قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
الْقُرْآنُ، {يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ} جَمْعُ ذَقْن، وَهُوَ أَسْفَلُ الْوَجْهِ {سُجَّدًا} أَيْ: لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، مِنْ جَعْلِهِ إِيَّاهُمْ أَهْلًا إِنْ أَدْرَكُوا هَذَا الرَّسُولَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ [هَذَا] (1) الْكِتَابُ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: {سُبْحَانَ رَبِّنَا} أَيْ: تَعْظِيمًا وَتَوْقِيرًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ الَّذِي وَعَدَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ [الْمُتَقَدِّمِينَ عَنْ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} ] (2) .
وَقَوْلُهُ: {وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ} أَيْ: خُضُوعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِيمَانًا وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، وَيَزِيدُهُمُ اللَّهُ خُشُوعًا، أَيْ: إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا كَمَا قَالَ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 17] .
وَقَوْلُهُ: {وَيَخِرُّونَ} عَطْفُ صِفَةٍ عَلَى صِفَةٍ لَا عَطْفُ سُجُودٍ عَلَى سُجُودٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إلَى المَلك القَرْم وَابْنِ الهُمام ... وَلَيْث الكَتِيبَة في المُزْدَحَمْ ...
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) } .
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، الْمَانِعِينَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِالرَّحْمَنِ: {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} أَيْ: لَا فَرْقَ بَيْنَ دُعَائِكُمْ لَهُ بِاسْمِ "اللَّهِ" أَوْ بِاسْمِ (3) " الرَّحْمَنِ "، فَإِنَّهُ ذُو الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} إِلَى أَنْ قَالَ: {لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الْحَشْرِ: 22 -24] .
وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ (4) أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: "يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ"، فَقَالَ: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَدْعُو وَاحِدًا، وَهُوَ يَدْعُو اثْنَيْنِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} الْآيَةَ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا هُشَيْم، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ (5) سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ (6) هَذِهِ الْآيَةُ وَهُوَ مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا [وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا] } (7) قَالَ: كَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَسَبُّوا مَنْ أَنْزَلَهُ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ. قَالَ: فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أَيْ: بِقِرَاءَتِكَ فيسمع المشركون فيسبوا القرآن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ت، ف.
(3) في ت: "واسم".
(4) تفسير الطبري (15/121) وكأن الحافظ اختصره هنا.
(5) في ف: "حدثنا".
(6) في ت: "قرأت".
(7) زيادة من أ.(5/128)
{وَلا تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمُ الْقُرْآنَ حَتَّى يَأْخُذُوهُ عَنْكَ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} .
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، بِهِ (1) وَكَذَا رَوَى (2) الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ: "فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، سَقَطَ ذَلِكَ، يَفْعَلُ أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ" (3) .
وَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَهَرَ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلِّي، تَفَرَّقُوا عَنْهُ وَأَبَوْا أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَمِعَ (4) مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ مَا يَتْلُو وَهُوَ يُصَلِّي، اسْتَرَقَ السَّمْعَ دُونَهُمْ فَرَقًا مِنْهُمْ، فَإِنْ رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ يَسْتَمِعُ (5) ، ذَهَبَ خَشْيَةَ أَذَاهُمْ فَلَمْ يَسْتَمِعْ (6) ، فَإِنْ خَفَضَ صَوْتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (7) لَمْ يَسْتَمِعِ الَّذِينَ (8) يَسْتَمِعُونَ مِنْ قِرَاءَتِهِ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} فَيَتَفَرَّقُوا عَنْكَ {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} فَلَا تُسمع مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَهَا مِمَّنْ يَسْتَرِقُ ذَلِكَ دُونَهُمْ، لَعَلَّهُ يَرْعَوِي إِلَى بَعْضِ مَا يَسْمَعُ، فَيَنْتَفِعَ بِهِ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا}
وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ (9) عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَمْ يُخافتْ بِهَا مَنْ أَسْمَعَ أُذُنَيْهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، عَنْ سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إِذَا صَلَّى فَقَرَأَ خَفَضَ صَوْتَهُ، وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: أُنَاجِي رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ عَلِمَ حَاجَتِي. فَقِيلَ: أَحْسَنْتَ. وَقِيلَ لِعُمَرَ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: أَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَأُوقِظُ الوَسْنَان. قِيلَ أَحْسَنْتَ. فَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ: ارْفَعْ شَيْئًا، وَقِيلَ لِعُمَرَ: اخْفِضْ شَيْئًا (10) .
وَقَالَ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّار، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ. وَهَكَذَا رَوَى الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عِياض، وَمَكْحُولٌ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ [ابْنِ] (11) عَيَّاشٍ الْعَامِرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: كَانَ أَعْرَابٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ إِذَا سَلَّمَ النَّبِيُّ (12) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا إِبِلًا وَوَلَدًا. قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا}
__________
(1) المسند (1/23) وصحيح البخاري برقم (2722) وصحيح مسلم برقم (446) .
(2) في ف: "رواه".
(3) رواه الطبري في تفسيره (15/123) .
(4) في ت، ف: "يسمع".
(5) في ت، ف: "يسمع".
(6) في ت: "يسمع".
(7) في ف: "وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته".
(8) في ت: "ولم يسمع الذي".
(9) في هـ، ت: "عن أبي سليم". والمثبت من الطبري
(10) تفسير الطبري (15/124) .
(11) زيادة من ف.
(12) في ف، أ: "رسول الله".(5/129)
قَوْلٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، نَزَلَتْ (1) هَذِهِ الْآيَةُ فِي التَّشَهُّدِ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا}
وَبِهِ قَالَ حَفْصٌ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، مِثْلَهُ.
قَوْلٌ آخَرُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ: لَا تُصَلِّ مُرَاءَاةَ النَّاسِ، وَلَا تَدَعَهَا مَخَافَةَ النَّاسِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ: لَا تُحْسِنْ عَلَانِيَتَهَا وَتُسِيءَ سَرِيرَتَهَا. وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الْحَسَنِ، بِهِ. وهُشَيْم، عَنْ عَوْفٍ، عَنْهُ بِهِ. وَسَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْهُ كَذَلِكَ.
قَوْلٌ آخَرُ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} قَالَ: أَهْلُ الْكِتَابِ يُخَافِتُونَ، ثُمَّ يَجْهَرُ أَحَدُهُمْ بِالْحَرْفِ فَيَصِيحُ بِهِ، وَيَصِيحُونَ هُمْ بِهِ وَرَاءَهُ، فَنَهَاهُ أَنْ يَصِيحَ كَمَا يَصِيحُ هَؤُلَاءِ، وَأَنْ يُخَافِتَ كَمَا يُخَافِتُ الْقَوْمُ، ثُمَّ كَانَ السَّبِيلُ الَّذِي بَيْنَ ذَلِكَ، الَّذِي سَنَّ لَهُ جِبْرِيلُ مِنَ الصَّلَاةِ.
وَقَوْلُهُ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} لَمَّا أَثْبَتَ تَعَالَى لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى، نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ النَّقَائِصِ فَقَالَ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} بَلْ هُوَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} أَيْ: لَيْسَ بِذَلِيلٍ فَيَحْتَاجَ (2) أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِيٌّ أَوْ وَزِيرٌ أَوْ مُشِيرٌ، بَلْ هُوَ تَعَالَى [شَأْنُهُ] (3) خَالِقُ الْأَشْيَاءِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمُقَدِّرُهَا وَمُدَبِّرُهَا (4) بِمَشِيئَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} لَمْ يُحَالِفْ أَحَدًا وَلَا يَبْتَغِي (5) نَصْرَ أَحَدٍ.
{وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} أَيْ: عظِّمه وأَجِلَّه عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنِ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَقَالَ (6) الْعَرَبُ: [لَبَّيْكَ] (7) لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ؛ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَقَالَ الصَّابِئُونَ وَالْمَجُوسُ: لَوْلَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَذَلَّ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، [حَدَّثَنَا يَزِيدُ] (8) حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
__________
(1) في ت: "أنزلت".
(2) في أ: "فلا يحتاج".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت، ف: "ومدبرها ومقدرها".
(5) في ف: "ولم يبتغ".
(6) في ت، ف، أ: "وقالت".
(7) زيادة من ف.
(8) زيادة من ت، ف، أ.(5/130)
يُعَلِّمُ أَهْلَهُ هَذِهِ الْآيَةَ {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} الصَّغِيرَ مِنْ أَهْلِهِ (1) وَالْكَبِيرَ.
قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهَا آيَةَ الْعِزِّ (2) وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّهَا مَا قُرِئَتْ فِي بَيْتٍ فِي لَيْلَةٍ فَيُصِيبَهُ سَرَقٌ أَوْ آفَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ سَيْحَانَ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا حرب بن ميمون، حدثنا موسى ابن عُبَيْدَةَ الرَّبَذي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدِي فِي يَدِهِ، فَأَتَى عَلَى رَجُلٍ رَثِّ الْهَيْئَةِ، فَقَالَ: "أَيْ فُلَانُ، (3) مَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى؟ ". قَالَ: السَّقَمُ وَالضُّرُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "أَلَّا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تُذْهِبُ عَنْكَ السَّقَمَ وَالضُّرَّ؟ ". قَالَ: لَا قَالَ: مَا يَسُرُّنِي بِهَا (4) أَنْ شَهِدْتُ مَعَكَ بَدْرًا أَوْ أَحَدًا. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "وَهَلْ يُدْرِكُ أَهْلُ بَدْرٍ وَأَهْلُ أُحُدٍ مَا يُدْرِكُ الْفَقِيرُ الْقَانِعُ؟ ". قَالَ: فَقَالَ (5) أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِيَّايَ فَعَلِّمْنِي قَالَ: فَقُلْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ: "تَوَكَّلْتُ عَلَى (6) الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ، وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا". قَالَ: فَأَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ وَقَدْ حَسُنَت حَالِي، قَالَ: فَقَالَ لِي: "مَهْيم". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَزَلْ (7) أَقُولُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي عَلَّمْتَنِي (8) .
إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَفِي مَتْنِهِ نكارة. [والله أعلم] (9) .
__________
(1) في ف "منهم".
(2) رواه أحمد في مسنده (3/440) من حديث معاذ بن أنس مرفوعا: "آية العز: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) . الْآيَةَ كلها".
(3) في ت: "أني تلك".
(4) في ت: "لا يرى بها".
(5) في ت: "فقال قال".
(6) في ت: "صلى".
(7) في ت: "لم أنزل".
(8) مسند أبى يعلى (12/23) وقال الهيثمي في المجمع (7/52) : "وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف".
(9) زيادة من ف، أ.
ووقع في ت: "آخر تفسير سورة الإسراء، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة، غفر الله لكاتبه ولمن قرأ فيه ولوالديه ولمشايخه ولجميع المسلمين أجمعين آمين".(5/131)
[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ] (1)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْكَهْفِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِهَا، وَالْعَشَرِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، وَأَنَّهَا عِصْمَةٌ مِنَ الدَّجَّالِ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: قَرَأَ رَجُلٌ الْكَهْفَ، وَفِي الدَّارِ دَابَّةٌ، فَجَعَلَتْ تَنْفِرُ، فَنَظَرَ فَإِذَا ضَبَابَةٌ -أَوْ: سَحَابَةٌ-قَدْ غَشِيَتْهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " اقْرَأْ فُلَانُ، فَإِنَّهَا السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ عِنْدَ الْقُرْآنِ، أَوْ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ ".
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، بِهِ (2) . وَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يَتْلُوهَا هُوَ: أسَيْدُ بْنُ الحُضَيْر، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حدثنا يزيد، أخبرنا هَمّام بن يحيى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ حَفظ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، عُصِم مِنَ الدَّجَّالِ ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ (4) مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بِهِ (5) . وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: " مَنْ حَفِظَ الثَّلَاثَ الْآيَاتَ مَنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ " وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ] الْإِمَامُ [ (6) أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ يُحَدِّثُ عَنْ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " من قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِم مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، بِهِ (7) . وَفِي لَفْظِ النَّسَائِيِّ: " مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنَ الْكَهْفِ "، فَذَكَرَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي " الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ " عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ ثَوْبان عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ، فَإِنَّهُ عِصْمَةٌ لَهُ مِنَ الدَّجَّالِ " (8) .
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ سالما سمعه من ثوبان ومن
__________
(1) زيادة من ت
(2) المسند (4/281) وصحيح البخاري برقم (3614) وصحيح مسلم برقم (795) .
(3) في أول تفسير سورة البقرة، في فضلها.
(4) في ف: "الترمذي والنسائي".
(5) المسند (5/196) وصحيح مسلم برقم (809) وسنن أبي داود برقم (4323) وسنن النسائي الكبري برقم (8025) وسنن الترمذي برقم (2886) .
(6) زيادة من ف.
(7) المسند (6/446) وصحيح مسلم برقم (809) وسنن النسائي الكبري برقم (10786) .
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (10784) .(5/133)
أَبِي الدَّرْدَاءِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا زبَّان بْنُ فَايِدٍ (1) عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَرَأَ أَوَّلَ سُورَةِ الْكَهْفِ وَآخِرَهَا، كَانَتْ لَهُ نُورًا مِنْ قَدَمِهِ إِلَى رَأْسِهِ، وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا مَا بَيْنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ " (2) انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ (3) (4)
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويْه [فِي تَفْسِيرِهِ] (5) بِإِسْنَادٍ لَهُ غَرِيبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، سَطَعَ لَهُ نُورٌ مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، يُضِيءُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وغُفر لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ " (6) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي رَفْعِهِ نَظَرٌ، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ الْوَقْفُ.
