّا وَفَى الْأَجَلَ -قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَّ الْأَجَلَيْنِ؟ قَالَ -أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا. فَلَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ، فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ مِنْ غَنَمِهِ مِنْ قَالَبِ (4) لَوْنِ مَنْ وُلِدَ ذَلِكَ الْعَامَ، وَكَانَتْ غَنَمُهُ سَوْدَاءَ حَسْنَاءَ، فَانْطَلَقَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى عَصَاهُ فَسَمَّاها مِنْ طَرَفِهَا، ثُمَّ وَضَعَهَا فِي أَدْنَى الْحَوْضِ، ثُمَّ أَوْرَدَهَا فَسَقَاهَا، وَوَقَفَ مُوسَى بِإِزَاءِ الْحَوْضِ فَلَمْ تَصْدُرْ مِنْهَا شَاةٌ إِلَّا ضَرَبَ جَنْبَهَا شَاةً شَاةً قَالَ: "فَأَتْأَمَتْ وَأَثْلَثَتْ، وَوَضَعَتْ كُلُّهَا قَوَالِبَ أَلْوَانٍ، إِلَّا شَاةً أَوْ شَاتَيْنِ لَيْسَ فِيهَا فَشُوشٌ. قَالَ يَحْيَى: وَلَا ضَبُونٌ. وَقَالَ صَفْوَانُ: وَلَا ضبُوب. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: الصَّوَابُ ضَبُوب -وَلَا عَزُوز وَلَا ثَعُول، وَلَا كَمِيشَةٌ تُفَوّت الْكَفَّ"، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَلَوِ افْتَتَحْتُمُ الشَّامَ وَجَدْتُمْ بَقَايَا تِلْكَ الْغَنَمِ وَهِيَ السَّامِرِيَّةُ".
وَحَدَّثَنَا أَبُو زُرْعة، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الْوَلِيدَ قَالَ: فَسَأَلْتُ ابْنَ لَهِيعة: مَا الْفَشُوشُ؟ قَالَ: الَّتِي تَفُشّ بِلَبَنِهَا وَاسِعَةَ الشَّخب. قُلْتُ: فَمَا الضَّبُوبُ؟ قَالَ: الطَّوِيلَةُ الضَّرْعِ تَجُرُّهُ. قُلْتُ: فَمَا العَزُوز؟ قَالَ: ضَيِّقَةُ الشَّخب. قَالَ فَمَا الثَعُول؟ قَالَ: الَّتِي لَيْسَ لَهَا ضَرْعٌ إِلَّا كَهَيْئَةِ حَلَمَتَيْنِ. قُلْتُ: فَمَا الْكَمِيشَةُ؟ قَالَ: الَّتِي تُفَوّت الْكَفَّ، كَمَيْشَةُ الضَّرْعِ، صَغِيرٌ لَا يُدْرِكُهُ الْكَفُّ.
مَدَارُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعة الْمِصْرِيِّ -وَفِي حِفْظِهِ سُوءٌ -وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ رَفَعَهُ خَطَأً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُرْوَى لَيْسَ فِيهَا فَشُوشٌ وَلَا عَزُوزٌ، وَلَا ضَبُوبٌ وَلَا ثَعول وَلَا كَمِيشَةٌ، لِتُذْكَرَ كُلُّ صِفَةٍ نَاقِصَةٍ مَعَ مَا يُقَابِلُهَا مِنَ الصِّفَاتِ النَّاقِصَةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ (5) كَلَامِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -مَوْقُوفًا عَلَيْهِ -مَا يُقَارِبُ بَعْضَهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ (6) ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا دَعَا نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، صَاحِبَهُ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: كُلُّ شَاةٍ وَلَدَتْ عَلَى غَيْرِ لَوْنِهَا فَذَلِكَ وَلَدُهَا لَكَ. فَعَمَدَ فَرَفَعَ حِبَالًا عَلَى الْمَاءِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْخَيَالَ فَزِعَتْ فَجَالَتْ جَوْلَةً، فَوَلَدْنَ كُلُّهُنَّ بُلْقًا إِلَّا شَاةً وَاحِدَةً، فذهب بأولادهن ذلك العام (7) .
__________
(1) في ت: "بزيادة غريبة".
(2) في ت، ف، أ: "المنذر".
(3) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(4) في ت: "قابله".
(5) في ت: "عن".
(6) في ت: "ما يقارب هذا".
(7) تفسير الطبري (20/44) .(6/233)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) } .
قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَبْلَهَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَضَى أَتَمَّ الْأَجَلَيْنِ وَأَوْفَاهُمَا وَأَبَرَّهُمَا وَأَكْمَلَهُمَا وَأَنْقَاهُمَا، وَقَدْ يُسْتَفَادُ هَذَا أَيْضًا مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ قَوْلِهِ (1) : {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ} أَيِ: الْأَكْمَلَ مِنْهُمَا، وَاللَّهُ (2) أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: قَضَى عَشْرَ سِنِينَ، وَبَعْدَهَا عَشْرًا أُخَرَ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَاللَّهُ (3) أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} قَالُوا: كَانَ مُوسَى قَدِ اشْتَاقَ إِلَى بِلَادِهِ وَأَهْلِهِ، فَعَزَمَ عَلَى زِيَارَتِهِمْ فِي خُفْيَةٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَتَحَمَّلَ بِأَهْلِهِ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْغَنَمِ الَّتِي وَهَبَهَا لَهُ صِهْرُهُ، فَسَلَكَ بِهِمْ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ مُظْلِمَةٍ بَارِدَةٍ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَجَعَلَ كُلَّمَا أَوْرَى زَنْدَهُ لَا يُضيء شَيْئًا، فَتَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ [إِذْ] (4) {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} أَيْ: رَأَى نَارًا تُضِيءُ لَهُ عَلَى بُعْدٍ، {قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} أَيْ: حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهَا، {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ أَضَلَّ الطَّرِيقَ، {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} أَيْ: قِطْعَةٍ مِنْهَا (5) ، {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي: تَتَدفؤون بِهَا مِنَ الْبَرْدِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ} أَيْ: مِنْ جَانِبِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْجَبَلَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (6) : {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ} ، فَهَذَا مِمَّا يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مُوسَى قَصَدَ النَّارَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَالْجَبَلُ الْغَرْبِيُّ عَنْ يَمِينِهِ، وَالنَّارُ وَجَدَهَا تَضْطَرِمَ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ فِي لحْف الْجَبَلِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ، فَوَقَفَ بَاهِتًا فِي أَمْرِهَا، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّة، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ الشَّجَرَةَ الَّتِي نُودِيَ مِنْهَا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَمْرَةً خَضْرَاءَ تَرِفُّ. إِسْنَادُهُ مُقَارَبٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا يَتَّهِمُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: شَجَرَةٌ مِنَ العُلَّيق، وَبَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقُولُ: مِنَ الْعَوْسَجِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مِنَ الْعَوْسَجِ، وَعَصَاهُ مِنَ الْعَوْسَجِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَيِ: الَّذِي يُخَاطِبُكَ وَيُكَلِّمُكَ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ مماثلة المخلوقات في
__________
(1) في أ: "حيث قال".
(2) في ت: "فالله".
(3) في ف: "فالله".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ت: "قطعة من النار".
(6) في ت: "قال الله تعالى".(6/234)
ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ!
وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أَيِ: الَّتِي فِي يَدِكَ. كَمَا قَرَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طَهَ: 17، 18] . وَالْمَعْنَى: أَمَّا هَذِهِ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا أَلْقِهَا {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} فَعَرَفَ وَتَحَقَّقَ أَنَّ الَّذِي يُخَاطِبُهُ وَيُكَلِّمُهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ، فَيَكُونُ. كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ "طَهَ".
وَقَالَ هَاهُنَا: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} أَيْ: تَضْطَرِبُ {كَأَنَّهَا جَانٌّ} أَيْ: فِي حَرَكَتِهَا السَّرِيعَةِ مَعَ عِظَمِ خَلْق قَوَائِمِهَا (1) وَاتِّسَاعِ فَمِهَا، وَاصْطِكَاكِ أَنْيَابِهَا وَأَضْرَاسِهَا، بِحَيْثُ لَا تَمُرُّ بِصَخْرَةٍ إِلَّا ابْتَلَعَتْهَا، فَتَنْحَدِرُ فِي فِيهَا تَتَقَعْقَعُ، كَأَنَّهَا حَادِرَةٌ فِي وَادٍ. فَعِنْدَ ذَلِكَ {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ يَلْتَفِتُ؛ لِأَنَّ طَبْعَ الْبَشَرِيَّةِ يَنْفِرُ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ لَهُ: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} ، رَجَعَ فَوَقَفَ فِي مَقَامِهِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لَهُ: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أَيْ: إِذَا أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي جَيْبِ دِرْعِكَ ثُمَّ أَخْرَجْتَهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ تَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا قِطْعَةُ قَمَرٍ فِي لَمَعَانِ الْبَرْقِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} : قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْفَزَعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنَ الرُّعْبِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَابْنُ جَرِيرٍ: مِمَّا حَصَلَ لَكَ مِنْ خَوْفِكَ مِنَ الْحَيَّةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ أُمِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا خَافَ مِنْ شَيْءٍ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ جَنَاحَهُ مِنَ الرَّهْبِ، وَهِيَ يَدُهُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْخَوْفِ. وَرُبَّمَا إِذَا اسْتَعْمَلَ أَحَدٌ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِدَاءِ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فُؤَادِهِ، فَإِنَّهُ يَزُولُ عَنْهُ مَا يَجِدُ أَوْ يَخف، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.
قَالَ (2) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ ثَعْلَبٍ الشَّيْخُ الصَّالِحُ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدَّبُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ (3) : كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدْ مُلئ قَلْبُهُ رُعْبًا مِنْ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ إِذَا رَآهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْرَأُ بِكَ فِي نَحْرِهِ، وَأُعَوِّذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ، فَفَرَّغَ (4) اللَّهُ مَا كَانَ فِي قَلْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعَلَهُ فِي قَلْبِ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ إِذَا رَآهُ بَالَ كَمَا يَبُولُ الْحِمَارُ.
وَقَوْلُهُ: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} يَعْنِي: إِلْقَاءَهُ الْعَصَا وَجَعْلَهَا حَيَّةً تَسْعَى، وَإِدْخَالَهُ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ فَتَخْرُجُ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ -دَلِيلَانِ قَاطِعَانِ وَاضِحَانِ عَلَى قُدْرَةِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ مَنْ جَرَى هَذَا الْخَارِقُ عَلَى يَدَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أَيْ: وَقَوْمِهِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَالْأَتْبَاعِ، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} أَيْ: خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ الله، مخالفين لدين الله، [والله أعلم] (5) .
__________
(1) في ت: "عظم خلقها" وفي ف: "عظم خلقتها".
(2) في ت: "روى".
(3) في ت: "بإسناده".
(4) في ت، ف، أ: "فنزع".
(5) زيادة من ف.(6/235)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) } .
لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ، الَّذِي إِنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ فِرَارًا مِنْهُ وَخَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ، {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا} يَعْنِي: ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ، {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} أَيْ: إِذَا رَأَوْنِي.
{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} ، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ فِي لِسَانِهِ لَثْغَةٌ، بِسَبَبِ مَا كَانَ تَنَاوَلَ تِلْكَ الْجَمْرَةَ، حِينَ خُيّر بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّمْرَةِ أَوِ الدُّرَّةِ، فَأَخَذَ الْجَمْرَةَ فَوَضَعَهَا عَلَى لِسَانِهِ، فَحَصَلَ فِيهِ شِدَّةٌ فِي التَّعْبِيرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طَهَ: 27 -32] أَيْ: يُؤْنِسُنِي فِيمَا أَمَرَتْنِي بِهِ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِلَى هَذَا الْمَلِكِ الْمُتَكَبِّرِ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ. وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا [يُصَدِّقُنِي] } (1) ، أَيْ: وَزِيرًا وَمُعِينًا وَمُقَوِّيا لِأَمْرِي، يَصَدِّقُنِي فِيمَا أَقُولُهُ وَأُخْبِرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ خَبَرَ اثْنَيْنِ أَنْجَعُ فِي النُّفُوسِ مِنْ خَبَرِ وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: {رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} أَيْ: يُبَيِّنُ لَهُمْ عَنِّي مَا أُكَلِّمُهُمْ بِهِ، فَإِنَّهُ يُفْهِمُ [عَنِّي] (2) .
فَلَمَّا سَأَلَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أَيْ: سَنُقَوِّي أَمْرَكَ، وَنُعِزُّ جَانِبَكَ بِأَخِيكَ، الَّذِي سَأَلْتَ لَهُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَعَكَ. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طَهَ: 36] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مَرْيَمَ: 53] . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَيْسَ أَحَدٌ أَعْظَمَ مِنَّةً عَلَى أَخِيهِ، مِنْ مُوسَى عَلَى هَارُونَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُ شُفِّعَ فِيهِ حَتَّى جَعَلَهُ اللَّهُ نَبِيًّا وَرَسُولًا مَعَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَلِهَذَا قَالَ [اللَّهُ تَعَالَى] (3) فِي حَقِّ مُوسَى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الْأَحْزَابِ: 69] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} أَيْ: حُجَّةً قَاهِرَةً، {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} أَيْ: لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى أَذَاكُمَا بِسَبَبِ إِبْلَاغِكُمَا آيَاتِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (4) : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَةِ: 67] (5) . وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الْأَحْزَابِ: 39] ، أَيْ: وَكَفَى بِاللَّهِ نَاصِرًا وَمُعِينًا وَمُؤَيِّدًا. وَلِهَذَا أَخْبَرَهُمَا أَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمَا ولِمَنْ اتَّبَعَهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ، كما قال
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) زيادة من ت، أ.
(5) زيادة من ت، أ، وفي هـ: "إلى قوله".(6/236)
تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الْمُجَادَلَةِ: 21] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غَافِرٍ: 51، 52] .
وَوَجَّهَ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ: {بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ، تَقْدِيرُهُ: أَنْتُمَا ومَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ بِآيَاتِنَا (1) .
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَهُوَ حَاصِلٌ مِنَ التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا، وَاللَّهُ أعلم.
__________
(1) تفسير الطبري (20/48) .(6/237)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مَجِيءِ مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَعَرْضِهِ مَا آتَاهُمَا اللَّهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالدَّلَالَاتِ الْقَاهِرَةِ، عَلَى صِدْقِهِمَا فيما أخبر عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ. فَلَمَّا عَايَنَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ وَتُحَقَّقُوهُ، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، عَدَلُوا بِكُفْرِهِمْ وَبَغْيِهِمْ إِلَى الْعِنَادِ وَالْمُبَاهَتَةِ، وَذَلِكَ لِطُغْيَانِهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَقَالُوا: {مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى} أَيْ: مُفْتَعَلٌ مَصْنُوعٌ. وَأَرَادُوا مُعَارَضَتَهُ بِالْحِيلَةِ وَالْجَاهَ، فَمَا صَعِدَ مَعَهُمْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (1) : {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ} يَعْنُونَ: عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنْ آبَائِنَا عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَلَمْ نَرَ (2) النَّاسَ إِلَّا يُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى. فَقَالَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مُجِيبًا لَهُمْ: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} يَعْنِي: مِنِّي وَمِنْكُمْ، وَسَيَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أَيِ: النُّصْرَةُ وَالظَّفَرُ وَالتَّأْيِيدُ، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أَيِ: الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) } .
__________
(1) في ت، ف: "وقولهم".
(2) في ف: "وما نرى".(6/237)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَطُغْيَانِهِ وَافْتِرَائِهِ فِي دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ لِنَفْسِهِ الْقَبِيحَةِ -لَعَنَهُ اللَّهُ -كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزُّخْرُفِ: 54] ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ بِقِلَّةِ عُقُولِهِمْ وَسَخَافَةِ أَذْهَانِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، [وَ] (1) قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُ: {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النَّازِعَاتِ: 23 -26] يَعْنِي: أَنَّهُ جَمَعَ قَوْمَهُ وَنَادَى فِيهِمْ بِصَوْتِهِ الْعَالِي مُصَرِّحا لَهُمْ بِذَلِكَ، فَأَجَابُوهُ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ. وَلِهَذَا انْتَقَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، فَجَعَلَهُ عِبْرَةً لِغَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَتَّى إِنَّهُ وَاجَهَ مُوسَى الْكِلِيمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] .
وقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} أَيْ: أَمَرَ وَزِيرَهُ هَامَانَ وَمُدَبِّرَ رَعِيَّتِهِ وَمُشِيرَ دَوْلَتِهِ أَنْ يُوقِدَ لَهُ عَلَى الطِّينِ، لِيَتَّخِذَ لَهُ آجُرّا لِبِنَاءِ الصَّرْحِ، وَهُوَ الْقَصْرُ الْمُنِيفُ الرَّفِيعُ -كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ} [غَافِرٍ: 36، 37] ، وَذَلِكَ لِأَنَّ (2) فِرْعَوْنَ بَنَى هَذَا الصَّرْحَ الَّذِي لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا بِنَاءٌ أَعْلَى مِنْهُ، إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنْ يُظْهِرَ لِرَعِيَّتِهِ تَكْذِيبَ مُوسَى فِيمَا زَعَمَهُ مِنْ دَعْوَى إِلَهٍ غَيْرِ فِرْعَوْنَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أَيْ: فِي قَوْلِهِ إِنَّ ثَمّ رَبًّا غَيْرِي، لَا أَنَّهُ كَذَّبَهُ فِي أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْتَرِفُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ، فَإِنَّهُ قَالَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 23] وَقَالَ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 29] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} أَيْ: طَغَوْا وَتَجَبَّرُوا، وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا مَعَادَ وَلَا قِيَامَةَ (3) ، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ.إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 13، 14] ، ولهذا قال ها هنا: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أَيْ: أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أَيْ: لِمَنْ سَلَكَ وَرَاءَهُمْ وَأَخَذَ بِطَرِيقَتِهِمْ، فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَتَعْطِيلِ الصَّانِعِ، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} أَيْ: فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ خِزْيُ الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 13]
وَقَوْلُهُ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} (4) أَيْ: وَشَرَعَ اللَّهُ لَعْنَتَهُمْ وَلَعْنَةَ مَلكهم فِرْعَوْنَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُتَّبِعِينَ رُسُلَهُ، وَكَمَا أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مَلْعُونُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَذَلِكَ، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} . قَالَ قَتَادَةُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود: 99] .
__________
(1) زيادة من ت، ف.
(2) في ت: "أن".
(3) في ت: "لا قيامة ولا معاد".
(4) في ت: "فأتبعناهم".(6/238)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى الْكِلِيمِ، عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ، مِنْ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ.
وَقَوْلُهُ: {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى} يَعْنِي: أَنَّهُ بَعْدَ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ لَمْ يُعَذِّبْ أُمَّةً بِعَامَّةٍ، بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا قَالَ: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الْحَاقَّةِ: 9، 10] .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَا حَدَّثَنَا عوف، عَنْ أَبِي نَضْرَة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْري قَالَ: مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، غَيْرَ الْقَرْيَةِ الَّتِي مُسِخُوا قِرَدَةً، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى} (1) .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَميلة (2) الْأَعْرَابِيِّ، بِنَحْوِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مَسْنَدِهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ، عَنْ يَحْيَى القَطَّان، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْقُوفًا (3) . ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ عوف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد -رَفَعَهُ (4) إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ:"مَا أهلكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا قَبْلَ مُوسَى"، ثُمَّ قَرَأَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى} (5) .
وَقَوْلُهُ: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أَيْ: مِنَ الْعَمَى وَالْغَيِّ، {وَهُدًى} إِلَى الْحَقِّ، {وَرَحْمَةً} أَيْ: إِرْشَادًا إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ: لَعَلَّ النَّاسَ يَتَذَكَّرُونَ بِهِ، ويهتدون بسببه.
__________
(1) تفسير الطبري (20/50) .
(2) في أ: "حبلة".
(3) مسند البزار برقم (2247) "كشف الأستار".
(4) في ت: "مرفوعا".
(5) مسند البزار برقم (2248) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/88) : "رواه البزار موقوفا ومرفوعا ورجالهما رجال الصحيح".(6/239)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) } .(6/239)
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى بُرْهَانِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، حَيْثُ أَخْبَرَ بِالْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ، خَبَرًا كَأَنَّ سَامِعَهُ شَاهِدٌ ورَاءٍ لِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ، نَشَأَ بَيْنَ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ عَنْ مَرْيَمَ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 44] ، أَيْ: مَا كُنْتَ حَاضِرًا لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَوْحَاهُ إِلَيْكَ. وَهَكَذَا لِمَا أَخْبَرَهُ عَنْ نُوحٍ وَقَوْمِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ إِنْجَاءِ اللَّهِ لَهُ وَإِغْرَاقِ قَوْمِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هُودٍ: 49] وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ (1) الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} [هُودٍ: 100] ، وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ يُوسُفَ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يُوسُفَ: 102] ، وَقَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طَهَ: 99] وقال ها هنا -بَعْدَمَا أَخْبَرَ عَنْ قِصَّةِ مُوسَى مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَكَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ إِيحَاءِ اللَّهِ إِلَيْهِ وَتَكْلِيمُهُ لَهُ -: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ} يَعْنِي: يَا مُحَمَّدُ، مَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْجَبَلِ الْغَرْبِيِّ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي هِيَ شَرْقِيَّةٌ عَلَى شَاطِئِ الْوَادِي، {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَيْكَ ذَلِكَ، لِيَجْعَلَهُ حُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى قُرُونٍ قَدْ تَطَاوَلَ عَهْدُهَا، ونَسُوا حُجَج اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أَيْ: وَمَا كُنْتَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا، حِينَ أخْبرتَ عَنْ نَبِيِّهَا شُعَيْبٍ، وَمَا قَالَ لِقَوْمِهِ، وَمَا ردُّوا عَلَيْهِ، {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أَيْ: وَلَكِنْ نَحْنُ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ذَلِكَ، وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا.
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} -قَالَ أَبُو عبد الرحمن النسائي، في التفسير من سننه: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْر، أَخْبَرَنَا عِيسَى -وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ -عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِك، عَنْ أَبِي زُرْعَة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} ، قَالَ: نُودُوا: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، أَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، وَأَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ، عَنْ حَمْزَةَ -وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ الزَّيَّاتُ -عَنِ الْأَعْمَشِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ وَيَحْيَى بْنِ عِيسَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِك، عَنْ أَبِي زُرْعَة -وَهُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ (2) -أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُقاتِل بْنُ حَيَّان: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} : أُمَّتَكَ في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا
__________
(1) في ت، ف: "الغيب" وهو خطأ.
(2) تفسير الطبري (20/51) والذي فيه من طريق سفيان ويحيى بن عيسى.(6/240)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
بِكَ إِذَا بُعِثْتَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} مُوسَى. وَهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ} .
ثُمَّ أَخْبَرَ هَاهُنَا بِصِيغَةٍ أُخْرَى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ النِّدَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشُّعَرَاءِ: 10] ، وَقَالَ: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النَّازِعَاتِ: 16] ، وَقَالَ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مَرْيَمَ: 52] .
وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أَيْ: مَا كُنْتَ مُشَاهِدًا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَوْحَاهُ إِلَيْكَ وَأَخْبَرَكَ بِهِ، رَحْمَةً مِنْهُ لَكَ وَبِالْعِبَادِ بِإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ، {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
{وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: وَأَرْسَلْنَاكَ إِلَيْهِمْ لِتُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَلِتَقْطَعَ عُذْرَهُمْ إِذَا جَاءَهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ، فَيَحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ وَلَا نَذِيرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِهِ إِنْزَالَ كِتَابِهِ الْمُبَارَكِ وَهُوَ الْقُرْآنُ: {أَنْ تَقُولُوا (1) إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الْأَنْعَامِ: 156، 157] ، وَقَالَ: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النِّسَاءِ: 165] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْمَائِدَةِ: 19] ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (2) .
{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) }
__________
(1) في ت، ف: "يقولوا".
(2) زيادة من ف، أ.(6/241)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَوْ عَذَّبَهُمْ قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، لَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ: أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه (1) قالوا على
__________
(1) في أ: "صلى الله عليه وسلم".(6/241)
وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ وَالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْإِلْحَادِ: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} ، يَعْنُونَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ، مِثْلَ الْعَصَا وَالْيَدِ، وَالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ، وَتَنَقُّصِ (1) الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، مِمَّا يَضِيقُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَكَفَلْقِ الْبَحْرِ، وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ، وَإِنْزَالِ المنِّ وَالسَّلْوَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْحُجَجِ الْقَاهِرَةِ، الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حُجَّةً وَبَرَاهِينَ لَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَنْجَعْ فِي فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، بَلْ كَفَرُوا بِمُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ، كَمَا قَالُوا لَهُمَا: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يُونُسَ: 78] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 48] .وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أَيْ: أَوْلَمَ يَكْفُرِ الْبَشَرُ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ. {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا،} ، أَيْ تَعَاوَنَا، {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أَيْ: بِكُلٍّ مِنْهُمَا كَافِرُونَ. وَلِشِدَّةِ التَّلَازُمِ وَالتَّصَاحُبِ وَالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ مُوسَى وَهَارُونَ، دلَّ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا ... أريدُ الخَيْرَ أيهُمَا يَليني ...
أَيْ: فَمَا أَدْرِي أَيَلِينِي الْخَيْرُ أَوِ الشَّرُّ. قَالَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ: أَمَرَتِ الْيَهُودُ قريشا أَنْ يَقُولُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} قَالَ: يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) {تَظَاهَرَا} أَيْ: تَعَاوَنَا وَتَنَاصَرَا وَصَدَّقَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو رَزِين فِي قَوْلِهِ: {ساحِران} يَعْنُونَ: مُوسَى وَهَارُونَ. وَهَذَا قَوْلٌ جَيِّدٌ قَويّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَار، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {قَالُوا ساحِرَانِ تَظَاهَرَا} يَعْنِي: مُوسَى وَمُحَمَّدًا، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا (3) وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ: يَعْنِي: عِيسَى وَمُحَمَّدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ عِيسَى لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ هَاهُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. يَعْنُونَ: التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآنَ. وَكَذَا قَالَ عَاصِمٌ الجَنَديّ، والسُّدِّيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي صَدّق كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنُونَ: التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ (4) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: الْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ، أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَالظَّاهِرُ عَلَى قِرَاءَةِ: {سِحْرَانِ} أَنَّهُمْ يَعْنُونَ: التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآنَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} ، وَكَثِيرًا مَا يُقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 91، 92] ،
__________
(1) في ت، ف، أ: "تنقيص".
(2) في ف، أ: "عليهما السلام".
(3) في ف: "عليهما وسلم".
(4) تفسير الطبري (20/53) .(6/242)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} ، إِلَى أَنْ قَالَ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الْأَنْعَامِ: 155] ، وَقَالَتِ الْجِنُّ: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ] } [الْأَحْقَافِ: 30] (1) وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ [اللَّهُ] (2) عَلَى مُوسَى. وَقَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ لِذَوِي الْأَلْبَابِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فِيمَا أَنْزَلَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَعَدِّدَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ أَكْمَلَ وَلَا أَشْمَلَ وَلَا أَفْصَحَ وَلَا أَعْظَمَ وَلَا أَشْرَفَ مِنَ الْكِتَابِ الذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَبَعْدَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْعَظَمَةِ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: {إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [الْمَائِدَةِ: 44] . وَالْإِنْجِيلُ إِنَّمَا نَزَلَ مُتَمِّمًا لِلتَّوْرَاةِ ومُحلا لِبَعْضِ مَا حُرّم عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ: فِيمَا تُدَافِعُونَ بِهِ الْحَقَّ وَتُعَارِضُونَ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} أَيْ: فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوكَ عَمَّا قُلْتَ لَهُمْ وَلَمْ يَتَّبِعُوا الْحَقَّ {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} أَيْ: بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} أَيْ: بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: فَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بَيَّنَّا لَهُمُ الْقَوْلَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ تَعَالَى: أخبَرَهم كَيْفَ صُنع بِمَنْ مَضَى وَكَيْفَ هُوَ صَانِعٌ، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: {وَصَّلْنَا لَهُمُ} يَعْنِي: قُرَيْشًا. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لَكِنْ قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَة، عَنْ رِفَاعَةَ -رِفَاعَةُ هَذَا هُوَ ابْنُ قَرَظَة القُرَظيّ، وَجَعَلَهُ ابْنُ مَنْدَهْ: رِفَاعَةَ بْنَ سَمَوْأَلٍ، خَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، وَهُوَ الَّذِي طَلَّقَ تَمِيمَةَ بِنْتَ وَهْبٍ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَا، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ (4) -قَالَ: نَزَلَتْ {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} فِي عَشَرَةٍ أَنَا أَحَدُهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِهِ (5) .
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) } .
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ف.
(3) في ف، أ: "صلوات الله وسلامه عليه".
(4) أسد الغابة لابن الأثير (2/228) .
(5) تفسير الطبري (20/56) ورواه اللطبراني في المعجم الكبير (5/53) من طريق حماد بن سلمة به.(6/243)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْعُلَمَاءِ الْأَوْلِيَاءِ (1) مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الْبَقَرَةِ: 121] ، وَقَالَ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 199] ، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} [الْإِسْرَاءِ: 107، 108] ، وَقَالَ: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [الْمَائِدَةِ: 82، 83] .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي سَبْعِينَ مِنَ الْقِسِّيسِينَ بَعَثَهُمُ النَّجَاشِيُّ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: {يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} حَتَّى خَتَمَهَا، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ وَأَسْلَمُوا، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ الْأُخْرَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} يَعْنِي: مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ كُنَّا مُسْلِمِينَ، أَيْ: مُوَحِّدِينَ مُخْلِصِينَ لِلَّهِ مُسْتَجِيبِينَ لَهُ.
قَالَ اللَّهُ: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} أَيْ: هَؤُلَاءِ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ ثُمَّ بِالثَّانِي [يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِإِيمَانِهِمْ بِالرَّسُولِ الْأَوَّلِ ثُمَّ بِالثَّانِي] (2) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {بِمَا صَبَرُوا} أَيْ: عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ؛ فإنَّ تجشُّم مِثْلِ هَذَا شَدِيدٌ عَلَى النُّفُوسِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ يُؤتَونَ أجْرهم مَرّتَين: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ ثُمَّ آمَنَ بِي، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، ورَجُل كَانَتْ لَهُ أمَة فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فتزوَّجها" (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ السَّيلَحيني، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ سُلَيْمَانَ (4) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنِّي لتحتَ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَالَ قَوْلًا حَسَنًا جَمِيلًا وَقَالَ فِيمَا قَالَ: "مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا، [ومَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَهُ أَجْرُهُ، وَلَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ ما علينا] " (5) (6) .
وقوله {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أَيْ: لَا يُقَابِلُونَ السَّيِّئَ (7) بِمِثْلِهِ، وَلَكِنْ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أَيْ: وَمِنَ الَّذِي رَزَقَهُمْ مِنَ الْحَلَالِ يُنْفِقُونَ عَلَى خَلْق اللَّهِ فِي النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ لِأَهْلِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ، وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ، وَصَدَقَاتِ النَّفْلِ والقربات.
__________
(1) في ت، ف: "الألباء" وفي أ: "الألباب".
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) صحيح البخاري برقم (97) وصحيح مسلم برقم (154) .
(4) في، أ: "سليم".
(5) زيادة من ف، أ، ومسند أحمد.
(6) المسند (5/259) .
(7) في ت، ف، أ: "يقابلون على السيئ".(6/244)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} أَيْ: لَا يُخَالِطُونَ أَهْلَهُ وَلَا يُعَاشِرُونَهُمْ، بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [0الْفُرْقَانِ: 72] .
{وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أَيْ: إِذَا سَفه عَلَيْهِمْ سَفيه، وَكَلَّمَهُمْ بِمَا لَا يَليقُ بِهِمُ الجوابُ عَنْهُ، أَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يُقَابِلُوهُ بِمِثْلِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ إِلَّا كَلَامٌ طَيِّبٌ. وَلِهَذَا قَالَ عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ قَالُوا: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أَيْ: لَا نُريد طَريق الْجَاهِلِينَ وَلَا نُحبّها.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ عِشْرُونَ رَجُلًا أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، مِنَ النَّصَارَى، حِينَ (1) بَلَغَهُمْ خَبَرُهُ مِنَ الْحَبَشَةِ. فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسُوا إِلَيْهِ وَكَلَّمُوهُ وَسَاءَلُوهُ -وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ -فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مُسَاءَلَةِ رَسُولِ اللَّهِ عَمَّا أَرَادُوا، دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، ثُمَّ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ. فَلَمَّا قَامُوا عَنْهُ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا (2) لَهُمْ: خَيَّبَكُم اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ. بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ لِتَأْتُوهُمْ (3) بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ فِيمَا قَالَ؛ مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ. أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُمْ. فَقَالُوا [لَهُمْ] (4) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لَا نُجَاهِلُكُمْ، لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَلَكُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، لَمْ نَألُ أنفسَنا خَيْرًا (5) .
قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ النَّفَرَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ (6) .
قَالَ: وَيُقَالُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -إِنَّ فِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} .
قَالَ: وَقَدْ سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيمَنْ أنزلْن (7) ، قَالَ: مَا زلتُ أسمع من علمائنا أنهن أنزلهن (8) فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْآيَاتُ الَّتِي (9) فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [الْمَائِدَةِ: 82، 83]
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) } .
__________
(1) في أ: "حتى".
(2) في أ: "فقال".
(3) في ت: "فتأتونهم".
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) السيرة النبوية لابن هشام (1/392) .
(6) في أ: "كما".
(7) في ت: "نزلت" وفي ف، أ: "نزلن".
(8) في أ: "نزلن".
(9) في أ: "اللاتي".(6/245)
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أَيْ: لَيْسَ إِلَيْكَ ذَلِكَ، إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 272] ، وَقَالَ: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يُوسُفَ: 103] .
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَخَصُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهداية بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الغِوَاية، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ عَمّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ يَحوطُه وَيَنْصُرُهُ، وَيَقُومُ فِي صَفِّهِ وَيُحِبُّهُ حُبًّا [شَدِيدًا] (1) طَبْعِيًّا لَا شَرْعِيًّا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَحَانَ أَجَلُهُ، دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِيمَانِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَسَبَقَ الْقَدَرُ فِيهِ، وَاخْتُطِفَ مِنْ يَدِهِ، فَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ (2) التَّامَّةُ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ المسَيَّب، عَنْ أَبِيهِ -وَهُوَ الْمُسَيَّبُ بْنُ حَزْن الْمَخْزُومِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةٌ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ لَهُ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ آخَرَ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] ، بوأنزل فِي أَبِي طَالِبٍ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
أَخْرَجَاهُ (3) مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ (4) . وَهَكَذَا رَوَاهُ (5) مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ يَزِيدُ بْنُ كَيْسَان، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ وفاةُ أَبِي طَالِبٍ أَتَاهُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا عَمَّاهُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيّرني (6) بِهَا قُرَيْشٌ، يَقُولُونَ: مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا جَزَع الْمَوْتِ، لأقرَرْتُ بِهَا عينَك، لَا أَقُولُهَا إِلَّا لأقرَّ بِهَا عَيْنَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ (7) ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ (8) .
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القَطَّان، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هريرة، فذكره بنحوه (9) .
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) في أ: "الحجة".
(3) في ت: "البخاري ومسلم".
(4) صحيح البخاري برقم (1360) وصحيح مسلم برقم (24) .
(5) في ت: "وروى".
(6) في ف: "يعيرني".
(7) في ت: "رواه الترمذي وقال: حسن صحيح".
(8) صحيح مسلم رقم (25) وسنن الترمذي برقم (3188) .
(9) المسند (2/434) .(6/246)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وقَتَادَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَالَ: (1) أيْ ابْنَ أَخِي، ملةَ الْأَشْيَاخِ. وَكَانَ آخِرَ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَقَالَ (2) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْم (3) ، عن سعيد بن أَبِي رَاشِدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ قَيْصَرَ جَاءَ (4) إليَّ قَالَ: كَتَبَ مَعِي قَيْصَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا، فَأَتَيْتُهُ فَدَفَعْتُ الْكِتَابَ، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ قَالَ:"مِمَّنْ الرَّجُلُ؟ " قُلْتُ: مِنْ تَنُوخَ (5) . قَالَ: "هَلْ لَكَ فِي دِينِ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ؟ " قُلْتُ: إِنِّي رَسُولُ قَوْمٍ، وَعَلَى دِينِهِمْ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهِمْ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ (6) : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (7) .
وَقَوْلُهُ: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} : [يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اعْتِذَارِ بَعْضِ الْكُفَّارِ فِي عَدَمِ اتِّبَاعِ (8) الْهُدَى حَيْثُ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} ] (9) أَيْ: نَخْشَى إِنِ اتَّبَعْنَا مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى، وَخَالَفْنَا مَنْ حَوْلَنَا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ، أَنْ يَقْصِدُونَا بِالْأَذَى وَالْمُحَارَبَةِ، وَيَتَخَطَّفُونَا أَيْنَمَا كُنَّا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} يَعْنِي: هَذَا الَّذِي اعْتَذَرُوا بِهِ كَذِبٌ وَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ فِي بَلَدٍ أَمِينٍ، وحَرَم مُعَظَّمٍ آمِنٍ مُنْذُ وُضع، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْحَرَمُ آمِنًا فِي حَالِ كَفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ، وَلَا يَكُونُ آمِنًا لَهُمْ وَقَدْ أَسْلَمُوا وَتَابَعُوا الْحَقَّ؟.
وَقَوْلُهُ: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ: مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ مِمَّا حَوْلَهُ مِنَ الطَّائِفِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَتَاجِرُ وَالْأَمْتِعَةُ {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} أَيْ: مِنْ عِنْدِنَا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فَلِهَذَا قَالُوا مَا قَالُوا.
وَقَدْ قَالَ (10) النَّسَائِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكة قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ -: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ الَّذِي قَالَ: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} (11) .
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) } .
__________
(1) في أ: "وكان".
(2) في ت: "وروى".
(3) في ت: "بإسناده".
(4) في أ: "جارا".
(5) في هـ: "تيرح" والمثبت من ف، أ.
(6) في ت، ف، أ: "فقال".
(7) رواه أحمد في المسند (3/441) من طريق حماد بن سلمة بنحوه.
(8) في أ: "اتباعهم".
(9) زيادة من ت، ف، أ.
(10) في ت: "وقد روى".
(11) النسائي في السنن الكبرى برقم (11385) .(6/247)
يَقُولُ تَعَالَى مُعَرّضًا بِأَهْلِ مَكَّةَ فِي قَوْلِهِ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أَيْ: طَغَتْ وأشرَت وَكَفَرَتْ نِعْمَةَ اللَّهِ (1) ، فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النَّحْلِ 112، 113] وَلِهَذَا قَالَ: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا} أَيْ: دَثَرت دِيَارُهُمْ فَلَا تَرَى إِلَّا مَسَاكِنَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} أَيْ: رَجَعَتْ خَرَابًا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ [هَاهُنَا] (2) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سَمِعَ كَعْبًا يَقُولُ لِعُمْرَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (3) قَالَ لِلْهَامَّةِ -يَعْنِي الْبُومَةَ -مَا لَكِ لَا تَأْكُلِينَ الزَّرْعَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّهُ أُخْرِجَ آدَمُ بِسَبَبِهِ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ: فَمَا لَكِ لَا تَشْرَبِينَ الْمَاءَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّ اللَّهَ أَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ بِهِ. قَالَ: فَمَا لَكِ لَا تَأْوِينَ إِلَّا إِلَى الْخَرَابِ؟ قَالَتْ: لِأَنَّهُ مِيرَاثُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ تَلَا {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} .
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ (4) مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا ظَالِمًا لَهُ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُ مَنْ أَهْلَكَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} وَهِيَ مَكَّةُ {رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} . فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (5) ، الْمَبْعُوثَ مِنْ أُمِّ الْقُرَى، رَسُولٌ إِلَى جَمِيعِ الْقُرَى، مِنْ عَرَبٍ وَأَعْجَامٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشُّورَى: 7] ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الْأَعْرَافِ: 158] ، وَقَالَ: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الْأَنْعَامِ: 19] ، وَقَالَ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هُودٍ: 17] . وَتَمَامُ الدَّلِيلِ [قَوْلُهُ] (6) {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 58] . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُهْلِكُ كُلَّ قَرْيَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ قَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الْإِسْرَاءِ: 15] . فَجَعَلَ تَعَالَى بِعْثَةَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ شَامِلَةً لِجَمِيعِ الْقُرَى؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى (7) أُمِّهَا وَأَصْلِهَا الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (8) ، أَنَّهُ قَالَ: "بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ". وَلِهَذَا خَتَمَ بِهِ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ، بَلْ شَرْعُهُ بَاقٍ بَقَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} أَيْ: أَصْلِهَا وَعَظِيمَتِهَا، كَأُمَّهَاتِ الرَّسَاتِيقِ وَالْأَقَالِيمِ. حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ الجوزيّ، وغيرهما، وليس ببعيد.
__________
(1) في ف: "بنعم الله" وفي أ: "نعم الله".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(4) في ت، ف: "تعالى".
(5) في ت، ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(6) زيادة من ت، أ.
(7) في ت، ف، أ: "في".
(8) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".(6/248)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ حَقَارَةِ الدُّنْيَا (1) ، وَمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ الدَّنِيئَةِ وَالزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ الْمُقِيمِ، كَمَا قَالَ: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النَّحْلِ: 96] ، وَقَالَ: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ} [آلِ عِمْرَانَ: 198] ، وَقَالَ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ} [الرَّعْدِ: 26] ، وَقَالَ: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الْأَعْلَى: 16، 17] ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ، إِلَّا كَمَا يَغْمِس أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْينظُر مَاذَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ" (2) .
[وَقَوْلُهُ] (3) : {أَفَلا يَعْقِلُونَ} (4) أَيْ: أَفَلَا يَعْقِلُ مَنْ يُقَدِّمُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ؟.
وَقَوْلُهُ: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} : يَقُولُ: أَفَمَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى صَالِحِ أَعْمَالِهِ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، كمَنْ هُوَ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَهُوَ مُمَتَّعٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيَّامًا قَلَائِلَ، {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: مِنَ الْمُعَذَّبِينَ.
ثُمَّ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: فِي حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي جَهْلٍ، وَكِلَاهُمَا عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَهُوَ فِي الدَّرَجَاتِ وَذَاكَ فِي الدَّرَكَاتِ: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصَّافَّاتِ: 57] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصَّافَّاتِ: 158] .
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يُوَبِّخُ بِهِ الْكُفَّارَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ: {أَيْنَ شُرَكَائي الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}
__________
(1) في ت: "عن الحياة الدنيا وحقارتها".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (2858) من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه.
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف، أ: "تعقلون".(6/249)
يَعْنِي: أَيْنَ الْآلِهَةُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهَا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّهْدِيدِ، كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الْأَنْعَامِ: 94] .
وَقَوْلُهُ: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يَعْنِي: مِنَ الشَّيَاطِينِ والمَرَدَة وَالدُّعَاةِ إِلَى الْكُفْرِ، {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} ، فَشَهِدُوا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَغْوَوْهُمْ فَاتَّبَعُوهُمْ، ثم تبرؤوا مِنْ عِبَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مَرْيَمَ: 81، 82] ، وَقَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الْأَحْقَافِ: 5، 6] ، وَقَالَ الْخَلِيلُ لِقَوْمِهِ: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 25] ، وَقَالَ اللَّهُ (1) : {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [الْبَقَرَةِ: 166، 167] ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} [أَيْ] (2) : لِيُخَلِّصُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، كَمَا كُنْتُمْ تَرْجُونَ مِنْهُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ} أَيْ: وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} أَيْ: فَوَدُّوا حِينَ عَايَنُوا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الْكَهْفِ: 52، 53] .
وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} : النِّدَاءُ الْأَوَّلُ عَنْ سُؤَالِ التَّوْحِيدِ، وَهَذَا فِيهِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّاتِ: مَاذَا كَانَ جَوَابُكُمْ لِلْمُرْسَلِينَ إِلَيْكُمْ؟ وَكَيْفَ كَانَ حَالُكُمْ مَعَهُمْ؟ وَهَذَا كَمَا يُسأل الْعَبْدُ فِي قَبْرِهِ: مَنْ رَبُّكَ؟ ومَنْ نَبِيُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ (3) ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ (4) وَرَسُولُهُ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَقُولُ: هَاهَ.. هَاهَ. لَا أَدْرِي؛ وَلِهَذَا لَا جَوَابَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ السُّكُوتِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ، فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ بِالْأَنْسَابِ.
وَقَوْلُهُ: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا، {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}
__________
(1) في ت، ف: "تعالى" وفي أ: "الله تعالى".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "من نبيكم وما دينكم".
(4) في ف، أ: "عبده".(6/250)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَ"عَسَى" مِنَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ، فَإِنَّ هَذَا وَاقِعٌ بِفَضْلِ اللَّهِ ومَنّه لَا مَحَالَةَ.
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُنَازِعٌ وَلَا مُعَقِّبٌ فَقَالَ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} أَيْ: مَا يَشَاءُ، فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَالْأُمُورُ كُلُّهَا خَيْرُهَا وَشَرُّهَا بِيَدِهِ، وَمَرْجِعُهَا إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} نَفْيٌ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الْأَحْزَابِ: 36] .
وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ {مَا} هَاهُنَا بِمَعْنَى "الَّذِي"، تَقْدِيرُهُ: وَيَخْتَارُ الَّذِي لَهُمْ فِيهِ خِيرَةٌ. وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا الْمَسْلَكِ طَائِفَةُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْأَصْلَحِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَافِيَةٌ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمَقَامَ فِي بَيَانِ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَيْ: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، الَّتِي لَا تَخْلُقُ وَلَا تَخْتَارُ شَيْئًا.
ثُمَّ قَالَ: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أَيْ: يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ (1) الضَّمَائِرُ، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ السَّرَائِرُ، كَمَا يَعْلَمُ مَا تُبْدِيهِ الظَّوَاهِرُ مِنْ سَائِرِ الْخَلَائِقِ، {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرَّعْدِ: 10] .
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ} أَيْ: هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلَا مَعْبُودَ سِوَاهُ، كَمَا لَا رَبَّ يَخْلُقُ وَيَخْتَارُ سِوَاهُ {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ} أَيْ: فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ، لِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ {وَلَهُ الْحُكْمُ} أَيِ: الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لَهُ، لِقَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحِمَتِهِ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ: جَمِيعُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي (2) كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ فِي سائر الأعمال.
__________
(1) في هـ، أ: "مكتمة" والمثبت من ت، ف.
(2) في ت، ف: "فيجزي".(6/251)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) } .(6/251)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، اللَّذَيْنِ لَا قوَامَ لَهُمْ بِدُونِهِمَا. وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ جعلَ الليلَ دَائِمًا عَلَيْهِمْ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَأَضَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَلَسَئِمَتْهُ النُّفُوسُ وَانْحَصَرَتْ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} أَيْ: تُبْصِرُونَ بِهِ وَتَسْتَأْنِسُونَ بِسَبَبِهِ، {أَفَلا تَسْمَعُونَ} .
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ النَّهَارَ سَرْمَدًا دَائِمًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لأضرَّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَلَتَعِبَتِ الْأَبْدَانُ وكلَّت مِنْ كَثْرَةِ الْحَرَكَاتِ وَالْأَشْغَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أَيْ: تَسْتَرِيحُونَ مِنْ حَرَكَاتِكُمْ وَأَشْغَالِكُمْ. {أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ} أَيْ: بِكُمْ {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أَيْ: خَلَقَ هَذَا وَهَذَا {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أَيْ: فِي اللَّيْلِ، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أَيْ: فِي النَّهَارِ بِالْأَسْفَارِ وَالتَّرْحَالِ، وَالْحَرَكَاتِ وَالْأَشْغَالِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ: تَشْكُرُونَ اللَّهَ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ بِاللَّيْلِ اسْتَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ، أَوْ بِالنَّهَارِ اسْتَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الْفُرْقَانِ: 62] . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ (1) .
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنزعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) } .
وَهَذَا أَيْضًا نِدَاءٌ [ثَانٍ] (2) عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِمَنْ عَبَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، يُنَادِيهِمُ الرب -تبارك وتعالى -على رؤوس الْأَشْهَادِ فَيَقُولُ: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أَيْ: فِي الدَّارِ الدُّنْيَا.
{وَنزعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} : قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي رَسُولًا. {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أَيْ: عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ، {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} أَيْ: لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، أَيْ: فَلَمْ يَنْطِقُوا وَلَمْ يُحِيرُوا (3) جَوَابًا، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أَيْ: ذَهَبُوا فَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ.
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) } .
__________
(1) بعدها في ت، ف: "فصل: فانظر إلى هذه الآيات وما تضمنته من العبرة والدلالة على ربوبية الله وحكمته، كيف جعل الليل سكنا ولباسا؟ يغشى العالم، فتسكن فيه الحركات، وتأوى الحيوانات إلى بيوتها، والطير إلى أوكارها، وتستجم فيه النفوس، وتستريح من كد السعي والتعب، حتى إذا أخذت منه النفوس راحتها وثباتها، وتطلعت إلى معايشها وتصرفها. جاء فالق الإصباح سبحانه بالنهار، فقدم حيثه بشير الصباح، فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق، وأزالها وكشفها عن العالم، فإذا هم مبصرون، فانتشر الحيوان، وتصرف في معايشه ومصالحه، وخرجت الطيور من أوكارها، فيا له من ميعاد! ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الأكبر، وتكرره ومشاهدة النفوس له بحيث صار عادة ومألفا، منعها من الاعتبار والاستدلال به على النشأة الثانية، وإحياء الخلق بعد موتهم، كما وردت السنة بذلك، أنه يستجاب للعبد إذا قام من نومه يقول: الحمد لله الذي أحيانا بعد موتنا وإليه النشور".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت: "فلم يجيبوا".(6/252)
قَالَ الْأَعْمَشِ، عَنِ المِنْهَال بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} ، قَالَ: كَانَ ابْنَ عَمِّهِ. وَهَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعي، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، وقَتَادَةُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ جُرَيْج، وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ (1) .
قَالَ ابْنُ جُرَيْج: هُوَ قَارُونُ بْنُ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ، وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ.
وَزَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار: أَنَّ قَارُونَ كَانَ عمَّ مُوسَى (2) ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامة: كُنَّا نُحدّث أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى، وَكَانَ يُسَمَّى الْمُنَوَّرَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ بِالتَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ نَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ، فَأَهْلَكَهُ الْبَغْيُ لِكَثْرَةِ مَالِهِ.
وَقَالَ شَهْر بْنُ حَوْشَب: زَادَ فِي ثِيَابِهِ شِبْرًا طُولًا تَرَفُّعًا عَلَى قَوْمِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} أَيْ: [مِنَ] (3) الْأَمْوَالِ {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} أَيْ: لَيُثقلُ حملُها الفئامَ مِنَ النَّاسِ لِكَثْرَتِهَا.
قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ: كَانَتْ مَفَاتِيحُ كُنُوزِ قَارُونَ مِنْ جُلُودٍ، كُلُّ مِفْتَاحٍ مِثْلُ الْأُصْبُعِ، كُلُّ مِفْتَاحٍ عَلَى خِزَانَةٍ عَلَى حِدَّتِهِ، فَإِذَا رَكِبَ حُملت عَلَى سِتِّينَ بَغْلًا أَغَرَّ مُحَجَّلًا. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أَيْ: وَعَظَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ صَالِحُ قَوْمِهِ، فَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ النُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ: لَا تَفْرَحْ بِمَا أَنْتَ فِيهِ، يَعْنُونَ: لَا تَبْطَرْ بِمَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ (4) {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمَرِحِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْأَشِرِينَ الْبَطِرِينَ، الَّذِينَ لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أَيِ: اسْتَعْمِلْ مَا وَهَبَكَ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ الْجَزِيلِ وَالنِّعْمَةِ الطَّائِلَةِ، فِي طَاعَةِ رَبِّكَ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، الَّتِي يَحْصُلُ لَكَ بِهَا الثَّوَابُ فِي الدار الآخرة. {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أَيْ: مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ فِيهَا (5) مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكَحِ، فَإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك
__________
(1) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(2) في ف، أ: "موسى بن عمران".
(3) زيادة من ت.
(4) في ت، ف، أ: "المال".
(5) في ت، ف: "لك".(6/253)
حَقًّا، وَلِزَوْرِكِ عَلَيْكَ حَقًّا، فَآتِ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ.
{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أَيْ: أَحْسِنْ إِلَى خَلْقِهِ كَمَا أَحْسَنَ هُوَ إِلَيْكَ {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ} أَيْ: لَا تكنْ هِمَّتُكَ بِمَا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تُفْسِدَ بِهِ الْأَرْضَ (1) ، وَتُسِيءَ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} .
__________
(1) في أ: "في الأرض".(6/254)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ قَارُونَ لِقَوْمِهِ، حِينَ نَصَحُوهُ وَأَرْشَدُوهُ إِلَى الْخَيْرِ {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أَيْ: أَنَا لَا أَفْتَقِرُ إِلَى مَا تَقُولُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ لِعِلْمِهِ بِأَنِّي أَسْتَحِقُّهُ، وَلِمَحَبَّتِهِ لِي فَتَقْدِيرُهُ: إِنَّمَا أُعْطِيتُهُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيَّ أَنِّي أَهْلٌ لَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا (1) مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزُّمَرِ: 49] أَيْ: عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ بِي، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فُصِّلَتْ: 50] أَيْ: هَذَا أَسْتَحِقُّهُ.
وَقَدْ رُوي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَرَادَ: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أَيْ: إِنَّهُ كَانَ يُعَانِي عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ: وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ فِي نَفْسِهِ عِلْمٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ قَلْبَ الْأَعْيَانِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الْحَجِّ: 73] ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ (2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، فَلْيَخْلُقُوا شُعَيْرَةً" (3) . وَهَذَا وَرَدَ فِي الْمُصَوِّرِينَ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ فِي مُجَرَّدِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ أَوِ الشَّكْلِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ يُحِيلُ مَاهِيَّةَ هَذِهِ الذَّاتِ إِلَى مَاهِيَّةِ ذَاتٍ أُخْرَى، هَذَا زُورٌ وَمُحَالٌ، وَجَهْلٌ وَضَلَالٌ. وَإِنَّمَا يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّبْغِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ كَذِبٌ وَزَغَلٌ وَتَمْوِيهٌ، وَتَرْوِيجٌ أَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا لَا مَحَالَةَ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ أَنَّهُ صَحَّ مَعَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يَتَعَانَاهَا هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ الْفَسَقَةُ الْأَفَّاكُونَ فَأَمَّا مَا يُجْرِيهِ اللَّهُ تَعَالَى (4) مِنْ خَرْق الْعَوَائِدِ عَلَى يَدَيْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ قَلْبِ بَعْضِ الْأَعْيَانِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ مُسْلِمٌ، وَلَا يَرُدُّهُ مُؤْمِنٌ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الصِّنَاعَاتِ وَإِنَّمَا هَذَا عَنْ مَشِيئَةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، وَاخْتِيَارِهِ وَفِعْلِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ حَيْوة بْنِ شُرَيح الْمِصْرِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ سَأَلَهُ سَائِلٌ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِ، وَرَأَى ضَرُورَتَهُ، فَأَخَذَ حَصَاةً مِنَ الْأَرْضِ فَأَجَالَهَا فِي كَفِّهِ، ثُمَّ أَلْقَاهَا إِلَى ذَلِكَ السَّائِلِ فَإِذَا هِيَ ذَهَبٌ أَحْمَرُ. وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ [فِي هَذَا] (5) كَثِيرَةٌ جِدًّا يطول ذكرها.
__________
(1) في ت، أ: "وإذا" وهو خطأ.
(2) في ف: "رسول الله".
(3) صحيح البخاري برقم (5953) وصحيح مسلم برقم (2111) .
(4) في ت، ف: "سبحانه".
(5) زيادة من ت، ف، أ.(6/254)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قَارُونَ كَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَدَعَا اللَّهَ بِهِ، فَتَمَوَّلَ بِسَبَبِهِ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -رَادًّا عَلَيْهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِهِ فِيمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْمَالِ {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} أَيْ: قَدْ كَانَ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا وَمَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ مَحَبَّةٍ مِنَّا لَهُ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ مَعَ ذَلِكَ بِكَفْرِهِمْ وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أَيْ: لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ.
قَالَ قَتَادَةُ: {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} : عَلَى خَيْرٍ عِنْدِي.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَلَى عِلْمٍ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ.
وَقَدْ أَجَادَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِمَامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} قَالَ: لَوْلَا رِضَا اللَّهِ عَنِّي، وَمَعْرِفَتُهُ بِفَضْلِي مَا أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ، وَقَرَأَ {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [وَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ إِذَا رَأَى مَنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَقُولُ: لَوْلَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ لَمَا أُعْطِيَ] (1) .
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ (80) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَارُونَ: إِنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَجَمُّلٍ بَاهِرٍ، مِنْ مَرَاكِبَ وَمَلَابِسَ عَلَيْهِ وَعَلَى خَدَمِهِ وَحَشَمِهِ، فَلَمَّا رَآهُ مَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَيَمِيلُ إِلَى زُخرفها وَزِينَتِهَا، تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانَ لَهُمْ مِثْلُ الَّذِي أُعْطِيَ، قَالُوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أَيْ: ذُو حَظٍّ وَافِرٍ مِنَ الدُّنْيَا. فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ النَّافِعِ قَالُوا لَهُمْ: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أَيْ: جَزَاءُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا تَرَوْنَ.
[كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) [السَّجْدَةِ: 17] (3) .
وَقَوْلُهُ: {وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ} : قَالَ السُّدِّيُّ: وَمَا يُلَقَّى الْجَنَّةَ (4) إِلَّا الصَّابِرُونَ. كَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَا يُلَقَّى (5) هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِلَّا الصَّابِرُونَ عَنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا، الرَّاغِبُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مَقْطُوعًا مِنْ كَلَامِ أُولَئِكَ، وَجَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِخْبَارِهِ بِذَلِكَ.
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) }
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) صحيح مسلم برقم (2824) .
(4) في أ: "وما يلقاها أي الجنة".
(5) في أ: "وما يلقاها".(6/255)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى اخْتِيَالَ قَارُونَ فِي زِينَتِهِ، وَفَخْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ وَبَغْيَهُ عَلَيْهِمْ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ خَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ -عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ -أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ (1) ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَهُ (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْمُغِيرَةِ الْقَاصُّ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَطِيَّةَ (3) ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (4) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَا رَجُلٌ فيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، خَرَجَ فِي بُرْدَيْن أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا، أَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ، فَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (5) ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ (6) ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، سَمِعْتُ زِيَادًا النُّمَيْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَا رَجُلٌ فِيمَنْ (7) كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ فَاخْتَالَ فِيهِمَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (8) .
وَقَدْ ذَكَرَ [الْحَافِظُ] (9) مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ -شكَّر -فِي كِتَابِ الْعَجَائِبِ الْغَرِيبَةِ بِسَنَدِهِ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُسَاحِقٍ قَالَ: رَأَيْتُ شَابًّا فِي مَسْجِدِ نَجْرَانَ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَأَتَعَجَّبُ مِنْ طُولِهِ وَتَمَامِهِ وَجَمَالِهِ، فَقَالَ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ؟ فَقُلْتُ: أَعْجَبُ مِنْ جَمَالِكَ وَكَمَالِكَ. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَعْجَبُ مِنِّي. قَالَ: فَمَا زَالَ يَنْقُصُ وَيَنْقُصُ حَتَّى صَارَ بِطُولِ الشِّبْرِ، فَأَخَذَهُ بَعْضُ قَرَابَتِهِ فِي كُمِّهِ وَذَهَبَ.
وَقَدْ ذُكر أَنَّ هَلَاكَ قَارُونَ كَانَ عَنْ دَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (10) وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِهِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ قَارُونَ أَعْطَى امْرَأَةً بَغِيَّا مَالًا عَلَى أَنْ تَبْهَتَ مُوسَى بِحَضْرَةِ الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ قَائِمٌ فِيهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ كِتَابَ اللَّهِ، فَتَقُولُ: يَا مُوسَى، إِنَّكَ فَعَلْتَ بِي كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا قَالَتْ فِي الْمَلَأِ ذَلِكَ (11) لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أرْعِدَ مِنَ الفَرَق، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا (12) وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكِ بِاللَّهِ الَّذِي فَرَق الْبَحْرَ، وَأَنْجَاكُمْ مِنْ فرعون، وفعل كذا و [فعل] (13) كذا،
__________
(1) في ت: "خسف الله به".
(2) صحيح البخاري برقم (5790) .
(3) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(4) في ت: "النبي".
(5) المسند (3/40) .
(6) في هـ: "أبو يعلى بن منصور" والصواب ما أثبتناه من مسند أبي يعلى.
(7) في ف، أ:"ممن".
(8) مسند أبي يعلى (7/279) وقال الهيثمي في المجمع (5/126) : "فيه زياد بن عبد الله النميري وهو ضعيف، وقد وثقه ابن حبان وقال: يخطئ".
(9) زيادة من ف، أ.
(10) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(11) في أ: "بذلك".
(12) في أ: "بعد ما".
(13) زيادة من ف، أ.(6/256)
لَمَا أَخْبَرْتِنِي بِالَّذِي حَمَلَكِ عَلَى مَا قُلْتِ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَني فَإِنَّ قَارُونَ أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا، عَلَى أَنْ أَقُولَ لَكَ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرّ مُوسَى لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَاجِدًا، وَسَأَلَ اللَّهَ فِي قَارُونَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِّي قَدْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَكَ فِيهِ، فَأَمَرَ مُوسَى الْأَرْضَ أَنْ تَبْتَلِعَهُ وَدَارَهُ فَكَانَ (1) ذَلِكَ.
وَقِيلَ: إِنَّ قَارُونَ لَمَّا خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ تِلْكَ، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى الْبِغَالِ الشُّهْبِ، وَعَلَيْهِ وَعَلَى خَدَمِهِ الثِّيَابُ الْأُرْجُوَانُ الصِّبْغَةِ (2) ، فَمَرَّ فِي جَحْفَله ذَلِكَ عَلَى مَجْلِسِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ. فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ قَارُونَ انْصَرَفَتْ وُجُوهُ النَّاسِ حَوْلَهُ، يَنْظُرُونَ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ. فَدَعَاهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا مُوسَى، أَمَا لَئِنْ كُنْتَ فُضِّلتَ عَلَيَّ بِالنُّبُوَّةِ، فَلَقَدْ فُضِّلْتُ عَلَيْكَ بِالدُّنْيَا، وَلَئِنْ شِئْتَ لَتَخْرُجَنَّ، فَلْتَدْعُوَنَّ عَلَيَّ وَأَدْعُو عَلَيْكَ. فَخَرَجَ وَخَرَجَ قَارُونُ فِي قَوْمِهِ، فَقَالَ مُوسَى (3) : تَدْعُو أَوْ أَدْعُو أَنَا؟ قَالَ: بَلْ أَنَا أَدْعُو. فَدَعَا قَارُونُ فَلَمْ يُجَبْ لَهُ، ثُمَّ قَالَ مُوسَى (4) : أَدْعُو؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ مُوسَى: اللَّهُمَّ، مُر الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَنِي (5) الْيَوْمَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَ مُوسَى: يَا أَرْضُ، خُذِيهِمْ. فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ. فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ، ثُمَّ إِلَى مَنَاكِبِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: أَقْبِلِي بِكُنُوزِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ بِهَا حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهَا. ثُمَّ أَشَارَ مُوسَى بِيَدِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بَنِي لَاوَى (6) فَاسْتَوَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: خُسف بِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُخْسَفُ بِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قَامَةٌ، فَهُمْ يَتَجَلْجَلُونَ فِيهَا إِلَى يَوْمِ القيامة.
وقد ذكر ها هنا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ [غَرِيبَةٌ] (7) أَضْرَبْنَا عَنْهَا صَفْحًا.
وَقَوْلُهُ: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} أَيْ: مَا أَغْنَى عَنْهُ مالُه، وَمَا جَمَعه، وَلَا خَدَمُهُ وَ [لَا] (8) حَشَمُهُ. وَلَا دَفَعُوا عَنْهُ نِقْمَةَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ وَنَكَالَهُ [بِهِ] (9) ، وَلَا كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُنْتَصِرًا لِنَفْسِهِ، فَلَا نَاصِرَ لَهُ [لَا] (10) مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا مَنْ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ} أَيِ: الَّذِينَ لَمَّا رَأَوْهُ فِي زِينَتِهِ قَالُوا {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ، فَلَمَّا خُسِفَ بِهِ أَصْبَحُوا يَقُولُونَ: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} أَيْ: لَيْسَ الْمَالُ بِدَالٍّ عَلَى رِضَا اللَّهِ عَنْ صَاحِبِهِ [وَعَنْ عِبَادِهِ] (11) ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُضَيِّقُ وَيُوَسِّعُ، وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ. وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ، وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ" (12) .
{لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} أَيْ: لَوْلَا لُطف اللَّهِ بِنَا وإحسانه إلينا لخسف بنا، كما خسف
__________
(1) في ف، أ: "وكان".
(2) في ت، ف، أ: "المصبغة".
(3) في ت: "صلى الله عليه وسلم". وفي ف، أ: "عليه السلام".
(4) في ف، أ: "قال: يا موسى".
(5) في ت: "فلتطعني".
(6) في أ: "اذهبوا به لا أرى".
(7) زيادة من ت، ف.
(8) زيادة من ت، ف.
(9) زيادة من أ.
(10) زيادة من أ.
(11) زيادة من أ.
(12) المسند (1/387) .(6/257)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
بِهِ، لِأَنَّا وَددْنا أَنْ نَكُونَ مَثَلَهُ.
{وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} يَعْنُونَ: أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَلَا يُفْلِحُ الْكَافِرُ عِنْدَ اللَّهِ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في معنى قوله تعالى [ها هنا] (1) : {وَيْكَأَنَّ} ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهَا: "وَيْلَكَ اعْلَمْ أَنَّ"، وَلَكِنْ خُفّفت فَقِيلَ: "وَيْكَ"، ودلَّ فَتْحُ "أَنَّ" عَلَى حَذْفِ "اعْلَمْ". وَهَذَا الْقَوْلُ ضعَّفه ابْنُ جَرِيرٍ (2) ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَوِيٌّ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا كِتَابَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ مُتَّصِلَةً "وَيْكَأَنَّ". وَالْكِتَابَةُ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ اصْطِلَاحِيٌّ، وَالْمَرْجِعُ إِلَى اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهَا: وَيْكَأَنَّ، أَيْ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا "وَيْ كَأَنَّ"، فَفَصَلَهَا وَجَعَلَ حَرْفَ "وَيْ" (3) لِلتَّعَجُّبِ أَوْ لِلتَّنْبِيهِ، وَ"كَأَنَّ" بِمَعْنَى "أَظُنُّ وَأَحْسَبُ". قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَقْوَى الْأَقْوَالِ فِي هَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ (4) :
سَألَتَاني الطَّلاق أنْ رَأتَاني ... قَلّ مَالي، وقَدْ جئْتُمَاني بِنُكر ...
وَيْكأنْ مَنْ يكُن لَهُ نَشَب يُحْ ... بَبْ وَمَنْ يَفْتقر يَعش عَيشَ ضُرّ ...
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، جَعَلَهَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ، الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ، أَيْ: تَرَفُّعًا عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَتَعَاظُمًا عَلَيْهِمْ وَتَجَبُّرًا بِهِمْ، وَلَا فَسَادًا فِيهِمْ. كَمَا قَالَ عِكْرِمَةُ: الْعُلُوُّ: التَّجَبُّرُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْعُلُوُّ: الْبَغْيُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُسْلِمٍ (5) الْبَطِينِ: الْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ: التَّكَبُّرُ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَالْفَسَادُ: أَخْذُ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: {لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ} تَعَظُّمًا وَتَجَبُّرًا (6) ، {وَلا فَسَادًا} : عَمَلًا بِالْمَعَاصِي.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَشْعَثَ السَّمَّانِ (7) ، عَنْ أَبَى سَلَّامٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْجِبُهُ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ أَنْ يَكُونَ أَجْوَدَ مِنْ شِرَاكِ صَاحِبِهِ، فَيَدْخُلُ (8) فِي قَوْلِهِ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) تفسير الطبري (20/77) .
(3) في أ: "أي".
(4) هو زيد بن عمرو بن نفيل، والبيت في تفسير الطبري (20/77) .
(5) في أ: "سالم".
(6) في ف: "ولا تجبرا".
(7) في أ: "أشعب السماك".
(8) في أ: "فدخل".(6/258)
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَرَادَ [بِذَلِكَ] (1) الْفَخْرَ [وَالتَّطَاوُلَ] (2) عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّهُ قَالَ] (3) إِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تواضَعُوا، حَتَّى لَا يفخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ" (4) ، وَأَمَّا إِذَا أَحَبَّ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ التَّجَمُّلِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَحَبُّ أَنْ يَكُونَ رِدَائِي حَسَنًا وَنَعْلِي حَسَنَةً، أَفَمِنَ الْكِبَرِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "لَا إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ".
وَقَالَ (5) : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} أَيْ: ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَسَنَة الْعَبْدِ، فَكَيْفَ وَاللَّهُ يُضَاعِفُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً فَهَذَا (6) مَقَامُ الْفَضْلِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النَّمْلِ: 90] وَهَذَا مَقَامُ الْفَصْلِ وَالْعَدْلِ.
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) صحيح مسلم برقم (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
(5) في ت، ف: "وقوله".
(6) في ف: "وهذا".(6/259)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) } .
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رسولَه، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِبَلَاغِ الرِّسَالَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ، وَمُخْبِرًا لَهُ بِأَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَى مَعَادٍ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَيَسْأَلُهُ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أَيِ: افْتَرَضَ عَلَيْكَ أَدَاءَهُ إِلَى النَّاسِ، {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أَيْ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَسْأَلُكَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 6] ، وَقَالَ {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ] (1) } [الْمَائِدَةِ: 109] [وَقَالَ] : (2) {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزُّمَرِ: 69] .
وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ (3) ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، يَقُولُ: لرادُّك إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ سَائِلُكَ عَنِ الْقُرْآنِ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ مِثْلَهَا.
وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبان، عَنْ عِكْرمِة، [وَ] (4) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قَالَ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) زيادة من ت، أ.
(3) في ت: "وقال".
(4) زيادة من ت.(6/259)
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) : {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} : إِلَى الْمَوْتِ.
وَلِهَذَا طُرُقٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفِي بَعْضِهَا: لَرَادُّكَ إِلَى مَعْدِنِكَ مِنَ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُحْيِيكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي قَزَعَةَ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَيْ وَاللَّهِ، إِنَّ لَهُ لَمَعَادًا (2) ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ.
وَقَدْ رُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ (3) :
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَنْبَأَنَا يَعْلَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ العُصْفُريّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قَالَ: إِلَى مَكَّةَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُنَنِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى -وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسيّ -بِهِ (4) . وَهَكَذَا رَوَى العَوْفيّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أَيْ: لَرَادُّكَ إِلَى مَكَّةَ كَمَا أَخْرَجَكَ مِنْهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} : إِلَى مَوْلِدِكَ بِمَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطِيَّةَ، وَالضَّحَّاكِ، نَحْوُ ذَلِكَ.
[وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: فَسَمِعْنَاهُ مِنْ مُقَاتِلٍ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً، عَنِ الضَّحَّاكِ] (5) قَالَ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، فَبَلَغَ الجُحْفَة، اشْتَاقَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} إِلَى مَكَّةَ.
وَهَذَا مِنْ كَلَامِ الضَّحَّاكِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعُ السُّورَةِ مَكِّيًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قَالَ: هَذِهِ مِمَّا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْتُمُهَا، وَقَدْ رَوَى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ عَنْ نُعَيْمٍ الْقَارِئِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ ذَلِكَ تَارَةً بِرُجُوعِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَهُوَ الْفَتْحُ الَّذِي هُوَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَمَارَةٌ عَلَى اقْتِرَابِ أَجَلِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (6) ، كما فسره ابن عباس
__________
(1) في ت: "وعنه".
(2) في ت: "إنه لمعاد".
(3) في ت: "كما روى البخاري بإسناده".
(4) النسائي في السنن الكبرى برقم (11386) وتفسير الطبري (20/80) .
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في أ: "أجل النبي صلى الله عليه وسلم".(6/260)
بِسُورَةِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} أَنَّهُ أجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعي إِلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا أَعْلَمَ مِنْهَا غَيْرَ الَّذِي تَعْلَمُ. وَلِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَارَةً أُخْرَى قَوْلَهُ: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} بِالْمَوْتِ، وَتَارَةً بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتَارَةً بِالْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ جَزَاؤُهُ وَمَصِيرُهُ عَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ وَإِبْلَاغِهَا إِلَى الثِّقْلَيْنِ: الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَفْصَحُ (1) خَلْقِ اللَّهِ، وَأَشْرَفُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَقَوْلُهُ: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أَيْ: قُلْ -لِمَنْ خَالَفَكَ وَكَذَّبَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَوْمِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ومَنْ تَبِعَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ -قُلْ: رُبِّي أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِي مِنْكُمْ وَمِنِّي، وَسَتَعْلَمُونَ لِمَنْ تَكُونُ عَاقِبَةُ الدَّارِ، ولِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مذكِّرًا لِنَبِيِّهِ نِعْمَتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ إِذْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أَيْ: مَا كُنْتَ تَظُنُّ قَبْلَ إِنْزَالِ الْوَحْيِ (2) إِلَيْكَ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ عَلَيْكَ، {إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أَيْ: إِنَّمَا نَزَلَ (3) الْوَحْيُ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ رَحْمَتِهِ بِكَ وَبِالْعِبَادِ بِسَبَبِكَ، فَإِذَا مَنَحَكَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا} أَيْ: مُعِينًا {لِلْكَافِرِينَ} [أَيْ] (4) : وَلَكِنْ فَارِقْهُمْ وَنَابِذْهُمْ وَخَالِفْهُمْ.
{وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ} أَيْ: لَا تَتَأَثَّرْ لِمُخَالَفَتِهِمْ لَكَ وَصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ طَرِيقِكَ (5) لَا تَلْوِي عَلَى ذَلِكَ وَلَا تُبَالِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مُعْلٍ كَلِمَتَكَ، ومؤيدٌ دِينَكَ، وَمُظْهِرٌ مَا أُرْسِلْتَ (6) بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أَيْ: إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ} أَيْ: لَا تَلِيقُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَلَا تَنْبَغِي الْإِلَهِيَّةُ إِلَّا لِعَظَمَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} : إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ الدَّائِمُ الْبَاقِي الْحَيُّ الْقَيُّومُ، الَّذِي تَمُوتُ الْخَلَائِقُ وَلَا يَمُوتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرَّحْمَنِ: 26، 27] ، فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ها هنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} أَيْ: إِلَّا إِيَّاهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ [كَلِمَةُ] (7) لَبِيَدٍ:
أَلَا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ (8)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} أَيْ: إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ،
__________
(1) في أ: "وأنصح".
(2) في أ: "الذكر".
(3) في ت، أ: "أنزل".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "طريقتك".
(6) في أ: "ما أرسلك".
(7) زيادة من ف، أ، وصحيح البخاري.
(8) صحيح البخاري برقم (3841) وصحيح مسلم برقم (2256) .(6/261)
وَحَكَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ كَالْمُقَرِّرِ لَهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيَسْتَشْهِدُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أسْتَغْفِرُ اللهَ ذنبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبّ العبَاد، إلَيه الوَجْهُ والعَمَلُ ...
وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ كُلِّ الْأَعْمَالِ بِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ (1) عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُطَابِقَةِ لِلشَّرِيعَةِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مُقْتَضَاهُ أَنَّ كُلَّ الذَّوَاتِ فَانِيَةٌ (2) وَهَالِكَةٌ وَزَائِلَةٌ إِلَّا ذَاتَهُ (3) تَعَالَى، فَإِنَّهُ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَبَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ.
قَالَ (4) أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ "التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ": حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سُلَيْمٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: كَانَ (5) ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَعَاهَدَ قَلْبَهُ، يَأْتِي الْخَرِبَةَ فَيَقِفُ عَلَى بَابِهَا، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ حَزِينٍ فَيَقُولُ: أَيْنَ أَهْلُكِ؟ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} .
وَقَوْلُهُ: {لَهُ الْحُكْمُ} أَيِ: الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ: يَوْمَ مَعَادِكُمْ، فَيَجْزِيكُمْ (6) بِأَعْمَالِكُمْ، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
[وَاللَّهُ أَعْلَمُ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الْقَصَصِ"] (7)
تَفْسِيرُ سورة العنكبوت
__________
(1) في ف: "به وجه الله" وفي أ: "به وجهه".
(2) في ت: "تفنى".
(3) في ت: "وجهه".
(4) في ت: "وروى".
(5) في ت: "بسنده أن".
(6) في ت: "فيجازيكم".
(7) زيادة من ف، أ.(6/262)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
[وهي] (1) مكية.
{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) } .
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الْبَقَرَةِ".
وَقَوْلُهُ: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسْبِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي الْبَلَاءِ" (2) . وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (3) [آلِ عِمْرَانَ: 142] ، وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ "بَرَاءَةٌ" وَقَالَ فِي الْبَقَرَةِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [الْبَقَرَةِ: 214] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} أَيِ: الَّذِينَ صَدَقُوا فِي دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ مِمَّنْ هُوَ كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ وَدَعْوَاهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ (4) . وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ فِي مِثْلِ: {إِلا لِنَعْلَمَ} [الْبَقَرَةِ: 143] : إِلَّا لِنَرَى؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ، وَالْعِلْمُ أَعَمُّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّهُ [يَتَعَلَّقُ] (5) بِالْمَعْدُومِ وَالْمَوْجُودِ.
وَقَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُمْ يَتَخَلَّصُونَ مِنْ هَذِهِ الْفِتْنَةِ وَالِامْتِحَانِ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ والنكال ما
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) المسند (1/172) والترمذي في السنن برقم (2398) من طريق مصعب بن سعد عن أبيه سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
(3) هكذا وقعت الآية في جميع المخطوطات، والصواب بعدم إثبات قوله تعالى: (ويعلم الصابرين) لأنها ليست نهاية تذييل الآية ونهاية تذييل الآية: (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) .
(4) في ف، أ: "كيف كان يكون".
(5) زيادة من ف، أ.(6/263)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
هُوَ أَغْلَظُ مِنْ هَذَا وَأَطَمُّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} أَيْ: يَفُوتُونَا، {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ: بِئْسَ مَا يَظُنُّونَ.
{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) }(6/264)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ رَجَاءَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُحَقِّقُ لَهُ رَجَاءَهُ وَيُوَفِّيهِ عَمَلَهُ كَامِلًا مَوْفُورًا (1) ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ، بَصِيرٌ بِكُلِّ الْكَائِنَاتِ (2) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} ، كَقَوْلِهِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فُصِّلَتْ: 46] أَيْ: مَنْ عَمِلَ صَالَحَا فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ عَمَلِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ [وَاحِدٍ] (3) مِنْهُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الرَّجُلَ لِيُجَاهِدُ، وَمَا ضَرَبَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ بِسَيْفٍ.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَعَ غِنَاهُ عَنِ الْخَلَائِقِ جَمِيعِهِمْ مِنْ إِحْسَانِهِ وَبِرِّهِ بِهِمْ يُجَازِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، وَيَجْزِيهِمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا (4) كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَيَقْبَلُ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا الْوَاحِدَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَيَجْزِي عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا أَوْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّسَاءِ: 40] ، وَقَالَ هَاهُنَا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}
{وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) } .
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادُهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ الْحَثِّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِتَوْحِيدِهِ، فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ هَمَّا سَبَبُ وُجُودِ الْإِنْسَانِ، وَلَهُمَا عَلَيْهِ (5) غَايَةُ الْإِحْسَانِ، فَالْوَالِدُ بِالْإِنْفَاقِ وَالْوَالِدَةُ بِالْإِشْفَاقِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24] .
__________
(1) في أ: "موفرا".
(2) في ت: "بصير بالكائنات".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت، ف، أ: "الذي".
(5) في أ: "إليه".(6/264)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
وَمَعَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، فِي مُقَابَلَةِ إِحْسَانِهِمَا الْمُتَقَدِّمِ، قَالَ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} أَيْ: وَإِنْ حَرَصا عَلَيْكَ أَنْ تُتَابِعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا إِذَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ، فَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُمَا، لَا تُطِعْهُمَا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ مَرْجِعَكُمْ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَجْزِيكَ بِإِحْسَانِكَ إِلَيْهِمَا، وَصَبْرِكَ عَلَى دِينِكَ، وَأَحْشُرُكَ مَعَ الصَّالِحِينَ لَا فِي زُمْرَةِ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ كُنْتَ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِمَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمَرْءَ إِنَّمَا يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، أَيْ: حُبًّا دِينِيًّا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} .