وَهَكَذَا رَوَى (7) الْإِمَامُ: " سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ " فِي سُنَنِهِ، عَنْ هُشَيْم بْنِ بشيرٍ (8) ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ (9) ، عَنْ أَبِي مِجْلَز، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ (10) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
هَكَذَا وَقَعَ مَوْقُوفًا، وَكَذَا (11) رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ (12) ، بِهِ (13) . مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ (14) بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّعراني، حَدَّثَنَا نُعَيم بْنُ حمَّاد، حَدَّثَنَا هُشَيْم، حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي (15) مِجْلَز، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَاد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ "، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ الْحَاكِمِ (16) ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كما أنزلت كانت
__________
(1) في ت: "زياد بن واقد"، وفي ف: "ثوبان بن فايد".
(2) في ف: "السماء والأرض".
(3) في ت: "يخرجه".
(4) المسند (4/439) .
(5) زيادة من ف.
(6) ذكره المنذرى في الترغيب (1/513) وقال: "رواه ابن مرديه بإسناد لا بأس به".
(7) في ت: "رواه".
(8) في ت: "بشر".
(9) في ت، أ: "هشام".
(10) في ف: "عبادة".
(11) في ت: "وهكذا".
(12) في ت: "هشام".
(13) وروراه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص131) قال: حدثنا هشيم به موقوفا. وسيأتي الاختلاف على هشيم. أما رواية الثوري: فرواها النسائي في السنن الكبرى برقم (10790) من طريق عبد الرحمن عن سفيان الثوري به موقوفا.. وقد حقق الفاضل محمد طرهوني في كتابه "موسوعة فضائل القرآن" (1/337) روايتي الرفع والوقف فأجاد وأفاد، جزاه الله خيرا، ثم رجح أنه موقوف في حكم المرفوع.
(14) في ت: "الفضل".
(15) في ت: "أبو".
(16) المستدرك (2/368) والسنن الكبرى للبيهقي (3/249) .(5/134)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". (1) [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (2) .
وَفِي " الْمُخْتَارَةِ " لِلْحَافِظِ الضِّيَاءِ الْمُقَدِّسِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ (3) مُصْعَبِ بْنِ مَنْظُورِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ مَرْفُوعًا: " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَهُوَ مَعْصُومٌ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ، وَإِنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ عُصِمَ مِنْهُ " (4) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[رَبِّ وَفِّقْنِي] (5)
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) }
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (428) "مجمع البحرين" واختلف فيه على شعبة، فرواه غندر عن شعبة موقوفا.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "عن".
(4) المختارة برقم (430) وقال: "عبد الله بن مصعب لم يذكره البخاري، ولا ابن أبي حاتم في كتابيهما".
(5) زيادة من ت.(5/135)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا (5) } .
قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ تَعَالَى يَحْمَدُ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ عِنْدَ (1) فَوَاتِحَ الْأُمُورِ وَخَوَاتِيمِهَا، فَإِنَّهُ الْمَحْمُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى إِنْزَالِهِ كِتَابَهُ الْعَزِيزَ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ نِعْمَةً (2) أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؛ إِذْ أَخْرَجَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، حَيْثُ جَعَلَهُ كِتَابًا مُسْتَقِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا زَيْغَ، بَلْ يَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، بَيِّنًا وَاضِحًا جَلِيًّا (3) نَذِيرًا لِلْكَافِرِينَ وَبَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} أَيْ: لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ اعْوِجَاجًا وَلَا زَيْغًا وَلَا مَيْلًا بَلْ جَعَلَهُ مُعْتَدِلًا مُسْتَقِيمًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {قَيِّمًا} أَيْ: مُسْتَقِيمًا.
{لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} أَيْ: لِمَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، يُنْذِرُهُ بَأْسًا شَدِيدًا، عُقُوبَةً عَاجِلَةً فِي الدُّنْيَا وَآجِلَةً فِي الْآخِرَةِ {مِنْ لَدُنْهُ} أَيْ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُعَذّب عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ.
{وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: بِهَذَا الْقُرْآنِ الَّذِينَ صَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} أَيْ: مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ جَمِيلَةً
{مَاكِثِينَ فِيهِ} فِي ثَوَابِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، خَالِدِينَ فِيهِ {أَبَدًا} دَائِمًا لَا زَوَالَ لَهُ وَلَا انْقِضَاءَ.
{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ (4) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ
__________
(1) في ت: "عن".
(2) في ف" "نعم".
(3) في ت: "جليل".
(4) في ت: "الذي" وهو خطأ.(5/135)
نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ.
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أَيْ: بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي افْتَرَوْهُ وَائْتَفَكُوهُ مِنْ عِلْمٍ {وَلا لآبَائِهِمْ} أَيْ: أَسْلَافِهِمْ.
{كَبُرَتْ كَلِمَةً} : نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، تَقْدِيرُهُ: كَبُرَتْ كَلِمَتُهُمْ هَذِهِ كَلِمَةً.
وَقِيلَ: عَلَى التَّعَجُّبِ، تَقْدِيرُهُ: أَعْظِمْ بِكَلِمَتِهِمْ كَلِمَةً، كَمَا تَقُولُ: أَكْرِمْ بِزَيْدٍ رَجُلًا قَالَهُ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ مَكَّةَ: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} كَمَا يُقَالُ: عَظُم قولُك، وَكَبُرَ (1) شأنُك.
وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّ هَذَا تَبْشِيعٌ لِمَقَالَتِهِمْ (2) وَاسْتِعْظَامٌ لِإِفْكِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أَيْ: لَيْسَ لَهَا مُسْتَنَدٌ سِوَى قَوْلِهِمْ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهَا إِلَّا كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} .
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ قَدِمَ عَلَيْنَا مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيط، إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَصِفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ، وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ؛ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ. فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلُوا أَحْبَارَ يَهُودَ (3) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَصَفُوا لَهُمْ (4) أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَالَا (5) إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا. قَالَ: فَقَالَتْ لَهُمْ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِن، فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتَقَول فَرَوا فِيهِ رَأْيَكُمْ: سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ، مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ؟ فَإِنَّهُمْ (6) قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ. وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، مَا كَانَ نبَؤه (7) ؟ [وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، مَا هُوَ؟] (8) فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَإِنَّهُ رَجُلٌ مُتَقَوِّلٌ، فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ.
فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ حَتَّى قَدِمَا عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِهَا، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنَا: فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ، فَقَالَ (9) لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُخْبِرُكُمْ غَدًا بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ". وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، لَا يُحدث اللَّهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى أَرْجَفَ (10) أَهْلُ مَكَّةَ وَقَالُوا: وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا، وَالْيَوْمُ خمسَ عشرةَ قَدْ أَصْبَحْنَا فِيهَا، لَا يُخبرنا بِشَيْءٍ عَمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ. وَحَتَّى أحزنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكثُ الْوَحْيِ عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ، وخَبَر مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْفِتْيَةِ (11) وَالرَّجُلِ الطَّوَّافِ، وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الْإِسْرَاءِ:85] (12)
__________
(1) في ت: "وعظم".
(2) في ت: "لمقالهم".
(3) في ت: "يهودي".
(4) في أ: "له".
(5) في ت: "وقال".
(6) في أ: "فإنه".
(7) في ت، أ: "بناؤه".
(8) زيادة من الطبري.
(9) في ت: فقالوا".
(10) في ت: "أوجب".
(11) في ت: "الفقيه".
(12) رواه الطبري في تفسيره (15/127) .(5/136)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) فِي حُزْنِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لِتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ وَبُعْدِهِمْ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فَاطِرٍ:8] ، وَقَالَ {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النَّحْلِ:127] ، وَقَالَ {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشُّعَرَاءِ:3] (2) (3)
بَاخِعٌ: أَيْ مَهْلِكٌ نَفْسَكَ بِحُزْنِكَ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {أَسَفًا} يَقُولُ: لَا تُهْلِكْ نَفْسَكَ أَسَفًا.
قَالَ قَتَادَةُ: قَاتِل نَفْسَكَ غَضَبًا وَحُزْنًا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَزَعًا. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، أَيْ: لَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ، بَلْ أَبْلِغْهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ، فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارًا فَانِيَةً مُزيَّنة بِزِينَةٍ زَائِلَةٍ. وَإِنَّمَا جَعَلَهَا دَارَ اخْتِبَارٍ لَا دَارَ قَرَارٍ، فَقَالَ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} .
قَالَ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ (4) وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ مَاذَا تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا (5) ، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ" (6)
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِزَوَالِهَا وَفَنَائِهَا، وَفَرَاغِهَا وَانْقِضَائِهَا، وَذَهَابِهَا وَخَرَابِهَا، فَقَالَ: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} أَيْ: وَإِنَّا لَمُصَيِّرُوهَا بَعْدَ الزِّينَةِ إِلَى الْخَرَابِ وَالدَّمَارِ، فَنَجْعَلُ كُلَّ شَيْءٍ عَلَيْهَا هَالِكًا {صَعِيدًا جُرُزًا} : لَا يُنْبِت وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، كَمَا قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} يَقُولُ: يَهْلَكُ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا وَيَبِيدُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {صَعِيدًا جُرُزًا} بَلْقَعًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الصَّعِيدُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا نَبَاتٌ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الصَّعِيدُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السَّجْدَةِ:27] (7) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} يَعْنِي الْأَرْضَ، إِنَّ مَا عَلَيْهَا لِفَانٍ وَبَائِدٌ، وَإِنَّ الْمَرْجِعَ لَإِلَى اللَّهِ (8) فَلَا تَأْسَ ولا يحزنك ما تسمع وترى.
__________
(1) في أ: "صلوات الله وسلامه عليه".
(2) في ت: "ولعلك"، وفي أ: "لعلكم" وهو خطأ.
(3) في ت، أ: "على ألا" وهو خطأ.
(4) في ف، أ: "حلوة خضرة".
(5) في أ: "يعلمون، واتقوا الدنيا".
(6) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2742) من طريق أبي مسلمة عن أبي نضرة به.
(7) في أ: "أفلا تبصرون".
(8) في ت: "المرجع إلى الله"، وفي ف، أ: "إلى الله المرجع".(5/137)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) }
هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ (1) الْكَهْفِ [وَالرَّقِيمِ] (2) عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَالِاخْتِصَارِ، ثُمَّ بَسَطَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: {أَمْ حَسِبْتَ} يَعْنِي: يَا مُحَمَّدُ {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} أَيْ: لَيْسَ أَمْرُهُمْ عَجِيبًا (3) فِي قُدْرَتِنَا وَسُلْطَانِنَا، فَإِنَّ خلْق السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلَافَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَسْخِيرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ (4) وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَعْجَبُ مِنْ أَخْبَارِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ [وَالرَّقِيمِ] (5) كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ (6) عَنْ مُجَاهِدٍ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} يَقُولُ: قَدْ كَانَ مِنْ آيَاتِنَا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ!
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} يَقُولُ: الَّذِي آتَيْتُكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْكِتَابِ، أَفْضَلُ مِنْ شَأْنِ أَصْحَابِ (7) الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَا أَظْهَرْتُ (8) مِنْ حُجَجِي عَلَى الْعِبَادِ، أَعْجَبَ مِنْ شَأْنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ.
[وَأَمَّا "الْكَهْفُ" فَهُوَ: الْغَارُ فِي الْجَبَلِ، وَهُوَ الَّذِي لَجَأَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ الْمَذْكُورُونَ. وَأَمَّا "الرَّقِيمُ"] (9) فَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ وَادٍ قَرِيبٌ مِنْ أيلَة. وَكَذَا قَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَقَتَادَةُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَمَّا "الْكَهْفُ" فَهُوَ: غَارُ الْوَادِي، وَ "الرَّقِيمُ": اسْمُ الْوَادِي.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الرَّقِيمُ": كَانَ (10) بُنْيَانَهُمْ (11) وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْوَادِي الَّذِي فِيهِ كَهْفُهُمْ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: "الرَّقِيمُ"، قَالَ: يَزْعُمُ كَعْبٌ أَنَّهَا الْقَرْيَةُ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الرَّقِيمُ" الْجَبَلُ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ [مُجَاهِدٍ عَنِ] (12) ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْمُ ذَلِكَ الْجَبَلِ بَنْجَلُوسُ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَّائِيِّ: أَنَّ اسْمَ جَبَلِ الْكَهْفِ بَنْجَلُوسُ، واسم الكهف حيزم، والكلب حمران.
__________
(1) في أ: "أهل".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت، ف، أ: "عجيب".
(4) في ت: "قدير".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ت: "جرير".
(7) في ت: "أصحاب أهل".
(8) في ت: "ما أظهر".
(9) زيادة من ف.
(10) في أ: "كتاب".
(11) في ت: "كتابتهم بهم".
(12) زيادة من ف.(5/138)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقُرْآنُ أَعْلَمُهُ إِلَّا حَنَانًا، وَالْأَوَّاهَ، وَالرَّقِيمَ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَدْرِي مَا الرَّقِيمُ؟ أَكِتَابٌ أَمْ بُنْيَانٌ؟
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّقِيمُ: الْكِتَابُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: [الرَّقِيمُ] (1) لَوْحٌ مِنْ حِجَارَةٍ، كَتَبُوا فِيهِ قِصَصَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ (2) ثُمَّ وَضَعُوهُ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الرَّقِيمُ: الْكِتَابُ. ثُمَّ قَرَأَ: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [الْمُطَفِّفِينَ:9]
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ قَالَ: "الرَّقِيمُ" فَعِيلٌ بِمَعْنَى (3) مَرْقُومٍ، كَمَا يَقُولُ لِلْمَقْتُولِ: قَتِيلٌ، وَلِلْمَجْرُوحِ: جَرِيحٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أُولَئِكَ الْفِتْيَةِ، الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ لِئَلَّا يَفْتِنُوهُمْ عنه، فَهَرَبوا منه فَلَجَؤُوا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ لِيَخْتَفُوا عَنْ قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا حِينَ دَخَلُوا سَائِلِينَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَتَهُ وَلُطْفَهُ بِهِمْ: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أَيْ: هَبْ لَنَا مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً تَرْحَمُنَا بِهَا وَتَسْتُرُنَا عَنْ قَوْمِنَا {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} أَيْ: وَقَدِّرْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا هَذَا رَشَدًا، أَيْ: اجْعَلْ عَاقِبَتَنَا رَشَدًا (4) كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "وَمَا قَضَيْتَ لَنَا مِنْ قَضَاءٍ، فَاجْعَلْ عَاقِبَتَهُ رَشَدًا"، وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ بُسْر بْنِ أَبِي أَرْطَاةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كَانَ يَدْعُو: "اللَّهُمَّ، أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ".