وَقَالَ (1) التِّرْمِذِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاك بْنُ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُصعَب بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ، قَالَ: نَزَلَتْ فيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ. فَذَكَرَ قِصَّةً، وَقَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَكَ اللَّهُ بِالْبَرِّ؟ وَاللَّهِ لَا أطعَمُ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ، قَالَ: فَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُطْعِمُوهَا شَجَروا فَاهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ (2) {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ} الْآيَةَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا (3) ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ صِفَاتِ قَوْمٍ مِنَ [الْمُكَذِّبِينَ] (4) الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَمْ يَثْبُتِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، بِأَنَّهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ فِتْنَةٌ وَمِحْنَةٌ فِي الدُّنْيَا، اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ، فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي فِتْنَتَهُ أَنْ يَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ إِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الْحَجِّ: 11] .
ثُمَّ قَالَ: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أَيْ: وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ قَرِيبٌ مِنْ رَبِّكَ -يَا مُحَمَّدُ -وَفَتْحٌ وَمَغَانِمُ، لَيَقُولُنَّ هَؤُلَاءِ لَكُمْ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ، أَيْ [كُنَّا] (5) إخوانكم في الدين، كما
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) في ت، ف: "فنزلت".
(3) سنن الترمذي برقم (3079) والمسند (1/181) وصحيح مسلم برقم (1748) وسنن أبي داود برقم (2740) .
(4) زيادة من ف، أ.
(5) زيادة من ف.(6/265)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاءِ: 141] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [الْمَائِدَةِ: 52] .
وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ هَاهُنَا: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} أَيْ: أَوَلَيِسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَمَا تكنُّه ضَمَائِرُهُمْ، وَإِنْ أَظْهَرُوا لَكُمُ الْمُوَافَقَةَ؟
وَقَوْلُهُ: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} أَيْ: وليختبرَنّ اللَّهُ النَّاسَ بِالضَّرَّاءِ وَالسَّرَّاءِ، لِيَتَمَيَّزَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ فِي الضَّرَّاءِ وَالسَّرَّاءِ، إِنَّمَا يُطِيعُهُ فِي حَظِّ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 31] ، وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، الَّتِي كَانَ فِيهَا مَا كَانَ مِنَ الِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 179] ، [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (1) .
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: أَنَّهُمْ قَالُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الْهُدَى: ارْجِعُوا عَنْ دِينِكُمْ إِلَى دِينِنَا، وَاتَّبَعُوا سَبِيلَنَا، {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أَيْ: وَآثَامَكُمْ -إِنْ كَانَتْ لَكُمْ آثَامٌ فِي ذَلِكَ -عَلَيْنَا وَفِي رِقَابِنَا، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: "افْعَلْ هَذَا وَخَطِيئَتُكَ فِي رَقَبَتِي". قَالَ اللَّهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أَيْ: فِيمَا قَالُوهُ: إِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ عَنْ أُولَئِكَ خَطَايَاهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ وِزْرَ أَحَدٍ، {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فَاطِرَ: 18] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا. يُبَصَّرُونَهُمْ} [الْمَعَارِجِ: 10، 11] .
وَقَوْلُهُ: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} : إِخْبَارٌ عَنِ الدُّعَاةِ إِلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ، أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَ أَنْفُسِهِمْ، وَأَوْزَارًا أخَر بِسَبَبِ مَنْ أَضَلُّوا مِنَ النَّاسِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أَوْزَارِ أُولَئِكَ شَيْئًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النَّحْلِ: 25] .
وَفِي الصَّحِيحِ: "مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ
__________
(1) زيادة من ف.(6/266)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
الْقِيَامَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا" (1) وَفِي الصَّحِيحِ: "مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنّ الْقَتْلَ" (2) .
وَقَوْلُهُ: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أَيْ: يَكْذِبُونَ وَيَخْتَلِقُونَ مِنَ الْبُهْتَانِ.
وَقَدْ ذَكَرَ (3) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَفْصِ بْنِ أَبِي الْعَالِيَةِ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيُّ (4) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْزِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي لَا يَجُوزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمٌ! ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ فَيَقُولُ: أَيْنَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ؟ فَيَأْتِي يَتْبَعُهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، فَيُشْخِصُ النَّاسُ إِلَيْهَا أَبْصَارَهُمْ حَتَّى يَقُومَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَأْمُرُ الْمُنَادِي فَيُنَادِي (5) مَنْ كَانَتْ لَهُ تِبَاعة -أَوْ: ظُلامة -عِنْدَ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، فَهَلُمَّ. فَيُقْبِلُونَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا قِيَامًا بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، فَيَقُولُ الرَّحْمَنُ: اقْضُوا عَنْ عَبْدِي. فَيَقُولُونَ: كَيْفَ نَقْضِي عَنْهُ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: خُذُوا لَهُمْ مِنْ حَسَنَاتِهِ. فَلَا يَزَالُونَ يَأْخُذُونَ مِنْهَا حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ حَسَنَةٌ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ الظُّلَامَاتِ، فَيَقُولُ: اقْضُوا عَنْ عَبْدِي. فَيَقُولُونَ: لَمْ يَبْقَ لَهُ حَسَنَةٌ. فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَاحْمِلُوهَا عَلَيْهِ". ثُمَّ نَزَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَاهِدٌ (6) فِي الصَّحِيحِ (7) مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ (8) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحِوَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ (9) الثُّمَالِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مُعَاذُ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ سَعْيِهِ، حَتَّى عَنْ كُحْل عَيْنَيْهِ، وَعَنْ فُتَاتِ الطِّينَةِ بِأُصْبُعَيْهِ (10) ، فَلَا ألْفَيَنَّكَ تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدٌ أَسْعَدُ بِمَا آتَاكَ (11) اللَّهُ مِنْكَ" (12) .
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) }
__________
(1) تقدم تخريج الحديث عند الآية: 2 من سورة المائدة.
(2) تقدم تخريج الحديث عند الآية: 30 من سورة المائدة.
(3) في ت: "روى".
(4) في أ: "البخاري".
(5) في ت، ف: "أن ينادي".
(6) في ف، أ: "شواهد".
(7) بعدها في ت، أ: "إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال وقد ظلم هذا، وأخذ مال هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم يبق له حسنة، أخذ من سيئاتهم، فطرح عليه".
(8) في ت: "وروى".
(9) في أ: "عن أبي النسائي".
(10) في أ: "بإصبعه".
(11) في ت، ف: "أتاه".
(12) ورواه أبو نعيم في الحلية (10/31) من طريق إسحاق بن أبي حسان عن أحمد بن أبي الحواري به.(6/267)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) } .
هَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، يُخْبِرُهُ عَنْ نُوحٍ (1) عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ مَكَثَ (2) فِي قَوْمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسِرًّا، وجهارًا،
__________
(1) في ت: "قوم نوح".
(2) في أ: "لبث".(6/267)
وَمَعَ هَذَا مَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا فِرَارًا عَنِ الْحَقِّ، وَإِعْرَاضًا عَنْهُ وَتَكْذِيبًا لَهُ، وَمَا آمَنُ مَعَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مَا نَجَعَ فِيهِمُ الْبَلَاغُ وَالْإِنْذَارُ، فَأَنْتَ -يَا مُحَمَّدُ -لَا تَأْسَفْ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِكَ مِنْ قَوْمِكَ، وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيَضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَبِيَدِهِ الْأَمْرُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُ (1) الْأُمُورُ، {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ: 96،97] ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُكَ وَيَنْصُرُكَ وَيُؤَيِّدُكَ، وَيُذِلُّ عَدُوَّكَ، وَيَكْبِتُهُمْ وَيَجْعَلُهُمْ أَسْفَلَ السَّافِلِينَ.
قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ ماهَك (2) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثَ نُوحٌ وَهُوَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ، وَلَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ عَامًا، حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ وَفَشَوْا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يُقَالُ إِنَّ عُمُرَهُ كُلَّهُ [كَانَ] (3) أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، لَبِثَ فِيهِمْ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ ثَلَثَمِائَةِ سَنَةٍ، وَدَعَاهُمْ ثَلَثَمِائَةٍ وَلَبِثَ بَعْدَ الطُّوفَانِ ثَلَثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً.
وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا.
وَقَالَ عَوْنُ بْنُ أَبِي شَدَّادٍ: إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ وَثَلَثَمِائَةِ سَنَةٍ، فَدَعَاهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً.
وَهَذَا أَيْضًا غَرِيبٌ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَقْرَبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْل، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عُمَرَ: كَمْ لَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا. قَالَ: فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا فِي نُقْصَانٍ مِنْ أَعْمَارِهِمْ وَأَحْلَامِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ إِلَى يَوْمِكَ هَذَا.
وَقَوْلُهُ: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} أَيِ: الَّذِينَ آمَنُوا بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ تقدَّم ذِكْرُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ "هُودٍ"، وتقدَّم تَفْسِيرُهُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أَيْ: وَجَعَلْنَا تِلْكَ السَّفِينَةَ بَاقِيَةً، إِمَّا عَيْنُهَا كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهَا بَقِيَتْ إِلَى أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى جَبَلِ الْجُودِيِّ، أَوْ نَوْعُهَا جَعَلَهُ لِلنَّاسِ تَذْكِرَةً لِنِعَمِهِ عَلَى الْخَلْقِ، كَيْفَ نَجَّاهُمْ مِنَ الطُّوفَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ. وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 41-44] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ. لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الْحَاقَّةِ: 11، 12] ، وَقَالَ هَاهُنَا: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّدْرِيجِ مِنَ الشَّخْصِ إِلَى الْجِنْسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الْمُلْكِ: 5]
__________
(1) في ف: "يرجع".
(2) في أ: "وائل".
(3) زيادة من ت، ف، أ.(6/268)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
أَيْ: وَجَعَلَنَا نَوْعَهَا، فَإِنَّ الَّتِي يُرْمَى (1) بِهَا لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي زِينَةٌ لِلسَّمَاءِ (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [الْمُؤْمِنُونَ: 12، 13] ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَوْ قِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَاهَا} (3) ، عَائِدٌ إِلَى الْعُقُوبَةِ، لَكَانَ وَجْهًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ: أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي التَّقْوَى، وَطَلَبِ الرِّزْقِ مِنْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَوْحِيدِهِ فِي الشكر (4) ، فإنه المشكور على النعم، لا مُسْدٍ لَهَا غَيْرُهُ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} أَيْ: أَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ وَالْخَوْفَ، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ: إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ حَصَلَ لَكُمُ الْخَيْرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَانْدَفَعَ عَنْكُمُ الشَّرُّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَالْأَوْثَانَ، لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَقْتُمْ أَنْتُمْ لَهَا أَسْمَاءً، سَمَّيْتُمُوهَا (5) آلِهَةً، وَإِنَّمَا هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِثْلُكُمْ. هَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ.
وَرَوَى الْوَالِبِيُّ (6) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَتَصْنَعُونَ إِفْكًا، أَيْ: تَنْحِتُونَهَا أَصْنَامًا. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ -فِي رِوَايَةٍ -وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَهِيَ لَا تَمْلِكُ لَكُمْ رِزْقًا، {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْحَصْرِ، كَقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَةِ: 5] ، {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التَّحْرِيمِ: 11] ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَابْتَغُوا} أَيْ: فَاطْلُبُوا {عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أَيْ: لَا عِنْدَ غَيْرِهِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} أَيْ: كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ (7) ، وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أَيْ: فَبَلَّغَكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ فِي مُخَالَفَةِ الرُّسُلِ، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} يَعْنِي: إِنَّمَا عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يبلغكم ما أمره الله تعالى
__________
(1) في ف: "ترمى"
(2) في أ: "السماء".
(3) في ت: "وجعلناها آية للعالمين".
(4) في أ: "الشرك".
(5) في ف: "فسميتموها".
(6) في أ: "البخاري".
(7) في ف، أ:"وحده لا شريك له".(6/269)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَاللَّهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، فَاحْرِصُوا (1) لِأَنْفُسِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ السُّعَدَاءِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} قَالَ: يُعزي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا مِنْ قَتَادَةَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ، وَاعْتَرَضَ بِهَذَا إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} . وَهَكَذَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا (2) .
وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ كُلَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ [لِقَوْمِهِ] (3) يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ لِإِثْبَاتِ الْمَعَادِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى إِثْبَاتِ الْمَعَادِ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ، بِمَا يُشَاهِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، ثُمَّ وُجِدُوا وَصَارُوا أُنَاسًا سَامِعِينَ مُبْصِرِينَ، فَالَّذِي بَدَأَ هَذَا قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ؛ فَإِنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ.
ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا فِي الْآفَاقِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةِ (4) مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ: السَّمَوَاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ: الثَّوَابِتِ، وَالسَّيَّارَاتِ، وَالْأَرَضِينَ وَمَا فِيهَا مِنْ مِهَادٍ وَجِبَالٍ، وَأَوْدِيَةٍ وبرارٍ وَقِفَارٍ، وَأَشْجَارٍ وَأَنْهَارٍ، وَثِمَارٍ وَبِحَارٍ، كُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى حُدُوثِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَعَلَى وُجُودِ صَانِعِهَا الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ، فَيَكُونُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ: 27] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فُصِّلَتْ: 53] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطُّورِ: 35، 36] .
وَقَوْلُهُ: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} أَيْ: هُوَ الْحَاكِمُ الْمُتَصَرِّفُ، الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسأل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، مَهْمَا فَعَلَ فَعَدْلٌ؛ لأنه
__________
(1) في ت: "فأخلصوا".
(2) تفسير الطبري (20/89) .
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "الباهرة".(6/270)
الْمَالِكُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ: "إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ" (1) . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} أَيْ: تَرْجِعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أَيْ: لَا يُعْجِزُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، بَلْ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ خَائِفٌ مِنْهُ، فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ.
{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} أَيْ: جَحَدُوهَا (2) وَكَفَرُوا بِالْمَعَادِ، {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} أَيْ: لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا، {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع في الدنيا والآخرة.
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (4699) وابن ماجه في السنن برقم (77) من حديث أبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما.
(2) في ت، ف، أ: "جحدوا بها".(6/271)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ، وَدَفْعِهِمُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ: إِنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ جَوَابٌ بَعْدَ مَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ هَذِهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْهُدَى وَالْبَيَانِ، {إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَامَ عَلَيْهِمُ الْبُرْهَانُ، وَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، فَعَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِهِمْ وَقُوَّةِ مُلْكِهِمْ، {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ. فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ} [الصَّافَّاتِ: 97، 98] ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حَشَدوا فِي جَمْعِ أَحِطَابٍ عَظِيمَةٍ مُدَّةً طَوِيلَةً، وحَوّطوا حَوْلَهَا، ثُمَّ أَضْرَمُوا فِيهَا النَّارَ، فَارْتَفَعَ لَهَا لَهَبٌ إِلَى عَنَان السَّمَاءِ: وَلَمْ تُوقَدْ (1) نَارٌ قَطُّ أَعْظَمُ مِنْهَا، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَكَتَّفُوهُ وَأَلْقَوْهُ فِي كفَّة الْمَنْجَنِيقِ، ثُمَّ قَذَفُوا بِهِ فِيهَا، فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَخَرَجَ مِنْهَا سَالِمًا بَعْدَ مَا مَكَثَ فِيهَا أَيَّامًا. وَلِهَذَا وَأَمْثَالِهِ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا. فَإِنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلرَّحْمَنِ، وَجَسَدَهُ لِلنِّيرَانِ، وَسَخَا بِوَلَدِهِ لِلْقُرْبَانِ، وَجَعَلَ مَالَهُ لَلضِّيفَانِ، وَلِهَذَا اجْتَمَعَ عَلَى مَحَبَّتِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ.
وَقَوْلُهُ: {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} أَيْ: سَلَّمه [اللَّهُ] (2) مِنْهَا، بِأَنْ جَعَلَهَا عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَقُولُ لِقَوْمِهِ مقرِّعا لَهُمْ وَمُوَبَّخًا عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ، فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ هَذِهِ لِتَجْتَمِعُوا عَلَى عِبَادَتِهَا فِي الدُّنْيَا، صَدَاقَةً وَأُلْفَةً مِنْكُمْ، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَمَعْنَاهُ: إِنَّمَا اتِّخَاذُكُمْ (3) هَذَا يُحَصّل لَكُمُ الْمَوَدَّةَ
__________
(1) فِي ت: "توجد".
(2) زيادة من ت، ف.
(3) في ف، أ: "إنما اتخذتم".(6/271)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
فِي الدُّنْيَا فَقَطْ {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يَنْعَكِسُ هَذَا الْحَالُ، فَتَبْقَى هَذِهِ الصَّدَاقَةُ وَالْمَوَدَّةُ بَغْضَة وَشَنَآنًا، فَـ {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} أَيْ: تَتَجَاحَدُونَ مَا كَانَ بَيْنَكُمْ، {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أَيْ: يَلْعَنُ الْأَتْبَاعُ الْمَتْبُوعِينَ، وَالْمَتْبُوعُونَ (1) الْأَتْبَاعَ، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الْأَعْرَافِ: 38] ، وَقَالَ تَعَالَى: {الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} [الزُّخْرُفِ: 67] ، وَقَالَ هَاهُنَا {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أَيْ: وَمَصِيرُكُمْ وَمَرْجِعُكُمْ بَعْدَ عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ إِلَى النَّارِ، وَمَا لَكَمَ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُكُمْ، وَلَا مُنْقِذٍ يُنْقِذُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَهَذَا حَالُ الْكَافِرِينَ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَبِخِلَافِ ذَلِكَ.
قَالَ (2) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الأحْمَسي (3) حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الثَّقَفِيُّ [حَدَّثَنَا] (4) الرَّبِيعُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرة الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (5) عَنْ أُمِّ هَانِئٍ -أُخْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -قَالَتْ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أخبرِك أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَمَنْ يَدْرِي أَيْنَ الطَّرَفَانِ " (6) ، فَقَالَتِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. "ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ: يَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ، فَيَشْرَئِبُّونَ" قال أبو عاصم: يرفعون رؤوسهم. "ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ يُنَادِي الثَّالِثَةَ: يَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَفَا عَنْكُمْ" قَالَ: "فَيَقُولُ النَّاسُ قَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فِي ظُلامات الدُّنْيَا -يَعْنِي: الْمَظَالِمَ -ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ، لِيَعْفُ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَعَلَى اللَّهِ الثَّوَابُ" (7) .
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ: أَنَّهُ آمَنُ لَهُ لُوطٌ، يُقَالُ: إِنَّهُ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ، يَقُولُونَ هُوَ: لُوطُ بْنُ هَارَانَ بْنِ آزَرَ، يَعْنِي: وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ سِوَاهُ، وَسَارَّةُ امْرَأَةُ [إِبْرَاهِيمَ] (8) الْخَلِيلِ. لَكِنْ يُقَالُ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي الصَّحِيحِ (9) : أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ مَرّ عَلَى ذَلِكَ الْجَبَّارِ، فَسَأَلَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ سَارَّةَ: مَا هِيَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: [هِيَ] (10) أُخْتِي، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهَا فَقَالَ لَهَا: إِنِّي قَدْ قُلْتُ لَهُ: "إِنَّكِ: أُخْتِي"، فَلَا تُكَذِّبِينِي، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ [أَحَدٌ] (11) مُؤْمِنٌ غَيْرُكِ وَغَيْرِي (12) ، فَأَنْتِ أُخْتِي فِي الدِّينِ. وَكَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا -والله أعلم -أنه ليس على وجه
__________
(1) في ت، ف: "المتبوعين" وهو خطأ.
(2) في ت: "روى".
(3) في أ: "الأحمصي".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ت: "بإسناده".
(6) في ت، ف: "الطرفين".
(7) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4803) من طريق محمد بن إسماعيل الأحمسي به، وقال: "لا يروى عن أم هانئ إلا بهذا الإسناد، تفرد به أبو عاصم". وقال الهيثمي في المجمع (10/355) : "فيه أبو عاصم - الربيع بن إسماعيل - منكر الحديث، قاله أبو حاتم".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) صحيح مسلم برقم (2371) .
(10) زيادة من ت.
(11) زيادة من ت، أ.
(12) في ت: "غيري وغيرك".(6/272)
الْأَرْضِ زَوْجَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، فَإِنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، آمَنَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، وَهَاجَرَ مَعَهُ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، ثُمَّ أرسِل فِي حَيَاةِ الْخَلِيلِ إِلَى أَهْلِ "سَدوم" وَإِقْلِيمِهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ (1) مَا تَقَدَّمَ وَمَا سَيَأْتِي.
وَقَوْلُهُ: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} يَحْتَمِلُ عَوْدَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ} ، عَلَى لُوطٍ، لِأَنَّهُ (2) أَقْرَبُ الْمَذْكُورَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ عُودَهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ -قَالَ (3) ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَاكُ: وَهُوَ الْمُكَنَّى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أَيْ: مِنْ قَوْمِهِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ اخْتَارَ الْمُهَاجَرَةَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمُ، ابْتِغَاءَ إِظْهَارِ الدِّينِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ} أَيْ: لَهُ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ، {الْحَكِيمُ} فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ الْقَدَرِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هَاجَرَا جَمِيعًا مِنْ "كَوْثَى"، وَهِيَ مِنْ سَوَادِ (4) الْكُوفَةِ إِلَى الشَّامِ. قَالَ: وذُكر لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، يَنْحَازُ أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَى مُهَاجَر إِبْرَاهِيمَ، وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شرار أهلها، حتى تلفظهم أرضهم وتقذرُهم رُوحُ اللَّهِ، وَتَحْشُرهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، تَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا، وتَقِيل مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا، وَتَأْكُلُ مَا سَقَطَ مِنْهُمْ".
وَقَدْ أَسْنَدَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَرَوَاهُ مُطَوَّلًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ (5) : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَب قَالَ: لَمَّا جَاءَتْنَا بَيْعَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَدِمْتُ الشَّامَ فَأُخْبِرْتُ بِمَقَامٍ يَقُومُهُ نَوْفٌ البِكَالي، فَجِئْتُهُ؛ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ، فانتبذَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ خَمِيصة، وَإِذَا (6) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. فَلَمَّا رَآهُ نَوْفٌ أَمْسَكَ عَنِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَيَنْحَازُ النَّاسُ إِلَى مُهَاجرَ إِبْرَاهِيمَ، لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ إِلَّا شَرَارُ أَهْلِهَا، فَتَلْفِظُهُمْ (7) أَرَضُوهُمْ، تقْذَرهم نفسُ الرَّحْمَنِ، تَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ فَتَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا، وتَقِيل مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا، وَتَأْكُلُ مِنْهُمْ مَنْ تَخَلَّف". قَالَ: وَسَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "سَيَخْرُجُ أُنَاسٌ (8) مِنْ أُمَّتِي من قبل المشرق، يقرؤون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهم، كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطع، كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ" حَتَّى عَدّها زِيَادَةً عَلَى عِشْرِينَ مَرَّةً "كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ، حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ فِي بَقِيَّتِهِمْ" (9) .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ، وَعَبْدِ الصَّمَدِ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوائي، عَنْ قَتَادَةَ، بِهِ (10)
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، فَقَالَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي سُكْنَى الشَّامِ:
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي [أَبِي] (11) ، عَنْ قتادة، عن شهر بن
__________
(1) في ت: "إبراهيم".
(2) في ت، ف: "الذي هو".
(3) في أ: "قاله".
(4) في ف، أ: "من أرض سواد".
(5) في أ: "فقال".
(6) في ف: "فإذا".
(7) في ف: "تلفظهم".
(8) في ت: "ناس".
(9) المسند (2/198) .
(10) المسند (2/209) .
(11) زيادة من سنن أبي داود.(6/273)
حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهاجَر إِبْرَاهِيمَ، وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا تَلْفِظُهُمْ أَرْضُهُمْ وتَقْذرهم نَفْسُ الرَّحْمَنِ، وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ" (1) .
وَقَالَ (2) الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَنَاب يَحْيَى بْنُ أَبِي حيَّة، عَنْ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ (3) عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَر يَقُولُ (4) لَقَدْ رأيتُنا وَمَا صَاحِبُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ بِأَحَقِّ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا بآخِرَة الْآنَ، وَالدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَئِنْ أَنْتُمُ اتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لَيُلْزِمَنَّكُمُ اللَّهُ مذلَّة فِي أَعْنَاقِكُمْ، ثُمَّ لَا تُنْزَعُ مِنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ، وَتَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". وَسَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَتَكُونَنَّ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ إِلَى مُهاجر أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْأَرَضِينَ (5) إِلَّا شِرَارُ أَهْلِهَا وَتَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُمْ، وتقذرهم روح الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة وَالْخَنَازِيرِ، تَقِيلُ حَيْثُ يَقِيلُونَ (6) ، وَتَبِيتُ حَيْثُ يَبِيتُونَ، وَمَا سَقَطَ مِنْهُمْ فَلَهَا". وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَخْرُجُ من أمتي قوم يسيئون الأعمال، يقرؤون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ -قَالَ يَزِيدُ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ -يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ عِلْمَهُ مَعَ عِلْمِهِمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، فَطُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ، وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلُوهُ. كُلَّمَا طَلَعَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قَطعَه اللَّهُ". فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ مَرَّةً، أَوْ أَكْثَرَ، وَأَنَا أَسْمَعُ (7) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الحُسَيْن بْنُ الْفَضْلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيَّانِ قَالَا حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ نَافِعٍ -وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ، عَمَّنْ حدَّثه، عَنْ نَافِعٍ -عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَيُهَاجِرُ أَهْلُ الْأَرْضِ هِجْرَةً بَعْدَ هِجْرَةٍ، إِلَى مهاجَر إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا شَرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمُ الْأَرَضُونَ (8) وَتَقْذَرُهُمْ رُوحُ الرَّحْمَنِ، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، لَهَا مَا سَقَطَ مِنْهُمْ".
غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ قَدْ رَوَاهُ عَنْ شَيْخٍ لَهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرِوَايَتُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَقْرَبُ إِلَى الْحِفْظِ.
وَقَوْلُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مَرْيَمَ: 49] أَيْ: إِنَّهُ لَمَّا فَارَقَ قومَه أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ بِوُجُودِ وَلَدٍ صَالِحٍ نَبِيٍّ [وَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ صَالِحٌ] (9) فِي حَيَاةِ جَدِّهِ. وَكَذَلِكَ (10) قَالَ اللَّهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72]
__________
(1) سنن أبي داود برقم (2482) .
(2) في ت: "وروى".
(3) في ت: "عن".
(4) في أ: "سمعت عبد الله بن عمرو قال".
(5) في ت، ف: "الأرض".
(6) في، هـ، ت، ف، أ: "تقيل معهم حيث قالوا" والمثبت من المسند.
(7) المسند (2/84) وقال الهيثمي في المجمع (5/251) "فيه أبو جناب الكلبي وهو ضعيف" وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (11/380) "سنده لا بأس به".
(8) في ف: "الأرض.
(9) زيادة من ت، ف.
(10) في ف: "ولذلك".(6/274)
أَيْ: زِيَادَةً، كَمَا قَالَ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} أَيْ: ويولَد لِهَذَا الْوَلَدِ وَلَدٌ فِي حَيَاتِكُمَا، تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُكُمَا. وَكَوْنُ يَعْقُوبَ وَلَدٌ لِإِسْحَاقَ نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَثَبَتَتْ بِهِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، قَالَ اللَّهُ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 133] ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِنَّ الْكَرِيمَ ابنَ الْكَرِيمِ ابنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يوسفُ بنَ يعقوبَ بْنِ إسحاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ" (1) .
فَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [نَافِلَةً] } (2) ، قَالَ: "هُمَا وَلَدَا إِبْرَاهِيمَ". فَمَعْنَاهُ: أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ؛ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ دُونَ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} ، هَذِهِ خِلْعَة (3) سَنية عَظِيمَةٌ، مَعَ اتِّخَاذِ اللَّهِ إِيَّاهُ خَلِيلًا وَجَعْلِهِ لِلنَّاسِ إِمَامًا، أَنْ جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، فَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا وَهُوَ مِنْ سُلَالَتِهِ، فَجَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سُلالة يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَقَامَ فِي مَلَئِهِمْ مُبَشِّرًا بِالنَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْقُرَشِيِّ الْهَاشِمِيِّ، خَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ العَرْباء، مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: وَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ سِوَاهُ، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ [مِنَ اللَّهِ تَعَالَى] (4) .
وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} أَيْ: جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا الْمَوْصُولَةِ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَكَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا الرِّزْقُ الْوَاسِعُ الهنيَّ وَالْمَنْزِلُ الرَّحْب، وَالْمَوْرِدُ الْعَذْبُ، وَالزَّوْجَةُ الْحَسَنَةُ الصَّالِحَةُ، وَالثَّنَاءُ الْجَمِيلُ، وَالذِّكْرُ الْحَسَنُ، فَكُلُّ أَحَدٍ يُحِبُّهُ وَيَتَوَلَّاهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ، مَعَ الْقِيَامِ بِطَاعَةِ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النَّجْمِ: 37] ، أَيْ: قَامَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَكَمَّلَ طَاعَةَ رَبِّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 120-121] .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4688) من حديث ابن عمر، ولم أجده عند مسلم.
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في أ: "خلقة".
(4) زيادة من ت، وفي أ: "من الله".(6/275)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ سُوء صَنِيعِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ قَبِيحِ الْأَعْمَالِ، فِي إِتْيَانِهِمُ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَى هَذِهِ الْفِعْلَةِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ قَبْلَهُمْ. وَكَانُوا مَعَ هَذَا يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَيُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ وَيُخَالِفُونَهُ وَيَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، أَيْ: يَقِفُونَ فِي طَرِيقِ النَّاسِ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ، {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} أَيْ: يَفْعَلُونَ مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فِي مَجَالِسِهِمُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ فِيهَا، لَا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْ قَائِلٍ: كَانُوا يَأْتُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فِي الْمَلَأِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَمِنْ قَائِلٍ: كَانُوا يَتَضَارَطُونَ وَيَتَضَاحَكُونَ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَالْقَاسِمُ. وَمِنْ قَائِلٍ: كَانُوا يُنَاطِحُونَ بَيْنَ الْكِبَاشِ، وَيُنَاقِرُونَ بَيْنَ الدُّيُوكِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ يَصْدُرُ عَنْهُمْ، وَكَانُوا شَرًّا مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، أَخْبَرَنِي حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، حَدَّثَنَا سِمَاك بْنُ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ -مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ -عَنْ أُمِّ هَانِئٍ (1) قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} ، قَالَ: "يَحْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ، وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ الْمُنْكَرُ الَّذِي كَانُوا يَأْتُونَهُ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِي يُونُسَ القُشَيري، حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرة (2) بِهِ (3) . ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ (4) عَنْ سِمَاك.
وَقَالَ (5) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْحَكَمِ (6) ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قَالَ: الصَّفِيرُ، وَلَعِبُ الْحَمَّامِ (7) والجُلاهق، وَالسُّؤَالُ فِي الْمَجْلِسِ، وَحَلُّ أَزْرَارِ الْقِبَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، وَهَذَا مِنْ كُفْرِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ وَعِنَادِهِمْ؛ وَلِهَذَا اسْتَنْصَرَ عَلَيْهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ فَقَالَ: {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} (8) .
__________
(1) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن أم هانئ".
(2) في أ: "حيوة".
(3) المسند (6/341) وسنن الترمذي برقم (3190) .
(4) في أ: "حيوة".
(5) في ت: "وروى".
(6) في ت: "بإسناده".
(7) في أ: "الحمار".
(8) في أ: "الفاسقين" وهو خطأ.(6/276)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنزلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) } .
لِمَا اسْتَنْصَرَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، اللَّهَ عَلَيْهِمْ، بَعَثَ اللَّهُ لِنُصْرَتِهِ مَلَائِكَةً فَمَرُّوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي هَيْئَةِ أَضْيَافٍ، فَجَاءَهُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا همَّة لَهُمْ إِلَى الطَّعَامِ نَكِرَهم، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، فَشَرَعُوا يُؤَانِسُونَهُ وَيُبَشِّرُونَهُ بِوُجُودِ وَلَدٍ صَالِحٍ مِنَ امْرَأَتِهِ سَارَّةَ -وَكَانَتْ حَاضِرَةً -فَتَعَجَّبَتْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ "هُودٍ" وَ"الْحِجْرِ". فَلَمَّا جَاءَتْ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى، وَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا لِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، أَخَذَ يُدَافِعُ لَعَلَّهُمْ يُنظَرون، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَلَمَّا قَالُوا: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} ، {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أَيْ: مِنَ الْهَالِكِينَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُمَالِئُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَبَغْيِهِمْ وَدُبُرِهِمْ. ثُمَّ سَارُوا مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلُوا عَلَى لُوطٍ فِي صُورَةِ شَبَابٍ حِسَانٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ كَذَلِكَ، {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أَيْ: اهتمَّ (1) بِأَمْرِهِمْ، إِنْ هُوَ أَضَافَهُمْ خَافَ (2) عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُمْ خَشِيَ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِأَمْرِهِمْ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ. {قَالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ. إِنَّا مُنزلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ، وَذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اقْتَلَعَ قُرَاهُمْ مِنْ قَرَارِ الْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَى عَنَان السَّمَاءِ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ. وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ، وَجَعَلَ [اللَّهُ] (3) مَكَانَهَا بُحَيْرَةً خَبِيثَةً مُنْتِنَةً، وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ (4) ، وَهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْمَعَادِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً} أَيْ: وَاضِحَةً، {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، كَمَا قَالَ {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 137، 138] .
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ أَنْذَرَ قَوْمَهُ أَهْلَ مَدين، فَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يَخَافُوا بَأْسَ اللَّهِ وَنِقْمَتَهُ وَسَطْوَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} .
. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَاخْشَوُا الْيَوْمَ الْآخِرَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الْمُمْتَحَنَةِ: 6] .
ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنِ الْعَيْثِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَهُوَ السَّعْيُ فِيهَا وَالْبَغْيُ عَلَى أَهْلِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْقِصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، وَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ، هَذَا مَعَ كَفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ
__________
(1) في ف، أ: "اغتم".
(2) في أ: "خوفا".
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) في ت: "القيامة".(6/277)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
بِرَجْفَةٍ عَظِيمَةٍ زَلْزَلَتْ عَلَيْهِمْ بِلَادَهُمْ، وَصَيْحَةٍ أَخْرَجَتِ الْقُلُوبَ مِنْ حَنَاجِرِهَا (1) . وَعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ الَّذِي أَزْهَقَ الْأَرْوَاحَ مِنْ مُسْتَقَرِّهَا، إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُمْ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ "الْأَعْرَافِ، وَهُودٍ، وَالشُّعَرَاءِ".
وَقَوْلُهُ: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ، قَالَ قَتَادَةُ: مَيِّتِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدْ أُلْقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
{وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) }
__________
(1) في ت: "حناجرهم".(6/278)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ كَيْفَ أَبَادَهُمْ وَتَنَوَّعَ فِي عَذَابِهِمْ، فَأَخَذَهُمْ (1) بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، فَعَادٌ قَوْمُ هُودٍ، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ الْأَحْقَافَ وَهِيَ قَرِيبَةٌ (2) مِنْ حَضْرَمَوْتَ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَثَمُودُ قَوْمُ صَالِحٍ، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ الْحِجْرَ قَرِيبًا مِنْ وَادِي الْقُرَى. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ مَسَاكِنَهُمَا (3) جَيِّدًا، وَتَمُرُّ عَلَيْهَا كَثِيرًا. وَقَارُونُ صَاحِبُ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ وَمَفَاتِيحِ الْكُنُوزِ الثَّقِيلَةِ. وَفِرْعَوْنُ مَلِكُ مِصْرَ فِي زَمَانِ مُوسَى وَوَزِيرُهُ هَامَانَ الْقِبْطِيَّانِ الْكَافِرَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
{فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} أَيْ: كَانَتْ عُقُوبَتُهُ بِمَا يُنَاسِبُهُ، {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} ، وَهُمْ عَادٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ أشدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ صَرْصَرٌ بَارِدَةٌ شَدِيدَةُ الْبَرْدِ، عَاتِيَةٌ شَدِيدَةُ الْهُبُوبِ جِدًّا، تَحْمِلُ عَلَيْهِمْ حَصْبَاءَ الْأَرْضِ فَتَقْلِبُهَا عَلَيْهِمْ، وَتَقْتَلِعُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَتَرْفَعُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِلَى عَنَان السَّمَاءِ، ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَتَشْدَخُهُ فَيَبْقَى بَدَنًا بِلَا رَأْسٍ، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (4) . {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} ، وَهُمْ ثَمُودُ، قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَظَهَرَتْ لَهُمُ (5) الدَّلَالَةُ، مِنْ تِلْكَ النَّاقَةِ الَّتِي انْفَلَقَتْ عَنْهَا الصَّخْرَةُ، مِثْلَ مَا سَأَلُوا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَمَعَ هَذَا مَا آمَنُوا بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى طُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَتَهَدَّدُوا نَبِيَّ اللَّهِ صَالِحًا ومَنْ آمَنَ مَعَهُ، وتوعَّدوهُم بِأَنْ يُخْرِجُوهُمْ وَيَرْجُمُوهُمْ، فَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَخَمَدَتِ الْأَصْوَاتَ مِنْهُمْ وَالْحَرَكَاتِ. {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ} ، وَهُوَ قَارُونُ الَّذِي طَغَى وَبَغَى وَعَتَا، وَعَصَى الرَّبَّ الْأَعْلَى، وَمَشَى فِي الْأَرْضِ مَرَحًا، وَفَرِحَ وَمَرِحَ وَتَاهَ بِنَفْسِهِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ، فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} ، وَهُمْ (6) فِرْعَوْنُ وَوَزِيرُهُ هَامَانُ، وَجُنُودُهُ عَنْ آخِرِهِمْ، أُغْرِقُوا فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أَيْ: فِيمَا فَعَلَ بِهِمْ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: إنما فعل ذلك
__________
(1) في ت، ف: "وأخذهم".
(2) في أ: "قرية".
(3) في ت: "مساكنهم".
(4) في ف، أ: "خاوية".
(5) في ف، أ: "عليهم".
(6) في ف، أ: "وهو".(6/278)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
بِهِمْ جَزَاءً وِفَاقًا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ، ثُمَّ قَالَ: {فَكُلا (1) أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [الْآيَةَ] (2) ، أَيْ: مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَإِنَّمَا نبهتُ عَلَى هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ (3) ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} ، قَالَ: قَوْمُ لُوطٍ. {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} ، قَالَ: قَوْمُ نُوحٍ.
وَهَذَا (4) مُنْقَطِعٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَإِنَّ ابْنَ جُرْيَج لَمْ يُدْرِكْهُ. ثُمَّ قَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِهْلَاكُ قَوْمِ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، وَقَوْمِ لُوطٍ بِإِنْزَالِ الرِّجْزِ مِنَ السَّمَاءِ، وَطَالَ السياقُ والفصلُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ هَذَا السِّيَاقِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} قَالَ: قَوْمُ لُوطٍ، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} ، قَوْمُ شُعَيْبٍ. وَهَذَا بَعِيدٌ أَيْضًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ (43) }
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، يَرْجُونَ نَصْرَهُمْ وَرِزْقَهُمْ، وَيَتَمَسَّكُونَ بِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فِي ضَعْفِهِ وَوَهَنِهِ (5) فَلَيْسَ فِي أَيْدِي هَؤُلَاءِ مِنْ آلِهَتِهِمْ إِلَّا كمَنْ يَتَمَسَّكُ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْدِي عَنْهُ شَيْئًا، فَلَوْ عَلموا هَذَا الْحَالَ لَمَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ قَلْبُهُ لِلَّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُحْسِنُ الْعَمَلَ فِي اتِّبَاعِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ مُسْتَمْسِكٌ (6) بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا، لِقُوَّتِهَا وَثَبَاتِهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ وَأَشْرَكَ بِهِ: إِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَيَعْلَمُ مَا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَسَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} أَيْ: وَمَا يَفْهَمُهَا وَيَتَدَبَّرُهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الْمُتَضَلِّعُونَ مِنْهُ.
قَالَ (7) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعة، عَنْ أَبِي قَبِيل (8) ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: عَقَلْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْفَ مَثَلٍ (9) .
وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عنه -حيث يقول [الله] (10) تعالى:
__________
(1) في ت: "فمنهم" وهو خطأ.
(2) زيادة من أ.
(3) في ت: "عن".
(4) في ت: "وهو".
(5) في ت: "وذهابه".
(6) في ف: "متمسك".
(7) في ت: "روى".
(8) في ت: "بإسناده".
(9) المسند (4/203) وقال الهيثمي في المجمع (8/264) "إسناده حسن".
(10) زيادة من ت، وفي ف: "تبارك و".(6/279)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
{وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} .
وَقَالَ (1) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ سِنَانٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: مَا مَرَرْتُ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا أَعْرِفُهَا إِلَّا أَحْزَنَنِي، لِأَنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} .
{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) } .
يَقُولُ تَعَالَى [مُخْبِرًا] (2) عَنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ: أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، يَعْنِي: لَا عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ، {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طَهَ: 15] ، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النَّجْمِ: 31] .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: لَدَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْإِلَهِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قِرَاءَتُهُ وَإِبْلَاغُهُ لِلنَّاسِ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} يَعْنِي: أَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى تَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، أَيْ: إِنَّ مُوَاظَبَتَهَا تَحْمِلُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ عِمْرَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: "مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لَمْ تَزِدْهُ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا" (3) .
[ذِكْرُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ] (4) :
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْمُخَرِّمِيُّ الْفَلَّاسُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَافِعٍ أَبُو زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: سُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قَالَ: "مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له" (5) .
__________
(1) في ت: "رواه".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) أما حديث عمران بن حصين، فقد أخرجه ابن أبي حاتم - كما سيأتي - من طريق عمر بن أبي عثمان عن الحسن عن عمران به، والحسن لم يسمع من عمران بن حصين. وأما حديث ابن عباس، فقد رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/54) من طريق ليث عن طاوس عن ابن عباس به.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) وهذا الحديث فيه علتان ذكرهما الشيخ ناصر الدين الألباني في الضعيفة وهما:
1- الانقطاع بين الحسن - وهو البصري - وعمران بن حصين، فإنهم اختلفوا في سماعه منه فإنه ثبت، فعلته عنعنته الحسن فإنه مدلس معروف بذلك.
2- جهالة عمر بن أبي عثمان، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/1/123) وقال: "سمع طاوسا قوله، روى عنه يحيى بن سعيد".(6/280)
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا". وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ (1) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قَالَ: فَمَنْ لَمْ تَأْمُرْهُ صَلَاتُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ بِصَلَاتِهِ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا. فَهَذَا مَوْقُوفٌ (2)
. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ (3) الْبَرِيدِ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ الصَّلَاةَ، وَطَاعَةُ الصَّلَاةِ أَنْ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ". قَالَ: وَقَالَ سُفْيَانُ: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} [هُودٍ: 87] قَالَ: فَقَالَ سُفْيَانُ: أَيْ وَاللَّهِ، تَأْمُرُهُ وَتَنْهَاهُ. (4)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأشَجّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَقَالَ أَبُو خَالِدٍ مَرَّة: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ الصَّلَاةَ، وَطَاعَةُ الصَّلَاةِ تَنْهَاهُ (5) عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ" (6) .
وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، كَمَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ فُلَانًا يُطِيلُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْفَعُ إِلَّا مَنْ أَطَاعَهَا (7) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ عَلِيٌّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ (8) ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ تَنْهَهُ عَنِ الفحشاء والمنكر، لم يزدد بها من الله إِلَّا بُعْدا" (9) .
وَالْأَصَحُّ فِي هَذَا كُلِّهِ الْمَوْقُوفَاتُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ وقَتَادَةَ، وَالْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ -عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: أُرَاهُ عَنْ جَابِرٍ -شَكَّ الْأَعْمَشُ -قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي فَإِذَا أصبح سرق، قال: "سينهاه (10) ما يقول" (11) .
__________
(1) المعجم الكبير (11/54) وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: "إسناده لين".
(2) تفسير الطبري (20/99) .
(3) في ف: "عن".
(4) تفسير الطبري (20/99) وفيه جويبر وهو متروك.
(5) في ف: "تنهى".
(6) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/465) مرفوعا، وقال: "أخرج عبد بن حميد وابن جرير، وابن مردويه بسند ضعيف" فذكر الرواية التي قبلها.
(7) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (13/298) من طريق زائدة عن عَاصِمٌ عَنْ شَقِيقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "لا تنفع الصلاة إلا من أطاعها ثم قرأ عبد اللَّهِ: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ... ) الآية".
(8) في هـ، ت، ف، أ: "وقال ابن جرير: حدثنا علي بن إسماعيل بن مسلم" والمثبت من الطبري.
(9) تفسير الطبري (20/99) وهو من مراسيل الحسن.
(10) في ف: "ستنهاه".
(11) مسند البزار برقم (721) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (2/258) "رجاله ثقات".(6/281)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الحَرشي (1) حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ -وَلَمْ يَشُكَّ (2) -ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ وَاخْتَلَفُوا فِي إِسْنَادِهِ، فَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَالَ قَيْسٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، وَقَالَ جَرِيرٌ وَزِيَادٌ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو صَالِحٍ (3) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ؟ فَقَالَ: "إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا يَقُولُ (4) (5) ".
وَتَشْتَمِلُ الصَّلَاةُ أَيْضًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْأَكْبَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أَيْ: أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} أَيْ: يَعْلَمُ جَمِيعَ أَقْوَالِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، قَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا ثَلَاثُ خِصَالٍ (6) فَكُلُّ صَلَاةٍ لَا يَكُونُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْخِلَالِ فَلَيْسَتْ بِصَلَاةٍ: الْإِخْلَاصُ، وَالْخَشْيَةُ، وَذِكْرُ اللَّهِ. فَالْإِخْلَاصُ يَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْخَشْيَةُ تَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَذِكْرُ الْقُرْآنِ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَوْن الْأَنْصَارِيُّ: إِذَا كُنْتَ فِي صَلَاةٍ فَأَنْتَ فِي مَعْرُوفٍ، وَقَدْ حَجَزَتْكَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالَّذِي أَنْتَ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَكْبَرُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} يَعْنِي: مَا دُمْتَ فِيهَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، يَقُولُ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ أَكْبَرُ، إِذَا ذَكَرُوهُ مِنْ ذِكْرِهُمْ إِيَّاهُ.
وَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ طَعَامِكَ وَعِنْدَ مَنَامِكَ. قُلْتُ: فَإِنَّ صَاحِبًا لِي فِي الْمَنْزِلِ يَقُولُ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ: قَالَ: وَأَيَّ شَيْءٍ يَقُولُ؟ قُلْتُ: قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 152] ، فَلَذِكْرُ اللَّهِ إِيَّانَا أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِنَا إِيَّاهُ. قَالَ: صَدَقَ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
__________
(1) في ف، أ: "الجرشي".
(2) مسند البزار برقم (722) "كشف الأستار".
(3) في هـ، ت، ف: "أبو صالح أخبرنا" والمثبت من المسند.
(4) في ف: "ستنهاه ما تقول"
(5) المسند (2/447) ورواه البزار في مسنده برقم (720) "كشف الأستار". من طريق الأعمش به، وقال الهيثمي في المجمع (2/258) "رجاله رجال الصحيح".
(6) في أ: "خلال".(6/282)
فِي قَوْلِهِ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: لَهَا وَجْهَانِ، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَمَا حَرَّمَهُ، قَالَ: وَذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَعْظَمُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حدَّثنا هُشَيْم، أَخْبَرَنَا عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ تَدْرِي مَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ: لَقَدْ قُلْتَ قَوْلًا عَجَبًا، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا يَقُولُ: ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ عِنْدَمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ، أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ (1)
. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وغيرهم. واختاره ابن جرير.
__________
(1) تفسير الطبري (20/99) .(6/283)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) } .
قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مُجَادَلَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِسْلَامُ أَوِ الْجِزْيَةُ أَوِ السَّيْفُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ أَوْ مُحْكَمَةٌ لِمَنْ أَرَادَ الِاسْتِبْصَارَ مِنْهُمْ فِي الدِّينِ، فَيُجَادِلُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، لِيَكُونَ أَنْجَعَ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النَّحْلِ: 125] ، وَقَالَ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى فِرْعَوْنَ: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طَهَ: 44] . وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ (1) ، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ.
وَقَوْلُهُ: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أَيْ: حَادُوا عَنْ وَجْهِ الْحَقِّ (2) ، وعَمُوا عَنْ وَاضِحِ الْمَحَجَّةِ، وَعَانَدُوا وَكَابَرُوا، فَحِينَئِذٍ يُنْتَقَلُ مِنَ الْجِدَالِ إِلَى الْجِلَادِ، وَيُقَاتَلُونَ بِمَا يَرْدَعُهُمْ وَيَمْنَعُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الْحَدِيدِ: 25] .
قَالَ جَابِرٌ: أمرْنَا مَنْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ أَنْ نَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} يَعْنِي: أَهْلَ الْحَرْبِ، وَمَنِ امْتَنَعَ مِنْهُمْ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ.
وَقَوْلُهُ: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ} ، يَعْنِي: إِذَا أَخْبَرُوا بِمَا لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ، فَهَذَا لَا نُقدم عَلَى تَكْذِيبِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ حَقًّا، وَلَا عَلَى تَصْدِيقِهِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يكون باطلا
__________
(1) تفسير الطبري (21/2) .
(2) في ف، أ: "الحجة".(6/283)
وَلَكِنْ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانًا مُجْمَلًا مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُنْزَلًا لَا مُبَدَّلًا وَلَا مُؤَوَّلًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَر، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الكتاب (2) يقرؤون التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ". وَهَذَا الْحَدِيثُ تفرَّد (3) بِهِ الْبُخَارِيُّ (4) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَر، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي نَمْلَةَ (5) أَنَّ أَبَا نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجِنَازَةُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ". قَالَ الْيَهُودِيُّ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهَا تَتَكَلَّمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ (6) تُكَذِّبُوهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ (7) تُصَدِّقُوهُمْ" (8)
قَلَّتْ: وَأَبُو نَمْلَةَ هَذَا هُوَ: عُمَارة. وَقِيلَ: عَمَّارٌ. وَقِيلَ: عَمْرُو بْنُ مُعَاذِ بْنِ زُرَارة الْأَنْصَارِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ثُمَّ لِيُعْلَمَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يُحدّثون بِهِ غالبُه كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَهُ تَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ وَتَغْيِيرٌ وَتَأْوِيلٌ، وَمَا أَقَلَّ الصِّدْقَ فِيهِ، ثُمَّ مَا أَقَلَّ فَائِدَةَ كَثِيرٍ مِنْهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ حُرَيْث (9) بْنِ ظُهَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ -قَالَ: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ تَالِيَةٌ، تَدْعُوهُ إِلَى دِينِهِ كَتَالِيَةِ الْمَالِ (10) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ (11) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (12) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أحدث (13) تقرؤونه مَحْضًا لَمْ يُشَب، وَقَدْ حدَثَكم أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بدَّلوا كِتَابَ اللَّهِ، وَغَيَّرُوهُ وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ، وَقَالُوا: هُوَ (14) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا؟ أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ (15) مَسْأَلَتِهِمْ؟ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عليكم (16) .
__________
(1) في ت: "روى البخاري بإسناده عن أبي هريرة".
(2) في هـ، ت، ف: "كان أهل التوراة" والمثبت من البخاري.
(3) في ت: "انفرد".
(4) صحيح البخاري برقم (4485، 7362) .
(5) في ت: "روى الإمام أحمد بإسناده".
(6) في ت: "فلا".
(7) في ت: "فلا".
(8) المسند (4/136) .
(9) في أ: "حرب".
(10) تفسير الطبري (21/4) .
(11) في أ: "سليمان".
(12) في ت: "روى البخاري بإسناده".
(13) في ت: "أحدث الكتب".
(14) في ف، أ: "وقالوا: هذا هو".
(15) في ف: "من".
(16) صحيح البخاري برقم (7363) .(6/284)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي حُمَيد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ -وذكرَ كعبَ الْأَحْبَارِ -فَقَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ (1) .
قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْهُ الْكَذِبُ لُغَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لِأَنَّهُ يُحَدِّثُ عَنْ صُحُفٍ هُوَ يُحْسِنُ بِهَا الظَّنَّ، وَفِيهَا أَشْيَاءُ مَوْضُوعَةٌ وَمَكْذُوبَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ حُفَّاظٌ مُتْقِنُونَ كَهَذِهِ الْأُمَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ وَقُرْبَ الْعَهْدِ وُضِعَتْ (2) أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ مَنَحَهُ اللَّهُ عِلْمًا بِذَلِكَ، كُلٌّ بِحَسْبِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
{وَكَذَلِكَ أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ (49) } .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: كَمَا أَنْزَلْنَا الكُتُب (3) عَلَى مَنْ قَبْلَكَ -يَا مُحَمَّدُ -مِنَ الرُّسُلِ، كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْكِتَابَ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ وَمُنَاسَبَةٌ وَارْتِبَاطٌ (4) جَيِّدٌ.
وَقَوْلُهُ: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أَيِ: الَّذِينَ أَخَذُوهُ فتلَوْه حَقَّ تِلَاوَتِهِ مِنْ أَحْبَارِهِمُ الْعُلَمَاءِ الْأَذْكِيَاءِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَأَشْبَاهِهِمَا.
وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} ، يَعْنِي الْعَرَبَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ} ، أَيْ: مَا يُكَذِّبُ بِهَا وَيَجْحَدُ حَقَّهَا إِلَّا مَنْ يَسْتُرُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيُغَطِّي ضَوْءَ الشَّمْسِ بِالْوَصَائِلِ، وَهَيْهَاتَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} ، أَيْ: قَدْ لَبِثْتَ فِي قَوْمِكَ -يَا مُحَمَّدُ -وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَ بِهَذَا الْقُرْآنِ عُمرا لَا تَقْرَأُ كِتَابًا وَلَا تُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ قَوْمِكَ وَغَيْرِهِمْ يَعْرِفُ أَنَّكَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ (5) . وَهَكَذَا صِفَتُهُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} الْآيَةَ [الْأَعْرَافِ: 157] . وَهَكَذَا كَانَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ [دَائِمًا أَبَدًا] (6) إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (7) ، لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَلَا يَخُطُّ سَطْرًا وَلَا حَرْفًا بِيَدِهِ، بَلْ كَانَ لَهُ كُتَّابٌ يَكْتُبُونَ بَيْنَ
__________
(1) صحيح البخاري برقم (7361) .
(2) في ت: "وضعفت".
(3) في أ: "الكتاب".
(4) في ف: "ومناسبته وارتباطه".
(5) في ف: "لا يقرأ ولا يكتب".
(6) زيادة من ف، وفي أ: "دائما".
(7) في ف، أ: "الدين".(6/285)
يَدَيْهِ الْوَحْيَ وَالرَّسَائِلَ إِلَى الْأَقَالِيمِ. وَمَنْ زَعَمَ مِنْ مُتَأَخَّرِي الْفُقَهَاءِ، كَالْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (1) ، كَتَبَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ" فَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: "ثُمَّ أَخَذَ فَكَتَبَ": وَهَذِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: "ثُمَّ أَمَرَ فَكَتَبَ". وَلِهَذَا اشْتَدَّ النَّكِيرُ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ على من قال بقول الباجي، وتبرؤوا مِنْهُ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا وَخَطَبُوا بِهِ فِي مَحَافِلِهِمْ: وَإِنَّمَا أَرَادَ الرَّجُلُ -أَعْنِي الْبَاجِيَّ، فِيمَا يَظْهَرُ عَنْهُ -أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ، لَا أَنَّهُ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، كَمَا قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (2) إِخْبَارًا عَنِ الدَّجَّالِ: "مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ" وَفِي رِوَايَةٍ: "ك ف ر، يَقْرَؤُهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ" (3) ، وَمَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (4) حَتَّى تَعَلَّمَ الْكِتَابَةَ، فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو} أَيْ: تَقْرَأُ {مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} تَأْكِيدٌ أَيْضًا، وَخَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الْأَنْعَامِ: 38] .
وَقَوْلُهُ: {إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} أَيْ: لَوْ كُنْتَ تُحْسِنُهَا (5) لَارْتَابَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ النَّاسِ فَيَقُولُ: إِنَّمَا تَعَلَّمَ هَذَا مِنْ كُتب قَبْلَهُ مَأْثُورَةٍ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الْفُرْقَانِ: 5] ،قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الْفُرْقَانِ: 6] ، وَقَالَ هَاهُنَا: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أَيْ: [هَذَا] (6) الْقُرْآنُ آيَاتٌ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِّ، أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا، يَحْفَظُهُ الْعُلَمَاءُ، يَسَّره اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِفْظًا وَتِلَاوَةً وَتَفْسِيرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [الْقَمَرِ: 17] ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إليَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا" (7) .
وَفِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ (8) ، فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي مُبْتَلِيكَ وَمُبْتَلٍ بِكَ، وَمُنْزِلٌ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ" (9) . أَيْ: لَوْ غَسَلَ الْمَاءُ المحلَّ الْمَكْتُوبَ فِيهِ لَمَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ، مَا أَحْرَقَتْهُ النَّارُ" (10) ، لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ، مُيَسَّرٌ (11) عَلَى الْأَلْسِنَةِ، مُهَيْمِنٌ عَلَى الْقُلُوبِ، مُعْجِزٌ لَفْظًا وَمَعْنَى؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فِي صِفَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: "أَنَاجِيلُهُمْ فِي صدورهم".
__________
(1) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(2) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (7131) من حديث أنس رضي الله عنه.
(4) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(5) في ت: "تحسن الكتابة".
(6) زيادة من ت، ف، أ.
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (7274) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسيأتي إن شاء الله.
(8) في أ: "حماد".
(9) صحيح مسلم برقم (2865) .
(10) رواه أحمد في مسنده (4/151) من حديث عقبة بن عامر. وتقدم الكلام عليه في فضائل القرآن.
(11) في ت: "وميسر".(6/286)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، بَلِ الْعِلْمُ بِأَنَّكَ مَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِ هَذَا الْكِتَابِ كِتَابًا وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعَلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (1) . وَنَقَلَهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَحَكَى الْأَوَّلَ عَنِ الْحَسَنِ [الْبَصْرِيِّ] (2) فَقَطْ.
قُلْتُ: وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} أَيْ: مَا يُكَذِّبُ بِهَا وَيَبْخَسُ حَقَّهَا وَيَرُدُّهَا إِلَّا الظَّالِمُونَ، أَيِ: الْمُعْتَدُونَ الْمُكَابِرُونَ، الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَحِيدُونَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ: 96، 97] .
{وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَعَنُّتِهِمْ وَطَلَبِهِمْ آيَاتٍ -يَعْنُونَ -تُرْشِدُهُمْ إِلَى أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَمَا جَاءَ صَالِحٌ بِنَاقَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ: {إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} أَيْ: إِنَّمَا أَمْرُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّكُمْ تَهْتَدُونَ لَأَجَابَكُمْ إِلَى سُؤَالِكُمْ؛ لَأَنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ عَلَيْهِ، يَسِيرٌ لَدَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْكُمْ أَنَّمَا قَصْدُكُمُ التَّعَنُّتُ وَالِامْتِحَانُ، فَلَا يُجِيبُكُمْ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الْإِسْرَاءِ: 59] .
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أَيْ: إِنَّمَا بُعِثْتُ نَذِيرًا لَكُمْ بَيِّنَ النِّذَارَةِ فَعَليَّ أَنْ أُبَلِّغَكُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ وَ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الْكَهْفِ: 17] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 272] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا كَثْرَةَ جَهْلِهِمْ، وَسَخَافَةَ عَقْلِهِمْ، حَيْثُ طَلَبُوا آيَاتٍ تَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ فِيمَا جَاءَهُمْ [بِهِ] (3) -وَقَدْ جَاءَهُمْ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُعْجِزَةٍ، إِذْ عَجَزَتِ الْفُصَحَاءُ وَالْبُلَغَاءُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، بَلْ عَنْ مُعَارَضَةِ عَشْرِ سُورٍ مِنْ مَثَلِهِ، بَلْ عَنْ مُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنْهُ -فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أَيْ: أَوْلَمَ يَكْفِهِمْ آيَةً أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ، الَّذِي فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَهُمْ، وَنَبَأُ مَا بَعْدَهُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَهُمْ، وَأَنْتَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ، وَلَمْ تُخَالِطْ أَحَدًا
__________
(1) تفسير الطبري (21/5) .
(2) زيادة من ف، أ.
(3) زيادة من ف.(6/287)
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَجِئْتَهُمْ بِأَخْبَارِ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، بِبَيَانِ الصَّوَابِ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبِالْحَقِّ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ الْجَلِيِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشُّعَرَاءِ: 197] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ (1) مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى} [طَهَ: 133] .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بن أبي سعيد، عَنْ أَبِيهِ (2) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "ما من الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". أَخْرَجَاهُ (3) مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ (4) .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أَيْ: إِنَّ فِي هَذَا الْقُرْآنِ: {لَرَحْمَةً} أَيْ: بَيَانًا لِلْحَقِّ، وَإِزَاحَةً لِلْبَاطِلِ وَ {ذِكْرَى} بِمَا فِيهِ حُلُولُ النِّقَمَاتِ وَنُزُولُ الْعِقَابِ بِالْمُكَذِّبِينَ وَالْعَاصِينَ، {لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ: {كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} (5) أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَيَعْلَمُ مَا أَقُولُ لَكُمْ مِنْ إِخْبَارِي عَنْهُ، بِأَنَّهُ أَرْسَلَنِي، فَلَوْ كُنْتُ كَاذِبًا عَلَيْهِ لَانْتَقَمَ مِنِّي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ. لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الْحَاقَّةِ: 44-47] ، وَإِنَّمَا أَنَا صَادِقٌ عَلَيْهِ فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ، وَلِهَذَا أَيَّدَنِي بِالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ.
{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} [أَيْ] (6) : لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أَيْ: يَوْمَ مَعَادِهِمْ سَيَجْزِيهِمْ عَلَى مَا فَعَلُوا، وَيُقَابِلُهُمْ عَلَى مَا صَنَعُوا، مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ، كَذَّبُوا بِرُسُلِ اللَّهِ مَعَ قِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَآمَنُوا بِالطَّوَاغِيتِ وَالْأَوْثَانِ بِلَا دَلِيلٍ، سَيُجَازِيهِمْ على ذلك، إنه حكيم عليم.
__________
(1) في جميع النسخ: (لولا أنزل عليه آية) والصواب ما أثبتناه.
(2) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(3) في ت: "أخرجه البخاري ومسلم".
(4) المسند (2/341) وصحيح البخاري برقم (4981) وصحيح مسلم برقم (152) .
(5) في أ: "كفى بالله شهيدا بيني وبينكم" وهو خطأ.
(6) زيادة من ت، أ.(6/288)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَهْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِعْجَالِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ أَنْ يَقَعَ بِهِمْ، وَبَأْسَ اللَّهِ أَنْ يَحِلَّ(6/288)
عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الْأَنْفَالِ: 32] ، وَقَالَ هَاهُنَا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} أَيْ: لَوْلَا مَا حَتَّم اللَّهُ مِنْ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ قَرِيبًا سَرِيعًا كَمَا اسْتَعْجَلُوهُ.
ثُمَّ قَالَ: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} أَيْ: فَجْأَةً، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أَيْ: يَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ، وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ.
قَالَ شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمة قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} ، قَالَ: الْبَحْرُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ. حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ؛ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} : وَجَهَنَّمُ هُوَ هَذَا الْبَحْرُ الْأَخْضَرُ، تُنْتَثَرُ الْكَوَاكِبُ فِيهِ، وتُكور فِيهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، ثُمَّ يُسْتَوْقَدُ فَيَكُونُ هُوَ جَهَنَّمَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حُيَي، حَدَّثَنَا (1) صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْبَحْرُ هُوَ جَهَنَّمُ". قَالُوا: لِيَعْلَى، فَقَالَ: أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الْكَهْفِ: 29] ، قَالَ: لَا وَالَّذِي نَفْسُ يَعْلَى بِيَدِهِ لَا أَدْخُلُهَا أَبَدًا حَتَّى أُعْرَضَ عَلَى اللَّهِ، وَلَا يُصِيبُنِي مِنْهَا قَطْرَةٌ حَتَّى أُعْرَضَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (2) .
هَذَا تَفْسِيرٌ غَرِيبٌ، وَحَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الْأَعْرَافِ: 41] ، وَقَالَ: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزُّمَرِ: 16] ، وَقَالَ: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الْأَنْبِيَاءِ: 39] ، فَالنَّارُ تَغْشَاهُمْ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْعَذَابِ الْحِسِّيِّ.
وَقَوْلُهُ: {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، تَهْدِيدٌ وَتَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ، وَهَذَا عَذَابٌ مَعْنَوِيٌّ عَلَى النُّفُوسِ، كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [الْقَمَرِ: 48، 49] ، وَقَالَ {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 13-16] .
__________
(1) في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده عن".
(2) المسند (4/233) وقال الهيثمي في المجمع (10/386) "رجاله ثقات".(6/289)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) } .
هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْهِجْرَةِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، إِلَى أَرْضِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ، حَيْثُ يُمْكِنُ إِقَامَةُ الدِّينِ، بِأَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ وَيَعْبُدُوهُ كَمَا أمرهم؛ ولهذا قال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنِي جُبَيْر بْنُ عَمْرٍو الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِي يَحْيَى مَوْلَى (1) الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْبِلَادُ بِلَادُ اللَّهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ، فَحَيْثُمَا أصبتَ خَيْرًا فَأَقِمْ" (2) .
وَلِهَذَا لَمَّا ضَاقَ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ مُقَامَهُمْ بِهَا، خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، لِيَأْمَنُوا، عَلَى دِينِهِمْ هُنَاكَ، فَوَجَدُوا هُنَاكَ خَيْرَ الْمَنْزِلَيْنِ، أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، آوَاهُمْ وَأَيَّدَهُمْ بِنَصْرِهِ، وَجَعَلَهُمْ شُيُوما بِبِلَادِهِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ الْبَاقُونَ إِلَى المدينة النبوية يثرب المطهرة (3)
__________
(1) في ت: "روى الإمام أحمد بإسناده عن".
(2) المسند (1/166) وقال الهيثمي في المجمع (4/72) "فيه جماعة لم أعرفهم".
(3) بعدها في ت- وأظنها من الناسخ - ما يلي: "أما قصة هجرة الحبشة، فقال ابن إسحاق: حدثني الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحارث بن هشام، عن أمه أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا خير جار النجاشي، آمنا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم، أن يبعثوا إلينا رجلين جلدين، وأن يهدوا إلى النجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.
قالت: فخرجنا حتى قدمنا عليه، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار فلم يبق بطريق من بطارقته إلا دفعوا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق: إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم دينا وأعلم بما عابوا عليهم؛ فقالوا لهما: نعم، ثم أنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقالا: أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، جاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم وآباءهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهم ليردوهم إلى بلادهم وقومهم، فغضب النجاشي وقال: لاها الله لا أسلمهم إليهم أبدا ولا أكاد، قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَنْ سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان الرجلان. فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى بلادهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني ونزلوا بلادي.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون لهذا الرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، كائنا في ذلك ما هو كائن، قال: فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، فلما دخلوا عليه سألهم، فقال: ما هذا الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الملل.
قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب. فقال: أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه، الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعد عليه أمور الإسلام. فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله عز جل، فعبدنا الله لا نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل كما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على مَنْ سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: وهل عندك مما جاء به من عند الله شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) .
قالت: فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما يتلى عليهم. وقال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا. لا والله لا أسلمهم إليكما ولا أكاد. قالت: فلما خرجا من عنده. قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم.
قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا -: لا تفعل فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يقولون في عيسى قولا عظيما. فأرسل إليهم فسألهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم. فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى إن سألكم عنه. قالوا: نقول فيه ما قال الله عز وجل، وما جاء به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه. قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم، قالت: فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم. يقول فيه: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عودا، ثم قال له: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود.
قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال. فقال: وإن تناخرتم اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي. والشيوم: الآمنون. مَنْ سَبَّكُم غُرَّم، مَنْ سَبَّكُم غُرَّم، ما أحب أن لي دبرا من ذهب، وأني آذيت رجلا منكم. والدبر: بلسان الحبشة الجبل. وردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردَّ علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ، فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما. قالت أم سلمة: فكنت أتعرض لهم ليسبوني فأغرمهم، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
قالت: فوالله ما أغلا لعلى ذلك، إذ انبرى له رجل من الحبشة ينازعه ملكه. قالت: فوالله، ما أعلمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه، عند ذلك تخوفا من أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي. فيأتي رجلا لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. قالت: وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل. قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ رجل يخرج حتى يشهد وقعة القوم ثم يأتينا بخبر القوم؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا، قالت: وكان من أحدث القوم سنا. قالت: فنفخوا له قربة فجعلوها في صدره، ثم سبح حتى خرج إلى النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعونا الله عز وجل للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له من بلاده.
قالت: فوالله إنا لعلى ذلك الحال متوقعين لما هو كائن، إذا طلع الزبير يسعى، ويليح بثوبه، ألا أبشروا، قد ظهر النجاشي، وقد أهلك الله عدوه، فوالله ما أعلمنا فرحنا فرحة قط مثلها. قالت: ورجع النجاشي وأهلك الله عدوه، ومكن له فى بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده فى خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
وروي عن الزبير قال: لما نزل بالنجاشي عدوه من أهل أرضه، جاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن نخرج إليهم فنقاتل معك، وترى جراءتنا، ونجزيك بما صنعت بنا فقال: ذو ينصره الله خير من الذي ينصره الناس، فأنى ذلك عليهم"(6/290)
ثُمَّ قَالَ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أَيْ: أَيْنَمَا كُنْتُمْ يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، فَكُونُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَحَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا مَحِيدَ عَنْهُ، ثُمَّ إِلَى اللَّهِ(6/291)
الْمَرْجِعُ [وَالْمَآبُ] (1) ، فَمَنْ كَانَ مُطِيعًا لَهُ جَازَاهُ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ، وَوَافَاهُ أتمَّ (2) الثَّوَابِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أَيْ: لَنُسْكِنَنَّهُمْ مَنَازِلَ عَالِيَةً فِي الْجَنَّةِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا، مِنْ مَاءٍ وَخَمْرٍ، وعسل ولبن، يصرفونها ويجرونها حيث شاؤوا، {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ: مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} : نِعْمَتْ هَذِهِ الغرفُ أَجْرًا عَلَى أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
{الَّذِينَ صَبَرُوا} أَيْ: عَلَى دِينِهِمْ، وَهَاجَرُوا إِلَى اللَّهِ، وَنَابَذُوا الْأَعْدَاءَ، وَفَارَقُوا الْأَهْلَ وَالْأَقْرِبَاءَ، ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَرَجَاءَ مَا عِنْدَهُ وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ المؤذِنَ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلَّامٍ الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنِي أَبُو معَاتق (3) الْأَشْعَرِيُّ، أَنَّ أَبَا مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ (4) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُ: أَنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفا يُرى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أعدَّها اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَبَاحَ الصِّيَامَ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ (5) وَالنَّاسُ نِيَامٌ (6) .
[وَقَوْلُهُ] : (7) {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، فِي أَحْوَالِهِمْ كُلِّهَا، فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّ الرِّزْقَ لَا يُخْتَصُّ بِبُقْعَةٍ، بَلْ رِزْقُهُ تَعَالَى عَامٌّ لِخَلْقِهِ حَيْثُ كَانُوا وَأَيْنَ كَانُوا، بَلْ كَانَتْ أَرْزَاقُ الْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ هَاجَرُوا أَكْثَرَ وَأَوْسَعَ وَأَطْيَبَ، فَإِنَّهُمْ (8) بَعْدَ قَلِيلٍ صَارُوا حُكَّامَ الْبِلَادِ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ وَالْأَمْصَارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أَيْ: لَا تُطِيقُ جَمْعَهُ وَتَحْصِيلَهُ وَلَا تُؤَخِّرُ (9) شَيْئًا لِغَدٍ، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أَيِ: اللَّهُ يُقَيِّضُ لَهَا رِزْقَهَا عَلَى ضَعْفِهَا، وَيُيَسِّرُهُ عَلَيْهَا، فَيَبْعَثُ إِلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنَ الرِّزْقِ مَا يُصْلِحُهُ، حَتَّى الذَّرِّ فِي قَرَارِ الْأَرْضِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هُودٍ: 6] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي ابْنَ هَارُونَ -حَدَّثَنَا الْجَرَّاحُ بْنُ مِنْهَال الْجَزَرِيُّ -هُوَ أَبُو الْعَطُوفِ -عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ رَجُلٍ (10) ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ بَعْضَ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ يَلْتَقِطُ مِنَ التَّمْرِ ويأكل، فقال لي: "يا بن عُمَرَ، مَا لَكَ لَا تَأْكُلُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: لَا أَشْتَهِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "لَكِنِّي أشتهيه،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "ووفاه تمام".
(3) في هـ، ت: "أبو معاوية" والصواب ما أثبتناه من ف، أ، والمسند (5/343) .
(4) في ت: "روى ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي مالك الأشعري".
(5) في أ: "وتابع الصلاة والصيام وقام بالليل".
(6) ورواه الإمام أحمد في مسنده (5/343) من طريق أبي معانق عن أبي مالك به، وسيأتي عند الآية: 20 من سورة الزمر.
(7) زيادة من ت.
(8) في ف: "فهم".
(9) في أ: "ولا يدخر".
(10) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".(6/292)
وَهَذِهِ صُبْحُ رَابِعَةٍ مُنْذُ لَمْ أَذُقْ طَعَامًا وَلَمْ أَجِدْهُ، وَلَوْ شِئْتُ لَدَعَوْتُ رَبِّي فَأَعْطَانِي مِثْلَ مُلْكِ قَيْصَرَ وَكِسْرَى فَكَيْفَ بِكَ يَا بن عُمَرَ إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَتِهِمْ بِضَعْفِ الْيَقِينِ؟ ". قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْنَا وَلَا رِمْنا حَتَّى نَزَلَتْ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنِي بِكَنْزِ الدُّنْيَا، وَلَا بِاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَمَنْ كَنَزَ دُنْيَاهُ يُرِيدُ بِهَا حَيَاةً بَاقِيَةً فَإِنَّ الْحَيَاةَ بِيَدِ اللَّهِ، أَلَا وَإِنِّي لَا أَكْنِزُ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا أُخَبِّئُ رِزْقًا لِغَدٍ (1) " (2) .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَأَبُو الْعَطُوفِ الْجَزَرِيُّ ضَعِيفٌ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْغُرَابَ إِذَا فَقسَ عَنْ فِرَاخِهِ البَيض، خَرَجُوا وَهُمْ بيضٌ فَإِذَا رَآهُمْ أَبَوَاهُمْ كَذَلِكَ، نَفَرَا عَنْهُمْ أَيَّامًا حَتَّى يَسْوَدَّ الرِّيشُ، فَيَظَلُّ الْفَرْخُ فَاتِحًا فَاهُ يَتَفَقَّدُ أَبَوَيْهِ، فَيُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ طَيْرًا (3) صِغَارًا كالبَرغَش فَيَغْشَاهُ فَيَتَقَوَّتُ مِنْهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ حَتَّى يَسْوَدَّ رِيشُهُ، وَالْأَبَوَانِ يَتَفَقَّدَانِهِ كُلَّ وَقْتٍ، فَكُلَّمَا رَأَوْهُ أَبْيَضَ الرِّيشِ نَفَرَا عَنْهُ، فَإِذَا رَأَوْهُ قَدِ اسْوَدَّ رِيشُهُ عَطَفَا عَلَيْهِ بِالْحَضَانَةِ وَالرِّزْقِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا رَازِقَ النعَّاب (4) في عُشه ... وجَابر العَظْم الكَسِير الْمَهِيضِ ...
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي جُمْلَةِ كَلَامٍ لَهُ فِي الْأَوَامِرِ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سَافِرُوا تَصِحُّوا وَتُرْزَقُوا".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَخْبَرَنَا إِمْلَاءً أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنان، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَدّاد -شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ -حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ (5) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَافِرُوا تَصِحُّوا وَتَغْنَمُوا". قَالَ: وَرُوِّينَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (6) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ دَرّاج، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُجَيرة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَافِرُوا تَرْبَحُوا، وَصُومُوا تَصِحُّوا، وَاغْزُوا تَغْنَمُوا" (7) .
وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَعَنْ مُعَاذِ بن جبل موقوفا (8) . وفي
__________
(1) في ت: "إلى غد".
(2) ورواه البغوي في تفسيره (6/253) من طريق إسماعيل بن زرارة عن الجراح بن المنهال به - وقال الشوكاني في فتح القدير (4/213) : "وهذا الحديث فيه نكارة شديدة لمخالفته لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يعطي نساءه قوت العام كما ثبت ذلك في كتب الحديث المعتبرة، وفي إسناده أبو العطوف الجزري وهو ضعيف". أهـ مستفادا من حاشية تفسير البغوي.
(3) في ت: "طيورا".
(4) في ت: "البغاب" وفي أ: "النعام".
(5) في ت: "وروى البيهقي بسنده"
(6) السنن الكبرى (7/102) ورواه ابن عدي في الكامل (6/190) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن رواد به، وقال: "لا أعلم يرويه غير الرواد هذا، وعامة ما يرويه غير محفوظ" وقال ابن أبي حاتم في العلل (2/306) : "سألت أبي عن هذا الحديث فقال: هذا حديث منكر".
(7) المسند (2/380) وفيه ابن لهيعة ودراج ضعيفان.
(8) أما حديث ابن عباس، فرواه البيهقي في السنن الكبرى (7/102) من طريق بسطام بن حبيب عن القاسم عن أبي حازم عن ابن عباس مرفوعا، ورواه ابن عدي في الكامل (7/57) من طريق نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس، مرفوعا. وقال: "هذه الأحاديث كلها عن الضحاك غير محفوظة". ولم أجده عن معاذ موقوفا، وسيأتي مرفوعا، وجاء من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا. ورواه ابن عدي في الكامل (3/454) عن سوار بن مصعب، عن عطية، عن أبي سعيد، مرفوعا وقال: "سوار هذا عامة ما يرويه غير محفوظ".(6/293)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
لَفْظٍ: "سَافِرُوا مَعَ ذَوِي الْجُدُودِ وَالْمَيْسَرَةِ" (1)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ: السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ، الْعَلِيمُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُقَرِّرًا (2) أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ -الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ -مُعْتَرِفُونَ أَنَّهُ (3) الْمُسْتَقِلُّ بِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَتَسْخِيرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ لِعِبَادِهِ، وَمُقَدِّرٌ آجَالَهُمْ، وَاخْتِلَافَهَا وَاخْتِلَافَ أَرْزَاقِهِمْ فَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ، فَمِنْهُمُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِمَا يُصْلِحُ كُلا مِنْهُمْ، ومَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِنَى مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْفَقْرَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ المستبدُّ بِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ (4) الْمُتَفَرِّدِ بِتَدْبِيرِهَا، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِمَ يُعبد غَيْرُهُ؟ وَلِمَ يُتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِهِ؟ فَكَمَا أَنَّهُ الْوَاحِدُ فِي مُلْكِهِ فَلْيَكُنِ الْوَاحِدَ فِي عِبَادَتِهِ، وَكَثِيرًا مَا يُقَرِّرُ تَعَالَى مَقَامَ الْإِلَهِيَّةِ بِالِاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ".
__________
(1) رواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (3387) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وذكره السيوطي في الجامع ورمز له بالضعف وأعله المناوي بإسماعيل بن زياد.
(2) في ت: "مخبرا".
(3) في ف: "بأنه".
(4) في ت: "الأصنام".(6/294)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ حَقَارَةِ الدُّنْيَا وَزَوَالِهَا وَانْقِضَائِهَا، وَأَنَّهَا لَا دَوَامَ لَهَا، وَغَايَةُ مَا فِيهَا لَهْوٌ وَلَعِبٌ: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أَيْ: الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ الْحَقُّ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهَا وَلَا انْقِضَاءَ، بَلْ هِيَ مُسْتَمِرَّةٌ أَبَدَ الْآبَادِ.
وَقَوْلُهُ: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أَيْ: لَآثَرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ يَدْعُونَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَهَلَّا يَكُونُ هَذَا(6/294)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
مِنْهُمْ دَائِمًا، {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} كَقَوْلِهِ {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ (1) إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الْإِسْرَاءِ::67] . وَقَالَ هَاهُنَا: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} .
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ: أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ ذَهَبَ فَارًّا مِنْهَا، فَلَمَّا رَكِبَ فِي الْبَحْرِ لِيَذْهَبَ إِلَى الْحَبَشَةِ، اضْطَرَبَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ، فَقَالَ أَهْلُهَا: يَا قَوْمِ، أَخْلِصُوا لِرَبِّكُمُ الدُّعَاءَ، فَإِنَّهُ لَا يُنْجِي هَاهُنَا إِلَّا هُوَ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَا يُنْجِي فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ لَا يُنَجّي غَيْرُهُ فِي الْبَرِّ أَيْضًا، اللَّهُمَّ لَكَ عليَّ عَهْدٌ لَئِنْ خرجتُ لَأَذْهَبْنَ فلأضعَنّ يَدِي فِي يَدِ مُحَمَّدٍ فلأجدنه رؤوفًا رَحِيمًا، وَكَانَ (2) كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} : هَذِهِ اللَّامُ يُسَمِّيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ وَعُلَمَاءِ الْأُصُولِ لَامَ الْعَاقِبَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَقْدِيرِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَتَقْيِيضِهِ إِيَّاهُمْ لِذَلِكَ فَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَقَدْ قدَّمْنا تَقْرِيرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [الْقَصَصِ: 8] .
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) }
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى قُرَيْشٍ فِيمَا أَحَلَّهُمْ مِنْ حَرَمِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، فَهُمْ فِي أَمْنٍ عَظِيمٍ، وَالْأَعْرَابُ حَوْلَهُ يَنْهَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قُرَيْشٍ: 1-4] .
وَقَوْلُهُ: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} أَيْ: أَفَكَانَ شُكْرُهُمْ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَنْ أَشْرَكُوا بِهِ، وَعَبَدُوا مَعَهُ [غَيْرَهُ مِنَ] (3) الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، وَ {بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إِبْرَاهِيمَ: 28] ، وَكَفَرُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ وَعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ، فَكَانَ اللَّائِقُ بِهِمْ إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَأَلَّا يُشْرِكُوا بِهِ، وَتَصْدِيقَ الرَّسُولِ وَتَعْظِيمَهُ وَتَوْقِيرَهُ، فَكَذَّبُوهُ وَقَاتَلُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ ظَهْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا سَلَبَهُمُ اللَّهُ مَا كَانَ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ، وَصَارَتِ الدَّوْلَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ، وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ وَأَذَلَّ رِقَابَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} أي: لا أحد أشد
__________
(1) في ت: "أنجاكم" وهو خطأ.
(2) في ت، ف: "فكان".
(3) زيادة من أ.(6/295)
عُقُوبَةً مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ. وَمَنْ قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَهَكَذَا لَا أَحَدَ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِمَّنْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ، فَالْأَوَّلُ مُفْتَرٍ، وَالثَّانِي مُكَذِّبٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} .
ثُمَّ قَالَ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} يَعْنِي: الرَّسُولَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَأَصْحَابَهُ وَأَتْبَاعَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ، أَيْ: لنُبَصرنهم سُبُلَنَا، أَيْ: طُرُقَنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحَواري، حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْهَمْدَانِيُّ أَبُو أَحْمَدَ -مِنْ أَهْلِ عَكَّا -فِي قَوْلِ اللَّهِ (1) : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} قَالَ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، يَهْدِيهِمْ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ فَأَعْجَبَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ يَنْبَغِي لِمَنْ أُلْهِمَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى يَسْمَعَهُ فِي الْأَثَرِ، فَإِذَا سَمِعَهُ فِي الْأَثَرِ عَمِلَ بِهِ، وَحَمِدَ اللَّهَ حِينَ وَافَقَ مَا فِي نَفْسِهِ (2) .
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ -قَاضِي الرَّيِّ -حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ (3) الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ عيسى بن مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، لَيْسَ (4) الْإِحْسَانُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ. [وَفِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِحْسَانِ قَالَ: "أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ". قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ".
[انْتَهَى تفسير سورة العنكبوت، ولله الحمد والمنة (5) ] (6)
__________
(1) في ت، أ: "قوله تعالى".
(2) في أ: "قلبه".
(3) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده إلى".
(4) في ت: "وليس".
(5) في هـ: "والله أعلم".
(6) زيادة من ت.(6/296)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الرُّومِ
مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) }(6/297)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) } .
[نَزَلَتْ] (1) هَذِهِ الْآيَاتُ حِينَ غَلَبَ (2) سَابُورُ مَلِكُ الْفُرْسِ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ وَمَا وَالَاهَا مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَأَقَاصِي بِلَادِ الرُّومِ، وَاضْطَرَّ هِرَقْلَ مَلك الرُّومِ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَحَاصَرَهُ فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ عَادَتِ الدَّوْلَةُ لِهِرَقْلَ، كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (3) ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ} قَالَ: غُلبت وغَلَبت. قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ؛ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ أَوْثَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ (4) الرُّومُ عَلَى فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، فذُكر (5) ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ،، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا إِنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ" فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ، فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا. فَجَعَلَ أَجَلًا خَمْسَ (6) سِنِينَ، فَلَمْ يَظْهَرُوا، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:"أَلَا جَعَلَتْهَا إِلَى دُون" أَرَاهُ قَالَ: "الْعَشْرِ". "قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْبِضْعُ مَا دُونَ الْعَشْرِ. ثُمَّ ظَهَرَتِ الرُّومُ بَعْدُ، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
هَكَذَا رَوَاهُ (7) التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا، عَنِ الْحُسَيْنِ (8) بْنِ حُرَيْث، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ (9) بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ، عَنْ حبيب.
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في أ: "غلبت".
(3) في ت: "فروى الإمام أحمد بإسناده إلى".
(4) في ف: "يظهر".
(5) في ت: "فذكروه" وفي ف، أ: "فذكروا".
(6) في ت: "خمسين".
(7) في ت: "ورواه".
(8) في أ: "الحسن".
(9) المسند (1/276) وسنن الترمذي برقم (3193) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11389) .(6/297)
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيِّ (1) ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو، بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ -أَوْ سَعِيدٌ (2) الثَّعْلَبِيُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَبُو سَعْدٍ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ -حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، فَذَكَرَهُ. وَعِنْدَهُمْ: قَالَ سُفْيَانُ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ غَلَبُوا يَوْمَ بَدْرٍ (3) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْران الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَاللِّزَامُ، وَالْبَطْشَةُ، وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ. أَخْرَجَاهُ (4) (5) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَامِرٍ -هُوَ الشَّعْبِيُّ -عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ (6) ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -قَالَ: كَانَ فَارِسُ ظَاهِرًا عَلَى الرُّومِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الروم. وك ان الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ} قَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ صَاحِبَكَ يَقُولُ: إِنَّ الرُّومَ تَظْهَرُ عَلَى فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ؟! قَالَ: صَدَقَ. قَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ نُقَامِرَكَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى أَرْبَعِ قَلَائِصَ إِلَى سَبْعِ سِنِينَ، فَمَضَتِ السَّبْعُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ وَشَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فذُكِر (7) ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا بِضْعُ سِنِينَ عِنْدَكُمْ"؟ قَالُوا: دُونَ الْعَشْرِ. قَالَ: "اذْهَبْ فَزَايِدْهُمْ وَازْدَدْ سَنَتَيْنِ فِي الْأَجَلِ". قَالَ: فَمَا مَضَتِ السَّنَتَانِ حَتَّى جَاءَتِ الرُّكْبَانُ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ} إِلَى قَوْلِهِ: { [وَعْدَ اللَّهِ] لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (8) (9) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (10) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الوَكِيعي، حَدَّثَنَا مُؤَمَّل، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَلَا تَرَى إِلَى مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ؟ يَزْعُمُ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ فَارِسَ. قَالَ: صَدَقَ صَاحِبِي. قَالُوا: هَلْ لَكَ أَنْ نُخَاطِرَكَ؟ فَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَجَلًا فَحَلَّ الْأَجَلُ قَبْلَ أَنْ تَغْلِبَ الرومُ فارسَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاءَهُ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ، وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: "مَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا؟ " قَالَ: تَصْدِيقًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. فَقَالَ: "تَعَرَّض لَهُمْ وَأَعْظِمِ الخَطَر وَاجْعَلْهُ إِلَى بِضْعِ سِنِينَ". فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ فِي الْعَوْدِ، فإن العود أحمد؟ قالوا:
__________
(1) في أ: "الصنعاني".
(2) في ف، أ: "أبو سعد".
(3) تفسير الطبري (21/12) .
(4) في ت: "البخاري ومسلم".
(5) صحيح البخاري برقم (4767) وصحيح مسلم برقم (2798) .
(6) في ت: "وروى ابن جرير عن".
(7) في ت: "فذكروا".
(8) زيادة من ت، أ.
(9) تفسير الطبري (21/14) .
(10) في ت: "روى".(6/298)
نَعَمْ. [قَالَ] (1) فَلَمْ تَمْضِ تِلْكَ السُّنُونَ حَتَّى غَلَبَتِ الرُّومُ فارسَ، وَرَبَطُوا خُيُولَهُمْ بِالْمَدَائِنِ، وَبَنَوُا الرُّومِيَّةَ، فَجَاءَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَذَا السُّحْتُ، قَالَ: " تَصَدَّقْ بِهِ" (2) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَاد، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ (3) عَنْ نيَار بْنِ مُكرَم الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ، {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} ، فَكَانَتْ فَارِسُ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَاهِرِينَ لِلرُّومِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُحِبُّ ظُهُورَ فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ وَلَا إِيمَانٍ بِبَعْثٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} ، قَالَ (4) نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي بَكْرٍ: فَذَاكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ (5) . زَعَمَ صَاحِبُكَ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، أَفَلَا نُرَاهِنُكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: بَلَى -وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ -فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُشْرِكُونَ، وتواضَعُوا الرِّهَانَ، وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: كَمْ تَجْعَلُ الْبِضْعَ: ثَلَاثَ سِنِينَ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، فَسمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَسَطًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ. قَالَ: فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ. قَالَ: فَمَضَتْ سِتُّ السِّنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا، فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَتِ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَعَابَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} . قَالَ: فَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ (6) .
هَكَذَا سَاقَهُ التِّرْمِذِيُّ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا (7) حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مُرْسَلًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، مِثْلِ عِكْرِمة، وَالشَّعْبِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وقَتَادَةَ، والسُّدِّي، وَالزُّهْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْ أَغْرَبِ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ سُنَيد بْنُ دَاوُدَ فِي تَفْسِيرِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَتْ فِي فَارِسَ امْرَأَةٌ لَا تَلِدُ إِلَّا الْمُلُوكَ الْأَبْطَالَ، فَدَعَاهَا كِسْرَى فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ إِلَى الرُّومِ جَيْشًا وَأَسْتَعْمِلُ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ بَنِيكِ، فَأَشِيرِي عَليَّ، أيَّهم أَسْتَعْمِلُ؟ فَقَالَتْ: هَذَا فُلَانٌ، وَهُوَ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبٍ، وَأَحْذَرُ مِنْ صَقْرٍ. وَهَذَا فَرْخَانُ، وَهُوَ أَنْفَذُ مِنْ سِنَانٍ. وَهَذَا شَهْرَيَرَازُ (8) ، وَهُوَ أَحْلَمُ مِنْ كَذَا -تَعْنِي أَوْلَادَهَا الثَّلَاثَةَ -فَاسْتَعْمِلَ أَيَّهُمْ شِئْتَ. قَالَ: فَإِنِّي قَدِ اسْتَعْمَلْتُ الْحَلِيمَ. فَاسْتَعْمَلَ شَهْرَيَرَازَ (9) ، فَسَارَ إِلَى الرُّومِ بِأَهْلِ فَارِسَ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ، وَخَرَّبَ مدائنهم، وقطع زيتونهم.
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) ورواه أبو يعلى في المسند الكبير، كما في إتحاف المهرة للبوصيري (ق183 سليمانية) من طريق إبراهيم بن محمد بن عرعرة، عن المؤمل بنحوه، وقال البوصيري: "وله شاهد من حديث نيار بن مكرم رواه الترمذي" وهو الآتي بعده.
(3) في ت: "رواه أبو عيسى الترمذي".
(4) في ت، ف: "فقال".
(5) في ت، ف: "وبينكم".
(6) سنن الترمذي برقم (3194) .
(7) في ت: "وقال الترمذي".
(8) في ت: "شهريزار".
(9) في ت: "شهريزار".(6/299)
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ فَقَالَ: أَمَا رَأَيْتَ بِلَادَ الشَّامِ؟ قُلْتُ: لَا قَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَهَا (1) لَرَأَيْتَ الْمَدَائِنَ الَّتِي خُرِّبَتْ، وَالزَّيْتُونَ الَّذِي قُطِّعَ. فَأَتَيْتُ الشَّامَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَأَيْتُهُ (2) .
قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَعْمَر: أَنَّ قَيْصَرَ بَعَثَ رَجُلًا يُدْعَى قِطْمَةَ بِجَيْشٍ مِنَ الرُّومِ، وَبَعَثَ كِسْرَى شَهْرَيَرَازَ (3) ، فَالْتَقَيَا بِأَذْرُعَاتَ وبُصرى، وَهِيَ أَدْنَى الشَّامِ إِلَيْكُمْ، فَلَقِيَتْ فَارِسُ الرُّومَ، فَغَلَبَتْهُمْ فَارِسُ. فَفَرِحَتْ بِذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَكَرِهَهُ الْمُسْلِمُونَ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: وَلَقِيَ الْمُشْرِكُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ [وَنَحْنُ أُمِّيُّونَ، وَقَدْ ظَهَرَ إِخْوَانُنَا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] (4) ، وَإِنَّكُمْ إِنْ قَاتَلْتُمُونَا لنظهرَنّ عَلَيْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ إِلَى الْكُفَّارِ فَقَالَ: أَفَرِحْتُمْ بِظُهُورِ إِخْوَانِكُمْ عَلَى إِخْوَانِنَا، فَلَا تَفْرَحُوا، وَلَا يُقرَّن اللَّهُ أَعْيُنَكُمْ، فَوَاللَّهِ لَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ الرُّومَ عَلَى فَارِسَ، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَامَ إِلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَف فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا أَبَا فُضَيْلٍ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَنْتَ أَكْذَبُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ. فَقَالَ: أناحبُكَ عَشْرَ قَلَائِصَ مِنِّي وَعَشْرَ قَلَائِصَ مِنْكَ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ غَرِمتُ، وَإِنْ ظَهَرَتْ فَارِسُ غرمتَ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءَ (5) أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: "مَا هَكَذَا ذَكَرْتُ، إِنَّمَا الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ، فزايدْه فِي الخَطَر ومادّهْ فِي الْأَجَلِ"، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَلَقِيَ أُبَيًّا فَقَالَ: لَعَلَّكَ نَدِمْتَ؟ فَقَالَ: لَا تَعَالَ أُزَايِدْكَ فِي الخَطَر وأمادُّك فِي الْأَجَلِ، فَاجْعَلْهَا مِائَةَ قَلُوصٍ لِمِائَةِ قَلُوصٍ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَغَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: لَمَّا أَنْ ظَهَرَتْ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ، جَلَسَ فَرْخَانُ يَشْرَبُ وَهُوَ أَخُو شَهْرَيَرَازَ (6) فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَقَدْ رَأَيْتُ كَأَنِّي جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِ كِسْرَى. فَبَلَغَتْ كِسْرَى فَكَتَبَ إِلَى شَهْرَيَرَازَ (7) إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي [هَذَا] (8) فَابْعَثْ إليَّ بِرَأْسِ فَرْخَانَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ مِثْلَ فَرْخَانَ، لَهُ نِكَايَةٌ وَصَوْتٌ فِي الْعَدُوِّ، فَلَا تَفْعَلْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ فِي رِجَالِ فَارِسَ خَلَفًا مِنْهُ، فَعَجِّلْ إليَّ بِرَأْسِهِ. فَرَاجَعَهُ، فَغَضِبَ كِسْرَى فَلَمْ يُجِبْهُ، وَبَعَثَ بَرِيدًا إِلَى أَهْلِ فَارِسَ: إِنِّي قَدْ نَزَعْتُ (9) عَنْكُمْ شَهْرَيَرَازَ، وَاسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ فَرْخَانَ. ثُمَّ دَفَعَ إِلَى الْبَرِيدِ صَحِيفَةً لَطِيفَةً صَغِيرَةً فَقَالَ: إِذَا وَلِيَ فَرْخَانُ الْمُلْكَ، وَانْقَادَ لَهُ أَخُوهُ، فَأَعْطِهِ هَذِهِ. فَلَمَّا قَرَأَ شَهْرَيَرَازُ الْكِتَابَ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً، وَنَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَجَلَسَ فَرْخَانُ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الصَّحِيفَةَ، قَالَ (10) ائْتُونِي بِشَهْرَيَرَازَ (11) وقَدَّمَه لِيَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: لَا تَعْجَلْ [عليَّ] (12) حَتَّى أَكْتُبَ وَصِيَّتِي، قَالَ: نعم. فدعا بالسَّفط فأعطاه
__________
(1) في ف: "لو أتيتها".
(2) رواه الطبري في تفسيره (21/13) من طريق سنيد به.
(3) في ت: "شهريزار" وفي ف، أ "بشهريراز".
(4) زيادة من ت، ف.
(5) في ت: "فجاء".
(6) في ت: "شهريزار".
(7) في ت: "شهريزار".
(8) زيادة من ف.
(9) في ف: "عزلت".
(10) في ف: "فقال".
(11) في ت: "بشهريزار".
(12) زيادة من ت.(6/300)
الصَّحَائِفَ (1) وَقَالَ: كُلُّ هَذَا راجعتُ فِيكَ كِسْرَى، وَأَنْتَ أَرَدْتَ أَنْ تَقْتُلَنِي بِكِتَابٍ وَاحِدٍ. فَرَدَّ الْمَلِكُ إِلَى أَخِيهِ شَهْرِيرَازَ (2) وَكَتَبَ شَهْرِيرَازُ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً لَا تَحْمِلُهَا البُرُد وَلَا تَحْمِلُهَا الصُّحُفُ، فَالْقَنِي، وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا فِي خَمْسِينَ رُومِيًّا، فَإِنِّي أَلْقَاكَ فِي خَمْسِينَ فَارِسِيًّا. فَأَقْبَلَ قَيْصَرُ فِي خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ رُومِيٍّ، وَجَعَلَ يَضَعُ الْعُيُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الطَّرِيقِ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَكَرَ بِهِ، حَتَّى أَتَاهُ عُيُونُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا خَمْسُونَ رَجُلًا. ثُمَّ بُسِطَ لَهُمَا وَالْتَقَيَا فِي قُبَّةِ دِيبَاجٍ ضُرِبَتْ لَهُمَا، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِكِّينٌ، فَدَعَيَا (3) تُرْجُمَانًا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ شَهْرِيرَازُ (4) إِنَّ الَّذِينَ خَرَّبُوا مَدَائِنَكَ أَنَا وَأَخِي بِكَيْدِنَا وَشَجَاعَتِنَا، وَإِنَّ كِسْرَى حَسَدنا وَأَرَادَ أَنْ أَقْتُلَ أَخِي فَأَبَيْتُ، ثُمَّ أَمَرَ أَخِي أَنْ يَقْتُلَنِي. وَقَدْ خَلَعْنَاهُ جَمِيعًا، فَنَحْنُ نُقَاتِلُهُ مَعَكَ. قَالَ: قَدْ أَصَبْتُمَا. ثُمَّ أَشَارَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ أَنَّ السِّرَّ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَإِذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ فَشَا. قَالَ: أَجَلْ. فَقَتَلَا التُّرْجُمَانَ جَمِيعًا بِسِكِّينَيْهِمَا. [قَالَ] (5) فَأَهْلَكَ اللَّهُ كِسْرَى، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَفَرِحَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ.
فَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ، وَبِنَاءٌ عَجِيبٌ. وَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى كَلِمَاتِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ} قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الْبَقَرَةِ". وَأَمَّا الرُّومُ فَهُمْ مِنْ سُلَالَةِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَمِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: بَنُو الْأَصْفَرِ. وَكَانُوا عَلَى دِينِ الْيُونَانِ، وَالْيُونَانُ مِنْ سُلَالَةِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، أَبْنَاءِ (6) عَمِّ التُّرْكِ. وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ السَّبْعَةَ، وَيُقَالُ لَهَا: الْمُتَحَيِّرَةُ، وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسَّسُوا دِمَشْقَ، وَبَنَوْا مَعْبَدَهَا، وَفِيهِ مَحَارِيبُ إِلَى جِهَةِ الشَّمَالِ، فَكَانَ (7) الرُّومُ عَلَى دِينِهِمْ إِلَى مَبْعَثِ الْمَسِيحِ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ الْجَزِيرَةِ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: قَيْصَرُ. فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ النَّصَارَى مِنَ الْمُلُوكِ قُسْطَنْطِينُ بْنُ قَسْطَسَ، وَأُمُّهُ مَرْيَمُ الْهَيْلَانِيَّةُ الشَّدْقَانِيَّةُ (8) مِنْ أَرْضِ حِرَّانَ، كَانَتْ قَدْ تَنَصَّرَتْ قَبْلَهُ، فَدَعَتْهُ إِلَى دِينِهَا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَيْلَسُوفًا، فَتَابَعَهَا -يُقَالُ: تَقِيَّة -وَاجْتَمَعَتْ بِهِ النَّصَارَى، وَتَنَاظَرُوا فِي زَمَانِهِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْيُوسَ، وَاخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا [كَثِيرًا] (9) مُنْتَشِرًا مُتَشَتِّتًا لَا يَنْضَبِطُ، إِلَّا أَنَّهُ اتَّفَقَ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ (10) ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أُسْقُفًّا، فَوَضَعُوا لِقُسْطَنْطِينَ الْعَقِيدَةَ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ، وَوَضَعُوا لَهُ الْقَوَانِينَ -يَعْنُونَ كُتُبَ الْأَحْكَامِ مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وغَيَّروا دِينَ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ. وَفَصَلُوا إِلَى الْمَشْرِقِ (11) وَاعْتَاضُوا عَنِ السَّبْتِ بِالْأَحَدِ، وَعَبَدُوا الصَّلِيبَ وَأَحَلُّوا الْخِنْزِيرَ. وَاتَّخَذُوا أَعْيَادًا أَحْدَثُوهَا كَعِيدِ الصَّلِيبِ وَالْقِدَّاسِ (12) وَالْغِطَاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَوَاعِيثِ وَالشَّعَانِينِ، وَجَعَلُوا لَهُ الْبَابَ وَهُوَ كَبِيرُهُمْ، ثُمَّ الْبَتَارِكَةِ، ثُمَّ الْمَطَارِنَةِ، ثُمَّ الْأَسَاقِفَةِ وَالْقَسَاقِسَةِ، ثُمَّ الشَّمَامِسَةِ. وَابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ. وبنى لهم الملك الكنائس
__________
(1) في ت، ف، أ: "ثلاث صحائف".
(2) في ت: "شهريزار".
(3) في ت، ف: "فدعا".
(4) في ت: "شهريزار".
(5) زيادة من ت.
(6) في أ: "أتباع".
(7) في ف: "وكان".
(8) في ت: "القندقانية" وفي ف: "الغندقانية".
(9) زيادة من ت، ف، أ.
(10) في ت: "جماعته".
(11) في ت، ف، أ: "وصلوا إلى الشرق"
(12) في ف، أ: "والقرابين".(6/301)
وَالْمَعَابِدَ، وَأَسَّسَ الْمَدِينَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهِ وَهِيَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، يُقَالُ: إِنَّهُ بَنَى فِي أَيَّامِهِ (1) اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ كَنِيسَةٍ، وَبَنَى بَيْتَ لَحْمٍ بِثَلَاثَةِ (2) مَحَارِيبَ، وَبَنَتْ أُمُّهُ الْقُمَامَةَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَلَكِيَّةُ، يَعْنُونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى دِينِ الْمَلِكِ.
ثُمَّ حَدَثَتْ بَعْدَهُمُ الْيَعْقُوبِيَّةُ أَتْبَاعُ يَعْقُوبَ الْإِسْكَافِ، ثُمَّ النَّسْطُورِيَّةُ أَصْحَابُ نَسْطُورَا، وَهُمْ فِرَقٌ وَطَوَائِفُ كَثِيرَةٌ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إِنَّهُمُ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً". (3) وَالْغَرَضُ أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، كُلَّمَا هَلَكَ قَيْصَرُ خَلْفَهُ آخَرُ بَعْدَهُ، حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ هِرَقْلُ. وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ، وَمِنْ أَحْزَمِ الْمُلُوكِ وَأَدْهَاهُمْ، وَأَبْعَدِهِمْ غَوْرًا وَأَقْصَاهُمْ رَأْيًا، فتمَلَّكَ عَلَيْهِمْ فِي رياسَة عَظِيمَةٍ وَأُبَّهَةٍ كَبِيرَةٍ، فَنَاوَأَهُ كِسْرَى مَلِكُ الْفُرْسِ، ومَلكَ الْبِلَادِ كَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالرَّيِّ، وَجَمِيعِ بِلَادِ الْعَجَمِ، وَهُوَ سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ. وَكَانَتْ مَمْلَكَتُهُ أَوْسَعَ مِنْ مَمْلَكَةِ قَيْصَرَ، وَلَهُ رِيَاسَةُ الْعَجَمِ وَحَمَاقَةُ الْفُرْسِ، وَكَانُوا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ النَّارَ. فَتَقَدَّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِ نُوَّابَهُ وَجَيْشَهُ فَقَاتَلُوهُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ كِسْرَى غَزَاهُ بِنَفْسِهِ فِي بِلَادِهِ فَقَهَرَهُ وكَسَره وَقَصَرَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى مَدِينَةِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ. فَحَاصَرَهُ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَتِ النَّصَارَى تُعَظِّمُهُ تَعْظِيمًا زَائِدًا، وَلَمْ يَقْدِرْ كِسْرَى عَلَى فَتْحِ الْبَلَدِ، وَلَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ لِحَصَانَتِهَا؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَرِّ وَنِصْفَهَا الْآخَرَ مِنْ (4) نَاحِيَةِ الْبَحْرِ، فَكَانَتْ تَأْتِيهِمُ الْمِيرَةُ والمَدَد مِنْ هُنَالِكَ. فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ دَبَّرَ قَيْصَرُ مَكِيدَةً، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ خَدِيعَةً، فَطَلَبَ مِنْ كِسْرَى أَنْ يُقْلِعَ عَنْ بِلَادِهِ عَلَى مَالٍ يُصَالِحُهُ عَلَيْهِ، وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِ مَا شَاءَ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَمْوَالًا عَظِيمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا (5) ، مِنْ ذَهَبٍ وَجَوَاهِرَ وَأَقْمِشَةٍ وَجَوَارٍ وَخُدَّامٍ وَأَصْنَافٍ كَثِيرَةٍ. فَطَاوَعَهُ قَيْصَرُ، وَأَوْهَمَهُ أَنَّ عِنْدَهُ جَمِيعَ مَا طَلَبَ، وَاسْتَقَلَّ عَقْلُهُ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ مَا طَلَبَ، وَلَوِ اجْتَمَعَ هُوَ وَإِيَّاهُ لَعَجَزَتْ قُدْرَتُهُمَا عَنْ جَمْعِ عُشْره، وَسَأَلَ كِسْرَى أَنْ يُمكّنه مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ وَأَقَالِيمِ مَمْلَكَتِهِ، لِيَسْعَى فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ مِنْ ذَخَائِرِهِ وَحَوَاصِلِهِ وَدَفَائِنِهِ، فَأَطْلَقَ سَرَاحَهُ، فَلَمَّا عَزَمَ قَيْصَرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَدِينَةِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، جَمَعَ أَهْلُ مِلَّتِهِ وَقَالَ: إِنِّي خَارِجٌ فِي أَمْرٍ قَدْ أَبْرَمْتُهُ، فِي جُنْدٍ قَدْ عَيَّنْتُهُ مِنْ جَيْشِي، فَإِنْ رَجَعْتُ إِلَيْكُمْ قَبْلَ الْحَوْلِ فَأَنَا مَلِكُكُمْ، وَإِنْ لَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكُمْ قَبْلَهَا فَأَنْتُمْ بِالْخِيَارِ، إِنْ شِئْتُمُ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى بَيْعَتِي، وَإِنْ شِئْتُمْ وَلَّيْتُمْ عَلَيْكُمْ غَيْرِي. فَأَجَابُوهُ بِأَنَّكَ مَلِكُنَا مَا دُمْتَ حَيًّا، وَلَوْ غِبْتَ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خَرَجَ جَرِيدَةً فِي جَيْشٍ مُتَوَسِّطٍ، هَذَا وَكِسْرَى مُخَيّم عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ يَنْتَظِرُهُ لِيَرْجِعَ، فَرَكِبَ قَيْصَرُ مِنْ فَوْرِهِ وَسَارَ مُسْرِعًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، فَعَاثَ فِي بِلَادِهِمْ قَتْلًا لِرِجَالِهَا وَمَنْ بِهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، أَوَّلًا فَأَوَّلًا وَلَمْ يَزَلْ يَقْتُلُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَدَائِنِ، وَهِيَ كُرْسِيُّ مَمْلَكَةِ كِسْرَى، فَقَتَلَ مَنْ بِهَا، وَأَخَذَ جَمِيعَ حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَأَسَرَ نِسَاءَهُ وحريمه، وحلق رأس ولده، ورَكّبه على
__________
(1) في أ: "زمانه".
(2) في ف: "بثلاث".
(3) سنن أبي داود برقم (4596) وابن ماجه في السنن برقم (3992) وقال البوصيري في الزوائد: "إسناد عوف بن مالك فيه مقال، وراشد بن سعد قال فيه أبو حاتم: صدوق. وعباد بن يوسف لم يخرج له أحد سوى ابن ماجه، وليس له عندي سوى هذا الحديث قال ابن عدي: روى أحاديث تفرد بها. وذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجال الإسناد ثقات"
(4) في ت: "في".
(5) في ت: "الأرض".(6/302)
حِمَارٍ وَبَعَثَ مَعَهُ مِنَ الْأَسَاوِرَةِ مِنْ قَوْمِهِ فِي غَايَةِ الْهَوَانِ وَالذِّلَّةِ، وَكَتَبَ إِلَى كِسْرَى يَقُولُ: هَذَا مَا طَلَبْتَ فخُذه. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ كِسْرَى أَخَذَهُ مِنَ الْغَمِّ مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَاشْتَدَّ حَنَقُهُ عَلَى الْبَلَدِ، فَاشْتَدَّ (1) فِي حِصَارِهَا بِكُلِّ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا عَجَزَ رَكِبَ لِيَأْخُذَ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ مِنْ مَخَاضَةِ جَيْحُونَ، الَّتِي لَا سَبِيلَ (2) لِقَيْصَرَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ إِلَّا مِنْهَا، فَلَمَّا عَلِمَ قَيْصَرُ بِذَلِكَ احْتَالَ بِحِيلَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا، وَهُوَ أَنَّهُ أَرْصَدَ جُنْدَهُ وَحَوَاصِلَهُ الَّتِي مَعَهُ عِنْدَ فَمِ الْمَخَاضَةِ، وَرَكِبَ فِي بَعْضِ الْجَيْشِ، وَأَمَرَ بِأَحْمَالٍ مِنَ التِّبْنِ وَالْبَعْرِ وَالرَّوَثِ فَحُمِلَتْ مَعَهُ، وَسَارَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ يَوْمٍ فِي الْمَاءِ مُصْعَدًا، ثُمَّ أَمَرَ بِإِلْقَاءِ تِلْكَ الْأَحْمَالِ فِي النَّهْرِ، فَلَمَّا مَرَّتْ بِكِسْرَى ظَنَّ هُوَ وَجُنْدُهُ أَنَّهُمْ قَدْ خَاضُوا مِنْ هُنَالِكَ، فَرَكِبُوا فِي طَلَبِهِمْ فَشَغَرَتِ الْمَخَاضَةُ عَنِ الْفُرْسِ، وَقَدِمَ قَيْصَرُ فَأَمَرَهُمْ بِالنُّهُوضِ فِي الْخَوْضِ، فَخَاضُوا وَأَسْرَعُوا السَّيْرَ فَفَاتُوا كِسْرَى وَجُنُودَهُ، وَدَخَلُوا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ. وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا مَشْهُودًا عِنْدَ النَّصَارَى، وَبَقِيَ كِسْرَى وَجُيُوشُهُ (3) حَائِرِينَ لَا يَدْرُونَ مَاذَا يَصْنَعُونَ. لَمْ يَحْصُلُوا عَلَى بِلَادِ قَيْصَرَ، وبلادُهم قَدْ خَرّبتها الرُّومُ وَأَخَذُوا حَوَاصِلَهُمْ، وَسَبَوْا ذَرَارِيهِمْ وَنِسَاءَهُمْ. فَكَانَ هَذَا مِنْ غَلب الرُّومِ فارسَ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ تِسْعِ (4) سِنِينَ مِنْ غَلَبِ الْفُرْسِ لِلرُّومِ (5) .
وَكَانَتِ الْوَاقِعَةُ الْكَائِنَةُ بَيْنَ فَارِسَ وَالرُّومِ حِينَ غُلِبَتِ الرُّومُ بَيْنَ أَذْرَعَاتَ وبُصرى، عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَهِيَ طَرَفُ بِلَادِ الشَّامِ مِمَّا يَلِي بِلَادَ الْحِجَازِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْجَزِيرَةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ بِلَادِ الرُّومِ مِنْ فَارِسَ، فَاللَّهُ (6) أَعْلَمُ.
ثُمَّ كَانَ غَلَبُ الرُّومِ لِفَارِسَ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ، وَهِيَ تَسَعٌ؛ فَإِنَّ البِضْعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ. وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجُمَحي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عبُيَد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي مُنَاحَبَة (7) {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} أَلَا احْتَطْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ الْبِضْعَ مَا بَيْنَ ثَلَاثٍ إِلَى تِسْعٍ؟ "، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (8) .
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ (9) .
وَقَوْلُهُ: {لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} أَيْ: مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَمِنْ بَعْدِهِ، فَبُنِيَ عَلَى الضَّمِّ لَمَّا قُطع الْمُضَافُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {قَبْلُ} عَنِ الْإِضَافَةِ، ونُويت.
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} أَيْ: لِلرُّومِ أَصْحَابِ قَيْصَرَ مَلِكِ الشَّامِ، عَلَى فَارِسَ أَصْحَابِ كِسْرَى، وَهُمُ الْمَجُوسُ. وَقَدْ كَانَتْ نُصْرَةُ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ يَوْمَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، والسُّدِّي، وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَزَّارُ، مِنْ حَدِيثِ الأعمش، عَنْ عَطِيَّةَ (10) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا
__________
(1) في أ: "فجد".
(2) في أ: "لا مسلك".
(3) في ت، ف، أ: "وجنوده".
(4) في ت: "ثلاث".
(5) في ت، ف: "من غلب فارس للروم" وفي أ: "من غلب فارس الروم".
(6) في ف: "والله".
(7) في ت: "مبايعته".
(8) سنن الترمذي برقم (3191) وتفسير الطبري (21/12) .
(9) تفسير الطبري (21/16) .
(10) في ت: "وقد روى مالك".(6/303)
كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَفَرِحُوا بِهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (1) .
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ نُصْرَةُ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ عَامَ (2) الْحُدَيْبِيَةِ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ (3) . وَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ قَيْصَرَ كَانَ قَدْ نَذَرَ لَئِنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِكِسْرَى لَيَمْشِيَنَّ مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَا -وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ -شُكْرًا (4) لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا بَلَغَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى وَافَاهُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي بَعَثَهُ مَعَ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ، فَأَعْطَاهُ دِحْيَةُ لِعَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفْعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى قَيْصَرَ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ سَأَلَ مَنْ بِالشَّامِ مِنْ عَرَب الْحِجَازِ، فأحضرَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ الْأُمَوِيُّ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ كَانُوا فِي غَزَّةَ، فَجِيءَ بِهِمْ إِلَيْهِ، فَجَلَسُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَنَا. فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ -وَأَجْلَسَهُمْ خَلْفَهُ -: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ يَأثُرُوا عَلَيَّ الْكَذِبَ لَكَذَبْتُ. فَسَأَلَهُ هِرَقْلُ عَنْ نَسَبِهِ وَصِفَتِهِ، فَكَانَ فِيمَا سَأَلَهُ أَنْ قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدّة لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا -يَعْنِي بِذَلِكَ الْهُدْنَةَ الَّتِي كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُفَّارِ قُرَيْشٍ يَوْمَ (5) الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، فَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا عَلَى أَنَّ نَصْرَ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ كَانَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ لِأَنَّ قَيْصَرَ إِنَّمَا وَفَّى بِنَذْرِهِ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِأَصْحَابِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ يُجِيبُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ بِلَادَهُ كَانَتْ قَدْ خُرِّبَتْ وَتَشَعَّثَتْ، فَمَا تَمَكَّنَ مِنْ وَفَاءِ نَذْرِهِ حَتَّى أَصْلَحَ مَا يَنْبَغِي إِصْلَاحُهُ وَتَفَقَّدَ بِلَادَهُ، ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ نُصْرَتِهِ وفَّى بِنَذْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْأَمْرُ (6) فِي هَذَا سَهْلٌ قَرِيبٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا انْتَصَرَتْ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ سَاءَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا انْتَصَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّومَ أَهْلُ كِتَابٍ فِي الْجُمْلَةِ، فَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمَجُوسِ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (7) تَعَالَى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائد: 82، 83] ، وَقَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا صَفْوان، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنِي أُسَيْدٌ الْكِلَابِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ (8) الْعَلَاءَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْكِلَابِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ غَلَبَةَ فَارِسَ الرُّومَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الرُّومِ فَارِسَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الْمُسْلِمِينَ فَارِسَ وَالرُّومَ، كُلُّ ذَلِكَ فِي خمس عشرة سنة.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3192) وتفسير الطبري (21/16) .
(2) في ف: "يوم".
(3) في أ: "وغير واحد".
(4) في ت: "تشكرا".
(5) في ت، ف: "عام".
(6) في ت: "فالأمر".
(7) زيادة من ت.
(8) في ت: "وروى ابن أبي حاتم عن".(6/304)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أَيْ: فِي انْتِصَارِهِ وَانْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، {الرَّحِيمُ} بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} أَيْ: هَذَا (1) الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ -يَا مُحَمَّدُ -مِنْ أَنَّا سَنَنْصُرُ الرُّومَ عَلَى فَارِسَ، وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ حَقٌّ، وخَبَر صِدْقٍ لَا يُخْلَفُ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ وَوُقُوعِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ أَنْ يَنْصُرَ أَقْرَبَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ، وَيَجْعَلَ لَهَا الْعَاقِبَةَ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ: بِحُكْمِ اللَّهِ فِي كَوْنِهِ وَأَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ الْعَدْلِ.
وَقَوْلُهُ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} أَيْ: أَكْثَرُ النَّاسِ لَيْسَ لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وَمَا فِيهَا، فَهُمْ حُذَّاقٌ أَذْكِيَاءُ فِي تَحْصِيلِهَا وَوُجُوهِ مَكَاسِبِهَا، وَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُغَفّل لَا ذِهْنَ (2) لَهُ وَلَا فِكْرَةَ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ لَبَلَغَ (3) مِنْ أَحَدِهِمْ بِدُنْيَاهُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ، فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِهِ، وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} يَعْنِي: الْكُفَّارُ، يَعْرِفُونَ عُمْرَانَ الدُّنْيَا، وَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ جُهَّالٌ.
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى التَّفَكُّرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وَانْفِرَادِهِ بِخَلْقِهَا، وَإِنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، فَقَالَ: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} يَعْنِي بِهِ: النَّظَرَ وَالتَّدَبُّرَ وَالتَّأَمُّلَ لِخَلْقِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهَا مَا خُلِقَتْ سُدًى وَلَا بَاطِلًا بَلْ بِالْحَقِّ، وَأَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ (4) إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} .
ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا جَاءُوا بِهِ عَنْهُ، بِمَا أَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَالدَّلَائِلِ (5) الْوَاضِحَاتِ، مِنْ إِهْلَاكِ مَنْ كَفَرَ بِهِمْ، وَنَجَاةِ مَنْ صَدَّقَهُمْ، فَقَالَ: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ} أَيْ: بِأَفْهَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَنَظَرِهِمْ وَسَمَاعِهِمْ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}
__________
(1) في أ: "هو".
(2) في أ "لا ذكر".
(3) في ت، ف، أ: "ليبلغ".
(4) في ت: "وأنهما مؤجلين".
(5) في ت، ف، أ: "والدلالات".(6/305)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
أَيْ: كَانَتِ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ وَالْقُرُونُ السَّالِفَةُ أَشَدَّ مِنْكُمْ -أَيُّهَا الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (1) وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، وَمَا أُوتِيتُمْ مِعْشَارَ مَا أُوتُوا، ومُكنوا فِي الدُّنْيَا تَمْكِينًا لَمْ تَبْلُغُوا إِلَيْهِ، وَعُمِّرُوا فِيهَا أَعْمَارًا طِوَالًا فَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِنْكُمْ. وَاسْتَغَلُّوهَا أَكْثَرَ مِنَ اسْتِغْلَالِكُمْ، وَمَعَ هَذَا لَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا، أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ، وَلَا حَالَتْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَأْسِ (2) اللَّهِ، وَلَا دَفَعُوا عَنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فِيمَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أَيْ: وَإِنَّمَا أُوتُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، واستهزؤوا بِهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمُ السَّالِفَةِ وَتَكْذِيبِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْأَنْعَامِ: 110] ، وَقَوْلُهُ (3) : {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصَّفِّ: 5] ، وَقَالَ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [الْمَائِدَةِ: 49] .
وَعَلَى هَذَا تَكُونُ (4) السوءى منصوبة مفعولا لأساءوا. وَقِيلَ: بَلِ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى} أي: كانت السوءى عَاقِبَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يستهزئون. فعلى هذا تكون السوءى مَنْصُوبَةً خَبَرَ كَانَ. هَذَا تَوْجِيهُ ابْنِ جَرِيرٍ (5) ، وَنَقَلَهُ (6) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُمَا وَعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزاحم، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} .
{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) }
__________
(1) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(2) في ت: "أمر".
(3) في ت، ف: "وقال".
(4) في ف: "يكون".
(5) تفسير الطبري (21/18) .
(6) في ت: "ومنقول".(6/306)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أَيْ: كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى بَداءته فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَيْأَسُ الْمُجْرِمُونَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَفْتَضِحُ الْمُجْرِمُونَ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَكْتَئِبُ الْمُجْرِمُونَ.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} أَيْ: مَا شَفَعَتْ فِيهِمُ الْآلِهَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَفَرُوا بِهِمْ وَخَانُوهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ.(6/306)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
ثُمَّ قَالَ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} : قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ -وَاللَّهِ -الْفُرْقَةُ الَّتِي لَا اجْتِمَاعَ بَعْدَهَا، يَعْنِي: إِذَا رُفِعَ هَذَا إِلَى عِلِّيِّينَ، وَخُفِضَ هَذَا إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، فَذَاكَ آخِرُ الْعَهْدِ بَيْنَهُمَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَنْعَمُونَ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: يَعْنِي سَمَاعَ الْغِنَاءِ. وَالْحَبَرَةُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، قَالَ الْعَجَّاجُ:
الْحَمْدُ (1) لِلَّهِ الَّذِي أعْطَى الحَبَرْ ... مَوَالِيَ الْحَقّ إِنَّ المَوْلى شَكَر (2)
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) } .
هَذَا تَسْبِيحٌ مِنْهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ الْمُقَدِّسَةِ، وَإِرْشَادٌ لِعِبَادِهِ إِلَى تَسْبِيحِهِ وَتَحْمِيدِهِ، فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ: عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَهُوَ إِقْبَالُ اللَّيْلِ بِظَلَامِهِ، وَعِنْدَ الصَّبَاحِ، وَهُوَ إِسْفَارُ النَّهَارِ عَنْ ضِيَائِهِ.
ثُمَّ اعْتَرَضَ بِحَمْدِهِ، مُنَاسِبَةً لِلتَّسْبِيحِ وَهُوَ التَّحْمِيدُ، فَقَالَ: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أَيْ: هُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى مَا خَلَقَ في السموات وَالْأَرْضِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} فَالْعَشَاءُ (3) هُوَ: شِدَّةُ الظَّلَامِ، وَالْإِظْهَارُ: قُوَّةُ الضِّيَاءِ. فَسُبْحَانَ خَالِقِ هَذَا وَهَذَا، فَالِقِ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلِ اللَّيْلَ سَكَنًا، كَمَا قَالَ: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشَّمْسِ: 3، 4] ، وَقَالَ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [اللَّيْلِ: 1، 2] ، وَقَالَ: {وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضُّحَى: 1، 2] ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهيعة، حَدَّثَنَا زَبَّان بْنِ فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهَني، عَنْ أَبِيهِ (4) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وَفَّى؟ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى: سُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تَمَسُّونَ وحين تصبحون، وله الحمد في السموات وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ" (5) .
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُطَّلِبُ بْنُ شُعَيب الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ (6) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ}
__________
(1) في ت: "فالحمد".
(2) البيت في تفسير الطبري (21/19) ولسان العرب لابن منظور مادة "حبر".
(3) في ت: "فالعشي".
(4) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن أنس الجهني".
(5) المسند (3/439) .
(6) في ت: "وروى الطبراني بإسناده".(6/307)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
الْآيَةَ بِكَمَالِهَا، أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي يَوْمِهِ،ومَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ". إِسْنَادٌ جَيِّدٌ (1) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ (2) .
وَقَوْلُهُ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} هُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَقَابِلَةِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمُتَتَابِعَةُ الْكَرِيمَةُ كُلُّهَا مِنْ هَذَا النَّمَطِ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ فِيهَا خَلْقَهُ الْأَشْيَاءَ وَأَضْدَادَهَا، لِيَدُلَّ خَلْقُهُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ إِخْرَاجُ النَّبَاتِ مِنَ الْحَبِّ، وَالْحَبِّ مِنَ النَّبَاتِ، وَالْبَيْضِ مِنَ الدَّجَاجِ، وَالدَّجَاجِ مِنَ الْبَيْضِ، وَالْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالنُّطْفَةِ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَالْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ.
وَقَوْلُهُ: {وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} كَقَوْلِهِ: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} [يس: 33، 34] ، وَقَالَ: {وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الْحَجِّ: 5 -7] ، وَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 57] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} .
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} ، فَأَصْلُكُمْ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ تَصَوّر فَكَانَ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ صَارَ عِظَامًا، شَكْلُهُ عَلَى شَكْلِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ كَسَا اللَّهُ تِلْكَ الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، فَإِذَا هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ صَغِيرًا ضَعِيفَ الْقُوَى وَالْحَرَكَةِ، ثُمَّ كَلَّمَا طَالَ عُمْرُهُ تَكَامَلَتْ قُوَاهُ وَحَرَكَاتُهُ حَتَّى آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ صَارَ يَبْنِي الْمَدَائِنَ وَالْحُصُونَ، وَيُسَافِرُ فِي أَقْطَارِ الْأَقَالِيمِ، وَيَرْكَبُ مَتْنَ الْبُحُورِ، وَيَدُورُ أقطارَ الْأَرْضِ وَيَتَكَسَّبُ وَيَجْمَعُ الْأَمْوَالَ، وَلَهُ فِكْرَةٌ وَغَوْرٌ، وَدَهَاءٌ وَمَكْرٌ، وَرَأْيٌ وَعِلْمٌ، وَاتِّسَاعٌ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ. فَسُبْحَانَ مَنْ أَقْدَرَهُمْ وسَيّرهم وَسَخَّرَهُمْ وَصَرَّفَهُمْ فِي فُنُونِ الْمَعَايِشِ وَالْمَكَاسِبِ، وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي الْعُلُومِ وَالْفِكْرَةِ، وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} .
__________
(1) في أ: "إسناد ضعيف" وهو الصواب.
(2) المعجم الكبير (12/239) وسنن أبي داود برقم (5076) .(6/308)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وغُنْدَر، قَالَا حَدَّثَنَا عَوْف، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ (1) ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزَنُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، بِهِ (2) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أَيْ: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ جِنْسِكُمْ إِنَاثًا يَكُنَّ لَكُمْ أَزْوَاجًا، {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الْأَعْرَافِ: 189] يَعْنِي بِذَلِكَ: حَوَّاءَ، خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ آدَمَ مِنْ ضِلَعه الْأَقْصَرِ الْأَيْسَرِ. وَلَوْ أَنَّهُ جَعَلَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ ذُكُورًا وَجَعَلَ إِنَاثَهُمْ مَنْ جِنْسٍ آخَرَ [مِنْ غَيْرِهِمْ] (3) إِمَّا مِنْ جَانٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، لَمَا حَصَلَ هَذَا الِائْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ، بَلْ كَانَتْ تَحْصُلُ نَفْرَة لَوْ كَانَتِ الْأَزْوَاجُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. ثُمَّ مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بِبَنِي آدَمَ أَنْ جَعَلَ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ مَوَدَّةً: وَهِيَ الْمَحَبَّةُ، وَرَحْمَةً: وَهِيَ الرَّأْفَةُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ (4) يُمْسِكُ الْمَرْأَةَ إِمَّا لِمَحَبَّتِهِ لَهَا، أَوْ لِرَحْمَةٍ بِهَا، بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَوْ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ، أَوْ لِلْأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) } .
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ العظيمة {خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أي: خلق السموات فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَشُفُوفِ أَجْرَامِهَا وَزِهَارَةِ كَوَاكِبِهَا وَنُجُومِهَا الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَالْأَرْضَ فِي انْخِفَاضِهَا وَكَثَافَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَوْدِيَةٍ، وَبِحَارٍ وَقِفَارٍ، وَحَيَوَانٍ وَأَشْجَارٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ} يَعْنِي: اللُّغَاتِ، فَهَؤُلَاءِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَهَؤُلَاءِ تَتَرٌ لَهُمْ لُغَةٌ أُخْرَى، وَهَؤُلَاءِ كَرَج، وَهَؤُلَاءِ رُومٌ، وَهَؤُلَاءِ إِفْرِنْجُ، وَهَؤُلَاءِ بَرْبر، وَهَؤُلَاءِ تكْرور، وَهَؤُلَاءِ حَبَشَةٌ، وَهَؤُلَاءِ هُنُودٌ، وَهَؤُلَاءِ عَجَمٌ، وَهَؤُلَاءِ صَقَالِبَةٌ، وَهَؤُلَاءِ خَزَرٌ، وَهَؤُلَاءِ أَرْمَنٌ، وَهَؤُلَاءِ أَكْرَادٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنَ اخْتِلَافِ لُغَاتِ بَنِي آدَمَ، وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمْ وَهِيَ حُلاهم، فَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ -بَلْ أَهْلِ الدُّنْيَا -مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ: كُلٌّ له عينان وحاجبان، وأنف وجبين،
__________
(1) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(2) المسند (4/400) وسنن أبي داود برقم (3693) وسنن الترمذي برقم (2955) .
(3) زيادة من ت، ف.
(4) في ت، ف: "فالرجل".(6/309)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
وَفَمٌ وَخَدَّانِ. وَلَيْسَ يُشْبِهُ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْآخَرَ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُفَارِقَهُ بِشَيْءٍ مِنَ السَّمْتِ أَوِ الْهَيْئَةِ أَوِ الْكَلَامِ، ظَاهِرًا كَانَ أَوْ خَفِيًّا، يَظْهَرُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ، كُلُّ وَجْهٍ مِنْهُمْ أُسْلُوبٌ بِذَاتِهِ وَهَيْئَةٌ لَا تُشْبِهُ الْأُخْرَى. وَلَوْ تَوَافَقَ جَمَاعَةٌ فِي صِفَةٍ مِنْ جَمَالٍ أَوْ قُبْحٍ (1) ، لَا بُدَّ مِنْ فَارِقٍ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَبَيْنَ الْآخَرِ، {إنَّ فِي ذَلِك لَآيَاتٍ للعَالَمين وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أَيْ: وَمِنِ الْآيَاتِ مَا جُعِلَ لَكُمْ مِنْ صِفَةِ النُّوَّمِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِيهِ تَحْصُلُ الرَّاحَةُ وَسُكُونُ الْحَرَكَةِ، وَذَهَابُ الْكَلَالِ وَالتَّعَبِ، وَجَعَلَ لَكُمْ الِانْتِشَارَ وَالسَّعْيَ فِي الْأَسْبَابِ وَالْأَسْفَارِ فِي النَّهَارِ، وَهَذَا ضِدُّ النَّوْمِ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أَيْ: يَعُونَ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ عِمْرَانَ السَّدُوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلاثة، حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدان، سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ (2) ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَصَابَنِي أَرَقٌ مِنَ اللَّيْلِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ غَارَتِ النُّجُومُ، وَهَدَأَتِ الْعُيُونُ، وَأَنْتَ حَيٌّ قَيُّومٌ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، [أَنِمْ عَيْنِي وَ] (3) أَهْدِئْ لَيْلِي" فَقُلْتُهَا فَذَهَبَ عَنِّي (4) .
{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) }
__________
(1) في أ: "قبيح".
(2) في ت: "وروى الطبراني بإسناده".
(3) زيادة من ت، ف، ومعجم الطبراني.
(4) المعجم الكبير (5/124) ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (745) وابن عدي في الكامل (5/150) من طريق عمرو بن الحصين به، وقال ابن عدي: "تفرد به عمرو بن الحصين وهو مظلم الحديث، ويروي عن قوم معروفين". وله شاهد من حديث أنس، حسنه الحافظ ابن حجر كما في الفتوحات الربانية لابن علان (3/177) .(6/310)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ أَنَّهُ {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ [خَوْفًا وَطَمَعًا} أَيْ:] (1) تَارَةً تَخَافُونَ مِمَّا يَحْدُثُ بَعْدَهُ مِنْ أَمْطَارٍ مُزْعِجَةٍ، أَوْ صَوَاعِقَ مُتْلِفَةٍ، وَتَارَةً تَرْجُونَ وَمِيضَه وَمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنَ الْمَطَرِ الْمُحْتَاجِ إليه؛ ولهذا قال: {وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أَيْ: بَعْدَمَا كَانَتْ هَامِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شَيْءَ، فَلَمَّا جَاءَهَا الْمَاءُ {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الْحَجِّ: 5] . وَفِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ ودَلالَة وَاضِحَةٌ عَلَى الْمَعَادِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ} كَقَوْلِهِ: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ} [الْحَجِّ: 65] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا} [فَاطِرٍ: 41] . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ يَقُولُ: لَا وَالَّذِي تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، أَيْ: هِيَ قَائِمَةٌ ثَابِتَةٌ بِأَمْرِهِ لَهَا وَتَسْخِيرِهِ إِيَّاهَا، ثُمَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُدلت الأرض
__________
(1) زيادة من ت.(6/310)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
غير الأرض والسموات، وَخَرَجَتِ الْأَمْوَاتُ مِنْ قُبُورِهَا أَحْيَاءً بِأَمْرِهِ تَعَالَى وَدُعَائِهِ إِيَّاهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} [الْإِسْرَاءِ: 52] .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النَّازِعَاتِ: 13، 14] ، وَقَالَ: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53] .
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أَيْ: مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ، {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أَيْ: خَاضِعُونَ خَاشِعُونَ طَوْعًا وَكَرْهًا.
وَفِي حَدِيثِ دَرَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، مَرْفُوعًا: " كُلُّ حَرْف فِي (1) الْقُرْآنِ يُذكَرُ فِيهِ الْقُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ" (2) .
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قَالَ [عَلِيُّ] (3) بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: يَعْنِي: أَيْسَرُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ البَدَاءة، وَالْبُدَاءَةُ عَلَيْهِ هَيْنٌ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَاد، عَنِ الْأَعْرَجِ، (4) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: كَذبَني ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بأهونَ عَلِيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ" (5) .
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ كَمَا انْفَرَدَ بِرِوَايَتِهِ -أَيْضًا -مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَر، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِهِ (6) . وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ لهِيعة، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ سُلَيْمُ بْنُ جُبَيْر، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، أَوْ مِثْلِهِ (7) .
وَقَالَ آخَرُونَ: كِلَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُدْرَةِ على السواء.
__________
(1) في ت: "من".
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/75) ، وتقدم الحديث عند تفسير الآية: 116 من سورة البقرة. قال الحافظ ابن كثير: "وَلَكِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ ضَعِيفٌ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَرَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ مُنْكَرٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ، أَوْ مَنْ دَوَّنَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت: "وقال البخاري بإسناده".
(5) صحيح البخاري برقم (4974) .
(6) صحيح البخاري برقم (4975) .
(7) المسند (2/350) .(6/311)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
قَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلٌّ عَلَيْهِ هَيِّنٌ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم. وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَذَكَرَ عَلَيْهِ شَوَاهِدَ كَثِيرَةً، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} إِلَى الْخَلْقِ، أَيْ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَى الْخَلْقِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّورَى: 11] .
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَثَله أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَقَالَ مِثْلَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ المُفَسرين عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْمَعَارِفِ:
إذَا سَكَن الغَديرُ عَلَى صَفَاء ... وَجُنبَ أنْ يُحَرّكَهُ النَّسيمُ ...
تَرَى فِيهِ السَّمَاء بَلا امْترَاء ... كَذَاكَ الشَّمْسُ تَبْدو وَالنّجُومُ ...
كَذاكَ قُلُوبُ أرْبَاب التَّجَلِّي ... يُرَى فِي صَفْوها اللهُ العَظيمُ ...
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} الَّذِي (1) لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، بَلْ قَدْ غَلَبَ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، {الْحَكِيمُ} فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، شَرْعًا وقَدَرا.
وَعَنْ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المنْكَدِر، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى} ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) }
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ بِهِ، الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ، الْجَاعِلِينَ لَهُ شُرَكَاءَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُعْتَرِفُونَ أَنَّ شُرَكَاءَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادَ عُبَيْدٌ لَهُ، مِلْكٌ لَهُ، كَمَا كَانُوا فِي تَلْبِيَتِهِمْ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. فَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أَيْ: تَشْهَدُونَهُ وَتَفْهَمُونَهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} أَيْ: لَا يَرْتَضِي أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ شَرِيكًا لَهُ فِي مَالِهِ، فَهُوَ وَهُوَ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: تَخَافُونَ أَنْ يُقَاسِمُوكُمُ الْأَمْوَالَ.
قَالَ أَبُو مِجْلَز: إِنَّ مَمْلُوكَكَ لَا تَخَافُ أَنْ يُقَاسِمَكَ مَالَكَ، وَلَيْسَ لَهُ ذَاكَ (2) ، كَذَلِكَ اللَّهُ لَا شريك له.
__________
(1) في ت: "أي".
(2) في ت: "ذلك".(6/312)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْأَنْدَادَ مِنْ خَلْقِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النَّحْلِ: 62] أَيْ: مِنَ الْبَنَاتِ، حَيْثُ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا، وَجَعَلُوهَا بَنَاتِ اللَّهِ، وَقَدْ كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا بُشر بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ، أَيُمْسِكُهُ عَلَى هَوْنٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ، فَهُمْ يَأْنَفُونَ مِنَ الْبَنَاتِ. وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ، فَنَسَبُوا إِلَيْهِ مَا لَا يَرْتَضُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، فَهَذَا أَغْلَظُ الْكُفْرِ. وَهَكَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ مِنْ عَبِيدِهِ وَخَلْقِهِ، وَأَحَدُهُمْ يَأْبَى غَايَةَ الْإِبَاءِ وَيَأْنَفُ غَايَةَ الْأَنَفَةِ مِنْ ذَلِكَ، أَنْ يَكُونَ عبدهُ شريكَه فِي مَالِهِ، يُسَاوِيهِ فِيهِ. وَلَوْ شَاءَ لَقَاسَمَهُ عَلَيْهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ الْفَرَجِ الْأَصْبِهَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (1) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي أَهْلُ الشِّرْكِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ [لَبَّيْكَ] (2) ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (3) .
وَلَمَّا كَانَ التَّنْبِيهُ بِهَذَا الْمَثَلِ عَلَى بَرَاءَتِهِ تَعَالَى وَنَزَاهَتِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، قَالَ: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا عَبَدُوا غَيْرَهُ سَفَهًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجَهْلًا {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أَيِ: الْمُشْرِكُونَ {أَهْوَاءَهُمْ} أَيْ: فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَنْدَادَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [أَيْ: فَلَا أَحَدَ يَهْدِيهِمْ إِذَا كَتَبَ اللَّهُ إِضْلَالَهُمْ] (4) ، {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ مُنْقِذٌ وَلَا مُجِيرٌ، وَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) }
يَقُولُ تَعَالَى: فَسَدِّدْ وَجْهَكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَكَ، مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، الَّذِي هَدَاكَ اللَّهُ لَهَا، وَكَمَّلَهَا لَكَ غَايَةَ الْكَمَالِ، وَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ لَازِمْ فِطْرَتَكَ السَّلِيمَةَ، الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى فَطَرَ خَلْقَهُ عَلَى [مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الْأَعْرَافِ: 172] ، وَفِي الْحَدِيثِ: "إني خلقت
__________
(1) في ت: "روى الطبراني بإسناده".
(2) زيادة من ت.
(3) المعجم الكبير (12/20) ، وقال الهيثمي في المجمع (3/223) : "وفيه حماد بن شعيب وهو ضعيف".
(4) زيادة من ت، أ.(6/313)
عِبَادِي حُنَفاء، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِمْ". وَسَنَذْكُرُ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَطَرَ خَلْقَهُ عَلَى] (1) الْإِسْلَامِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَى بَعْضِهِمُ الْأَدْيَانُ الْفَاسِدَةُ كَالْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ أَوِ الْمَجُوسِيَّةِ (2) .
وَقَوْلُهُ: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَا تُبَدِّلُوا خَلْقَ اللَّهِ، فَتُغَيِّرُوا النَّاسَ عَنْ فِطْرَتِهِمُ الَّتِي فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهَا. فَيَكُونُ خَبَرًا بِمَعْنَى الطَّلَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آلِ عِمْرَانَ: 97] ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ خَبَرٌ عَلَى بَابِهِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَاوَى بَيْنَ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ فِي الْفِطْرَةِ عَلَى الْجِبِلَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، لَا يُولَدُ أَحَدٌ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعي، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَمُجَاهِدٌ، وعِكْرِمة، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ (3) فِي قَوْلِهِ: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أَيْ: لِدِينِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَوْلُهُ: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} : لِدِينِ اللَّهِ، خَلْقُ الْأَوَّلِينَ: [دِينُ الْأَوَّلِينَ] ، (4) وَالدِّينُ وَالْفِطْرَةُ: الْإِسْلَامُ.
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (5) أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانه أَوْ يُنَصِّرانه أَوْ يُمَجسانه، كَمَا تَنْتِج الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاء، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ"؟ ثُمَّ يَقُولُ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الأيْلي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (6) . وَأَخْرَجَاهُ -أَيْضًا -مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (7) .
وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمِنْهُمُ الأسودُ بْنُ سَرِيع التَّمِيمِيُّ. قَالَ (8) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ (9) عَنِ الْأُسُودِ بْنِ سَرِيع [التَّمِيمِيِّ] (10) قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَزَوْتُ مَعَهُ، فَأَصَبْتُ ظَهْرًا (11) ، فَقُتِلَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ، حَتَّى قَتَلُوا الْوِلْدَانَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ جَاوَزَهُمُ الْقَتْلُ الْيَوْمَ حَتَّى قَتَلُوا الذُّرِّيَّةَ؟ ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا هُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: "أَلَا إِنَّمَا خِيَارُكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ". ثُمَّ قَالَ: "لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً، لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً". وَقَالَ: "كُلُّ نَسَمَةٍ تُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، حَتَّى يُعرب عَنْهَا لِسَانُهَا، فَأَبَوَاهَا يُهَوِّدَانِهَا أو ينصرانها".
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) في ت، ف: "والنصرانية والمجوسية".
(3) في ت: "وسعيد بن حبير وغيرهم".
(4) زيادة من ت، أ.
(5) في ت: "ثم روى بسنده".
(6) صحيح البخاري برقم (4775) وصحيح مسلم برقم (2658) .
(7) صحيح البخاري برقم (6599) وصحيح مسلم برقم (2658) .
(8) في ت: "فروى".
(9) في ت: "بإسناده".
(10) زيادة من ف.
(11) في ت، ف: "ظفرا".(6/314)
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ السِّيَرِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ هُشَيْم، عَنْ يُونُسَ -وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ -عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، بِهِ (1) (2) .
وَمِنْهُمْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، حَتَّى يُعرب عَنْهُ لِسَانُهُ، فَإِذَا عَبَّرَ (3) عَنْهُ لِسَانُهُ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (4) .
وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ الْهَاشِمِيُّ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانة، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (5) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل عَنِ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ إِذْ خَلَقَهُمْ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ اليَشْكُرِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِذَلِكَ (6) .
وَقَدْ قَالَ (7) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ -أَنْبَأَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى عليَّ زَمَانٌ وَأَنَا أَقُولُ: أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ. حَتَّى حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ (8) فُلَانٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ (9) عَنْهُمْ فَقَالَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ". قَالَ: فَلَقِيَتُ الرَّجُلَ فَأَخْبَرَنِي. فَأَمْسَكْتُ عَنْ قَوْلِي (10) .
وَمِنْهُمْ عِيَاضُ بْنُ حِمار الْمُجَاشِعِيُّ، قَالَ (11) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ مُطَرّف، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "إِنَّ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي فِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عِبَادِي حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ.
__________
(1) في ت: "وروى أيضا بإسناده".
(2) المسند (3/435) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8616) .
(3) في ف: "عرب".
(4) المسند (3/353) وقال الهيثمي في المجمع (7/218) "وفيه أبو جعفر الرازي وهو ثقة وفيه خلاف، وبقية رجاله ثقات".
(5) في ت: "وروى أيضا بإسناده".
(6) المسند (1/328) وصحيح البخاري برقم (1383) وصحيح مسلم برقم (2660) .
(7) في ت: "وروى".
(8) في ت، ف: "ابن".
(9) في أ: "عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل".
(10) المسند (5/73) وقال الهيثمي في المجمع (7/218) "رجاله رجال الصحيح".
(11) في ت: "وقال".(6/315)
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدْعُوهُ خبُزَةً. قَالَ (1) : اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نَغْزُك، وَأَنْفِقْ عَلَيْهِمْ فَسَنُنْفِقُ عَلَيْكَ. وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثُ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ". قَالَ: "وَأَهْلُ الْجَنَّةِ: ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقسط مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ بِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ عَفِيفٌ فَقِيرٌ مُتَصَدِّقٌ. وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا، لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا. وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ. وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ (2) أَهْلِكَ وَمَالِكَ" وَذَكَرَ الْبَخِيلَ، أَوِ الْكَذَّابَ، وَالشَّنْظِيرُ: الْفَحَّاشُ (3) .
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ، فَرَوَاهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ، بِهِ (4) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أَيِ: التَّمَسُّكُ بِالشَّرِيعَةِ (5) وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ هُوَ الدِّينُ الْقَوِيمُ الْمُسْتَقِيمُ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ: فَلِهَذَا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، فَهُمْ عَنْهُ نَاكِبُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يُوسُفَ: 103] ، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 116] .
وَقَوْلُهُ: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جُرَيْج: أَيْ رَاجِعِينَ إِلَيْهِ، {وَاتَّقُوهُ} أَيْ: خَافُوهُ وَرَاقَبُوهُ، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} وَهِيَ الطَّاعَةُ الْعَظِيمَةُ، {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أَيْ: بَلْ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ لَهُ الْعِبَادَةَ، لَا يُرِيدُونَ بِهَا سِوَاهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: [حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيد] (6) ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ (7) بْنِ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: مَرَّ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فَقَالَ: مَا قِوَامُ هَذِهِ الْأُمَّةِ (8) ؟ قَالَ مُعَاذٌ: ثَلَاثٌ، وَهُنَّ [مِنَ] (9) الْمُنْجِيَاتِ: الْإِخْلَاصُ، وَهِيَ الْفِطْرَةُ، فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَالصَّلَاةُ وَهِيَ الْمِلَّةُ، وَالطَّاعَةُ وَهِيَ الْعِصْمَةُ. فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ.
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلابة: أَنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِمُعَاذٍ: مَا قِوَامُ هَذَا الْأَمْرِ؟ فَذَكَرَهُ نَحْوَهُ (10) .
وَقَوْلُهُ: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أَيْ: لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَدْ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أَيْ: بَدَّلُوهُ وَغَيَّرُوهُ وَآمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ.
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "فَارَقُوا دِينَهُمْ" أَيْ: تَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وعَبَدة الْأَوْثَانِ، وَسَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ، مِمَّا عَدَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الْأَنْعَامِ: 159] ، فَأَهْلُ الْأَدْيَانِ قَبْلَنَا اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى آرَاءٍ وملَل بَاطِلَةٍ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ مِنْهُمْ تَزْعُمُ أَنَّهُمْ عَلَى شيء،
__________
(1) في ت، ف: "فقال".
(2) في ت: "على".
(3) في ت، ف: "الفاحش".
(4) المسند (4/162) وصحيح مسلم برقم (2865) .
(5) في ت: "المتمسك بالشرعة".
(6) زيادة من ف، أ، والطبري.
(7) في أ: "زيد".
(8) في ت: "الآية".
(9) زيادة من ت.
(10) تفسير الطبري (21/26) .(6/316)
وَهَذِهِ الْأُمَّةُ (1) أَيْضًا اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى نَحِلٍ كُلُّهَا ضَلَالَةٌ (2) إِلَّا وَاحِدَةً، وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، الْمُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ، كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ أَنَّهُ سُئِلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (4) عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ مِنْهُمْ، فَقَالَ: "مَا أَنَا عليه [اليوم] (5) وأصحابي" (6) .
__________
(1) في ت: "الآية".
(2) في أ: "ضالة".
(3) في ف: "رسوله".
(4) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(5) زيادة من: أ، والمستدرك.
(6) المستدرك (1/128،129) ، وقال الحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف ص (63) : "إسناده حسن".(6/317)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنزلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ النَّاسِ إِنَّهُمْ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ [أَيْ] (1) فِي حَالَةِ الِاخْتِبَارِ يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ.
وَقَوْلُهُ: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} ، هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلَامُ التَّعْلِيلِ عِنْدَ آخَرِينَ، وَلَكِنَّهَا تَعْلِيلٌ لِتَقْيِيضِ اللَّهِ لَهُمْ ذَلِكَ.
ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (2) ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ لَوْ تَوَعَّدَنِي حَارِسُ دَرْب لَخِفْتُ مِنْهُ، فَكَيْفَ وَالْمُتَوَعِّدُ هَاهُنَا [هُوَ] (3) الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ، فَيَكُونُ.
ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ. {أَمْ أَنزلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا} أَيْ: حُجَّةً {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} أَيْ: يَنْطِقُ {بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ: لَمْ يَكُنْ [لَهُمْ] (4) شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} ، هَذَا إِنْكَارٌ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، إِلَّا مَنْ عَصَمه اللَّهُ وَوَفَّقَهُ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ بَطر وَقَالَ: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هُودٍ: 10] ، أَيْ: يَفْرَحُ فِي نَفْسِهِ وَيَفْخَرُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ قَنط وَأَيِسَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرٌ بِالْكُلِّيَّةِ؛ قَالَ اللَّهُ: {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هُودٍ: 11] ، أَيْ: صَبَرُوا فِي الضَّرَّاءِ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي الرَّخَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ، لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شكر فكان
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "يعلمون".
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) زيادة من أ.(6/317)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاء (1) صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ" (2) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أَيْ: هُوَ الْمُتَصَرِّفُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، فَيُوَسِّعُ عَلَى قَوْمٍ وَيُضَيِّقُ عَلَى آخَرِينَ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) }
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِإِعْطَاءِ ذِي {الْقُرْبَى حَقَّهُ} أَيْ: مِنَ الْبَرِّ وَالصِّلَةِ، {وَالْمِسْكِينَ} وَهُوَ: الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، أَوْ لَهُ شَيْءٌ لَا يَقُومُ بِكِفَايَتِهِ، {وَابْنَ السَّبِيلِ} وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ، {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} أَيِ: النَّظَرُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ (3) .
ثُمَّ قَالَ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} أَيْ: مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً يُرِيدُ أَنْ يَرُدَّ النَّاسُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَهْدَى لَهُمْ، فَهَذَا لَا ثَوَابَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ -بِهَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالشَّعْبِيُّ -وَهَذَا الصَّنِيعُ مُبَاحٌ (4) وَإِنْ كَانَ لَا ثَوَابَ فِيهِ (5) إِلَّا أَنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [الْمُدَّثِّرِ: 6] أَيْ: لَا تُعْطِ الْعَطَاءَ تُرِيدُ أَكْثَرَ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّبَا رِبَاءَانِ، فَرِبًا لَا يَصْحُ (6) يَعْنِي: رِبَا الْبَيْعِ؟ وَرِبًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ هَدِيَّةُ الرَّجُلِ يُرِيدُ فَضْلَهَا (7) وَأَضْعَافَهَا. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} .
وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الزَّكَاةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أَيِ: الَّذِينَ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُمُ الثَّوَابَ وَالْجَزَاءَ، كَمَا [جَاءَ] (8) فِي الصَّحِيحِ: "وَمَا تَصْدَّقَ أَحَدٌ بِعَدْل تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلَّا أَخْذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيها لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوّه أَوْ فَصِيلَه، حَتَّى تَصِيرَ التَّمْرَةُ أَعْظَمَ مِنْ أُحُد" (9) .
__________
(1) في ت: "الضراء".
(2) صحيح مسلم برقم (2999) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه.
(3) في ت، ف: "الأخرى".
(4) في ت: "فسره ابن عباس وغيره".
(5) في ت: "به".
(6) في أ: "لا يصلح".
(7) في أ: "أفضلها".
(8) زيادة من أ.
(9) صحيح البخاري برقم (1410) .(6/318)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} أَيْ: هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ (1) يُخْرِجُ الْإِنْسَانَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ عُرْيَانًا لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا سَمْعَ وَلَا بَصَرَ وَلَا قُوَى، ثُمَّ يَرْزُقُهُ جَمِيعَ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالرِّيَاشَ وَاللِّبَاسَ وَالْمَالَ وَالْأَمْلَاكَ وَالْمَكَاسِبَ، كَمَا قَالَ (2) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَلَّامٍ أَبِي شُرَحْبِيلَ، عَنْ حَبَّة وَسَوَاءٍ ابْنِي خَالِدٍ قَالَا دَخْلَنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصْلِحُ شَيْئًا فأعَنَّاه، فَقَالَ: "لَا تَيْأَسَا مِنَ الرزق ما تَهَزّزَتْ رؤوسكما؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ تَلِدُهُ أُمُّهُ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ، ثُمَّ يَرْزُقُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" (3) .
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} ، أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} أَيِ: الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. {مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، ثُمَّ يَبْعَثُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَيْ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ وَتَعَاظَمَ وَجَلَّ وعَزّ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ نَظِيرٌ أَوْ مساوٍ، أَوْ وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) }
__________
(1) في أ: "الرزاق".
(2) في ت: "كما روى".
(3) المسند (3/469) .(6/319)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
{قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وعِكْرِمة، وَالضَّحَّاكُ، والسُّدِّي، وَغَيْرُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْبَرِّ هَاهُنَا: الفَيَافي، وَبِالْبَحْرِ: الْأَمْصَارُ وَالْقُرَى، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وعَكرمة: الْبَحْرُ: الْأَمْصَارُ وَالْقُرَى، مَا كَانَ مِنْهَا عَلَى جَانِبِ نَهْرٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْبَرِّ هُوَ الْبَرُّ الْمَعْرُوفُ، وَبِالْبَحْرِ: الْبَحْرُ الْمَعْرُوفُ.
وَقَالَ زَيْدُ (1) بْنُ رُفَيْع: {ظَهَرَ الْفَسَادُ} يَعْنِي: انْقِطَاعَ الْمَطَرِ عَنِ الْبَرِّ يُعْقِبُهُ الْقَحْطُ، وَعَنِ الْبَحْرِ تَعْمَى (2) دَوَابُّهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمَقْرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ، قَالَ: فَسَادُ الْبَرِّ: قَتْلُ ابْنِ آدَمَ، وَفَسَادُ (3) الْبَحْرِ: أَخْذُ السَّفِينَةِ غَصْبًا.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْبَرِّ: مَا فِيهِ مِنَ الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى، وبالبحر: جزائره.
__________
(1) في أ "يزيد".
(2) في ت، ف: "يعني".
(3) في ت، ف: "وفي".(6/319)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ صَالَح مَلِكَ أَيْلَةَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِبَحْرِهِ، يَعْنِي: بِبَلَدِهِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} أَيْ: بَانَ النَّقْصُ فِي (1) الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالطَّاعَةِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: "لَحَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَى أَهْلِهَا مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا" (2) . وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّ الْحُدُودَ إِذَا أُقِيمَتْ، انْكَفَّ النَّاسُ -أَوْ أَكْثَرُهُمْ، أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ -عَنْ تَعَاطِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِذَا ارْتُكِبَتِ الْمَعَاصِي كَانَ سَبَبًا فِي مِحَاقِ (3) الْبَرَكَاتِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا إِذَا نَزَلَ عِيسَى [ابْنُ مَرْيَمَ] (4) عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَحَكَمَ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، مِنْ قَتْلِ الْخِنْزِيرِ وَكَسْرِ الصَّلِيبِ وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ، وَهُوَ تَرْكُهَا -فَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ، فَإِذَا أَهْلَكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الدَّجَّالَ وَأَتْبَاعَهُ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، قِيلَ لِلْأَرْضِ: أَخْرِجِي بَرَكَاتِكِ. فَيَأْكُلُ مِنَ الرُّمَّانَةِ الفئَام مِنَ النَّاسِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بقَحْفها، وَيَكْفِي لَبَنُ اللِّقْحَةِ الجماعةَ مِنَ النَّاسِ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِبَرَكَةِ تَنْفِيذِ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلَّمَا أُقِيمَ الْعَدْلُ كَثُرَتِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرُ؛ [وَلِهَذَا] (5) ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: (6) "إنَّ الْفَاجِرَ إِذَا مَاتَ تَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ" (7) .
وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَالْحُسَيْنُ قَالَا حَدَّثَنَا عَوْف، عَنْ أَبِي قَحْذَمٍ قَالَ (8) : وَجَدَ رَجُلٌ فِي زَمَانِ زِيَادٍ -أَوِ: ابْنِ زِيَادٍ -صُرَّةً فِيهَا حَبّ، يَعْنِي مِنْ بُرٍّ أَمْثَالِ النَّوَى، عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ: هَذَا نَبَتَ فِي زَمَانٍ كَانَ يُعْمَلُ فِيهِ بِالْعَدْلِ (9) .
وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَسَادِ هَاهُنَا الشِّرْكُ. وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَقَوْلُهُ: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أَيْ: يَبْتَلِيهِمْ بِنَقْصِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، اخْتِبَارًا مِنْهُ، وَمُجَازَاةً عَلَى صَنِيعِهِمْ، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أَيْ: عَنِ الْمَعَاصِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الْأَعْرَافِ: 168] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: مِنْ قَبْلِكُمْ، {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} أَيْ: فَانْظُرُوا مَاذَا حلَّ بِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَكُفْرِ النِّعَمِ.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) } .
__________
(1) في ت: "من".
(2) رواه أحمد في المسند (2/362) والنسائي في السنن (8/75) من حديث أبي هريرة، ولم يقع لي في سنن أبي داود.
(3) في ت، ف، أ: "حصول".
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في ت، أ: "الصحيحين".
(7) صحيح البخاري برقم (6512) .
(8) في ت: "وروى أنه".
(9) المسند (2/296) .(6/320)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ فِي طَاعَتِهِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا أَرَادَ كَوْنَهُ فَلَا رادَّ لَهُ، {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ، فَفَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} أَيْ: يُجَازِيهِمْ مُجَازَاةَ الْفَضْلِ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} ، وَمَعَ هَذَا هُوَ الْعَادِلُ فِيهِمْ، الَّذِي لَا يَجُورُ.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) } .
يَذْكُرُ تَعَالَى نعَمه عَلَى خَلْقِهِ، فِي إِرْسَالِهِ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، بِمَجِيءِ الْغَيْثِ (1) عَقِيبِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} أَيِ: الْمَطَرُ الَّذِي يُنْزِلُهُ فَيُحْيِيَ بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} أَيْ: فِي الْبَحْرِ، وَإِنَّمَا سَيَّرَهَا بِالرِّيحِ، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أَيْ: فِي التِّجَارَاتِ وَالْمَعَايِشِ، وَالسَّيْرِ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، وَقُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ: تَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى.
ثُمَّ قَالَ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} هَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (2) ، بِأَنَّهُ وَإِنْ كَذَّبَهُ كَثِيرٌ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنَ النَّاسِ، فَقَدْ كُذّبت الرُّسُلُ الْمُتَقَدِّمُونَ مَعَ مَا جَاءُوا أُمَمَهُمْ بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ انْتَقَمَ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ، وَأَنْجَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ، هُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، تَكَرُّمًا وَتَفَضُّلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الْأَنْعَامِ: 54] .
قَالَ (3) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَب (4) ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "ما
__________
(1) في ت، ف: "بمجيء المطر والغيث".
(2) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(3) في ت: "وروى".
(4) في ت: "بإسناده".(6/321)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَرُدُّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) .
{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) }
__________
(1) ورواه أحمد في المسند (6/448) من طريق إسماعيل، وابن أبي الدنيا في الغيبة والنميمة برقم (102) من طريق جرير كلاهما عَنْ لَيْثٍ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمٍ - بِهِ ولم يذكر الآية.(6/322)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) } .