وَقَوْلُهُ: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} أَيْ: أَلْقَيْنَا عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حِينَ دَخَلُوا إِلَى الْكَهْفِ، فَنَامُوا سِنِينَ كَثِيرَةً {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أَيْ: مِنْ رَقْدَتِهِمْ تِلْكَ، وَخَرَجَ أَحَدُهُمْ بِدَرَاهِمَ مَعَهُ (5) لِيَشْتَرِيَ لَهُمْ بِهَا طَعَامًا يَأْكُلُونَهُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} أَيِ: الْمُخْتَلِفَيْنِ فِيهِمْ {أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} قِيلَ: عَدَدًا وَقِيلَ: غَايَةً فَإِنَّ الْأَمَدَ الْغَايَةُ كَقَوْلِهِ (6)
سَبَقَ الجَوَاد إذَا اسْتَولى عَلَى الأمَد.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) }
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في أ: "أهل الكتاب".
(3) في ت: "من".
(4) في ت: "عاقبته رشد"، وفي ف، أ: "عاقبته رشدا".
(5) في ف، أ: "معينة".
(6) هو النابغة الذبيانى، والبيت في تفسير الطبرى (15/137) .(5/139)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16) }(5/139)
مِنْ هَاهُنَا شَرَعَ فِي بَسْطِ الْقِصَّةِ وَشَرْحِهَا، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ -وَهُمُ الشَّبَابُ-وَهُمْ أَقْبَلُ لِلْحَقِّ، وَأَهْدَى لِلسَّبِيلِ مِنَ الشُّيُوخِ، الَّذِينَ قَدْ عَتَوْا وعَسَوا (1) فِي دِينِ الْبَاطِلِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا. وَأَمَّا الْمَشَايِخُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَعَامَّتُهُمْ بَقُوا عَلَى دِينِهِمْ، وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَهَكَذَا (2) أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِتْيَةً شَبَابًا.
قَالَ مُجَاهِدٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي آذَانِ بَعْضْهِمُ الْقِرَطَةُ يَعْنِي: الحَلَق فَأَلْهَمَهُمُ اللَّهُ رُشْدَهُمْ وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ. فَآمَنُوا بِرَبِّهِمْ، أَيْ: اعْتَرَفُوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَشَهِدُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} : اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ (3) مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَفَاضُلِهِ، وَأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} كَمَا قَالَ {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [مُحَمَّدٍ:17] ، (4) وَقَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التَّوْبَةِ:124] ، وَقَالَ {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الْفَتْحِ:4] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ ذُكِرَ (5) أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ -وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ مِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّهُ (6) لَوْ كَانُوا عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، لَمَا اعْتَنَى أَحْبَارُ الْيَهُودِ بِحِفْظِ خَبَرِهِمْ وَأَمْرِهِمْ، لِمُبَايِنَتِهِمْ لَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ أَشْيَاءَ يَمْتَحِنُونَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ خَبَرِ هَؤُلَاءِ، وَعَنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَعَنِ الرُّوحِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مَحْفُوظٌ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} يَقُولُ تَعَالَى: وصَبَّرناهم عَلَى مُخَالَفَةِ قَوْمِهِمْ وَمَدِينَتِهِمْ، وَمُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ وَالسَّعَادَةِ وَالنِّعْمَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِ الرُّومِ وَسَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا يَوْمًا فِي بَعْضِ أَعْيَادِ قَوْمِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ مُجْتَمَعٌ فِي السَّنَةِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ فِي ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالطَّوَاغِيتَ، وَيَذْبَحُونَ لَهَا، وَكَانَ لَهُمْ مَلِكٌ جَبَّارٌ عَنِيدٌ يُقَالُ لَهُ: "دَقْيَانُوسُ"، وَكَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ وَيَحُثُّهُمْ عَلَيْهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ لِمُجْتَمَعِهِمْ ذَلِكَ، وَخَرَجَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ مَعَ آبَائِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، وَنَظَرُوا إِلَى مَا يَصْنَعُ قَوْمُهُمْ بِعَيْنِ بَصِيرَتِهِمْ، عَرَفُوا (7) أَنَّ هَذَا الَّذِي يَصْنَعُهُ قَوْمُهُمْ مِنَ السُّجُودِ لِأَصْنَامِهِمْ وَالذَّبْحِ لَهَا، لَا يَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ
__________
(1) في أ: "وغشوا".
(2) في ف: "وكذا".
(3) في ت: "ونحوه".
(4) في أ: "زدناهم" وهو خطأ.
(5) في ت: "ذكروا".
(6) في ف: "فإنهم".
(7) في ت، ف: "فعرفوا".(5/140)
مِنْهُمْ يَتَخَلَّصُ مِنْ قَوْمِهِ، وَيَنْحَازُ مِنْهُمْ (1) وَيَتَبَرَّزُ عَنْهُمْ نَاحِيَةً. فَكَانَ (2) أَوَّلُ مَنْ جَلَسَ مِنْهُمْ [وَحْدَهُ] (3) أَحَدَهُمْ، جَلَسَ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَجَاءَ الْآخَرُ فَجَلَسَ عِنْدَهُ، وَجَاءَ الْآخَرُ فَجَلَسَ إِلَيْهِمَا، وَجَاءَ الْآخَرُ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، وَجَاءَ الْآخَرُ، وَجَاءَ الْآخَرُ، وَجَاءَ الْآخَرُ، وَلَا يَعْرِفُ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْآخَرَ، وَإِنَّمَا جَمَعَهُمْ هُنَاكَ الَّذِي جَمَعَ قُلُوبَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدة، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ" (4) . وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلٍ (5) عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ (6) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (7) .
وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: الْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ.
وَالْغَرَضُ أَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ (8) أَحَدٍ مِنْهُمْ يَكْتُمُ مَا هُوَ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِهِ، خَوْفًا مِنْهُمْ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُمْ مِثْلُهُ، حَتَّى قَالَ أَحَدُهُمْ: تَعْلَمُونَ -وَاللَّهِ يَا قَوْمِ-إِنَّهُ مَا (9) أَخْرَجَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ وَأَفْرَدَكُمْ عَنْهُمْ، إِلَّا (10) شَيْءٌ فليظهر كل واحد منكم بِأَمْرِهِ. فَقَالَ آخَرُ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي [وَاللَّهِ] (11) رَأَيْتُ مَا قَوْمِي عَلَيْهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ [وَحْدَهُ] (12) وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ هُوَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ: السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا وَاللَّهِ وَقَعَ لِي كَذَلِكَ. وَقَالَ الْآخَرُ كَذَلِكَ، حَتَّى تَوَافَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً وَإِخْوَانَ صِدْقٍ، فَاتَّخَذُوا لَهُمْ مَعْبَدًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ، فَعَرَفَ بِهِمْ قَوْمُهُمْ، فَوَشَوْا بِأَمْرِهِمْ إِلَى مَلِكِهِمْ، فَاسْتَحْضَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ (13) فَأَجَابُوهُ بِالْحَقِّ، وَدَعَوْهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} ولن: لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ، أَيْ: لَا يَقَعُ مِنَّا هَذَا أَبَدًا؛ لِأَنَّا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لَكَانَ بَاطِلًا؛ وَلِهَذَا قَالَ عَنْهُمْ: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} أَيْ: باطِلا وَكَذِبًا وَبُهْتَانًا.
{هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أَيْ: هَلا أَقَامُوا عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ دَلِيلًا وَاضِحًا صَحِيحًا؟! {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} يَقُولُونَ: بَلْ هُمْ ظَالِمُونَ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، فَيُقَالُ: إِنَّ مَلِكَهُمْ لَمَّا دَعَوْهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، أَبَى عَلَيْهِمْ، وتَهَدّدهم وَتَوَعَّدَهُمْ، وَأَمَرَ بِنَزْعِ لِبَاسِهِمْ عَنْهُمُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ زِينَةِ قَوْمِهِمْ، وأجَّلهم لِيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ، لَعَلَّهُمْ يُرَاجِعُونَ دِينَهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ. وَكَانَ هَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِي تِلْكَ النَّظْرَةِ تَوَصَّلُوا إِلَى الْهَرَبِ مِنْهُ. وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ.
وَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِتَنِ فِي النَّاسِ، أَنْ يَفِرَّ الْعَبْدُ مِنْهُمْ خَوْفًا عَلَى دينه، كما جاء في
__________
(1) في ف، أ: "عنهم".
(2) في ت، ف: "وكان".
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (3336) .
(5) في أ: "سهل".
(6) في ف، أ: "عن رسول الله".
(7) صحيح مسلم برقم (2638) ..
(8) في ت: "وأنه جعل كل"، وفي ف: "أنه كل".
(9) في ت: "إنما".
(10) في ت: "لا".
(11) زيادة من ف.
(12) زيادة من ف.
(13) في ت: "عليهم".(5/141)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
الْحَدِيثِ: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خيرُ مَالِ أَحَدِكُمْ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْر، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ" (1) فَفِي هَذِهِ الْحَالِ تُشْرَعُ الْعُزْلَةُ عَنِ النَّاسِ، وَلَا تُشْرَعُ فِيمَا عَدَاهَا، لِمَا يَفُوتُ بِهَا مِنْ تَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعِ.
فَلَمَّا وَقَعَ عَزْمُهُمْ عَلَى الذَّهَابِ وَالْهَرَبِ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَاخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} أَيْ: وَإِذَا فَارَقْتُمُوهُمْ وَخَالَفْتُمُوهُمْ بِأَدْيَانِكُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، فَفَارِقُوهُمْ أَيْضًا بِأَبْدَانِكُمْ {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} أَيْ: يَبْسُطْ عَلَيْكُمْ رَحْمَةً (2) يَسْتُرُكُمْ بِهَا مِنْ قَوْمِكُمْ {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ} [أَيِ] (3) الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، {مِرفَقًا} أَيْ: أَمْرًا تَرْتَفِقُونَ بِهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَجُوا هُرابًا إِلَى الْكَهْفِ، فَأَوَوْا إِلَيْهِ، فَفَقَدَهُمْ قَوْمُهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وتَطَلَّبهم الْمَلِكُ فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ، وعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِ خَبَرَهُمْ. كَمَا فَعَلَ بِنَبِيِّهِ [مُحَمَّدٍ] (4) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ، حِينَ لَجَأَ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الطَّلَبِ، فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهِ مَعَ (5) أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى جَزَعَ الصِّدِّيقِ فِي قَوْلِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ (6) لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟ "، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التَّوْبَةِ:40] فَقِصَّةُ هَذَا الْغَارِ أَشْرَفُ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَعْجَبُ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ (7) الْكَهْفِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْمَهُمْ ظَفِرُوا بِهِمْ، وَقَفُوا (8) عَلَى بَابِ الْغَارِ الَّذِي دَخَلُوهُ، فَقَالُوا: مَا كُنَّا نُرِيدُ مِنْهُمْ مَنِ الْعُقُوبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ. فَأَمَرَ الْمَلِكُ بِرَدْمِ بَابِهِ عَلَيْهِمْ لِيَهْلَكُوا مَكَانَهُمْ فَفُعِلَ [لَهُمْ] (9) ذَلِكَ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الشَّمْسَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي الْكَهْفِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) } .
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَابَ هَذَا الْكَهْفِ مِنْ نَحْوِ الشَّمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا دَخَلَتْهُ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَزَاوَرُ عَنْهُ {ذَاتَ الْيَمِينِ} أَيْ: يَتَقَلَّصُ الْفَيْءُ يَمْنَةً (10) كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: {تَزَاوَرُ} أَيْ: تَمِيلُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا كُلَّمَا ارْتَفَعَتْ فِي الْأُفُقِ تَقَلَّصَ شُعَاعُهَا بِارْتِفَاعِهَا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ الزَّوَالِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} أَيْ: تَدْخُلُ إِلَى غَارِهِمْ مِنْ شِمَالِ بَابِهِ، وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ،
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (19) من حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2) في ت، ف: "رحمته".
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) زيادة من ف.
(5) في ت: "ثم".
(6) في أ: "قدمه".
(7) في ف، أ: "أهل".
(8) في ت، ف: "ووقفوا".
(9) زيادة من ف.
(10) في ت: "عنه"، وفي أ: "يمينه".(5/142)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَكَانَ لَهُ عِلْمٌ بِمَعْرِفَةِ الْهَيْئَةِ، وَسَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَبَيَانُهُ (1) أَنَّهُ (2) لَوْ كَانَ بَابُ الْغَارِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرْقِ (3) لَمَا دَخَلَ إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ لَمَا دَخَلَ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَلَا عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَا تَزَاوَرَ الْفَيْءُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَوْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ (4) لَمَا دَخَلَتْهُ وَقْتَ الطُّلُوعِ، بَلْ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ تَزَلْ فِيهِ إِلَى الْغُرُوبِ. فَتَعَيَّنَ (5) مَا ذَكَرْنَاهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: {تَقْرِضُهُمْ} تَتْرُكُهُمْ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَأَرَادَ مِنَّا فَهْمَهُ وَتَدَبُّرَهُ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِمَكَانِ هَذَا الْكَهْفِ فِي أَيِّ الْبِلَادِ مِنَ الْأَرْضِ؛ إِذْ لَا فَائِدَةٌ لَنَا فِيهِ وَلَا قَصْدٌ (6) شَرْعِيٌّ. وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَذَكَرُوا فِيهِ أَقْوَالًا فَتَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: [هُوَ] (7) قَرِيبٌ مِنْ أَيْلَةَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ عِنْدَ نِينَوَى. وَقِيلَ: بِبِلَادِ الرُّومِ. وَقِيلَ: بِبِلَادِ الْبَلْقَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَيِّ بِلَادِ اللَّهِ هُوَ. وَلَوْ كَانَ لَنَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ لَأَرْشَدْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَيْهِ (8) فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى [الْجَنَّةِ] (9) وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ، إِلَّا وَقَدْ أَعْلَمْتُكُمْ بِهِ". فَأَعْلَمَنَا تَعَالَى بِصِفَتِهِ، وَلَمْ يُعْلِمْنَا بِمَكَانِهِ، فَقَالَ {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} قَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: تَمِيلُ {ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} أَيْ: فِي مُتَّسَعٍ مِنْهُ دَاخِلًا بِحَيْثُ لَا تَمَسُّهُمْ؛ إِذْ لَوْ أَصَابَتْهُمْ لَأَحْرَقَتْ أَبْدَانَهُمْ وَثِيَابَهُمْ (10) قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} حَيْثُ أَرْشَدَهُمْ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْغَارِ الَّذِي جَعَلَهُمْ فِيهِ أَحْيَاءً، وَالشَّمْسُ وَالرِّيحُ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِتَبْقَى أَبْدَانُهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}
ثُمَّ قَالَ: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} أَيْ: هُوَ الَّذِي أَرْشَدَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ إِلَى الْهِدَايَةِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ اهْتَدَى، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) }
ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ بِالنَّوْمِ، لَمْ تَنْطَبِقْ (11) أَعْيُنُهُمْ؛ لِئَلَّا (12) يُسْرِعَ إِلَيْهَا الْبِلَى، فَإِذَا بَقِيَتْ ظَاهِرَةً لِلْهَوَاءِ كَانَ أَبْقَى لَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الذِّئْبِ أَنَّهُ يَنَامُ فَيُطْبِقُ عَيْنًا وَيَفْتَحُ عَيْنًا، ثُمَّ يَفْتَحُ هَذِهِ وَيُطْبِقُ هذه وهو راقد، كما قال الشاعر (13)
__________
(1) في ت: "فبانه".
(2) في ف: "أن".
(3) في ف، أ: "المشرق".
(4) في أ: "المغرب".
(5) في ت: "فتعى".
(6) في ت: "ولا تضر".
(7) زيادة من ف.
(8) في ت: "الله".
(9) زيادة من ف، وفي ت: "الله".
(10) في ت: "ثيابهم وأبدانهم"، وفي ف، أ: "ثيابهم وأجسادهم".
(11) في ت: "تطبق".
(12) في ت: "كيلا".
(13) هو حميد بن ثور، والبيت في ديوانه (ص104) أ. هـ مستفادا من حاشية ط الشعب.(5/143)
يَنَامُ بإحْدَى مُقْلتَيه وَيَتَّقِي ... بأخْرَى الرَّزَايَا فَهْوَ يَقْظَانُ نَائِمُ ...
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يُقَلَّبُونَ فِي الْعَامِ مَرَّتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يُقَلَّبُوا (1) لَأَكْلَتْهُمُ الْأَرْضُ.
وَقَوْلُهُ: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ (2) الْوَصِيدُ: الْفِنَاءُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْبَابِ. وَقِيلَ: بِالصَّعِيدِ، وَهُوَ التُّرَابُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بِالْفِنَاءِ، وَهُوَ الْبَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الْهُمَزَةِ: 8] أَيْ: مُطْبَقَةٌ مُغْلَقَةٌ. وَيُقَالُ: "وَصِيد" وَ "أَصِيدٌ".
رَبَضَ كَلْبُهُمْ عَلَى الْبَابِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْكِلَابِ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ (3) يَحْرُسُ عَلَيْهِمُ الْبَابَ. وَهَذَا مِنْ سَجِيَّتِهِ وَطَبِيعَتِهِ، حَيْثُ يَرْبِضُ (4) بِبَابِهِمْ كَأَنَّهُ يَحْرُسُهُمْ، وَكَانَ جُلُوسُهُ خَارِجَ الْبَابِ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ -كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ (5) -وَلَا صُورَةٌ وَلَا جُنُب وَلَا كَافِرٌ، كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الْحَسَنُ (6) وَشَمَلَتْ كَلْبَهُمْ بَرَكَتُهُمْ، فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النَّوْمِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ. وَهَذَا فَائِدَةُ صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ؛ فَإِنَّهُ صَارَ لِهَذَا الْكَلْبِ ذِكْرٌ وَخَبَرٌ وَشَأْنٌ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ كَلْبَ صَيْدٍ لِأَحَدِهِمْ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ. وَقِيلَ: كَانَ كَلْبَ طَبَّاخِ الْمَلِكِ، وَقَدْ كَانَ وَافَقَهُمْ عَلَى الدِّينِ فَصَحِبَهُ كَلْبُهُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ "هَمَّامِ بْنِ الْوَلِيدِ الدِّمَشْقِيِّ": حَدَّثَنَا صَدَقَة بْنُ عُمَرَ الغَسَّاني، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ المِنْقَري، سَمِعْتُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يَقُولُ: كَانَ اسْمَ كَبْشِ إِبْرَاهِيمَ: جَرِيرٌ وَاسْمَ هُدْهُدِ سُلَيْمَانَ: عَنْقَز، وَاسْمَ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: قِطْمِيرٌ، وَاسْمَ عِجْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي عَبَدُوهُ: بَهْمُوتُ. وَهَبَطَ آدَمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِالْهِنْدِ، وَحَوَّاءُ بِجُدَّةَ، وَإِبْلِيسُ بِدَسْتَ بَيْسَانَ، وَالْحَيَّةُ بِأَصْبَهَانَ (7)
وَقَدْ تَقَدَّمَ (8) عَنْ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ أَنَّهُ سَمَّاهُ: حِمْرَانَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي لَوْنِهِ (9) عَلَى أَقْوَالٍ لَا حَاصِلَ لَهَا، وَلَا طَائِلَ تَحْتَهَا وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، بَلْ هِيَ مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ، فَإِنَّ مُسْتَنَدَهَا رَجْمٌ بالغيب.
__________
(1) في ت: "تتقلبون"، وفي أ: "يتقلبوا".
(2) في ف: "ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ".
(3) في أ: "جرير".
(4) في ف: "ربض".
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (3227) من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما.
(6) رواه أحمد في مسنده (1/80) وأبو داود في السنن برقم (227) والنسائي في السنن (1/141) من حديث علي بن أبي طالب مرفوعا: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب".
(7) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (27/143) .
(8) في ت: "وقيل".
(9) في ت: "كونه".(5/144)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} أَيْ: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَى عَلَيْهِمُ الْمَهَابَةَ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ نَظَرُ أَحَدٍ عَلَيْهِمْ إِلَّا هَابَهُمْ؛ لِمَا أُلْبِسُوا مِنَ الْمَهَابَةِ وَالذُّعْرِ، لِئَلَّا يَدْنُوَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا تَمَسَّهُمْ (1) يَدُ لَامِسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَتَنْقَضِيَ رَقْدَتُهُمُ الَّتِي شَاءَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحُجَّةِ وَالْحِكْمَةِ (2) الْبَالِغَةِ، وَالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ.
{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) }
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَرْقَدْنَاهُمْ بَعَثْنَاهُمْ صَحِيحَةً أَبْدَانُهُمْ وَأَشْعَارُهُمْ وَأَبْشَارُهُمْ، لَمْ يَفْقِدُوا مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَهَيْئَاتِهِمْ شَيْئًا، وَذَلِكَ بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ؛ وَلِهَذَا تَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ: {كَمْ لَبِثْتُمْ} ؟ أَيْ: كَمْ رَقَدْتُمْ؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} كَانَ دُخُولُهُمْ إِلَى الْكَهْفِ فِي أَوَّلِ نَهَارٍ، وَاسْتِيقَاظُهُمْ (3) كَانَ فِي آخِرِ نَهَارٍ؛ وَلِهَذَا اسْتَدْرَكُوا فَقَالُوا: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أَيْ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَمْرِكُمْ، وَكَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُمْ نَوْعُ تَرَدّد فِي كَثْرَةِ نَوْمِهِمْ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ عَدَلُوا إِلَى الْأَهَمِّ فِي أَمْرِهِمْ إِذْ ذَاكَ (4) وَهُوَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَقَالُوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} أَيْ: فِضَّتِكُمْ هَذِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ دَرَاهِمَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا، فَتَصَدَّقُوا مِنْهَا وَبَقِيَ مِنْهَا؛ فَلِهَذَا قَالُوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} أَيْ: مَدِينَتِكُمُ الَّتِي خَرَجْتُمْ مِنْهَا وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ.
{فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} أَيْ: أَطْيَبُ طَعَامًا، كَقَوْلِهِ: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النُّورِ:21] وَقَوْلِهِ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الْأَعْلَى:14] وَمِنْهُ الزَّكَاةُ الَّتِي تُطَيب (5) الْمَالَ وَتُطَهِّرُهُ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ طَعَامًا، وَمِنْهُ زَكَاةُ الزَّرْعِ إِذَا كَثُرَ، قَالَ الشَّاعِرُ: (6)
قَبَاِئُلنا سَبْعٌ وَأَنْتُمْ ثَلاثَةٌ ... وَللسَّبْعُ أزْكَى مِنْ ثَلاثٍ وَأطْيَبُ ...
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ إِنَّمَا هُوَ الطَّيِّبُ الْحَلَالُ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا.
وَقَوْلُهُ {وَلْيَتَلَطَّفْ} أَيْ: فِي خُرُوجِهِ وَذَهَابِهِ، وَشِرَائِهِ وَإِيَابِهِ، يَقُولُونَ: وَلْيَتَخَفَّ (7) كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ {وَلا يُشْعِرَنَّ} أَيْ: وَلَا يُعْلِمَنَّ {بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} أَيْ: إِنْ عَلِمُوا بِمَكَانِكُمْ، {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} يَعْنُونَ أَصْحَابَ دَقْيَانُوسَ، يَخَافُونَ مِنْهُمْ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَكَانِهِمْ، فَلَا يَزَالُونَ يُعَذِّبُونَهُمْ (8) بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ إِلَى أَنْ يُعِيدُوهُمْ (9) فِي ملتهم التي هم عليها أو
__________
(1) في أ: "أو يمسهم".
(2) في ف: " الحكمة والحجة ".
(3) في ف: "وإيقاظهم".
(4) في ت: "إن ذلك".
(5) في ت: "يطيب".
(6) البيت في تفسير الطبري (15/148) غير منسوب.
(7) في ف، أ: "وليتخفف".
(8) في ف: "يزالون يعذبونكم".
(9) في ف: "يعيدوكم".(5/145)
يَمُوتُوا، وَإِنْ واتَوهم عَلَى الْعَوْدِ (1) فِي الدِّينِ فَلَا فَلَاحَ لَكُمْ (2) فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ (3) {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} .
__________
(1) في ف: "وافوهم على العودة".
(2) في ت، ف: "لهم".
(3) في ف: "قالوا".(5/146)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أَيْ: أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمُ النَّاسَ {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا}
ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَصَلَ لِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ شَكٌّ فِي الْبَعْثِ وَفِي أَمْرِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَدْ قَالُوا: تُبْعَثُ الْأَرْوَاحُ وَلَا تُبْعَثُ الْأَجْسَادُ. فَبَعَثَ اللَّهُ أَهْلَ الْكَهْفِ حُجَّةً (1) وَدَلَالَةً وَآيَةً عَلَى ذَلِكَ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْخُرُوجَ لِيَذْهَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فِي شِرَاءِ شَيْءٍ لَهُمْ لِيَأْكُلُوهُ، تَنَكَّرَ وَخَرَجَ يَمْشِي فِي غَيْرِ الْجَادَّةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَدِينَةِ، وَذَكَرُوا أَنَّ اسْمَهَا دِقْسُوسُ (2) وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِهَا، وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَبَدَّلُوا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَأُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وَتَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَمَّا الدّيارُ فَإنَّها كَديارهِم ... وَأرَى رجالَ الحَي غَيْرَ رجَاله ...
فَجَعَلَ لَا يَرَى شَيْئًا مِنْ مَعَالِمِ الْبَلَدِ الَّتِي يَعْرِفُهَا، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا، لَا (3) خَوَاصِّهَا وَلَا عَوَامِّهَا، فَجَعَلَ يَتَحَيَّرُ فِي نَفْسِهِ وَيَقُولُ: لَعَلَّ بِي جُنُونًا أَوْ مَسًّا، أَوْ أَنَا حَالِمٌ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا بِي شَيْءٌ (4) مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ عَهْدِي بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ عَشِيَّةَ أَمْسٍ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ تَعْجِيلَ الْخُرُوجِ مِنْ هَاهُنَا لَأَوْلَى لِي. ثُمَّ عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ مِمَّنْ يَبِيعُ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَا مَعَهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِهَا طَعَامًا. فَلَمَّا رَآهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ أَنْكَرَهَا وَأَنْكَرَ ضَرْبها، فَدَفَعَهَا إِلَى جَارِهِ، وَجَعَلُوا يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ وَيَقُولُونَ: لَعَلَّ هَذَا قَدْ وَجَدَ كَنْزًا. فَسَأَلُوهُ عَنْ أَمْرِهِ، وَمِنْ أَيْنَ لَهُ هَذِهِ النَّفَقَةُ؟ لَعَلَّهُ وَجَدَهَا مِنْ كَنْزٍ. وَمَنْ أَنْتَ؟ فَجَعَلَ يَقُولُ: أَنَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ (5) وَعَهْدِي بِهَا عَشِيَّةَ أَمْسٍ وَفِيهَا دَقْيَانُوسُ. فَنَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ، فَحَمَلُوهُ إِلَى وَلِيِّ أَمْرِهِمْ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَأْنِهِ وَعَنْ أَمْرِهِ حَتَّى أَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِهِ، وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي حَالِهِ، وَمَا هُوَ فِيهِ. فَلَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ قَامُوا مَعَهُ إِلَى الْكَهْفِ: مُتَوَلّى الْبَلَدِ وَأَهْلُهَا، حَتَّى انْتَهَى بِهِمْ إِلَى الْكَهْفِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أَتَقَدَّمَكُمْ في الدخول لأعلم أصحابي،
__________
(1) في ت: "وحجة".