يُبَيِّنُ تَعَالَى كَيْفَ يَخْلُقُ السَّحَابَ الَّتِي (1) يَنْزِلُ مِنْهَا الْمَاءُ (2) فَقَالَ: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} ، إِمَّا مِنَ الْبَحْرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، أَوْ مِمَّا يَشَاءُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} أَيْ: يَمُدّه فيكثّرهُ ويُنَمّيه، وَيَجْعَلُ مِنَ الْقَلِيلِ كَثِيرًا، يُنْشِئُ سَحَابَةً فَتُرَى فِي رَأْيِ الْعَيْنِ مِثْلَ التُّرْسِ، ثُمَّ يَبْسُطُهَا حَتَّى تَمْلَأَ أَرْجَاءَ الْأُفُقِ. وَتَارَةً يَأْتِي السَّحَابُ مِنْ نَحْوِ الْبَحْرِ ثِقَالًا مَمْلُوءَةً مَاءً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 57] ، وَكَذَلِكَ قَالَ هَاهُنَا: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} . قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَمَطَرٌ الوَرّاق، وَقَتَادَةُ: يَعْنِي قِطَعًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: مُتَرَاكِمًا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: أَسْوَدَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ، تَرَاهُ مُدْلَهِمًّا ثَقِيلًا قَرِيبًا مِنَ الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} أَيْ: فَتَرَى الْمَطَرَ -وَهُوَ الْقَطْرُ -يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ السَّحَابِ، {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أَيْ: لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ يَفْرَحُونَ بِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ وَوُصُولِهِ إِلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} ، مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَصَابَهُمْ هَذَا الْمَطَرُ كَانُوا قَنطين أَزِلِينَ مِنْ نُزُولِ الْمَطَرِ إِلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ، جَاءَهُمْ عَلَى فَاقَةٍ، فَوَقَعَ مِنْهُمْ مَوْقِعًا عَظِيمًا.
وقد اختلف النحاة في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} ، فقال ابن جرير: هو
__________
(1) في أ: "الذي".
(2) في ت: "المطر".(6/322)
تَأْكِيدٌ. وَحَكَاهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: [وَإِنْ كَانُوا] (1) مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرُ، {مِنْ قَبْلِهِ} أَيِ: الْإِنْزَالِ {لَمُبْلِسِينَ} .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ التَّأْسِيسِ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ قَبِلَ نُزُولِهِ، وَمِنْ قَبْلِهِ -أَيْضًا -قَدْ فَاتَ عِنْدَهُمْ نُزُولُهُ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، فَتَرَقَّبُوهُ فِي إِبَّانِهِ فَتَأَخَّرَ، فَمَضَتْ مُدَّةٌ فَتَرَقَّبُوهُ فَتَأَخَّرَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ بَغْتَةً بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْهُ وَالْقُنُوطِ، فَبَعْدَ مَا كَانَتْ أَرْضُهُمْ مُقَشْعَرَةً هَامِدَةً أَصْبَحَتْ وَقَدِ اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} يَعْنِي: الْمَطَرَ {كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} .
ثُمَّ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَفَرُّقِهَا وَتَمَزُّقِهَا، فَقَالَ: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} أَيْ: إِنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ لَقَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ، {إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} ، يَقُولُ {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا} يَابِسَةً عَلَى الزَّرْعِ الَّذِي زَرَعُوهُ، وَنَبَتَ وَشَبَّ وَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ، فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا، أَيْ: قَدِ اصْفَرَّ وَشَرَعَ فِي الْفَسَادِ، لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ: بَعْدَ هَذَا الْحَالِ يَكْفُرُونَ، أَيْ: يَجْحَدُونَ مَا تَقَدَّمَ [إِلَيْهِمْ] (2) مِنَ النِّعَمِ، كَمَا قَالَ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 63 -67] .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا محمد بن عيسى بن الطباع، حَدَّثَنَا هُشَيْم (3) ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ أَبِيهِ (4) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: الرِّيَاحُ ثَمَانِيَةٌ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا رَحْمَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ عَذَابٌ، فَأَمَّا الرَّحْمَةُ فَالنَّاشِرَاتُ وَالْمُبَشِّرَاتُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَالذَّارِيَاتُ. وَأَمَّا الْعَذَابُ فَالْعَقِيمُ وَالصَّرْصَرُ، وَهُمَا فِي الْبَرِّ، وَالْعَاصِفُ وَالْقَاصِفُ، وَهُمَا فِي الْبَحْرِ [فَإِذَا شَاءَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّكَهُ بِحَرَكَةِ الرَّحْمَةِ فَجَعَلَهُ رَخَاءً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رحْمته، وَلَاقِحًا لِلسَّحَابِ تُلَقِّحُهُ بِحَمْلِهِ الْمَاءَ، كَمَا يُلَقِّحُ الذَّكَرُ الْأُنْثَى بِالْحَمْلِ، وَإِنْ شَاءَ حَرَّكَهُ بِحَرَكَةِ الْعَذَابِ فَجَعَلَهُ عَقِيمًا، وَأَوْدَعَهُ عَذَابًا أَلِيمًا، وَجَعْلَهُ نِقْمَةً عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَيَجْعَلُهُ صَرْصَرًا وَعَاتِيًا وَمُفْسِدًا لِمَا يَمُرُّ عَلَيْهِ، وَالرِّيَاحُ مُخْتَلِفَةٌ فِي مَهَابِّهَا: صَبًا وَدَبُورٌ، وَجَنُوبٌ، وَشِمَالٌ، وَفِي مَنْفَعَتِهَا وَتَأْثِيرِهَا أَعْظَمَ اخْتِلَافِ، فَرِيحٌ لَيِّنَةٌ رَطْبَةٌ تُغَذِّي النَّبَاتَ وَأَبْدَانَ الْحَيَوَانِ، وَأُخْرَى تُجَفِّفُهُ، وَأُخْرَى تُهْلِكُهُ وَتُعْطِبُهُ، وَأُخْرَى تُسَيِّرُهُ وَتَصْلُبُهُ، وَأُخْرَى تُوهِنُهُ وَتُضْعِفُهُ] (5) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو (6) عبُيَد اللَّهِ ابْنِ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيْاش (7) ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصدَفي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرِّيحُ مُسَخَّرَةٌ مِنَ الثَّانِيَةِ -يَعْنِي الْأَرْضَ الثانية -فلما أراد الله أن يهلك عادا، أَمَرَ خَازِنَ الرِّيحِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا تُهْلِكُ عَادًا، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أُرْسِلُ عَلَيْهِمْ من الريح قدر منخر الثور. قال له الْجَبَّارُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لَا إِذًا تَكْفَأُ الْأَرْضَ وما عليها،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "هاشم".
(4) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(5) زيادة من ت.
(6) في أ: "ابن".
(7) في أ: "عباس".(6/323)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
وَلَكِنْ أَرْسِلْ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ خَاتَمٍ"، فَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} (1) [الذَّرِايَاتِ: 42] . هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) } .
يَقُولُ تَعَالَى: كَمَا أَنَّكَ لَيْسَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تُسْمِعَ الْأَمْوَاتَ فِي أَجْدَاثِهَا، وَلَا تُبْلِغَ (2) كلامَك الصُّمَّ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُدْبِرُون عَنْكَ، كَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ الْعُمْيَانِ عَنِ الْحَقِّ، وَرَدِّهِمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، بَلْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ بِقُدْرَتِهِ يُسْمِعُ الْأَمْوَاتَ أَصْوَاتَ الْأَحْيَاءِ إِذَا شَاءَ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أَيْ: خَاضِعُونَ مُسْتَجِيبُونَ مُطِيعُونَ، فَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ (3) الْحَقَّ وَيَتْبَعُونَهُ، وَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَوَّلُ مَثَلُ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الْأَنْعَامِ: 36] .
وَقَدِ اسْتَدَلَّتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بِهَذِهِ الْآيَةِ: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، عَلَى تَوْهِيمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ مُخَاطَبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَتْلَى الَّذِينَ أُلْقُوا فِي قَلِيب بَدْرٍ (4) ، بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمُعَاتَبَتَهُ إِيَّاهُمْ وَتَقْرِيعَهُ لَهُمْ، حَتَّى قَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُخَاطِبُ مِنْ قَوْمٍ قَدْ جَيَّفوا؟ فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ". وَتَأَوَّلَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّهُمُ الْآنَ لَيَعْلَمُونِ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ" (5) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى سَمِعُوا مَقَالَتَهُ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَنِقْمَةً.
__________
(1) سيأتي تخريج الحديث عند تفسير الآية: 42 من سورة الذاريات.
(2) في ت: "ولا يبلغ".
(3) في ت: "يسمعون".
(4) في ت، أ: "في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب القتلى الذين ألقوا في القليب، قليب بدر".
(5) قال الإمام الزركشي رحمه الله في كتابه "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" ص (121) : "أخرج البخاري عن ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقا" ثم قال: "إنهم الآن يسمعون ما أقول"، فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق". قال السهيلي في الروض: "وعائشة لم تحضر، وغيرها ممن حضر أحفظ للفظه صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا له: يا رسول الله، أتخاطب قوما قد جيفوا أو أجيفوا؟ فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال عالمين، جاز أن يكونوا سامعين، إما بآذان رؤوسهم، إذا قلنا: إن الروح تعاد إلى الجسد أو إلى بعضه عند المسألة. وهو قول جمهور أهل السنة، وإما بأذن القلب أو الروح على مذهب مَنْ يقول بتوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد أو إلى بعضه. قال: وقد روي أن عائشة احتجت بقوله تعالى: (وما أنت بمسمع من في القبور) وهذه الآية كقوله: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) أي: إن الله هو الذي يهدي ويوفق ويدخل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت، وجعل الكفار أمواتًا وصمًا على جهة التشبيه بالأموات وبالصم، فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء، فلا تعلق لها في الآية لوجهين: أحدهما: أنها إنما نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان، الثاني: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم، وصدق الله، فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو".(6/324)
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ، لِمَا لَهَا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى صِحَّتِهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَشْهَرِ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مُصَحِّحًا [لَهُ] (1) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا، فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ، حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ" (2) .
[وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الْمُشَيِّعِينَ لَهُ، إِذَا انْصَرَفُوا عَنْهُ، وَقَدْ شَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ سَلَامَ مَنْ يُخَاطِبُونَهُ فَيَقُولُ الْمُسْلِمُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ، وَلَوْلَا هَذَا الْخِطَابُ لَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ خِطَابِ الْمَعْدُومِ وَالْجَمَادِ، وَالسَّلَفُ مُجْمِعُونَ عَلَى هَذَا، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْآثَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِفُ بِزِيَارَةِ الْحَيِّ لَهُ وَيَسْتَبْشِرُ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْقُبُورِ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخِيهِ وَيَجْلِسُ عِنْدَهُ، إِلَّا اسْتَأْنَسَ بِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ".
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِذَا مَرَّ رَجُلٌ بِقَبْرٍ يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ عَاصِمٍ الجَحْدَرِي قَالَ: رَأَيْتُ عَاصِمًا الْجَحْدَرَيَّ فِي مَنَامِي بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَنَتَيْنِ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ مِتَّ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَأَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا -وَاللَّهِ -فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَنَا وَنَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِي نَجْتَمِعُ كُلَّ لَيْلَةِ جُمْعَةٍ وَصَبِيحَتِهَا إِلَى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، فَنَتَلَقَّى أَخْبَارَكُمْ. قَالَ: قُلْتُ: أَجْسَامُكُمْ أَمْ أَرْوَاحُكُمْ؟ قَالَ: هَيْهَاتَ! قَدْ بَلِيَتِ الْأَجْسَامُ، وَإِنَّمَا تَتَلَاقَى الْأَرْوَاحُ، قَالَ: قُلْتُ: فَهَلْ تَعْلَمُونَ بِزِيَارَتِنَا إِيَّاكُمْ؟ قَالَ: نَعْلَمُ بِهَا عَشِيَّةَ الْجُمْعَةِ وَيَوْمَ الْجُمْعَةِ كُلَّهُ وَيَوْمَ السَّبْتِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، قَالَ: قُلْتُ: فَكَيْفَ ذَلِكَ دُونَ الْأَيَّامِ كُلِّهَا؟ قَالَ: لِفَضْلِ يَوْمِ الْجُمْعَةِ وَعَظْمَتِهِ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثَنَا بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا حَسَنٌ الْقَصَّابُ قَالَ: كُنْتُ أَغْدُو مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسْعٍ فِي كُلِّ غَدَاةِ سَبْتٍ حَتَّى نَأْتِيَ أَهْلَ الْجَبَّانِ، فَنَقِفُ عَلَى الْقُبُورِ فَنُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَنَدْعُو لَهُمْ ثُمَّ نَنْصَرِفُ، فَقُلْتُ ذَاتَ يَوْمٍ: لَوْ صَيَّرْتُ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْمَوْتَى يَعْلَمُونَ بِزُوَّارِهِمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَيَوْمًا قَبْلَهَا وَيَوْمًا بَعْدَهَا. قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدٌ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبَانٍ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: بَلَغَنِي عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ زَارَ قَبْرًا يَوْمَ السَّبْتِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلِمَ الْمَيِّتُ بِزِيَارَتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِمَكَانِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاش، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي التَّيَّاح يَقُولُ: كَانَ مُطَرَّف يَغْدُو، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ أَدْلَجَ. قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا الْتَّيَّاحِ يَقُولُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ بِغَوْطَةٍ، فَأَقْبَلَ لَيْلَةً حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَقَابِرِ يَقُومُ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، فَرَأَى أَهْلَ الْقُبُورِ كُلَّ صَاحِبِ قَبْرٍ جَالِسًا عَلَى قَبْرِهِ، فَقَالُوا: هَذَا مُطَرِّفٌ يَأْتِي الْجُمْعَةِ وَيُصَلُّونَ عِنْدَكُمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَنَعْلَمُ مَا يَقُولُ فِيهِ الطَّيْرُ. قُلْتُ: وَمَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ؛ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بَكْرٍ،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) الاستذكار لابن عبد البر من طريق بشر بن بكير، عن الأوزاعي، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابن عباس، مرفوعا. ولفظه: "ما من أحد مر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام".(6/325)
ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْمُوَفَّقِ ابْنُ خَالِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبِي جَزِعْتُ عَلَيْهِ جَزَعًا شَدِيدًا، فَكُنْتُ آتِي قَبْرَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، ثُمَّ قَصَّرْتُ عَنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنِّي أَتَيْتُهُ يَوْمًا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ الْقَبْرِ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ قَبْرَ أَبِي قَدِ انْفَرَجَ، وَكَأَنَّهُ قَاعِدٌ فِي قَبْرِهِ مُتَوَشِّحٌ أَكْفَانَهُ، عَلَيْهِ سِحْنَة الْمَوْتَى، قَالَ: فَكَأَنِّي بَكَيْتُ لَمَّا رَأَيْتُهُ. قَالَ: يَا بُنَيَّ، مَا أَبْطَأَ بِكَ عَنِّي؟ قُلْتُ: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ بِمَجِيئِي؟ قَالَ: مَا جِئْتَ مَرَّةً إِلَّا عَلِمْتُهَا، وَقَدْ كُنْتَ تَأْتِينِي فَأُسَرُّ بِكَ وَيُسَرُّ مِنْ حَوْلِي بِدُعَائِكَ، قَالَ: فَكُنْتُ آتِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرًا.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بَسْطام، ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سُوَيْد الطُّفَاوي قَالَ: وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنَ الْعَابِدَاتِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا: رَاهِبَةٌ، قَالَ: لَمَّا احْتَضَرَتْ رَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَتْ: يَا ذُخْرِي وَذَخِيرَتِي مَنْ عَلَيْهِ اعْتِمَادِي فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَوْتِي، لَا تَخْذُلْنِي عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا تُوحِشْنِي. قَالَ: فَمَاتَتْ. فَكُنْتُ آتِيهَا فِي كُلِّ جُمْعَةٍ فَأَدْعُو لَهَا وَأَسْتَغْفِرُ لَهَا وَلِأَهْلِ الْقُبُورِ، فَرَأَيْتُهَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَنَامِي، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمِّي، كَيْفَ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَيْ: بُنِيَّ، إِنَّ لِلْمَوْتِ لَكُرْبَةً شَدِيدَةً، وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَفِي بَرْزَخٍ مَحْمُودٍ يُفْرَشُ فِيهِ الرَّيْحَانُ، وَنَتَوَسَّدُ السُّنْدُسَ وَالْإِسْتَبْرَقَ إِلَى يَوْمِ النُّشُورِ، فَقُلْتُ لَهَا: أَلِكِ حَاجَةٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَتْ: لَا تَدَعْ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ مِنْ زِيَارَاتِنَا وَالدُّعَاءِ لَنَا، فَإِنِّي لَأُبَشَّرُ بِمَجِيئِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ إِذَا أَقْبَلْتَ مِنْ أَهْلِكَ، يُقَالُ لِي: يَا رَاهِبَةُ، هَذَا ابْنُكِ، قَدْ أَقْبَلَ، فَأُسَرَّ وَيُسَرُّ بِذَلِكَ مَنْ حَوْلِي مِنَ الْأَمْوَاتِ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ زَمَنُ الطَّاعُونِ كَانَ رَجُلٌ يَخْتَلِفُ إِلَى الْجَبَّانِ، فَيَشْهَدُ الصَّلَاةَ عَلَى الْجَنَائِزِ، فَإِذَا أَمْسَى وَقَفَ عَلَى الْمَقَابِرِ فَقَالَ: آنَسَ اللَّهُ وَحْشَتَكُمْ، وَرَحِمَ غُرْبَتَكُمْ، وَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِكُمْ، وَقَبِلَ حَسَنَاتِكُمْ، لَا يَزِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، قَالَ: فَأَمْسَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَانْصَرَفْتُ إِلَى أَهْلِي وَلَمْ آتِ الْمَقَابِرَ فَأَدْعُو كَمَا كُنْتُ أَدْعُو، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذَا بِخَلْقٍ قَدْ جَاءُونِي، فَقُلْتُ: مَا أَنْتُمْ وَمَا حَاجَتُكُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الْمَقَابِرِ، قُلْتُ: مَا حَاجَتُكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّكَ عَوَّدْتَنَا مِنْكَ هَدِيَّةً عِنْدَ انْصِرَافِكَ إِلَى أَهْلِكَ، قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالُوا: الدَّعَوَاتُ الَّتِي كُنْتَ تَدْعُو بِهَا، قَالَ: قُلْتُ فَإِنِّي أَعُودُ لِذَلِكَ، قَالَ: فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ.
وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَعْلَمُ بِعَمَلِ الْحَيِّ مِنْ أَقَارِبِهِ وَإِخْوَانِهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: تُعْرَضُ أَعْمَالُ الْأَحْيَاءِ عَلَى الْمَوْتَى، فَإِذَا رَأَوْا حَسَنًا فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا وَإِنْ رَأَوْا سُوءًا قَالُوا: اللَّهُمَّ رَاجِعْ بِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحُوَارَى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدٌ أَخِي قَالَ: دَخَلَ عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ صَالِحٍ وَهُوَ عَلَى فِلَسْطِينَ فَقَالَ: عِظْنِي، قَالَ: بِمَ أَعِظُكَ، أَصْلَحَكَ اللَّهُ؟ بَلَغَنِي أَنَّ أَعْمَالَ الْأَحْيَاءِ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِهِمْ مِنَ الْمَوْتَى، فَانْظُرْ مَا يُعْرَضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَمَلِكَ، فَبَكَى إِبْرَاهِيمُ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ. قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثَنَا خَالِدُ بْنُ عَمْرٍو الْأُمَوِيُّ، ثَنَا صَدَقَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجَعْفَرِيُّ قَالَ: كَانَتْ لِي شِرَّة سَمِجَة، فَمَاتَ أَبِي فَتُبْتُ وَنَدِمْتُ عَلَى مَا فَرَّطْتُ، ثُمَّ زَلَلْتُ أَيُّمَا زَلَّةٍ، فَرَأَيْتُ أَبِي فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، مَا كَانَ أَشَدَّ فَرَحِي بِكَ(6/326)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
وَأَعْمَالُكَ تُعْرَضُ عَلَيْنَا، فَنُشَبِّهُهَا بِأَعْمَالِ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَرَّةُ اسْتَحْيَيْتُ لِذَلِكَ حَيَاءً شَدِيدًا، فَلَا تُخْزِنِي فِيمَنْ حَوْلِي مِنَ الْأَمْوَاتِ، قَالَ: فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ فِي السَّحَرِ، وَكَانَ جَارًا لِي بِالْكُوفَةِ: أَسْأَلُكَ إِيَابَةً لَا رَجْعَةَ فِيهَا وَلَا حَوْرَ، يَا مُصْلِحَ الصَّالِحِينَ، وَيَا هَادِيَ الْمُضِلِّينَ، وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وَهَذَا بَابٌ فِيهِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَكَانَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ مِنْ أَقَارِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَمَلٍ أَخْزَى بِهِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اسْتُشْهِدَ عَبْدُ اللَّهِ.
وَقَدْ شُرِعَ السَّلَامُ عَلَى الْمَوْتَى، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْعُرْ وَلَا يَعْلَمُ بِالْمُسْلِمِ مُحَالٌ، وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ إِذَا رَأَوُا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: "سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ"، فَهَذَا السَّلَامُ وَالْخِطَابُ وَالنِّدَاءُ لِمَوْجُودٍ يَسْمَعُ وَيُخَاطِبُ وَيَعْقِلُ وَيَرُدُّ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ الْمُسْلِمُ الرَّدَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (1) .
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) } .
يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى تَنَقُّلِ الْإِنْسَانِ فِي أَطْوَارِ الْخَلْقِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَأَصْلُهُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، ثُمَّ يَصِيرُ عِظَامًا ثُمَّ يُكسَى لَحْمًا، ويُنفَخ فِيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ ضَعِيفًا نَحِيفًا وَاهِنَ الْقُوَى. ثُمَّ يَشِبُّ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَكُونَ صَغِيرًا، ثُمَّ حَدَثا، ثُمَّ مُرَاهِقًا، ثُمَّ شَابًّا. وَهُوَ الْقُوَّةُ بَعْدَ الضَّعْفِ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ فَيَكْتَهِلُ (2) ، ثُمَّ يَشِيخُ ثُمَّ يَهْرَمُ، وَهُوَ الضَّعْفُ بَعْدَ الْقُوَّةِ. فَتَضْعُفُ الْهِمَّةُ وَالْحَرَكَةُ وَالْبَطْشُ، وَتَشِيبُ اللّمَّة، وَتَتَغَيَّرُ الصِّفَاتُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أَيْ: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَتَصَرَّفُ فِي عَبِيدِهِ بِمَا يُرِيدُ، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ فُضَيْلٍ وَيَزِيدَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ (3) ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا} (4) ، فَقَالَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا} ، ثُمَّ قَالَ: قرأتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأْتَ عَلَيَّ، فَأَخَذَ عَلَيَّ كَمَا أخذتُ عَلَيْكَ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ -وحَسَّنه -مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلٍ، بِهِ (5) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سعيد، بنحوه (6) .
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) في ت، ف، أ: "فيتكهل".
(3) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(4) في أ: "ضعفا وشيبة".
(5) المسند (2/58) وسنن أبي داود برقم (3978) وسنن الترمذي برقم (2936) .
(6) سنن أبي داود برقم (3979) .(6/327)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَفِي الدُّنْيَا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَكُونُ مِنْهُمْ جَهْلٌ عَظِيمٌ أَيْضًا، فَمِنْهُ إِقْسَامُهُمْ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ مَا لَبِثُوا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَاعَةً وَاحِدَةً، وَمَقْصُودُهُمْ هُمْ بِذَلِكَ عَدَمُ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُنْظَروا حَتَّى يُعذَر إِلَيْهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَانٌوا يُؤْفَكُون. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} أَيْ: فَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَقَامُوا عَلَيْهِمْ حُجَّةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُونَ لَهُمْ حِينَ يَحْلِفُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ: فِي كِتَابِ الْأَعْمَالِ، {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} أَيْ: مِنْ يَوْمِ خُلِقْتُمْ إِلَى أَنْ بُعِثْتُمْ، {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} أَيْ: [لَا يَنْفَعُهُمْ] (1) اعْتِذَارُهُمْ عَمَّا فَعَلُوا، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أَيْ: وَلَا هُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فُصِّلَتْ: 24] .
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أَيْ: قَدْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْحَقَّ، وَوَضَّحْنَاهُ لَهُمْ، وَضَرَبْنَا لَهُمْ فِيهِ الْأَمْثَالَ لِيَتَبَيَّنُوا الْحَقَّ وَيَتَّبِعُوهُ. {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ} أَيْ: لَوْ رَأَوْا أَيَّ آيَةٍ كَانَتْ، سَوَاءً كَانَتْ بِاقْتِرَاحِهِمْ أَوْ غَيْرِهِ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا سِحْرٌ وَبَاطِلٌ، كَمَا قَالُوا فِي انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنَحْوِهِ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (2) تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ: 96، 97] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أَيِ: اصْبِرْ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ مِنْ نَصْرِهِ إِيَّاكَ، وَجَعْلِهِ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} أَيْ: بَلِ اثْبُتْ عَلَى مَا بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ، فَإِنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا تَعْدِلْ عَنْهُ وَلَيْسَ فِيمَا سِوَاهُ هُدَى يُتَّبَعُ، بَلِ الْحَقُّ كُلُّهُ مُنْحَصِرٌ فِيهِ.
قَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: نَادَى رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ -صلاة
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.(6/328)
الْغَدَاةِ -فَقَالَ: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزُّمَرِ: 65] ، فَأَنْصَتَ لَهُ عَلِيٌّ حَتَّى فَهِمَ مَا قَالَ، فَأَجَابَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} . رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيك، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي زُرْعَة، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: نَادَى رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ عَلِيًّا وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَالَ: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (1) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْد، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ ظَبْيان، عَنْ أَبِي تَحْيَا قَالَ: صَلَّى عَلِيٌّ (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ (3) ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} .
[مَا رُوِيَ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ، وَاسْتِحْبَابِ قِرَاءَتِهَا فِي الْفَجْرِ] (4) :
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، سمعت شبيب -أَبَا رَوْحٍ -يحدِّث عَنْ رَجُلٍ (5) مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِيهَا الرُّومُ فَأُوهِمَ، فَقَالَ: "إِنَّهُ يُلَبَّسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ، فَإِنَّ أَقْوَامًا مِنْكُمْ يُصَلُّونَ مَعَنَا لَا يُحْسِنُونَ الْوُضُوءَ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ" (6) .
وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَمَتْنٌ حَسَنٌ (7) وَفِيهِ سِرٌّ عَجِيبٌ، وَنَبَأٌ غَرِيبٌ، وَهُوَ أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (8) تَأَثَّرَ بِنُقْصَانِ وُضُوءِ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُتَعَلِّقَةٌ (9) بِصَلَاةِ الْإِمَامِ.
[آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الرُّومِ"] (10) . _
__________
(1) تفسير الطبري (21/38) .
(2) في ف، أ: "علي بن أبي طالب".
(3) في ف، أ: "علي بن أبي طالب".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن رجل".
(6) المسند (3/471) .
(7) في ت: "إسناده حسن ومتنه حسن".
(8) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(9) في هـ: "معدوقة".
(10) زيادة من ت.(6/329)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
تَفْسِيرُ سُورَةِ لُقْمَانَ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{أَلَمْ (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) } .
تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" عَامَّةُ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِصَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْقُرْآنَ هُدًى وَشِفَاءً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ، فَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بِحُدُودِهَا وَأَوْقَاتِهَا، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ نَوَافِلَ رَاتِبَةٍ وَغَيْرِ رَاتِبَةٍ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَوَصَلُوا قُرَابَاتِهُمْ وَأَرْحَامَهُمْ، وَأَيْقَنُوا بِالْجَزَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَرَغِبُوا إلى الله في ثواب ذلك، لم يراؤوا بِهِ وَلَا أَرَادُوا جَزَاءً مِنَ النَّاسِ وَلَا شَكُورًا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أَيْ: عَلَى بَصِيرَةٍ وَبَيِّنَةٍ وَمَنْهَجٍ وَاضِحٍ وَجَلِيٍّ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) } .
لَمَّا ذَكَّرَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَنْتَفِعُونَ بِسَمَاعِهِ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (1) تَعَالَى: {اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزُّمَرِ: 23] ، عَطَفَ بِذِكْرِ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ، الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى اسْتِمَاعِ الْمَزَامِيرِ وَالْغَنَاءِ بِالْأَلْحَانِ وَآلَاتِ الطَّرَبِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قَالَ: هُوَ -وَاللَّهِ-الْغِنَاءُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْبَكْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ -وَهُوَ يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} -فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: الْغِنَاءُ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إلا هو، يرددها (2) ثلاث مرات (3) .
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "فرددها".
(3) تفسير الطبري (21/39) .(6/330)
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا حُمَيْد الْخَرَّاطُ، عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قَالَ: الْغِنَاءُ (1) .
وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وعِكْرِمة، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَمُجَاهِدٌ، وَمَكْحُولٌ، وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ بَذيمة.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أُنْزِلَتْ هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فِي الْغِنَاءِ وَالْمَزَامِيرِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} : وَاللَّهِ لَعَلَّهُ لَا يُنْفِقُ فِيهِ مَالًا ولكنْ شِرَاؤُهُ اسْتِحْبَابُهُ، بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الضَّلَالَةِ أَنْ يختارَ حديثَ الْبَاطِلِ عَلَى حَدِيثِ الْحَقِّ، وَمَا يَضُرُّ عَلَى مَا يَنْفَعُ.
وَقِيلَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: {يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} : اشْتِرَاءَ الْمُغَنِّيَاتِ مِنَ الْجَوَارِي.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الأحْمَسي: حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ خَلاد الصَّفَّارِ، عَنْ عُبَيْد اللَّهِ بْنِ زَحْر، عَنْ عَلِيِّ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (2) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحُلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ وَلَا شِرَاؤُهُنَّ، وَأَكْلُ أَثْمَانِهِنَّ حَرَامٌ، وَفِيهِنَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} .
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ عُبَيد اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ بِنَحْوِهِ (3) ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وضَعُفَ (4) عَلِيَّ بْنَ يَزِيدَ الْمَذْكُورَ.
قُلْتُ: عَلِيٌّ، وَشَيْخُهُ، وَالرَّاوِي عَنْهُ، كُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} يَعْنِي: الشِّرْكُ. وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ؛ وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ كُلُّ كَلَامٍ يَصُدُّ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِهِ.
وَقَوْلُهُ: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ: إِنَّمَا يَصْنَعُ هَذَا لِلتَّخَالُفِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الْيَاءِ، تَكُونُ اللَّامُ لَامَ الْعَاقِبَةِ، أَوْ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ الْقَدَرِيِّ، أَيْ: قُيضوا لِذَلِكَ لِيَكُونُوا كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: وَيَتَّخِذُ سَبِيلَ اللَّهِ هُزُوًا، يَسْتَهْزِئُ بِهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: وَيَتَّخِذُ آيَاتِ اللَّهِ هَزُّوا. وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أَيْ: كَمَا اسْتَهَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَسَبِيلِهِ، أُهِينُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَذَابِ الدَّائِمِ المستمر.
__________
(1) تفسير الطبري (21/39) .
(2) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(3) سنن الترمذي برقم (3195) وتفسير الطبري (21/40) .
(4) في ت: "وفي إسناده"(6/331)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} أَيْ: هَذَا الْمُقْبِلُ عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالطَّرَبِ، إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَلَّى عَنْهَا وَأَعْرَضَ وَأَدْبَرَ وتَصَامّ وَمَا بِهِ مِنْ صَمَم، كَأَنَّهُ مَا يَسْمَعُهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَأَذَّى بِسَمَاعِهَا، إِذْ لَا انْتِفَاعَ لَهُ بِهَا، وَلَا أرَبَ لَهُ فِيهَا، {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْلِمُهُ، كَمَا تَأَلَّمَ بِسَمَاعِ كِتَابِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) } .
هَذَا ذِكْرُ مَآلِ الْأَبْرَارِ مِنَ السُّعَدَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وصَدّقوا الْمُرْسَلِينَ، وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الْمُتَابِعَةِ (1) لِشَرِيعَةِ اللَّهِ {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} أَيْ: يَتَنَعَّمُونَ فِيهَا بِأَنْوَاعِ الْمَلَاذِّ وَالْمَسَارِّ، مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمُشَارِبِ، وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَالْمَرَاكِبِ وَالنِّسَاءِ، وَالنَّضْرَةِ وَالسَّمَاعِ الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُقِيمُونَ دَائِمًا فِيهَا، لَا يَظْعَنُونَ، وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا.
وَقَوْلُهُ: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} أَيْ: هَذَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ؛ لِأَنَّهُ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ، الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} ،الَّذِي قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، {الْحَكِيمُ} ،فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، الَّذِي جَعَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فُصِّلَتْ: 44] ، {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الْإِسْرَاءِ: 82] .
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) } .
يُبَيِّنُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا قدرته العظيمة على خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} ، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَيْسَ لَهَا عَمَد مَرْئِيَّةٌ وَلَا غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعكْرِمة، وَمُجَاهِدٌ: لَهَا عُمُدٌ لَا تَرَوْنَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الرَّعْدِ" بِمَا أَغْنَى (2) عَنْ إِعَادَتِهِ.
{وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ} يَعْنِي: الْجِبَالُ أَرْسَتِ الْأَرْضَ وَثَقَّلَتْهَا لِئَلَّا تَضْطَرِبُ بِأَهْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ؛ ولهذا قال: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أي: لئلا تميد بكم.
وقوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أَيْ: وَذَرَأَ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْحَيَوَانَاتِ مِمَّا لَا يَعْلَمُ عدد أشكالها
__________
(1) في ف: "التابعة" وفي أ "المتتابعة".
(2) في ت: "بما يغني".(6/332)
وَأَلْوَانِهَا إِلَّا الَّذِي خَلَقَهَا.
وَلَمَّا قَرَّرَ أَنَّهُ الْخَالِقُ نَبَّهْ عَلَى أَنَّهُ الرَّازِقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أَيْ: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ مِنَ النَّبَاتِ كَرِيمٍ، أَيْ: حَسَنِ الْمَنْظَرِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: وَالنَّاسُ -أَيْضًا -مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ كَرِيمٌ، ومَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ لَئِيمٌ.
وَقَوْلُهُ: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أَيْ: هذا الذي ذكره تعالى من خلق السموات، وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، صَادِرٌ عَنْ فِعْلِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أَيْ: مِمَّا تَعْبُدُونَ وَتَدْعُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، {بَلِ الظَّالِمُونَ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ {فِي ضَلالٍ} أَيْ: جَهْلٍ وَعَمًى، {مُبِينٍ} أَيْ: وَاضِحٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ به.(6/333)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) } .
اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي لُقْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَلْ كَانَ نَبِيًّا، أَوْ عَبْدًا صَالِحًا مِنْ غَيْرِ نُبُوَّةٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، الْأَكْثَرُونَ عَلَى الثَّانِي.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ عِكْرِمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا انْتَهَى إِلَيْكُمْ مِنْ شَأْنِ لُقْمَانَ؟ قَالَ: كَانَ قَصِيرًا أَفْطَسَ مِنَ النُّوبَةِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ مِنْ سُودَانِ مِصْرَ، ذَا مَشَافِرَ، أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ وَمَنَعَهُ النُّبُوَّةَ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلة قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا تَحْزَنْ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ أَسْوَدَ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَخْيَرِ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ مِنَ السُّودَانِ: بِلَالٌ، ومهْجَع مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلُقْمَانُ الْحَكِيمُ، كَانَ أَسْوَدَ نُوبِيًّا ذَا مَشَافِرَ (1) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ (2) ، عَنْ خَالِدٍ الرَّبَعِيّ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: اذْبَحْ لَنَا هَذِهِ الشَّاةِ. فَذَبَحَهَا، فَقَالَ: أخْرجْ أَطْيَبَ مُضغتين فِيهَا. فَأَخْرَجَ اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: اذْبَحْ لَنَا هَذِهِ الشَّاةَ. فَذَبَحَهَا، فَقَالَ: أَخْرِجْ أَخْبَثَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا. فَأَخْرَجَ اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: أَمَرْتُكَ أَنْ تخرج أطيب
__________
(1) تفسير الطبري (21/43) .
(2) في أ: "الأشعث".(6/333)
مُضْغَتَيْنِ فِيهَا فَأَخْرَجْتَهُمَا، وَأَمَرْتُكَ أَنْ تُخْرِجَ أَخْبَثَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا فَأَخْرَجْتَهُمَا. فَقَالَ لُقْمَانُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ أَطْيَبَ مِنْهُمَا إِذَا طَابَا، وَلَا أَخْبَثَ مِنْهُمَا إِذَا خَبُثا (1) .
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا صَالِحًا، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا أَسْوَدَ عَظِيمَ الشَّفَتَيْنِ، مُشَقَّقَ الْقَدَمَيْنِ.
وَقَالَ حَكَّام بْنُ سَلْم، عَنْ سَعِيدِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ عَبْدًا حَبَشِيًّا غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ، مُصَفح الْقَدَمَيْنِ، قَاضِيًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ: أَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ (2) دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيد، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَبْدًا أَسْوَدَ غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ، مُصَفَّح الْقَدَمَيْنِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ أُنَاسٍ يُحَدِّثُهُمْ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى مَعِي الْغَنَمَ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَالصَّمْتُ عَمَّا لَا يَعْنِينِي (3) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا (4) عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ (5) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ بِحِكْمَتِهِ، فَرَآهُ رَجُلٌ كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى بِالْأَمْسِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: قَدَرُ اللَّهِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ، وَتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي.
فَهَذِهِ الْآثَارُ مِنْهَا مَا هُوَ مُصرَّح فِيهِ بِنَفْيِ كَوْنِهِ نَبِيًّا، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُشْعِرٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ عَبْدًا قَدْ مَسَّه الرِّقُّ يُنَافِي كَوْنَهُ نَبِيًّا؛ لِأَنَّ الرُّسُلَ كَانَتْ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا؛ وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَإِنَّمَا يُنْقَلُ كَوْنُهُ نَبِيًّا عَنْ عِكْرِمَةَ -إِنْ صَحَّ السَّنَدُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ وَكِيع (6) عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فَقَالَ: كَانَ لُقْمَانُ نَبِيًّا. وَجَابِرٌ هَذَا هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ (7) أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ القتْبَاني، عَنْ عُمَر مَوْلَى غُفرَة قَالَ: وَقَفَ رَجُلٌ عَلَى لُقْمَانَ الْحَكِيمَ فَقَالَ: أَنْتَ لُقْمَانُ، أَنْتَ عَبْدُ بَنِي الْحِسْحَاسِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنْتَ رَاعِي الْغَنَمِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنْتَ الْأَسْوَدُ؟ قَالَ: أَمَا سَوَادِي فَظَاهِرٌ، فَمَا الَّذِي يُعْجِبُكَ مِنْ أَمْرِي؟ قَالَ: وَطءْ النَّاسِ بسَاطك، وغَشْيُهم بَابَكَ، وَرِضَاهُمْ بِقَوْلِكَ. قَالَ: يَا بْنَ أَخِي (8) إِنْ صَغَيتَ (9) إِلَى مَا أَقُولُ لَكَ كُنْتَ كَذَلِكَ. قَالَ لُقْمَانُ: غَضِّي بَصَرِي، وَكَفِّي لِسَانِي، وَعِفَّةُ طُعْمَتِي، وَحِفْظِي فَرَجِي، وَقَوْلِي بِصِدْقٍ، وَوَفَائِي بِعَهْدِي، وَتَكْرِمَتِي ضَيْفِي، وَحِفْظِي جَارِي، وَتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي، فَذَاكَ الَّذِي صَيَّرَنِي إِلَى مَا (10) تَرَى.
__________
(1) تفسير الطبري (21/43) .
(2) في أ: "زمان".
(3) تفسير الطبري (21/44) .
(4) في أ: "بن".
(5) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(6) في ت: "عن وكيع".
(7) في ت: "فالله".
(8) في ف، أ: "أبي".
(9) في ف، أ: "إن صنعت".
(10) في ت، ف، أ: "كما".(6/334)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيل، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ رَبَاح، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ (1) أَبِي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا -وذُكرَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ -فَقَالَ: مَا أُوتِيَ مَا أُوتِيَ عَنْ أَهْلٍ وَلَا مَالٍ، وَلَا حَسَبٍ وَلَا خِصَالٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ رِجْلًا صَمْصَامة سِكِّيتًا، طَوِيلَ التَّفَكُّرِ، عَمِيقَ النَّظَرِ، لَمْ يَنَمْ نَهَارًا قَطُّ، وَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ يَبْزُقُ وَلَا يتنخَّع، وَلَا يَبُولُ وَلَا يَتَغَوَّطُ، وَلَا يَغْتَسِلُ، وَلَا يَعْبَثُ وَلَا يَضْحَكُ، وَكَانَ لَا يُعِيدُ مَنْطِقًا نَطَقَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ حِكْمَةً يَسْتَعِيدُهَا إِيَّاهُ أَحَدٌ، وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ وَوُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ، فَمَاتُوا فَلَمْ يَبْكِ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ يَغْشَى السُّلْطَانَ، وَيَأْتِي الْحُكَّامَ، لِيَنْظُرَ وَيَتَفَكَّرَ وَيَعْتَبِرَ (2) ،فَبِذَلِكَ أُوتِيَ مَا أُوتِيَ.
وَقَدْ وَرَدَ أَثَرٌ غَرِيبٌ عَنْ قَتَادَةَ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: خَيّر اللَّهُ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ. قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ فَذرَّ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ -أَوْ: رَشَّ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ -قَالَ: فَأَصْبَحَ يَنْطِقُ بِهَا.
قَالَ سَعِيدٌ: فَسَمِعْتُ عَنْ قَتَادَةَ يَقُولُ: قِيلَ لِلُقْمَانَ: كَيْفَ اخْتَرْتَ الْحِكْمَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ وَقَدْ خَيَّرك رَبُّكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ إليَّ بِالنُّبُوَّةِ عَزْمَة لَرَجَوْتُ فِيهِ الْفَوْزَ مِنْهُ، وَلَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَقُومَ بِهَا، وَلَكِنَّهُ خَيّرني فَخِفْتُ أَنْ أَضْعُفَ عَنِ النُّبُوَّةِ، فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ أَحَبَّ إليَّ.
فَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، وَفِيهِ ضَعْفٌ قَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ بِسَبَبِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالَّذِي رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أَيِ: الْفِقْهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أَيِ: الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَالتَّعْبِيرَ، {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} أَيْ: أَمَرْنَاهُ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى مَا أَتَاهُ اللَّهُ وَمَنَحَهُ وَوَهَبَهُ مِنَ الْفَضْلِ، الَّذِي خصَّه (3) بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَأَهْلِ زَمَانِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أَيْ: إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ وَثَوَابُهُ عَلَى الشَّاكِرِينَ (4) لِقَوْلِهِ (5) تَعَالَى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الرُّومِ: 44] .
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أَيْ: غَنِيٌّ عَنِ الْعِبَادِ، لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَفَرَ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ الْغَنِيُّ عَمَّنْ سِوَاهُ؛ فَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، ولا نعبد إلا إياه.
__________
(1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى".
(2) في ت: "ويعتب".
(3) في أ: "خصصه".
(4) في ت، ف: "الشاكر".
(5) في ف: "كقوله".(6/335)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لِوَلَدِهِ -وَهُوَ: لُقْمَانُ بْنُ عَنْقَاءَ بْنِ سَدُونَ. وَاسْمُ ابْنِهِ: ثَارَانُ فِي قَوْلٍ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ. وَقَدْ ذَكَرَهُ [اللَّهُ] (1) تَعَالَى بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، فَإِنَّهُ آتَاهُ الْحِكْمَةَ، وَهُوَ يُوصِي وَلَدَهُ الَّذِي هُوَ أُشْفِقُ النَّاسِ عَلَيْهِ وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَمْنَحَهُ أَفْضَلَ مَا يُعْرَفُ؛ وَلِهَذَا أَوْصَاهُ أَوَّلًا بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ مُحَذِّرًا لَهُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أَيْ: هُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ (2) ،عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الْأَنْعَامِ: 82] ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبس إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنه لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَا (3) تَسْمَعَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، بِهِ (4) .
ثُمَّ قَرَنَ بِوَصِيَّتِهِ إِيَّاهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ الْبَرَّ بِالْوَالِدَيْنِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الْإِسْرَاءِ: 23] . وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَالَ هَاهُنَا {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} . قَالَ مُجَاهِدٌ: مَشَقَّةُ وَهْن الْوَلَدِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: جُهْدًا عَلَى جُهْدٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أَيْ: تَرْبِيَتُهُ وَإِرْضَاعُهُ بَعْدَ وَضْعِهِ فِي عَامَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [الْبَقَرَةِ: 233] .
وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَنْبَطَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الْأَحْقَافِ: 15] .
وَإِنَّمَا يَذْكُرُ تَعَالَى تربيةَ الْوَالِدَةِ وَتَعَبَهَا وَمَشَقَّتَهَا فِي سَهَرِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، ليُذكّر الْوَلَدَ بِإِحْسَانِهَا الْمُتَقَدِّمِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 24] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} أَيْ: فَإِنِّي سَأَجْزِيكَ (5) عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلان قَالَا حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، أَخْبَرْنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ (6) عَنْ سَعِيدِ بن وَهْبٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَكَانَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي [رَسُولُ] (7) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُطِيعُونِي لَا آلُوكُمْ خَيْرًا، وأن المصير إلى
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت: "روى البخاري بسنده".
(3) في أ: "ألم".
(4) صحيح البخاري برقم (4776) وصحيح مسلم برقم (124) .
(5) في أ: "سأجازيك".
(6) في ت: "روى ابن أبي حاتم بسنده".
(7) زيادة من ت، أ.(6/336)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
اللَّهِ، وَإِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ، إِقَامَةٌ فَلَا ظَعْنَ، وَخُلُودٌ فَلَا مَوْتَ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} أَيْ: إِنْ حَرَصَا عَلَيْكَ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ تُتَابِعَهُمَا (1) عَلَى دِينِهِمَا، فَلَا تَقْبَلْ مِنْهُمَا ذَلِكَ، وَلَا يمنعنَّك ذَلِكَ مِنْ أَنْ تُصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، أَيْ: مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا، {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ، {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ الْعِشْرَةِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ [عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ] (2) :أَنَّ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ فيَّ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} الْآيَةَ، وَقَالَ: كُنْتُ رَجُلًا بَرًّا بِأُمِّي، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ قَالَتْ: يَا سَعْدُ، مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكَ قَدْ أَحْدَثْتَ؟ لَتَدَعَنّ دِينَكَ هَذَا أَوْ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى أَمُوتَ، فَتُعَيَّر بِي، فَيُقَالُ: "يَا قَاتِلَ أُمِّهِ". فَقُلْتُ: لَا تَفْعَلِي يَا أمَه، فَإِنِّي لَا أَدْعُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ. فمكثتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَمْ تَأْكُلْ فَأَصْبَحَتْ قَدْ جَهِدَتْ، فمكثتْ يَوْمًا [آخَرَ] (3) وَلَيْلَةً أُخْرَى لَا تَأْكُلْ، فأصبحتْ قَدِ اشْتَدَّ جُهْدُهَا، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ: يَا أُمَّهْ، تَعْلَمِينَ وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لكِ مِائَةُ نَفْسٍ فخَرجت نَفْسا نَفْسًا، مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي، وإن شئت لا تأكلي. فأكلتْ (4) .
{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) } .
هَذِهِ وَصَايَا نَافِعَةٌ قَدْ حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ؛ لِيَمْتَثِلَهَا النَّاسُ وَيَقْتَدُوا بِهَا، فَقَالَ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} أَيْ: إِنَّ الْمَظْلَمَةَ أَوِ الْخَطِيئَةَ لَوْ كَانَتْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ [مِنْ] (5) خَرْدَلٍ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهَا} ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ. وَجَوَّزَ عَلَى هَذَا رَفْعَ {مِثْقَالَ} وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أَيْ: أَحْضَرَهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ، وَجَازَى عَلَيْهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 47] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ:7، 8]
__________
(1) في أ: "تبايعهما".
(2) زيادة من أسد الغابة، والدر المنثور.
(3) زيادة من ت، ف.
(4) وذكره ابن الأثير في أسد الغابة (2/216) عن داود بن أبي هند.
(5) زيادة من ت، أ.(6/337)
، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الذَّرَّةُ مُحَصَّنَةً مُحَجَّبَةً فِي دَاخِلِ صَخْرَةٍ صَمَّاء، أَوْ غَائِبَةٍ ذَاهِبَةٍ فِي أرجاء السموات أَوِ الْأَرْضِ (1) فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أَيْ: لِطَيْفُ الْعَلَمِ، فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْأَشْيَاءُ وَإِنْ دَقت وَلَطُفَتْ وَتَضَاءَلَتْ {خَبِيرٌ} بِدَبِيبِ النَّمْلِ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} أَنَّهَا صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِينَ (2) السَّبْعِ، ذَكَرَهُ السُّدِّي بِإِسْنَادِهِ ذَلِكَ الْمَطْرُوقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، والمِنهال بْنِ عَمْرٍو، وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَأَنَّهُ مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا تُصَدَّقُ، وَلَا تَكْذَّبُ، وَالظَّاهِرُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ فِي حَقَارَتِهَا لَوْ كَانَتْ دَاخِلَ صَخْرَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُبْدِيهَا وَيُظْهِرُهَا بِلَطِيفِ عِلْمِهِ، كَمَا قَالَ (3) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا دَراج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاء، لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كوَّة، لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ" (4) .
ثُمَّ قَالَ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} أَيْ: بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَأَوْقَاتِهَا، {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أَيْ: بِحَسَبِ طَاقَتِكِ وَجُهْدِكَ، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} ،عَلِمَ أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ مِنَ النَّاسِ أَذًى، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ} أَيْ: إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى أَذَى النَّاسِ لَمِنْ عَزَمِ الْأُمُورِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} يَقُولُ: لَا تُعرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ إِذَا كَلَّمْتَهُمْ أَوْ كَلَّمُوكَ، احْتِقَارًا مِنْكَ لَهُمْ، وَاسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ ألِنْ جَانِبَكَ، وَابْسُطْ وَجْهَكَ إِلَيْهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِط، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنَ المِخيلَة، وَالْمَخِيلَةُ لَا يُحِبُّهَا اللَّهَ".
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} يَقُولُ: لَا تَتَكَبَّرُ فتحقِرَ (5) عبادَ اللَّهِ، وَتُعْرِضَ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ إِذَا كَلَّمُوكَ. وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ وَعِكْرِمَةُ عَنْهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} : لَا تكَلَّم وَأَنْتَ مُعْرِضٌ. وَكَذَا رُوي عَنْ مُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، وَيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، وَأَبِي الْجَوْزَاءِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَالضَّحَّاكِ، وَابْنِ يَزِيدَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخعِي: يَعْنِي بذلك: التشديق في الكلام.
__________
(1) في ف: "والأرض".
(2) في ف، أ: "الأرض".
(3) في ت: "كما روى".
(4) المسند (3/28) وحسنه الهيثمي في المجمع (10/225) وفيه ابن لهيعة عن دراج وهما ضعيفان.
(5) في ت، أ: "فتحتقر".(6/338)
وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَصْلُ الصَّعَر: دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا أَوْ رُؤُوسِهَا، حَتَّى تُلفَتَ (1) أعناقُها عَنْ رُؤُوسِهَا، فَشُبِّهَ بِهِ الرَّجُلُ الْمُتَكَبِّرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ حُني التَّغْلبي:
وَكُنَّا إذَا الجَبَّارُ صَعّر خَدّه ... أقَمْنَا لَه مِنْ مَيْلِه فَتَقَوّمَا (2)
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي شِعْرِهِ:
وَكُنَّا قَديمًا لَا نقرُّ ظُلامَة ... إِذَا مَا ثَنوا صُعْر الرُّؤُوسِ نُقِيمها (3)
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا} أَيْ: جَذْلًا مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا عَنِيدًا، لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ يُبْغِضُكَ اللَّهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أَيْ: مُخْتَالٍ مُعْجَبٍ فِي نَفْسِهِ، فَخُورٌ: أَيْ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: (4) {وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا} [الْإِسْرَاءِ: 37] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي لَيْلَى، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى (5) عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاس قَالَ: ذُكِرَ الْكِبْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَّدَ فِيهِ، فَقَالَ: "إِنِ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لِأَغْسِلُ ثِيَابِي فَيُعْجِبُنِي بَيَاضُهَا، وَيُعْجِبُنِي شِراك نَعْلِي، وعِلاقة سَوْطي، فَقَالَ: "لَيْسَ ذَلِكَ الْكِبْرُ، إِنَّمَا الْكِبْرُ أَنْ تَسْفه الْحَقَّ وتَغْمِط (6) النَّاسَ" (7) .
وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِمِثْلِهِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ، وَمَقْتَلُ ثَابِتٍ وَوَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ (8) .
وَقَوْلُهُ: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} أَيِ: امْشِ مَشْيًا مُقْتَصِدًا لَيْسَ بِالْبَطِيءِ الْمُتَثَبِّطِ، وَلَا بِالسَّرِيعِ الْمُفْرِطِ، بَلْ عَدْلًا وَسَطًا بَيْنَ بَيْنَ.
وَقَوْلُهُ: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} أَيْ: لَا تُبَالِغْ فِي الْكَلَامِ، وَلَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، أَيْ: غَايَةُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ أَنَّهُ يُشَبه بِالْحَمِيرِ فِي عُلُوِّهِ وَرَفْعِهِ، وَمَعَ هَذَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا التَّشْبِيهُ فِي هَذَا بِالْحَمِيرِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَذَمَّهُ غَايَةَ الذَّمِّ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ".
وَقَالَ النَّسَائِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، (9) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّهُ] (10) قَالَ: "إِذَا سمعتم صياح الديكة
__________
(1) في ت: "تلتفت" وفي أ: "بلغت".
(2) البيت في مجاز القرآن لأبي عبيدة (2/127) .
(3) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/269) .
(4) في أ: "وقد قال الله تعالى".
(5) في ت: "وروى الطبراني بإسناده".
(6) في ت، ف: "تغمص".
(7) المعجم الكبير (2/69) وفيه انقطاع بين ابن أبي ليلى وثابت.
(8) المعجم الكبير (2/70) من طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن عطاء، عن بنت ثابت بقصة أبيها، وقال الهيثمي في المجمع (9/322) : "وبنت ثابت بن قيس لم أعرفها، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(9) في ت: "وروى النسائي عند تفسير هذه الآية بإسناده".
(10) زيادة من أ.(6/339)
فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحَمِيرِ (1) فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا".
وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةُ سِوَى ابْنِ مَاجَهْ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ بِهِ، (2) وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "بِاللَّيْلِ"، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَهَذِهِ وَصَايَا نَافِعَةٌ جِدًّا، وَهِيَ مِنْ قَصص الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ، فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا أُنْمُوذَجًا وَدُسْتُورًا إِلَى ذَلِكَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنِي نَهْشَل بْنُ مُجَمِّع الضَّبِّيُّ عَنْ قَزْعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (4) قَالَ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ" (5) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ [بْنِ مُخَيْمِرة يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ] (6) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: " قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَالتَّقَنُّعَ فَإِنَّهُ مَخْوَفَةٌ بِاللَّيْلِ، مَذَمَّةٌ بِالنَّهَارِ" (7) .
وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ ضَمْرَة، حَدَّثَنَا السَّريّ بْنُ يَحْيَى (8) قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ الْحِكْمَةَ أَجْلَسَتِ الْمَسَاكِينَ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ.
وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَسْعُودِيِّ (9) ، عَنْ عَوْن بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِذَا أَتَيْتَ نَادِيَ قَوْمٍ فَارْمِهِمْ بِسَهْمِ الْإِسْلَامِ -يَعْنِي السَّلَامَ -ثُمَّ اجْلِسْ فِي نَاحِيَتِهِمْ، فَلَا تَنْطِقْ حَتَّى تَرَاهُمْ قَدْ نَطَقُوا، فَإِنْ أَفَاضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَأجِلْ سَهْمَكَ مَعَهُمْ، وَإِنْ أَفَاضُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَتَحَوَّلْ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ.
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ (10) ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَضَعَ لُقْمَانُ جِرَابًا مِنْ خَرْدَلٍ إِلَى جَانِبِهِ، وَجَعَلَ يَعِظُ ابْنَهُ وَعْظَةً وَيَخْرُجُ خَرْدَلَةً، حَتَّى نَفَذَ الْخَرْدَلُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، لَقَدْ وَعَظْتُكَ مَوْعِظَةً لَوْ وُعِظَها جَبَلٌ لَتَفَطَّرَ. قَالَ: فَتَفَطَّرَ ابْنُهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي المِصِّيصي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّرَائِفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبْيَنُ (11) بْنُ سُفْيَانَ الْمَقْدِسِيُّ، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ (12) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "اتخذوا
__________
(1) في ت: "الحمار".
(2) النسائي في السنن الكبرى (11391) وصحيح البخاري برقم (3301) وصحيح مسلم برقم (2779) وسنن أبي داود برقم (5102) وسنن الترمذي برقم (3459) .
(3) في ت: "فروى الإمام أحمد بإسناده".
(4) في ت، ف: "عنهما".
(5) المسند (2/87) .
(6) زيادة من أ، والمستدرك.
(7) ورواه الحاكم في المستدرك (2/411) وقال: "هذا متن شاهده إسناد صحيح" وأقره الذهبي.
(8) في ت: "وروى أيضا بإسناده عن السري بن يحيى".
(9) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن القاسم بن مخيمرة".
(10) في ت: "وروى أيضا".
(11) في ت، أ، ف، هـ: "أنس" والتصويب من المعجم الكبير وكتب الرجال.
(12) في ت: "وروى الطبراني بسنده".(6/340)
السُّودَانَ فَإِنَّ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ مَنْ سَادَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: لُقْمَانُ الْحَكِيمُ، وَالنَّجَاشِيُّ، وَبِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ" (1) .
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: أَرَادَ الْحَبَشَ.
فَصْلٌ فِي الْخُمُولِ وَالتَّوَاضُعِ: وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِوَصِيَّةِ لُقْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِابْنِهِ، وَقَدْ جَمَعَ فِي ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا كِتَابًا مُفْرَدًا [وَ] (2) نَحْنُ، نَذْكُرُ مِنْهُ مَقَاصِدَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْمَدَنِيُّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "رُبَّ أشعثَ ذِي طِمْرَين يُصْفَح عَنْ أَبْوَابِ النَّاسِ، إِذَا (3) أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ" (4) .
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ وَعَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ، وَزَادَ، مِنْهُمُ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ (5) .
[وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "طُوبَى لِلْأَتْقِيَاءِ الْأَثْرِيَاءِ الَّذِينَ إِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، وَإِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ مُجَرَّدُونَ مَنْ كُلِّ فِتْنَةٍ غَبْرَاءَ مُشِينَةٍ"] (6) . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَبْكِي عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا مُعَاذُ؟ قَالَ: حَدِيثٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الْأَثْرِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَنْجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ" (7) .
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، حَدَّثَنَا عَثَّام بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَطَاءٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رُبَّ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤبَه لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، لَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ لَأَعْطَاهُ الْجَنَّةَ، وَلَمْ يُعْطِهُ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا" (8) .
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَوْ أَتَى بَابَ أَحَدِكُمْ يَسْأَلُهُ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أو
__________
(1) المعجم الكبير (11/198) وقال الهيثمي في المجمع (4/235) : "فيه أبين بن سفيان وهو ضعيف".
(2) زيادة من ت، ف.
(3) في ت، ف: "لو".
(4) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (5054) "مجمع البحرين" قال: "حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، حدثنا إبراهيم بن المنذر، فذكر مثله - ثم قال - لم يروه عن حفص إلا أسامة"، وله شاهد في صحيح مسلم برقم (2622) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. تنبيه: سقط هذا الحديث من مخطوطة التواضع والخمول لابن أبي الدنيا، وكذا الرواية بعده.
(5) ورواه الترمذي في السنن برقم (3854) من طريق سيار عن جعفر بن سليمان به، وقال: "هذا حديث حسن صحيح من هذا الوجه".
(6) زيادة من ت، أ.
(7) التواضع والخمول لابن أبي الدنيا برقم (8) .
(8) سقط الحديث من مخطوطة التواضع والخمول، ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (3246) من طريق ابن أبي الدنيا.(6/341)
فِلْسًا لَمْ يُعْطَهُ، وَلَوْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ لَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَلَوْ سَأَلَهُ (1) الدُّنْيَا لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهَا، وَلَمْ يَمْنَعْهَا إِيَّاهُ لِهَوَانِهِ عَلَيْهِ، ذُو طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ" (2) .
وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَوْف قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ مُلُوكِ الْجَنَّةِ مَنْ هُوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ ذُو طِمْرَيْنِ لَا يُؤبَه لَهُ، الَّذِينَ إِذَا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْأُمَرَاءِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، وَإِذَا خَطَبُوا النِّسَاءَ لَمْ يُنْكَحُوا، وَإِذَا قَالُوا لَمْ يُنصَت لَهُمْ، حَوَائِجُ أَحَدِهِمْ تَتَجَلْجَلُ فِي صَدْرِهِ، لَوْ قُسِّمَ نُورُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ النَّاسِ لَوَسِعَهُمْ" (3) . قَالَ: وَأَنْشَدَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنِ ابْنِ عَائِشَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:
أَلَا رُبّ ذِي طمْرَين فِي مَنزل غَدًا ... زَرَابِيه مَبْثُوثةً ونَمَارقُه ...
قَد اطَّرَدَتْ أَنْهَارُهُ حَْوَل قَصْره ... وَأشرَقَ والتفَّتْ عَلَيه حَدَائقُه (4)
وَرُوِيَ -أَيْضًا -مِنْ حَدِيثِ عُبَيد اللَّهِ بْنِ زَحْر، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: "قَالَ اللَّهُ: مِنْ أَغْبَطِ أَوْلِيَائِي عِنْدِي: مُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ، ذُو حَظٍّ مِنْ صَلَاةٍ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ، وَكَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ، لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ. إِنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ". قَالَ: ثُمَّ نَقَد رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ وَقَالَ: "عُجّلت مَنِيَّتُهُ، وَقَلَّ تُرَاثَهُ، وَقَلَّتْ بَوَاكِيهِ" (5) .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ (6) إِلَى اللَّهِ الْغُرَبَاءُ. قِيلَ: ومَنْ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ، يُجْمَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ (7) .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: بَلَغَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (8) يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَمْ أُنْعِمْ عَلَيْكَ؟ أَلَمْ أُعْطِكَ؟ أَلَمْ أَسْتُرْكَ؟ أَلَمْ..؟ أَلَمْ..؟ أَلَمْ أَخْمِلْ ذِكْرَكَ؟ ثُمَّ قَالَ الْفُضَيْلُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تُعرَف فَافْعَلْ، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يُثنى عَلَيْكَ، وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ.
وَكَانَ ابْنُ مُحَيْرِيز يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ ذِكْرًا خَامِلًا.
وَكَانَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي عِنْدَكَ مَنْ أَرْفَعِ خَلْقِكَ، وَاجْعَلْنِي فِي نَفْسِي مَنْ أَوْضَعِ خَلْقِكَ، وَعِنْدَ النَّاسِ مِنْ أَوْسَطِ خَلْقِكَ.
ثُمَّ قَالَ (9) : بَابُ مَا جَاءَ فِي الشُّهْرَةِ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَارِثِ وَابْنِ لَهِيعة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سِنَان بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "حَسْبُ امرئ من
__________
(1) في ت: "ولو سأل الله".
(2) التواضع والخمول لابن أبي الدنيا برقم (1) ، وهو مرسل.
(3) ورواه ابن أبي الدنيا في الأولياء برقم (9) عن الحسن مرسلا بنحوه، وقد سقط هذا الحديث من مخطوطة التواضع والخمول.
(4) التواضع والخمول لابن أبي الدنيا برقم (5) .
(5) التواضع والخمول برقم (13) وقد قال ابن حبان: "إذا روى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يزيد عن القاسم فهو مما عملته أيديهم".
(6) في أ: "أحب العباد".
(7) التواضع والخمول برقم (16) .
(8) في ت، أ: "عز وجل".
(9) أي ابن أبي الدنيا.(6/342)
الشَّرِّ -إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ -أَنْ يُشِيرَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ" (1) .
وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ، عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْك، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الأخْنَسِيّ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا، مِثْلُهُ (2) .
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا نَحْوُهُ (3) ، فَقِيلَ لِلْحَسَنِ: فَإِنَّهُ يُشَارُ إِلَيْكَ بِالْأَصَابِعِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ بِالْبِدْعَةِ وَفِي دُنْيَاهُ بِالْفِسْقِ (4) .
وَعَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَا تَبْدَأْ لِأَنْ تَشْتَهِرَ، وَلَا تَرْفَعْ شَخْصَكَ لِتُذْكَرَ، وَتَعَلَّمْ وَاكْتُمْ،
وَاصْمُتْ تَسْلَمْ، تَسُر الْأَبْرَارَ، وَتَغِيظُ الْفُجَّارَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا صَدَقَ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ.
وَقَالَ أَيُّوبُ: مَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدُهُ إِلَّا سَرَّهُ أَلَّا يُشْعَرَ بِمَكَانِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ: مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّ أَلَّا يَعْرِفَهُ النَّاسُ.
وَقَالَ سِمَاك بْنُ سَلَمَةَ: إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الْأَخِلَّاءِ.
وَقَالَ أبَان بْنُ عُثْمَانَ: إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَسْلَمَ لَكَ دِينُكَ فَأَقِلَّ مِنَ الْمَعَارِفِ؛ كَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ إِذَا جَلَسَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ نَهَضَ وَتَرَكَهُمْ.
وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْد، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَوْف، عَنْ أَبِي رَجَاء قَالَ: رَأَى طَلْحَةُ قَوْمًا يَمْشُونَ مَعَهُ، فَقَالَ: ذُبَابُ طَمَعٍ، وَفَرَاشُ النَّارِ.
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ (5) ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ حَوْلَ أَبِي إِذْ عَلَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: إِنَّهَا مَذَلَّةٌ لِلتَّابِعِ، وَفِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ.
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ: خَرَجَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَاتَّبَعَهُ أُنَاسٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أغلِقُ عَلَيْهِ بَابِي، مَا اتَّبَعَنِي مِنْكُمْ رَجُلَانِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: كُنَّا إِذَا مَرَرْنَا عَلَى الْمَجْلِسِ، وَمَعَنَا أَيُّوبُ، فَسَلَّمَ، رَدُّوا رَدًّا شَدِيدًا، فَكَانَ ذَلِكَ يَغُمه.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر: كَانَ أَيُّوبُ يُطِيلُ قَمِيصَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِ الشُّهْرَةَ فِيمَا مَضَى كَانَتْ فِي طُولِ الْقَمِيصِ، وَالْيَوْمَ فِي تَشْمِيرِهِ. وَاصْطَنَعَ مَرَّةً نَعْلَيْنِ عَلَى حَذْوِ نَعْلَيِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَبِسَهُمَا أَيَّامًا ثُمَّ خَلَعَهُمَا، وَقَالَ: لَمْ أَرَ النَّاسَ يَلْبَسُونَهُمَا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعي: لَا تَلْبَسْ مِنَ الثِّيَابِ مَا يُشهر فِي الْفُقَهَاءِ، وَلَا مَا يَزْدَرِيكَ السُّفَهَاءُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ مِنَ الثِّيَابِ الْجِيَادَ، الَّتِي يُشتَهر بِهَا، وَيَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ. وَالثِّيَابَ الرديئة التي يحتقر فيها، ويستذل دينه.
__________
(1) التواضع والخمول برقم (30) وفيه سنان بن سعد ضعيف.
(2) التواضع والخمول برقم (31) وقال العراقي: "ليس معروفا من حديث جابر إنما هو معروف من حديث أبي هريرة".
(3) التواضع والخمول برقم (32) .
(4) التواضع والخمول برقم (33) .
(5) في أ: "هارون بن أبي عشيرة".(6/343)
وَحَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاش: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي حَسَنَةَ -صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ -قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي قِلابة إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ أَكْسِيَةٌ، فَقَالَ: إِيَّاكُمْ وَهَذَا الْحِمَارَ النَّهَّاقَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ قَوْمًا جَعَلُوا الْكِبْرَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَالتَّوَاضُعَ فِي ثِيَابِهِمْ، فَصَاحِبُ الْكِسَاءِ بِكِسَائِهِ أَعْجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْمِطْرَفِ بِمِطْرَفِهِ (1) ، مَا لَهُمْ تَفَاقَدُوا.
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: مَا لَكُمْ تَأْتُونِي عَلَيْكُمْ ثِيَابُ الرُّهْبَانِ، وَقُلُوبُكُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، الْبَسُوا ثِيَابَ الْمُلُوكِ، وَأَلِينُوا قُلُوبَكُمْ بِالْخَشْيَةِ.
فَصْلٌ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ
قَالَ أَبُو الْتِّيَّاحِ: عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا (2) .
وَعَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" (3) .
وَعَنْ نُوحِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ، وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْعِبَادَةِ. وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ بِسُوءِ خُلُقِهِ دَرَك جَهَنَّمَ وَهُوَ عَابِدٌ" (4) . وَعَنْ سِنَان بْنِ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: "ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" (5) . وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ وَصَائِمِ النَّهَارِ" (6) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي أَبُو مُسْلِمٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهُ بْنُ إِدْرِيسَ، أَخْبَرَنِي أَبِي وَعَمِّي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سُئل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدخلُ الناسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: "تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ". وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسُ النَّارَ، فَقَالَ: "الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ" (7) .
وَقَالَ أُسَامَةُ بْنُ شَرِيك: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتْهُ الْأَعْرَابُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْإِنْسَانُ؟ قَالَ: "حُسْنُ الْخُلُقِ" (8) .
وَقَالَ يَعْلَى بْنُ مَمْلَكٍ (9) : عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -يُبَلِّغُ بِهِ -قَالَ: "مَا [مِنْ] (10) شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ" (11) ، وَكَذَا رَوَاهُ عَطَاءٌ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، بِهِ (12) .
وَعَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: "إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا" (13) .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَدْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ (14) ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَارَةَ، عَنِ الْحَسَنِ
__________
(1) في ت، أ: "المطرق بمطرقه".
(2) التواضع والخمول برقم (163) .
(3) التواضع والخمول برقم (164) .
(4) التواضع والخمول برقم (168) .
(5) التواضع والخمول برقم (169) .
(6) التواضع والخمول برقم (166) .
(7) التواضع والخمول برقم (170) .
(8) التواضع والخمول برقم (171) .
(9) في ت، أ، ف، هـ: "سماك" والصواب ما أثبتناه من كتب الرجال.
(10) زيادة من أ.
(11) التواضع والخمول برقم (172) .
(12) التواضع والخمول برقم (173) .
(13) التواضع والخمول برقم (174) .
(14) في ت، ف: "عنين" وفي أ: "عيسى" والصواب ما أثبتناه من التواضع والخمول لابن أبي الدنيا، وكتب الرجال.(6/344)
بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَيُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ، كَمَا يُعْطِي الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَغْدُو عَلَيْهِ الْأَجْرُ وَيَرُوحُ" (1) .
وَعَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ مَرْفُوعًا: "إِنَّ أَحَبَّكُمْ إليَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا، أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إليَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ مُسَاوِيكُمْ أَخْلَاقًا، الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ" (2) .
وَعَنْ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المنْكَدِر، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْمَلِكُمْ إِيمَانًا، أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أَكْنَافًا، الَّذِينَ يُؤْلفون ويَأْلفون" (3) .
وَقَالَ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا حَسَّن اللَّهُ خَلْق رَجُلٍ وخُلُقه فَتَطْعَمَه النَّارُ" (4) .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَالِبٍ الحُدَّاني، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: "خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ" (5) ، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَان، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا وَقَعَ فِي آخَرَ" (6) .
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ الأحْمَسِيّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ؛ إِنَّ الْخُلُقَ الْحَسَنَ لَيُذِيبَ الذُّنُوبَ كَمَا تُذِيبُ الشَّمْسُ الْجَلِيدَ، وَإِنَّ الْخُلُقَ السَّيِّئَ لَيُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ" (7) .
وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " إِنَّكُمْ لَا تَسَعُون النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهم مِنْكُمْ بَسْطُ وُجُوهٍ وَحُسْنُ خُلُقٍ" (8) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: حُسْنُ الْخُلُقِ عَوْنٌ عَلَى الدِّينِ.
فَصْلٌ فِي ذَمِّ الْكِبْرِ
قَالَ عَلْقَمَةُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَفَعَهُ -: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ (9) مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْر، وَلَا يُدْخِلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ (10) مِنْ إِيمَانٍ" (11) .
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَة، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: "مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، أَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ" (12) .
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: "لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْجَبَّارِينَ، فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ" (13) .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: رَكِبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَلَيْهِمَا (14) السَّلَامُ، ذَاتَ يوم البساط في مائتي
__________
(1) التواضع والخمول برقم (176) .
(2) التواضع والخمول برقم (177) .
(3) التواضع والخمول برقم (178) .
(4) التواضع والخمول برقم (180) .
(5) التواضع والخمول برقم (182) .
(6) التواضع والخمول برقم (183) .
(7) التواضع والخمول برقم (184) .
(8) التواضع والخمول برقم (190) .
(9) في ت، ف، أ: "ذرة".
(10) في ف، أ: "ذرة".
(11) التواضع والخمول برقم (192) .
(12) التواضع والخمول برقم (196) .
(13) التواضع والخمول برقم (198) .
(14) في ت: "عليه".(6/345)
أَلْفٍ مِنَ الْإِنْسِ، وَمِائَتَيْ أَلْفٍ مِنَ الْجِنِّ، فَرُفع حَتَّى سَمِعَ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ خَفَضُوهُ حَتَّى مَسَّتْ قَدُمُهُ مَاءَ الْبَحْرِ، فَسَمِعُوا صَوْتًا لَوْ كَانَ فِي قَلْبِ صَاحِبِكُمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ لَخُسِفَ بِهِ أَبْعَدَ مِمَّا رُفِعَ.
حَدَّثَنَا أَبُو خَيثَمة، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْطُبُنَا فَيَذْكُرُ بَدْءَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا ليُقذر نَفْسَهُ، يَقُولُ: خَرَجَ مِنْ مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ (1) .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ قَتَلَ اثْنَيْنِ فَهُوَ جَبَّارٌ، ثُمَّ تَلَا {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ} [الْقِصَصِ: 19] وَقَالَ الْحَسَنُ: عَجَبًا لِابْنِ آدَمَ، يَغْسِلُ الْخَرْءَ بِيَدِهِ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يَتَكَبَّرُ! يُعَارِضُ جَبَّارَ السموات، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاش، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. ضَرَبَ مَثَلَ الدنيَا بِمَا يَخْرُجُ مِنَ ابْنِ آدَمَ (2) .
وَقَالَ الْحَسَنُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي قَالَ: إِنَّ مطعم بن آدَمَ ضَرْبُ مَثَلٍ لِلدُّنْيَا وَإِنْ قَزّحَه ومَلَّحه.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ -مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا دَخَلَ قلبَ رَجُلٍ شَيْءٌ مِنَ الْكِبْرِ إِلَّا نَقَصَ مِنْ عَقْلِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: لَيْسَ مَعَ السُّجُودِ كِبْرٌ، وَلَا مَعَ التَّوْحِيدِ نِفَاقٌ.
وَنَظَرَ طَاوُسٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَخْلَفَ، فَطَعَنَهُ طَاوُسٌ فِي جَنْبِهِ بِأُصْبُعِهِ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا شَأْنُ (3) مَنْ فِي بَطْنِهِ خَرْءٌ؟ فَقَالَ لَهُ كَالْمُعْتَذِرِ إِلَيْهِ: يَا عَمِّ، لَقَدْ ضُرِبَ كُلُّ عُضْوٍ مِنِّي عَلَى هَذِهِ الْمِشْيَةِ حَتَّى تَعَلَّمْتُهَا.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: كَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ يَضْرِبُونَ أَوْلَادَهُمْ حَتَّى يَتَعَلَّمُوا (4) هَذِهِ الْمِشْيَةَ.
فَصْلٌ فِي الِاخْتِيَالِ
عَنْ أَبِي لَيْلَى، عَنِ ابْنِ بُرَيْدة، عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ" (5) .
وَرَوَاهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ (6) . وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّار، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: "لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ" (7) . وَ"بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْهِ، أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (8) .
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أبيه: "بينما رجل ... " إلى آخره (9) .
__________
(1) التواضع والخمول برقم (200) .
(2) التواضع والخمول برقم (210) .
(3) في ف، أ: "مشي".
(4) في ف، أ: "يتعلمون".
(5) التواضع والخمول برقم (238) .
(6) التواضع والخمول برقم (239) .
(7) التواضع والخمول برقم (232) .
(8) التواضع والخمول برقم (233) .
(9) التواضع والخمول برقم (234) .(6/346)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا خَلْقَهُ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِأَنَّهُ سَخَّرَ لَهُمْ مَا في السموات مِنْ نُجُومٍ يَسْتَضِيئُونَ بِهَا فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، وَمَا يُخْلَقُ فِيهَا مِنْ سَحَابٍ وَأَمْطَارٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، وَجَعْلِهِ إِيَّاهَا لَهُمْ سَقْفًا مَحْفُوظًا، وَمَا خَلَقَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ قَرَارٍ وَأَنْهَارٍ وَأَشْجَارٍ وَزُرُوعٍ وَثِمَارٍ. وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَإِزَاحَةِ الشبَه وَالْعِلَلِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مَا آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ، أَيْ: فِي تَوْحِيدِهِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ. وَمُجَادَلَتِهِ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَا مُسْتَنَدٍ مِنْ حُجَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلَا كِتَابٍ مَأْثُورٍ صَحِيحٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أَيْ: مُبِينٍ مُضِيءٍ.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ: {اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ} أَيْ: عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُطَهَّرَةِ، {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ إِلَّا اتِّبَاعَ الْآبَاءِ الْأَقْدَمِينَ، قَالَ اللَّهُ: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [الْبَقَرَةِ: 170] أَيْ: فَمَا ظَنُّكُمْ أَيُّهَا الْمُحْتَجُّونَ بِصَنِيعِ آبَائِهِمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ وَأَنْتُمْ خَلَفٌ لَهُمْ فِيمَا كَانُوا فِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} .
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، أَيْ: أَخْلَصَ لَهُ الْعَمَلَ وَانْقَادَ لِأَمْرِهِ وَاتَّبَعَ شَرْعَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أَيْ: فِي عَمَلِهِ، بِاتِّبَاعِ مَا بِهِ أُمِرَ، وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زُجِرَ، {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أَيْ: فَقَدْ أَخَذَ مُوَثِقًا مِنَ اللَّهِ مَتِينًا أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ، {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ. وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} أَيْ: لَا تَحْزَنْ يَا مُحَمَّدُ عَلَيْهِمْ فِي كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ؛ فَإِنَّ قَدَرَ اللَّهِ نَافِذٌ فِيهِمْ، وَإِلَى اللَّهِ مَرْجِعُهُمْ فَيُنْبِئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا، أَيْ: فَيَجْزِيهِمْ عَلَيْهِ، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
ثُمَّ قَالَ: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا، {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} أَيْ: نُلْجِئُهُمْ {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} أَيْ: فَظِيعٍ صَعْبٍ مُشِقٍّ عَلَى النُّفُوسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 69، 70] .(6/347)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ: إِنَّهُمْ يعرفون أن الله خالقُ السموات وَالْأَرْضَ، وحدَه لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ شُرَكَاءَ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهَا خَلْقٌ لَهُ وَمِلْكٌ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [أَيْ: إذْ قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِاعْتِرَافِكُمْ] ، (1) {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .
ثُمَّ قَالَ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أَيْ: هُوَ خَلْقُهُ وَمُلْكُهُ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أَيِ: الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، الْحَمِيدُ فِي جَمِيعِ ما خلق، له الحمد في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى مَا خَلَقَ وَشَرَعَ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا.
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ، وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ، وَلَا اطِّلَاعَ لِبِشْرٍ عَلَى كُنْهِهَا وَإِحْصَائِهَا، كَمَا قَالَ سَيِّدُ الْبَشَرِ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ: "لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [أَيْ: وَلَوْ أَنَّ جَمِيعَ أَشْجَارِ الْأَرْضِ جُعِلَتْ أَقْلَامًا، وَجُعِلَ الْبَحْرُ مِدَادًا ومَده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ] (2) مَعَهُ، فَكُتِبَتْ بِهَا كَلِمَاتُ اللَّهِ الدَّالَّةُ عَلَى عَظْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ وَجَلَالِهِ لَتَكَسَّرَتِ الْأَقْلَامُ، ونَفدَ مَاءُ الْبَحْرِ، وَلَوْ جَاءَ أَمْثَالُهَا مَدَدا.
وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ "السَّبْعَةُ" عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ، وَلَمْ يُرِدِ الْحَصْرَ وَلَا [أَنَّ] (3) ثَمَّ سَبْعَةَ أَبْحُرٍ مَوْجُودَةً تُحِيطُ بِالْعَالَمِ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ تَلَقَّاهُ مِنْ كَلَامِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ، بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الْكَهْفِ: 109] ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {بِمِثْلِهِ} آخَرَ فَقَطْ، بَلْ بِمِثْلِهِ ثُمَّ بِمِثْلِهِ ثُمَّ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ هَلُمَّ جَرًّا؛ لِأَنَّهُ لَا حَصْرَ لِآيَاتِ اللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ جُعِلَ شَجَرُ الْأَرْضِ أَقْلَامًا، وَجُعِلَ الْبَحْرُ مِدَادًا، وَقَالَ اللَّهُ: "إِنَّ مِنْ أَمْرِي كَذَا، وَمِنْ أَمْرِي كَذَا" لَنَفِدَ مَا فِي الْبُحُورِ، وَتَكَسَّرَتِ الْأَقْلَامُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّمَا هَذَا كَلَامٌ يُوشِكُ أَنْ يَنْفَدَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} أَيْ: لَوْ كَانَ شَجَرُ الْأَرْضِ أَقْلَامًا، وَمَعَ الْبَحْرِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، مَا كَانَ لِتَنْفَدَ عَجَائِبُ رَبِّي وَحِكْمَتُهُ وَخَلْقُهُ وَعِلْمُهُ.