(2) في ت: "دقوس".
(3) في ت، ف: "ولا".
(4) في ت: "شتى".
(5) في ت: "النفقة".(5/146)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ ذَهَبَ فِيهِ، وَأَخْفَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ خَبَرَهُ (1) وَيُقَالُ: بَلْ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ، وَرَأَوْهُمْ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ الْمَلِكُ وَاعْتَنَقَهُمْ، وَكَانَ مُسْلِمًا فِيمَا قِيلَ، وَاسْمُهُ تِيدُوسِيسُ (2) فَفَرِحُوا بِهِ وَآنَسُوهُ بِالْكَلَامِ، ثُمَّ وَدَّعُوهُ (3) وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَعَادُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَتَوَفَّاهُمُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ قَتَادَةُ: غَزَا (4) ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَمَرُّوا بِكَهْفٍ فِي بِلَادِ الرُّومِ، فَرَأَوْا فِيهِ عِظَامًا، فَقَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ عِظَامُ أَهْلِ الْكَهْفِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ بَلِيَتْ عِظَامُهُمْ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} (5) أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم، أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمْ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أَيْ: فِي أَمْرِ الْقِيَامَةِ، فَمِنْ مُثْبِتٍ لَهَا وَمِنْ مُنْكِرٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ ظُهُورَهُمْ عَلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ حُجَّةً لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} أَيْ: سُدُّوا عَلَيْهِمْ بَابَ كَهْفِهِمْ، وَذَرُوهُمْ عَلَى حَالِهِمْ {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}
حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْقَائِلِينَ (6) ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْهُمْ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ (7)
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ هُمْ أَصْحَابُ الْكَلِمَةِ وَالنُّفُوذِ. وَلَكِنْ هَلْ هُمْ مَحْمُودُونَ أَمْ لَا؟ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ" (8) يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَمَّا وَجَدَ قَبْرَ دَانْيَالَ فِي زَمَانِهِ بِالْعِرَاقِ، أَمَرَ أَنْ يُخْفَى عَنِ النَّاسِ، وَأَنْ تُدْفَنَ تِلْكَ الرُّقْعَةُ الَّتِي وَجَدُوهَا عِنْدَهُ، فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَلَاحِمِ وَغَيْرِهَا.
{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي عِدَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَحَكَى ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِرَابِعٍ، وَلِمَا ضَعَّف الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِقَوْلِهِ: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} أَيْ: قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ، كَمَنْ (9) يَرْمِي إِلَى مَكَانٍ لَا يَعْرِفُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُصِيبُ، وَإِنْ أَصَابَ فَبِلَا قَصْدٍ، ثُمَّ حَكَى الثَّالِثَ وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَوْ قَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
__________
(1) في ت، ف: "خبرهم".
(2) في ت: "تيدرسين"، وفي ف: "بيدوسيس".
(3) في ت، ف: "دعوه".
(4) في ت: "وعن".
(5) في ت: "أعثرناهم" وهو خطأ.
(6) في ت: "القائل".
(7) في ت: "والله أعلم".
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (1330) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(9) في أ: "لمن".(5/147)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
وَقَوْلُهُ: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ رَدُّ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَا احْتِيَاجَ إِلَى الْخَوْضِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِلَا عِلْمٍ، لَكِنْ إِذَا أَطْلَعَنَا عَلَى أَمْرٍ قُلْنَا بِهِ، وَإِلَّا وَقَفْنَا حَيْثُ وَقَفْنَا.
وَقَوْلُهُ: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ} أَيْ: مِنَ النَّاسِ. قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ الَّذِي اسْتَثْنَى اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، كَانُوا سَبْعَةً. وَكَذَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ (1) عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، وَيَقُولُ: عَدَّتُهُمْ سَبْعَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ (2) حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ} قَالَ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ، كَانُوا سَبْعَةً.
فَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةً، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَقَدْ حُدّثتُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ حَدَاثَةِ سِنِّهِ وَضَح الوَرِق. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانُوا كَذَلِكَ لَيْلَهُمْ وَنَهَارَهُمْ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، يَبْكُونَ (3) وَيَسْتَغِيثُونَ بِاللَّهِ، وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ نَفَرٍ: مَكْسَلْمِينَا (4) وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَ الْمَلِكَ عَنْهُمْ، وَمَجْسِيمِيلِنِينَا وَتِمْلِيخَا (5) وَمَرْطُونَسُ، وَكَشْطُونَسُ، وَبَيْرُونَسُ، وَدِيمُوسُ، وَيَطُونَسُ وَقَالُوشُ.
هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَيُحْتَمَلُ (6) هَذَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَمِنْ بَيْنِهِ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةً، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَّائِيِّ أَنَّ اسْمَ كَلْبِهِمْ حِمْرَانُ (7) ، وَفِي تَسْمِيَتِهِمْ بِهَذِهِ (8) الْأَسْمَاءِ وَاسْمِ كَلْبِهِمْ نَظَرٌ فِي صِحَّتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ غَالِبَ ذَلِكَ مُتَلَقَّى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا} أَيْ: سَهْلًا هَيِّنًا؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي مَعْرِفَةِ (9) ذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَبِيرُ (10) فَائِدَةٍ {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} أَيْ: فَإِنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا مَا يَقُولُونَهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، أَيْ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى كَلَامٍ مَعْصُومٍ، وَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ بِالْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ، فَهُوَ الْمُقَدِّمُ الْحَاكِمُ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمُهُ (11) مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَقْوَالِ.
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) }
هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ الله لرسوله الله صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، إِلَى الْأَدَبِ فِيمَا إِذَا عَزَمَ عَلَى شَيْءٍ لِيَفْعَلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَّامِ الْغُيُوبِ، الَّذِي يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه [قَالَ] (12) قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: لأطوفن الليلة على
__________
(1) في ت: "ابن".
(2) في ت: "يسار".
(3) في ت،، ف، أ: "يتلون".
(4) في هـ: "مكيليممنينا"، والمثبت من ت، ف، أ.
(5) في ف: "شمليخا".
(6) في ف، أ: "ويحتمل أن يكون".
(7) في ت: "خمران".
(8) في ت: "بهذا".
(9) في ت: "معرفته".
(10) في ف: "كثير".
(11) في ف: "على من تقدمه".
(12) زيادة من ت، ف، أ.(5/148)
سَبْعِينَ امْرَأَةً -وَفِي رِوَايَةِ تِسْعِينَ امْرَأَةً. وَفِي رِوَايَةٍ: مِائَةِ امْرَأَةٍ-تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقِيلَ لَهُ -وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ-قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ يَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ" لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "وَلَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ (1) (2)
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا سُئِلَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: "غَدًا أُجِيبُكُمْ". فَتَأَخَّرَ الْوَحْيُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِطُولِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ إِذَا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ، فَاسْتَثْنِ عِنْدَ ذِكْرِكَ لَهُ. قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ؟ قَالَ: لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ وَلَوْ إِلَى سَنَةٍ، وَكَانَ يَقُولُ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} فِي ذَلِكَ. قِيلَ لِلْأَعْمَشِ: سَمِعْتَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ؟ قَالَ (3) حَدَّثَنِي بِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، يَرَى (4) ذَهَبَ كِسَائِي هَذَا.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ (5) .
وَمَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ يَسْتَثْنِي وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ" أَيْ: إِذَا نَسِيَ أَنْ يَقُولَ فِي حَلِفِهِ أَوْ كَلَامِهِ "إِنْ شَاءَ اللَّهُ" وَذَكَرَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، فالسُّنة لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، لِيَكُونَ آتِيًا بسُنَّة الِاسْتِثْنَاءِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْحِنْثِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ، لَا أَنْ يَكُونَ [ذَلِكَ] (6) رَافِعًا لِحِنْثِ الْيَمِينِ وَمُسْقِطًا لِلْكَفَّارَةِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِحَمْلِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أَيْ: إِذَا غَضِبْتَ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الحُلْواني، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ (7) [وَهَذَا تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ] (8) .
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ الجُبيلي (9) حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ
__________
(1) في ت، ف: "أجمعين".
(2) صحيح البخاري برقم (5242) رواية المائة، وبرقم (6720) رواية التسعين، وصحيح مسلم برقم (1654) .
(3) في ف: "فقال".
(4) في ت: "ترى".
(5) تفسير الطبري (15/151) والمعجم الكبير للطبراني (11/68) .
(6) زيادة من ف.
(7) المعجم الكبير (12/179) .
(8) زيادة من ف.
(9) في ت، ف: "الحبلى".(5/149)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حُصَيْن، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} الِاسْتِثْنَاءَ، فَاسْتَثْنِ إِذَا ذَكَرْتَ. وَقَالَ: هِيَ خَاصَّةٌ بِرَسُولِ (1) اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ إِلَّا فِي صِلَةٍ مِنْ يَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّد بِهِ الْوَلِيدُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحُصَيْنِ (2) (3) .
وَيَحْتَمِلُ فِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ أَرْشَدَ مَنْ نَسِيَ الشَّيْءَ فِي كَلَامِهِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ مَنْشَؤُهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ فَتَى مُوسَى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الْكَهْفِ: 63] وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، فَإِذَا ذَهَبَ الشَّيْطَانُ ذَهَبَ النِّسْيَانُ، فَذِكْرُ اللَّهِ سَبَبٌ لِلذِّكْرِ (4) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} .
وقوله: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} أَيْ: إِذَا سئُلت عَنْ شَيْءٍ لَا تَعْلَمُهُ، فَاسْأَلِ اللَّهَ فِيهِ، وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يُوَفِّقَكَ لِلصَّوَابِ وَالرَّشَدِ [فِي ذَلِكَ] (5) وقيل في تفسيره غَيْرُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) }
هَذَا خبَر مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِقْدَارِ مَا لَبِثَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ فِي كَهْفِهِمْ، مُنْذُ أَرْقَدَهُمُ اللَّهُ إِلَى أَنْ بَعَثَهُمْ وَأَعْثَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِقْدَارُهُ ثَلَاثَمِائَةِ [سَنَةٍ] (6) وَتِسْعَ سِنِينَ بِالْهِلَالِيَّةِ، وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ بِالشَّمْسِيَّةِ، فَإِنَّ تَفَاوُتَ مَا بَيْنِ كُلِّ مِائَةِ [سَنَةٍ] (7) بِالْقَمَرِيَّةِ إِلَى الشَّمْسِيَّةِ ثَلَاثُ سِنِينَ؛ فَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةٍ: {وَازْدَادُوا تِسْعًا}
وَقَوْلُهُ: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} أَيْ: إِذَا سُئِلْتَ عَنْ لَبْثِهِمْ وَلَيْسَ عِنْدَكَ [عِلْمٌ] (8) فِي ذَلِكَ وَتَوْقِيفٌ (9) مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ (10) فَلَا تَتَقَدَّمْ فِيهِ بِشَيْءٍ، بَلْ قُلْ فِي مِثْلِ هَذَا: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أَيْ: لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا هُوَ أَوْ مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقه، وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ، عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ كَمُجَاهِدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} هَذَا قَوْلُ أهل الكتاب،
__________
(1) في ت: "يا رسول"؟، وفي ف: "لرسول".
(2) في ف: "حصين".
(3) المعجم الأوسط برقم (3357) "مجمع البحرين".
(4) في ت: "سبب الذكر".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من ف.
(8) زيادة من ف.
(9) في ت: "توفيق".
(10) في ت، ف: "تعالى".(5/150)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
وَقَدْ رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} قَالَ: وَفِي (1) قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: "وَقَالُوا: وَلَبِثُوا"، يَعْنِي أَنَّهُ قَالَهُ النَّاسُ (2)
وَهَكَذَا قَالَ -كَمَا قَالَ قَتَادَةُ-مُطرَف بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَفِي هَذَا الَّذِي زَعَمَهُ قَتَادَةُ نَظَرٌ، فَإِنَّ الَّذِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَبِثُوا ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ غَيْرِ تِسْعٍ، يَعْنُونَ بِالشَّمْسِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ قَدْ حَكَى قَوْلَهُمْ لَمَا قَالَ: {وَازْدَادُوا تِسْعًا} وَظَاهِرٌ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ، لَا حِكَايَةَ عَنْهُمْ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَرِوَايَةُ قَتَادَةَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ مُنْقَطِعَةٌ، ثُمَّ هِيَ شَاذَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أَيْ: إِنَّهُ لَبَصِيرٌ بِهِمْ سَمِيعٌ لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَبْصَرَهُ وَأَسْمَعَهُ، وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: مَا أَبْصَرَ اللَّهَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَأَسْمَعَهُ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} فَلَا أَحَدَ أَبْصَرُ (3) مِنَ اللَّهِ وَلَا أَسْمَعُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} يَرَى أَعْمَالَهُمْ، وَيَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ سَمِيعًا بَصِيرًا.
وَقَوْلُهُ: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} أَيْ: أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَيْسَ لَهُ وَزِيرٌ وَلَا نَصِيرٌ وَلَا شَرِيكٌ وَلَا مُشِيرٌ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.
{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) }
__________
(1) في ت: "ومن".
(2) في أ: "ابن عباس".
(3) في ت: "أنصر".(5/151)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) }
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ [عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ] (1) بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَإِبْلَاغِهِ (2) إِلَى النَّاسِ: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أَيْ: لَا مُغَيِّرَ (3) لَهَا وَلَا مُحَرِّفَ وَلَا مُؤَوِّلَ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [عَنْ مُجَاهِدٍ: {مُلْتَحَدًا} قَالَ: مَلْجَأً. وَعَنْ قَتَادَةَ: وَلِيًّا وَلَا مَوْلًى] (4) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ (5) إِنْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لَمْ تَتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ، فَإِنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَكَ مِنَ اللَّهِ". كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَةِ:67] ، وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [الْقَصَصِ:85] أَيْ: سَائِلُكَ عَمَّا فَرَضَ عَلَيْكَ مِنْ إِبْلَاغِ الرسالة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت "وابتلاغه".
(3) في ت، ف: "أي غير مغير".
(4) زيادة من أ.
(5) في ت: "ويقول".(5/151)
وَقَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أَيْ: اجْلِسْ (1) مَعَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَيُهَلِّلُونَهُ، وَيَحْمَدُونَهُ وَيُسَبِّحُونَهُ وَيَكْبُرُونَهُ، وَيَسْأَلُونَهُ بِكُرَةً وَعَشِيًّا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، سَوَاءً كَانُوا فُقَرَاءَ أَوْ أَغْنِيَاءَ أَوْ أَقْوِيَاءَ أَوْ ضُعَفَاءَ. يُقَالُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، حِينَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُمْ وَحْدَهُ (2) وَلَا يُجَالِسَهُمْ (3) بِضُعَفَاءِ أَصْحَابِهِ كَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ [وَخَبَّابٍ] (4) وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلْيُفْرِدْ أُولَئِكَ بِمَجْلِسٍ عَلَى حِدَةٍ. فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ:52] (5) الْآيَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَبِّرَ نَفْسَهُ فِي الْجُلُوسِ (6) مَعَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْح، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ -هُوَ ابْنُ أَبِي وَقَاصٍّ-قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا!. قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ نَسِيتُ اسْمَيْهِمَا (7) فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ (8)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاح قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْجَعْدِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَاصٍّ يَقُصُّ، فَأَمْسَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُص، فَلِأَنْ أَقْعُدَ غُدْوَةً إِلَى أَنْ تُشْرِقَ الشَّمْسُ، أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ" (9)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ (10) حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرة قَالَ: سَمِعْتُ كُرْدُوس بْنَ قَيْسٍ -وَكَانَ قَاصَّ الْعَامَّةِ بِالْكُوفَةِ-يَقُولُ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابٍ بَدْرٍ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لِأَنْ أَقْعُدَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجْلِسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ". قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: أَيُّ مَجْلِسٍ؟ قَالَ: كَانَ قَاصًّا (11) (12)
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَأَنْ أُجَالِسَ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ (13) إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، أحَبّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَلَأَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أعتق
__________
(1) في ت: "يجلس".
(2) في ت، ف: "وحدهم".
(3) في ت: "تجالسهم".
(4) زيادة من ف.
(5) في ت: "يطرد".
(6) في ت: "في المجلس".
(7) في ت:، ف: "اسمهما".
(8) صحيح مسلم برقم (2413) .
(9) المسند (5/261) .
(10) في ت: "هشام".
(11) في ت: "وقاص".
(12) المسند (3/474) وكردوس بن قيس لم يوثقه إلا ابن حبان.
(13) في ت: "الغد".(5/152)
ثَمَانِيَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ دِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا". فَحَسِبْنَا دِيَّاتِهِمْ وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ أَنَسٍ، فَبَلَغَتْ سِتَّةً وَتِسْعِينَ (1) أَلْفًا، وَهَاهُنَا مَنْ يَقُولُ: "أَرْبَعَةٌ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ" وَاللَّهِ مَا قَالَ إِلَّا ثَمَانِيَةً، دِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ اثْنَا (2) عَشَرَ أَلْفًا (3)
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بن ثابت، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ، عَنِ الْأَغَرِّ أَبِي (4) مُسْلِمٍ -وَهُوَ الْكُوفِيُّ-أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "هَذَا الْمَجْلِسُ الَّذِي أُمِرْتُ أَنْ أُصَبِّرَ نَفْسِي مَعَهُمْ".
هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ، عَنِ الْأَغَرِّ مُرْسَلًا. وَحَدَّثْنَاهُ يَحْيَى بْنُ الْمُعَلَّى، عَنْ (5) مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ (6) بْنُ الصَّلْتِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ، عَنِ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ (7) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ قَالَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الحِجْر أَوْ سُورَةَ الْكَهْفِ، فَسَكَتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا الْمَجْلِسُ الَّذِي أُمِرْتُ أَنْ أُصَبِّرَ نَفْسِي مَعَهُمْ" (8) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ (9) حَدَّثَنَا مَيْمُونٌ المَرئي، حَدَّثَنَا مَيْمُونُ بْنُ سِيَاه، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يُذْكُرُونَ اللَّهَ، لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَهُ، إِلَّا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ، قَدْ بُدِّلت سيئاتُكُم حَسَنَاتٍ" (10) تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ (11) عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنيف قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي بَعْضِ أَبْيَاتِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فَخَرَجَ يَلْتَمِسُهُمْ، فَوَجَدَ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى، مِنْهُمْ ثَائِرُ الرَّأْسِ، وَجَافِي الْجِلْدِ (12) وَذُو الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَلَمَّا رَآهُمْ جَلَسَ مَعَهُمْ وَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أَمَرَنِي اللَّهُ أَنَّ أُصَبِّرَ نَفْسِي مَعَهُمْ" (13)
عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا، ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الصَّحَابَةِ (14) وَأَمَّا أبوه فمن سادات الصحابة،
__________
(1) في ت: "وسبعين".
(2) في ت: "اثنتا".
(3) مسند الطيالسى برقم (2104) ويزيد بن أبان ضعيف.
(4) في ت: "أي".
(5) في ت، ف: "بن".
(6) في ت: "أحمد".
(7) في ت: "الأغر بن أبي مسلم".
(8) مسند البززار برقم (5232، 2326) "كشف الأستار"، وقال الهيثمي في المجمع (7/164) : "وفيه عمرو بن ثابت أبو المقدام وهو متروك".
(9) في ف، أ: "بكير".
(10) المسند (3/142) وميمون المرئي ضعيف.
(11) في ت: "زيدى".
(12) في ف: "الجلود".
(13) ورواه ابن منده وأبو نعيم في الصحابة كما في أسد الغابة (3/353) من طريق أبي حازم به.
(14) وتعقبه ابن الأثير بقوله: "ولا يصح، وإنما الصحبة لأبيه ولأخيه أبي أمامة، وله رؤية".(5/153)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا تُجَاوِزْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ: يَعْنِي: تَطْلُبُ بَدَلَهُمْ أَصْحَابَ الشَّرَفِ وَالثَّرْوَةِ.
{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} أَيْ: شُغِلَ عَنِ الدِّينِ وَعِبَادَةِ رَبِّهِ بِالدُّنْيَا { [وَاتَّبَعَ هَوَاهُ] وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (1) أَيْ: أَعْمَالُهُ وَأَفْعَالُهُ سَفَهٌ وَتَفْرِيطٌ وَضَيَاعٌ، وَلَا تَكُنْ مُطِيعًا لَهُ وَلَا مُحِبًّا لِطَرِيقَتِهِ، وَلَا تَغْبِطْهُ بِمَا هُوَ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طَه:131]
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) }
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ: هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ رَبِّكُمْ هُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} هَذَا مِنْ بَابِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} أَيْ: أَرْصَدْنَا {لِلظَّالِمِينَ} وَهُمُ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أَيْ: سُورُهَا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهيعة، حَدَّثَنَا دَرَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ (2) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لسُرَادِق النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُر، كَثَافَةُ كُلِّ جِدَارٍ مَسَافَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً".
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "صِفَةِ النَّارِ" وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، مِنْ حَدِيثِ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمح بِهِ (3)
[وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} قَالَ: حَائِطٌ مِنْ نَارٍ] (4)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حُيَيِّ بْنِ يَعْلَى، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْبَحْرُ هُوَ جَهَنَّمُ" قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: [كَيْفَ ذَلِكَ؟] (5) فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ -أَوْ: قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ-: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} ثُمَّ قَالَ: "وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا أَبَدًا أَوْ: مَا دُمْتُ حَيًّا -وَلَا تُصِيبُنِي مِنْهَا قَطْرَةٌ" (6) .
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْمُهْلُ": مَاءٌ غَلِيظٌ مِثْلُ (7) دُرْدِيِّ الزَّيْتِ.
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ت: "هشيم".
(3) المسند (3/29) وسنن الترمذي برقم (2584) وتفسير الطبري (15/157) . ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(4) زيادة من ف.
(5) زيادة من ف.
(6) تفسير الطبري (15/157) .
(7) في ت: "قيل".(5/154)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ كَالدَّمِ وَالْقَيْحِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي انْتَهَى حَرّه: وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ أُذِيبَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَذَابَ ابنُ مَسْعُودٍ شَيْئًا مِنَ الذَّهَبِ فِي أُخْدُودٍ، فَلَمَّا انْمَاعَ وَأَزْبَدَ قَالَ: هَذَا أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْمُهْلِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَاءُ جَهَنَّمَ أَسْوَدُ، وَهِيَ سَوْدَاءُ وَأَهْلُهَا (1) سُودٌ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا يَنْفِي الْآخَرَ، فَإِنَّ الْمُهْلَ يَجْمَعُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الرَّذِيلَةَ كُلَّهَا، فَهُوَ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ غَلِيظٌ حَارٌّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَشْوِي الْوُجُوهَ} أَيْ: مِنْ حَرِّهِ، إِذَا أَرَادَ الْكَافِرُ أَنْ يَشْرَبَهُ وقَرّبه مِنْ وَجْهِهِ، شَوَاهُ حَتَّى يَسْقُطَ جِلْدُ وَجْهِهِ فِيهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي سُرادِق النَّارِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَاءٍ كَالْمُهْلِ". قَالَ (2) كَعَكْرِ الزَّيْتِ فَإِذَا قَرَّبَهُ إِلَيْهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ" (3) وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "صِفَةِ النَّارِ" مِنْ جَامِعِهِ، مِنْ حَدِيثِ رِشْدِين بْنِ سَعْدٍ (4) عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ، بِهِ (5) ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ "رِشْدِينَ"، وَقَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ،، هَكَذَا قَالَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ حَسَنٍ الْأَشْيَبِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعة، عَنْ دَرّاج، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (6) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وبَقِيَّة بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْر، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} [إِبْرَاهِيمَ:16، 17] قَالَ: "يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فيَتَكرّهه، فَإِذَا قُرِّبَ مِنْهُ شَوَى وجهَه وَوَقَعَتْ فروةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ (7) قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا جَاعَ أَهْلُ النَّارِ اسْتَغَاثُوا بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، فَأَكَلُوا (8) مِنْهَا فَاخْتَلَسَتْ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ، فَلَوْ أَنَّ مَارًّا مَرَّ بِهِمْ يَعْرِفُهُمْ، لَعَرَفَ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ فِيهَا. ثُمَّ يَصُبُّ عَلَيْهِمُ الْعَطَشَ فَيَسْتَغِيثُونَ. فَيُغَاثُونَ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، فَإِذَا أَدْنَوْهُ مِنْ أَفْوَاهِهِمُ اشْتَوَى مِنْ حَرِّهِ لُحُومُ (9) وُجُوهِهِمُ الَّتِي قَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْجُلُودُ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ وَصْفِهِ هَذَا الشَّرَابَ بِهَذِهِ (10) الصِّفَاتِ [الذَّمِيمَةِ] (11) الْقَبِيحَةِ: {بِئْسَ الشَّرَابُ} أَيْ: بِئْسَ هَذَا الشَّرَابُ (12) كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [مُحَمَّدٍ:15] وَقَالَ تَعَالَى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الْغَاشِيَةِ:5] (13) أَيْ: حَارَّةٍ، كَمَا قَالَ: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرَّحْمَنِ:44]
__________
(1) في ف، أ: "شجرها".
(2) في ت: "قال كالمهل".
(3) المسند (3/70) .
(4) في ت: "بن الأسعد".
(5) سنن الترمذي برقم (2581) .
(6) في ت: "فالله أعلم".
(7) في ت، ف: "شرب".
(8) في ت، ف: "فيأكلون".
(9) في ت: "جلود".
(10) في ت: "بهذا".
(11) زيادة من ف، أ.
(12) في ف، أ: "شرابا".
(13) في ف: "يسقى".(5/155)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [أَيْ: وَسَاءَتِ النَّارُ] (1) مَنْزِلًا ومَقِيلا وَمُجْتَمَعًا وَمَوْضِعًا لِلِارْتِفَاقِ (2) كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الْفُرْقَانِ:66]
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) }
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ، ثَنَّى بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ، الَّذِينَ آمَنُوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا بِهِ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَهُمْ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} وَالْعَدْنُ: الْإِقَامَةُ.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ} أَيْ: مِنْ تَحْتِ غُرَفِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، قَالَ [لَهُمْ] (3) فِرْعَوْنُ: {وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزُّخْرُفِ:51] .