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) زيادة من ت، ف، أ.(6/348)
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّ مَثَلَ عِلْمِ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَطْرَةٍ مِنْ مَاءِ الْبُحُورِ كُلِّهَا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الْآيَةَ.
يَقُولُ: لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَالْأَشْجَارِ كُلُّهَا أَقْلَامًا، لَانْكَسَرَتِ الْأَقْلَامُ، وَفَنِيَ مَاءُ الْبَحْرِ، وَبَقِيَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ قَائِمَةً لَا يُفْنِيهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْدُرَ قَدْرَهُ، وَلَا يُثْنِيَ عَلَيْهِ كَمَا يَنْبَغِي، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ. إِنَّ رَبَّنَا كَمَا يَقُولُ، وَفَوْقَ مَا نَقُولُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْيَهُودِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ أَحْبَارَ يَهُودَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ: يَا مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ قَوْلَكَ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلا قَلِيلا} ؟ [الْإِسْرَاءِ: 85] ، إِيَّانَا تُرِيدُ أَمْ قَوْمَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَلَّا". فَقَالُوا: أَلَسْتَ تَتْلُو فِيمَا جَاءَكَ أَنَّا قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ فِيهَا تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَعِنْدَكُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكْفِيكُمْ". وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الْآيَةَ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَار. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ لَا مَكِّيَّةٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَاللَّهُ (1) أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أَيْ: عَزِيزٌ قَدْ عَز كلَّ شَيْءٍ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، فَلَا مَانِعَ لِمَا أَرَادَ وَلَا مُخَالِفَ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، {حَكِيمٌ} فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَشَرْعِهِ وَجَمِيعِ شُؤُونِهِ.
وَقَوْلُهُ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أَيْ: مَا خَلْقُ جَمِيعِ النَّاسِ وَبَعْثُهُمْ يَوْمَ الْمَعَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ إِلَّا كَنِسْبَةِ [خَلْقِ] (2) نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، الْجَمِيعُ هَيِّنٌ عَلَيْهِ وَ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ، {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [الْقَمَرِ: 50] أَيْ: لَا يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَرُّرِهِ وَتَوَكُّدِهِ (3) . {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النَّازِعَاتِ: 13، 14] .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أَيْ: كَمَا هُوَ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ بَصِيرٌ بِأَفْعَالِهِمْ كَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَذَلِكَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِمْ كَقُدْرَتِهِ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] } (4) .
__________
(1) في ت، ف: "فالله".
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) في ت، ف، أ: "وتوكيده".
(4) زيادة من ت، ف، أ، وفي هـ: "الآية".(6/349)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) }
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} بِمَعْنَى: يَأْخُذُ مِنْهُ فِي النَّهَارِ، فيطولُ ذَلِكَ وَيَقْصُرُ هذا،(6/349)
وَهَذَا يَكُونُ زَمَنَ الصَّيْفِ يَطُولُ النَّهَارُ إِلَى الْغَايَةِ، ثُمَّ يُسْرِعُ فِي النَّقْصِ فَيَطُولُ اللَّيْلُ وَيَقْصُرُ النَّهَارُ، وَهَذَا يَكُونُ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قِيلَ: إِلَى غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ. وَقِيلَ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكِلَا الْمَعْنِيِّينَ صَحِيحٌ، وَيُسْتَشْهِدُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟ ". قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ، ثُمَّ تَسْتَأْذِنُ ربَّها فَيُوشِكُ أَنْ يُقَالَ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ" (1) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْحَاتِمِ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ عَطَاء بْنِ أَبِي رَبَاحٍ (2) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الشَّمْسُ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِيَةِ، تَجْرِي بِالنَّهَارِ فِي السَّمَاءِ فِي فَلَكِهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ جَرَتْ بِاللَّيْلِ فِي فَلَكِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى تَطْلُعَ مِنْ مَشْرِقِهَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ} [الْحَجِّ: 70] . (3) وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهُ تَعَالَى الْخَالِقُ الْعَالِمُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، كَقَوْلِهِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلَاقِ: 12] .
وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} أَيْ: إِنَّمَا يُظْهِرُ لَكُمْ آيَاتِهِ لِتَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ، أَيِ: الْمَوْجُودُ الْحَقُّ، الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ما (4) في السموات وَالْأَرْضِ الْجَمِيعُ خَلْقُهُ وَعَبِيدُهُ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى تَحْرِيكِ ذَرّة إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ كُلُّ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا لَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أَيِ: الْعَلِيُّ: الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ، الْكَبِيرُ: الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فكل (5) شيء خاضع حقير بالنسبة إليه.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4803) وصحيح مسلم برقم (159) .
(2) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(3) في ت: "السموات" وهو خطأ.
(4) في ت: "من".
(5) في ت، ف: "وكل".(6/350)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) }
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَخَّر الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ فِيهِ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، أَيْ: بِلُطْفِهِ وَتَسْخِيرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا جَعَلَ فِي الْمَاءِ مِنْ قُوَّةٍ يَحْمِلُ بِهَا السُّفُنَ لَمَا جَرَتْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} أَيْ: مِنْ قُدْرَتِهِ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أَيْ: صَبَّارٌ فِي الضَّرَّاءِ، شَكُورٌ فِي الرَّخَاءِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} أَيْ: كَالْجِبَالِ وَالْغَمَامِ، {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الْإِسْرَاءِ: 67] ، وَقَالَ {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 65] .
ثُمَّ قَالَ: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ كَافِرٌ. كَأَنَّهُ فَسَرَّ الْمُقْتَصِدَ هَاهُنَا بِالْجَاحِدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 65] .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الْمُتَوَسِّطُ فِي الْعَمَلِ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فَاطِرٍ: 32] ، فَالْمُقْتَصِدُ هَاهُنَا هُوَ: الْمُتَوَسِّطُ فِي الْعَمَلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا أَيْضًا، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ شَاهَدَ تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَالْأُمُورَ الْعِظَامَ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ بَعْدَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَلَاصِ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَابِلَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ التَّامِّ، وَالدَّؤُوبِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ. فَمَنِ اقْتَصَدَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُقَصِّرًا وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} : فَالْخَتَّارُ: هُوَ الغَدَّار. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ عَنْ (1) زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَهُوَ الَّذِي كُلَّمَا عَاهَدَ نَقَضَ عَهْدَهُ، والخَتْر: أتَم الغدر وأبلغه، قال عمرو بن معد يكرب:
وَإنَّكَ لَو رَأيتَ أبَا عُمَير ... مَلأتَ يَديْكَ مِنْ غَدْر وَخَتْر (2)
وَقَوْلُهُ: {كَفُورٍ} أَيْ: جَحُودٌ لِلنِّعَمِ لَا يَشْكُرُهَا، بَلْ يَتَنَاسَاهَا وَلَا يَذْكُرُهَا.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُنْذِرًا لِلنَّاسِ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَآمِرًا لَهُمْ بِتَقْوَاهُ وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالْخَشْيَةِ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَيْثُ {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} أَيْ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِنَفْسِهِ لَمَا قُبِلَ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ لَوْ أَرَادَ فَدَاءَ وَالِدِهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ.
ثُمَّ عَادَ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [أَيْ: لَا تُلْهِيَنَّكُمْ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا عَنِ الدَّارِ الْآخِرَةِ] (3) . {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} يَعْنِي: الشَّيْطَانُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ. فَإِنَّهُ يَغُرُّ ابْنَ آدَمَ ويَعدهُ وَيُمَنِّيهِ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بَلْ كَمَا قال تعالى:
__________
(1) في أ: "و".
(2) البيت في تفسير الطبري (21/54) .
(3) زيادة من ت، ف، أ.(6/351)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} [النِّسَاءِ:120] .
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ عُزَيْرٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَمَّا رَأَيْتُ بَلَاءَ قَوْمِي اشْتَدَّ حُزْنِي وَكَثُرَ هَمِّي، وَأَرِقَ نَوْمِي، فَضَرِعْتُ (1) إِلَى رَبِّي وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ فَأَنَا فِي ذَلِكَ أَتَضَرَّعُ أَبْكِي إِذْ أَتَانِي الْمَلَكُ فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي هَلْ تَشْفَعُ أَرْوَاحُ الْمُصَدِّقِينَ (2) لِلظَّلَمَةِ، أَوِ الْآبَاءِ لِأَبْنَائِهِمْ؟ قَالَ: إِنِ الْقِيَامَةَ فِيهَا (3) فَصْلُ الْقَضَاءِ وَمُلْكٌ ظَاهِرٌ، لَيْسَ فِيهِ رُخْصَةٌ، لَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ الرَّحْمَنِ، وَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلَا وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ، وَلَا أَخٌ عَنْ أَخِيهِ، وَلَا عَبْدٌ عَنْ سَيِّدِهِ، وَلَا يَهْتَمُّ أَحَدٌ بِغَيْرِهِ (4) وَلَا يَحْزَنُ لِحُزْنِهِ، وَلَا أَحَدَ يَرْحَمُهُ، كُلٌّ مُشْفِقٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُؤْخَذُ إِنْسَانٌ عَنْ إِنْسَانٍ، كَلٌّ يَهُم هَمَّهُ وَيَبْكِي عَوله، وَيَحْمِلُ وَزْرَهُ، وَلَا يَحْمِلُ وِزْرَهُ مَعَهُ غَيْرُهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) } .
هَذِهِ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا، فَلَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِ تَعَالَى بِهَا؛ فَعِلْمُ وَقْتِ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ} [الْأَعْرَافِ: 187] ، وَكَذَلِكَ إِنْزَالُ الْغَيْثِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَكِنْ إِذَا أَمَرَ بِهِ عَلِمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ ومَنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ خَلْقِهِ. وَكَذَلِكَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ مِمَّا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَهُ [اللَّهُ] (5) تَعَالَى سِوَاهُ، وَلَكِنْ إِذَا أَمَرَ بِكَوْنِهِ ذِكْرًا أَوْ أُنْثَى، أَوْ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا عَلِمَ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ، ومَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ. وَكَذَلِكَ لَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا فِي دُنْيَاهَا وَأُخْرَاهَا، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فِي بَلَدِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَيِّ بِلَادِ اللَّهِ كَانَ، لَا عِلْمَ لِأَحَدٍ بِذَلِكَ. وَهَذِهِ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: 59] . وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِتَسْمِيَةِ هَذِهِ الْخَمْسِ: مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيدة، سَمِعْتُ أَبِي -بُرَيدة - (6) يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (7) .
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (8) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (9) مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
__________
(1) في ف: "وتضرعت".
(2) في ت، ف: "الصديقين".
(3) في ت، ف، أ: "إن يوم القيامة فيه".
(4) في ت "ولا يهتم بهم أحدا".
(5) زيادة من ت، ف، أ.
(6) في ت: "ورى الإمام أحمد بإسناده عن بريدة".
(7) المسند (5/353) وقال الهيثمي في المجمع (7/90) "رجال أحمد رجال الصحيح".
(8) في ت: "وروى البخاري عن عبد الله بن عمر".
(9) في ت: "النبي".(6/352)
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ، فَرَوَاهُ فِي "كِتَابِ الِاسْتِسْقَاءِ" مِنْ صَحِيحِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ، بِهِ (1) . وَرَوَاهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ". ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ} انْفَرَدَ بِهِ أَيْضًا (2) .
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَر، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يُحَدِّثُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْخَمْسَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (3) .
[حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنِي عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ (4) : أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ خَمْسٍ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ] (5) (6) .
وَكَذَا رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، بِهِ. وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ مَرَّةً (7) .
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ وَكِيع، عَنْ مِسْعَر، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بِهِ (8) .
وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ عَلَى شَرْطِ أَصْحَابِ السُّنَنِ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (9) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "الْإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ الْآخَرِ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "الْإِسْلَامُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: "الْإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الأمَةُ رَبَّتَهَا، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا. وَإِذَا كَانَ الْحُفَاةُ
__________
(1) المسند (2/24) وصحيح البخاري برقم (1035) .
(2) صحيح البخاري برقم (4697) .
(3) المسند (2/85) .
(4) في ت: "وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) المسند (1/386) .
(7) المسند (1/438) .
(8) المسند (1/445) .
(9) في ت: "وروى البخاري".(6/353)
العُرَاة رُؤُوسَ النَّاسِ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، فِي خمس لا يعلمهن (1) إِلَّا اللَّهُ. {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ} ، ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ فَقَالَ: "ردُّوه عَلَيَّ". فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ، جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ" (2) .
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي "كِتَابِ الْإِيمَانِ"، وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، بِهِ (3) . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ. وَذَكَرْنَا ثَمَّ حَدِيثَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ بِطُولِهِ، وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ (4) .
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا شَهْر، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا لَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى رُكْبَتِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، [حَدِّثْنِي] (6) مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْإِسْلَامُ أَنْ تُسْلِمَ وَجْهَكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ". قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْتُ؟ قَالَ: "إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْتَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فحدِّثني مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "الْإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْكِتَابِ، وَالنَّبِيِّينَ، وَتُؤْمِنَ بِالْمَوْتِ، وَبِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتُؤْمِنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ". قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْتُ؟ قَالَ: "إِذَا (7) فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْتَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنِي مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ كُنْتَ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَحَدِّثْنِي مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ. فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا هُوَ: (8) {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ بِمَعَالِمَ لَهَا دُونَ ذَلِكَ؟ ". قَالَ: أَجَلْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَحَدِّثْنِي. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا رَأَيْتَ الأمَة وَلَدَتْ رَبَّتَها -أَوْ: رَبَّهَا -وَرَأَيْتَ أَصْحَابَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ، وَرَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْجِيَاعَ الْعَالَةَ [كَانُوا رُؤُوسَ النَّاسِ، فَذَلِكَ مِنْ مَعَالِمِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ومَنْ أَصْحَابُ الشَّاءِ وَالْحُفَاةِ الْجِيَاعِ الْعَالَةِ؟ قَالَ: "الْعَرَبُ"] (9) (10) .
حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَمْ يُخْرِّجُوهُ.
حَدِيثُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شعبة، عن مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعي بْنِ حِرَاش، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ؛ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَأَلِجُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ: "اخرُجي إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِئْذَانَ فَقُولِي لَهُ: فَلْيَقُلْ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ " قَالَ: فسَمعتهُ يَقُولُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ، فَدَخَلْتُ، فَقُلْتُ: بِمَ أَتَيْتَنَا بِهِ؟ قَالَ: "لَمْ آتِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، أَتَيْتُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لا شريك له، وأن
__________
(1) في ت: "لا يعلمهم".
(2) صحيح البخاري برقم (4777) .
(3) صحيح البخاري برقم (50) وصحيح مسلم برقم (9) .
(4) صحيح مسلم برقم (8) .
(5) في ف، أ: "بين يديه".
(6) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(7) في ف: "فإذا".
(8) في أ: "الله".
(9) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(10) المسند (1/318) .(6/354)
تَدَعوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَأَنْ تُصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ؛ وَأَنْ تَصُومُوا مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا، وَأَنْ تَحُجُّوا الْبَيْتَ، وَأَنْ تَأْخُذُوا الزَّكَاةَ مِنْ مَالِ أَغْنِيَائِكُمْ فَتَرُدُّوهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ". قَالَ: فَقَالَ: فَهَلْ بَقِيَ مِنَ الْعِلْمِ شَيْءٌ لَا تَعْلَمُهُ؟ قَالَ: "قَدْ عَلم اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْخَمْسُ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . (1) وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيِح، عَنْ مُجَاهِدٍ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: إِنِ امْرَأَتَيْ حُبْلَى، فَأَخْبِرْنِي مَا تَلِدُ؟ وَبِلَادُنَا جَدبَةٌ، فَأَخْبِرْنِي مَتَّى يَنْزِلُ الْغَيْثُ؟ وَقَدْ عَلمتُ مَتَى وُلدتُ فَأَخْبَرَنِي مَتَى أَمُوتُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [وَيُنزلُ الْغَيْثَ] } (2) ، إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهِيَ (3) مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} [الْأَنْعَامِ: 59] . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (4) .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} : قَالَ قَتَادَةُ: أَشْيَاءُ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِنَّ، فَلَمْ يُطلع عَلَيْهِنَّ مَلَكا مُقَرَّبًا، وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ، فَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ، فِي أَيِّ سَنَةٍ أَوْ فِي أَيِّ شَهْرٍ، أَوْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، {وَيُنزلُ الْغَيْثَ} ، فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَّى يَنْزِلُ الْغَيْثُ، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ} ، فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا فِي الْأَرْحَامِ، أَذَكُرٌ أَمْ أُنْثَى، أَحْمَرُ أَوْ أَسْوَدُ، وَمَا هُوَ، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} ، أَخَيْرٌ أَمْ شَرٌّ، وَلَا تَدْرِي يَا ابْنَ آدَمَ مَتَى تَمُوتُ؟ لَعَلَّكَ الْمَيِّتُ غَدًا، لَعَلَّكَ الْمُصَابُ غَدًا، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَدْرِي أَيْنَ مَضْجَعُهُ مِنَ الْأَرْضِ، أَفِي بَحْرٍ أَمْ بَرٍّ، أَوْ سَهْلٍ أَوْ جَبَلٍ؟
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ قبض عبد بأرض، جعل له إليها حاجة"، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ، فِي مُسْنَدِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ أُسَامَةَ (5) بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا جَعَلَ اللَّهُ ميتَة (6) عَبْدٍ بِأَرْضٍ إِلَّا جَعَلَ لَهُ فِيهَا حَاجَةً" (7) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو داود الحَفَريّ، عن
__________
(1) المسند (5/368) .
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) في أ: "وهن".
(4) تفسير الطبري (21/56) .
(5) في ت: "فروى أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ فِي مسند أسامة".
(6) في ت، ف، أ: "منية".
(7) المعجم الكبير (1/178) وقال الهيثمي في المجمع (7/196) "ورجاله رجال الصحيح" وفيها: "منية" بدل "ميتة".(6/355)
سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَطَر بْنِ عُكَامِس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) : إِذَا قَضَى اللَّهُ مَيْتَةَ عَبْدٍ بِأَرْضٍ، جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً".
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "الْقَدَرِ"، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، بِهِ (2) . ثُمَّ قَالَ: "حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلَا يُعْرَفُ لِمَطَرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "الْمَرَاسِيلِ"، (3) فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ (4) عَنْ أَبِي عَزَّةَ (5) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إذا أَرَادَ اللَّهُ قَبْضَ رُوحِ عَبْدٍ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ فِيهَا -أَوْ قَالَ: بِهَا -حَاجَةً".
وَأَبُو عَزَّةَ هَذَا هُوَ: يَسَار (6) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَيُقَالُ: ابْنُ عَبْدٍ الهُذَلي.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ [بْنِ إِبْرَاهِيمَ -وَهُوَ ابْنُ عُلَيّة (7) ، وَقَالَ: صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ] (8) ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ أَبِي عَزَّةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إذا أراد الله قبض عبد بأرض، جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً، فَلَمْ يَنْتَهِ حَتَّى يَقْدُمَهَا". ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (9) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الجَحْدَري وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى القُطَعي قَالَا حَدَّثَنَا عُمَر بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "إذا أراد الله قبض عبد بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً". ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَرْفَعُهُ إِلَّا عُمَر بْنَ عَلِيٍّ المُقَدميّ. (10) وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مَسِيحٍ (11) قَالَ: أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ لِأَعْشَى هَمْدان:
فَمَا تَزَوّدَ ممَّا كَانَ يَجْمَعُه ... سِوَى حَنُوط غَدَاةَ البَيْن مَع خرَق ...
وَغَيْرِ نَفْحة أعْوَاد تُشَبّ لَُه ... وَقلّ ذَلكَ مِنْ زَاد لمُنْطَلق! ...
لَا تَأسَيَنّ عَلَى شَيْء فَكُلّ فَتَى ... إلَى مَنيّته سَيَّارُ فِي عَنَق (12)
وَكُلّ مَنْ ظَنّ أَنَّ الموتَ يُخْطِئهُ ... مُعَلَّلٌ بأعَاليل مِنَ الحَمق ...
بأيّمَا بَلْدَة تُقْدَر مَنِيَّتُهُ ... إنْ لَا يُسَيَّرْ إلَيها طَائعًا يُسَق ...
__________
(1) في ت: "روى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال".
(2) زوائد المسند (5/227) وسنن الترمذي برقم (2146) .
(3) لم أجده في المطبوع من المراسيل.
(4) في ت: "وروى الإمام أحمد".
(5) في أ: "عن أبي عزة الهذلي".
(6) في ف: "بشار".
(7) المسند (3/429) وسنن الترمذي برقم (2147) .
(8) زيادة من ت، ف، أ.
(9) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (3248) "مجمع البحرين" من طريق عباد بن صهيب، عن عبيد الله بن أبي حميد به، وعباد ابن صهيب متروك.
(10) ورواه الحاكم في المستدرك (1/367) من طريق محمد بن خالد الوهبي، عن إسماعيل بن أبي خالد بنحوه.
(11) في ت، ف، أ: "شيخ".
(12) في ت: "يسير في غنق".(6/356)
أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، (1) وَهُوَ أَعْشَى هَمْدَان، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ زوجَ أُخْتِهِ، وَهُوَ مُزَوّج بِأُخْتِ الشَّعْبِيِّ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ مِمَّنْ طَلَبَ الْعِلْمَ وتَفَقَّه، ثُمَّ عَدَلَ إِلَى صِنَاعَةِ الشِّعْرِ فعُرف بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ ثَابِتٍ وعُمَر بْنِ شَبَّة، كِلَاهُمَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ (2) مَرْفُوعًا: "إِذَا كَانَ أَجَلُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ أوثَبَتْه (3) إِلَيْهَا حَاجَةٌ، فَإِذَا بَلَغَ أَقْصَى أَثَرَهُ (4) ، قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَقُولُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَبِّ، هَذَا مَا أَوْدَعْتَنِي" (5) .
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ أُسَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا جَعَلَ اللَّهُ مَنِيَّةَ عَبْدٍ بِأَرْضٍ، إِلَّا جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً" (6) .
[آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "لُقْمَانَ" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وهو حسبنا ونعم الوكيل] (7)
__________
(1) لم أجد الأبيات فيما بين يدي من تاريخ دمشق ولا في المختصر لابن منظور.
(2) في ت، ف: "عكرمة".
(3) في ف: "أتت".
(4) في ت، ف: "أمره".
(5) سنن ابن ماجه برقم (4263) وقال البوصيري في الزوائد (2/264) : "هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات". والكلام هنا متعلق برواية البزار ولم أستسغ تقديمها؛ لورودها هكذا في النسخ.
(6) المعجم الكبير (1/178) وقد مر ذكره.
(7) زيادة من ت، ف، أ.(6/357)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
تَفْسِيرُ سُورَةِ السَّجْدَةِ (1)
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي "كِتَابِ الْجُمُعَةِ": حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُز الْأَعْرَجِ، (2) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ (3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: {الم * تَنزيلُ} السَّجْدَةَ، وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ} .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، بِهِ. (4)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ لَيْث، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ {الم * تَنزيلُ} السَّجْدَةَ وَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. (5)
{الم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) } .
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {تَنزيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ} أَيْ: لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ أَنَّهُ نَزَلَ، (6) {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} ، بَلْ يَقُولُونَ: {افْتَرَاهُ} أَيِ: اخْتَلَقَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أَيْ يتبعون الحق.
__________
(1) في أ: "سورة الم السجدة".
(2) في ت: "وروى البخاري بإسناده".
(3) في ت: "رسول الله".
(4) صحيح البخاري برقم (891) وصحيح مسلم برقم (880) .
(5) المسند (3/340) .
(6) في ف، أ: "منزل".(6/358)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ، فخلق السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.
{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} أَيْ: بَلْ هُوَ الْمَالِكُ لِأَزِمَّةِ الْأُمُورِ، الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْمُدَبِّرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْقَادِرُ (1) عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا وَلِيَّ لِخَلْقِهِ سِوَاهُ، وَلَا شَفِيعَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ.
{أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} يَعْنِي: أَيُّهَا الْعَابِدُونَ غَيْرَهُ، الْمُتَوَكِّلُونَ عَلَى مَنْ عَدَاهُ -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَظِيرٌ أَوْ شَرِيكٌ أَوْ نَدِيدٌ، أَوْ وَزِيرٌ أَوْ عَدِيلٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ النَّسَائِيُّ هَاهُنَا حَدِيثًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ، حَدَّثَنَا الْأَخْضَرُ بْنُ عَجْلان، عَنْ أَبِي جُريْج الْمَكِّيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، (2) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فِي الْيَوْمِ (3) السَّابِعِ، فَخَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَالْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَالشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَالْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَالنُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَالدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَآدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَخَلَقَهُ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، بِأَحْمَرِهَا وَأَسْوَدِهَا، وَطِيبِّهَا وَخَبِيثِهَا، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ مَنْ بَنِي آدَمَ الطَّيِّبَ وَالْخَبِيثَ". (4)
هَكَذَا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ إِسْنَادًا وَمَتْنًا، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنِّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرُ، عَنِ ابْنِ جُرَيج، عَنْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ. (5)
وَقَدْ علَّله الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ "التَّارِيخِ الْكَبِيرِ" فَقَالَ: "وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَهُوَ أَصَحُّ"، (6) وَكَذَا علَّله غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أَيْ: يَتَنَزَّلُ (7) أَمْرُهُ مِنْ أَعْلَى السموات إِلَى أَقْصَى تُخُومِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلَاقِ: 12] .
وَتُرْفَعُ الْأَعْمَالُ إِلَى دِيوَانِهَا فَوْقَ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَمَسَافَةُ مَا بَيَّنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ [مَسِيرَةُ] (8) خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَسُمْكُ السَّمَاءِ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: النُّزُولُ مِنَ الْمَلَكِ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَصُعُودُهُ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَلَكِنَّهُ يَقْطَعُهَا فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
__________
(1) في ت، ف، أ: "القاهر".
(2) في ت: "وروى مسلم والنسائي حديثا".
(3) في ت: "على العرش يوم".
(4) النسائي في السنن الكبرى برقم (11392) .
(5) صحيح مسلم برقم (2789) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11010) .
(6) التاريخ الكبير للبخاري (1/413، 414) وممن أعله من الحفاظ ابن المديني كما نقل ذلك البيهقي في الأسماء والصفات ص (275) وقد رد ذلك الشيخ ناصر الألباني في صحيحته برقم (1833) والحديث يحتاج إلى بحث، والله اعلم.
(7) في ت، ف: "ينزل".
(8) زيادة من ت، ف، أ.(6/359)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أَيِ: الْمُدَبِّرُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّذِي هُوَ شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِ عِبَادِهِ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ جَلِيلُهَا وَحَقِيرُهَا، وَصَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا -هُوَ {الْعَزِيزُ} الَّذِي قَدْ عَزَّ كلَّ شَيْءٍ فَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، وَدَانَتْ لَهُ الْعِبَادُ وَالرِّقَابُ، {الرَّحِيمُ} بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. فَهُوَ عَزِيزٌ فِي رَحْمَتِهِ، رَحِيمٌ فِي عِزَّتِهِ [وَهَذَا هُوَ الْكَمَالُ: الْعِزَّةُ مَعَ الرَّحْمَةِ، وَالرَّحْمَةُ مَعَ الْعِزَّةِ، فَهُوَ رَحِيمٌ بِلَا ذُلٍّ] . (1)
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (9) } .
يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ الَّذِي أَحْسَنَ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ وَأَتْقَنَهَا وَأَحْكَمَهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قَالَ: أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ. كَأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ.
ثُمَّ لما ذكر خلق السموات وَالْأَرْضِ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ} يَعْنِي: خَلَقَ أَبَا الْبَشَرِ آدَمَ مِنْ طِينٍ.
{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} أَيْ: يَتَنَاسَلُونَ كَذَلِكَ مِنْ نُطْفَةٍ تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ.
{ثُمَّ سَوَّاهُ} يَعْنِي: آدَمَ، لَمَّا خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ خَلَقَهُ سَوِيًّا مُسْتَقِيمًا، {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ} ، يَعْنِي: الْعُقُولَ، {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} أَيْ: بِهَذِهِ الْقُوَى الَّتِي رَزَقَكُمُوهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. (2) فَالسَّعِيدُ مَنْ اسْتَعْمَلَهَا فِي طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِبْعَادِهِمُ الْمَعَادَ حَيْثُ قَالُوا: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ} أَيْ: تَمَزَّقَتْ أَجْسَامُنَا وَتَفَرَّقَتْ فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ (3) وَذَهَبَتْ، {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ؟ أَيْ: أَئِنَّا لَنَعُودُ بَعْدَ تِلْكَ الْحَالِ؟! يَسْتَبْعِدُونَ ذَلِكَ، (4) وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ بَعِيدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتهم الْعَاجِزَةِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرة الَّذِي بَدَأَهُمْ وَخَلَقَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ، الَّذِي إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} .
ثُمَّ قَالَ: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} ، الظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَلَكَ الموت شخص
__________
(1) زيادة من ت، ف.
(2) في ف، أ: "تعالى".
(3) ف أ: "الأرضين".
(4) في أ: "تلك الحال".(6/360)
مُعَيَّنٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ "إِبْرَاهِيمَ"، (1) وَقَدْ سُمِّيَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ بِعِزْرَائِيلَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَهُ أَعْوَانٌ. وَهَكَذَا (2) وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَعْوَانَهُ يَنْتَزِعُونَ الْأَرْوَاحَ مِنْ سَائِرِ الْجَسَدِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ تَنَاوَلَهَا مَلَكُ الْمَوْتِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: حُويت لَهُ الْأَرْضُ فَجُعِلَتْ لَهُ مِثْلَ الطَّسْتِ، يَتَنَاوَلُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ. (3) وَرَوَاهُ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَحْوِهِ مُرْسَلًا. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي يَحْيَى الْمَقْرِيُّ، حَدَّثَنَا (4) عَمْرُو بْنُ شَمِرٍ (5) عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ عِنْدَ رَأْسِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، ارْفُقْ بِصَاحِبِي فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ". فَقَالَ مَلَك الْمَوْتِ: يَا مُحَمَّدُ، طِبْ نَفْسًا وقَر عَيْنًا فَإِنِّي بِكُلِّ مُؤْمِنٍ رَفِيقٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَر وَلَا شَعَر، فِي بَرٍّ وَلَا (6) بَحْرٍ، إِلَّا وَأَنَا أَتَصَفَّحُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، حَتَّى إِنِّي أعرفُ (7) بِصَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، لَوْ أَنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَقْبِضَ رُوحَ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرتُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْآمِرُ بِقَبْضِهَا. (8)
قَالَ جَعْفَرُ: بَلَغَنِي أَنَّهُ إِنَّمَا يَتَصَفَّحَهُمْ عِنْدَ (9) مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا حَضَرَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَاةِ دَنَا مِنْهُ الْمَلَكُ، وَدَفَعَ عَنْهُ الشَّيْطَانَ، وَلَقَّنَهُ المَلَك: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" فِي تِلْكَ الْحَالِ الْعَظِيمَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرة قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ (10) مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ بَيْتِ شِعْرٍ أَوْ مَدَرٍ إِلَّا وَمَلَكُ الْمَوْتِ يُطيف بِهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَاللَّهِ مَا مِنْ بَيْتٍ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَّا وَمَلَكُ الْمَوْتِ يَقُومُ عَلَى بَابِهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ. يَنْظُرُ هَلْ فِيهِ أَحَدٌ أُمِرَ أَنْ (11) يَتَوَفَّاهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أَيْ: يَوْمَ معادكم وقيامكم من قبوركم لجزائكم.
__________
(1) عند الآية السابعة والعشرين، وقد جاء الحديث بتمامه في نسخة ت.
(2) في ت: "كما".
(3) في ت: شاء".
(4) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن".
(5) في ت، ف، أ، هـ، "عمر بن سمرة" والتصويب من البداية والنهاية والمعجم.
(6) في ت: "أو".
(7) في ف، أ: "لأعرف".
(8) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/220) والبزار في مسنده برقم (784) "كشف الأستار" من طريق إسماعيل بن أبان، عن عمرو بن شمر الجعفي، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الحارث بن الخزرج عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فذكر نحوه، فأسنده ولم يرسله، ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة وقال: "عمرو بن شمر متروك الحديث".
(9) في ف: "في".
(10) في ت: "وقال مجاهد".
(11) في ت، ف، أ: "وبه".(6/361)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رؤُُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحَالِهِمْ حِينَ عَايَنُوا الْبَعْثَ، وَقَامُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَقِيرِينَ ذَلِيلِينَ، نَاكِسِي رُؤُوسِهِمْ، أَيْ: مِنَ الْحَيَاءِ وَالْخَجَلِ، يَقُولُونَ: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} (1) أَيْ: نَحْنُ الْآنَ نَسْمَعُ قَوْلَكَ وَنُطِيعُ أَمْرَكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مَرْيَمَ: 38] . وَكَذَلِكَ يَعُودُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ إِذَا (2) دَخَلُوا النَّارَ بِقَوْلِهِمْ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الْمُلْكِ:10] . وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا} أَيْ: إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا، {نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} أَيْ: قَدْ أَيْقَنَّا وَتَحَقَّقْنَا أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، وَقَدْ عَلِمَ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْهُمْ أَنَّهُ لَوْ أَعَادَهُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا لَكَانُوا كَمَا كَانُوا فِيهَا كُفَّارًا يُكْذِّبُونَ آيَاتِ (3) اللَّهِ وَيُخَالِفُونَ رُسُلَهُ، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الْأَنْعَامِ: 27-29] .
وَقَالَ هَاهُنَا {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يُونُسَ: 99] .
{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أَيْ: مِنَ الصِّنْفَيْنِ، فَدَارُهُمُ النَّارُ (4) لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا وَلَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنْهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّةِ مِنْ ذَلِكَ.
{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أَيْ: يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ: ذُوقُوا [هَذَا] (5) الْعَذَابَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِكُمْ بِهِ، وَاسْتِبْعَادِكُمْ وُقُوعَهُ، وَتَنَاسِيكُمْ لَهُ؛ إِذْ عَامَلْتُمُوهُ مُعَامَلَةَ مَنْ هُوَ نَاسٍ لَهُ، {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أَيْ: [إِنَّا] (6) سَنُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ النَّاسِي؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْسَى شَيْئًا وَلَا يَضِلُّ عَنْهُ شَيْءٌ، بَلْ مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الْجَاثِيَةِ: 34] .
وَقَوْلُهُ: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ: بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ وَتَكْذِيبِكُمْ، (7) كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا. إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا جَزَاءً وِفَاقًا. إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا. وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا. فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} [النَّبَأِ: 24-30] .
{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } .
__________
(1) بعدها في ف، أ: "فارجعنا نعمل صالحا".
(2) في ت: "إذ".
(3) في ت، ف: "بآيات".
(4) في ت، ف: "قد ذرأتهم للنار".
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من ت.
(7) في ت: "كفرهم وتكذيبهم".(6/362)
يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} أَيْ: إِنَّمَا يُصَدِّقُ بِهَا {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} أَيِ: اسْتَمَعُوا لَهَا وَأَطَاعُوهَا قَوْلًا وَفِعْلًا {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [أَيْ] (1) عَنِ اتِّبَاعِهَا وَالِانْقِيَادِ لَهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ الْجَهَلَةُ مِنَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ، [وَقَدْ] (2) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِرٍ:60] .
ثُمَّ قَالَ [تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} يَعْنِي بِذَلِكَ: قِيَامَ اللَّيْلِ، وَتَرْكَ النَّوْمِ وَالِاضْطِجَاعِ عَلَى الْفُرَشِ الْوَطِيئَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى] (3) : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} يَعْنِي بِذَلِكَ: قِيَامَ اللَّيْلِ.
وَعَنْ أَنَسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِر، وَأَبِي حَازِمٍ، وَقَتَادَةَ: هُوَ الصَّلَاةُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ. وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: هُوَ انْتِظَارُ صَلَاةِ الْعَتَمَةِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. (4)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ، وَصَلَاةُ الْغَدَاةِ فِي جَمَاعَةٍ.
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} أَيْ: خَوْفًا مِنْ وَبَالِ عِقَابِهِ، وَطَمَعًا فِي جَزِيلِ ثَوَابِهِ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ، فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ فِعْلِ الْقُرُبَاتِ اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ، وَمُقَدَّمُ هَؤُلَاءِ وَسَيِّدُهُمْ وَفَخْرُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحة، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كتَابَه ... إذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الصُّبْحِ سَاطعُ ...
[أرَانَا الهُدَى بَعْدَ العَمَى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أنَّ مَا قَال وَاقِعُ] (5) ...
يَبيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِه ... إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بالْمُشْرِكِين المَضَاجِعُ ...
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ وَعَفَّانُ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ (6) ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ ثَارَ مِنْ وِطَائه وَلِحَافِهِ، وَمِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ وَحَيِّه (7) إِلَى صَلَاتِهِ، [فَيَقُولُ رَبُّنَا: أَيَا مَلَائِكَتِي، انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، ثَارَ مِنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ، وَمِنْ بَيْنِ حَيِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ] (8) رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي. وَرَجُلٌ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَانْهَزَمُوا، فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْفِرَارِ، وَمَا لَهُ فِي
__________
(1) زيادة من ت، ف.
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت، ف.
(4) تفسير الطبري (21/63) .
(5) زيادة من ت، ف، أ.
(6) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن ابن مسعود".
(7) في ت، ف، أ: "من بين بنيه وأهله".
(8) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.(6/363)
الرُّجُوعِ، فَرَجَعَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي. فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَرَهْبَةً مِمَّا عِنْدِي، حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "الْجِهَادِ"، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ بِنَحْوِهِ. (1)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُود، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، (2) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ، وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، (3) أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ. قَالَ: "لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ الله ولا تشرك به شيئا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ". ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أَدُلَّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي (4) جَوْفِ اللَّيْلِ". ثُمَّ قَرَأَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ، حَتَّى بَلَغَ {يَعْمَلُون} . ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: "رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامه الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". ثُمَّ قَالَ: "أَلَّا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى، يَا نَبِيَّ اللَّهِ. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ثُمَّ قَالَ: "كُفّ عَلَيْكَ هَذَا". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ. فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُب النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ -إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ".
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِمْ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ مَعْمَرٍ، بِهِ. (5) وَقَالَ (6) التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَة بْنَ النَّزَّالِ (7) يُحَدِّثُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال لَهُ: "أَلَا أَدُلَّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ، وَقِيَامُ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ"، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (8) .
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وَمِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَالْحَكَمِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ. وَمِنْ حَدِيثِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُود، عن شَهْرٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}
__________
(1) المسند (1/416) وسنن أبي داود برقم (5236) .
(2) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(3) في ت: "يا رسول الله".
(4) في ت: "من".
(5) المسند (5/231) وسنن الترمذي برقم (2616) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11394) وسنن ابن ماجه برقم (3973) .
(6) في ت: "رواه".
(7) في أ: "الزبير".
(8) تفسير الطبري (21/64) .(6/364)
قَالَ: "قِيَامُ الْعَبْدِ مِنَ اللَّيْلِ". (1)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَنَان الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا فِطْر بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَالْحَكَمِ، وَحَكِيمِ بْنِ جُبَيْر، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذٍ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ: "إِنْ شِئْتَ أَنْبَأَتُكَ بِأَبْوَابِ الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ"، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} .
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِر، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَب، (2) عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جَاءَ مُنَادٍ فَنَادَى بِصَوْتٍ يُسمعُ الْخَلَائِقَ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ الْيَوْمَ مَن أَوْلَى بِالْكَرَمِ. ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُنَادِي: لِيَقُمِ (3) الَّذِينَ كَانَتْ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} الْآيَةَ، فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ". (4)
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيب، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ الْأَغَرِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي مُصْعَبٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ بِلَالٌ (5) لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [الْآيَةَ] (6) ، كُنَّا نَجْلِسُ فِي الْمَجْلِسِ، وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَشَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} .
ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَى أَسْلَمُ عَنْ بِلَالٍ سِوَاهُ، وَلَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ عَنْ بِلَالٍ غَيْرَ هَذِهِ الطَّرِيقِ (7) .
وَقَوْلُهُ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ: فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ عَظَمَةَ مَا أَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّاتِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَاللَّذَّاتِ الَّتِي لَمْ يَطَّلِعُ عَلَى مِثْلِهَا أَحَدٌ، لَمَّا أَخْفَوْا أَعْمَالَهُمْ (8) أَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، جَزَاءً وِفَاقًا؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.
قَالَ الْحَسَنُ [الْبَصْرِيُّ] : (9) أَخْفَى قَوْمٌ عَمَلَهُمْ فَأَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ (10) عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَوْلُهُ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية: حدثنا علي بن
__________
(1) تفسير الطبري (21/64، 65) .
(2) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(3) في ت: "لتقم".
(4) ورواه إسحاق بن راهوية في مسنده، وأبو يعلى في المسند الكبير كما في المطالب العالية (4/373) من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها.
(5) في ت: "وقال البزار بإسناده عن بلال قال".
(6) زيادة من ت، ف.
(7) مسند البزار برقم (2250) "كشف الأستار"، وقال الهيثمي في المجمع (7/90) : "فيه عبد الله بن شبيب وهو ضعيف".
(8) في ت، ف، أ: "أعمالهم كذلك".
(9) زيادة من أ.
(10) في ت: "ولا يخطر".(6/365)
عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". قَالَ أبو هريرة: فاقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} .
قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ مِثْلَهُ (1) . قِيلَ لِسُفْيَانَ: رِوَايَةً؟ قَالَ: فَأيُّ شَيْءٍ؟.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ (2) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنَا (3) أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ذُخْرًا منْ بَله مَا أطلعْتم عَلَيْهِ"، ثُمَّ قَرَأَ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "قُرَّات أَعْيُنٍ". انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. (4)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّه قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله تَعَالَى قَالَ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ".
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (5) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (6)
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (7) ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ حَمَّادٌ: أَحْسَبُهُ عَنِ النَّبِيِّ (8) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ، فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر على قلب بشر".
__________
(1) في ف، أ: "تعالى".
(2) صحيح البخاري برقم (4779) وصحيح مسلم برقم (2824) وسنن الترمذي برقم (3197) .
(3) في ف، أ: "عن".
(4) صحيح البخاري برقم (4780) وفي البخاري "رواية أبي معاوية" بعد الحديث المتقدم.
(5) المسند (2/313) وصحيح البخاري برقم (8498) من طريق عبد الله عن معمر به، ولم أجده في الصحيحين من رواية عبد الرزاق.
(6) سنن الترمذي برقم (3292) وتفسير الطبري (21/66) .
(7) في ت: "وروى مسلم عن أبي هريرة".
(8) في ت: "رسول الله".(6/366)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ. (1)
وَرَوَى (2) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، أَنَّ أَبَا حَازِمٍ حدَّثه قَالَ: سَمِعْتُ (3) سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجلسا وَصَفَ فِيهِ الْجَنَّةَ، حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: "فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا] } (4) ، إِلَى قَوْلِهِ: {يَعْمَلُون} .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ، وَهَارُونَ بْنِ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، بِهِ. (5)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". لَمْ يُخَرِّجُوهُ. (6)
وَقَالَ (7) مُسْلِمٌ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ وَغَيْرُهُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُطَرّف بْنُ طَريف وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعِيدٍ، سَمِعَا الشَّعْبِيَّ يُخْبِرُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ -يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: "سَأَلَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ (8) رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَمَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلَ مُلك مَلِكٍ مَنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ. فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، فَقَال فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ. فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ (9) وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ ولَذَّت عَيْنُكَ. فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ. قَالَ: رَبِّ، فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أرَدتُ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ (10) أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"، قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، والمرفوع أصح. (11)
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2836) .
(2) في أ: "وقال".
(3) في ت: "وروى مسلم أيضا عن".
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) المسند (5/334) وصحيح مسلم برقم (2825) .
(6) تفسير الطبري (21/67) .
(7) في ت: "وروى".
(8) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(9) في ف، أ: "وعشرة أمثاله معه".
(10) في ف "تستمع".
(11) صحيح مسلم برقم (189) وسنن الترمذي برقم (3198) .(6/367)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُنِيرٍ الْمَدَائِنِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ شجاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خَيْثَمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادة، عَنْ عَامِرِ (1) بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَلْتَفِتُ فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ فِيهِ، فَتَقُولُ لَهُ: قَدْ أنَى لَكَ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْكَ نَصِيبٌ؟ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا مِنَ الْمَزِيدِ. فَيَمْكُثُ مَعَهَا سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَلْتَفِتُ فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ فِيهِ، فَتَقُولُ لَهُ: قَدْ أَنَى لَكَ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْكَ نَصِيبٌ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا الَّتِي (2) قَالَ اللَّهُ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} .
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَة: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر قَالَ: تَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ فِي مِقْدَارِ كَلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، مَعَهُمُ التُّحَفُ مِنَ اللَّهِ مِنْ جَنَّاتِ عَدْنٍ مَا لَيْسَ فِي جَنَّاتِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ، ويُخْبَرون أَنَّ اللَّهَ عَنْهُمْ (3) رَاضٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ الْهَوْزَنِيِّ -أَوْ غَيْرِهِ -قَالَ: الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، أوَّلها دَرَجَةُ فِضَّةٍ وَأَرْضُهَا فِضَّةٌ، وَمَسَاكِنُهَا فِضَّةٌ، [وَآنِيَتُهَا فِضَّةٌ] (4) وَتُرَابُهَا الْمِسْكُ. وَالثَّانِيَةُ ذَهَبٌ، وَأَرْضُهَا ذَهَبٌ، وَمَسَاكِنُهَا ذَهَبٌ، وَآنِيَتُهَا ذَهَبٌ، وَتُرَابُهَا الْمِسْكُ. وَالثَّالِثَةُ لُؤْلُؤٌ، وَأَرْضُهَا لُؤْلُؤٌ، وَمَسَاكِنُهَا اللُّؤْلُؤُ، وَآنِيَتُهَا اللُّؤْلُؤُ، وَتُرَابُهَا الْمِسْكُ. وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عن الغِطْرِيف، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (6) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الرُّوحِ الْأَمِينِ قَالَ: "يُؤْتَى بِحَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَسَيِّئَاتِهِ، يُنْقَصُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَإِنْ بَقِيَتْ حَسَنَةٌ [وَاحِدَةٌ] (7) وَسَّعَ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ"، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى "يَزْدَادَ" فَحَدَّث بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: فَقُلْتُ: فَأَيْنَ ذَهَبَتِ الْحَسَنَةُ؟ قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الْأَحْقَافِ: 16] . قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ، قَالَ: الْعَبْدُ يَعْمَلُ سِرًّا أسرَّه إِلَى اللَّهِ، لَمْ يُعلم بِهِ النَّاسُ، فأسَرَّ اللَّهُ لَهُ يوم القيامة قُرَّة أعين. (8)
__________
(1) في ت: "وروى ابن أبي حاتم عن عباس".
(2) في أ: "أنا من الذين".
(3) في ت: "عليهم".
(4) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.
(5) تفسير الطبري (21/66) .
(6) في ت: "وروى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس".
(7) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.
(8) تفسير الطبري (21/67) .(6/368)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) }(6/369)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَدْلِهِ [وَكَرَمِهِ] (1) أَنَّهُ لَا يُسَاوِي فِي حُكمه يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ كَانَ مُؤمنًا بِآيَاتِهِ مُتْبِعًا لِرُسُلِهِ، بِمَنْ كَانَ فَاسِقًا، أَيْ: خَارِجًا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ مكذِّبًا لرُسُله إِلَيْهِ (2) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الْجَاثِيَةِ: 21] ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الْحَشْرِ: 20] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} أَيْ: عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ عَطَاءُ بْنُ يَسَار والسُّدِّيّ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيط؛ وَلِهَذَا فَصَّل حُكْمَهُمْ فَقَالَ: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ: صَدَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهَا (3) ، وَهِيَ الصَّالِحَاتُ {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} أَيِ: الَّتِي فِيهَا الْمَسَاكِنُ وَالدُّورُ وَالْغُرَفُ الْعَالِيَةُ {نُزُلًا} أَيْ: ضِيَافَةً وَكَرَامَةً {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} أَيْ: خَرَجُوا عَنِ الطَّاعَةِ، {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} كَقَوْلِهِ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} الْآيَةَ [الْحَجِّ: 22] .
قَالَ الفُضَيل بْنُ عِيَاضٍ: وَاللَّهِ إِنَّ الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَإِنَّ الْأَرْجُلَ لَمُقَيَّدَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَبَ لَيَرْفَعُهُمْ وَالْمَلَائِكَةَ تَقْمَعُهُمْ.
{وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا.
وَقَوْلُهُ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] } (4) قَالَ (5) ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِالْعَذَابِ الْأَدْنَى مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَأَسْقَامَهَا وَآفَاتِهَا، وَمَا يَحِلُّ بِأَهْلِهَا مِمَّا يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ لِيَتُوبُوا إِلَيْهِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي، وَالضَّحَّاكِ، وَعَلْقَمَةَ، وَعَطِيَّةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَعَبْدِ الْكَرِيمِ الجَزَري، وخَصِيف.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ -: يَعْنِي بِهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ: يَعْنِي بِهِ عَذَابَ الْقَبْرِ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أبي
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت، ف: "لرسل الله".
(3) في ت: "قلوبهم بلقاء الله ومقتضاها".
(4) زيادة من ت.
(5) في ت: "وقال".(6/369)
إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ (1) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ} قَالَ: سُنُونَ أَصَابَتْهُمْ. (2)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَر القَوَاريري، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةُ، عَنْ عَزْرَة (3) ، عَنِ الْحَسَنِ العُرَني، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى (4) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ} قَالَ: الْمُصِيبَاتُ (5) وَالدُّخَانُ قَدْ مَضَيَا، وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ. (6)
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، بِهِ مَوْقُوفًا نَحْوَهُ. (7) وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، نَحْوَهُ. (8)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ (9) أَيْضًا، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْعَذَابُ الْأَدْنَى: مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
قَالَ السُّدِّي وَغَيْرُهُ: لَمْ يَبْقَ بَيْتٌ بِمَكَّةَ إِلَّا دَخَلَهُ الْحُزْنُ عَلَى قَتِيلٍ لَهُمْ أَوْ أَسِيرٍ، فَأُصِيبُوا أَوْ غَرموا (10) ، وَمِنْهُمْ مَنْ جُمِعَ له الأمران.
وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} أَيْ: لَا أَظْلِمُ مِمَّنْ ذَكَّرَه اللَّهُ بِآيَاتِهِ وَبَيَّنَهَا لَهُ وَوَضَّحَهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَرَكَهَا وَجَحَدَهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَتَنَاسَاهَا، كَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا.
قَالَ قَتَادَةُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: إِيَّاكُمْ وَالْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ فَقَدِ اغْتَرَّ أَكْبَرَ الغرَّة، وَأَعْوَزَ أَشَدَّ العَوَز (11) ، وَعَظَّمَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} أَيْ: سَأَنْتَقِمُ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَشَدَّ الِانْتِقَامِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الكِلاعي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيّ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ (12) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ أَجْرَمَ، مَنْ عَقَدَ (13) لِوَاءً فِي غَيْرِ حَقٍّ، أَوْ عقَّ وَالِدَيْهِ، أَوْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ يَنْصُرُهُ، فَقَدْ أَجْرَمَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (14)
__________
(1) في ت: "وروى النسائي بإسناده".
(2) النسائي في السنن الكبرى برقم (11395) .
(3) في ف، أ: "عررة".
(4) في ت: "وروى عبد الله بن الإمام أحمد".
(5) في ت، أ: "المضمار".
(6) زوائد المسند (5/128) .
(7) صحيح مسلم برقم (2799) .
(8) صحيح البخاري برقم (4820) ولفظه: "مضي خمس: الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام".
(9) في ت: "وعن ابن مسعود".
(10) في ت: "هزموا".
(11) في ت، أ: "وأعور أشد العورة".
(12) في ت: "وروى ابن جرير بإسناده".
(13) في ت: "اعتقد" وفي أ "أعقد".
(14) تفسير الطبري (21/69) .(6/370)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، بِهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ آتَاهُ الْكِتَابَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ.
وَقَوْلُهُ: {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} : قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي بِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. (1) ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ -يَعْنِي ابْنِ عَبَّاسٍ -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "أُريتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، رَجُلًا آدَمَ طُوَالا جَعْدًا، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءة. وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلًا مَرْبُوعَ الْخَلْقِ، إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، مُبْسَطَ الرَّأْسِ، وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ وَالدَّجَّالَ، فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ"، {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} ، أَنَّهُ قَدْ رَأَى مُوسَى، وَلَقِيَ مُوسَى لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ. (2)
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الحُلْوَاني، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} ، قَالَ: جُعل مُوسَى هُدى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي قَوْلِهِ: {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} قَالَ: مِنْ لِقَاءِ مُوسَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. (3)
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهُ} أَيِ: الْكِتَابُ الَّذِي آتَيْنَاهُ {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} ، [كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا} [الْإِسْرَاءِ: 2] .
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} ، أَيْ: لَمَّا كَانُوا صَابِرِينَ عَلَى أَوَامِرِ اللَّهِ وَتَرْكِ نَوَاهِيهِ وَزَوَاجِرِهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَاتِّبَاعِهِمْ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ، كَانَ مِنْهُمْ أَئِمَّةٌ يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَيَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. ثُمَّ لَمَّا بَدَّلُوا وحَرَّفوا وأوَّلوا، سُلِبُوا ذَلِكَ الْمَقَامَ، وَصَارَتْ قُلُوبُهُمْ قَاسِيَةً، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَلَا عَمَلَ صَالِحًا، وَلَا اعْتِقَادَ صَحِيحًا؛ (4) وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} (5) قَالَ قَتَادَةُ وَسُفْيَانُ: لَمَّا صَبَرُوا عَنِ الدُّنْيَا: وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ.
قَالَ سُفْيَانُ: هَكَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُقتَدى بِهِ حَتَّى يَتَحَامَى عَنِ الدُّنْيَا.
قَالَ وَكِيعٌ: قَالَ سُفْيَانُ: لَا بُدَّ لِلدِّينِ مِنَ الْعِلْمِ، كَمَا لَا بُدَّ لِلْجَسَدِ مِنَ الْخُبْزِ.
__________
(1) في ت: "الأسرى".
(2) انظر الأثر عند تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء وتخريجه هناك.
(3) المعجم الكبير للطبراني (12/160) وقال الهيثمي في المجمع (7/90) : "رجاله رجال الصحيح".
(4) في ت: "فلا عملا صالحا ولا اعتقادا صحيحا".
(5) في ف، أ: "ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب".(6/371)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
وَقَالَ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ: قَرَأَ أَبِي عَلَى عَمِّي -أَوْ: عَمِّي عَلَى أَبِي -سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ قَوْلِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} ، قَالَ: لَمَّا أَخَذُوا بِرَأْسِ الْأَمْرِ صَارُوا رُؤُوسًا. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تَنَالُ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى] : (1) {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة [وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ] فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الْجَاثِيَةِ: 16، 17] (2) ، كَمَا قَالَ هُنَا: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَيْ: مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ.
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) } .
يَقُولُ تَعَالَى: أَوْلَمَ يَهْدِ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، بِتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُمْ فِيمَا جاؤوهم بِهِ مِنْ قَوِيمِ السُّبُلِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ وَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ؟ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مَرْيَمَ: 98] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أَيْ: وَهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ فَلَا يَرَوْنَ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ كَانَ يَسْكُنُهَا وَيَعْمُرُهَا، ذَهَبُوا مِنْهَا، {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الْأَعْرَافِ: 92] ، كَمَا قَالَ: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النَّمْلِ: 52] ، وَقَالَ: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الْحَجِّ: 45، 46] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أَيْ: إِنَّ فِي ذَهَابِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ ودَمَارهم وَمَا حَلَّ بِهِمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَنَجَاةِ مَنْ آمن بهم، لآيات وعبرا وَمَوَاعِظُ وَدَلَائِلُ (3) مُتَظَاهِرَةٌ.
{أَفَلا يَسْمَعُونَ} أَيْ: أَخْبَارَ مَنْ تَقَدَّمَ، كَيْفَ كَانَ أَمْرُهُمْ؟.
وَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ} : يُبَيِّنُ تَعَالَى لُطْفَهُ بِخَلْقِهِ، وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ فِي إِرْسَالِهِ الْمَاءَ إِمَّا مِنَ السَّمَاءِ أَوْ مِنَ السَّيْحِ، وَهُوَ: مَا تَحْمِلُهُ الْأَنْهَارُ وَيَنْحَدِرُ مِنَ الْجِبَالِ إِلَى الْأَرَاضِي الْمُحْتَاجَةِ إِلَيْهِ فِي أَوْقَاتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ} ، وَهِيَ [الْأَرْضُ] (4) الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الْكَهْفِ: 8] ، أي: يَبَسًا لا تنبت شيئًا
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) في ت، أ: "دلالات".
(4) زيادة من ت، أ.(6/372)
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ} أَرْضَ مِصْرَ فَقَطْ، بَلْ هِيَ بَعْضُ الْمَقْصُودِ، وَإِنْ مَثَّلَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَلَيْسَتْ [هِيَ] (1) الْمَقْصُودَةُ وَحْدَهَا، وَلَكِنَّهَا مُرَادَّةٌ قَطْعًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهَا فِي نَفْسِهَا أَرْضٌ رَخْوَةٌ غَلِيظَةٌ تَحْتَاجُ مِنَ الْمَاءِ مَا لَوْ نَزَّلَ عَلَيْهَا مَطَرًا لَتَهَدَّمَتْ أَبْنِيَتُهَا، فَيَسُوقُ اللَّهُ إِلَيْهَا النَّيْلَ بِمَا يَتَحَمَّلُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ أَمْطَارِ بِلَادِ الْحَبَشَةِ، وَفِيهِ طِينٌ أَحْمَرُ، فَيَغْشَى أَرْضَ مِصْرَ، وَهِيَ أَرْضٌ سَبَخَةٌ مُرْمِلَةٌ مُحْتَاجَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ، وَذَلِكَ الطِّينِ أَيْضًا لينبُتَ الزَّرْعُ فِيهِ، فَيَسْتَغِلُّونَ كُلَّ سَنَةٍ عَلَى مَاءٍ جَدِيدٍ مَمْطُورٍ فِي غَيْرِ بِلَادِهِمْ، وَطِينٍ جَدِيدٍ مِنْ غَيْرِ أَرْضِهِمْ، فَسُبْحَانَ الْحَكِيمِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ الْمَحْمُودِ ابْتِدَاءً.
قَالَ ابْنُ لَهِيعَة، عَنْ قَيْسِ بْنِ حَجَّاجٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ: لَمَّا فُتِحَت مِصْرُ، أَتَى أَهْلُهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ -[وَكَانَ أميرًا بها] (2) -حين دخل بؤونة مِنْ أَشْهُرِ الْعَجَمِ، فَقَالُوا: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّ لِنِيلِنَا سُنَّة لَا يَجْرِي إِلَّا بِهَا. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: إِذَا كَانَتْ ثِنْتَا عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ عَمَدنا إِلَى جَارِيَةٍ بِكْر بَيْنَ (3) أَبَوَيْهَا، فَأَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا، وَجَعَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيلِ. فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: إِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ، إِنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ. فَأَقَامُوا بؤونة وَالنِّيلُ لَا يَجْرِي، حَتَّى هَمُّوا بِالْجَلَاءِ، فَكَتَبَ عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ بِالَّذِي فَعَلْتَ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِبِطَاقَةٍ دَاخِلَ كِتَابِي هَذَا، فَأَلْقِهَا فِي النِّيلِ. فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُهُ أَخَذَ عَمْرٌو الْبِطَاقَةَ فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نِيلِ أَهْلِ مِصْرَ، أَمَّا بَعْدُ ... فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَجْرِي مِنْ قِبَلِكَ فَلَا تَجْرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَكَ. قَالَ: فَأَلْقَى الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ، وَأَصْبَحُوا يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ النِّيلَ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقِطَعَ اللَّهُ تِلْكَ السُّنَّة عَنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الْيَوْمِ. رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالِكَائِيُّ الطَّبَرَيُّ فِي كِتَابِ "السُّنَةِ" لَهُ. (4)
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا وَنَخْلا. وَحَدَائِقَ غُلْبًا. وَفَاكِهَةً وَأَبًّا. [مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ] } [عَبَسَ: 24-32] ؛ (5) وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {أَفَلا يُبْصِرُونَ} . وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ} قَالَ: هِيَ الَّتِي لَا تُمطر إِلَّا مَطَرًا لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا، إِلَّا مَا يَأْتِيهَا مِنَ السُّيُولِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ: هِيَ أَرْضٌ بِالْيَمَنِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ قُرَى فِيمَا بَيْنَ الْيَمَنِ وَالشَّامِ.
وَقَالَ عِكْرِمة، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّيّ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْأَرْضُ الْجُرُزُ: الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) زيادة من ت.
(3) في أ: "من".
(4) كتاب السنة للالكائي برقم (66) "قسم كرامات الأولياء" حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن مخلد، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صالح، عن ابن لهيعة به، وهو مرسل.
(5) زيادة من ت، ف، أ.(6/373)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
وَهِيَ مُغْبَرَّةٌ.
قُلْتُ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس: 33-35] .
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اسْتِعْجَالِ الْكَفَّارِ وقوعَ بَأْسِ اللَّهِ بِهِمْ، وَحُلُولِ غَضَبِهِ وَنِقْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، اسْتِبْعَادًا وَتَكْذِيبًا وَعِنَادًا: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} ؟ أَيْ: مَتَى تُنْصَرُ عَلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ؟ كَمَا تَزْعُمُ أَنَّ لَكَ وَقْتًا تُدَال عَلَيْنَا، ويُنْتَقم لَكَ مِنَّا، فَمَتَى يَكُونُ هَذَا؟ مَا نَرَاكَ أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ إِلَّا مُخْتَفِينَ خَائِفِينَ ذَلِيلِينَ!
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ} أَيْ: إِذَا حَلَّ بِكُمْ بَأْسُ اللَّهِ وسَخَطه وَغَضَبُهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْأُخْرَى، {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غَافِرٍ: 83-85] ، ومَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْفَتْحِ فتحُ مَكَّةَ فَقَدْ أَبْعَدَ النَّجْعة، وَأَخْطَأَ فَأَفْحَشَ، فَإِنَّ يَوْمَ الْفَتْحِ قَدْ قَبِل رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِسْلَامَ الطُّلَقَاءِ، وَقَدْ كَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ فَتْحَ مَكَّةَ لَمَا قَبِلَ إِسْلَامَهُمْ؛ لِقَوْلِهِ: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْفَتْحُ الَّذِي هُوَ الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 118] ، وَكَقَوْلِهِ: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سَبَأٍ: 26] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 15] ، وَقَالَ: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [الْبَقَرَةِ: 89] ، وَقَالَ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الْأَنْفَالِ: 19] .
ثُمَّ قَالَ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} أَيْ: أَعْرِضْ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَبَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، كَقَوْلِهِ: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَامِ: 106] ، وَانْتَظِرْ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، وَسَيَنْصُرُكَ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، إِنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} أَيْ: أَنْتَ مُنْتَظِرٌ، وَهُمْ مُنْتَظِرُونَ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ، {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطُّورِ:30] ، وَسَتَرَى أَنْتَ عَاقِبَةَ صَبْرِكَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ، فِي نُصْرَتِكَ وَتَأْيِيدِكَ، وَسَيَجِدُونَ غِبَّ مَا يَنْتَظِرُونَهُ فِيكَ وَفِي أَصْحَابِكَ، مِنْ وَبِيلِ عِقَابِ اللَّهِ لَهُمْ، وَحُلُولِ عَذَابِهِ بِهِمْ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] . (1)
[آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الم السَّجْدَةِ"] (2)
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ت.(6/374)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْأَحْزَابِ
[وَهِيَ] (1) مَدَنِيَّةٌ.
قَالَ [عَبْدُ اللَّهِ بْنُ] الْإِمَامِ أَحْمَدَ (2) : حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَة، عَنْ زِرِّ قَالَ: قَالَ لِي أُبي بْنُ كَعْبٍ: كَأين تَقْرَأُ سُورَةَ الْأَحْزَابِ؟ أَوْ كَأين تَعُدُّهَا؟ قَالَ: قُلْتُ: ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ آيَةً: فَقَالَ: قَط! لَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَتُعَادِلُ "سُورَةَ الْبَقَرَةِ"، وَلَقَدْ قَرَأْنَا فِيهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ، نَكَالًا مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ (3) حَكِيمٌ" (4) .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَاصِمٍ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَهُوَ ابْنُ بَهْدَلَة -بِهِ (5) . وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ (6) فِيهَا قُرْآنٌ ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ وَحُكْمُهُ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (3) } .
هَذَا تَنْبِيهٌ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ يَأْمُرُ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ بِهَذَا، فَلأن يَأْتَمِرَ مِنْ دُونِهِ بِذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَقَدْ قَالَ طَلْق بْنُ حَبِيبٍ: التَّقْوَى: أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، مَخَافَةَ عَذَابِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} أَيْ: لَا تَسْمَعْ مِنْهُمْ وَلَا تَسْتَشِرْهُمْ، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أَيْ: فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعَ أَوَامِرَهُ وَتُطِيعَهُ، فَإِنَّهُ عَلِيمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَلِهَذَا قَالَ: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أَيْ: مِنْ قُرْآنٍ وَسُنَّةٍ، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أَيْ: فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أَيْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ وَأَحْوَالِكَ، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا}
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) في هـ: "قال الإمام أحمد: إنما قاله عبد الله بن أحمد"، وفي ت، ف، أ: "قال الإمام أحمد" وأثبتنا ما بين القوسين ليستقيم السياق، والذي في المسند: "حدثنا عبد الله، حدثنا خلف".
(3) في ت، أ: "عزيز".
(4) المسند (5/132) .
(5) النسائي في السنن الكبرى برقم (7150) .
(6) في أ: "أنه قد كان".(6/375)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
أَيْ: وَكَفَى بِهِ وَكِيلًا لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَنَابَ إِلَيْهِ.
{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُوَطِّئًا قَبْلَ الْمَقْصُودِ الْمَعْنَوِيِّ أَمْرًا حِسِّيًّا مَعْرُوفًا، وَهُوَ أَنَّهُ كَمَا لَا يَكُونُ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ قَلْبَانِ فِي جَوْفِهِ، وَلَا تَصِيرُ زَوْجَتُهُ الَّتِي يُظَاهِرُ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أُمًّا لَهُ، كَذَلِكَ لَا يَصِيرُ الدَّعيّ وَلَدًا لِلرَّجُلِ إِذَا تبنَّاه فَدَعَاهُ ابْنًا لَهُ، فَقَالَ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} ، كَقَوْلِهِ: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} . [الْمُجَادَلَةِ:3] .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} : هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّفْيِ؛ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَبَنَّاهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: "زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ" فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ يَقْطَعَ هَذَا الْإِلْحَاقَ وَهَذِهِ النِّسْبَةَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} كَمَا قَالَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الْأَحْزَابِ:40] وَقَالَ هَاهُنَا: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} يَعْنِي: تَبَنِّيكُمْ لَهُمْ قَوْلٌ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ابْنًا حَقِيقِيًّا، فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ صُلْبِ رَجُلٍ آخَرَ، فَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبَوَانِ، كَمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْبَشَرِ الْوَاحِدِ قَلْبَانِ.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {يَقُولُ الْحَقَّ} أَيِ: الْعَدْلَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} أَيِ: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، كَانَ يُقَالُ لَهُ: "ذُو الْقَلْبَيْنِ"، وَأَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا بِعَقْلٍ وَافِرٍ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِ. هَكَذَا رَوَى العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ قَابُوسَ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي ظِبْيَان -أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى (1) : {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} ، مَا عَنَى بِذَلِكَ؟ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا يُصَلِّي، فخَطَر خَطْرَة، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ: أَلَا تَرَوْنَ لَهُ قَلْبَيْنِ، قَلْبًا مَعَكُمْ وَقَلْبًا مَعَهُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (2) .
__________
(1) في ف: "عز وجل".
(2) المسند (1/267) .(6/376)
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ، عَنْ صَاعِدٍ الْحَرَّانِيِّ -وَعَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ -كِلَاهُمَا عَنْ زُهَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ، بِهِ. (1)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، ضُرب لَهُ مَثَلٌ، يَقُولُ: لَيْسَ ابْنُ رَجُلٍ آخَرَ ابْنَكَ (2) .
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. وَهَذَا يُوَافِقُ مَا قدَّمناه مِنَ التَّفْسِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} : هَذَا أَمْرٌ نَاسِخٌ لِمَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ جَوَازِ ادِّعَاءِ الْأَبْنَاءِ الْأَجَانِبِ، وَهُمُ الْأَدْعِيَاءُ، فَأَمَرَ [اللَّهُ] (3) تَعَالَى بِرَدِّ نِسَبِهِمْ إِلَى آبَائِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا مُعَلى (4) بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ زيدًا بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} . وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، بِهِ (5) .
وَقَدْ كَانُوا يُعَامِلُونَهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَبْنَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فِي الْخَلْوَةِ بِالْمَحَارِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا (6) نَدْعُو سَالِمًا ابْنًا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ مَا أَنْزَلَ، وَإِنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيّ، وَإِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرَضِعَيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ" الْحَدِيثَ. (7)
وَلِهَذَا لَمَّا نُسِخَ هَذَا الْحُكْمُ، أَبَاحَ تَعَالَى زَوْجَةَ الدَّعِيِّ، وَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجَةِ (8) زيد بن حارثة، وقال: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الْأَحْزَابِ:37] ، وَقَالَ فِي آية التحريم: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النِّسَاءِ:23] ، احْتِرَازًا عَنْ زَوْجَةِ الدَّعِيِّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصُّلْبِ، فَأَمَّا الِابْنُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَمُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ ابْنِ الصُّلْبِ شَرْعًا، بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (9) فِي الصَّحِيحَيْنِ: "حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" (10) . فَأَمَّا دَعْوَةُ الْغَيْرِ ابْنًا عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيمِ وَالتَّحْبِيبِ، فَلَيْسَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ إِلَّا التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سفيان الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل،
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3199) وتفسير الطبري (21/74) .
(2) تفسير عبد الرزاق (2/92) .
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) في ف: "يعلى".
(5) صحيح البخاري برقم (4782) وصحيح مسلم برقم (2425) وسنن الترمذي برقم (3209) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11397) .
(6) في ت، ف، أ "إنا كنا".
(7) الحديث في صحيح مسلم برقم (1453) عن عائشة، رضي الله عنها.
(8) في ف: "مطلقة".
(9) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(10) صحيح البخاري برقم (4796) وصحيح مسلم برقم (1445) من حديث عائشة، رضي الله عنها.(6/377)
عَنِ الْحَسَنِ العُرَني، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى حُمُرَات لَنَا مِنْ جَمْع، فَجَعَلَ يَلْطَخ أَفْخَاذَنَا وَيَقُولُ: "أُبَيْنيّ لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ (1) حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ " (2) . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ: "أُبَيْنيّ" تَصْغِيرُ بَنِيَّ (3) . وَهَذَا ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ، فَإِنَّ هَذَا كَانَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَقَوْلُهُ: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} فِي شَأْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَقَدْ قُتِلَ فِي يَوْمِ مُؤْتَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَأَيْضًا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانة الْوَضَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اليَشْكُري، عَنِ الجَعْد أَبِي عُثْمَانَ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بُني". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ (4) .
وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} : أَمَرَ [اللَّهُ] (5) تَعَالَى بِرَدِّ أَنْسَابِ الْأَدْعِيَاءِ إِلَى آبَائِهِمْ، إِنْ عُرِفُوا، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا (6) آبَاءَهُمْ، فَهُمْ إِخْوَانُهُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيهِمْ، أَيْ: عِوَضًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ النَّسَبِ. وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ عَامَ عُمرة الْقَضَاءِ، وَتَبِعَتْهُمُ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يَا عَمِّ، يَا عَمِّ. فَأَخَذَهَا عَلِيٌّ وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دونَك ابْنَةَ عَمّك فَاحْتَمِلِيهَا (7) . فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَجَعْفَرٌ فِي أَيِّهِمْ يَكْفُلُهَا، فَكُلٌّ أَدْلَى بِحُجَّةٍ (8) ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ: أنا أحق بها وهي ابنة عميس -وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: ابْنَةُ عَمِّي، وَخَالَتُهَا تَحْتِي -يَعْنِي أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ. فَقَضَى النَّبِيُّ (9) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: "الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ". وقال لعلي: "أنت مني، وأنا منك". وقال لجعفر: "أشبهت خَلْقي وخُلُقي". وقال لزيد: "أنت أَخُونَا وَمَوْلَانَا" (10) .
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مَنْ أَحْسَنِهَا: أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (11) حَكَمَ بِالْحَقِّ، وَأَرْضَى كُلًّا مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ، وَقَالَ لِزَيْدٍ: "أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا"، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، عَنْ عُيَيْنَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرَة: قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} ، فَأَنَا مِمَّنْ لَا يُعرَف أَبُوهُ، وَأَنَا مِنْ إِخْوَانِكُمْ فِي الدِّينِ. قَالَ أُبَيٌّ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ حِمَارًا لانتمى (12) إليه.
__________
(1) في ف: "جمرة العقبة".
(2) المسند (1/311) وسنن أبي داود برقم (1940) وسنن النسائي (5/270) وسنن ابن ماجه برقم (3025) .
(3) في ت، ف، أ: "ابني".
(4) صحيح مسلم برقم (2151) وسنن أبي داود برقم (4964) وسنن الترمذي برقم (4831) .
(5) زيادة من ت، أ.
(6) في أ: "يعلموا".
(7) في ت، أ: "فاحتملتها".
(8) في أ: "بحجته".
(9) في أ: "فقضى بها النبي".
(10) رواه البخاري في صحيحه برقم (2699) من حديث البراء، رضي الله عنه.
(11) في ف: "صلى الله عليه وسلم".
(12) في ت: "لانتسب".(6/378)
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَنِ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُهُ، كَفَرَ (1) . (2) وَهَذَا تَشْدِيدٌ وَتَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، فِي التَّبَرِّي مِنَ النَّسَبِ الْمَعْلُومِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} .
ثُمَّ قَالَ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أَيْ: إِذَا نَسَبْتُمْ بَعْضَهُمْ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ فِي الْحَقِيقَةِ خَطَأً، بَعْدَ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ الْحَرَجَ فِي الْخَطَأِ وَرَفَعَ إِثْمَهُ، كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ آمِرًا عِبَادَهُ أَنْ يَقُولُوا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [الْبَقَرَةِ: 286] . وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ" (3) . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ" (4) . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا يُكرَهُون (5) عَلَيْهِ".
وَقَالَ هَاهُنَا: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أَيْ: وَإِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الْبَاطِلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى (6) : {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم} . وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: "مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُهُ، إِلَّا كَفَرَ". وَفِي الْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ: "فَإِنَّ (7) كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ".
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ (8) مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ مَعَهُ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ. ثُمَّ قَالَ: قَدْ كُنَّا نَقْرَأُ: "وَلَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ [فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ -أَوْ: إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ -أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ] (9) ، وَإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تُطْرُونِي [كَمَا أُطْرِيَ] (10) عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" (11) . وَرُبَّمَا قَالَ مَعْمَر: "كَمَا أَطَرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ" (12) .
وَرَوَاهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "ثَلَاثٌ فِي النَّاسِ كُفْرٌ: الطَّعْن فِي النَّسبَ، والنيِّاحة عَلَى الْمَيِّتِ، والاستسقاء بالنجوم" (13) .
__________
(1) في أ: "وهو يعلمه إلا كفر".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (3508) مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بلفظ مقارب.
(3) صحيح مسلم برقم (126) من حديث ابن عباس.
(4) صحيح البخاري برقم (7352) .
(5) في أ: "والأمر يكرهون".
(6) في ف: "الله".
(7) في أ: "فإنه".
(8) في ت: "إن الله بعث"، وفي ف: "إن الله، عز وجل، بعث".
(9) زيادة من ت، ف، والمسند.
(10) زيادة من ت، ف، والمسند.
(11) في ف، أ: "أنا عبد الله وقولوا عبد الله ورسوله".
(12) المسند (1/47) .
(13) المسند (5/342) ورواه مسلم في صحيحه برقم (934) كلاهما عن أبي مالك الأشعري بلفظ: "أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يتركوهن: الفخر في الأنساب" ثم ذكر هذه الثلاث.(6/379)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) } .
قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى شَفَقَةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ، ونصحَه لَهُمْ، فَجَعَلَهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَحَكَّمَهُ فِيهِمْ مُقَدّمًا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاءِ: 65] . وَفِي الصَّحِيحِ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (1) . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ: "لَا يَا عُمَرُ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (2) لَأَنَّتْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ: "الْآنَ يَا عُمَرُ" (3) .
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَهَا: (4) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا [مُحَمَّدُ بْنُ] (5) فُلَيح، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُه مَن كَانُوا. فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَياعًا، فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ". تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ (6) .
وَرَوَاهُ أَيْضًا فِي "الِاسْتِقْرَاضِ" وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ فُلَيْحٍ، بِهِ مِثْلَهُ (7) . وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ (8) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ دِينًا، فَإِلَيَّ. ومَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ " (9) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (10) ، بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أَيْ: فِي الْحُرْمَةِ وَالِاحْتِرَامِ، وَالْإِكْرَامِ وَالتَّوْقِيرِ وَالْإِعْظَامِ، وَلَكِنْ لَا
__________
(1) صحيح البخاري برقم (14) .
(2) في أ: "فقال: والله يا رسول الله".
(3) صحيح البخاري برقم (6632) .
(4) في ف، ت، أ: "عند هذه الآية الكريمة".
(5) زيادة من ت، ف، أ، والبخاري.
(6) صحيح البخاري برقم (4781) .
(7) صحيح البخاري برقم (2399) وتفسير الطبري (21/77) .
(8) المسند (2/334) .
(9) في ف: "فهو لورثته".
(10) المسند (3/296) وسنن أبي داود برقم (2956) .(6/380)
تَجُوزُ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ، وَلَا يَنْتَشِرُ التَّحْرِيمُ إِلَى بَنَاتِهِنَّ وَأَخَوَاتِهِنَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ سَمَّى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَنَاتِهُنَّ أَخَوَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْعِبَارَةِ لَا إِثْبَاتِ الْحُكْمِ. وَهَلْ يُقَالُ لِمُعَاوِيَةَ وَأَمْثَالِهِ: خَالُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ ذَلِكَ. وَهَلْ يُقَالُ لَهُنَّ: أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنَاتِ، فَيُدْخِلُ النِّسَاءَ (1) فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ تَغْلِيبًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُقَالُ ذَلِكَ. وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ. (2)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَرَآ: "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ"، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، وَالْحَسَنِ: وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. حَكَّاهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَأْنَسُوا عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْنُفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلان، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أعَلِّمكم، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا، وَلَا يَسْتَطِبْ بِيَمِينِهِ"، وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَيَنْهَى عَنِ الرَّوَثِ وَالرِّمَّةِ.
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عِجْلَانَ (3) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُقَالُ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} : وَقَوْلُهُ: {وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ: فِي حُكْمِ اللَّهِ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} أَيِ: الْقُرَابَاتُ أَوْلَى بِالتَّوَارُثِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَهَذِهِ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ التَّوَارُثِ بِالْحَلِفِ وَالْمُؤَاخَاةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْمُهَاجِرِيُّ يَرِثُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ قِرَابَاتِهِ (4) وَذَوِي رَحِمِهِ، لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ فِيهِ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدِيثًا عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُصْعَبِيُّ -مِنْ سَاكِنِي بَغْدَادَ -عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِينَا خَاصَّةً مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارَ: {وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، وَذَلِكَ أَنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَمَّا قَدمنا الْمَدِينَةَ، (5) قَدمنا وَلَا أَمْوَالَ لَنَا، فَوَجَدْنَا الْأَنْصَارَ نِعْمَ الإخوانُ، فَوَاخَيْنَاهُمْ وَوَارَثْنَاهُمْ. فَآخَى أَبُو بَكْرٍ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَآخَى عُمَرُ فُلَانًا، وَآخَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي زُرَيق، سَعْدٍ الزُّرَقِيِّ، وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ غَيْرَهُ. قال الزبير:
__________
(1) في ف، أ: "فيدخل النساء فيه".
(2) في ت: "رضي الله عنه".
(3) سنن أبي داود برقم (8) وسنن النسائي (1/38) وسنن ابن ماجه برقم (313) .
(4) في ت: "أقاربه".
(5) في ت: "لما قدمنا إلى المدينة".(6/381)
وَوَاخَيْتُ أَنَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، فَجِئْتُهُ فَابْتَعَلْتُهُ فَوَجَدَتُ السِّلَاحَ قَدْ ثَقِلَهُ فِيمَا يُرَى، فَوَاللَّهِ يَا بُنَيَّ، لَوْ مَاتَ يَوْمَئِذٍ عَنِ الدُّنْيَا، مَا وَرِثَهُ غَيْرِي، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارَ خَاصَّةً، فَرَجَعْنَا إِلَى مَوَارِيثِنَا.
وَقَوْلُهُ: {إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} أَيْ: ذَهَبَ الْمِيرَاثُ، وَبَقِيَ النَّصْرُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ وَالْإِحْسَانُ وَالْوَصِيَّةُ.