{يُحَلَّوْنَ} أَيْ: مِنَ الْحِلْيَةِ {فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} وَقَالَ فِي الْمَكَانِ الْآخَرِ: {وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الْحَجِّ:23] وَفَصَّلَهُ هَاهُنَا فَقَالَ: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} فالسندس: لباس (4) رقاع رقاق كَالْقُمْصَانِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا، وَأَمَّا الْإِسْتَبْرَقُ فَغَلِيظُ الدِّيبَاجِ وَفِيهِ بَرِيقٌ.
وَقَوْلُهُ: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ} الِاتِّكَاءُ قِيلَ: الِاضْطِجَاعُ وَقِيلَ التَّرَبُّعُ فِي الْجُلُوسِ. وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمُرَادِ هَاهُنَا وَمِنْهُ الْحَدِيثُ [فِي] (5) الصَّحِيحِ: "أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا " (6) فِيهِ الْقَوْلَانِ.
وَالْأَرَائِكُ: جَمَعَ أَرِيكَةٍ، وَهِيَ السَّرِيرُ تَحْتَ الحَجَلة، وَالْحَجَلَةُ كَمَا يَعَرِّفُهُ (7) النَّاسُ فِي زَمَانِنَا هَذَا بِالْبَاشخَانَاه، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ، عَنْ قَتَادَةَ: {عَلَى الأرَائِكِ} قَالَ: هِيَ الْحِجَالُ. قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ غَيْرُهُ: السّرُر فِي الْحِجَالِ (8)
وَقَوْلُهُ: {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [أَيْ: نِعْمَتِ الْجَنَّةُ ثَوَابًا عَلَى أَعْمَالِهِمْ {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} أَيْ: حَسُنَتْ مَنْزِلًا وَمَقِيلًا وَمَقَامًا، كَمَا قَالَ فِي النَّارِ: {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الْكَهْفِ:29] (9) ، وَهَكَذَا قَابَلَ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الْفُرْقَانِ:66] ثُمَّ ذَكَرَ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الْفُرْقَانِ:76، 75] .
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ت: "للارتفاع".
(3) زيادة من ت.
(4) في ت، ف، أ: "ثياب".
(5) زيادة من ت، ف.
(6) صحيح البخاري برقم (5398) .
(7) في ت، ف: "تعرفه".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/339) .
(9) زيادة من ف.(5/156)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) }(5/157)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) }
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ (1) الْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ مُجَالَسَةِ (2) الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَافْتَخَرُوا عَلَيْهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ، فَضَرَبَ لَهُمْ (3) مَثَلًا بِرَجُلَيْنِ، جَعَلَ اللَّهُ {لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} أَيْ: بُسْتَانَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ، مَحْفُوفَتَيْنِ بِالنَّخْلِ (4) الْمُحْدِقَةِ فِي جَنْبَاتِهِمَا، وَفِي خِلَالِهِمَا الزُّرُوعُ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالزُّرُوعِ مُثْمِرٌ مُقبلٌ فِي غَايَةِ الْجُودِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} أَيْ: خَرَجَتْ ثَمَرُهَا {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} أَيْ: وَلَمْ تَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} أَيْ: وَالْأَنْهَارُ تَتَخَرِقُ فِيهِمَا هَاهُنَا وَهَاهُنَا.
{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ: الْمَالُ. رُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ. وَقِيلَ: الثِّمَارُ وَهُوَ أَظْهَرُ هَاهُنَا، وَيُؤَيِّدُهُ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى: "وَكَانَ لَهُ ثُمْر" بِضَمِّ الثَّاءِ وَتَسْكِينِ الْمِيمِ، فَيَكُونُ (5) جَمْعَ ثَمَرَة، كَخَشَبَة وخُشب، وَقَرَأَ آخَرُونَ: {ثَمَرٌ} بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ.
فَقَالَ -أَيْ صَاحِبُ هَاتَيْنِ [الْجَنَّتَيْنِ] (6) - {لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أَيْ: يُجَادِلُهُ وَيُخَاصِمُهُ، يَفْتَخِرُ عَلَيْهِ وَيَتَرَأَّسُ: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا} أَيْ: أَكْثَرُ خَدَمًا وَحَشَمًا وَوَلَدًا.
قَالَ قَتَادَةُ: تِلْكَ -وَاللَّهِ-أُمْنِيَةُ الْفَاجِرِ: كَثْرَةُ الْمَالِ وَعِزَّةُ النَّفَرِ.
وَقَوْلُهُ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أَيْ: بِكُفْرِهِ وَتَمَرُّدِهِ وَتَكَبُّرِهِ وَتَجَبُّرِهِ وَإِنْكَارِهِ الْمَعَادَ {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} وَذَلِكَ اغْتِرَارٌ مِنْهُ، لَمَّا رَأَى فِيهَا (7) مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ فِي جَوَانِبِهَا وَأَرْجَائِهَا، ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَفْنَى وَلَا تَفْرَغُ وَلَا تَهْلَكُ وَلَا تُتْلَفُ (8) وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ، وَضَعْفِ يَقِينِهِ بِاللَّهِ، وَإِعْجَابِهِ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَكُفْرِهِ بِالْآخِرَةِ (9) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أَيْ: كَائِنَةً {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} أَيْ: وَلَئِنْ كَانَ مَعَادٌ وَرَجْعَةٌ وَمَرَدٌّ إِلَى اللَّهِ، ليكونَنّ لِي هُنَاكَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا لِأَنِّي مُحظى (10) عِنْدَ رَبِّي، وَلَوْلَا كَرَامَتِي (11) عَلَيْهِ مَا أَعْطَانِي هَذَا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فُصِّلَتْ:50] ، وَقَالَ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} [مَرْيَمَ:77] أَيْ: فِي الدار الآخرة، تألى على الله، عز
__________
(1) في ت، ف: "ذكره".
(2) في ت: "مجالسهم".
(3) في ت، ف، أ: "لهم ولهم".
(4) في ف، أ: "بالنخيل".
(5) في ت: "فيك".
(6) زيادة من ف.
(7) في ف: "فيهما".
(8) في ت: "ولايسلم".
(9) في ت: "بالأخرى".
(10) في ت، ف: "محض".
(11) في ت: "إكرامى".(5/157)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
وَجَلَّ، وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ.
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا أَجَابَهُ صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ، وَاعِظًا لَهُ وَزَاجِرًا عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالِاغْتِرَارِ: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا} ؟ وَهَذَا إِنْكَارٌ وَتَعْظِيمٌ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ جُحُودِ رَبِّهِ، الَّذِي خَلَقَهُ وَابْتَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مَنْ طِينٍ وَهُوَ آدَمُ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الْبَقَرَةِ:280] أَيْ: كَيْفَ تجحَدُون رَبَّكُمْ، وَدَلَالَتُهُ عَلَيْكُمْ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ، كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُهَا مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا ثُمَّ وُجِدَ، وَلَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِأَنَّهُ بِمَثابَتِهِ فَعُلِمَ إِسْنَادُ (1) إِيجَادِهِ إِلَى خَالِقِهِ، وَهُوَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ وَلِذَا (2) قَالَ: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أَيْ: أَنَا لَا أَقُولُ بِمَقَالَتِكَ، بَلْ أَعْتَرِفُ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أَيْ: بَلْ هُوَ اللَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا} هَذَا تَحْضِيضٌ وَحَثٌّ عَلَى ذَلِكَ، أَيْ: هَلَّا إِذَا أَعْجَبَتْكَ حِينَ دَخَلْتَهَا وَنَظَرْتَ إِلَيْهَا حَمِدْتَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ به عليك، وأعطاك من المال والولد مَا لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُكَ، وَقُلْتَ: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضَ السَّلَفِ: مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ حَالِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَالِهِ، فَلْيَقُلْ: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ:
حَدَّثَنَا جَرَّاح بْنُ مَخْلَد، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَوْن، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زُرَارَة، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ، فَيَقُولُ: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} فَيَرَى فِيهِ آفَةً دُونَ الْمَوْتِ". وَكَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} (3) .
__________
(1) في ف: "استناد".
(2) في ف: "ولهذا".
(3) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (4525) من طريق الحسن بن صباح، عن عمر بن يونس به.(5/158)
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: عِيسَى بْنُ عَوْنٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ أَنَسٍ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَحَجَّاجٌ، حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عُبَيْدٍ مَوْلَى أَبِي رُهْم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (1)
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (2) عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" (3)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَكْرُ (4) بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانة، عَنْ أَبِي بَلَج، عَنْ عَمْرو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ لِي نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَدُلُّكَ (5) عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ تَحْتَ الْعَرْشِ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. قَالَ: "أَنْ تَقُولَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" قَالَ أَبُو بَلْج: وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَالَ: "فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ". قَالَ: فَقُلْتُ لِعَمْرٍو -قَالَ أَبُو بَلْج: قَالَ عَمْرو: قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا إِنَّهَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} (6)
وَقَوْلُهُ: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} أَيْ: عَلَى جَنَّتِكَ فِي الدُّنْيَا الَّتِي ظَنَنْتَ أَنَّهَا لَا تَبِيدُ وَلَا تَفْنَى {حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَيْ عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَطَرٌ عَظِيمٌ مُزْعِجٌ، يُقْلِعُ زَرْعَهَا وَأَشْجَارَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} أَيْ: بَلْقَعًا تُرَابًا أَمْلَسَ، لَا يَثْبُتُ فِيهِ قَدم.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كالجُرز الَّذِي لَا يُنْبِتُ شَيْئًا.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} أَيْ: غَائِرًا فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ ضِدُّ النَّابِعِ الَّذِي يُطْلَبُ وَجْهَ الْأَرْضِ، فَالْغَائِرُ يُطْلَبُ أَسْفَلَهَا (7) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الْمُلْكِ:30] أَيْ: جَارٍ وَسَائِجٍ. وَقَالَ هَاهُنَا: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} وَالْغَوْرُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى غَائِرٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ (8)
تَظَلّ جيّادُهُ نَوْحًا عَلَيه ... تُقَلّدُهُ أعنَّتَها صُفُوفا ...
بمعنى نائحات عليه.
__________
(1) المسند (2/469) .
(2) في ف: "الصحيحين".
(3) صحيح البخاري برقم (6610) وصحيح مسلم برقم (2704) .
(4) في ف، أ: "بكير".
(5) في ت، ف: "ألا أدلك".
(6) المسند (2/335) .
(7) في ت، ف: "أسفل".
(8) البيت في تفسير الطبري (15/163) غير منسوب.(5/159)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} بِأَمْوَالِهِ، أَوْ بِثِمَارِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ وَقَعَ بِهَذَا الْكَافِرِ مَا كَانَ يَحْذَرُ، مِمَّا خَوَّفه بِهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ إِرْسَالِ الْحُسْبَانِ (1) عَلَى جَنَّتِهِ، الَّتِي اغْتَرَّ بِهَا (2) وَأَلْهَتْهُ عَنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} وَقَالَ قَتَادَةُ: يُصفّق كَفَّيْهِ مُتَأَسِّفًا مُتَلَهِّفًا عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي أَذْهَبَهَا عَلَيْهِ {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} أَيْ: عَشِيرَةٌ أَوْ وَلَدٌ، كَمَا افْتَخَرَ بِهِمْ وَاسْتَعَزَّ {يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ هَاهُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ} أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ الَّذِي حَلَّ بِهِ عَذَابُ اللَّهِ، فَلَا مُنْقِذَ مِنْهُ. وَيَبْتَدِئُ [بِقَوْلِهِ] (3) {الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ عَلَى: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} وَيَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ {الْوَلايَةُ} فَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَ الْوَاوَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: هُنَالِكَ الْمُوَالَاةُ (4) لِلَّهِ، أَيْ: هُنَالِكَ (5) كُلُّ أَحَدٍ (6) مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ (7) يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مُوَالَاتِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ إِذَا وَقَعَ الْعَذَابُ، كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غَافِرَ:84] وَكَقَوْلِهِ إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يُونُسَ:91، 90]
وَمِنْهُمْ مَنْ كَسَرَ الْوَاوَ مِنْ {الْوَلايَةُ} أَيْ: هُنَالِكَ الْحُكْمُ لِلَّهِ الْحَقِّ.
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ رَفَعَ {الْحَقِّ} عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْوَلَايَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الْفُرْقَانِ:26]
وَمِنْهُمْ مَنْ خَفَضَ الْقَافَ، عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الْأَنْعَامِ:62] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} أَيْ: جَزَاءً {وَخَيْرٌ عُقْبًا} أَيْ: الْأَعْمَالُ الَّتِي تَكُونُ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، ثَوَابُهَا خَيْرٌ، وَعَاقِبَتُهَا حَمِيدَةٌ رَشِيدَةٌ، كُلُّهَا خَيْرٌ.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) }
__________
(1) في ت: "الحسنات".
(2) في ت: "اعتز".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت: "الولاية".
(5) في ت: "هناك".
(6) في ف: "واحد".
(7) في ف: "وكافر".(5/160)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا (46) } .(5/160)
يَقُولُ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ} يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فِي زَوَالِهَا وَفَنَائِهَا وَانْقِضَائِهَا {كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ} أَيْ: مَا فِيهَا مِنَ الحَبّ، فَشَبَّ وَحَسُنَ، وَعَلَاهُ (1) الزَّهْرُ وَالنَّوْرُ وَالنُّضْرَةُ ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا} يَابِسًا {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أَيْ: تُفَرِّقُهُ وَتَطْرَحُهُ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ (2) {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} أَيْ: هُوَ قَادِرٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَهَذِهِ الْحَالِ (3) وَكَثِيرًا مَا يَضْرِبُ اللَّهُ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِهَذَا الْمَثَلِ كَمَا فِي سُورَةِ يُونُسَ: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} الْآيَةَ [يُونُسَ:24] ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ} [الزُّمَرِ:21] ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الْحَدِيدِ:20] .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ" (4)
وَقَوْلُهُ: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} كَقَوْلِهِ {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آلِ عِمْرَانَ:14] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التَّغَابُنِ:15] أَيْ: الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَالتَّفَرُّغُ لِعِبَادَتِهِ، خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ اشْتِغَالِكُمْ بِهِمْ وَالْجَمْعِ لَهُمْ، وَالشَّفَقَةِ الْمُفْرِطَةِ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ.