وَقَوْلُهُ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} أَيْ: هَذَا الْحُكْمُ، وَهُوَ أَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ، حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ مُقَدَّرٌ مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، الَّذِي لَا يُبَدَّلُ، وَلَا يُغَيَّرُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ (1) : قَدْ شَرَعَ خِلَافَهُ فِي وَقْتٍ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ إِلَى مَا هُوَ جَارٍ فِي قَدَرِهِ الأزلي (2) ، وقضائه القدري الشرعي.
__________
(1) في ت، ف: "وإن كان تعالى".
(2) في ت: "إلى ما هو جار في قدره الأول"، وفي ف: "إلى هو جار في قدره الأزلي".(6/382)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ، وَبَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ: أَنَّهُ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ فِي إِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ، وَإِبْلَاغِ رِسَالَتِهِ، وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ وَالِاتِّفَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 81] فَهَذَا الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أُخِذَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ إِرْسَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ هَذَا. وَنَصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ، وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَقَدْ صرَّح بِذِكْرِهِمْ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشُّورَى: 13] ، فَذَكَرَ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطَ، الْفَاتِحَ وَالْخَاتَمَ، وَمِنْ بَيْنِهِمَا عَلَى [هَذَا] (1) التَّرْتِيبِ. فَهَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِهَا، كَمَا قَالَ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ [وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ] } (2) ، فَبَدَأَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْخَاتَمِ؛ لِشَرَفِهِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ [وَسَلَامُهُ] (3) عَلَيْهِ -ثُمَّ رَتَّبَهُمْ بِحَسَبِ وَجُودِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ [وَسَلَامُهُ] (4) عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ (5) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الْآيَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "كنت أول النبيين في الخلق
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ت، ف.
(3) زيادة من ف، أ.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ت: "روى ابن أبي الدنيا".(6/382)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ، [فَبُدئ بِي] (1) قَبْلَهُمْ" (2) سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ فِيهِ ضَعْفٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا وَهُوَ أَشْبَهُ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ قَتَادَةَ مَوْقُوفًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ (3) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خِيَارُ وَلَدِ آدَمَ خَمْسَةٌ: نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ، وَخَيْرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ (4) . مَوْقُوفٌ، وَحَمْزَةُ فِيهِ ضَعْفٌ (5) .
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُمْ حِينَ أُخْرِجُوا فِي صُورَةِ الذَّرِّ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، كَمَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: وَرَفَعَ أَبَاهُمْ آدَمَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ -يَعْنِي: ذُرِّيَّتَهُ -وَأَنَّ فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَحَسَنَ الصُّورَةِ، وَدُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: رَبِّ، لَوْ سويتَ بَيْنَ عِبَادِكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ. وَأَرَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ السُّرُجِ، عَلَيْهِمْ كَالنُّورِ، وَخُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوح [وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ] } (6) الْآيَةَ. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَيْضًا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ: الْعَهْدُ.
وَقَوْلُهُ: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ عَنِ الرُّسُلِ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} أَيْ: مِنْ أُمَمِهِمْ {عَذَابًا أَلِيمًا} أَيْ: مُوجِعًا، فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ، وَنَصَحُوا الْأُمَمَ وَأَفْصَحُوا لَهُمْ عَنِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ، الَّذِي لَا لَبْسَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ، وَلَا امْتِرَاءَ، وَإِنْ كَذَّبَهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالْمُعَانِدِينَ وَالْمَارِقِينَ وَالْقَاسِطِينَ، فَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ هُوَ الْحَقُّ، ومَنْ خَالَفَهُمْ فَهُوَ عَلَى الضَّلَالِ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نِعْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فِي صَرْفِهِ أَعْدَاءَهُمْ وَهَزْمِهِ إِيَّاهُمْ عَامَ تَأَلَّبُوا عَلَيْهِمْ وَتَحَزَّبُوا وَذَلِكَ عَامَ الْخَنْدَقِ، وَذَلِكَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الهجرة على الصحيح
__________
(1) زيادة من ت، ف، والدلائل والكامل.
(2) ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة ص (6) وابن عدي في الكامل (3/373) وتمام في الفوائد برقم (1003) من طرق عن سعيد بن بشير عن قتادة به، وفي إسناده علتان: الأولى: الحسن البصري مدلس وقد عنعن. الثانية: سعيد بن بشير ضعيف وقد خولف، خالفه أبو هلال وسعيد بن أبي عروبة كما ذكره المؤلف فقالا: عن قتادة مرسلا، ا. هـ مستفادا من السلسلة الضعيفة برقم (661) للشيخ ناصر الألباني.
(3) في ت: "وروى أبو بكر البزار بإسناده".
(4) مسند البزار برقم (2368) "كشف الأستار".
(5) في ت: "موقوف ضعيف".
(6) زيادة من ت، ف.(6/383)
الْمَشْهُورِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبة وَغَيْرُهُ كَانَتْ فِي سَنَةَ أَرْبَعٍ.
وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِ الْأَحْزَابِ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَشْرَافِ يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ، الَّذِينَ كَانُوا قَدْ أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى خَيْبَرَ، مِنْهُمْ: سَلَّامُ بْنُ أَبِي الحُقَيْق، وَسَلَّامُ بْنُ مِشْكَم، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، خَرَجُوا إِلَى مَكَّةَ وَاجْتَمَعُوا بِأَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وأَلّبوهم عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ (1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعَدُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمُ النَّصْرَ وَالْإِعَانَةَ. فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى غَطَفَانَ فَدَعَوْهُمْ فَاسْتَجَابُوا لَهُمْ أَيْضًا. وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي أَحَابِيشِهَا، وَمَنْ تَابَعَهَا، وَقَائِدُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلَى غَطَفَانَ عُيَينة بْنُ حِصْنِ بْنِ بَدْرٍ، وَالْجَمِيعُ قَرِيبٌ مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَسِيرِهِمْ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ (2) ، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، فَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ وَاجْتَهَدُوا، وَنَقَلَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التُّرَابَ وحفَر، وَكَانَ فِي حَفْرِهِ ذَلِكَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ وَدَلَائِلُ وَاضِحَاتٌ.
وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَنَزَلُوا شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ قَرِيبًا مِنْ أُحُدٍ، وَنَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي أَعَالِي أَرْضِ الْمَدِينَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَقِيلَ: سَبْعُمِائَةٍ، وَأَسْنَدُوا (3) ظُهُورَهُمْ إِلَى سَلْع وَوُجُوهَهُمْ إِلَى نَحْوِ الْعَدُوِّ، وَالْخَنْدَقُ حَفِيرٌ لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ يَحْجُبُ الرَّجَّالَةَ وَالْخَيَّالَةَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلَ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ فِي آطَامِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ -وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ -لَهُمْ حِصْنٌ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ، وَلَهُمْ عَهْدٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِمَّةٌ، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ مُقَاتِلٍ فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ النَّضَري [الْيَهُودِيُّ] (4) ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى نَقَضُوا العهد، ومالؤوا الْأَحْزَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعَظُم الخَطْب وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، وَضَاقَ الْحَالُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} .
وَمَكَثُوا مُحَاصِرِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، إِلَّا أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ الْعَامِرِيَّ -وَكَانَ مِنَ الْفُرْسَانِ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ -رَكِبَ وَمَعَهُ فَوَارِسُ فَاقْتَحَمُوا الْخَنْدَقَ، وَخَلَصُوا إِلَى نَاحِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ، فَلَمْ (5) يَبْرُزْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَأَمَرَ عَلِيًّا فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَتَجَاوَلَا سَاعَةً، ثُمَّ قَتَلَهُ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَانَ عَلَامَةً عَلَى النَّصْرِ.
ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ، وَجَلَّ، عَلَى الْأَحْزَابِ رِيحًا شَدِيدَةَ الْهُبُوبِ قَوِيَّةً، حَتَّى لَمْ تُبْقَ (6) لَهُمْ خَيْمَةٌ وَلَا شَيْءٌ وَلَا تُوقَد لَهُمْ نَارٌ، وَلَا يَقِرُّ لَهُمْ قَرَارٌ حَتَّى ارْتَحَلُوا خَائِبِينَ خَاسِرِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} (7) .
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهِيَ الصَّبَا، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ".
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرمة قال: قالت
__________
(1) في ف: "النبي".
(2) في ف: "المشرق".
(3) في ت، ف: "فأسندوا".
(4) زيادة من ت.
(5) في ت، ف: "فيقال".
(6) في ت: "يبق".
(7) بعدها في ف: (وجنودا لم تروها) .(6/384)
الْجُنُوبُ لِلشَّمَالِ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ: انْطَلِقِي نَنْصُرْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتِ الشَّمَالُ: إِنَّ الْحُرَّةَ لَا تَسْرِي بِاللَّيْلِ. قَالَ: فَكَانَتِ الرِّيحُ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الصَّبَا (1) .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الأشَجّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْب، حَدَّثَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَرْسَلَنِي خَالِي عُثْمَانُ بْنُ مَظْعون لَيْلَةَ الْخَنْدَقِ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ وَرِيحٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: ائْتِنَا بِطَعَامٍ وَلِحَافٍ. قَالَ: فَاسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَذِنَ لِي، وَقَالَ: "مَنْ أَتَيْتَ مِنْ أَصْحَابِي فَمُرْهُمْ يَرْجِعُوا". قَالَ: فَذَهَبْتُ وَالرِّيحُ تُسْفِي كُلَّ شَيْءٍ، فَجَعَلْتُ لَا أَلْقَى أَحَدًا إِلَّا أَمَرْتُهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَمَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عُنُقَهُ. قَالَ: وَكَانَ مَعِي تُرْسٌ لِي، فَكَانَتِ الرِّيحُ تَضْرِبُهُ عَلَيَّ، وَكَانَ فِيهِ حَدِيدٌ، قَالَ: فَضَرَبَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى وَقَعَ بَعْضُ ذَلِكَ الْحَدِيدِ عَلَى كَفِّي، فَأَنْفَدَهَا (2) إِلَى الْأَرْضِ. (3)
وَقَوْلُهُ: {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، زَلْزَلَتْهُمْ وَأَلْقَتْ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وَالْخَوْفَ، فَكَانَ رَئِيسُ كُلِّ قَبِيلَةٍ يَقُولُ: يَا بَنِي فُلَانٍ إليَّ. فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ: النَّجَاءَ، النَّجَاءَ. لِمَا أَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيّ قَالَ: قَالَ فَتًى مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحِبْتُمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِي. قَالَ: وَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نُجْهَدُ. قَالَ الْفَتَى: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَلَحَمَلْنَاهُ على أعناقنا. قال: قال حذيفة: يابن أَخِي، وَاللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَنْدَقِ وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوِيّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: "مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ؟ -يَشْرُطُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَرْجِعُ -أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ". قَالَ: فَمَا قَامَ رَجُلٌ. ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا، فَقَالَ مِثْلَهُ، فَمَا قَامَ مِنَّا رَجُلٌ. ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُويًّا مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: "مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ -يَشْتَرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجْعَةَ -أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ". فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ؛ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَشِدَّةِ الْجُوعِ، وَشِدَّةِ الْبَرْدِ. فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ، دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي فَقَالَ: "يَا حُذَيْفَةُ، اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَا يَفْعَلُونَ، وَلَا تُحْدثَنّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا". قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ [فِي الْقَوْمِ] (4) ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لَا تُقِرّ لَهُمْ قِدْرًا وَلَا نَارًا وَلَا بِنَاءً، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لِيَنْظُرِ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ. قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي إِلَى جَنْبِي، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مَقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الكُرَاع والخُفّ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وبَلَغَنا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ، وَلَقِينَا مِنْ هذه الريح الذي ترون (5) . والله
__________
(1) تفسير الطبري (21/80) .
(2) في أ: "فأبعدها".
(3) تفسير الطبري (21/80) .
(4) زيادة من ت، ف، أ، والسيرة النبوية.
(5) في أ: "ما ترون".(6/385)
مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ، وَلَا تَقُوم لَنَا نَارٌ، وَلَا يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ، فَارْتَحِلُوا، فَإِنِّي مُرْتَحل، ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَله وَهُوَ مَعْقُولٌ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ، فَوَثَبَ بِهِ عَلَى ثَلَاثٍ، فَمَا أَطْلَقَ عقَالَه إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ. وَلَوْلَا عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ: "أَلَّا تُحْدِثَ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي" ثُمَّ شئتُ، لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمٍ.
قَالَ حُذَيْفَةُ: فَرَجَعْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِرْط لِبَعْضِ نِسَائِهِ مُرَحل، فَلَمَّا رَآنِي أَدْخَلَنِي بَيْنَ رِجْلَيْهِ، وَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ المرْط، ثُمَّ رَكَعَ، وَسَجَدَ وَإِنِّي لَفِيهِ، فَلَمَّا سَلَّم أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، وَسَمِعَتْ غَطَفان بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، فَانْشَمَرُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ (1) .
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَوْ أدركتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاتلتُ مَعَهُ وأبليتُ. فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كنتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ لَقَدْ رَأيتُنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ رِيحٍ شَدِيدَةٍ وقُرّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا رَجُلٌ يَأْتِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، يَكُونُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ ". فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ الثَّانِيَةُ، ثُمَّ الثَّالِثَةُ مِثْلُهُ. ثُمَّ قَالَ: "يَا حُذَيْفَةُ، قُمْ فَأْتِنَا بِخَبَرٍ مِنَ الْقَوْمِ". فَلَمْ أَجِدْ بدَّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ، فَقَالَ: "ائْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهم عَلَيّ". قَالَ: فَمَضَيْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمام حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يَصْلَى ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِِد قَوْسِي، وَأَرَدْتُ أَنْ أرميَه، ثُمَّ ذكرتُ قولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَذْعَرْهم عَلَيَّ"، وَلَوْ رَمَيْته لَأَصَبْتُهُ. قَالَ: فَرَجَعْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمّام، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَصَابَنِي الْبَرْدُ حِينَ فَرَغتُ وقُررْتُ فأخبرتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَلْبَسَنِي مِنْ فَضْلٍ عَبَاءَة كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى الصُّبْحَ، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَتُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُمْ يَا نَوْمَانُ (2) (3) .
وَرَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْر، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِحُذَيْفَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَشْكُو إِلَى اللَّهِ صُحْبَتَكُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِنَّكُمْ أَدْرَكْتُمُوهُ وَلَمْ نُدْرِكْهُ، وَرَأَيْتُمُوهُ وَلَمْ نَرَهُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: وَنَحْنُ نَشْكُو إِلَى اللَّهِ إِيمَانَكُمْ بِهِ وَلَمْ تَرَوْهُ، وَاللَّهِ لا تدري يا بن أَخِي لَوْ أدركتَه كَيْفَ كنتَ تَكُونُ. لَقَدْ رأيتنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْخَنْدَقِ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ مَطِيرة ... ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مُطَوَّلًا (4) .
وَرَوَى بِلَالُ بْنُ يَحْيَى العَبْسي، عَنْ حُذَيْفَةَ نَحْوَ ذَلِكَ أَيْضًا (5) .
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "الدَّلَائِلِ"، مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ أَخِي حُذَيْفَةَ قَالَ: ذَكَر حُذَيْفَةُ مَشَاهِدَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (6) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (2/231) .
(2) في أ: "نوام".
(3) صحيح مسلم برقم (1788) .
(4) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3/454) من طريق أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير به.
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/31) ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (3/450) عن موسى بن أبي المختار، عن بلال العبسي، عن حذيفة.
(6) في ت: "مع النبي".(6/386)
جُلَسَاؤُهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شَهِدْنَا ذَلِكَ لَكُنَّا فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَا تَمَنَّوْا ذَلِكَ. لَقَدْ رأيتُنا لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَنَحْنُ صافُّون قُعود، وَأَبُو سُفْيَانَ ومَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْزَابِ فَوْقَنَا، وَقُرَيْظَةُ الْيَهُودُ أَسْفَلَ مِنَّا نَخَافُهُمْ عَلَى ذَرَارِينَا، وَمَا أتَت عَلَيْنَا قَطُّ أَشَدُّ ظُلْمَةً وَلَا أَشَدُّ رِيحًا، فِي أَصْوَاتِ رِيحِهَا أَمْثَالُ الصَّوَاعِقِ، وَهِيَ ظُلْمَةٌ مَا يَرَى أَحَدُنَا إِصْبَعَهُ، فَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُونَ: "إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ". فَمَا يَسْتَأْذِنُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَذِنَ لَهُ، وَيَأْذَنُ لَهُمْ فَيَتَسَلَّلُونَ، وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ، إِذِ اسْتَقْبَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا رَجُلًا حَتَّى أَتَى عَلَيّ وَمَا عَلَيّ جُنَّة (1) مِنَ الْعَدْوِ وَلَا مِنَ الْبَرْدِ إِلَّا مِرْط لِامْرَأَتِي، مَا يُجَاوِزُ رُكْبَتِي. قَالَ: فَأَتَانِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَاثٍ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟ " فَقُلْتُ: حُذَيْفَةُ. قَالَ: "حُذَيْفَةُ". فَتَقَاصَرْتُ بِالْأَرْضِ (2) فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَرَاهِيَةَ أَنْ أَقُومَ. [قَالَ: قُمْ] (3) ، فَقُمْتُ، فَقَالَ: "إِنَّهُ كَائِنٌ فِي الْقَوْمِ خَبَرٌ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ" -قَالَ: وَأَنَا مِنْ أَشَدِّ [الناس] (4) افَزَعًا، وَأَشَدِّهِمْ قُرًّا -قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ، احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ". قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فَزَعًا وَلَا قُرًّا فِي جَوْفِي إِلَّا خَرَجَ مِنْ جَوْفِي، فَمَا أُجِدُ فِيهِ شَيْئًا. قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ قَالَ:"يَا حُذَيْفَةُ، لَا تُحدثَنّ فِي الْقَوْمِ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي". قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْقَوْمِ نَظَرْتُ فِي ضَوْءِ نَارٍ لَهُمْ تَوَقَّدُ، وَإِذَا رَجُلٌ أَدْهَمُ ضَخْمٌ يَقُولُ بِيَدِهِ عَلَى النَّارِ، وَيَمْسَحُ خَاصِرَتَهُ، وَيَقُولُ: الرحيلَ الرحيلَ، وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَبَا سُفْيَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَانْتَزَعْتُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي أَبْيَضَ الرِّيشِ، فَأَضَعُهُ فِي كَبِِد قَوْسِي لِأَرْمِيَهُ بِهِ فِي ضَوْءِ النَّارِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُحْدِثَنَّ فِيهِمْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي"، [فَأَمْسَكْتُ] (5) وَرَدَدْتُ سَهْمِي إِلَى كِنَانَتِي، ثُمَّ إِنِّي شَجَّعت نَفْسِي حَتَّى دَخَلْتُ الْعَسْكَرَ، فَإِذَا أَدْنَى النَّاسِ مِنِّي بَنُو عَامِرٍ يَقُولُونَ: يَا آلَ عَامِرٍ، الرحيلَ الرحيلَ، لَا مُقام لَكُمْ. وَإِذَا الرِّيحُ فِي عَسْكَرِهِمْ مَا تُجَاوِزُ عَسْكَرَهُمْ شِبْرًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتَ الْحِجَارَةِ فِي رِحَالِهِمْ وَفَرَسَتْهُمُ (6) الرِّيحُ تَضْرِبُهُمْ بِهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ نَحْوَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْتَصَفْتُ فِي الطَّرِيقِ أَوْ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ، إِذَا أَنَا بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (7) مُعْتَمّين، فَقَالُوا: أخْبر صَاحِبَكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كفَاه الْقَوْمَ. فَرَجَعْتُ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مُشْتَمِلٌ فِي شَمْلَةٍ يُصَلِّي، فَوَاللَّهِ مَا عَدَا أَنْ رَجَعْتُ رَاجَعَني القُرُّ وَجَعَلْتُ أقَرْقفُ، فَأَوْمَأَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [بِيَدِهِ] (8) وَهُوَ يُصَلِّي، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَأَسْبَلَ عَلَيَّ شَمْلَتَهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبه أَمْرٌ صَلَّى، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَ الْقَوْمِ، وَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي تَرَكَتْهُمْ يَتَرَحَّلُونَ (9) ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (10) .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بن عمار، به. (11)
__________
(1) في أ: "جنبة".
(2) في ت: "إلى الأرض".
(3) زيادة من ت، ف، والدلائل.
(4) زيادة من ت، ف: والدلائل.
(5) زيادة من ت، ف: والدلائل.
(6) في ت، ف: "وفرشهم".
(7) في ف: "نحوًا من ذلك".
(8) زيادة من ت، ف، والدلائل.
(9) في أ: "يرتحلون".
(10) دلائل النبوة للبيهقي (3/451) .
(11) سنن أبي داود برقم (1319) .(6/387)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
وَقَوْلُهُ: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} أَيِ: الْأَحْزَابُ {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} تَقَدَّمَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، {وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أَيْ: مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ، {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ظَنَّ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّائِرَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ (1) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} : ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ (2) كُلَّ ظَنٍّ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ حَتَّى قَالَ مُعَتّب (3) بْنُ قُشَيْرٍ -أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ -: كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ} : ظُنُونٌ مُخْتَلِفَةٌ، ظَنَّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يُسْتَأْصَلُونَ، (4) وَأَيْقَنَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولَهُ حَقٌّ، وَأَنَّهُ سَيُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
وَقَالَ (5) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ -يَعْنِي: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -عَنْ ُرَتْيج بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُ، فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ، قُولُوا: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعاتنا". قَالَ: فَضَرَبَ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ، فَهَزَمَهُمْ بِالرِّيحِ.
وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ (6) .
{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا (13) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ الْحَالِ، حِينَ نَزَلَتِ الْأَحْزَابُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ مَحْصُورُونَ فِي غَايَةِ الْجُهْدِ وَالضِّيقِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ: أَنَّهُمُ ابتُلوا واختُبروا وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا، فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ النِّفَاقُ، وَتَكَلَّمَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ.
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} أَمَّا الْمُنَافِقُ، فَنَجَمَ نِفَاقُهُ، وَالَّذِي فِي قَلْبِهِ شُبْهَةٌ أو
__________
(1) تفسير الطبري (21/83) .
(2) في ت: "ظن المنون".
(3) في أ: "معقب".
(4) في ت: "سيستأصلون".
(5) في ت: "وروى".
(6) المسند (3/3) .(6/388)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
حَسِيْكَة، ضَعُف حَالُهُ فَتَنَفَّسَ بِمَا يَجِدُهُ مِنَ الْوَسْوَاسِ فِي نَفْسِهِ؛ لِضَعْفِ إِيمَانِهِ، وَشِدَّةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْحَالِ.
وَقَوْمٌ آخَرُونَ قَالُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} يَعْنِي: الْمَدِينَةَ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: "أُرِيتُ [فِي الْمَنَامِ] (1) دارَ هجرتكُم، أَرْضٌ بَيْنَ حَرّتين فَذَهَبَ وَهْلي أَنَّهَا هَجَر، فإذا هي يثرب" (2) ،ش وَفِي لَفْظٍ: "الْمَدِينَةُ".
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ الْبَرَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "من سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، هِيَ طَابَةٌ، هِيَ طَابَةٌ" (3) .
تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَفِي (4) إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُقَالُ: إِنَّمَا كَانَ أَصْلُ تَسْمِيَتِهَا "يَثْرِبَ" بِرَجُلٍ نَزَلَهَا مِنَ الْعَمَالِيقَ، يُقَالُ لَهُ: يَثْرِبُ بْنُ عُبَيْلِ بْنِ مَهْلَابِيلَ بْنِ عَوْصِ بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوِذَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ. قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ، قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لَهَا [فِي التَّوْرَاةِ] (5) أَحَدَ عَشَرَ اسْمًا: الْمَدِينَةُ، وَطَابَةُ، وَطَيِّبَةُ، الْمِسْكِينَةُ، وَالْجَابِرَةُ، وَالْمُحِبَّةُ، وَالْمَحْبُوبَةُ، وَالْقَاصِمَةُ، وَالْمَجْبُورَةُ، وَالْعَذْرَاءُ، وَالْمَرْحُومَةُ.
وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ يَقُولُ اللَّهُ لِلْمَدِينَةِ: يَا طِيبَةُ، وَيَا طَابَةُ، وَيَا مِسْكِينَةُ [لَا تَقْلِي الْكُنُوزَ، أَرْفَعُ أَحَاجِرَكِ عَلَى أَحَاجِرِ الْقُرَى] (6) .
وَقَوْلُهُ: {لَا مُقَامَ لَكُمْ} أَيْ: هَاهُنَا، يَعْنُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ الْمُرَابِطَةِ، {فَارْجِعُوا} أَيْ: إِلَى بُيُوتِكُمْ وَمَنَازِلِكُمْ. {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} : قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمْ بَنُو حَارِثَةَ قَالُوا: بُيُوتُنَا نَخَافُ عَلَيْهَا السَّرَقَ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ هُوَ أَوْسُ بْنُ قَيظيّ، يَعْنِي: اعْتَذَرُوا فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ بِأَنَّهَا عَورة، أَيْ: لَيْسَ دُونَهَا مَا يَحْجُبُهَا عَنِ الْعَدُوِّ، فَهُمْ يَخْشَوْنَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} أَيْ: لَيْسَتْ كَمَا يَزْعُمُونَ، {إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} أَيْ: هَرَبًا مِنَ الزَّحْفِ.
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا (15) }
__________
(1) زيادة من ت، ف، والبخاري.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (7035) من حديث أبي موسى، رضي الله عنه.
(3) المسند (4/285) .
(4) في ت: "ففي".
(5) زيادة من ت، ف، أ.
(6) زيادة من ف، أ.(6/389)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (17) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} : أَنَّهُمْ لو(6/389)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
دَخل عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْمَدِينَةِ، وقُطر مِنْ أَقْطَارِهَا، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ، وَهِيَ الدُّخُولُ فِي الْكَفْرِ، لَكَفَرُوا سَرِيعًا، وَهُمْ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَا يَسْتَمْسِكُونَ بِهِ مَعَ أَدْنَى خَوْفٍ وَفَزَعٍ.
هَكَذَا فَسَّرَهَا قَتَادَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ فِي غَايَةِ الذَّمِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى يُذَكِّرُهُمْ بِمَا كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْخَوْفِ، أَلَّا يُوَلُّوا الْأَدْبَارَ وَلَا يَفِرُّوا (1) مِنَ الزَّحْفِ، {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا} أَيْ: وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ، لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ فرَارهم ذَلِكَ لَا يُؤَخِّرُ آجَالَهُمْ، وَلَا يُطَوِّلُ أَعْمَارَهُمْ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي تَعْجِيلِ أَخْذِهِمْ غِرَّةً؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا} أَيْ: بَعْدَ هَرَبكم وَفِرَارِكُمْ، {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النِّسَاءِ: 77] .
ثُمَّ قَالَ: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} أَيْ: يَمْنَعُكُمْ، {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُجِيرٌ وَلَا مُغِيثٌ (2) .
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالْمُعَوِّقِينَ لِغَيْرِهِمْ عَنْ شُهُودِ الْحَرْبِ، وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ، أَيْ: أَصْحَابِهِمْ (3) وعُشَرائهمِ وَخُلَطَائِهِمْ {هَلُمَّ إِلَيْنَا} أَيْ: إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي الظِّلَالِ وَالثِّمَارِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ {لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أَيْ: بُخَلَاءُ بِالْمَوَدَّةِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ السُّدي: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أَيْ: فِي الْغَنَائِمِ.
{فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أَيْ: مِنْ شَدَّةِ خَوْفِهِ وَجَزَعِهِ، وَهَكَذَا خَوْفُ هَؤُلَاءِ الْجُبَنَاءِ مِنَ الْقِتَالِ {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أَيْ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْنُ، تَكَلَّمُوا كَلَامًا بَلِيغًا فَصِيحًا عَالِيًا، وَادَّعُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةَ فِي الشَّجَاعَةِ وَالنَّجْدَةِ، وَهُمْ يَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {سَلَقُوكُمْ (4) } أي: استقبلوكم.
__________
(1) في ت، ف: "ألا يولون ولا يفرون".
(2) في ت، ف، أ: "من دون الله وليًا مجيرًا مغيثًا".
(3) في ت: "أي لأصحابهم".
(4) في أ: "سلقوكم بألسنة".(6/390)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا عِنْدَ الْغَنِيمَةِ فَأَشَحُّ قَوْمٍ، وَأَسْوَأُهُ مُقَاسِمَةً: أَعْطُونَا، أَعْطُونَا، قَدْ (1) شَهِدْنَا مَعَكُمْ. وَأَمَّا عِنْدَ الْبَأْسِ فَأَجَبْنُ قَوْمٍ، وَأَخْذُلُهُ لِلْحَقِّ.
وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَشِحَّةٌ عَلَى الْخَيْرِ، أَيْ: لَيْسَ فِيهِمْ خَيْرٌ، قَدْ جَمَعُوا الْجُبْنَ وَالْكَذِبَ وَقِلَّةَ الْخَيْرِ، فَهُمْ (2) كَمَا قَالَ فِي أَمْثَالِهِمُ الشَّاعِرُ (3) :
أَفِي السِّلْمِ أعْيَارًا (4) جَفَاءً وغلظَةً ... وَفي الحَربْ أمْثَالَ النِّسَاء العَوَاركِ ...
أَيْ: فِي حَالِ الْمُسَالِمَةِ كَأَنَّهُمُ الْحَمِيرُ. وَالْأَعْيَارُ: جَمْعُ عِيرٍ، وَهُوَ الْحِمَارُ، وَفِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُمُ النِّسَاءُ الحُيَّض؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} أَيْ: سَهْلًا هَيِّنًا عِنْدَهُ.
{يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا (20) } .
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ صِفَاتِهِمُ الْقَبِيحَةِ فِي الْجُبْنِ وَالْخَوْفِ وَالْخَوْرِ، {يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} بَلْ هُمْ قَرِيبٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّ لَهُمْ عَوْدَةً إِلَيْهِمْ {وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} أَيْ: ويَوَدّون إِذَا جَاءَتِ الْأَحْزَابُ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ (5) حَاضِرِينَ مَعَكُمْ فِي الْمَدِينَةِ بَلْ فِي الْبَادِيَةِ، يَسْأَلُونَ عَنْ أَخْبَارِكُمْ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ مَعَ عَدُوِّكُمْ، {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا} أَيْ: وَلَوْ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، لَمَا قَاتَلُوا مَعَكُمْ إِلَّا قَلِيلًا؛ لِكَثْرَةِ جُبْنِهِمْ وَذِلَّتِهِمْ وَضَعْفِ يَقِينِهِمْ.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) } .
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ؛ وَلِهَذَا أُمِرَ النَّاسُ بِالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ (6) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فِي صَبْرِهِ وَمُصَابَرَتِهِ وَمُرَابَطَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ وَانْتِظَارِهِ الْفَرَجَ مِنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لِلَّذِينِ تَقَلَّقُوا وَتَضْجَّرُوا وَتَزَلْزَلُوا وَاضْطَرَبُوا فِي أَمْرِهِمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أَيْ: هَلَّا اقْتَدَيْتُمْ بِهِ وَتَأَسَّيْتُمْ بِشَمَائِلِهِ؟ وَلِهَذَا قَالَ: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ، وجَعْله العاقبةَ حَاصِلَةً لهم في
__________
(1) في أ: "فقد".
(2) في ت: "فيهم".
(3) البيت لهند بنت عتبة، وهو في السيرة النبوية لابن هشام (1/656) .
(4) في ت: "أعيار".
(5) في ت: "لا يكونوا".
(6) في ت: "برسول الله".(6/391)
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يَعْنُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي "سُورَةِ الْبَقَرَةِ" {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [الْبَقَرَةِ: 214] .
أَيْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ الَّذِي يَعْقُبُهُ النَّصْرُ الْقَرِيبُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} : دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ (1) وَأَحْوَالِهِمْ، كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّهُ (2) يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ "شَرْحِ الْبُخَارِيِّ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَا زَادَهُمْ} أَيْ: ذَلِكَ الْحَالُ وَالضِّيقُ وَالشِّدَّةُ [مَا زَادَهُمْ] (3) {إِلا إِيمَانًا} بِاللَّهِ، {وَتَسْلِيمًا} أَيِ: انْقِيَادًا لِأَوَامِرِهِ، وطاعة لرسوله.
__________
(1) في ف: "بالنسبة إلى إيمان الناس".
(2) في ت: "أن الإيمان".
(3) زيادة من ت.(6/392)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) }
لمَّا ذَكَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ نَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانُوا عَاهِدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ، وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ وَ {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} ، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَجْلَهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: عَهْدَهُ. وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} أَيْ: وَمَا غَيَّرُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَلَا نَقَضُوهُ وَلَا بَدَّلُوهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ (1) قَالَ: لَمَّا نَسَخْنَا الصُّحُف (2) ، فَقَدْتُ آيَةً مِنْ "سُورَةِ الْأَحْزَابِ" كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا، لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ -الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ -: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}
__________
(1) في ت: "روى البخاري عن زيد بن ثابت".
(2) في ت، أ: "المصحف".(6/392)
انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ -فِي التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنَيْهِمَا -مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (1) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "حَسَنٌ صَحِيحٌ".
وَقَالَ (2) الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَة، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: نَرَى هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (3) .
انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ مِنْ طُرُقٍ آخَرُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ (4) قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: عَمِيَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ سُميت بِهِ، لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بَدْرٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُيِّبْتُ (5) عَنْهُ، لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرَيَنَ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. قَالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا، فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [يَوْمَ] (6) أُحُدٍ، فَاسْتَقْبَلَ سعدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ (7) يَا أَبَا عَمْرٍو، أبِنْ. وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، قَالَ: فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتل قَالَ: فَوُجد فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ -عَمَّتِي الرُّبَيّع ابْنَةُ النَّضْرِ (8) -: فَمَا عرفتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ. قَالَ: فَنَزَلَتْ هذه الآية: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} . قَالَ: فَكَانُوا يُرَون أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، وَفِي أَصْحَابِهِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، بِهِ (9) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، بِهِ نَحْوَهُ (10) .
وَقَالَ (11) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَمَّهُ -يَعْنِي: أَنَسَ بْنَ النَّضْرِ -غَابَ عَنْ قِتَالِ بَدر، فَقَالَ: غُيّبتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالًا لِلْمُشْرِكِينَ، لَيَرَيَنّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي: أَصْحَابَهُ -وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ -ثُمَّ تَقَدَّمَ فَلَقِيَهُ سَعْدٌ -يَعْنِي: ابْنَ مُعَاذٍ -دُونَ أُحُدٍ، فَقَالَ: أَنَا مَعَكَ. قَالَ سَعْدٌ: فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَصْنَعَ مَا صَنَعَ. قَالَ: فَوُجِدَ فِيهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ ضَرْبَةَ سَيْفٍ، وطَعنةَ رُمْحٍ، وَرَمْيَةَ سَهْمٍ. وَكَانُوا (12) يَقُولُونَ: فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ [نَزَلَتْ] (13) : {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4784) والمسند (5/188) وسنن الترمذي برقم (3104) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11401) .
(2) في ت: "روى".
(3) صحيح البخاري برقم (4783) .
(4) في ت: "روى الإمام أحمد".
(5) في ت: "غبت".
(6) زيادة من ف، والمسند.
(7) أنس بن النضر.
(8) في ت: "عمة الربيع بنت النضر".
(9) المسند (4/193) وصحيح مسلم برقم (1903) وسنن الترمذي رقم (3200) .
(10) النسائي في السنن الكبرى برقم (11404) وتفسير الطبري (21/93) .
(11) في ت: "وروى".
(12) في ت، ف، أ: "وطعنة برمح ورمية بسهم فكانوا".
(13) زيادة من ف.(6/393)
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيِّ فِيهِ أَيْضًا، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، بِهِ، (1) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي، عَنْ حَسَّانَ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرّف، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، بِهِ (2) ، وَلَمْ يَذْكُرْ نُزُولَ الْآيَةِ. وَرَوَاهُ بن جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ حميد، عن أنس، به (3) .سب
وَقَالَ (4) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ طَلْحَةَ قَالَ: لَمَّا أَنْ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُحُدٍ، صَعِدَ الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وعَزّى الْمُسْلِمِينَ بِمَا أَصَابَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالذُّخْرِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (5) . فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقْبَلْتُ وَعَلَيّ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ حَضْرَميَّان فَقَالَ: "أَيُّهَا السَّائِلُ، هَذَا مِنْهُمْ".
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ الطَّلْحي، بِهِ (6) . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَالْمَنَاقِبِ أَيْضًا، وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْر، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُوسَى وَعِيسَى ابْنِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِمَا، بِهِ (7) . وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ -يَعْنِي: الْعَقَدِيَّ -حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ -يَعْنِي: ابْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ -عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: [دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا خَرَجْتُ، دَعَانِي فَقَالَ: أَلَا أضع عندك يا بن أَخِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَشْهَدُ لَسَمِعت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ" (8) .
وَرَوَاهُ (9) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ الحِمَّاني، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ الطَّلْحي، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ] (10) : قَامَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ" (11) .
وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} قَالَ: عَهْدَهُ، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} قال: يوما.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3201) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11403) .
(2) صحيح البخاري برقم (4048) .
(3) تفسير الطبري (21/93) .
(4) في ت: "وروى".
(5) بعدها في ت، ف، أ: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وما بدلوا تبديلا) .
(6) تفسير الطبري (21/94) .
(7) سنن الترمذي برقم (3203) .
(8) ورواه الترمذي في السنن برقم (3202) من طريق عمرو بن عاصم، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، به. وقال التِّرْمِذِيُّ: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وإنما روي عن موسى بن طلحة عن أبيه".
(9) في ت: "وروى".
(10) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.
(11) تفسير الطبري (21/93) .(6/394)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
وَقَالَ الْحَسَنُ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} يَعْنِي: مَوْتَهُ عَلَى الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} الْمَوْتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُبَدِّلْ (1) تَبْدِيلًا. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {نَحْبَهُ} نَذْرَهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} أَيْ: وَمَا غيَّروا عَهْدَهُمْ، وبدَّلوا الْوَفَاءَ بِالْغَدْرِ، بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَا نَقَضُوهُ كَفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} ، {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ} (2) .
وَقَوْلُهُ: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أَيْ: إِنَّمَا يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالْخَوْفِ وَالزِّلْزَالِ لِيَمِيزَ (3) الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيَظْهَرُ أَمْرُ هَذَا بِالْفِعْلِ، وَأَمْرُ هَذَا بِالْفِعْلِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ، وَلَكِنْ لَا يُعَذِّبُ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ، حَتَّى يَعْمَلُوا بِمَا يَعْلَمُهُ فِيهِمْ (4) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ (5) الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ (6) أَخْبَارَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 31] ، فَهَذَا عِلْمٌ بِالشَّيْءِ بَعْدَ (7) كَوْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ (8) السَّابِقُ حَاصِلًا بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ. وَكَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آلِ عِمْرَانَ: 179] . وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أَيْ: بِصَبْرِهِمْ عَلَى مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَقِيَامِهِمْ بِهِ، وَمُحَافَظَتِهِمْ عَلَيْهِ. {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} : وَهُمُ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِ اللَّهِ، الْمُخَالِفُونَ لِأَوَامِرِهِ، فَاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ عِقَابَهُ وَعَذَابَهُ، وَلَكِنْ هُمْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ فِي الدُّنْيَا، إِنْ شَاءَ اسْتَمَرَّ بِهِمْ عَلَى مَا فَعَلُوا حَتَّى يَلْقَوْهُ بِهِ فَيُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ تَابَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى النِّزُوعِ عَنِ النِّفَاقِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَعَمَلِ (9) الصَّالِحِ بَعْدَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. وَلَمَّا كَانَتْ رَحْمَتُهُ وَرَأْفَتُهُ بِخَلْقِهِ هِيَ الْغَالِبَةُ لِغَضَبِهِ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} .
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْأَحْزَابِ لَمَّا أَجْلَاهُمْ عَنِ الْمَدِينَةِ، بِمَا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ وَالْجُنُودِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَوْلَا أَنَّ جَعَلَ اللَّهُ رَسُولَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، لَكَانَتْ هَذِهِ الرِّيحُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ مِنَ الرِّيحِ الْعَقِيمِ عَلَى عَادٍ، وَلَكِنْ قال الله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] } (10) [الْأَنْفَالِ: 33] ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ هَوَاءً فَرَّقَ شَمْلَهُمْ، كَمَا كَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِهِمْ مِنَ الهَوَى، وَهُمْ أَخْلَاطٌ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، أَحْزَابٍ وَآرَاءٍ، فَنَاسَبَ أَنْ يرسل عليهم الهواء الذي فرق
__________
(1) في ت: "من بدل".
(2) في ت: "وقد".
(3) في ت: "فيميز".
(4) في ت: "بما علمه منهم" وفي ف: "بما يعلمه منهم".
(5) في ت: "يعلم".
(6) في ت: "يبلو".
(7) في ف: "قبل".
(8) في ت: "العالم".
(9) في ت، ف: "والعمل".
(10) زيادة من أ.(6/395)
جَمَاعَتَهُمْ، وَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ خَاسِرِينَ بِغَيْظِهِمْ وحَنَقهم، لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا لَا فِي الدُّنْيَا، مِمَّا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الظَّفَرِ وَالْمَغْنَمِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ بِمَا تَحَمَّلُوهُ (1) مِنَ الْآثَامِ فِي مُبَارَزَةِ الرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِالْعَدَاوَةِ، وَهَمِّهِمْ بِقَتْلِهِ، وَاسْتِئْصَالِ جَيْشِهِ، ومَنْ هَمّ بِشَيْءٍ وصَدق هَمَّه بِفِعْلِهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَفَاعِلِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} أَيْ: لَمْ يَحْتَاجُوا (2) إِلَى مُنَازَلَتِهِمْ وَمُبَارَزَتِهِمْ حَتَّى يُجْلُوهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ، بَلْ كَفَى اللَّهُ وَحْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وأعزَّ جُنْدَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وأعزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ". أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (4) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أوْفى قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَحْزَابِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الْأَحْزَابَ. اللَّهُمَّ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ" (5) . وَفِي قَوْلِهِ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} : إِشَارَةٌ إِلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، وَهَكَذَا وَقَعَ بَعْدَهَا، لَمْ يَغُزْهُمُ الْمُشْرِكُونَ، بَلْ غَزَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي بِلَادِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا (6) انْصَرَفَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنِ الْخَنْدَقِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغْنَا: "لَنْ تَغْزُوَكُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا، وَلَكِنَّكُمْ تَغْزُونَهُمْ" فَلَمْ تَغْزُ (7) قُرَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ هُوَ يَغْزُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ (8) حَدِيثٌ صَحِيحٌ، كَمَا قَالَ (9) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَد يَقُولُ: (10) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: "الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا".
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ وَإِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، بِهِ (11) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} أَيْ: بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، رَدَّهُمْ خَائِبِينَ، لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَأَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ وَصَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ رَسُولَهُ وَعَبْدَهُ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
__________
(1) في ت: "مما عملوا".
(2) في أ: "لم تحتاجوا".
(3) في ت: "وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول".
(4) صحيح البخاري برقم (4114) وصحيح مسلم برقم (2724) باختلاف في اللفظ.
(5) صحيح البخاري برقم (2933) وصحيح مسلم برقم (1742) .
(6) في ت، ف: "فلما".
(7) في أ: "تعد".
(8) في ت: "وهذا الذي ذكره ابن إسحاق".
(9) في ت: "رواه".
(10) في ت: "قال".
(11) المسند (4/262) وصحيح البخاري برقم (4109) .(6/396)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
{وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) } .
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا قَدِمَتْ جُنُودُ الْأَحْزَابِ، وَنَزَلُوا عَلَى الْمَدِينَةَ، نَقَضُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَهْدِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِسِفَارَةِ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ النَّضَري -لَعَنَهُ اللَّهُ -دَخَلَ حِصْنَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ بِسَيِّدِهِمْ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ حَتَّى نَقَضَ الْعَهْدَ، وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: وَيْحَكَ، قَدْ جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ، أَتَيْتُكَ بِقُرَيْشٍ وَأَحَابِيشِهَا، وَغَطَفَانَ وَأَتْبَاعِهَا، وَلَا يَزَالُونَ هَاهُنَا حَتَّى يَسْتَأْصِلُوا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: بَلْ وَاللَّهِ أَتَيْتَنِي بذُلِّ الدَّهْرِ. وَيْحَكَ يَا حيي، إنك مشؤوم، فَدَعْنَا (1) مِنْكَ. فَلَمْ يَزَلْ يَفْتِلُ فِي الذِّروة والغَارب حَتَّى أَجَابَهُ، وَاشْتَرَطَ لَهُ حُيي (2) إِنْ ذَهَبَ الْأَحْزَابُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ، أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِي الْحِصْنِ، فَيَكُونُ لَهُ (3) أُسْوَتُهُمْ. فَلَمَّا نَقَضت قريظةُ، وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَاءَهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ جِدًّا، فَلَمَّا أَيَّدَ اللَّهُ ونَصَر، وَكَبَتَ الْأَعْدَاءَ وردَّهم خَائِبِينَ بِأَخْسَرِ صَفْقَةٍ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَوَضَعَ النَّاسُ السِّلَاحَ. فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ (4) مِنْ وَعْثَاءِ تِلْكَ الْمُرَابَطَةِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ إِذْ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ [مِنْ] (5) دِيبَاجٍ، فَقَالَ: أوضَعت السِّلَاحَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: لَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا، وَهَذَا الْآنَ رُجُوعِي مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَنْهَضَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ لَهُ: عذيرَك مِنْ مُقَاتِلٍ، أَوَضَعْتُمُ السِّلَاحَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: لَكِنَّا لَمْ نَضَعْ أَسْلِحَتَنَا بَعْدُ، انْهَضْ إِلَى هَؤُلَاءِ. قَالَ: "أَيْنَ؟ ". قَالَ: بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُزَلْزِلَ عَلَيْهِمْ. فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَوْرِهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَتْ عَلَى أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَقَالَ: "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ". فَسَارَ النَّاسُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ فِي الطَّرِيقِ، فَصَلَّى بَعْضُهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَقَالُوا: لَمْ يُرِدْ مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا تَعْجِيلَ السَّيْرِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّيهَا إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. فَلَمْ يُعَنِّف وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَتَبِعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَأَعْطَى الرَّايَةَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. ثُمَّ نَازَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ، نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -سَيِّدِ الْأَوْسِ -لِأَنَّهُمْ كَانُوا حُلَفَاءَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا فعل عبد الله بن أبي بن سَلُولَ فِي مَوَالِيهِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، حِينَ اسْتَطْلَقَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنَّ سَعْدًا سَيَفْعَلُ فِيهِمْ كَمَا فَعَلَ ابْنُ أُبَيٍّ فِي أُولَئِكَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ سَعْدًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ فِي أكحَله أَيَّامَ الْخَنْدَقِ، فَكَوَاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أَكْحَلِهِ، وَأَنْزَلَهُ فِي قُبَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ. وَقَالَ سَعْدٌ فِيمَا دَعَا بِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا. وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَافْجُرْهَا وَلَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقرّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وقَدّر عَلَيْهِمْ أَنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ بِاخْتِيَارِهِمْ طَلَبًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْعَاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم، فلما
__________
(1) في ت: "دعنا".
(2) في أ: "حتى".
(3) في ت: "لهم".
(4) في ت: "يغسل رأسه".
(5) زيادة من ت، ف، أ.(6/397)
أقبل وهو راكب [على حمار] (1) قد وطَّؤوا لَهُ عَلَيْهِ، جَعَلَ الْأَوْسُ يَلُوذُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: يَا سَعْدُ، إِنَّهُمْ مَوَالِيكَ، فَأَحْسِنْ فِيهِمْ. وَيُرَقِّقُونَهُ عَلَيْهِمْ وَيُعَطِّفُونَهُ، وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: لَقَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَلَّا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. فَعَرَفُوا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَبْقِيهِمْ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْخَيْمَةِ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ". فَقَامَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَأَنْزَلُوهُ إِعْظَامًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا لَهُ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، لِيَكُونَ أَنْفَذَ لِحُكْمِهِ فِيهِمْ. فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ هَؤُلَاءِ -وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ -قَدْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ، فَاحْكُمْ فِيهِمْ بِمَا شِئْتَ". قَالَ: وَحُكْمِي نَافِذٌ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَعَلَى مَنْ فِي هَذِهِ الْخَيْمَةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَعَلَى مَنْ هَاهُنَا. -وَأَشَارَ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ مُعْرِضٌ بِوَجْهِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجْلَالًا (2) وَإِكْرَامًا وَإِعْظَامًا -فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ". فَقَالَ: إِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتلتهم، وتُسبْى ذُرِّيَّتُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ" (3) . وَفِي رِوَايَةٍ: "لَقَدْ حكمتَ بِحُكْمِ المَلك". ثُمَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَخَادِيدِ فَخُدّت فِي الْأَرْضِ، وَجِيءَ بِهِمْ مُكْتَفِينَ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَكَانُوا مَا بَيْنَ السَّبْعِمِائَةِ إِلَى الثَّمَانِمِائَةِ، وَسَبَى مَنْ لَمْ يُنبت مِنْهُمْ مَعَ النِّسَاءِ وَأَمْوَالِهِمْ (4) ، وَهَذَا كُلُّهُ مُقَرِّرٌ مُفَصَّلٌ بِأَدِلَّتِهِ وَأَحَادِيثِهِ وَبَسْطِهِ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ، الَّذِي أَفْرَدْنَاهُ مُوجَزًا ومقتصَّا (5) . وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} أَيْ: عَاوَنُوا الْأَحْزَابَ وَسَاعَدُوهُمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يَعْنِي: بَنِي قُرَيْظَةَ مِنَ الْيَهُودِ، مِنْ بَعْضِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ قَدْ نَزَلَ آبَاؤُهُمُ الْحِجَازَ قَدِيمًا، طَمَعًا فِي اتِّبَاعِ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه} [الْبَقَرَةِ: 89] ، فَعَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: {مِنْ صَيَاصِيهِم} يَعْنِي: حُصُونُهُمْ. كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وعِكْرِمة، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي، وَغَيْرُهُمْ (6) وَمِنْهُ سُمِّيَتْ صَيَاصِي الْبَقَرِ، وَهِيَ قُرُونُهَا؛ لِأَنَّهَا أَعْلَى شَيْءٍ فِيهَا.
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} : وَهُوَ الْخَوْفُ؛ لأنهم كانوا مالؤوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ (7) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ، فَأَخَافُوا الْمُسْلِمِينَ وَرَامُوا قَتْلَهُمْ ليَعزّوا (8) فِي الدنيا، فانعكس
__________
(1) زيادة من ت، ف، والبداية والنهاية.
(2) في ت: "إجلالا له".
(3) رواه ابن إسحاق في السيرة كما في البداية والنهاية (4/123) من طريق عاصم بن عمر، عن عبد الرحمن بن عمر، عن علقمة بن وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فذكره، وأظن في السند خطأ. ورواه ابن سعد في الطبقات (3/426) من طريق محمد بن صالح التمار، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص مرفوعا بلفظ: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات"، وأصله في صحيح البخاري من دون قوله: "فوق سبع سموات" برقم (3043) من حديث أبي سعيد الخدري.
(4) السيرة النبوية لابن هشام (2/239) .
(5) في ت، ف، أ: "وبسيطا".
(6) في ت: "كذا قال مجاهد وغير واحد من السلف" وفي أ: "كذا قال مجاهد وغيرهم من السلف".
(7) في ف: "النبي".
(8) في ت، ف، أ: "ليغزوهم".(6/398)
عَلَيْهِمُ الْحَالُ، وَانْقَلَبَ الْفَالُ (1) ، انْشَمَرَ (2) الْمُشْرِكُونَ فَفَازُوا بِصَفْقَةِ الْمَغْبُونِ، فَكَمَا رَامُوا الْعِزَّ ذُلُّوا (3) ، وَأَرَادُوا اسْتِئْصَالَ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتُؤْصِلُوا، وَأُضِيفَ إِلَى ذَلِكَ شَقَاوَةُ الْآخِرَةِ، فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الصَّفْقَةُ الْخَاسِرَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} (4) ، فَالَّذِينَ قُتِلُوا هُمُ الْمُقَاتِلَةُ، وَالْأُسَرَاءُ هُمُ الْأَصَاغِرُ وَالنِّسَاءُ.
قَالَ (5) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْم بْنُ بَشِيرٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: عُرضتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ فَشَكُّوا فيَّ، فَأَمَرَ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْظُرُوا: هَلْ أَنْبُتُ بَعْدُ؟ فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُونِي أَنْبُتُ، فَخَلَّى عَنِّي وَأَلْحَقَنِي بِالسَّبْيِ.
وَكَذَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ كُلُّهُمْ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، بِهِ (6) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "حَسَنٌ صَحِيحٌ". وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْج، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، بِنَحْوِهِ (7) .
وَقَوْلُهُ: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} أَيْ: جَعَلَهَا لَكُمْ مِنْ قتلكم (8) لهم {وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤوهَا} قِيلَ: خَيْبَرُ. وَقِيلَ: مَكَّةُ. رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقِيلَ: فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادًا.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} : قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي (9) عَائِشَةُ قَالَتْ: خَرَجْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَقْفُو النَّاسَ، فَسَمِعْتُ وَئِيدَ الْأَرْضِ وَرَائِي، فَإِذَا أَنَا بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ يَحْمِلُ مجَنَّه، قَالَتْ: فَجَلَسْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَمَرَّ سَعْدٌ وَعَلَيْهِ دِرْع مِنْ حَدِيدٍ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ أَطْرَافُهُ، فَأَنَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أَطْرَافِ سَعْدٍ، قَالَتْ: وَكَانَ سَعْدٌ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَطْوَلِهِمْ، فَمَرَّ وَهُوَ يَرْتَجِزُ (10) وَيَقُولُ:
لَبَّثْ قَلِيلًا يَشْهدُ الهَيْجَا حَمَلْ ... مَا أحْسَنَ الموتَ إِذَا حَانَ الأجَلْ ...
قَالَتْ: فَقُمْتُ فَاقْتَحَمْتُ حَدِيقَةً، فَإِذَا فِيهَا نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا فِيهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ تَسْبغَة (11) لَهُ -تَعْنِي الْمِغْفَرَ -فَقَالَ عُمَرُ: مَا جَاءَ بِكِ؟ لَعَمْرِي وَاللَّهِ إِنَّكِ لِجَرِيئَةٌ (12) ، وَمَا يؤمنُك أَنْ يَكُونَ بَلَاءٌ أَوْ يَكُونَ تَحَوّز. قَالَتْ: فَمَا زَالَ يَلُومُنِي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أن الأرض انشقت بي (13)
__________
(1) في ت، أ: "وانقلب عليهم الفال".
(2) في أ: "اشمر".
(3) في ت: "فلما راموا العز أذلوا".
(4) في ت:"يقتلون ويأسرون".
(5) في ت: "روى".
(6) المسند (5/311) وسنن أبي داود برقم (4404) وسنن الترمذي برقم (1584) وسنن النسائي (8/92) وسنن ابن ماجه برقم (2542) .
(7) النسائي في السنن الكبرى برقم (8619) .
(8) في ت، ف: "قبلكم".
(9) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن".
(10) في ت: "يرتجل".
(11) في ت: "مشيقة" وفي ف: "نشيقة".
(12) في ت: "محدبة".
(13) في ت، ف: "لي".(6/399)
سَاعَتَئِذٍ، فَدَخَلْتُ فِيهَا، فَرَفَعَ الرَّجُلُ التَّسْبِغَةَ (1) عَنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا هُوَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ: يَا عُمَرُ، وَيْحَكَ، إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ مُنْذُ الْيَوْمِ، وَأَيْنَ التَحَوُّز أَوِ الْفِرَارُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَتْ: وَيَرْمِي سَعْدًا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ العَرقة بِسَهْمٍ (2) ، وَقَالَ لَهُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ العَرقة فأصابَ أكْحَلَه فَقَطَعَهُ، فَدَعَا اللَّهَ سَعْدٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ، لَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقر عَيْنِي مِنْ قُرَيْظَةَ. قَالَتْ: وَكَانُوا حُلَفَاءَهُ وَمَوَالِيَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَتْ: فَرَقَأَ كَلْمُه، وَبَعَثَ اللَّهُ الرِّيحَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا. فَلَحِقَ أَبُو سُفْيَانَ ومَنْ مَعَهُ بِتِهَامَةَ، وَلَحِقَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ ومَنْ مَعَهُ بِنَجْدٍ، وَرَجَعَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ فَتَحَصَّنُوا فِي صَيَاصِيهِمْ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الْمَدِينَةِ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَضُرِبَتْ عَلَى سَعْدٍ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَتْ: فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّ عَلَى ثَنَايَاهُ لَنَقْعُ الْغُبَارِ، فَقَالَ: أو قد وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ لَا وَاللَّهِ مَا وَضَعَتِ الْمَلَائِكَةُ بَعْدُ السِّلَاحَ، اخْرُجْ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَاتِلْهُمْ. قَالَتْ: فَلَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأْمَتَهُ، وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ أَنْ يَخْرُجُوا، [فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (3) فَمَرَّ عَلَى بَنِي غَنْم (4) وَهُمْ جِيرَانُ الْمَسْجِدِ حَوْلَهُ فَقَالَ: ومَنْ مَرَّ بِكُمْ؟ قَالُوا: مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ -وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ تُشْبِهُ لِحْيَتُهُ، وَسِنُّهُ وَوَجْهُهُ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا اشْتَدَّ حِصَارُهُمْ وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ قِيلَ لَهُمْ: انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَاسْتَشَارُوا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ الذَّبْحُ. قَالُوا: نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ". فَنَزَلُوا وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ] (5) فَأُتِيَ بِهِ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ قَدْ حُمِل عَلَيْهِ، وحَفّ بِهِ قَوْمُهُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا عَمْرٍو، حُلَفَاؤُكَ وَمُوَالِيكَ وَأَهْلُ النِّكَايَةِ، ومَنْ قَدْ عَلِمْتَ، قَالَتْ: وَلَا يَرْجعُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ دُورِهِمُ الْتَفَتَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: قَدْ آنَ لِي أَلَّا أُبَالِيَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. قَالَ (6) : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ (7) : فَلَمَّا طَلَعَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزِلُوهُ". فَقَالَ عُمَرُ: سَيِّدُنَا اللَّهُ. قَالَ: "أَنْزِلُوهُ". فَأَنْزَلُوهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْكُمْ فِيهِمْ". قَالَ سَعْدٌ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تَقْتُلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَتَسْبَيَ ذَرَارِيَهُمْ، وَتَقْسِمَ أَمْوَالَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ". ثُمَّ دَعَا سَعْدٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ أبقيتَ عَلَى نَبِيِّكَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا، فَأَبْقِنِي لَهَا. وَإِنْ كُنْتَ قَطَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ. قَالَ: فَانْفَجَرَ كَلْمُه، وَكَانَ قَدْ بَرِئَ مِنْهُ إِلَّا مِثْلَ الخُرْص، وَرَجَعَ إِلَى قُبَّتِهِ الَّتِي ضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَضَره رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ قَالَتْ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لِأَعْرِفُ بُكَاءَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ بُكَاءِ عُمَرَ، وَأَنَا فِي حُجْرَتِي. وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} .
قَالَ عَلْقَمَةُ: فَقُلْتُ: أيْ أُمَّهْ، فَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ؟ قَالَتْ: كَانَتْ عَيْنُهُ لَا تَدْمَعُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا وَجِدَ فَإِنَّمَا هُوَ آخذ بلحيته (8) .
__________
(1) في ف: "النشيقة".
(2) في ت، ف: "بسهم له".
(3) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(4) في ت، ف: "تميم".
(5) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(6) في ت، ف، أ: "قالت".
(7) في أ: "أبو سعد".
(8) المسند (6/141) .(6/400)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ نَحْوًا مِنْ هَذَا، وَلَكِنَّهُ (1) أَخْصَرُ مِنْهُ، وَفِيهِ دُعاء سَعْدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) .
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) } .
هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (3) ، بِأَنْ يخَيّر نِسَاءَهُ بَيْنَ أَنْ يُفَارِقَهُنَّ، فَيَذْهَبْنَ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَحصُل لَهُنَّ عِنْدَهُ الحياةُ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، وَبَيْنَ الصَّبْرِ عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ ضِيقِ الْحَالِ، وَلَهُنَّ عِنْدَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، فَاخْتَرْنَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ، اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَجَمَعَ اللَّهُ لَهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ خَيْرِ الدُّنْيَا وَسَعَادَةِ الْآخِرَةِ.
قَالَ (4) الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جَاءَهَا حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ أَزْوَاجَهُ، فَبَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ"، وَقَدْ عَلمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ. قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ: "وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إِلَى تَمَامِ الْآيَتَيْنِ، فَقُلْتُ لَهُ: فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ (5) .
وَكَذَا رَوَاهُ مُعَلَّقًا عَنِ اللَّيْثِ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، فَذَكَرَهُ وَزَادَ: قَالَتْ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ (6) .
وَقَدْ حَكَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ مَعْمَرًا اضْطَرَبَ، فَتَارَةً (7) رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَتَارَةً رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ (8) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عبَدة الضَّبِّي، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانة، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَمَّا نَزَلَ الْخِيَارُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَذْكُرَ لَكِ أَمْرًا، فَلَا تَقْضِي فِيهِ شَيْئًا حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ". قَالَتْ: قُلْتُ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَرَدَّهُ عَلَيْهَا. فَقَالَتْ: فَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَتْ: فَقَرَأَ عَلَيْهَا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: بَلْ نَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. قَالَتْ: فَفَرِحَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم (9)
__________
(1) في ت، أ: "ولكن".
(2) صحيح البخاري برقم (4117) وصحيح مسلم برقم (1769) .
(3) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(4) في ت: "فروى".
(5) صحيح البخاري برقم (4785) .
(6) صحيح البخاري برقم (4786) .
(7) في أ: "فيه قتادة و".
(8) صحيح البخاري (8/520) "فتح".
(9) تفسير الطبري (21/100) .(6/401)
وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، بَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، إني عارض عليك أمرًا، فلا تُفتياني فِيهِ [بِشَيْءٍ] (1) حَتَّى تَعْرِضِيهِ عَلَى أَبَوَيْكِ أَبِي بَكْرٍ وَأُمِّ رُومَانَ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} .قَالَتْ: فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَا أُؤَامِرُ فِي ذَلِكَ أَبَوَيَّ أَبَا بَكْرٍ وَأُمَّ رُومَانَ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَقْرَأَ الحُجَر فَقَالَ: "إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ كَذَا وَكَذَا". فَقُلْنَ: وَنَحْنُ نَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ كُلِّهِنَّ (2) .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الأشَجِّ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، بِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ (3) مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمرة، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ إِلَى نِسَائِهِ أُمِرَ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ، فَدَخَلَ عَليَّ فَقَالَ: "سَأَذْكُرُ لَكِ أَمْرًا فَلَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَاكِ". فَقُلْتُ: وَمَا هُوَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: "إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أُخَيِّرَكُنَّ"، وَتَلَا عَلَيْهَا آيَةَ التَّخْيِيرِ، إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَمَا الَّذِي تَقُولُ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَاكِ؟ فَإِنِّي اخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَسُرّ بِذَلِكَ، وعَرَض عَلَى نِسَائِهِ فَتَتَابَعْنَ كُلّهن، فاخترنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (4) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيل، عَنِ الزُّهْرِيُّ، أخبرنَي عُبيد اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَور، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، فَقَالَ: "إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا (5) عَلَيْكِ أَلَّا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ". قَالَتْ: قَدْ عَلِم (6) أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ. قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ} الْآيَتَيْنِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ، فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ (7) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صَبِِيح، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ، فَلَمْ يَعُدَّهَا عَلَيْنَا شَيْئًا. أَخْرَجَاهُ مِنْ حديث الأعمش (8)
__________
(1) زيادة من ت، ف، والطبري.
(2) تفسير الطبري (21/101) .
(3) في أ: "أنبأنا".
(4) تفسير الطبري (21/101) .
(5) في أ: "ألا".
(6) في ف: "أعلم".
(7) كذا ولم أجده بهذا السند فيهما، ولا ذكره المزي في تحفة الأشراف ولعلي أتداركه فيما بعد.
(8) المسند (6/45) وصحيح البخاري برقم (5262) وصحيح مسلم رقم (1477) .(6/402)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَسْتَأْذِنُ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بِبَابِهِ جُلُوسٌ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ: فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ. ثُمَّ أَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَدَخْلَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ، وَهُوَ سَاكِتٌ، فَقَالَ عُمَرُ: لَأُكَلِّمَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَ ابْنَةَ زَيْدٍ -امْرَأَةَ عُمَرَ -سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ آنِفًا، فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَا نَاجِذُهُ (1) وَقَالَ: "هُنَّ حَوْلِي يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ". فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى عَائِشَةَ لِيَضْرِبَهَا، وَقَامَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى حَفْصَةَ، كِلَاهُمَا يَقُولَانِ: تَسْأَلَانِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. فَنَهَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ نِسَاؤُهُ: وَاللَّهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، الْخِيَارَ، فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ فَقَالَ: "إِنِّي أَذْكُرُ لَكِ أَمْرًا مَا أُحِبُّ أَنْ تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ". قَالَتْ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: فَتَلَا عَلَيْهَا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ} الْآيَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَفِيكَ أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَسْأَلُكَ أَلَّا تَذْكُرَ لِامْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِكَ مَا اخْتَرْتُ. فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّفًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا (2) ، لَا تَسْأَلَنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ عَمَّا اخترتِ إِلَّا أخبرتُها".
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ، فَرَوَاهُ هُوَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ الْمَكِّيِّ، بِهِ (3) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيْج بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْبَرِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ [اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ] (4) بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّر نِسَاءَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَلَمْ يُخَيِّرْهُنَّ الطَّلَاقَ (5) .
وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، وَقَدْ رُوي عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا نَحْوُ ذَلِكَ. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنَ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} أي: أعطيكن حُقُوقَكُنَّ وَأُطْلِقْ سَرَاحَكُنَّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ تَزْوِيجِ غَيْرِهِ لَهُنَّ لَوْ طَلَّقَهُنَّ، عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَصَحُّهُمَا نَعَمْ لَوْ وَقَعَ، لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ مِنَ السَّرَاحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: وَكَانَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ، خَمْسٌ مِنْ قُرَيْشٍ: عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، وَسَوْدَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَكَانَتْ تَحْتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيّ النَّضَريَّة، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ.
[وَلَمْ يَتَزَوَّجْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَبَقِيَتْ مَعَهُ إِلَى أَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ فَآمَنَتْ بِهِ وَنَصَرَتْهُ، وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ، وَمَاتَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فِي الْأَصَحِّ، وَلَهَا خَصَائِصُ مِنْهَا: أَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا، وَمِنْهَا أَنَّ أَوْلَادَهُ كُلَّهُمْ مِنْهَا، إِلَّا إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ مِنْ سُرِّيَّتِهِ مَارِيَةَ، وَمِنْهَا أَنَّهَا خَيْرُ نساء الأمة.
__________
(1) في ف: "نواجذه".
(2) في ت: "مبشرا".
(3) المسند (3/328) وصحيح مسلم برقم (1478) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9208) .
(4) زيادة من ت، ف، والمسند.
(5) زوائد المسند (1/78) .(6/403)
وَاخْتُلِفَ فِي تَفْضِيلِهَا عَلَى عَائِشَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا الْوَقْفُ.
وَسُئِلَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْهُمَا فَقَالَ: اخْتُصَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِخَاصِّيَّةٍ، فَخَدِيجَةُ كَانَ تَأْثِيرُهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ تُسلِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُثَبِّتُهُ، وَتُسَكِّنُهُ، وَتَبْذُلُ دُونَهُ مَالَهَا، فَأَدْرَكَتْ غُرة الْإِسْلَامِ، وَاحْتَمَلَتِ الْأَذَى فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِهِ وَكَانَ نُصْرَتُهَا لِلرَّسُولِ فِي أَعْظَمِ أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ، فَلَهَا مِنَ النُّصْرَةِ وَالْبَذْلِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا. وَعَائِشَةُ تَأْثِيرُهَا فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ، فَلَهَا مِنَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَتَبْلِيغِهِ إِلَى الْأُمَّةِ، وَانْتِفَاعِ بَنِيهَا بِمَا أدَّت إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ، مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمِنْ خَصَائِصِهَا: أَنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ، بَعَثَ إِلَيْهَا السَّلَامَ مَعَ جِبْرِيلَ، فَبَلَّغَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ، قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شراب، فإذا هي أتتك فأقرأها السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ، مِنْ قَصَب، لَا صَخَب فِيهِ وَلَا نَصَب (1) وَهَذِهِ لعَمْر اللَّهِ خَاصَّةٌ، لَمْ تَكُنْ لِسِوَاهَا. وَأَمَّا عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَإِنَّ جِبْرِيلَ سلَّم عَلَيْهَا عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا: "يَا عَائِشَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ". فَقُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، تَرَى مَا لَا أَرَى، تُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) . وَمَنْ خَوَاصِّ خديجة، رضي الله عنها: أنه لم تسوءه قَطُّ، وَلَمْ تُغَاضِبْهُ، وَلَمْ يَنَلْهَا مِنْهُ إِيلَاءٌ، وَلَا عُتْبٌ قَطُّ، وَلَا هَجْرٌ، وَكَفَى بِهَذِهِ مَنْقَبَةٌ وَفَضِيلَةٌ.
وَمِنْ خَوَاصِّهَا: أَنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ آمَنَتْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
فَصْلٌ:
فلمَّا تَوَفَّاهَا اللَّهُ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَبَلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَبُرَتْ عِنْدَهُ، وَأَرَادَ طَلَاقَهَا فَوَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، فَأَمْسَكَهَا. وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهَا: أَنَّهَا آثَرَتْ بِيَوْمِهَا حُبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَرُّبًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُبًّا لَهُ، وَإِيثَارًا لِمَقَامِهَا مَعَهُ، فَكَانَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ، وَيَقْسِمُ لِنِسَائِهِ، وَلَا يَقْسِمُ لَهَا وَهِيَ رَاضِيَةٌ بِذَلِكَ مُؤْثِرَةٌ، لِتُرْضِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَزَوَّجَ الصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ، وَقِيلَ: بِثَلَاثٍ، وَبَنَى بِهَا بِالْمَدِينَةِ أَوَّلَ مَقْدَمِهِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ، وَمَاتَ عَنْهَا وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِ عَشْرَةَ، وَتُوُفِّيَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، وَأَوْصَتْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَمِنْ خَصَائِصِهَا: أَنَّهَا كَانَتْ أَحَبَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: "عَائِشَةُ". قِيلَ: فَمِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: "أَبُوهَا" (3) .
وَمِنْ خَصَائِصِهَا أَيْضًا: أَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَمِنْ خَصَائِصِهَا: أَنَّهُ كان ينزل عليه الوحي وهو
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3820) .
(2) صحيح البخاري برقم (3768) .
(3) لم أقف عليه في صحيح البخاري. وهو في سنن الترمذي برقم (3879) من حديث عمرو بن العاص، رضي الله عنه(6/404)
فِي لِحَافِهَا دُونَ غَيْرِهَا.
وَمِنْ خَصَائِصِهَا: أَنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، لَمَّا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةَ التَّخْيِيرِ بَدَأَ بِهَا فَخَيَّرَهَا، فَقَالَ: "وَلَا عَلَيْكِ أَلَّا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ". فَقَالَتْ: أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أبويَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. فَاسْتَنَّ بِهَا بَقِيَّةُ أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُلْنَ كَمَا قَالَتْ.
وَمِنْ خَصَائِصِهَا: أَنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ، بَرَّأَهَا مِمَّا رَمَاهَا بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ، وَأَنْزَلَ فِي عُذْرِهَا، وَبَرَاءَتِهَا، وَحْيًا يُتْلَى فِي مَحَارِيبِ الْمُسْلِمِينَ، وَصَلَوَاتِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَشَهِدَ لَهَا أَنَّهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَوَعَدَهَا الْمَغْفِرَةَ وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ، أَنَّ مَا قِيلَ فِيهَا مِنَ الْإِفْكِ كَانَ خَيْرًا لَهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ الَّذِي قِيلَ فِيهَا شَرٌّ لَهَا، وَلَا عَيْبٌ لَهَا، وَلَا خَافِضٌ مِنْ شَأْنِهَا، بَلْ رَفَعَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ، وَأَعْلَى قَدْرَهَا وَعَظَّمَ شَأْنَهَا، وَأَصَارَ لَهَا ذِكْرًا بِالطِّيبِ وَالْبَرَاءَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، فَيَا لَهَا مِنْ مَنْقَبَةٍ مَا أَجَلَّهَا. وَتَأَمَّلْ هَذَا التَّشْرِيفَ وَالْإِكْرَامَ النَّاشِئَ عَنْ فَرْطِ تَوَاضُعِهَا وَاسْتِصْغَارِهَا لِنَفْسِهَا، حَيْثُ قَالَتْ: وَلِشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فيَّ بِوَحْيٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، فَهَذِهِ صِّدِّيقَةُ الْأُمَّةِ، وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَحِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّهَا بَرِيئَةٌ مَظْلُومَةٌ، وَأَنَّ قَاذِفِيهَا ظَالِمُونَ مُفْتَرُونَ عَلَيْهَا، قَدْ بَلَغَ أَذَاهُمْ إِلَى أَبَوَيْهَا، وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا كَانَ احْتِقَارَهَا لِنَفْسِهَا وَتَصْغِيرَهَا لِشَأْنِهَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ قَدْ صَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ، قَدْ قَامَ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَاحَظُوا أَنْفُسَهُمْ بِعَيْنِ اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَاتِ، وَأَنَّهُمْ مِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِلِقَائِهِمْ، ويُغتنم بِصَالِحِ دُعَائِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ احْتِرَامُهُمْ وَتَعْظِيمُهُمْ وَتَعْزِيزُهُمْ وَتَوْقِيرُهُمْ، فَيُتَمَسَّحُ بِأَثْوَابِهِمْ، وَيُقَبَّلُ ثَرَى أَعِتَابِهِمْ، وَأَنَّهُمْ مِنَ اللَّهِ بِالْمَكَانَةِ الَّتِي تَنْتَقِمُ لَهُمْ لِأَجْلِهَا مَنْ تَنَقَّصَهَمْ فِي الْحَالِ، وَأَنْ يُؤْخَذَ مَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إِمْهَالٍ، وَإِنَّ إِسَاءَةَ الْأَدَبِ عَلَيْهِمْ ذَنْبٌ لَا يُكَفِّرُهُ شَيْءٌ إِلَّا رِضَاهُمْ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ وَرَاءِ كِفَايَةٍ لَهَانَ، وَلَكِنَّ مِنْ وَرَاءِ تَخَلُّفٍ، وَهَذِهِ الْحَمَاقَاتُ وَالرُّعُونَاتُ نِتَاجُ الْجَهْلِ الصَّمِيمِ، وَالْعَقْلِ غَيْرِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ جَاهِلٍ مُعْجَبٍ بِنَفْسِهِ، غَافِلٍ عَنْ جُرْمِهِ وَعُيُوبِهِ وَذُنُوبِهِ، مُغْتَرٍّ بِإِمْهَالِ اللَّهِ لَهُ عَنْ أَخْذِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكِبْرِ وَالِازْدِرَاءِ عَلَى مَنْ لَعَلَّهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْهُ. نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ نَفْسِهِ عَظِيمًا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَقِيرٌ، وَمِنْ خَصَائِصِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ الْأَكَابِرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، كَانَ إِذَا أَشْكَلَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الدِّينِ، اسْتَفْتَوْهَا فَيَجِدُونَ عِلْمَهُ عِنْدَهَا.
وَمِنْ خَصَائِصِهَا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ فِي بَيْتِهَا. وَمِنْ خَصَائِصِهَا: أَنَّ الْمَلَكَ أَرَى صُورَتَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي خِرْقَةِ حَرِيرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ" (1) . وَمِنْ خَصَائِصِهَا: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ هَدَايَاهُمْ يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَرُّبًا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُتْحِفُونَهُ بِمَا يُحِبُّ فِي مَنْزِلِ أَحَبِّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَتُكَنَّى أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ، وَرُوِيَ أَنَّهَا أَسْقَطَتْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقْطًا، وَلَا يَثْبُتْ ذَلِكَ.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (5078) من حديث عائشة، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.(6/405)
وَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ حُبَيْشِ بْنِ حُذَافَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، تُوُفِّيَتْ سَنَةَ سَبْعٍ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، وَمِنْ خَوَاصِّهَا: مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي السِّيرَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَهَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُرَاجِعَ حَفْصَةَ، فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَإِنَّهَا زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ حَرْمَلَةَ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنَا جَدِّي حَرْمَلَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ صَالِحٍ الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَوَضَعَ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِابْنِ الْخَطَّابِ بَعْدَ هَذَا. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُرَاجِعَ حَفْصَةَ رَحْمَةً لِعُمَرَ. (1)
وَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَاسْمُهَا رَمْلَةُ بِنْتُ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، هَاجَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَتَنَصَّرَ بِالْحَبَشَةِ، وَأَتَمَّ اللَّهُ لَهَا الْإِسْلَامَ، وَتَزَوَّجَهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَأَصْدَقَهَا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَبَعَثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ بِهَا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَوَلَّى نِكَاحَهَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَقِيلَ: خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَهِيَ الَّتِي أَكْرَمَتْ فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن يَجْلِسَ عَلَيْهِ أَبُوهَا لَمَّا قَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ الْمَدِينَةَ، وَقَالَتْ لَهُ: إِنَّكَ مُشْرِكٌ، وَمَنَعَتْهُ الْجُلُوسَ عَلَيْهِ.
وَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمُّ سَلَمَةَ وَاسْمُهَا هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمِّيَّةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقْظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ، تُوُفِّيَتْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، وَهِيَ آخَرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْتًا، وَقِيلَ: بَلْ مَيْمُونَةُ، وَمِنْ خَصَائِصِهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ عِنْدَهُ فَرَأَتْهُ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: "مَنْ هَذَا؟ " أَوْ كَمَا قَالَ. قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ. قَالَتْ: وَايْمُ اللَّهِ، مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُخْبِرُ أَنَّهُ جِبْرِيلُ، أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: فَقُلْتُ لِأَبِي عُثْمَانَ: مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ؟ قَالَ: مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ (2) وزوَّجها ابْنُهَا-عُمَرُ-مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدَّتْ طَائِفَةٌ ذَلِكَ بِأَنَّ ابْنَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ السِّنِّ حِينَئِذٍ مَا يَعْقِدُ التَّزْوِيجَ، وَرَدَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَحْمَدَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ-ابْنَهَا-سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ؟ فَقَالَ: "سَلْ هَذِهِ" يَعْنِي: أُمَّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ، فَقَالَ: لَسْنَا كَرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُحِلُّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِهِ" (3) أَوْ كَمَا قَالَ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ لِصَغِيرٍ جِدًّا، وَعُمَرُ وُلِدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أنه كان صغيرا،
__________
(1) المعجم الكبير (17/291) وقال الهيثمي في المجمع (4/334) : "فيه عمرو بن صالح الحضرمي، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات".
(2) صحيح مسلم برقم (2451) .
(3) صحيح مسلم برقم (1108) .(6/406)
دَعْوَى وَلَمْ يَثْبُتْ صِغَرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ مِنْ بَنِي خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَهِيَ بِنْتُ عَمَّتِهِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ قَبْلُ عِنْدِ مَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَطَلَّقَهَا فَزَوَّجَهُ اللَّهُ إياها من فوق سبع سموات، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} فَقَامَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِلَا اسْتِئْذَانٍ، وَكَانَتْ تَفْخَرُ بِذَلِكَ عَلَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقُولُ: زوَّجكن أَهَالِيكُنَّ وزوَّجني الله من فوق سبع سمواته، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِهَا. تُوُفِّيَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ.
وَتَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةَ، وَكَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، تَزَوَّجَهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ تُسَمَّى أَمَّ الْمَسَاكِينِ، وَلَمْ تَلْبَثْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا يَسِيرًا، شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَتُوُفِّيَتْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَكَانَتْ سُبِيَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَكَاتَبَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَتَهَا، وَتَزَوَّجَهَا سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ، وَهِيَ الَّتِي أَعْتَقَ الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِهَا مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الرَّقِيقِ، وَقَالُوا: أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَرَكَتِهَا عَلَى قَوْمِهَا.
وَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، مِنْ وَلَدِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ أَخِي مُوسَى، سَنَةَ سَبْعٍ، فَإِنَّهَا سُبِيَتْ مِنْ خَيْبَرَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ تَحْتَ كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تُوُفِّيَتْ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسِينَ. وَمِنْ خَصَائِصِهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. قَالَ أَنَسٌ: أَمْهَرَهَا نَفْسَهَا، وَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً لِلْأَمَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْعَلَ عِتْقَ جَارِيَتِهِ صَدَاقَهَا، وَتَصِيرُ زَوْجَتَهُ عَلَى مَنْصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَلَغَ صَفِيَّةَ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ: صَفِيَّةُ بِنْتُ يَهُودِيٍّ، فَبَكَتْ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكِ؟ " قَالَتْ: قَالَتْ لِي حَفْصَةُ: إِنِّي ابْنَةُ يَهُودِيٍّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ، وَإِنَّكِ لِتَحْتَ نَبِيٍّ، فَبِمَا تَفْخَرُ عَلَيْكِ؟ " ثُمَّ قَالَ: "اتَّقِ اللَّهَ يَا حَفْصَةُ". (1) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةَ، تَزَوَّجَهَا بسَرَف وَهُوَ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَهِيَ آخِرُ مَنْ تَزَوَّجَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، تُوُفِّيَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَهِيَ خَالَةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّ أُمَّهُ أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ وَهِيَ الَّتِي اخْتُلِفَ فِي نِكَاحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا. هَلْ نَكَحَهَا حَلَالًا أَوْ مُحرمًا؟ وَالصَّحِيحُ إِنَّمَا تَزَوَّجَهَا حَلَالًا كَمَا قَالَ أَبُو رَافِعٍ الشَّفِيرُ فِي نِكَاحِهَا.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ وَغَيْرُهُ: وَعَقَدَ عَلَى سَبْعٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ، فَالصَّلَاةُ عَلَى أَزْوَاجِهِ تَابِعَةٌ لِاحْتِرَامِهِنَّ وَتَحْرِيمِهِنَّ عَلَى الْأُمَّةِ، وَأَنَّهُنَّ نِسَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَمَنْ فَارَقَهَا فِي حَيَاتِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ، لَا يَثْبُتُ لَهَا أَحْكَامُ زَوْجَاتِهِ اللَّاتِي دَخَلَ بِهِنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى أزواجه وآله وذريته وسلم تسليما] . (2)
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3894) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه".
(2) زيادة من ت.(6/407)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) }(6/408)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) }
يَقُولُ تَعَالَى وَاعِظًا نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّاتِي اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَاسْتَقَرَّ (1) أَمْرُهُنَّ تَحْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَهُنَّ (2) بِحُكْمِهِنَّ [وَتَخْصِيصِهِنَّ] (3) دُونَ سَائِرِ النِّسَاءِ، بِأَنَّ مَنْ يَأْتِ مِنْهُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ -قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهِيَ النُّشُوزُ وَسُوءُ الْخُلُقِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزُّمَرِ:65] ، وَكَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْأَنْعَامِ: 88] ، {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزُّخْرُفِ:81] ، {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزُّمَرِ:4] ، فَلَمَّا كَانَتْ محلَّتهن رَفِيعَةً، نَاسَبَ أَنْ يَجْعَلَ الذَّنْبَ لَوْ وَقَعَ مِنْهُنَّ مُغْلَّظًا، صِيَانَةً لِجَنَابِهِنَّ وَحِجَابِهِنَّ الرَّفِيعِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} .
قَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} قَالَ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَعَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ [عَنْ مُجَاهِدٍ] (4) مِثْلَهُ.
{وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} أَيْ: سَهْلًا هَيِّنًا.
ثُمَّ ذَكَرَ عَدْلَهُ وَفَضْلَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ: يُطِعِ (5) اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْتَجِبْ {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} أَيْ: فِي الْجَنَّةِ، فَإِنَّهُنَّ فِي مَنَازِلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، فَوْقَ مَنَازِلِ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، فِي الْوَسِيلَةِ الَّتِي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش.
{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) } .
هَذِهِ آدَابٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنِسَاءُ الْأُمَّةِ تَبَعٌ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لِنِسَاءِ النَّبِيِّ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (6) بِأَنَّهُنَّ إِذَا اتَّقَيْنَ اللَّهَ كَمَا أَمَرَهُنَّ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِهُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَا يَلْحَقُهُنَّ فِي الفضيلة
__________
(1) في ت: "فاستقر.
(2) في أ: "يخبرن".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) في ت، ف: "يطيع".
(6) زيادة من ت، وفي ف: "صلوات الله وسلامه عليه".(6/408)
وَالْمَنْزِلَةِ، ثُمَّ قَالَ: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} .
قَالَ السُّدِّي وَغَيْرُهُ: يَعْنِي بِذَلِكَ: تَرْقِيقَ الْكَلَامِ إِذَا خَاطَبْنَ الرِّجَالَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أَيْ: دَغَل، {وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَوْلًا حَسَنًا جَمِيلًا مَعْرُوفًا فِي الْخَيْرِ.
وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهَا تُخَاطِبُ الْأَجَانِبَ بِكَلَامٍ لَيْسَ فِيهِ تَرْخِيمٌ، أَيْ: لَا تُخَاطِبِ الْمَرْأَةُ الْأَجَانِبَ كَمَا تُخَاطِبُ زَوْجَهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أَيِ: الْزَمْنَ بُيُوتَكُنَّ فَلَا (1) تَخْرُجْنَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. وَمِنِ الْحَوَائِجِ الشَّرْعِيَّةِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ بِشَرْطِهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلْيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلات" وَفِي رِوَايَةٍ: "وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ" (2)
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدة (3) حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ الْكَلْبِيُّ، رَوْحُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ثِقَةٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ (4) عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جِئْنَ النِّسَاءُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بِالْفَضْلِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا لَنَا عَمَلٌ نُدْرِكُ بِهِ عَمَلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَعَدَ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا -مِنْكُنَّ فِي بَيْتِهَا فَإِنَّهَا تُدْرِكُ عَمَلَ الْمُجَاهِدِينَ (5) فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ ثَابِتٍ إِلَّا رَوْحَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَشْهُورٌ (6) .
وَقَالَ (7) الْبَزَّارُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُوَرِّق، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ (8) بروْحَة رَبِّهَا وَهِيَ فِي قَعْر بَيْتِهَا".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ بُنْدَار، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ، بِهِ نَحْوَهُ (9)
وَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَأَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي مَخْدعِها أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا" (10) وَهَذَا إِسْنَادٌ (11) جَيِّدٌ.
__________
(1) في ت: "ولا".
(2) رواه بهذا اللفظ أبو داود في السنن برقم (565) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، وبالرواية الثانية برقم (567) من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
(3) في أ: "مسعود".
(4) في ت: "وروى أبو بكر البزار بإسناده".
(5) في ت: "المجاهد".
(6) مسند البزار برقم (1475) "كشف الأستار" ورواه أبو يعلى في المسند (6/140) وابن حبان في المجروحين (1/299) من طريق أبي رجاء الكلبي بنحوه. قال ابن حبان: "وكان روح ممن يروي عن الثقات الموضوعات، ويقلب الأسانيد، ويرفع الموقوفات" ثم قال: "لا تحل الرواية عنه ولا كتابة حديثه إلا للاختبار". وقال ابن عدي في الكامل: "أحاديثه غير محفوظة".
(7) في ت: "وروى".
(8) في أ: "ما يكون".
(9) سنن الترمذي برقم (1173) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (1685) ومن طريقه ابن حبان في صحيحه برقم (329) "موارد" عن عمرو بن عاصم، به، وشك ابن خزيمة في سماع قتادة هذا الحديث من مورق.
(10) سنن أبي داود برقم (570) .
(11) في ت: "إسناده".(6/409)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ تَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الرِّجَالِ، فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} يَقُولُ: إِذَا خَرَجْتُنَّ مِنْ بُيُوتِكُنَّ -وَكَانَتْ لَهُنَّ (1) مِشْيَةٌ وَتَكَسُّرٌ وتغنُّج -فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} وَالتَّبَرُّجُ: أَنَّهَا تُلْقِي الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا، وَلَا تَشُدُّهُ فَيُوَارِي قَلَائِدَهَا وَقُرْطَهَا وَعُنُقَهَا، وَيَبْدُو ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهَا، وَذَلِكَ التَّبَرُّجُ، ثُمَّ عُمَّتْ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّبَرُّجِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ زُهَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي الْفُرَاتِ -حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمة (2) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} . قَالَ: كَانَتْ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِدْرِيسَ، وَكَانَتْ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنَّ بَطْنَيْنِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ كَانَ أَحَدُهُمَا يَسْكُنُ السَّهْلَ، وَالْآخِرُ يَسْكُنُ الْجَبَلَ. وَكَانَ رِجَالُ الْجَبَلِ صِبَاحًا وَفِي النِّسَاءِ دَمَامة. وَكَانَ نِسَاءُ السَّهْلِ صِبَاحًا وَفِي الرِّجَالِ دَمَامَةٌ، وَإِنَّ إِبْلِيسَ أَتَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السَّهْلِ فِي صُورَةِ غُلَامٍ، فَآجَرَ نَفْسَهُ مِنْهُ، فَكَانَ يَخْدِمُهُ وَاتَّخَذَ إِبْلِيسُ شَيْئًا مِثْلَ الَّذِي يُزَمّر فِيهِ الرِّعاء، فَجَاءَ فِيهِ بِصَوْتٍ لَمْ يسمَع النَّاسُ مِثْلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مَنْ حَوْلَهُ، فَانْتَابُوهُمْ يَسْمَعُونَ إِلَيْهِ، وَاتَّخِذُوا عِيدًا يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فِي السَّنَةِ، فيتبرَّجُ النِّسَاءُ لِلرِّجَالِ. قَالَ: ويتزيَّن (3) الرِّجَالُ لَهُنَّ، وَإِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَبَلِ هَجَم عَلَيْهِمْ فِي عِيدِهِمْ ذَلِكَ، فَرَأَى النِّسَاءَ وصَبَاحتهن، فَأَتَى أَصْحَابَهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَتَحَوَّلُوا إِلَيْهِنَّ، فَنَزَلُوا مَعَهُنَّ وَظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِيهِنَّ، فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} (4) .
وَقَوْلُهُ: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، نَهَاهُنَّ أَوَّلًا عَنِ الشَّرِّ ثُمَّ أَمَرَهُنَّ بِالْخَيْرِ، مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ -وَهِيَ: عِبَادَةُ اللَّهِ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ -وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَهِيَ: الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، وَهَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِ عَلَى الْخَاصِّ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} : وَهَذَا نَصٌّ فِي دُخُولِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُنَّ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَسَبَبُ النُّزُولِ دَاخِلٌ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا، إِمَّا وَحْدَهُ عَلَى قَوْلٍ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ: عَنْ عِكْرِمة أَنَّهُ كَانَ يُنَادِي فِي السُّوقِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ، نَزَلَتْ (5) فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَاب، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ (6) ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة.
__________
(1) في أ: "لها".
(2) في ت: "وروى ابن جرير بإسناده".
(3) في ت، ف: "وتنزل".
(4) تفسير الطبري (22/4) .
(5) في ت: "أنزلت".
(6) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى".(6/410)
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ كُنّ سَبَبَ النُّزُولِ دُونَ غَيْرِهِنَّ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُنَّ الْمُرَادُ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِنَّ، فَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، أَخْبَرَنَا عَلَيِّ بْنِ زَيْدٍ (1) ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِذَا خَرَجَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرَ يَقُولُ: "الصَّلَاةُ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ عَفَّانَ بِهِ. وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ (2) . (3)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الْحَمْرَاءِ قَالَ: رَابَطْتُ الْمَدِينَةَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، [قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (4) إِذَا طَلَعَ الْفَجْرَ، جَاءَ إِلَى بَابِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ فَقَالَ: "الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (5) .
أَبُو دَاوُدَ الْأَعْمَى هُوَ: نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ، كَذَّابٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ: وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا شَدَّادٌ أَبُو عَمَّارٍ (6) قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ، فَذَكَرُوا عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلِمَا قَامُوا قَالَ لِي: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَا رَأَيْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ اللَّهَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: أَتَيْتُ فَاطِمَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ عَلِيٍّ فَقَالَتْ: تَوَجه إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ عَلِيٌّ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ، آخِذٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِيَدِهِ حَتَّى دَخَلَ، فَأَدْنَى عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَأَجْلَسَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَجْلَسَ حَسَنًا وَحُسَيْنًا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ لفَّ عَلَيْهِمْ (7) ثَوْبَهُ -أَوْ قَالَ: كِسَاءَهُ -ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ، اللَّهُمَّ (8) هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، وَأَهْلُ بَيْتِي أَحَقُّ"، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ (9) ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ بِسَنَدِهِ نَحْوَهُ -زَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ وَاثِلَةُ: فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ -مِنْ أَهْلِكَ؟ قَالَ: "وَأَنْتَ مِنْ أَهْلِي"قَالَ وَاثِلَةُ: إِنَّهَا مِنْ أَرْجَى مَا أَرْتَجِي (10) .
ثُمَّ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ وَاصِلٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْن، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ كُلْثُومِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ شَدَّادِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ عِنْدَ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ إذ ذكروا عليا
__________
(1) في ت: "فروى الإمام أحمد بإسناده".
(2) في ت: "حديث حسن".
(3) المسند (3/259) وسنن الترمذي برقم (3206) .
(4) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.
(5) تفسير الطبري (22/6) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (22/200) من طريق منصور بن الأسود، عن أبي داود بنحوه.
(6) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن شداد بن عمار".
(7) في ت: "عليهما".
(8) في ت، ف: "وقال: اللهم".
(9) في أ: "عمر".
(10) المسند (4/107) وتفسير الطبري (22/6) .(6/411)
فَشَتَمُوهُ، فَلَّمَا قَامُوا قَالَ: اجْلِسْ حَتَّى أُخْبِرُكَ عَنِ الَّذِي شَتَمُوهُ، إِنِّي عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ فَأَلْقَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ كِسَاءً لَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا؟ قَالَ: "وَأَنْتَ" قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَأَوْثَقُ عَمَلِي عِنْدِي (1) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ بن أبي رَبَاحٍ، حَدَّثَنِي مِنْ سَمِعَ أُمَّ سَلَمَةَ تَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَيْتِهَا، فَأَتَتْهُ فَاطِمَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بِبُرْمَةٍ فِيهَا خَزيرة، فَدَخَلَتْ بِهَا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهَا: "ادْعِي زَوْجَكِ وَابْنَيْكِ". قَالَتْ: فَجَاءَ عَلِيٌّ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَجَلَسُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تِلْكَ الْخَزِيرَةِ، وَهُوَ عَلَى منامةٍ لَهُ عَلَى دُكَّانٍ (2) تَحْتَهُ كِسَاءٌ خَيْبَرِيٌّ، قَالَتْ: وَأَنَا فِي الْحُجْرَةِ أُصَلِّي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . قَالَتْ: فَأَخَذَ فَضْلَ الْكِسَاءِ فَغَطَّاهُمْ بِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ فَأَلْوَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا"، قَالَتْ: فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي الْبَيْتَ، فَقُلْتُ: وَأَنَا مَعَكُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ، إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ" (3) .
فِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَمْ يُسَمَّ (4) ، وَهُوَ شَيْخُ عَطَاءٍ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ أَبِي الْمُعَدِّلِ (5) ، عَنْ عَطِيَّةَ الطُّفَاوِيّ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ (6) : بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي يَوْمًا إِذْ قَالَ الْخَادِمُ: إِنَّ فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا بِالسُّدَّةِ قَالَتْ: فَقَالَ لِي: "قُومِي فَتَنَحي عَنْ (7) أَهْلِ بَيْتِي". قَالَتْ: فَقُمْتُ فَتَنَحَّيْتُ فِي الْبَيْتِ قَرِيبًا، فَدَخَلَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ، وَمَعَهُمَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَهُمَا صَبِيَّانِ صَغِيرَانِ، فَأَخَذَ الصَّبِيَّيْنِ فَوَضَعَهُمَا فِي حِجْرِهِ فقبَّلهما، وَاعْتَنَقَ عَلِيًّا بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَفَاطِمَةَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، وقَبَّل فَاطِمَةَ وقَبَّل عَلِيًّا، وَأَغْدَقَ عَلَيْهِمْ خَميصَة سَوْدَاءَ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ، إِلَيْكَ لَا إِلَى النَّارِ أَنَا وَأَهْلُ بَيْتِي". قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ. قَالَ: "وَأَنْتِ" (8) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا [الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا] (9) فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ؛ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَيْتِهَا: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} قَالَتْ: وَأَنَا جَالِسَةٌ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ فَقُلْتُ: يَا رسول
__________
(1) تفسير الطبري (22/7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (22/65) من طريق علي بن عبد العزيز عن الفضل بن دكين، أبو نعيم به.
(2) في ف: "وكان".
(3) المسند (6/292) وقد سمى شيخ عطاء في رواية الطبراني في المعجم الكبير (9/11) فقال عن عطاء بن أبي رباح، عن عمر بن أبي سلمة بنحوه.
(4) في أ: "يسمع".
(5) في أ: "العدل".
(6) في ت: "وروى الإمام أحمد بسنده أن أم سلمة قالت".
(7) في أ: "فتنحى لي عن".
(8) المسند (6/296) .
(9) زيادة من: ت، ف، و"الطبري".(6/412)
اللَّهِ، ألستُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: "إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ، أَنْتِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" قَالَتْ: وَفِي الْبَيْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيَّ، وَفَاطِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (1) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا، عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنِ وَكِيع، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَام، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَب، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِنَحْوِهِ (2) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَد، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنِي هَاشِمُ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَاصٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَة قَالَ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، ثُمَّ أَدْخَلَهُمْ تَحْتَ ثَوْبِهِ، ثُمَّ جَأَرَ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: "هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي". قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَدْخَلَنِي مَعَهُمْ. فَقَالَ: "أَنْتِ مِنْ أَهْلِي" (3) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ بِنَحْوِ ذَلِكَ (4) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَرْبِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْمَةٍ لَهَا قَدْ صَنَعَتْ فِيهَا عَصيدَة تَحْمِلُهَا عَلَى طَبَقٍ، فَوَضَعَتْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: "أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ وَابْنَاكِ؟ " فَقَالَتْ: فِي الْبَيْتِ. فَقَالَ: "ادْعِيهِمْ". فَجَاءَتْ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَتْ: أجِبْ رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ وَابْنَاكَ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَلَمَّا رَآهُمْ مُقْبِلِينَ مدَّ يَدَهُ إِلَى كِسَاءٍ كَانَ عَلَى الْمَنَامَةِ، فَمَدَّهُ وَبَسَطَهُ، وَأَجْلَسَهُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِأَطْرَافِ الْكِسَاءِ الْأَرْبَعَةِ بِشَمَالِهِ، فَضَمَّهُ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى إِلَى رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ، هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا". (5)
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ (6) بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: ذَكَرْنَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: فِي بَيْتِي نَزَلَتْ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بَيْتِي فَقَالَ: "لَا تَأْذَنِي لِأَحَدٍ". فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فِلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَحْجُبَهَا عَنْ أَبِيهَا. ثُمَّ جَاءَ الْحَسَنُ فِلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَحْجُبَهُ عَنْ أُمِّهِ وَجَدِّهِ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فِلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَحْجُبَهُ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَحْجُبَهُ، فَاجْتَمَعُوا فَجَلّلهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِسَاءٍ كَانَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا". فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى الْبِسَاطِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا؟ قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ، وَقَالَ: "إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ" (7) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ (8) عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: قَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (9) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات
__________
(1) تفسير الطبري (22/7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (23/249) من طريق فضيل بن مرزوق به مختصرا.
(2) تفسير الطبري (22/6) ورواه الطحاوي في مشكل الآثار برقم (770) من طريق عبد الحميد بن بهرام، به. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (23/333) من طريق زبيد، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
(3) تفسير الطبري (22/7) ورواه الطحاوي في مشكل الآثار برقم (763) من طريق خالد بن مخلد القطواني به.
(4) تفسير الطبري (22/7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (23/286) من طريق شريك، عن عطاء، عن أم سلمة.
(5) تفسير الطبري (22/7) .
(6) في أ: "عبد الملك".
(7) تفسير الطبري (22/7) ورواه الطحاوي في مشكل الآثار برقم (762) من طريق جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش بنحوه.
(8) في أ: "بشير".
(9) في ف: "النبي".(6/413)
غَدَاةٍ، وَعَلَيْهِ مِرْط مُرَحَّل مِنْ شَعْر أَسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ (1) ، بِهِ. (2)
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُرَيج بْنُ يُونُسَ أَبُو الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْعَوَّامِ -يَعْنِي: ابْنَ حَوْشَب -عَنْ عمٍّ لَهُ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عَائِشَةَ، فَسَأَلْتُهَا عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: تَسْأَلُنِي عَنْ رَجُلٍ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَتُهُ وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ ثَوْبًا فَقَالَ: "اللَّهُمَّ، هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا". قَالَتْ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ؟ فَقَالَ: "تَنَحّي، فَإِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ".
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا بَكْرُ (3) بْنُ يَحْيَى بْنِ زَبّان العَنزيّ، حَدَّثَنَا منْدَل، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي خَمْسَةٍ: فِيَّ، وَفِي عَلِيٍّ، وَحَسَنٍ، وَحُسَيْنٍ، وَفَاطِمَةَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (4) .
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فُضَيْلَ بْنَ مَرْزُوقٍ رَوَاهُ عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ هَارُونَ بْنِ سَعْدٍ العِجْلي، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْقُوفًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا بُكَيْر بْنُ مِسْمَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ سَعْدٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَأَخَذَ عَلِيًّا وَابْنَيْهِ وَفَاطِمَةَ فَأَدْخَلَهُمْ تَحْتَ ثَوْبِهِ، ثُمَّ قَالَ: "رَبِّ، هَؤُلَاءِ أَهْلِي وَأَهْلُ بَيْتِي" (5)
حَدِيثٌ آخَرُ: وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي زُهَير بْنُ حَرْبٍ، وشُجاع بْنُ مَخْلَد جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ عُلَيَّة -قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَيَّان، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ حَيَّان قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وحُصَين بْنُ سَبْرَةَ وَعُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ (6) إِلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَلَمَّا جَلَسْنَا إِلَيْهِ قَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: لَقَدْ لقيتَ يَا زيدُ خَيْرًا كَثِيرًا [رأيتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمعتَ حَدِيثَهُ، وغزوتَ مَعَهُ، وصليتَ خَلْفَهُ، لَقَدْ لَقِيَتْ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا] (7) ؛ حَدّثنا يَا زَيْدُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. قال: يا بن أخي، والله لقد
__________
(1) في أ: "بشير".
(2) تفسير الطبري (22/5) وصحيح مسلم برقم (2081) .
(3) في ف: "بكير".
(4) تفسير الطبري (22/5) .
(5) رواه الطبري في تفسيره (22/7) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8439) من طريق أبي بكر الحنفي، عن بكير بن مسمار، به.
(6) في ت، ف، أ: "سلمة".
(7) زيادة من ت، ف، ومسلم.(6/414)
كَبرَت (1) سِنِّي، وَقَدِمَ عَهْدِي، ونسيتُ بَعْضَ الَّذِي كنتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا حَدّثتكُم فَاقْبَلُوا، وَمَا لَا فَلَا تُكَلّفونيه. ثُمَّ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا -بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ -فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكّر، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ (2) أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبُ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ، وَأَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا بِهِ". فَحَثّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّب فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَأَهْلُ بَيْتِي، أذَكِّركم اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أذكِّركم اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي" ثَلَاثًا. فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ أَهْلَ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصّدَقة بَعْدَهُ. قَالَ: ومَنْ هم؟ قال هم آل علي، وآل عَقِيل، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَبَّاسٍ. قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ (3) .
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّار بْنِ الريَّان، عَنْ حَسَّانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّان (4) ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ: فَقُلْنَا لَهُ: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟ نِسَاؤُهُ؟ قَالَ: لَا وَايْمُ اللَّهِ، إِنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ الْعَصْرَ مِنَ الدَّهْرِ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَرْجِعُ إِلَى أَبِيهَا وَقَوْمِهَا. أَهْلُ بَيْتِهِ أَصْلُهُ وعَصبَته الَّذِينَ حُرموا الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ (5) .
هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالْأُولَى أَوْلَى، وَالْأَخْذُ بِهَا أَحْرَى. وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ تَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْأَهْلِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ، إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِمْ آلُهُ الَّذِينَ حُرموا الصَّدَقَةَ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَهْلِ الْأَزْوَاجَ فَقَطْ، بَلْ هُمْ مَعَ آلِهِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَرْجَحُ؛ جَمْعًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَجَمْعًا أَيْضًا بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِنْ صَحَّتْ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَسَانِيدِهَا نَظَرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ تَدَبَّر الْقُرْآنَ أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلَاتٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ، فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ مَعَهُنَّ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} أَيِ: اعْمَلْنَ بِمَا يُنْزِلُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاذْكُرْنَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي خُصِصْتُنَّ (6) بِهَا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ فِي بُيُوتِكُنَّ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ، وَعَائِشَةُ [الصِّدِّيقَةُ] (7) بِنْتُ الصِّدِّيقِ أَوْلاهُنَّ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، وَأَحْظَاهُنَّ بِهَذِهِ الْغَنِيمَةِ، وَأَخَصَّهُنَّ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ الْعَمِيمَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحيُ فِي فِرَاشِ امْرَأَةٍ سِوَاهَا، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (8) . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، رَحِمَهُ اللَّهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا سِوَاهَا، وَلَمْ يَنَمْ مَعَهَا رَجُلٌ فِي فِرَاشِهَا سِوَاهُ، فَنَاسَبَ أَنَّ تُخَصُّصَ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ، وَأَنَّ تُفْرَدَ بِهَذِهِ الرُّتْبَةِ الْعَلِيَّةِ. وَلَكِنْ إِذَا كَانَ أَزْوَاجُهُ من أهل
__________
(1) في أ "كبر".
(2) في ف: "فيوشك".
(3) صحيح مسلم برقم (2408) .
(4) في أ: "حسان".
(5) صحيح مسلم برقم (2408) .
(6) في أ: "خصصتهن".
(7) زيادة من أ.
(8) في ت: "رسول الله صلى الله عليه وسلم".(6/415)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
بَيْتِهِ، فَقَرَابَتُهُ أَحَقُّ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: "وَأَهْلُ بَيْتِي أَحَقُّ". وَهَذَا يُشْبِهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ: "هُوَ مَسْجِدِي هَذَا" (1) . فَهَذَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي مَسْجِدِ قُباء، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ. وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَاكَ أسّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِتَسمِيَته بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانة، عَنْ حُصَين بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ (2) قَالَ: إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ استُخلفَ حِينَ قُتِل عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3) قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي إِذْ وَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَطَعَنَهُ بِخِنْجَرٍ وَزَعَمَ حُصَيْنٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الَّذِي طَعَنَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، وَحَسَنٌ سَاجِدٌ قَالَ: فَيَزْعُمُونَ أَنَّ الطَّعْنَةَ وَقَعَتْ فِي وَرِكِهِ، فَمَرِضَ مِنْهَا أَشْهُرًا، ثُمَّ بَرَأ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، اتَّقُوا اللَّهَ فِينَا، فَإِنَّا أُمَرَاؤُكُمْ وَضِيفَانُكُمْ، وَنَحْنُ أَهْلُ الْبَيْتِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} قَالَ: فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ إِلَّا وَهُوَ يَحِنّ بُكَاءً.
وَقَالَ السُّدِّي، عَنْ أَبِي الدَّيْلَمِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَمَا قَرَأْتَ فِي الْأَحْزَابِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلْأَنْتُمْ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} أَيْ: بِلُطْفِهِ بِكُنَّ بَلَغْتُنَّ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، وَبِخِبْرَتِهِ (4) بِكُنَّ وَأَنَّكُنَّ أَهْلٌ لِذَلِكَ، أَعْطَاكُنَّ ذَلِكَ وَخَصَّكُنَّ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاذْكُرْنَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُنَّ بِأَنَّ جَعْلَكُنَّ فِي بُيُوتٍ تُتْلَى فِيهَا آيَاتُ اللَّهِ وَالْحِكْمَةُ، فَاشْكُرْنَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ وَاحْمِدْنَهُ.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} أَيْ: ذَا لُطْفٍ بِكُنَّ، إِذْ جَعَلَكُنَّ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي تُتْلَى فِيهَا آيَاتُهُ وَالْحِكْمَةُ. وَهِيَ السُّنَّةُ، خَبِيرًا بكنَّ إِذِ اخْتَارَكُنَّ لِرَسُولِهِ أَزْوَاجًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} قَالَ: يمتنُّ عَلَيْهِنَّ بِذَلِكَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ عَطِيَّةُ العَوْفي فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} يَعْنِي: لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِهَا، خَبِيرٌ بِمَوْضِعِهَا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: وَكَذَا رَوَى الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ قَتَادَةَ (5) .
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) } .
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1398) من حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(3) في ت، ف، أ: "عنه".
(4) في ت: "بمخبرته".
(5) في ت: "وقتادة".(6/416)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا (1) عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَيْبَةَ، سَمِعْتُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَنَا لَا نُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا يُذْكَرُ الرِّجَالُ؟ قَالَتْ (2) : فَلَمْ يَرعني مِنْهُ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَّا وَنِدَاؤُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَتْ، وَأَنَا أسَرّح شَعْرِي، فَلَفَفْتُ شَعْرِي، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى حُجْرة مِنْ حُجَر بَيْتِي، فَجَعَلْتُ سَمْعِي عِنْدَ الْجَرِيدِ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسَلَّمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، بِهِ مِثْلَهُ (3) .
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهَا: قَالَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا سُوَيْد، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهُ بْنُ شَريك، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا لِي أَسْمَعُ الرِّجَالَ يُذْكَرُونَ فِي الْقُرْآنِ، وَالنِّسَاءُ لَا يُذْكَرْنَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (4) .
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُذْكَرُ الرِّجَالُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا نُذْكَرُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الْآيَةَ (5)
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجيح، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يُذْكَرُ الرِّجَالُ وَلَا نُذْكَرُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الْآيَةَ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّار بْنُ مُظَاهِرٍ العَنزي (6) حَدَّثَنَا أَبُو كُدَيْنة يَحْيَى بْنُ المهلَّب، عَنْ قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظِبْيَان، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَهُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَذْكُرُ الْمُؤْمِنَاتِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الْآيَةَ (7) .
وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ (8) حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ (9) ؛ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: دَخَلَ نِسَاءٌ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَ: قَدْ ذَكَركُنّ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ نُذكَر بِشَيْءٍ، أَمَا فِينَا مَا يُذْكَرُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية (10) .
__________
(1) في ت: "وروى الإمام احمد بإسناده عن".
(2) في ف: "قال".
(3) المسند (6/305) والنسائي في السنن الكبرى برقم (1405) وتفسير الطبري (22/9) .
(4) النسائي في السنن الكبرى برقم (1404) .
(5) تفسير الطبري (22/8) .
(6) في ف، أ: "سنان بن مظاهر العمرى".
(7) تفسير الطبري (22/8) .
(8) في ف، أ: "بشير".
(9) في ف، أ: "سعد".
(10) تفسير الطبري (22/8) .(6/417)
فَقَوْلُهُ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ، لِقَوْلِهِ (1) تَعَالَى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الْحُجُرَاتِ:14] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ". فَيَسْلُبُهُ (2) الْإِيمَانَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كُفْرُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ.
[وَقَوْلُهُ] (3) : {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} الْقُنُوتُ: هُوَ الطَّاعَةُ فِي سُكُونٍ، {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزُّمَرِ:9] ، وَقَالَ تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الرُّومِ:26] ، {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آلِ عِمْرَانَ:43] ، {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [الْبَقَرَةِ:238] . فَالْإِسْلَامُ بَعْدَهُ مَرْتَبَةٌ (4) يَرْتَقِي إِلَيْهَا، ثُمَّ الْقُنُوتُ نَاشِئٌ عَنْهُمَا.
{وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} : هَذَا فِي الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ خَصْلَةٌ مَحْمُودَةٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لَمْ تُجَرّب عَلَيْهِ كِذْبة لَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ (5) ، وَهُوَ عَلَامَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ، كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ أَمَارَةٌ عَلَى النِّفَاقِ، ومَنْ صَدَقَ نَجَا، "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ. وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويتَحرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبُ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا" (6) . وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
{وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} : هَذِهِ سَجِيّة الْأَثْبَاتِ، وَهِيَ الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّ الْمَقْدُورَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَتَلَقّي ذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَإِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، أَيْ: أَصْعَبُهُ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ، ثُمَّ مَا بَعْدَهُ أَسْهَلُ مِنْهُ، وَهُوَ صِدْقُ السَّجِيَّةِ وَثَبَاتُهَا.
{وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} الْخُشُوعُ (7) : السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَالتُّؤَدَةُ وَالْوَقَارُ وَالتَّوَاضُعُ. وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ وَمُرَاقَبَتُهُ، [كَمَا فِي الْحَدِيثِ] (8) : "اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ".
{وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} : الصَّدَقَةُ: هِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ الْمَحَاوِيجِ الضُّعَفَاءِ، الَّذِينَ لَا كَسْبَ لَهُمْ وَلَا كَاسِبَ، يُعْطَوْنَ مِنْ فُضُولِ الْأَمْوَالِ (9) طَاعَةً لِلَّهِ، وَإِحْسَانًا إِلَى خَلْقِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّهِ" فَذَكَرَ مِنْهُمْ: "ورجل تصدق بصدقة
__________
(1) في أ: "كقوله".
(2) في ت، ف، أ: "فسلبه".
(3) زيادة من ت، أ.
(4) في ت: "قربة".
(5) في ت، ف: "جاهلية ولا إسلام".
(6) في ت، ف، أ: "أتى بعجز الحديث وأخر صدره".
(7) في ت، ف، أ: "أي".
(8) زيادة من ت، ف، أ.
(9) في أ: "الأعمال".(6/418)
فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ" (1) . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ" (2) .
[وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إن الصَّدَقَةَ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مَيْتَةَ السُّوءِ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قدَّم، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ. فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ".
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاذَا يُنْجِي الْعَبْدَ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: "الْإِيمَانُ بِاللَّهِ". قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَعَ الْإِيمَانِ عَمَلٌ؟ قَالَ: "تَرْضَخُ مِمَّا خوَّلك اللَّهُ"، أَوْ "تَرْضَخُ مِمَّا رَزَقَكَ اللَّهُ"؛ وَلِهَذَا لَمَّا خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْعِيدِ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تصدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ". وَكَأَنَّهُ حَثَّهُنَّ وَرَغَّبَهُنَّ عَلَى مَا يَفْدِينَ بِهِ أَنْفُسَهُنَّ مِنَ النَّارِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ذُكِرَ لِي أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَبَاهَى، فَتَقُولُ الصَّدَقَةُ: أَنَا أَفْضَلُكُمْ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ضَرَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ، كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، أَوْ جَنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ. قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ، كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ، حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا همَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ، وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا فِي جَيْبِهِ. فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسِّعُهَا وَلَا يَتَّسِعُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التَّغَابُنِ:16] فَجُودُ الرَّجُلِ يُحَبِّبُهُ إِلَى أَضْدَادِهِ، وَبُخْلُهُ يُبَغِّضُهُ إِلَى أَوْلَادِهِ. كَمَا قِيلَ:
وَيُظْهر عيبَ الْمَرْءِ فِي النَّاسِ بخلُه ... وَتَسْتُرُهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا سَخَاؤُهُ ...
تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَاءِ فَإِنَّنِي ... أَرَى كُلَّ عَيْبٍ وَالسَّخَاءُ غِطَاؤُهُ] (3) ...
وَالْأَحَادِيثُ فِي الْحَثِّ عَلَيْهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، لَهُ مَوْضِعٌ بِذَاتِهِ.
{وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} : فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: "وَالصَّوْمُ زَكَاةُ الْبَدَنِ" أَيْ: تُزَكِّيهِ وَتُطَهِّرُهُ وَتُنَقِّيهِ مِنَ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ طَبْعًا وَشَرْعًا.
قَالَ (4) سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، دخل في قوله: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1423) وصحيح مسلم برقم (1031) .
(2) رواه الترمذي في السنن برقم (614) من حديث كعب بن عجرة، رضي الله عنه، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ" ورواه أحمد في المسند 3/321 من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ورواه الترمذي في السنن برقم (2616) وابن ماجه في السنن برقم (3973) من حديث معاذ، رضي الله عنه.
(3) زيادة من ت.
(4) في أ: "كما قال".(6/419)
وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى كَسْرِ الشَّهْوَةِ -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أغَضُّ لِلْبَصَرِ، وأحْصَن لِلْفَرْجِ، ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء" (1) -نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهُ: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} أَيْ: عَنِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ إِلَّا عَنِ الْمُبَاحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 5-7] .
وَقَوْلُهُ: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ، عَنِ الأغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ (2) ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ، كُتِبَا (3) تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ".
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ الأعمش، [عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ] (4) ، عَنِ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمِثْلِهِ (5) .
وَقَالَ (6) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا دَرَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْري، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْعِبَادِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ".
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنَ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَمًا لَكَانَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ أَفْضَلَ مِنْهُ" (7) .
وَقَالَ (8) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَأَتَى عَلَى جُمْدان فَقَالَ: "هَذَا جُمْدان، سِيرُوا فَقَدْ سَبَقَ المُفَرّدون". قَالُوا: وَمَا المُفَرّدون (9) ؟ قَالَ: "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا (10) ". ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: "وَالْمُقَصِّرِينَ".
تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ دون آخره (11) .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5066) وصحيح مسلم برقم (1400) .
(2) في ت: "روى ابن أبي حاتم بإسناده".
(3) في ت، أ: "كانا".
(4) زيادة من ت، ف، وسنن أبي داود وابن ماجه.
(5) سنن أبي داود برقم (1309) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11406) وسنن ابن ماجه برقم (1335) .
(6) في ت: "وروى".
(7) المسند (3/75) ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(8) في ت: "وروى".
(9) في ف، أ: "وما المفردون يا رسول الله؟ "
(10) في ف، أ: "الذاكرون الله كثيرا والذاكرات".
(11) المسند (2/411) وصحيح مسلم برقم (1302) وإنما رواه مسلم دون أوله، والله اعلم.(6/420)
وَقَالَ (1) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُجَيْن بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ -مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاش (2) بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ -أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ". وَقَالَ مُعَاذٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لَكُمْ مِنْ تَعَاطِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ غَدًا فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ"؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "ذِكْرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ" (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا زَبَّان بْنِ فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهَنيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: أَيُّ الْمُجَاهِدِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "أَكْثَرُهُمْ (4) لِلَّهِ ذِكْرًا". قَالَ: فَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَكْثَرُ أَجْرًا؟ قَالَ: "أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا". ثُمَّ ذَكَرَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالصَّدَقَةَ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَجَلْ" (5) .
وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي كَثْرَةِ الذِّكْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ:41، 42] ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} أَيْ: هَيَّأَ لَهُمْ (6) مِنْهُ لذنوبهم مغفرة وأجرا عظيما وهو الجنة.
__________
(1) في ت: "وروى".
(2) في ف، أ: "عباس".
(3) المسند (5/239) .
(4) في أ: "أكثرهم".
(5) المسند (3/438) وقال الهيثمي في المجمع (10/74) : "وفيه زبان بن فائد وهو ضعيف، وقد وثق، وكذلك ابن لهيعة، وبقية رجاله ثقات".
(6) في ت، ف: "أعد لهم".(6/421)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا (36) } .
قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقَ لِيَخْطُبَ عَلَى فَتَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَدَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةِ فَخَطَبَهَا، فَقَالَتْ: لَسْتُ بِنَاكِحَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلْ فَانْكِحِيهِ". قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُؤَامَرُ فِي نَفْسِي. فَبَيْنَمَا هُمَا يَتَحَدَّثَانِ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} الْآيَةَ، قَالَتْ: قَدْ رَضِيتُهُ لِي مُنْكِحًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَتْ: إِذًا لَا أَعْصِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، قد أنكحته نفسي (1) .
__________
(1) تفسير الطبري (22/9) .(6/421)
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعة، عَنِ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَاسْتَنْكَفَتْ مِنْهُ، وَقَالَتْ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ حَسَبًا -وَكَانَتِ امْرَأَةً فِيهَا حِدَّةٌ -فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} الْآيَةَ كُلَّهَا.
وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ [الْأَسَدِيَّةِ] (1) حِينَ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَامْتَنَعَتْ ثُمَّ أَجَابَتْ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، نَزَلَتْ فِي أُمِّ كُلْثُومِ (2) بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْط، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ مِنَ النِّسَاءِ -يَعْنِي: بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ -فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ. فَزَوَّجَهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ -يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ بَعْدَ فِرَاقِهِ زَيْنَبَ -فَسَخِطَتْ هِيَ وَأَخُوهَا وَقَالَا إِنَّمَا أَرَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزوّجَنا عَبْدَهُ. قَالَ: فَنَزَلَ الْقُرْآنُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: وَجَاءَ أَمْرٌ أَجْمَعُ مِنْ هَذَا: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم} قَالَ: فَذَاكَ خَاصٌّ وَهَذَا جِمَاعٌ.
وَقَالَ (3) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ ثَابِتٍ البُنَاني، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جُلَيْبيب امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى أَبِيهَا، فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أُمَّهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنَعَمْ (4) إِذًا. قَالَ: فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ، [فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا] (5) ، فَقَالَتْ: لَاهَا اللَّهُ ذَا (6) ، مَا وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا جلَيبيبا، وَقَدْ مَنَعْنَاهَا مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ؟ قَالَ: وَالْجَارِيَةُ فِي سِتْرِهَا (7) تَسْمَعُ. قَالَ: فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ؟ إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ فَأَنْكِحُوهُ. قَالَ: فَكَأَنَّهَا جَلَّت عَنْ أَبَوَيْهَا، وَقَالَا صَدَقْتِ. فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ رَضِيتَهُ فَقَدْ رَضِينَاهُ. قَالَ: "فَإِنِّي قَدْ رَضِيتُهُ". قَالَ: فَزَوَّجَهَا (8) ، ثُمَّ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَرَكِبَ جُلَيْبيب فَوَجَدُوهُ قَدْ قُتِلَ، وَحَوْلُهُ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قَتَلَهُمْ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا [وَإِنَّهَا] (9) لَمِنْ أَنْفَقِ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ (10) .
وَقَالَ (11) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ -يَعْنِي: ابْنَ سَلَمَةَ -عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ كِنَانَةَ بْنِ نُعَيْمٍ الْعَدَوِيِّ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ جُلَيْبِيبًا كَانَ امْرَأً يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ يَمُرّ بِهِنَّ وَيُلَاعِبُهُنَّ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: لَا يَدْخُلْنَ الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ (12) جُليبيبُ، فَإِنَّهُ إِنْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ (13) لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ. قَالَ: وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ: هَلْ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَاجَةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: "زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ". قَالَ: نَعَمْ، وَكَرَامَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ (14) ، ونُعْمَة عَيْنٍ. فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ أُرِيدُهَا لِنَفْسِي. قَالَ: فَلِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: لجليبيب.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "أم مكتوم".
(3) في ت: "وروى".
(4) في ف: "لنعم".
(5) زيادة من ت، ف، والمسند.
(6) في هـ، أ: "إذا" والمثبت من ت، ف والنهاية لابن الأثير.
(7) في ت: "خدرها".
(8) في أ: "فتزوجها".
(9) زيادة من ت، ف، والمسند.
(10) المسند (3/136) .
(11) في ت: "وروى".
(12) في أ: "عليكن".
(13) في أ: "عليكن".
(14) في أ: "برسول الله".(6/422)
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُشَاوِرُ أُمَّهَا. فَأَتَى أُمَّهَا فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ابْنَتَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ ونُعمة عَيْنٍ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ، إِنَّمَا يَخْطُبُهَا لِجُلَيْبِيبٍ. فَقَالَتْ: أَجُلَيبيب إِنِيهِ (1) ؟ أَجُلَيْبِيبٌ إنيِه (2) ؟ لَا لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تزَوّجُه. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ لِيَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُهُ بِمَا قَالَتْ أُمُّهَا، قَالَتِ الْجَارِيَةُ: مَنْ خَطَبَنِي إِلَيْكُمْ؟ فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّهَا. قَالَتْ: أَتَرُدُّونَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ؟! ادْفَعُونِي إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يُضَيِّعَنِي. فَانْطَلَقَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: شأنَك بِهَا. فَزَوّجها جُلَيْبِيبًا. قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ لَهُ، فَلَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ"؟ قَالُوا: نَفْقِدُ فَلَانًا وَنَفْقِدُ فَلَانًا. قَالَ: "انْظُرُوا هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ " قَالُوا: لَا. قَالَ: "لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا". قَالَ: "فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى". فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ ثُمَّ قَتَلُوهُ. [قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَا هُوَ ذَا إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ ثُمَّ قَتَلُوهُ] (3) . فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: قَتَلَ سَبْعَةً [وَقَتَلُوهُ] (4) ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَاعِدَيْهِ [وَحَفَرَ لَهُ، مَا لَهُ سَرِيرٌ إِلَّا سَاعِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (5) . ثُمَّ وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ غَسَلَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ ثَابِتٌ: فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا. وَحَدَّثَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ثَابِتًا: هَلْ تَعْلَمُ مَا دَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: "اللَّهُمَّ، صَبَّ عَلَيْهَا [الْخَيْرَ] (6) صَبًّا، وَلَا تَجْعَلْ عَيْشَهَا كَدًّا" كَذَا قَالَ، فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا.
هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِطُولِهِ (7) ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْفَضَائِلِ قِصَّةَ قَتْلِهِ (8) . وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي "الِاسْتِيعَابِ" أَنَّ الْجَارِيَةَ لَمَّا قَالَتْ فِي خِدْرِهَا: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ؟ تَلَتْ (9) هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (10) .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج [أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: إِنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَنَهَاهُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (11) : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ (12) لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ] (13) .
فَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِشَيْءٍ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ وَلَا اخْتِيَارَ لِأَحَدٍ هَاهُنَا، وَلَا رَأْيَ وَلَا قَوْلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاءِ:65] وَفِي الْحَدِيثِ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ". وَلِهَذَا شَدَّدَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ، فَقَالَ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] .
__________
(1) في هـ، ت، ف، أ: "ابنه" والتصويب من المسند.
(2) في هـ، ت، ف، أ: "ابنه" والتصويب من المسند.
(3) زيادة من ت، ف، والمسند.
(4) زيادة من ت، ف، والمسند.
(5) زيادة من ت، ف، والمسند.
(6) زيادة من ت، ف، والمسند.
(7) المسند (4/422) .
(8) صحيح مسلم برقم (2482) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8246) .
(9) في أ: "نزلت".
(10) الاستيعاب (1/259) .
(11) في أ: "عنهما".
(12) في ت: "تكون".
(13) زيادة من ت، ف، أ.(6/423)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا (37) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، إِنَّهُ قَالَ لِمَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَهُوَ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَيْ: بِالْإِسْلَامِ، وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ: {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه} أَيْ: بِالْعِتْقِ مِنَ الرِّقِّ، وَكَانَ سَيِّدًا كَبِيرَ الشَّأْنِ جَلِيلَ الْقَدْرِ، حَبِيبًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُقَالُ لَهُ: الحِبّ، وَيُقَالُ لِابْنِهِ أُسَامَةَ: الحِبّ ابْنُ الحِبّ. قَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَّا أَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ عَاشَ بَعْدَهُ لَاسْتَخْلَفَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ وَائِلِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ عَنْهَا (1) .
وَقَالَ (2) الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانة (ح) ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَر، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ (3) ، عَنْ أَبِيهِ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَتَانِي الْعَبَّاسُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَالَا يَا أُسَامَةَ، اسْتَأْذِنْ لَنَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فأتيتُ رسولَ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقُلْتُ: عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ يَسْتَأْذِنَانِ؟ فَقَالَ: "أَتَدْرِي مَا حَاجَتُهُمَا؟ " قُلْتُ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: "لَكِنِّي أَدْرِي"، قَالَ: فَأَذِنَ لَهُمَا. قَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْنَاكَ لِتُخْبِرَنَا: أيُّ أَهْلِكَ أحبُّ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: "أَحَبُّ أَهْلِي إليَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ" قَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَسْأَلُكَ عَنْ فَاطِمَةَ. قَالَ: "فَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْهِ" (4) .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زَوّجه بِابْنَةِ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةِ -وَأُمُّهَا أُمَيْمَةُ (5) بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -وَأَصْدَقَهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، وَسِتِّينَ دِرْهَمًا، وخِمارا، ومِلْحَفة، ودرْعًا، وَخَمْسِينَ مُدّا مِنْ طَعَامٍ، وَعَشْرَةَ أَمْدَادٍ مِنْ تَمْرٍ. قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ أَوْ فَوْقَهَا، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَهُمَا، فَجَاءَ زَيْدٌ يَشْكُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ لَهُ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَاتَّقِ اللَّهَ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} .
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا آثَارًا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَحْبَبْنَا أن نضرب
__________
(1) المسند (6/227) .
(2) في ت: "وروى".
(3) في ت، ف، أ، هـ: "عمر بن أبي سلمة"، والصواب ما أثبتناه.
(4) ورواه الترمذي في السنن برقم (3819) من طريق أبي عوانة بنحوه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
(5) في ت: "أمية".(6/424)
عَنْهَا صفَحا لِعَدَمِ صِحَّتِهَا فَلَا نُورِدُهَا.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَاهُنَا أَيْضًا حَدِيثًا، مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ فِيهِ غَرَابَةٌ تَرَكْنَا سِيَاقَهُ أَيْضًا (1) .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا بَعْضَهُ مُخْتَصَرًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى (2) بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3) .
وَقَالَ (4) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعان قَالَ: سَأَلَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مَا يَقُولُ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ] } (5) ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّهَا سَتَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا أَتَاهُ زَيْدٌ لِيَشْكُوَهَا إِلَيْهِ قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ. فَقَالَ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنِّي مُزَوّجكها، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ.
وَهَكَذَا رُوي عَنِ السُّدِّي أَنَّهُ قَالَ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ (6) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، حَدَّثَنِي خَالِدٌ، عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ كَتَمَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، لِكَتَمَ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} (7) .
وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} : الْوَطَرُ: هُوَ الْحَاجَةُ وَالْأَرَبُ، أَيْ: لَمَّا فَرَغ مِنْهَا، وَفَارَقَهَا، زَوّجناكها، وَكَانَ الَّذِي وَلي تَزْوِيجَهَا مِنْهُ هُوَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا مَهْرٍ وَلَا عَقْدٍ وَلَا شُهُودٍ مِنَ الْبَشَرِ.
قَالَ (8) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ -يَعْنِي: ابْنُ الْقَاسِمِ أَبُو النَّضْرِ -حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ: "اذْهَبْ فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ". فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَاهَا وَهِيَ تُخَمِّر عَجينها، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْرِي -حَتَّى مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهَا -أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهَا، فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي وَنَكَصْتُ (9) عَلَى عَقِبِي، وَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ، أَبْشِرِي، أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُكِ. قَالَتْ: ما أنا بصانعة شيئا حتى
__________
(1) الحديث في المسند (3/149) والغرابة من قوله: "فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته زينب وكأنه دخله" فقد شك مؤمل في الرواية، وهو سيئ الحفظ.
(2) في أ: "يعلى".
(3) صحيح البخاري برقم (4787) .
(4) في ت: "وروى".
(5) زيادة من ف.
(6) في ت: "وروى".
(7) تفسير الطبري (22/11) وأصله في الصحيح بلفظ: "من حدثك بثلاث".
(8) في ت: "وروى".
(9) في ف، أ: "وركضت".(6/425)
أُؤَامِرَ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ. فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، وَجَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا حِينَ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعَمَنَا عَلَيْهَا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ، فَخَرَجَ النَّاسُ وَبَقِيَ رِجَالٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ الطَّعَامِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَاتَّبَعَتْهُ] (1) فَجَعَلَ يَتَتَبَّعُ حُجر نِسَائِهِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ، وَيَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ؟ فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ خَرَجُوا أَوْ أُخْبِرَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ، فَذَهَبْتُ أَدْخَلَ مَعَهُ، فَأَلْقَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَنَزَلَ الْحِجَابُ، وَوَعَظَ الْقَوْمَ بِمَا وُعِظُوا بِهِ: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الْآيَةَ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ (2) بْنِ الْمُغِيرَةِ، بِهِ. (3)
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ كَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات (4) .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي "سُورَةِ النُّورِ" عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ قَالَ: تَفَاخَرَتْ زَيْنَبُ وَعَائِشَةُ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (5) : أَنَا الَّتِي نَزَلَ تَزْوِيجِي مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَا الَّتِي نَزَلَ عُذْري مِنَ السَّمَاءِ، فَاعْتَرَفَتْ لَهَا زَيْنَبُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (6)
وَقَالَ (7) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ تَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَدِلُّ عَلَيْكَ بِثَلَاثٍ، مَا مِنْ نِسَائِكَ امْرَأَةٌ تَدِلُّ بِهِنَّ: إِنَّ جَدِّي وَجَدُّكَ وَاحِدٌ، وَإِنِّي أَنْكَحَنِيكَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنَّ السَّفِيرَ جِبْرِيلُ عليه السلام. (8)
وقوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} أَيْ: إِنَّمَا أَبَحْنَا لَكَ تَزْوِيجَهَا وَفَعَلْنَا ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَبْقَى حَرَجٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَزْوِيجِ مُطَلَّقَاتِ الْأَدْعِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ قَدْ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: "زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ"، فَلَمَّا قَطَعَ اللَّهُ هَذِهِ النِّسْبَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ، ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ بَيَانًا وَتَأْكِيدًا بِوُقُوعِ تَزْوِيجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ لَمَّا طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ في آية التحريم: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُم} [النِّسَاءِ:23] لِيَحْتَرِزَ مِنَ الِابْنِ الدَّعِي؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ كَثِيرًا فِيهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} أَيْ: وَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي وَقَعَ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وحَتَّمه، وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، كَانَتْ زَيْنَبُ فِي عِلْمِ اللَّهِ سَتَصِيرُ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(2) في أ: "سليم".
(3) المسند (3/195) وصحيح مسلم برقم (1428) وسنن النسائي (6/79) .
(4) صحيح البخاري برقم (7420) .
(5) في ت: "عنهما".
(6) عند الأية 11.
(7) في ت: "وروى".
(8) تفسير الطبري (22/11) .(6/426)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أَيْ: فِيمَا أَحَلَّ لَهُ وَأَمَرَهُ بِهِ مِنْ تَزْوِيجِ زَيْنَبَ الَّتِي طَلَّقَهَا دَعِيُّه زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ.
وَقَوْلُهُ: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أَيْ: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، لَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَهُمْ بِشَيْءٍ وَعَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ حَرج، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ تَوَهَّم مِن الْمُنَافِقِينَ نَقْصًا فِي تَزْوِيجِهِ امْرَأَةَ زَيْدٍ مَوْلَاهُ ودَعيه، الَّذِي كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ.
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} أَيْ: وَكَانَ أَمْرُهُ الَّذِي يقدِّره كَائِنًا لَا مَحَالَةَ، وَوَاقِعًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَلَا مَعْدَلَ، فَمَا شَاءَ [اللَّهُ] (1) كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) } .
يَمْدَحُ تَعَالَى (2) : {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ} أَيْ: إِلَى خَلْقِهِ وَيُؤَدُّونَهَا بِأَمَانَتِهَا {وَيَخْشَوْنَهُ} أَيْ: يَخَافُونَهُ وَلَا يَخَافُونَ أَحَدًا سِوَاهُ فَلَا تَمْنَعُهُمْ سَطْوَةُ أَحَدٍ عَنْ إِبْلَاغِ رِسَالَاتِ اللَّهِ، {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أَيْ: وَكَفَى بِاللَّهِ نَاصِرًا وَمُعِينًا. وَسَيِّدُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ -بَلْ وَفِي كُلِّ مَقَامٍ -مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهُ قَامَ بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَإِبْلَاغِهَا إِلَى أَهْلِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، إِلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ بَنِي آدَمَ، وَأَظْهَرَ اللَّهُ كَلِمَتَهُ وَدِينَهُ وَشَرْعَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ (3) إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَأَمَّا هُوَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ بُعث إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ عَرَبهم وَعَجَمِهِمْ، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الْأَعْرَافِ: 158] ، ثُمَّ وَرِثَ مَقَامَ الْبَلَاغِ عَنْهُ أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَكَانَ أَعْلَى مَنْ قَامَ بِهَا بَعْدَهُ أَصْحَابُهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بَلَّغُوا عَنْهُ كَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وحَضَره وَسَفَرِهِ، وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ثُمَّ وَرِثَهُ كُلُّ خَلَفٍ عَنْ سَلَفِهِمْ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فَبِنُورِهِمْ يَقْتَدِي الْمُهْتَدُونَ، وَعَلَى مَنْهَجِهِمْ يَسْلُكُ الْمُوَفَّقُونَ. فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ الْمَنَّانَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ خَلَفِهِمْ.
قَالَ (4) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْر، أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ أَبِي البَخْتَري، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرَ اللَّهِ فِيهِ مَقَالٌ ثُمَّ لَا (5) يَقُولُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ، خَشِيتُ النَّاسَ. فَيَقُولُ: فَأَنَا أَحَقُّ أن يخشى (6) ".
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت، ف: "يمدح الله تعالى" وفي أ: "يمدح الله عز وجل".
(3) في ت، ف، أ: "وكان النبي قبله إنما يبعث".
(4) في ت: "روي".
(5) في ت: "أن لا".
(6) في أ: "يخشاه".(6/427)
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ (1) .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنِ أَبِي كُرَيْب، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ (2) .
وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، نَهَى (3) [تَعَالَى] (4) أَنَّ يُقَالَ بَعْدَ هَذَا: "زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ" أَيْ: لَمْ يَكُنْ أَبَاهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ، فَإِنَّهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، لَمْ يَعِشْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ حَتَّى بَلَغَ الْحُلُمَ؛ فَإِنَّهُ وُلِدَ لَهُ الْقَاسِمُ، وَالطَّيِّبُ، وَالطَّاهِرُ، مِنْ خَدِيجَةَ فَمَاتُوا صِغَارًا، وَوُلِدَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ، فَمَاتَ أَيْضًا رَضِيعًا (5) ، وَكَانَ لَهُ مِنْ خَدِيجَةَ أَرْبَعُ بَنَاتٍ: زَيْنَبُ، وَرُقَيَّةُ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَفَاطِمَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (6) أَجْمَعِينَ، فَمَاتَ فِي حَيَاتِهِ ثَلَاثٌ وَتَأَخَّرَتْ فَاطِمَةُ حَتَّى أُصِيبَتْ بِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَتْ بَعْدَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} كَقَوْلِهِ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الْأَنْعَامِ:124] فَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي (7) أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَإِذَا كَانَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ فَلَا رَسُولَ [بَعْدَهُ] (8) بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ لِأَنَّ مَقَامَ الرِّسَالَةِ أَخَصُّ مِنْ مَقَامِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ كُلَّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَا يَنْعَكِسُ. وَبِذَلِكَ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا زُهَيْر بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (9) ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلِي فِي النَّبِيِّينَ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا، وَتَرَكَ فِيهَا مَوْضِعَ لَبنة لَمْ يَضَعها، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِالْبُنْيَانِ وَيَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ: لَوْ تمَّ مَوْضِعُ هَذِهِ اللَّبِنَةِ؟ فَأَنَا فِي النَّبِيِّينَ مَوْضِعُ تِلْكَ اللَّبِنَةِ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ بُنْدَار، عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، بِهِ (10) ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (11) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا الْمُخْتَارُ بْنُ فُلفُل، حَدَّثَنَا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ، فَلَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَا نَبِيَّ." قَالَ: فشَقّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ قَالَ: قَالَ (12) : وَلَكِنَّ الْمُبَشِّرَاتِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: "رُؤْيَا الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ".
وَهَكَذَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيِّ، عَنْ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ، بِهِ (13) وَقَالَ: صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حديث المختار بن فُلفُل.
__________
(1) المسند (3/ 30، 73) .
(2) سنن ابن ماجه برقم (4008) وقال البوصيري في الزوائد (3/242) : "هذا إسناد صحيح".
(3) في أ: "ينهى".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "أيضا صغيرا رضيعا".
(6) في أ: "عنهن".
(7) في أ: "على".
(8) زيادة من أ.
(9) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي بن كعب".
(10) المسند (5/136) وسنن الترمذي برقم (3613) ".
(11) في ت: "وروي".
(12) في ت، ف، أ: "فقال".
(13) المسند (3/267) وسنن الترمذي برقم (2272) .(6/428)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا سَليم بْنُ حَيَّان، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبنة، فَكَانَ مَنْ دَخَلَهَا فَنَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ: مَا أَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ هَذِهِ اللَّبِنَةِ! فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، خُتِمَ بِي الْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ سُلَيْمِ (1) بْنِ حَيَّانَ، بِهِ. (2) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلِي وَمَثَلُ النَّبِيِّينَ [مِنْ قَبْلِي] (3) كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَتَمَّهَا إِلَّا لَبنَة وَاحِدَةً، فَجِئْتُ أَنَا فَأَتْمَمْتُ تِلْكَ اللَّبِنَةِ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، بِهِ (4) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ [الْإِمَامُ] (5) أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُبَيد الرَّاسِبِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الطُّفَيْلِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا نُبُوَّةَ بَعْدِي إِلَّا الْمُبَشِّرَاتِ". قَالَ: قِيلَ: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ -أَوْ قَالَ -الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ." (6)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ هَمَّام بْنِ مُنَبِّه قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ (7) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى بُيُوتًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا وَأَجْمَلَهَا، إِلَّا مَوْضِعَ لَبنة مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيُعْجِبُهُمُ الْبُنْيَانُ وَيَقُولُونَ: أَلَا وَضَعْتَ هَاهُنَا لَبِنَةً فَيَتِمُّ بُنْيَانُكَ؟! " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَكُنْتُ أَنَا اللَّبِنَةُ".
أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. (8)
حَدِيثٌ آخَرُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا: قَالَ (9) الْإِمَامُ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ (10) وَقُتَيْبَةُ وَعَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "فُضلت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وأحِلَّت لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وختم بي النبيون".
__________
(1) في ف: "سليمان".
(2) مسند الطيالسي برقم (1785) وصحيح البخاري برقم (3534) وصحيح مسلم برقم (2287) وسنن الترمذي برقم (2862) .
(3) زيادة من ت، أ، والمسند.
(4) المسند (3/9) وصحيح مسلم برقم (2286) .
(5) زيادة من أ.
(6) المسند (5/454) وقال الهيثمي في المجمع (7/173) : "ورجاله ثقات".
(7) في ت: "وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة، رضي الله عنه".
(8) المسند (2/312) وصحيح مسلم برقم (2286) ولم أجده في البخاري ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف إلا لمسلم.
(9) في ت: "وروى".
(10) في أ: "يعقوب".(6/429)
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. (1)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَتَمَّهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَجِئْتُ أَنَا فَأَتْمَمْتُ تِلْكَ اللَّبِنَةَ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبِي كُرَيْب، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، بِهِ. (2)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (3) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُويد الْكَلْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيِّ، عَنِ العِرْباض بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لمنْجَدِل فِي طِينَتِهِ." (4)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (5) الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ لِي أَسْمَاءٌ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ تَعَالَى بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ (6) نَبِيٌّ." أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (7) .
وَقَالَ (8) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرة، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ، فَقَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ -ثَلَاثًا -وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَجَوَامِعَهُ وَخَوَاتِمَهُ، وَعَلِمْتُ كَمْ خَزَنَةُ النَّارِ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَتُجُوِّزَ بِي، وعُوفيتُ وعُوفيتْ (9) أُمَّتِي؛ فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا مَا دُمْتُ فِيكُمْ، فَإِذَا ذُهب بِي فَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، أَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ". تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. (10)
وَرَوَاهُ (11) [الْإِمَامُ] (12) أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنُ لَهِيعة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرِيجٍ (13) الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ -مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً (14) (15) .
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، فَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادِ إِرْسَالُ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، إِلَيْهِمْ، ثُمَّ مِنْ تَشْرِيفِهِ لَهُمْ خَتْمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ بِهِ، وَإِكْمَالُ الدِّينِ الْحَنِيفِ لَهُ. وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَرَسُولِهِ فِي السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنِ ادعى هذا المقام بعده
__________
(1) صحيح مسلم برقم (523) وسنن الترمذي برقم (1553) وسنن ابن ماجه برقم (567) .
(2) تقدم الحديث من قريب.
(3) في ت: "وروى".
(4) المسند (4/127) .
(5) في ت: "وقال".
(6) في أ: "بعدي".
(7) صحيح البخاري برقم (3532) وصحيح مسلم برقم (2354) .
(8) في ت: "وروى".
(9) في ت: "وعرفت".
(10) المسند (2/12) وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف.
(11) في ف: "وحدثني".
(12) زيادة من ف، أ.
(13) في أ: "سريح".
(14) في أ: "سواه".
(15) المسند (2/172) وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف.(6/430)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
فَهُوَ كَذَّابٌ أَفَّاكٌ، دَجَّالٌ ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَلَوْ تَخَرَّقَ (1) وَشَعْبَذَ، وَأَتَى بِأَنْوَاعِ السِّحْرِ وَالطَّلَاسِمِ والنَيرجيَّات (2) ، فَكُلُّهَا مُحَالٌ وَضَلَالٌ عِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ، كَمَا أَجْرَى اللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، عَلَى يَدِ الْأَسْوَدِ العَنْسي بِالْيَمَنِ، وَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ بِالْيَمَامَةِ، مِنَ الْأَحْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَقْوَالِ الْبَارِدَةِ، مَا عَلِمَ كُلُّ ذِي لُبٍّ وَفَهْمٍ وحِجى أَنَّهُمَا كَاذِبَانِ ضَالَّانِ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مُدَّعٍ لِذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخْتَمُوا بِالْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، [فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَذَّابِينَ] (3) يَخْلُقُ اللَّهُ مَعَهُ مِنَ الْأُمُورِ مَا يَشْهَدُ الْعُلَمَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِكَذِبِ مَنْ (4) جَاءَ بِهَا. وَهَذَا مِنْ تَمَامِ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ، فَإِنَّهُمْ بِضَرُورَةِ الْوَاقِعِ لَا يَأْمُرُونَ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ، أَوْ لِمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَكُونُ فِي غَايَةِ الْإِفْكِ وَالْفُجُورِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ * تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} الْآيَةَ [الشُّعَرَاءِ:221، 222] . وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَإِنَّهُمْ فِي غَايَةِ الْبِرِّ وَالصِّدْقِ (5) وَالرُّشْدِ وَالِاسْتِقَامَةِ [وَالْعَدْلِ] (6) فِيمَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ وَيَأْمُرُونَ بِهِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، مَعَ مَا يُؤَيِّدُونَ بِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ لِلْعَادَاتِ، وَالْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَاتِ، وَالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَاتِ، فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ دَائِمًا مستمرا ما دامت الأرض والسموات.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) }
__________
(1) في أ: "تمخرق".
(2) في أ: "النيرنجيات".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "ما".
(5) في أ: "الصدقة".
(6) زيادة من أ.(6/431)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) } .
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِمْ لِرَبِّهِمْ تَعَالَى، الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ وَأَصْنَافِ (1) الْمِنَنِ، لِمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، وَجَمِيلِ الْمَآبِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن سعيد (2) ، حدثني مولى بن عَيَّاشٍ (3) عَنْ أَبِي بَحرية (4) ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَّا أُنْبِئَكُمْ بِخَيْرِ أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ والوَرق، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ " قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "ذِكْرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ زِيَادٍ -مَوْلَى ابْنِ عَيَّاشٍ (5) -عَنْ أَبِي بَحرية -وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ التَّرَاغِمِيُّ -عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، بِهِ (6) . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عنه فأرسله.
__________
(1) في أ: "وصنوف".
(2) في أ: "سعد".
(3) في أ: "عباس".
(4) في أ: "عن أبي عرة".
(5) في أ: "عباس".
(6) المسند (5/195) وسنن الترمذي برقم (3377) وسنن ابن ماجه برقم (3790) .(6/431)
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} فِي مُسْنَدِ [الْإِمَامِ] (1) أَحْمَدَ، مِنْ حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاش: أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَحْوِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ (2) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالة، عَنْ أَبِي سَعْدٍ الحِمْصي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: دُعَاءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَدَعُهُ: "اللَّهُمَّ، اجْعَلْنِي أُعْظِمُ شُكْرَكَ، وَأَتْبَعُ نَصِيحَتَكَ، وَأُكْثِرُ ذِكْرَكَ، وَأَحْفَظُ وَصِيَّتَكَ". (3)
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِي فَضَالَةَ الْفَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْحِمْصِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَقَالَ: غَرِيبٌ. (4)
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَدَنِيِّ (5) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ. (6)
وَقَالَ (7) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْر يَقُولُ: جَاءَ أَعُرَابِيَّانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ". وَقَالَ الْآخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا (8) ، فَمُرْنِي بِأَمْرٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ: "لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ". (9)
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ [مِنْهُ] (10) الْفَصْلَ الثَّانِي، مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، بِهِ. (11) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ (12) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيج (13) ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَنَّ دَرّاجا أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ حَتَّى يَقُولُوا: مَجْنُونٌ." (14)
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكرم العَمِّي، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُفْيَانَ (15) الجَحْدَرِي، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي ثُبَيت (16) الرَّاسِبِيِّ، عَنِ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [حَتَّى] (17) يقول
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "وروى".
(3) المسند (2/477) .
(4) سنن الترمذي برقم (3604) .
(5) في أ: "المزني".
(6) المسند (2/311) .
(7) في ت: "وروى".
(8) في ت: "عليَّ".
(9) المسند (4/190) .
(10) زيادة من ف، أ.
(11) سنن الترمذي برقم (3375) وسنن ابن ماجه برقم (3793) .
(12) في ت: "وروى".
(13) في أ: "شريح".
(14) المسند (3/68) وفيه دراج، عن أبي الهيثم ضعيف.
(15) في أ: "سفر".
(16) في أ: "سبب".
(17) زيادة من ت، ف، أ، والمعجم.(6/432)
الْمُنَافِقُونَ: تُرَاءُونَ." (1)
وَقَالَ (2) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا شَدَّادٌ أَبُو طَلْحَةَ الرَّاسِبِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا الْوَازِعِ جَابِرَ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ قَوْمٍ جَلَسُوا مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، إِلَّا رَأَوْهُ حَسْرَةً يَوْمِ الْقِيَامَةِ." (3)
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ [عَلَى عِبَادِهِ] (4) فَرِيضَةً إِلَّا [جَعَلَ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، ثُمَّ] (5) عَذَرَ أَهْلَهَا فِي حَالِ عُذْرٍ، غَيْرَ الذِّكْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ، إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى تَرْكِهِ، فَقَالَ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النِّسَاءِ:103] ، بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، [فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ] (6) ، وَفِي السِّفْرِ وَالْحَضَرِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وَالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ صَلَّى عَلَيْكُمْ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ.
وَالْأَحَادِيثُ وَالْآيَاتُ وَالْآثَارُ فِي الْحَثِّ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْحَثُّ عَلَى الْإِكْثَارِ (7) مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي الْأَذْكَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِآنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَالنَّسَائِيِّ وَالْمَعْمَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا (8) ، وَمِنْ أَحْسَنِ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي ذَلِكَ كِتَابُ الْأَذْكَارِ لِلشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ، رَحِمَهُ الله تعالى (9)
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني (12/169) وقال الهيثمي في المجمع (10/76) : "فيه الحسين بن أبي جعفر الجعفري وهو ضعيف".
(2) في أ: "زاده".
(3) المسند (2/224) وقال الهيثمي في المجمع (10/80) : "رجاله رجال الصحيح".
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) زيادة من ت، ف، أ.
(6) زيادة من ت، ف، أ.
(7) في أ: "الإكثرار".
(8) في ت: "والمعمري والكلم الطيب لشيخ الإسلام وغيرهم".
(9) وقد طبع كتاب الأذكار بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في دار الهدى وعليه تخريج لابن علان اسمه: "الفتوحات الربانية" طبع في الهند.
هذا وقد جاء في نسخة "ت" بعد هذه الفقرة ما يلي:
"فذكر الله أصل موالاة الله، عز وجل، ورأسها. والغفلة أصل معاداته ورأسها، فإن العبد لا يزال يذكر ربه حتى يحبه فيواليه، ولا يزال يغفل عنه حتى يبغضه ويعاديه. قال الله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا واتبع هواه وكان أمره فرطا) وما استجلبت نعم الله تعالى واستدفعت نقمة بمثل ذكر الله، فالذكر جلاب النعم دفاع النقم. قال تعالى: (إن الله يدفع عن الذين آمنوا) وفي القراءة الأخرى: (يدافع عن الذين آمنوا) فدفعه ودفاعه عنهم بحسب قوة إيمانهم وكماله ومادة الإيمان وقوته بذكر الله، فمن كان أكمل إيمانا وأكثر ذكرا كان دفاع الله عنه، ودفعه أعظم. ومن نقص نقص ذكر بذكر ونسيان بنسيان، وقال تعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم) والذكر رأس الشكر، والشكر جلاب النعم، موجب للمزيد. قال بعض السلف: ما أقبح الغفلة عن ذكر من لا يغفل عن برك. ومجالس الذكر رياض الجنة كما روى ابن أبي الدنيا من حديث جابر، عن عبد الله قال: خرج عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "يأيها الناس ارتعوا في رياض الجنة" قلنا يا رسول الله: وما رياض الجنة؟ قال: "مجالس الذكر"، ثم قال: "اغدوا وروحوا فاذكروا فمن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه". فمجالس الذكر مجالس الملائكة كما فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة فَضْلا عن كتاب الناس يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا هلم إلى حاجتكم، فتحف بأجنحتها إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك قال: وهل رأوني؟ قال: يقولون: لا والله يا ربنا ما رأوك، فيقول: كيف لو أنهم رأوني؟ قال: فيقولون: لو أنهم رأوك كانوا أشد عبادة وأشد تحميدا وتمجيدا، وأكثر تسبيحا، فيقول: ما يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا ربنا ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد حرصا عليها، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة، فيقول: مم يتعوذون؟ قال: فيقولون: من النار، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا ربنا ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة، فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك من الملائكة: إن فيهم فلانا ليس منهم، إنما جاء لحاجة. قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"، فهذا من بركتهم على نفوسهم وعلى جليسهم، فلهم نصيب من قوله: (وجعلني مباركا أينما كنت) [مريم:31] وإن الله، عز وجل، ليباهى بالذاكرين الملائكة، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: أما إني لم أسألكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل
عنه حديثا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه. قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومَنْ علينا بك. قال: "آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ " قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك؟ قال: "أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة" فهذه المباهاة من الرب تبارك وتعالى، دليل على شرف الذكر عنده ومحبته له وأن له مزية على غيره من الأعمال.
والذكر نوعان: أحدهما: ذكر أسماء الرب وصفاته والثناء عليه، وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به وهذا أيضا نوعان: أحدهما: إنشاء الثناء بها من الذاكر، وهذا النوع هو المذكور في الحديث نحو: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ونحو ذلك، فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه نحو: سبحان الله عدد خلقه، فهذا أفضل من مجرد سبحان الله، وقول: الحمد لله عدد ما خلق في السماء، وعدد ما خلق في الأرض، وعدد ما خلق بينهما، وعدد ما هو خالق، أفضل من مجرد قولك: الحمد لله، وهذا في حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم، لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته". رواه مسلم. وفي الترمذي وسنن أبي داود عن سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة بين يديها نوى أو حصى تسبح به، فقال: "أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل؟ " فقال: سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك".
والنوع الثاني: الخبر عن الرب تبارك وتعالى بأحكام أسمائه وصفاته نحو قولك: إن الله، عز وجل، يسمع أصوات عباده، ويرى حركاتهم، ولا يخفى عليه خافية من أعمالهم، وهو أرحم من آبائهم وأمهاتهم، وهو على كل شيء قدير، وهو أفرح بتوبة عبده من الفاقد الواجد ونحو ذلك. وأفضل هذا النوع الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى عليه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل كما قال: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) ، وهذا النوع أيضا ثلاثة أنواع: حمد، وثناء، ومجد.
فالحمد: الإخبار عنه بصفات كماله مع محبته والرضا عنه، ولا يكون المحب الساكت حامدا، ولا المثنى بلا محبة حامدا، حتى يجمع له المحبة والثناء، فإن كرر المحامد شيئا بعد شيء، كانت ثناء، فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك كان مجدا. قد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة فى أول سورة فاتحة الكتاب، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال: أثنى عَلَيَّ عبدي. وإذا قال: (مالك يوم الدين) قال: مجدني عبدي.
والنوع الثاني من الذكر: ذكر أمره ونهيه وأحكامه، وهذا أيضا نوعان: أحدهما: ذكره بذلك إخبارا عنه بأنه أمر بكذا ونهى عن كذا وأحب كذا وسخط كذا، والثاني: ذكره عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه، فذكر أمره ونهيه شيء، وذكره عند أمره ونهيه شيء آخر، فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر، فذكره أفضل الذكر وأجله وأعظمه.
فائدة:
فهذا ذكره هو الفقه الأكبر، وما دونه من أفضل الذكر إذا صحت فيه النية، ومن ذكره تعالى ذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وأياديه ومواقع فضله على عبيده، وهذا من أجل أنواع الذكر، فهذه خمسة أنواع، وهي تكون بالقلب واللسان، وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان؛ لأن ذكر القلب يثمر المعرفة، ويصح المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويردع عن التقصير في الطاعة والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئا ما من تلك الأثمار، وإن أثمر شيئا ما، فثمرته ضعيفة.
والذكر أفضل من الدعاء؛ لأن الذكر ثناء على الله، عز وجل، بجميل صفاته وآلائه وأسمائه، والدعاء سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟ ولهذا جاء في الحديث: "مَنْ شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". ولهذا كان مستحبا في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته كما جاء في حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد عجل هذا"، ثم دعاه فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم، فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء ". رواه الإمام أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وهكذا دعا ذو النون الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" وفي الترمذي: دعوة أخي ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له". وهكذا عامة الأدعية النبوية، ومنه
قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب: "لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم". ومنه حديث بريدة الأسلمي، رواه أهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو وهو يقول: اللهم أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فقال: "والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى". وروى أبو داود والنسائي من حديث أنس أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يصلي ثم دعا: اللهم أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي: "لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى" وروى أبو داود والنسائي من حديث أنس، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه هذا الثناء والذكر، وأنه اسم الله الأعظم، فكان ذكر الله والثناء عليه أنجح ما سأل به حوائجه، فهذا من فوائد الذكر، وهو أنه يجعل الدعاء مستجابا فلهذا قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) فالدعاء الذي يتقدمه الذكر والثناء أقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته وافتقاره واعترافه، كان أبلغ في الإجابة وأفضل. فإنه يكون قد توسل إلى المدعو بصفات كماله وإحسانه وفضله، وعرض، بل صرح، بشدة حالته وضرورته وفقره ومسكنته، فهذا المقتضى منه وأوصاف المسؤول مقتضى منه، فاجتمع المقتضى من السائل والمقتضى من المسؤول في الدعاء، فكان أبلغ وألطف موقعا وأتم معرفة وعبودية، وأنت ترى في الشاهد ولله المثل الأعلى أن الرجل إذا توسل إلى من يريد معروفه بكرمه وجوده وبره، وذكر حاجته هو وفقره ومسكنته، كان أعطف لقلب المسؤول وأقرب إلى قضاء حاجته من أن يقول له ابتداء أعطني كذا وكذا، فإذا عرف هذا فتأمل قول موسى، عليه السلام: (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) وقول ذي النون في دعائه: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) وقول أبينا آدم: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وفي الصحيحين أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه؛ قال يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" فجمع في هذا الدعاء الشريف العظيم القدر بين الاعتراف بحاله، والتوسل إلى ربه بفضله وجوده، وأنه المتفرد بغفران الذنوب ثم سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معا فهكذا آداب الدعاء والعبودية.
وقراءة القرآن أفضل الأذكار وهي أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، وهذا من حيث النظر إلى كل واحد منهما مجردا، وقد تعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل تعينه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه أفضل من قراءة القرآن، وكذلك التشهد، وكذلك رب اغفر لي بين السجدتين، وقول رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني بين السجدتين أفضل من القراءة. وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة، ذكر التهليل والتسبيح والتكبير والتحميد أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة. وكذلك إجابة المؤذن، والقول كما يقول، أفضل من القراءة، وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله على خلقه، لكن لكل مقام مقال، متى فات مقاله فيه وعدل عنه إلى غيره، واختلت الحكمة، وفقدت المصلحة المطلوبة منه، وهكذا الأذكار المفيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن، مثاله أن يحدث له من التفكر في ذنوبه فيحصل له توبة واستغفار أو يحصل له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن، فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه، وكذلك أيضا قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءة القرآن، لم يحضر قلبه فيها. وإذا أقبل على الذكر والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله، وأحدث له تضرعا وخشوعا وابتهالا، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع له، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأكثر أجرا، وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نص وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فيعطي كل ذي حق حقه ويضع كل شيء موضعه، فللعين موضع، وللرجل موضع، وللماء موضع، وللحم موضع، وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي، والله الموفق.
وهكذا الصابون والأشنان أنفع للثوب في وقت، والتحمير وماء الورد أنفع له في وقت. وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، يوما: سئل بعض أهل العلم: أيما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيا فالبخور وماء الورد نافع له، وإن كاد دنسا فالصابون والماء الجاري أنفع له فقال: كيف والثياب لا تزال دنسة؟.
ومن هذا الباب أن سورة (قل هو الله أحد الله) تعدل ثلث القرآن، ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث والطلاق والخلع والعدد ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها، وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص. ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه، فكانت أفضل من كل القراءة والذكر والدعاء بمفرده بجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء فهذا أصل نافع جدا للعبد يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وينزلها منازلها لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها فيرنح عليه إبليس الفضل الذي بينهما أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل عن مفضولها، وإن كان ذلك وقته فتفوته مصلحته بالكلية لظنه أن اشتغاله به أكثر ثوابا وأعظم أجرا". اهـ.(6/433)
وَقَوْلُهُ: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} أَيْ: عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، كَقَوْلِهِ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الرُّومِ:17، 18]
وَقَوْلُهُ: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} : هَذَا تَهْيِيجٌ إِلَى الذِّكْرِ، أَيْ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُكُمْ فَاذْكُرُوهُ أَنْتُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [الْبَقَرَةِ: 151، 152] . وَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، ومَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ" (1)
وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ ثَنَاؤُهُ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ، حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ. وَرَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْهُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ: الرَّحْمَةُ [وَرَدَّ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ] (2)
وَقَدْ يُقَالُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَبِمَعْنَى الدُّعَاءِ لِلنَّاسِ وَالِاسْتِغْفَارِ (3) ، كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} الْآيَةَ. [غَافِرٍ: 7-9] .
وَقَوْلُهُ: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أَيْ: بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ بِكُمْ وَثَنَائِهِ عَلَيْكُمْ، وَدُعَاءِ مَلَائِكَتِهِ لَكُمْ، يُخْرِجُكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ إِلَى نُورِ الْهُدَى وَالْيَقِينِ. {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا: فَإِنَّهُ هَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي جَهِلَهُ غَيْرُهُمْ، وبَصّرهم الطَّرِيقَ الَّذِي ضَلَّ عَنْهُ وَحَادَ عَنْهُ مِنْ سِوَاهُمْ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى الْكَفْرِ أَوِ الْبِدْعَةِ وَأَشْيَاعِهِمْ (4) مِنَ الطَّغَامِ (5) . وَأَمَّا رَحْمَتُهُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ: فَآمَنَهُمْ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَأَمَرَ مَلَائِكَتَهُ يَتَلَقَّوْنَهُمْ بِالْبِشَارَةِ بِالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَصَبِيٍّ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا رَأَتْ أُمُّهُ الْقَوْمَ خَشِيَتْ عَلَى وَلَدِهَا أَنْ يُوطَأَ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى وَتَقُولُ: ابْنَيِ ابْنِي، وَسَعَت فَأَخَذَتْهُ، فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَتْ
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (7405) ومسلم في صحيحه برقم (2675) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(2) زيادة من ت.
(3) في ت: "والاستغفار إليهم".
(4) في ت، أ: "وأتباعهم".
(5) في أ: "الطغاة".(6/436)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
هَذِهِ لِتُلْقِيَ ابْنَهَا فِي النَّارِ. قَالَ: فَخَفَّضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "وَلَا اللَّهُ (1) ، لَا يُلْقِي حَبِيبَهُ فِي النَّارِ".
إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ (2) ، وَلَكِنْ فِي صَحِيحِ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً مِنَ السَّبْيِ قَدْ أَخَذَتْ صَبِيًّا لَهَا، فَأَلْصَقَتْهُ إِلَى صَدْرِهَا، وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ: "أَتَرَوْنَ هَذِهِ تُلْقِي وَلَدَهَا فِي النَّارِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟ " قَالُوا: لَا. قَالَ: "فَوَاللَّهِ، لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا" (3) .
وَقَوْلُهُ: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ - {تَحِيَّتُهُمْ} أَيْ: مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ {سَلامٌ} أَيْ: يَوْمَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] .
وَزَعَمَ قَتَادَةُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يُحَيِّي (4) بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ، يَوْمَ يَلْقَوْنَ اللَّهَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ (5) تَعَالَى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يُونُسَ: 10] ، وَقَوْلُهُ: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (6) يَعْنِي: الْجَنَّةَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمُشَارِبِ، وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَالْمَنَاكَحِ وَالْمَلَاذِّ وَالْمَنَاظِرِ وَمَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا (47) وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (48) } .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا فُلَيْح بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ (7) عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ. قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَسْتَ بِفَظٍّ (8) وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ (9) ، وَلَنْ يقبضَه اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا".
__________
(1) في أ: "لا والله".
(2) المسند (3/104) .
(3) صحيح البخاري برقم (5999) .
(4) في ت: "يحيون".
(5) في ت، ف، أ: "وقد يستدل له بقوله".
(6) في ت: "عظيما" وهو خطأ.
(7) في ت: "روى الإمام أحمد بإسناده".
(8) في ت: "لا بفظ" وفي أ: "لا فظ".
(9) في ف: "يعفو ويصفح ويغفر".(6/437)
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "الْبُيُوعِ" عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ فُلَيْح بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ بِهِ. وَرَوَاهُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -قِيلَ: ابْنِ رَجَاءٍ، وَقِيلَ: ابْنِ صَالِحٍ -عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ هِلَالٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، بِهِ (1) . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجَشُونِ، بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبُيُوعِ: وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ هِلَالٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ -يُقَالُ لَهُ: شَعْيَاءُ -أَنْ قُمْ فِي قَوْمِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنِّي مَنْطِقٌ لِسَانَكَ بِوَحْيٍ وَأَبْعَثُ أُمِّيًّا مِنَ الْأُمِّيِّينَ، أَبْعَثُهُ [مُبَشِّرًا] (2) لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، لَوْ يَمُرُّ إِلَى جَنْبِ سِرَاجٍ لَمْ يُطْفِئْهُ، مِنْ سَكِينَتِهِ، وَلَوْ يَمْشِي عَلَى الْقَصَبِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، أَبْعَثُهُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، لَا يَقُولُ الْخَنَا، أَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا كُمْهًا (3) ، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، أسَدّده لِكُلِّ أَمْرٍ جَمِيلٍ، وَأَهَبُ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَأَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، وَالْبِرَّ شِعَارَهُ، وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَنْطِقَهُ، وَالصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَفْوَ وَالْمَعْرُوفَ خُلُقَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ، وَالْهُدَى إِمَامَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَأَحْمَدَ اسْمَهُ، أَهْدِي بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ، وَأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الخَمَالة، وَأُعْرَفُ بِهِ بَعْدَ النُّكْرَة، وَأُكْثِّرُ بِهِ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ العَيْلَة، وَأَجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَأُؤَلِّفُ بِهِ بَيْنَ أُمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَقُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَهْوَاءٍ مُتَشَتَّتَةٍ، وَأَسْتَنْقِذُ بِهِ فِئامًا مِنَ النَّاسِ عَظِيمَةً (4) مِنَ الْهَلَكَةِ، وَأَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، مُوَحِّدِينَ مُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ، مُصَدِّقِينَ لِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلِي (5) ، أُلْهِمُهُمُ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، وَالثَّنَاءَ وَالتَّكْبِيرَ وَالتَّوْحِيدَ، فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ، وَمَضَاجِعِهِمْ وَمُنْقَلَبِهِمْ وَمَثْوَاهُمْ، يُصَلُّونَ لِي قِيَامًا وَقُعُودًا، وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (6) صُفُوفًا وزُحوفا، وَيُخْرِجُونَ مِنْ دِيَارِهِمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي أُلُوفًا، يُطَهِّرُونَ الْوُجُوهَ وَالْأَطْرَافَ، وَيَشُدُّونَ الثِّيَابَ فِي الْأَنْصَافِ، قُرْبَانُهُمْ دِمَاؤُهُمْ، وَأَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ ليُوث بِالنَّهَارِ، وَأَجْعَلُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ السَّابِقِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ، أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، أُعِزُّ مَنْ نَصَرَهُمْ، وَأُؤَيِّدُ مَنْ دَعَا لَهُمْ، وَأَجْعَلُ دَائِرَةَ السَّوْءِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ أَوْ بَغَى عَلَيْهِمْ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَ شَيْئًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ. أَجْعَلُهُمْ وَرَثَةً لِنَبِيِّهِمْ، وَالدَّاعِيَةَ إِلَى رَبِّهِمْ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ، أَخْتِمُ بِهِمُ الْخَيْرَ الَّذِي بَدَأْتُهُ بِأَوَّلِهِمْ، ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ، وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد
__________
(1) المسند (2/174) وصحيح البخاري برقم (2125) ورقم (4838) .
(2) زيادة من ت، ف.
(3) في ت: "أعينا عميا كمها".
(4) في ت: "عظيم".
(5) في ت: "الرسل".
(6) في أ: "في سبيلي".(6/438)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ العَرْزَمي (1) ، عَنْ شَيْبَان النَّحْوِيِّ، أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2) قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} -وَقَدْ كَانَ أَمَرَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا أَنْ يَسِيرَا إِلَى الْيَمَنِ -فَقَالَ: "انْطَلِقَا فَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، إِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلِيَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ حُمَيْدٍ الْبَزَّازِ الْبَغْدَادِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَالِحٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ [بْنُ مُحَمَّدِ] (3) بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيِّ، بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ (4) . وَقَالَ فِي آخِرِهِ: "فَإِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ (5) عَلِيَّ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا عَلَى أُمَّتِكَ وَمُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ، وَنَذِيرًا مِنَ النَّارِ، وَدَاعِيًا إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِإِذْنِهِ، وَسِرَاجًا مُنِيرًا بِالْقُرْآنِ".
وَقَوْلُهُ: {شَاهِدًا} أَيْ: لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَعَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} ، [كَقَوْلِهِ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ] (6) [الْبَقَرَةِ: 143] .
وَقَوْلُهُ: {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} أَيْ: بَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَنَذِيرًا لِلْكَافِرِينَ مِنْ وَبِيلِ الْعِقَابِ.
وَقَوْلُهُ: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} أَيْ: دَاعِيًا لِلْخَلْقِ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ عَنْ أَمْرِهِ لَكَ بِذَلِكَ، {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} أَيْ: وأمرُك ظَاهِرٌ فِيمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، كَالشَّمْسِ فِي إِشْرَاقِهَا وَإِضَاءَتِهَا، لَا يَجْحَدُهَا إِلَّا مُعَانِدٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} ، أَيْ: لَا تُطِعْهُمْ وَ [لَا] (7) تَسْمَعْ مِنْهُمْ فِي الَّذِي يَقُولُونَهُ (8) {وَدَعْ أَذَاهُمْ} أَيِ: اصْفَحْ وَتَجَاوَزْ عَنْهُمْ، وكِلْ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ فِيهِ كِفَايَةً لَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا (49) } .
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا أَحْكَامٌ (9) كَثِيرَةٌ. مِنْهَا: إِطْلَاقُ النِّكَاحِ عَلَى الْعَقْدِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَصْرَحُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي النِّكَاحِ: هَلْ هُوَ حَقِيقَةً فِي الْعَقْدِ وَحْدَهُ، أَوْ فِي الْوَطْءِ، أَوْ فِيهِمَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالِ، وَاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ بَعْدَهُ، إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِي الْعَقْدِ وَحْدَهُ؛ لِقَوْلِهِ: {إِذَا نَكَحْتُمُ (10) الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} . وَفِيهَا دَلَالَةٌ لِإِبَاحَةِ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بها.
__________
(1) في أ: "عبد الله القرشي".
(2) في ت: "ثم روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى ابن عباس".
(3) زيادة من ت، ف، والمعجم.
(4) المعجم الكبير (11/312) وقال الهيثمي في المجمع (7/92) : "وفيه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ العرزمي وهو ضعيف".
(5) في ت، أ: "أنزلت".
(6) زيادة من ت، ف، أ.
(7) زيادة من ت.
(8) في أ: "في الذين يتولونهم".
(9) في ت "اشتملت على أحكام".
(10) في ت: "نكحتموا".(6/439)
وَقَوْلُهُ: {الْمُؤْمِنَاتِ} خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ فِي ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ المسَيَّب، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، زَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا إِذَا تَقَدَّمَهُ نِكَاحٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِذَا نَكَحْتُمُ (1) الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ، فَعَقَّبَ النِّكَاحَ بِالطَّلَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَلَا يَقَعُ قَبْلَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَطَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ، إِلَى صِحَّةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ؛ فِيمَا إِذَا قَالَ: "إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ". فَعِنْدَهُمَا مَتَى تَزَوَّجَهَا طُلِّقَتْ مِنْهُ. وَاخْتَلَفَا فِيمَا إِذَا قَالَ: "كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ". فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُطَلَّقُ حَتَّى يُعَيِّنَ الْمَرْأَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ تُطَلَّقُ مِنْهُ، فَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْل، حَدَّثَنَا يُونُسُ -يَعْنِي: ابْنَ أَبِي إِسْحَاقَ -سَمِعْتُ آدَمَ مَوْلَى خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: [إِذَا قَالَ] (2) : كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، قَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الْآيَةَ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الأحْمَسِي، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ مَطَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَنّاق (3) ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ، أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ؟!
وَهَكَذَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ اللَّهُ: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فَلَا طَلَاقَ [قَبْلَ النِّكَاحِ] (4) .
وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا طَلَاقَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ". رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ (5) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ". وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ، والمِسْوَر بْنِ مَخْرَمَة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ" (6) .
[وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسِيسَ مُطْلَقٌ، وَيُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ] (7) .
__________
(1) في ت: "نكحتموا".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت: "وروى أيضا بإسناده".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) المسند (2/189) وسنن الترمذي برقم (1181) وسنن أبي داود برقم (2191) وسنن ابن ماجه برقم (2047) .
(6) سنن ابن ماجه برقم (2048) من طريق علي بن الحسين، عن هشام بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ المسور، به. وقال البوصيري في الزوائد (2/132) : "هذا إسناد حسن، علي بن الحسين وهشام بن سعد مختلف فيهما". وبرقم (2049) من طريق جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، عن علي، به. وقال البوصيري في الزوائد (2/132) : "هذا إسناد ضعيف لاتفاقهم على ضعف جويبر بن سعيد البجلي، لكن لم ينفرد به جويبر، فقد رواه البيهقي في الكبرى (7/320) من طريق معاذ العنبري، عن حميد الطويل، عن الحسن عن علي به، ثم رواه من طريق سعيد عن جويبر به موقوفا من الطريقين معا".
(7) زيادة من ت.(6/440)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
وَقَوْلُهُ (1) : {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} : هَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فَتَذْهَبُ فَتَتَزَوَّجُ فِي فَوْرِهَا مَنْ (2) شَاءَتْ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا إِلَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} : الْمُتْعَةُ هَاهُنَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ نِصْفَ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى، أَوِ الْمُتْعَةُ الْخَاصَّةُ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمَّى لَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [الْبَقَرَةِ: 237] ، وَقَالَ {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [الْبَقَرَةِ: 236] .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَأَبِي أُسَيْدٍ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحيل، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ (3) عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَبَا أَسِيدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ رازقيَّين (4) .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنْ كَانَ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا، فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا النِّصْفُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا فَأَمْتِعَهَا عَلَى قَدْرِ عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ، وَهُوَ السَّرَاحُ الْجَمِيلُ.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ قَدْ أَحَلَّ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ أَزْوَاجَهُ اللَّاتِي أَعْطَاهُنَّ مُهُورَهُنَّ، وَهِيَ الْأُجُورُ هَاهُنَا. كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدْ كَانَ مَهْرُه لِنِسَائِهِ اثْنَتَيْ (5) عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ونَشّا وَهُوَ نِصْفُ (6) أُوقِيَّةٍ، فَالْجَمِيعُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، إِلَّا أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ فَإِنَّهُ أَمْهَرَهَا عَنْهُ النَّجَاشِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَإِلَّا صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيّ فَإِنَّهُ اصْطَفَاهَا مِنْ سَبْي خَيْبَرَ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. وَكَذَلِكَ جُوَيرية بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ، أَدَّى عَنْهَا كِتَابَتَهَا إِلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَتَزَوَّجَهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْ جميعهن (7) .
__________
(1) في هـ: "قال".
(2) في ت: "في فورها متى" وفي أ: "في قرئها من".
(3) في ت: "فلما دخلت" وفي ف، أ: "فلما أن دخلت".
(4) صحيح البخاري برقم (5256، 5257) .
(5) في ت: "ثنتي".
(6) في ت: "والنش النصف".
(7) في ت: "رضي الله عنهن أجمعين".(6/441)
وَقَوْلُهُ: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} أَيْ: وَأَبَاحَ لَكَ التَّسَرِّي مِمَّا أَخَذْتَ مِنَ الْمَغَانِمِ (1) ، وَقَدْ مَلَكَ صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ فَأَعْتَقَهُمَا وَتَزَوَّجَهُمَا. وَمَلَكَ رَيْحَانَةَ بِنْتَ شَمْعُونٍ النَّضْرِيَّةَ، وَمَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ أُمَّ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتَا مِنَ السَّرَارِي، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَوْلُهُ: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} : هَذَا عَدْلٌ وَسط بَيْنِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ؛ فَإِنَّ النَّصَارَى لَا يَتَزَوَّجُونَ الْمَرْأَةَ إِلَّا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سَبْعَةُ أَجْدَادٍ فَصَاعِدًا، وَالْيَهُودُ يَتَزَوَّجُ أَحَدُهُمْ بِنْتَ أَخِيهِ وَبِنْتَ أُخْتِهِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الطَّاهِرَةُ بِهَدْمِ إِفْرَاطِ النَّصَارَى، فَأَبَاحَ بِنْتَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ، وَبِنْتَ الْخَالِ وَالْخَالَةِ، وَتَحْرِيمِ (2) مَا فَرّطت (3) فِيهِ الْيَهُودُ مِنْ إِبَاحَةِ بِنْتِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، وَهَذَا بَشِعٌ (4) فَظِيعٌ.
وَإِنَّمَا قَالَ: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} فَوَحَّدَ لَفْظَ الذَّكَرِ لِشَرَفِهِ، وَجَمَعَ الْإِنَاثَ لِنَقْصِهِنَّ كَقَوْلِهِ: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النَّحْلِ:48] ، {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الْبَقَرَةِ: 257] ، {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الْأَنْعَامِ: 1] ، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ: {اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارِ بْنِ (5) الْحَارِثِ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدِ اللَّهِ (6) بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ (7) ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَذَرْتُ إِلَيْهِ بِعُذْرِي، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قَالَتْ: فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ، وَلَمْ أَكُنْ مِمَّنْ هَاجَرَ مَعَهُ، كُنْتُ مِنَ الطُّلَقَاءِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، بِهِ (8) .
ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْهَا بِنَحْوِهِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ (9) . وَهَكَذَا قَالَ أَبُو رَزين وَقَتَادَةُ: إِنَّ الْمُرَادَ: مَنْ هَاجَرَ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ: {اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} أَيْ: أَسْلَمْنَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "وَاللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك".
وَقَوْلُهُ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} أَيْ: وَيَحِلُّ لَكَ -يَأَيُّهَا النَّبِيُّ -الْمَرْأَةُ الْمُؤْمِنَةُ إِذَا وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ أَنْ تَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ إِنْ شِئْتَ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَوَالَى فِيهَا شَرْطَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هُودٍ: 34] ، وَكَقَوْلِ مُوسَى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يُونُسَ: 84] .
__________
(1) في أ: "الغنائم".
(2) في أ: "وحرم".
(3) في ت: "ما حرموا".
(4) في ف، أ: "شنيع".
(5) في أ: "و".
(6) في أ: "عبد الله".
(7) في ت: "روى ابن أبي حاتم بإسناده".
(8) تفسير الطبري (22/15) .
(9) سنن الترمذي برقم (3214) وقال: "هذا حديث حسن صحيح لا أعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي".(6/442)
وَقَالَ هَاهُنَا: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (1) :
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ وَهَبت نَفْسِي لَكَ. فَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوّجنيها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصدقها إِيَّاهُ"؟ فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِزَارَكَ جلستَ لَا إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا". فَقَالَ: لَا أَجِدُ شَيْئًا. فَقَالَ: "الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ" فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟ " قَالَ: نَعَمْ؛ سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا -لِسُوَرٍ يُسَمِّيهَا -فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ".
أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ (3) ، حَدَّثَنَا مَرْحُومٌ، سَمِعْتُ ثَابِتًا يَقُولُ (4) : كُنْتُ مَعَ أَنَسٍ جَالِسًا وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ، فَقَالَ أَنَسٌ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَلْ لَكَ فِيَّ حَاجَةٌ؟ فَقَالَتِ ابْنَتُهُ: مَا كَانَ أَقَلَّ حَيَاءَهَا. فَقَالَ: "هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ، رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا".
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مَرْحُومِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ [الْعَطَّارِ] (5) ، عَنْ ثَابِتٍ البُنَاني، عَنْ أَنَسٍ، بِهِ (6) .
وَقَالَ (7) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا سِنان بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنَةٌ لِي كَذَا وَكَذَا. فَذَكَرَتْ مِنْ حُسْنِهَا وَجَمَالِهَا، فَآثَرْتُكَ بِهَا. فَقَالَ: "قَدْ قَبِلْتُهَا".فَلَمْ تَزَلْ تَمْدَحُهَا حَتَّى ذَكَرَتْ أَنَّهَا لَمْ تُصَدِّعْ وَلَمْ تَشْتَك شَيْئًا قَطُّ، فَقَالَ: "لَا حَاجَةَ لِي فِي ابْنَتِكِ". لَمْ يُخَرِّجُوهُ (8) .
وَقَالَ (9) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحم، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ -يَعْنِي: مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ -عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ (10) .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنِ أَبِي الزِّنَاد، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمِ بْنِ الْأَوْقَصِ، مِنْ بَنِي سُلَيم، كَانَتْ مِنَ اللَّاتِي وَهَبْن أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (11) .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ خَوْلَةَ بنت حكيم
__________
(1) في ت: "وقد روى البخاري ومسلم".
(2) المسند (5/336) وصحيح البخاري برقم (5135) وصحيح مسلم برقم (1425) ولكنه عند مسلم من طريق يعقوب وعبد العزيز بن أبي حازم وسفيان بن عيينة والدراوردي وزائدة كلهم عن أبي حازم بنحوه.
(3) في أ: "عثمان".
(4) في ت: "وروى البخاري أن ثابتا قال".
(5) زيادة من أ.
(6) المسند (3/268) وصحيح البخاري برقم (5120) .
(7) في ت: "وروى".
(8) المسند (3/155) .
(9) في ت: "وروى".
(10) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/55) من طريق منصور بن أبي مزاحم، به.
(11) رواه الطبري في تفسيره (22/23) .(6/443)
كَانَتْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً (1) .
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، أَوْ هِيَ امْرَأَةٌ أُخْرَى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الأحْمَسِي، حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَعُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالُوا: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ عَشْرَةَ امْرَأَةً، سِتٌّ مِنْ قُرَيْشٍ، خَدِيجَةُ، وَعَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ، وَسَوْدَةُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ. وَثَلَاثٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَة، وَامْرَأَتَانِ مِنْ بَنِي هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ: مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَهِيَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَيْنَبُ أَمُّ الْمَسَاكِينِ -امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَبِي بَكْرِ بْنِ كِلَابٍ مِنَ الْقَرْطَاءِ -وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَتِ الدُّنْيَا، وَامْرَأَةٌ مِنْ بَنِي الْجَوْنِ، وَهِيَ الَّتِي اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ، وَالسَّبِيَّتَانِ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْمُصْطَلِقِ الْخُزَاعِيَّةُ (2) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} قَالَ: هِيَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ.
فِيهِ انْقِطَاعٌ: هَذَا مُرْسَلٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ زَيْنَبَ الَّتِي كَانَتْ تُدْعَى أُمَّ الْمَسَاكِينِ هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيمة الْأَنْصَارِيَّةُ، وَقَدْ مَاتَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ، كَمَا قَالَ (3) الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ حَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغَارُ مِنَ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُولُ: أَتَهَبُ امْرَأَةٌ (4) نَفْسَهَا؟ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} قُلْتُ: مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارع فِي هَوَاكَ (5) .
وَقَدْ قَالَ (6) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسين، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْر، عَنْ عَنْبَسَة بْنِ الْأَزْهَرِ، عَنْ سِماك، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْر (7) . أَيْ: إِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ وَاحِدَةً مِمَّنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ وَمَخْصُوصًا بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَرْدُودٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} أَيْ: إِنِ اخْتَارَ ذَلِكَ.
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (22/23) .
(2) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/270) من طريق وكيع بلفظ: "تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ من بني الجون فطلقها وهي التي استعاذت منه".
(3) في ت: "كما روى".
(4) في ت، أ: "المرأة".
(5) صحيح البخاري برقم (4788) .
(6) في ت: "وروى".
(7) تفسير الطبري (22/17) .(6/444)
وَقَوْلُهُ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ عِكْرِمَةُ: أَيْ: لَا تَحِلُّ الْمَوْهُوبَةُ لِغَيْرِكَ، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
أَيْ: إِنَّهَا إِذَا فَوَّضَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا إِلَى رَجُلٍ، فَإِنَّهُ مَتَى دَخَلَ بِهَا وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ بِهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، كَمَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرْوَع (1) بِنْتِ وَاشَقٍ لَمَّا فَوَّضَتْ، فَحَكَمَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَاقِ مِثْلِهَا لَمَّا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالْمَوْتُ وَالدُّخُولُ سَوَاءٌ فِي تَقْرِيرِ (2) الْمَهْرِ وَثُبُوتِ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْمُفَوَّضَةِ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا هُوَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْمُفَوَّضَةِ شَيْءٌ وَلَوْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، كَمَا فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَلِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، يَقُولُ: لَيْسَ لِامْرَأَةٍ تَهَبُ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا مَهْرٍ إِلَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ] (3) قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ وَابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} أَيْ: مِنْ حَصْرِهم فِي أَرْبَعِ نِسْوَةٍ حَرَائِرَ وَمَا شَاءُوا (4) مِنَ الْإِمَاءِ، وَاشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ وَالْمَهْرِ وَالشُّهُودِ عَلَيْهِمْ، وَهُمُ الْأَمَّةُ، وَقَدْ رَخَّصْنَا لَكَ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ نُوجِبْ عَلَيْكَ شَيْئًا مِنْهُ؛ {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .
__________
(1) في أ: "تزويج".
(2) في ت: "تقدير".
(3) زيادة من ت، أ.
(4) في ت: "وما يشاء".(6/445)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) } .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ (1) ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ (2) عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ أَنَّهَا كَانَتْ تُعَيِّر (3) النِّسَاءَ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: أَلَا تَسْتَحِي الْمَرْأَةُ أَنْ تَعْرِضَ نَفْسَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} ، قَالَتْ: إِنِّي أرَى رَبَّك إلا يُسَارع فِي هَوَاكَ (4) .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {تُرْجِي} أَيْ: تُؤَخِّرُ {مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} أَيْ: مِنَ الْوَاهِبَاتِ [أَنْفُسِهِنَّ] (5) {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} أَيْ: مَنْ شِئْتَ قَبِلْتَهَا، ومَنْ شِئْتَ رَدَدْتَهَا، ومَنْ رَدَدْتَهَا فَأَنْتَ فِيهَا أَيْضًا بِالْخِيَارِ بعد ذلك، إن
__________
(1) في أ: "بشير".
(2) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(3) في ف: "تغير من النساء" وفي أ: "تغير النساء".
(4) المسند (6/158) .
(5) زيادة من ت.(6/445)
شِئْتَ عُدْتَ فِيهَا فَآوَيْتَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} . قَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ فِي قَوْلِهِ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} : كُنْ نِسَاءً وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بِبَعْضِهِنَّ وَأَرْجَأَ بِعَضَهُنَّ لَمْ يُنْكحن بَعْدَهُ، مِنْهُنَّ أُمُّ شَرِيكٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} أَيْ: مِنْ أَزْوَاجِكَ، لَا حَرَجَ عَلَيْكَ أَنْ تَتْرُكَ القَسْم لَهُنَّ، فَتُقَدِّمْ مَنْ شِئْتَ، وَتُؤَخِّرْ مَنْ شِئْتَ، وَتُجَامِعْ مَنْ شِئْتَ، وَتَتْرُكْ مَنْ شِئْتَ.
هَكَذَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي رَزين، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُمْ، وَمَعَ هَذَا كَانَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، يَقْسِمُ لَهُنَّ؛ وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْقَسْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَقَالَ (1) الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ -أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ مُعَاذة (2) عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} ، فَقُلْتُ لَهَا: مَا كُنْتِ تَقُولِينَ؟ فَقَالَتْ: كُنْتُ أَقُولُ: إِنْ كَانَ ذَاكَ إليَّ فَإِنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُؤْثِرَ عَلَيْكَ أَحَدًا (3) .
فَهَذَا الْحَدِيثُ عَنْهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ (4) ذَلِكَ عَدَمُ وُجُوبِ الْقَسْمِ، وَحَدِيثُهَا الْأَوَّلُ يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَاهِبَاتِ، وَمِنْ هَاهُنَا اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْوَاهِبَاتِ وَفِي النِّسَاءِ اللَّاتِي عِنْدَهُ، أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِنَّ إِنْ شَاءَ قَسَمَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْسِمْ. وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ حَسَنٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} أَيْ: إِذَا عَلِمْنَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنْكَ (5) الحَرَج فِي الْقَسْمِ، فَإِنْ شِئْتَ قَسَمْتَ، وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تَقْسِمْ، لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِي أَيِّ ذَلِكَ فَعَلْتَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا أَنْتَ تَقْسِمُ لَهُنَّ اخْتِيَارًا مِنْكَ لَا أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، فَرِحْنَ بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرْنَ بِهِ وَحَمَلْنَ جَمِيلَكَ فِي ذَلِكَ، وَاعْتَرَفْنَ بِمِنَّتِكَ (6) عَلَيْهِنَّ فِي قَسْمِكَ لَهُنَّ وَتَسْوِيَتِكَ بَيْنَهُنَّ وَإِنْصَافِكَ لَهُنَّ وَعَدْلِكَ فِيهِنَّ.
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أَيْ: مِنَ الْمَيْلِ إِلَى بَعْضِهِنَّ دُونَ بَعْضٍ، مِمَّا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ، كَمَا قَالَ (7) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلابة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ، ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَذَا فِعْلِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أملك".
__________
(1) في ت:"وروى".
(2) في أ: "معاذ".
(3) صحيح البخاري برقم (4789) .
(4) في أ: "في".
(5) في أ: "عليك".
(6) في أ: "بأمانتك".
(7) في ت: "كما روى".(6/446)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ - (1) وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَلَا تَلُمْنِي (2) فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ: يَعْنِي الْقَلْبَ. وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. وَلِهَذَا عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} أَيْ: بِضَمَائِرِ السَّرَائِرِ، {حَلِيمًا} أَيْ: يَحْلُمُ وَيَغْفِرُ.
{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) } .
ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ -كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَغَيْرِهِمْ -أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مُجَازَاةً لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِضًا عَنْهُنَّ، عَلَى حُسْنِ صَنِيعِهِنَّ فِي اخْتِيَارِهِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، لَمَّا خَيَّرَهُنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ. فَلَمَّا اخْتَرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ جَزَاؤُهُنَّ أَنَّ [اللَّهَ] (3) قَصَره عَلَيْهِنَّ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِنَّ، أَوْ يَسْتَبْدِلَ بِهِنَّ أَزْوَاجًا غَيْرَهُنَّ، وَلَوْ أَعْجَبَهُ حُسْنُهُنَّ إِلَّا الْإِمَاءَ وَالسِّرَارِيَ فَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِيهِنَّ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ عَنْهُ الْحَجْرَ (4) فِي ذَلِكَ وَنَسَخَ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَبَاحَ لَهُ التَّزَوُّجَ (5) ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَزَوّج لِتَكُونَ الْمِنَّةُ لِلرَّسُولِ (6) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ.
قَالَ (7) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أَحِلَّ اللَّهُ لَهُ النِّسَاءَ (8) .
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ عَطاء، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ (9) ، عَنْ عَائِشَةَ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنَيْهِمَا (10) .
وَقَالَ (11) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ شَيْبَةَ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ (12) ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ (13) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَة، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أحلَّ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءَ، إِلَّا ذَاتَ مَحْرَمٍ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} .
فَجُعِلَتْ هَذِهِ نَاسِخَةً لِلَّتِي بَعْدَهَا فِي التِّلَاوَةِ، كَآيَتِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي الْبَقَرَةِ، الْأُولَى نَاسِخَةٌ لِلَّتِي بَعْدَهَا، والله (14) أعلم.
__________
(1) المسند (6/144) وسنن أبي داود برقم (2134) وسنن الترمذي برقم (1140) وسنن النسائي (7/63) وسنن ابن ماجه برقم (1971) .
(2) في أ: "فلا تملني".
(3) زيادة من ت، أ.
(4) في ت: "الحرج".
(5) في أ: "التزويج".
(6) في ف: "لرسول الله".
(7) في ت: "روى".
(8) المسند (6/41) .
(9) في أ: "عن عمير بن عبيد".
(10) المسند (6/180) وسنن الترمذي برقم (3216) وسنن النسائي (6/56) .
(11) في ت: "وروى".
(12) في أ: "الخزاعي".
(13) في أ: "عبد الله".
(14) في ت: "فالله".(6/447)
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى الْآيَةِ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا ذَكَرْنَا لَكَ مِنْ صِفَةِ النِّسَاءِ اللَّاتِي أَحْلَلْنَا لَكَ مِنْ نِسَائِكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، وَبَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ (1) وَالْخَالِ وَالْخَالَاتِ (2) وَالْوَاهِبَةِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ فَلَا يَحِلُّ لَكَ. هَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، وَالضَّحَّاكِ -فِي رِوَايَةٍ -وَأَبِي رَزِين -فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ -وَأَبِي صَالِحٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ -فِي رِوَايَةٍ -وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ زِيَادٍ -رَجُلٍ مَنَّ الْأَنْصَارِ (3) -قَالَ: قُلْتُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفين، أَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ؟ فَقَالَ: وَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَوْلُهُ: {لَا يَحِلُّ (4) لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} . فَقَالَ: إِنَّمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ ضَرْبًا مِنَ النِّسَاءِ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ثُمَّ قِيلَ لَهُ: {لَا يَحِلُّ (5) لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} .
وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ دَاوُدَ، بِهِ (6) . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ بِقَوْلِهِ: {لَا يَحِلُّ (7) لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} ، فَأَحَلَّ اللَّهُ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ، وَحَرَمَّ كُلَّ ذَاتِ دِينٍ غَيْرَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} (8) إِلَى قَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَحَرَمَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ (9) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَا يَحِلُّ (10) لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا سَمَّى لَكَ، لَا (11) مُسْلِمَةً وَلَا يَهُودِيَّةً وَلَا نَصْرَانِيَّةً وَلَا كَافِرَةً.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} (12) : أُمِرَ أَلَّا يَتَزَوَّجَ أَعْرَابِيَّةً وَلَا غَرْبَيَةً (13) ، وَيَتَزَوَّجُ بَعْدُ مِنْ نِسَاءِ تِهَامَةَ، وَمَا شَاءَ مِنْ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ، وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ، إِنْ شَاءَ ثَلَاثَمِائَةٍ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} (14) أَيِ: الَّتِي سَمَّى الله.
__________
(1) في ت: "وبنات العمات".
(2) في أ: "الخالة".
(3) في ت: "فروى ابن جرير بإسناده عن رجل من الأنصار".
(4) في ت، أ: "لا تحل".
(5) في ت، أ: "لا تحل".
(6) تفسير الطبري (22/21) وزوائد المسند (5/132) .
(7) في أ: "لا تحل".
(8) بعدها في أ: "مما أفاء الله عليك".
(9) سنن الترمذي برقم (3215) وقال: "هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث عبد الحميد بن بهرام، قال: سمعت أحمد بن الحسن يقول: قال أحمد بن حنبل: لا بأس بحديث عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حوشب".
(10) في أ: "لا تحل".
(11) في أ: "من".
(12) في أ: "لا تحل".
(13) في أ: "عربية".
(14) في أ: "لا يحل".(6/448)
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِيمَنْ ذُكِرَ مِنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ، وَفِي النِّسَاءِ اللَّوَاتِي فِي عِصْمَتِهِ وَكُنْ تِسْعًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ جَيِّدٌ، وَلَعَلَّهُ مُرَادُ كَثِيرٍ مِمَّنْ حَكَيْنَا عَنْهُ مِنَ السَّلَفِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا وَهَذَا، وَلَا مُنَافَاةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى نَفْسِهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا، وَعَزَمَ عَلَى فِرَاقِ سَوْدَةَ حَتَّى وَهَبَتْهُ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ بِمَنْ عَدَا اللَّوَاتِي فِي عِصْمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَبْدِلُ بِهِنَّ غَيْرَهُنَّ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْدَالٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا قَضية سَوْدَة فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ سَبَبُ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ (1) ] } الْآيَةَ [النِّسَاءِ: 128] (2) .
وَأَمَّا قَضِيَّةُ (3) حَفْصَةَ فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ (4) عن سلمة أن بن كُهَيْل، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا. وَهَذَا إِسْنَادٌ (5) قَوِيٌّ (6) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْر، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ (7) ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ عَلَى حَفْصَةَ وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَكِ؟ إِنَّهُ قَدْ كَانَ طَلَّقَكِ مَرَّةً ثُمَّ رَاجَعَكِ مِنْ أَجْلِي؛ وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ طَلَّقَكِ مَرَّةً أُخْرَى لَا أُكَلِّمُكِ أَبَدًا. وَرِجَالُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ (8) .
وَقَوْلُهُ: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} ، فَنَهَاهُ عَنِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِنَّ، أَوْ طَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَاسْتِبْدَالِ غَيْرِهَا بِهَا إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ (9) .
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ حَدِيثًا مُنَاسِبًا ذكَرُه هَاهُنَا، فَقَالَ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (10) القرَشي، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَار (11) عَنْ أَبِي هُرَيرة، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: 128 من سورة النساء.
(3) في ت: "قصة".
(4) في أ: "يحيى"
(5) في ت: "إسناده".
(6) سنن أبي داود برقم (2283) وسنن النسائي (6/213) وسنن ابن ماجه برقم (2016) .
(7) في ت: "وروى الإمام الحافظ أبو يعلى بسنده".
(8) مسند أبي يعلى (1/160) .
(9) في أ: "يمينك".
(10) في أ: "عبيد الله".
(11) في ت: "وروى البزار بإسناده".(6/449)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
قَالَ: كَانَ البَدلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: بَادِلْنِي امْرَأَتَكَ وأبادلُك بِامْرَأَتِي: أَيْ: تَنْزِلُ لِي عَنِ امْرَأَتِكَ، وَأَنْزِلُ لَكَ عَنِ امْرَأَتِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} قَالَ: فَدَخَلَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ (1) عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ، فَدَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَيْنَ الِاسْتِئْذَانُ؟ " فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا اسْتَأْذَنْتُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ مُضَر مُنْذُ أَدْرَكْتُ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ هَذِهِ الحُمَيْراء إِلَى جَنْبِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذِهِ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ". قَالَ: أَفَلَا أَنْزِلُ لَكَ عَنْ أَحْسَنَ الْخَلْقِ (2) ؟ قَالَ: "يَا عُيَيْنَةَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ". فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا أَحْمَقُ مُطَاعٌ، وَإِنَّهُ عَلَى مَا تَرَيْنَ لَسَيِّدُ قَوْمِهِ".
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ إِسْحَاقُ (3) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَيِّنُ الْحَدِيثِ جِدًّا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّا لَمْ نَحْفَظْهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَبَيَّنَّا الْعِلَّةَ فِيهِ (4) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) } .
هَذِهِ آيَةُ الْحِجَابِ، وَفِيهَا أَحْكَامٌ وَآدَابٌ شَرْعِيَّةٌ، وَهِيَ مِمَّا وَافَقَ تَنْزِيلُهَا قَوْلَ (5) عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [الْبَقَرَةِ: 125] . وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ حَجَبْتَهُنَّ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ. وَقُلْتُ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَمَالَأْنَ عَلَيْهِ فِي الْغَيْرَةِ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التَّحْرِيمِ:5] ، فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ (6) .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ ذِكْرُ أُسَارَى بَدْرٍ، وَهِيَ قَضِيَّةٌ رَابِعَةٌ.
وَقَدْ قَالَ (7) الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّد، عَنْ يَحْيَى، عَنْ حُمَيْد، أَنَّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ
__________
(1) في أ: "عيينة الفزاري".
(2) في ت: "قال انزل لي عنها وأنا أنزل لك عن أحسن الخلق". وفي أ: "قال أنزل لك عن أحسن الخلق".
(3) في ت: "ثم قال البزار: في إسناده إسحاق".
(4) مسند البزار برقم (2251) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/92) : "وفيه إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ وهو متروك".
(5) في ت: "لقول".
(6) صحيح البخاري برقم (402) .
(7) في ت: "وروى".(6/450)
الْخِطَابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ (1) .
وَكَانَ وَقْتُ نُزُولِهَا فِي صَبِيحَةِ عُرْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، الَّتِي تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى تَزْوِيجَهَا بِنَفْسِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الْخَامِسَةِ، فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَالْوَاقِدَيِّ وَغَيْرِهِمَا.
وَزَعَمَ أَبُو عُبَيدة مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَخَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (2) الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقاشي، حَدَّثَنَا مُعْتَمر بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَز، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، دَعَا الْقَوْمَ فَطَعموا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَإِذَا هُوَ [كَأَنَّهُ] (3) يَتَهَيَّأُ (4) لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ [قَامَ] (5) مَنْ قَامَ، وَقَعَدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ. فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْخُلَ، فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقْتُ، فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا. فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخَلُ، فَأَلْقَى [الْحِجَابَ] (6) بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الْآيَةَ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِهِ (7) . ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلابة، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، [بِنَحْوِهِ (8) . ثُمَّ قَالَ (9) : حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ] (10) قَالَ: بُني [عَلَى] (11) النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ، فأرسلْتُ عَلَى الطَّعَامِ دَاعِيًا، فَيَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ. فدعوتُ حَتَّى مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُوهُ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُوهُ. قَالَ: "ارْفَعُوا طَعَامَكُمْ"، وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ". قَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ؟ فَتَقَرّى حُجَرَ نِسَائِهِ كُلّهن، يَقُولُ لَهُنَّ كَمَا يَقُولُ لِعَائِشَةَ، وَيَقُلْنَ لَهُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ. ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ (12) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا رَهْطٌ ثَلَاثَةٌ [فِي الْبَيْتِ] (13) يَتَحَدَّثُونَ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الْحَيَاءِ، فَخَرَجَ مُنْطَلِقًا نَحْوَ حُجْرة عَائِشَةَ، فَمَا أَدْرِي أخبرتُه أَمْ أُخْبِرَ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا؟ فَرَجَعَ حَتَّى إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي أُسْكُفة الْبَابِ دَاخِلَهُ، وَأُخْرَى خَارِجَهُ، أرْخَى السِّتْرَ بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2399) .
(2) في ت: "وروى".
(3) زيادة من ت، ف، أ، والبخاري.
(4) في ت: "تهيأ".
(5) زيادة من ت، ف، أ، والبخاري.
(6) زيادة من ت، ف، أ، والبخاري.
(7) صحيح البخاري برقم (4791) وبرقم (6239، 6271) وصحيح مسلم برقم (1428) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11420) .
(8) صحيح البخاري برقم (4792) .
(9) في ت: "قال البخاري".
(10) زيادة من ت، ف، أ.
(11) زيادة من ت، ف، والبخاري، وفي أ: "بنى الله على النبي".
(12) في ت: "النبي".
(13) زيادة من ت، ف، أ، والبخاري.(6/451)
انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ [السِّتَّةِ] (1) ، سِوَى النَّسَائِيِّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ (2) .
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ إِسْحَاقَ -هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ -عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ (3) السَّهْمِيِّ، عَنْ حُمَيد، عَنْ أَنَسٍ، بِنَحْوِ ذَلِكَ (4) ، وَقَالَ: "رَجُلَانِ" انْفَرَدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (5) : حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ، حَدَّثَنَا جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْجَعْدِ -أَبِي عُثْمَانَ اليَشْكُرِي -عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَعْرَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ نِسَائِهِ، فَصَنَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْسًا ثُمَّ وَضَعَتْهُ (6) فِي تَوْر، فَقَالَتْ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُ أَنَّ هَذَا مِنَّا لَهُ قَلِيلٌ -قَالَ أَنَسٌ: وَالنَّاسُ يَوْمَئِذٍ فِي جَهد -فَجِئْتُ بِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَعَثَتْ بِهَذَا أُمُّ سُلَيم إِلَيْكَ، وَهِيَ تُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ: أَخْبِرْهُ أَنَّ هَذَا مِنَّا لَهُ قَلِيلٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "ضَعْهُ" فوَضَعته فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: "اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا". وَسَمَّى رِجَالًا كَثِيرًا، وَقَالَ: "ومَنْ لقيتَ مِنَ [الْمُسْلِمِينَ". فدعوتُ مَنْ قَالَ لِي، ومَنْ لَقِيتُ مِنَ] (7) الْمُسْلِمِينَ، فَجِئْتُ وَالْبَيْتُ والصُّفَّة وَالْحُجْرَةُ مَلأى مِنَ النَّاسِ -فَقُلْتُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ، كَمْ كَانُوا؟ فَقَالَ: كَانُوا زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ -قَالَ أَنَسٌ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جِئْ بِهِ". فجئتُ بِهِ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَدَعَا وَقَالَ: "مَا شَاءَ اللَّهُ". ثُمَّ قَالَ: "ليتَحَلَّق عَشَرة عَشَرة، وَلْيُسَمُّوا (8) ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ". فَجَعَلُوا يُسَمُّونَ وَيَأْكُلُونَ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْفَعْهُ". قَالَ: فجئتُ فَأَخَذْتُ التَّورَ فَمَا أَدْرِي أَهْوَ حِينَ وَضَعْتُ أَكْثَرُ أَمْ حِينَ أَخَذْتُ؟ قَالَ: وَتَخَلَّفَ رِجَالٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ، وزَوجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا مَعَهُمْ مُولّية وَجْهِهَا إِلَى الْحَائِطِ، فَأَطَالُوا الْحَدِيثَ، فَشَقُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً -وَلَوْ أُعْلِمُوا (9) كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَزِيزًا -فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ فَسَلَّمَ عَلَى حُجَره وَعَلَى نِسَائِهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ جَاءَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقَّلوا عَلَيْهِ، ابْتَدَرُوا الْبَابَ فَخَرَجُوا، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ، وَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَنَا فِي الْحُجْرَةِ، فَمَكَثَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ يَسِيرًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} . قَالَ أَنَسٌ: فَقَرَأَهُنَّ عَليّ قَبْلَ النَّاسِ، فَأَنَا أحْدثُ الناس بهن عهدا.
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4793) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10101) .
(3) في أ: "بكير".
(4) صحيح البخاري برقم (4794) .
(5) في ت: "روى مسلم والنسائي".
(6) في ت، ف: "جعلت".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ت، ف، أ: "ويسموا".
(9) في ت، ف، أ: "علموا".(6/452)
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِهِ (1) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ وعَلَّقه الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فَقَالَ:
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَان، عَنِ الجَعْد أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ (2) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الْجَعْدِ، بِهِ (3) . وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ شَرِيك، عَنْ بَيَانِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ أَنَسٍ، بِنَحْوِهِ.
وَرَوَى (4) الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ، عَنْ بَيَان بْنِ بِشْرٍ الأحَمَسِي الْكُوفِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، بِنَحْوِهِ (5) .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَة الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، بِنَحْوِهِ (6) وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَمِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، بِنَحْوِ ذَلِكَ (7) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزُ وَهَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَا حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيَزِيدَ "اذْهَبْ فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ". قَالَ: فَانْطَلَقَ زَيْدٌ حَتَّى أَتَاهَا، قَالَ: وَهِيَ تُخَمِّر عَجِينَهَا، فَلَمَّا رأيتُها عَظُمت فِي صَدْرِي ... وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَوَعَظ الْقَوْمَ بِمَا وُعِظُوا بِهِ. قَالَ هَاشِمٌ فِي حَدِيثِهِ: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} .
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ (8) ، بِهِ (9) .
وَقَالَ (10) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -ابْنُ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ -حَدَّثَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ -وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ -وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْجُبْ نِسَاءَكَ. فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَفْعَلَ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ بِصَوْتِهِ الْأَعْلَى: قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ. حرْصًا أَنْ (11) يَنْزِلَ الْحِجَابَ، قَالَتْ (12) : فأنزل الله الحجاب (13) .
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1428) وسنن الترمذي برقم (3218) وسنن النسائي (6/136) .
(2) صحيح البخاري برقم (5163) .
(3) صحيح مسلم برقم (1428) .
(4) في أ: "ورواه".
(5) صحيح البخاري برقم (5170) وسنن الترمذي برقم (3219) .
(6) في أ: "بنحوه ولم يخرجوه".
(7) تفسير الطبري (22/27) .
(8) في هـ، أ: "جعفر بن سليمان" والتصويب من ت، ف، ومسلم.
(9) المسند (3/195) ، وصحيح مسلم برقم (1428) ، وسنن النسائي (6/79) ".
(10) في ت: "وروى".
(11) في ف، أ: "حرصا أن أن".
(12) في ت: "قال".
(13) تفسير الطبري (22/28) .(6/453)
هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْحِجَابِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ لِحَاجَتِهَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَسيمَةً لَا تخفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا، فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ، أَمَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَين عَلَيْنَا، فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ؟ قَالَتْ: فَانْكَفَأْتُ رَاجِعَةً، ورسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي، وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى، وَفِي يَدِهِ عَرْق، فَدَخَلَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَقَالَ لِي عُمَرُ كَذَا وَكَذَا. قَالَتْ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ رُفعَ عَنْهُ وَإِنَّ العَرْق فِي يَدِهِ، مَا وَضَعَهُ. فَقَالَ: "إِنَّهُ قَدْ أذنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ". لَفَظُ الْبُخَارِيِّ (1) .
فَقَوْلُهُ: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} : حَظَر عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْخُلُوا مَنَازِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، كَمَا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَصْنَعُونَ فِي بُيُوتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى غَارَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَأَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ إِكْرَامِهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ" (2) .
ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: {إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} .
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: أَيْ غَيْرَ مُتَحَيِّنِينَ نُضْجَهُ وَاسْتِوَاءَهُ، أَيْ: لَا تَرْقُبُوا الطَّعَامَ حَتَّى (3) إِذَا قَارَبَ الِاسْتِوَاءَ تَعَرَّضْتُمْ لِلدُّخُولِ، فَإِنَّ هَذَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَذُمُّهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّطْفِيلِ، وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الضَّيْفَنَ، وَقَدْ صَنَّفَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا فِي ذَمِّ الطُّفَيْلِيِّينَ. وَذَكَرَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ أَشْيَاءَ يَطُولُ إِيرَادُهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيجب، عُرسًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ" (4) . وَأَصِلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ دُعيت إِلَى ذِرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إليَّ كُرَاع لَقَبِلْتُ، فَإِذَا فَرَغتم مِنَ الَّذِي دُعيتم إِلَيْهِ فَخَفِّفُوا عَنْ أَهْلِ الْمَنْزِلِ، وَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ" (5) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أَيْ: كَمَا وَقَعَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ اسْتَرْسَلَ بِهِمُ الْحَدِيثُ، ونسُوا أَنْفُسَهُمْ، حَتَّى شَقّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (6) تَعَالَى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} (7) .
وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ دُخُولَكُمْ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ (8) كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَتَأَذَّى بِهِ، لَكِنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ حَيَائِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أَيْ: وَلِهَذَا نَهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ وزجرَكم عنه.
__________
(1) المسند (6/56) وصحيح البخاري برقم (4795) وصحيح مسلم برقم (2170) .
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5232) ومسلم في صحيحه برقم (2172) من حديث عقبة بن عامر، رضي الله عنه.
(3) في أ: "الطعام إذا طبخ حتى".
(4) صحيح مسلم برقم (1429) .
(5) في صحيح البخاري برقم (2568) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(6) زيادة من ف.
(7) بعدها في أ: "والله لا يستحيي من الحق".
(8) في أ: "إذن".(6/454)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أَيْ: وَكَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنِ الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ، كَذَلِكَ لَا تَنْظُرُوا إِلَيْهِنَّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِكُمْ (1) حَاجَةٌ يُرِيدُ تَنَاوُلَهَا مِنْهُنَّ فَلَا يَنْظُرْ إِلَيْهِنَّ، وَلَا يَسْأَلْهُنَّ حَاجَةً إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.
وَقَالَ (2) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مِسْعَر، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ آكُلُ مَعَ النَّبِيِّ (3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْسًا فِي قَعْب، فَمَرَّ عُمَرُ فَدَعَاهُ، فَأَصَابَتْ إِصْبَعُهُ إِصْبَعِي، فَقَالَ: حَسِّ (4) -أَوْ: أَوِّهِ -لَوْ أَطَاعَ فِيكُنَّ مَا رَأَتْكِ (5) عَيْنٌ. فَنَزَلَ الْحِجَابُ (6) .
{ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أَيْ: هَذَا الَّذِي أَمَرَتْكُمْ بِهِ وَشَرَعْتُهُ لَكُمْ مِنَ الْحِجَابِ أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} : قَالَ (7) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا مهْرَان، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُل هَمّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَعْضَ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ رَجُلٌ لِسُفْيَانَ: أَهِيَ عَائِشَةُ؟ قَالَ: قَدْ ذَكَرُوا ذَاكَ.
وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلُ بْنِ حَيَّان، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَذَكَرَ بِسَنَدِهِ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الَّذِي عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى نَزَلَ التَّنْبِيهُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجِهِ (8) أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ تَزْوِيجُهَا مِنْ بَعْدِهِ؛ لِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي حَيَاتِهِ (9) هَلْ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، مَأْخَذُهُمَا: هَلْ دَخَلَتْ هَذِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِهِ} أَمْ لَا؟ فَأَمَّا مَنْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَمَا نَعْلَمُ فِي حِلِّهَا لِغَيْرِهِ -وَالْحَالَةُ هَذِهِ -نِزَاعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ (10) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي [مُحَمَّدُ] (11) بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ؛ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَقَدْ مَلَكَ قَيْلَةَ بِنْتَ (12) الْأَشْعَثِ -يَعْنِي: ابْنَ قَيْسٍ -فَتَزَوَّجَهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهِلَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ، إِنَّهَا لَمْ يُخَيّرها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَحْجُبْهَا، وَقَدْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ بِالرِّدَّةِ الَّتِي ارْتَدَتْ
__________
(1) في ت: "لأحدهم".
(2) في ت: "وروى".
(3) في ت: "رسول الله".
(4) في هـ: "خير" وفي ت، ف، أ: "حسن" والمثبت من النهاية لابن الأثير 1/385.
(5) في ت، أ: "ما رأتكن".
(6) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11419) من طريق زكريا بن يحيى عن ابن أبي عمر، به.
(7) في ت: "روى".
(8) في ف، أ: "زوجاته".
(9) في ت: "حياتها".
(10) في ت: "وروى".
(11) زيادة من ف، أ، والطبري.
(12) في أ: "قتيلة ابنة".(6/455)
مَعَ قَوْمِهَا. قَالَ: فَاطْمَأَنَّ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (1) وَسَكَنَ (2) .
وَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ، وَشَدَّدَ فِيهِ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} ، ثُمَّ قَالَ: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أَيْ: مَهْمَا تُكِنُّهُ ضَمَائِرُكُمْ وَتَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرَائِرُكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ (3) يَعْلَمُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا تَخْفَى (4) عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غَافِرٍ: 19] .
__________
(1) في ت، ف: "عنه".
(2) تفسير الطبري (22/29) .
(3) في ف: "فإنه".
(4) في ت، ف: "لا يخفى".(6/456)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) } .
لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى النِّسَاءَ بِالْحِجَابِ مِنَ الْأَجَانِبِ، بيَّن أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقَارِبَ لَا يَجِبُ الِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ، كَمَا اسْتَثْنَاهُمْ فِي سُورَةِ النُّورِ، عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} إِلَى آخِرِهَا، [النُّورِ: 31] ، وَفِيهَا زِيَادَاتٌ عَلَى هَذِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُ السَّلَفِ فَقَالَ: لِم لَمْ يُذْكَرِ الْعَمُّ وَالْخَالُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؟ فَأَجَابَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ: بِأَنَّهُمَا لَمْ يُذْكَرَا؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَصِفَانِ ذَلِكَ لِبَنِيهِمَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهال، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} قُلْتُ: مَا شَأْنُ الْعَمِّ وَالْخَالِ لَمْ يُذْكَرَا؟ قَالَا هُمَا (1) يَنْعَتَانِهَا لِأَبْنَائِهِمَا. وَكَرِهَا أَنْ تَضَعَ خِمَارَهَا عِنْدَ خَالِهَا وَعَمِّهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَلا نِسَائِهِنَّ} : يَعْنِي بِذَلِكَ: عَدَم الِاحْتِجَابِ مِنَ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يَعْنِي بِهِ: أرقاءَهن مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَإِيرَادُ الْحَدِيثِ فِيهِ (2) .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ: الْإِمَاءَ فَقَطْ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أَيْ: وَاخْشَيْنَهُ فِي الْخَلْوَةِ وَالْعَلَانِيَةِ، فَإِنَّهُ شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لَا تخفى عليه خافية، فراقبن الرقيب.
__________
(1) في أ: "لأنهما".
(2) تقديم تخريج الحديث عند تفسير الآية: 31 من سورة النور.(6/456)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) }
قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: صَلَاةُ اللَّهِ: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ: الدُّعَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُصَلُّونَ: يبرِّكون. هَكَذَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُمَا (1) .
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ كَذَلِكَ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الرَّبِيعِ أَيْضًا. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا قَالَهُ سَوَاءً، رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: صَلَاةُ الرَّبِّ: الرَّحْمَةُ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ: الِاسْتِغْفَارُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو الأوْديّ، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ عَطَاءِ (2) بْنِ أَبِي رَبَاحٍ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} قَالَ: صَلَاتُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: سُبّوح قُدُّوسٌ، سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عِبَادَهُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ عِنْدَهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، بِأَنَّهُ يُثْنِي عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَيْهِ. ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى أَهْلَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ، لِيَجْتَمِعَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِينَ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ جَمِيعًا.
وَقَدْ قَالَ (3) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرٍ - يَعْنِي: ابْنَ الْمُغِيرَةِ -عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَلْ يُصَلِّي رَبُّكَ؟ فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا مُوسَى، سَأَلُوكَ: "هَلْ يُصَلِّي رَبُّكَ؟ " فَقُلْ: نَعَمْ، إِنَّمَا أُصَلِّي أَنَا وَمَلَائِكَتِي عَلَى أَنْبِيَائِي وَرُسُلِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (4) ، يُصَلِّي عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الْأَحْزَابِ:41-43] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (5) . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [الْبَقَرَةِ: 155-157] . وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ وملائكته يصلون على ميامِن الصفوف". وفي
__________
(1) صحيح البخاري (8/532) "فتح".
(2) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عطاء".
(3) في ت: "وقد روى".
(4) في ت: "وقد أخبر الله تعالى" وفي ف: "وقد أخبر أنه سبحانه بأنه".
(5) في ت: "المؤمنين " وهو خطأ.(6/457)
الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "اللَّهُمَّ، صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةِ جَابِرٍ -وَقَدْ سَأَلْتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا وَعَلَى زَوْجِهَا -"صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ، وَعَلَى زَوْجِكَ (1) (2) .
وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَكَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا تَيَسَّرَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ -عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ (3) -: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مِسْعَر، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَة قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقد عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ، صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، [كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. اللَّهُمَّ، بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ] (4) كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" (5) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (6) ، عَنِ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلَا أَهْدِي لَكَ هَدِيَّةً؟ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا -أَوْ: عَرَفْنَا -كَيْفَ السَّلَامُ (7) ، عَلَيْكَ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ، صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى [آلِ] (8) إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. اللَّهُمَّ، بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ على آل إبراهيم، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمْ، مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، عَنِ الْحَكَمِ -وَهُوَ ابْنُ عُتْبَةَ (9) زَادَ الْبُخَارِيُّ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، فَذَكَرَهُ (10) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (11) : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْم بْنُ بُشَير، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَة قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا السَّلَامَ (12) فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا
__________
(1) في ف، أ: "وعلى آل زوجك".
(2) رواه أحمد في مسنده (3/398) وابن حبان في صحيحه برقم (1951) "موارد" من طريق الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ نُبَيْحٍ الْعَنَزِيِّ عَنْ جابر رضي الله عنه.
(3) في ت: "روى البخاري في صحيحه".
(4) زيادة من ت، ف، والبخاري.
(5) صحيح البخاري برقم (4797) .
(6) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(7) في أ: "نسلم".
(8) زيادة من ت، ف، والمسند.
(9) في أ: "عيينة".
(10) المسند (4/241) وصحيح البخاري برقم (3370) وبرقم (6357) وبرقم (4797) وصحيح مسلم برقم (406) وسنن أبي داود برقم (976) وسنن الترمذي برقم (483) وسنن النسائي (3/47) وسنن ابن ماجه برقم (904) .
(11) في أ: "وقال البخاري".
(12) في ت، ف، أ: "السلام عليك".(6/458)
بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ". وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: وَعَلَيْنَا مَعَهُمْ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ (1) .
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: "أَمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ": هُوَ الَّذِي فِي التَّشَهُّدِ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهُ، كَمَا كَانَ يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِيهِ: "السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ".
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (2) الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنُ (3) الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا السَّلَامُ (4) فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ: قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكَتْ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ". [وَفِي رِوَايَةٍ] (5) : قَالَ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ: "عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ على آلِ إِبْرَاهِيمَ".
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ والدّرَاوَرْدي، عَنْ يَزِيدَ -يَعْنِي: ابْنَ الْهَادِ -قَالَ: "كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ".
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْهَادِ، بِهِ (6) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (7) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيم أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ" صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى [آلِ] (8) إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".
وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ، سِوَى التِّرْمِذِيِّ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، بِهِ (9) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى التَّمِيمِيُّ قَالَ: قَرَأَتْ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نُعَيم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المُجمَّر، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ -قَالَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ هُوَ الَّذِي كَانَ أُرِيَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ -أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ -قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادة، فَقَالَ لَهُ بَشير بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ [يَا رَسُولَ اللَّهِ] ، (10) فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكَتْ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ".
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مالك، به (11) . وقال الترمذي: حسن
__________
(1) سنن الترمذي برقم (483) وقال: "حديث حسن صحيح".
(2) في ت: "روى".
(3) في أ: "أبي".
(4) في أ: "هذا السلام عليك".
(5) زيادة من ت.
(6) صحيح البخاري برقم (4798) .
(7) في ت: "وروى".
(8) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(9) المسند (5/424) وصحيح البخاري برقم (3369) وصحيح مسلم برقم (407) وسنن أبي داود برقم (979) وسنن النسائي (3/49) وسنن ابن ماجه برقم (905) .
(10) زيادة من ت، ف، أ، ومسلم.
(11) صحيح مسلم برقم (405) وسنن أبي داود برقم (980) وسنن الترمذي برقم (3220) وسنن النسائي (3/45) .(6/459)
صَحِيحٌ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيمة، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَّا السَّلَامُ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا فِي صَلَاتِنَا؟ فَقَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ، صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ... " وَذَكَرَهُ (1) .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِمِثْلِهِ (2) . وَمِنْ هَاهُنَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، فَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَقَدْ شَرَع بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يُشنع عَلَى الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي اشْتِرَاطِهِ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ، وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمْ، فِيمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ. وَقَدْ تَعَسّف الْقَائِلُ (3) فِي رَدِّهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ، وَتَكَلَّفَ فِي دَعْوَاهُ الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ، [وَقَالَ مَا لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمًا] (4) ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَيْنَا وُجُوبَ ذَلِكَ وَالْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَمُفَسَّرٌ (5) بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: الشَّعْبِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، لَا خِلَافَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ وَلَا بَيْنَ (6) أَصْحَابِهِ أَيْضًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ [الْإِمَامُ] (7) أَحْمَدُ أَخِيرًا فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو زُرْعَة الدمشقي، به. وبه قال إسحاق بن رَاهْوَيْهِ، وَالْفَقِيهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَوَّازِ الْمَالِكِيُّ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ أَوْجَبَ أَنْ يُقَالَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا عَلَّمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَمَّا سَأَلُوهُ، وَحَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا أَوْجَبَ الصَّلَاةَ عَلَى الْآلِ مِمَّنْ (8) حَكَاهُ البَنْدَنيجِيّ، وسُلَيم الرَّازِّيُّ، وَصَاحِبُهُ نَصْرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ، وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَصَاحِبُهُ الْغَزَالِيُّ قَوْلًا عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَجْهٌ، عَلَى أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِهِ، وَحَكَوُا الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ، وَلِلْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ ظَوَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
والغَرَض أَنَّ الشَّافِعِيَّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، لِقَوْلِهِ (9) بِوُجُوبِ الصلاة عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ -سَلَفٌ وَخَلَفٌ (10) كَمَا تَقَدَّمَ، لِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فَلَا إِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: الْحَدِيثُ الْآخَرُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ -وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، مِنْ رِوَايَةِ حَيْوة بْنِ شُرَيْح الْمِصْرِيِّ، عَنْ أبي هانئ حميد بن
__________
(1) المسند (4/119) وسنن أبي داود برقم (981) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9877) والمستدرك (1/668) وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم".
(2) مسند الشافعي برقم (268) "بدائع المنن" ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (9875) من طريق داود بن قيس، عن نعيم بن عبد الله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(3) فِي أ: "تعسف هذا القائل".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ت: "ومشعر".
(6) في أ: "من".
(7) زيادة من ت، ف، أ.
(8) في ف: "فيما" وفي أ: "فيمن".
(9) في أ: "يقول".
(10) في أ: "سلفا وخلفا".(6/460)
هَانِئٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ أَبِي عَلِيٍّ الجَنْبي (1) ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ، لَمْ يُمَجِّدِ اللَّهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَجل هَذَا". ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ ليدعُ [بَعْدُ] (2) بِمَا شَاءَ" (3) .
وَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، مِنْ رِوَايَةِ عَبْدُ الْمُهَيْمِنِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ، وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ، وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُحِبَّ الْأَنْصَارَ (4) .
وَلَكِنْ عَبْدُ الْمُهَيْمِنِ هَذَا مَتْرُوكٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَخِيهِ "أُبَيِّ بْنِ عَبَّاسٍ"، وَلَكِنْ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ (5) . وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ رِوَايَةِ "عَبْدِ الْمُهَيْمِنِ"، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْأَعْمَى، عَنْ بُرَيدة قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا جَعَلْتَهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".
أَبُو دَاوُدَ الْأَعْمَى اسْمُهُ: نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ، مَتْرُوكٌ (6) .
حَدِيثٌ آخَرُ مَوْقُوفٌ: رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَزَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ: حَدَّثَنَا سَلَامَةُ الْكِنْدِيُّ: أَنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ هَذَا الدُّعَاءَ: اللَّهُمَّ دَاحِيَ المدْحُوَّات، وَبَارِئَ الْمَسْمُوكَاتِ، وَجَبَّار الْقُلُوبِ عَلَى فطْرَتها شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا. اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ، وَرَأْفَةَ تَحَنُّنِكَ، عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، الْخَاتَمِ لِمَا سَبَقَ، وَالْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَالدَّامِغِ جِيشَاتِ الْأَبَاطِيلِ، كَمَا حُمِّل فَاضْطَلَعَ بِأَمْرِكَ لِطَاعَتِكَ، مُسْتَوْفِزًا فِي مَرْضَاتِكَ، غَيْرَ نَكل فِي قَدَم، وَلَا وَهِنٍ فِي عَزْمٍ، وَاعِيًا لِوَحْيِكَ، حَافِظًا لِعَهْدِكَ، مَاضِيًا عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسًا لِقَابِسٍ، آلَاءُ اللَّهِ تَصِلُ بِأَهْلِهِ أَسْبَابُهُ، بِهِ هُدِيَتِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالْإِثْمِ، [وَأَقَامَ] (7) مُوضحات الْأَعْلَامِ، ومُنِيرات الْإِسْلَامِ وَنَائِرَاتِ الْأَحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمَخْزُونُ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وبَعيثُك نِعْمَةً، وَرَسُولُكَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً. اللَّهُمَّ افْسَحْ لَهُ مُفسحَات فِي عَدْلِكَ، وَاجْزِهِ مُضَاعَفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ. مهنَّآت لَهُ غَيْرُ مُكَدَّرَاتٍ، مِنْ فَوْزِ ثَوَابِكَ الْمَعْلُولِ، وَجَزِيلِ عَطَائِكِ الْمَجْمُولِ. اللَّهُمَّ، أعل على بناء البانين
__________
(1) في أ: "الحسيني".
(2) زيادة من ف، أ، والمسند.
(3) المسند (6/18) وسنن أبي داود برقم (1481) وسنن الترمذي برقم (3477) وسنن النسائي (3/44) .
(4) سنن ابن ماجه برقم (400) وقال البوصيري في الزوائد (1/167) "هذا إسناد ضعيف لاتفاقهم على ضعف عبد المهيمن".
(5) المعجم الكبير للطبراني (6/121) .
(6) المسند (5/353) .
(7) زيادة من ت، ف.(6/461)
بُنْيَانَهُ (1) وَأَكْرِمْ مَثْوَاهُ لَدَيْكَ وَنُزُلَهُ. وَأَتْمِمْ (2) لَهُ نُورَهُ، وَاجْزِهِ مِنَ ابْتِعَاثِكَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ، مَرْضِيُّ الْمُقَالَةِ، ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ، وخُطَّة فَصْلٍ، وَحُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ عَظِيمٍ (3) .
هَذَا مَشْهُورٌ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي مُشْكِلِ الْحَدِيثِ، وَكَذَا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ فِي جُزْءٍ جَمَعَهُ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرًا.
قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ: سَلَامَةُ (4) الْكِنْدِيُّ هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَلَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا (5) . كَذَا قَالَ. وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ هَذَا الْأَثَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الصَّائِغِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ سَلَامَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يُعَلِّمُنَا الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ، دَاحِيَ المَدْحُوّات" وَذَكَرَهُ (6) .
حَدِيثٌ آخَرُ مَوْقُوفٌ: قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: [حَدَّثَنَا الحُسَين بْنُ بَيَان] (7) ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي فَاخِتة، عَنِ الْأُسُودِ بْنِ يَزِيدَ (8) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْسِنُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّ ذَلِكَ يُعْرَض عَلَيْهِ. قَالَ: فَقَالُوا لَهُ: فَعَلّمنا. قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ، وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ. اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُه بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ، اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ [وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ] (9) ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. (10)
وَهَذَا مَوْقُوفٌ، وَقَدْ رَوَى إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -أَوْ: عُمَرَ -عَلَى الشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي قَرِيبًا مِنْ هَذَا (11) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (12) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا مَالِكُ بن إسماعيل، حدثنا أبو
__________
(1) في أ: "اللهم عَلِّ بناء الناس بناءه".
(2) في أ: "وأتم".
(3) رواه أبو نعيم في عوالي سعيد بن منصور برقم (18) فقال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا مسعدة بن سعد، حدثنا سعيد بن منصور فذكره، ورواه الحنائي في الفوائد (10/162/ب) - كما في حاشية العوالي - من طريق يزيد بن هارون، به.
(4) في ف: "سلام".
(5) سلامة الكندي ذكره البخاري في التاريخ الكبير (4/195) وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/300) وأشار ابن أبي حاتم إلى هذا الحديث وقال: "مرسل".
(6) المعجم الأوسط برقم (4653) "مجمع البحرين" لكن فيه: "حدثنا مسعدة بن سعد، حدثنا سعيد بن منصور" فلعل الحافظ نقله هنا من مسند العشرة.
(7) زيادة من ت، ف، وابن ماجه.
(8) في ت: "وروى ابن ماجه بإسناده".
(9) زيادة من ت، ف، وابن ماجه.
(10) سنن ابن ماجه برقم (906) وقال البوصيري في الزوائد (1/311) : "هذا إسناد رجاله ثقات إلا أن المسعودي واسمه عبد الرحمن بن عتبة بن مسعود اختلط بآخره، ولم يتميز حديثه الأول بالآخر، فاستحق الترك. قاله ابن حبان".
(11) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (62) .
(12) في ت: "وروى".(6/462)
إِسْرَائِيلَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّاب قَالَ: خَطَبْنَا بِفَارِسَ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، فَقَالَ: أَنْبَأَنِي مَنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هَكَذَا أُنْزِلَ. فَقُلْنَا -أَوْ: قَالُوا -يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلمنا السَّلَامَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ، صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ، كَمَا رَحِمْتَ آلَ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، [وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ] (1) (2) .
فَيَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ التَّرَحُّمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: اللَّهُمَّ، ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ حَجَرْتَ (3) وَاسِعًا".
وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ مَنْعَهُ، قَالَ: وَأَجَازَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ (4) قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (5) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا صَلَّى عَلَيَّ، فَلْيُقِلَّ عَبْدٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِيُكْثِرْ".
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، بِهِ (6) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (7) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، وَيُونُسُ -هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ -قَالَا حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى دَخَلَ نَخْلًا فَسَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، حَتَّى خِفْتُ -أَوْ: خَشِيتُ -أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ تَوَفَّاهُ أَوْ قَبَضَهُ. قَالَ: فَجِئْتُ أَنْظُرُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "مَا لَكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ؟ " قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: "إِنَّ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ لِي: أَلَا أُبَشِّرُكَ؟ إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلِيْتُ عَلَيْهِ، ومَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سلمتُ عَلَيْهِ" (8) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا عمرو بن أبي عمرو، من عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: خَرَجَ (9) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَجَّهُ نَحْوَ صَدَقَتِهِ، فَدَخَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فخر ساجدا، فأطال
__________
(1) زيادة من ت، أ، والطبري.
(2) تفسير الطبري (22/31) .
(3) في أ: "تحجرت".
(4) في أ: "عبد الله".
(5) في ف: "رسول الله".
(6) المسند (3/445) وسنن ابن ماجه برقم (907) .
(7) في ت: "وروى".
(8) المسند (1/191)
(9) في هـ: "قال" وفي ت، ف، أ: "قام" والمثبت من المسند.(6/463)
السُّجُودَ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَبَضَ نَفْسَهُ فِيهَا، فَدَنَوْتُ مِنْهُ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟ " فَقُلْتُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ. قَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَجَدْتَ سَجْدَةً خَشِيتُ أَنْ [يَكُونَ] (1) اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، قَبَضَ نَفْسَكَ فِيهَا. فَقَالَ: "إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَبَشَّرَنِي أَنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ لَكَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلِّيْتُ عَلَيْهِ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ -فسجدتُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، شُكْرًا" (2) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (3) [الْحَافِظُ] (4) أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ بَحير بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَحِيرِ بْنِ رَيْسَانَ، [حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقَةَ] (5) ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ (6) بْنُ عُمَرَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ (7) ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي، عَنِ الْأُسُودِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَةٍ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَتْبَعُهُ، فَفَزِعَ عُمَرُ، فَأَتَاهُ بِمطْهَرة مِنْ خَلْفِهِ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدًا فِي مَشربة (8) ، فَتَنَحَّى عَنْهُ مِنْ خَلْفِهِ حَتَّى رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: "أَحْسَنْتَ يَا عُمَرُ حِينَ وَجَدْتَنِي سَاجِدًا فَتَنَحَّيْتَ عَنِّي، إِنْ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ مِنْ أُمَّتِكَ وَاحِدَةً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ (9) ، وَرَفَعَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ".
وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْحَدِيثَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ "الْمُسْتَخْرَجُ (10) عَلَى الصَّحِيحَيْنِ" (11) .
وَقَدْ رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَرْدان، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عُمَرَ بِنَحْوِهِ (12) .
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَرْدان، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، بِنَحْوِهِ (13) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (14) أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا بُنْدَار، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَيْسَان؛ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً".
تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ التِّرْمِذِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ (15) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ لِي: مَا مِنْ عبد يصلي عليك صلاة إلا
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(2) المسند (1/191) .
(3) في ت: "وروى".
(4) زيادة من ت.
(5) زيادة من المعجم الصغير.
(6) في أ: "عبيد الله".
(7) في أ "عيينة".
(8) في أ: "مسرية".
(9) في ت، ف: "عشرا".
(10) في ف، أ: "المختارة".
(11) المعجم الصغير (2/89) والمختارة برقم (93) . وقال الطبراني: "لم يروه عن عبيد الله بن عمر إلا يحيى بن أيوب، تفرد به عمرو بن الربيع".
(12) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (4) .
(13) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (5) .
(14) في ت: "وروى".
(15) سنن الترمذي برقم (484) .(6/464)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا". فَقَامَ رَجُلٌ (1) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَجْعَلُ نِصْفَ دُعَائِي لَكَ؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتَ". قَالَ: أَلَا أَجْعَلُ ثُلُثَيْ دُعَائِي لَكَ؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتَ". قَالَ: أَلَا أَجْعَلُ دُعَائِي لَكَ كُلَّهُ؟ قَالَ: "إِذَنْ يَكْفِيكَ اللَّهُ هَمَّ الدِّينَا وَهَمَّ الْآخِرَةِ". فَقَالَ شَيْخٌ -كَانَ بِمَكَّةَ، يُقَالُ لَهُ: مَنِيع (2) -لِسُفْيَانَ: عَمَّنْ أَسْنَدَهُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي (3) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلام الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ -يَعْنِي: الثَّوْرِيِّ -عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: "جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ". قَالَ أُبَيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، أَفَأَجْعَلُ لَكَ ثُلُثَ صَلَاتِي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّطْرُ". قَالَ: أَفَأَجْعَلُ لَكَ شَطْرَ صَلَاتِي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الثُّلُثَانِ". قَالَ أَفَأَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: "إِذَنْ يَغْفِرُ اللَّهُ ذَنْبَكَ كُلَّهُ" (4) .
وَقَدْ رَوَاهُ (5) التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا هَنّاد، حَدَّثَنَا قَبِيصة، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيل، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا اللَّهَ، اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ". قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ قَالَ: "مَا شِئْتَ". قُلْتُ: الرُّبْعُ؟ قَالَ: "مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ". قُلْتُ: فَالنِّصْفُ؟ قَالَ: "مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ". قُلْتُ: فَالثُّلْثَيْنِ؟ قَالَ: "مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ". قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: "إِذَنْ تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ".
ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ (6) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيل، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيٍّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جعلتُ صَلَاتِي كُلَّهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ: "إِذَنْ يَكْفِيكَ اللَّهُ مَا أهَمَّك مِنْ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ" (7) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ، وَالسُّرُورُ يُرَى فِي وَجْهِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَرَى السُّرُورَ فِي وَجْهِكَ. فَقَالَ: "إِنَّهُ أَتَانِي الْمَلَكُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا يُرْضِيكَ أَنَّ رَبَّكَ، عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْكَ أَحَدٌ من أمتك
__________
(1) في أ: "فقام إليه رجل".
(2) في أ: "سبع".
(3) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (13) .
(4) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (14) .
(5) في ت: "وروى".
(6) سنن الترمذي برقم (2457) .
(7) المسند (5/136) .(6/465)
إِلَّا صلَّيت عَلَيْهِ عَشْرًا، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا؟ قَالَ: بَلَى".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ (1) . وَقَدْ رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، عن إسماعيل ابن أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، بِنَحْوِهِ (2) ، (3) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ [الْإِمَامُ] (4) أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيْج (5) ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَر، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَة، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا طَيِّبَ النَّفْسِ، يُرى فِي وَجْهِهِ الْبَشَرُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصْبَحْتُ الْيَوْمَ طَيِّبَ النَّفْسِ، يُرى فِي وَجْهِكَ الْبِشْرُ؟ قَالَ: "أَجَلْ، أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ مِنْ أُمَّتِكَ صَلَاةً، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهَا" (6) .
وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَلَمْ يُخْرِّجُوهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى (7) مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى عَلَيّ وَاحِدَةً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَمَّارٍ، وَأَبِي طَلْحَةَ، وَأَنَسٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (8) .
وَقَالَ (9) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهَا زَكَاةٌ لَكُمْ. وَسَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ؛ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ، لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (10) ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِنَحْوِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ البَكَّالي، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عُلَيَّة، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهَا زَكَاةٌ لَكُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ لِيَ الدَّرَجَةَ الْوَسِيلَةَ مِنَ الْجَنَّةِ" فَسَأَلْنَاهُ -أَوْ: أَخْبَرَنَا -فَقَالَ: "هِيَ دَرَجَةٌ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَهِيَ لِرَجُلٍ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلُ".
__________
(1) المسند (4/30) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9888) .
(2) في ف: "بمثله".
(3) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (1) .
(4) زيادة من ف.
(5) في أ:"شريح".
(6) المسند (4/29) .
(7) في ت: "وروى".
(8) صحيح مسلم برقم (408) وسنن أبي داود برقم (1530) وسنن الترمذي برقم (485) وسنن النسائي (3/50) .
(9) في ت: "وروى".
(10) المسند (2/365) .(6/466)