وَهَكَذَا سُئل أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عنه، عَنْ: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" مَا هِيَ؟ فَقَالَ: هِيَ (5) لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لله، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا حَيْوَة، أَنْبَأَنَا أَبُو عَقِيلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ الْحَارِثَ مَوْلَى عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: جَلَسَ عُثْمَانُ يَوْمًا وَجَلَسْنَا مَعَهُ، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ، أَظُنُّهُ أَنَّهُ سَيَكُونُ فِيهِ مُد، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى (6) صَلَاةَ الظُّهْرِ، غُفر لَهُ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصُّبْحِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيَّنَهَا وَبَيْنَ الظُّهْرِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ غُفر لَهُ مَا بَيَّنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ، ثُمَّ صَلَّى العشاء غُفر له ما
__________
(1) في ت: "وعلا".
(2) في ت: "ذات يمين وذات شمال".
(3) في ت: "هذه الحالة وهذه الحالة".
(4) سبق تخريجه عند تفسير الآية الثامنة من هذه السورة.
(5) في ت: "هن".
(6) في ت، ف: "يصلى".(5/161)
بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ لَعَلَّهُ يَبِيتُ يَتَمَرَّغُ (1) لَيْلَتَهُ، ثُمَّ إِنْ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى صَلَاةَ الصبح، غُفر له ما بينها (2) وبين صلاة الْعِشَاءِ وَهِيَ الْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ" قَالُوا: هَذِهِ الْحَسَنَاتُ فَمَا الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتُ يَا عُثْمَانُ؟ قَالَ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، والحمد لله، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ (3) تَفَرَّدَ بِهِ (4) .
وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ (5) عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بَاللَّهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلان، عَنْ عُمَارَةَ قَالَ: سَأَلَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" فَقُلْتُ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ. قَالَ (6) لَمْ تُصِبْ. فَقُلْتُ: الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ. فَقَالَ: لَمْ تُصِبْ، وَلَكِنَّهُنَّ الْكَلِمَاتُ الْخَمْسُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْم، عَنْ نَافِعٍ عَنْ سَرْجس، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أنه سأل ابن عمر عن: {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، [وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ مجاهد: {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ] (7) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمر، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، هُنّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الصَّبَاحِ الْبَزَّارِ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ التَّمَّارِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، منَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ" (8) .
قَالَ: وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ حَدّثه، عَنِ ابْنِ الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: "اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ". قِيلَ: وَمَا هِيَ (9) يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْمِلَّةُ". قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "التَّكْبِيرُ، وَالتَّهْلِيلُ، وَالتَّسْبِيحُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، مِنْ حَدِيثِ دَرَّاجٍ، بِهِ (10) .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْر أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَوْلَى سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
__________
(1) في ف، أ: "لعله يتمرغ".
(2) في ت: "بينهما".
(3) في أ: "بالله العلى العظيم".
(4) المسند (1/71) .
(5) في ف: "جياد".
(6) في ف: "فقال".
(7) زيادة من ف.
(8) تفسير الطبري (15/167) .
(9) في أ: "وما هن".
(10) تفسير الطبري (15/167) والمسند (3/75) .(5/162)
حَدّثه قَالَ: أَرْسَلَنِي سَالِمٌ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، فَقَالَ: قُلْ لَهُ: الْقَنِي عِنْدَ زَاوِيَةِ الْقَبْرِ فَإِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ: فَالْتَقَيَا، فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ قَالَ سَالِمٌ: مَا تَعَدُّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ؟ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: مَتَى جَعَلْتَ فِيهَا "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؟ " فَقَالَ: مَا زِلْتُ أَجْعَلُهَا. قَالَ: فَرَاجَعَهُ (1) مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَلَمْ ينزع، قال فأثبت (2) قال سالم: أجل فأثبت (3) فَإِنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ حَدَّثَنِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ يَقُولُ: "عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ فَأُرِيتُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ فَرَحَّبَ بِي وسَهَّل، ثُمَّ قَالَ: مُرْ أُمَّتَكَ فَلْتُكْثِرْ مِنْ غِرَاسِ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ تُرْبَتَهَا طَيِّبَةٌ وَأَرْضَهَا وَاسِعَةٌ. فَقُلْتُ: وَمَا غِرَاسُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" (4)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْعَوَّامِ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، مِنْ آلِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ خَفَضَ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ، يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَمَالَأَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُمَالِئْهُمْ (5) فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ. أَلَا وَإِنَّ "سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ هُنّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتُ" (6)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبَانٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ [عَنْ] (7) مَوْلًى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم] (8) قال: "بَخٍ بَخٍ لِخَمْسٍ مَا أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيزَانِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى فَيَحْتَسِبُهُ (9) وَالِدُهُ". وَقَالَ: "بَخٍ بَخٍ لِخَمْسٍ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ مُسْتَيْقِنًا بِهِنَّ، دَخَلَ الْجَنَّةَ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبِالْجَنَّةِ وَبِالنَّارِ، وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَبِالْحِسَابِ (10) (11)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْح، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: كَانَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، [فِي سَفَرٍ] (12) فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ لِغُلَامِهِ: "ائْتِنَا بالشَّفرة نَعْبَثْ بِهَا". فَأَنْكَرْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلَّا وَأَنَا أَخْطِمُهَا وَأَزُمُّهَا غَيْرَ كَلِمَتِي هَذِهِ. فَلَا تَحْفَظُوهَا عَلَيَّ (13) وَاحْفَظُوا مَا أَقُولُ لَكُمْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَاكْنِزُوا (14) هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ (15) شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ حُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خير
__________
(1) في ف، أ: "فراجعته".
(2) في ف، أ: "فأبيت".
(3) في أ: "فأبيت".
(4) تفسير الطبري (15/166) .
(5) في أ: "ولم يمالئهم على ظلمهم".
(6) المسند (4/267) .
(7) زيادة من ف، والمسند.
(8) زيادة من ف، والمسند.
(9) في ت: "فيحتسبنه".
(10) في ت، ف: "والحساب".
(11) المسند (4/237) ، وقال الهيثمي في المجمع (10/88) : "رجاله رجال الصحيح".
(12) زيادة من ف، والمسند
(13) في ت: "على ذلك".
(14) في أ: "فأكثروا".
(15) في ت: "وأشكرك".(5/163)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
مَا تَعْلَمُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" (1)
ثُمَّ رَوَاهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ (2) مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شَدَّادٍ، بِنَحْوِهِ (3)
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاجِيَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ نُفَيْعٍ الْجَدَلِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ جُنَادَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ فِي أَوَّلِ مَنْ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، فَخَرَجْتُ مِنْ أَهْلِي (4) مِنَ السَّرَاةِ غُدْوَةً، فَأَتَيْتُ مِنًى عِنْدَ الْعَصْرِ، فَتَصَاعَدْتُ فِي الْجَبَلِ ثُمَّ هَبَطْتُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ، وَعَلَّمَنِي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَ {إِذَا زُلْزِلَتِ} وَعَلَّمَنِي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَقَالَ: "هُنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتُ". وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ: "مَنْ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَوَضَّأَ وَمَضْمَضَ فَاهُ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَاللَّهِ أَكْبَرُ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِائَةَ مَرَّةٍ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ إِلَّا الدِّمَاءَ فَإِنَّهَا لَا تُبْطَلُ" (5)
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس قوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} قَالَ: هِيَ ذِكْرُ اللَّهِ، قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَالصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ، وَالْحَجُّ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْعِتْقُ، وَالْجِهَادُ، وَالصِّلَةُ، وَجَمِيعُ أَعْمَالِ الْحَسَنَاتِ. وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، الَّتِي تَبْقَى لِأَهْلِهَا فِي الْجَنَّةِ، مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُنّ الْكَلَامُ الطَّيِّبُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ كُلُّهَا. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطُّورِ:9، 10] أَيْ: تذهب من أماكنها وتزول، كما قال
__________
(1) المسند (4/123) .
(2) في ت: "فالنسائي".
(3) سنن النسائي الكبري برقم (1227) .
(4) في ت، ف، أ: "من أهلي الطائفة".
(5) المعجم الكبير (6/51) وفيه الحسين العوفي ضعيف.(5/164)
تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النَّمْلِ:88] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [الْقَارِعَةِ:5] وَقَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طَه:105-107] يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ تَذْهَبُ الْجِبَالُ، وَتَتَسَاوَى الْمِهَادُ، وَتَبْقَى الْأَرْضُ {قَاعًا صَفْصَفًا} أَيْ: سَطْحًا مُسْتَوِيًا لَا عِوَجَ فِيهِ {وَلا أَمْتًا} أَيْ: لَا وَادِيَ وَلَا جَبَل؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} [أَيْ: بَادِيَةً ظَاهِرَةً، لَيْسَ فِيهَا مَعْلَم لِأَحَدٍ وَلَا مَكَانٌ يُوَارِي أَحَدًا، بَلِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ ضَاحُونَ لِرَبِّهِمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ.
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: {وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} ] (1) لَا خَمَرَ فِيهَا وَلَا غَيَابة. قَالَ قَتَادَةُ: لَا بناءَ وَلَا شَجَر.
وَقَوْلُهُ: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} أَيْ: وَجَمَعْنَاهُمْ، الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ وَالْآخَرِينَ، فَلَمْ نَتْرُكْ مِنْهُمْ أَحَدًا، لَا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا، كَمَا قَالَ: {قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الْوَاقِعَةِ:50، 49] ، وَقَالَ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هُودٍ:103] ،
وَقَوْلُهُ: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ يَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ صَفًّا وَاحِدًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النَّبَإِ:38] وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ (2) صُفُوفًا صُفُوفًا، كَمَا قَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الْفَجْرِ:22]
وَقَوْلُهُ: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} هَذَا تَقْرِيعٌ لِلْمُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ، وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُخَاطِبًا لَهُمْ: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} أَيْ: مَا كَانَ ظَنُّكُمْ أَنَّ هَذَا وَاقِعٌ بِكُمْ، وَلَا أَنَّ هَذَا كَائِنٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أَيْ: كِتَابُ الْأَعْمَالِ، الَّذِي فِيهِ الْجَلِيلُ وَالْحَقِيرُ، وَالْفَتِيلُ وَالْقِطْمِيرُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} أَيْ: مِنْ أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة، {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} أَيْ: يَا حَسْرَتَنَا وَوَيْلَنَا (3) عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي أَعْمَارِنَا {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} أَيْ: لَا يَتْرُكُ ذَنْبًا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا وَلَا عَمَلًا وَإِنْ صَغُرَ {إِلا أَحْصَاهَا} أَيْ: ضَبَطَهَا، وَحَفِظَهَا.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، إلى سعد ابن جُنَادَةَ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ حُنَيْن، نَزَلْنَا قَفْرًا مِنَ الْأَرْضِ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْمَعُوا، مَنْ وَجَدَ عُودًا فَلْيَأْتِ بِهِ، وَمَنْ وَجَدَ حَطَبًا أَوْ شَيْئًا فَلْيَأْتِ بِهِ. قَالَ: فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَةٌ حَتَّى جَعَلْنَاهُ رُكامًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَرَوْنَ هَذَا؟ فَكَذَلِكَ تُجْمَع الذُّنُوبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْكُمْ كَمَا جَمَعْتُم هذا. فليتق الله رجل ولا
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ف، أ: "أن يقوموا".
(3) في ت، ف، أ: "وويلتنا".(5/165)
يُذْنِبْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً، فَإِنَّهَا مُحْصَاة عَلَيْهِ " (1)
وَقَوْلُهُ: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} أَيْ: مِنْ خَيْرٍ أَوَشَرٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آلِ عِمْرَانَ:30] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [الْقِيَامَةِ:13] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطَّارِقِ:9] أَيْ: تَظْهَرُ الْمُخَبَّآتُ وَالضَّمَائِرُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يومَ الْقِيَامَةِ [يُعْرَفُ بِهِ" (2) .
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي لَفْظٍ: "يُرْفَع لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يومَ الْقِيَامَةِ] (3) عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرته، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَة فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ" (4)
وَقَوْلُهُ: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} أَيْ: فَيَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي أَعْمَالِهِمْ جَمِيعًا، وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، بَلْ يَعْفِرُ (5) وَيَصْفَحُ وَيَرْحَمُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَيَمْلَأُ النَّارَ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَصْحَابِ الْمَعَاصِي، [ثُمَّ يُنَجِّي أَصْحَابَ الْمَعَاصِي] (6) ويُخلَّد فِيهَا الْكَافِرُونَ (7) وَهُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّسَاءِ:40] وَقَالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ:47] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا (8) كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَكِّيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شَدَّدْتُ عَلَيْهِ رَحْلى، فَسِرْتُ عَلَيْهِ شَهْرًا، حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ (9) فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ: قُلْ لَهُ: جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ. فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ، فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ، فَقُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَصَاصِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أسَمَعه فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يحشُر اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -أَوْ قَالَ: العبادَ-عُرَاةَ غُرْلا بُهْمًا" قُلْتُ: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: "لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَربَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ (10) مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ (11) مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةُ". قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ، وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، حُفَاةً عُراة غُرْلا بُهْمًا؟ قال:
__________
(1) المعجم الكبير (6/52) .
(2) المسند (3/142) .
(3) زيادة من ف.
(4) صحيح البخاري برقم (3186) وصحيح مسلم برقم (1737) .
(5) في ت، ف: "يعفو".
(6) زيادة من ف.
(7) في ف: "الكافرين".
(8) في ت: "في هذه"، وفي ف: "فيهما".
(9) في ت: "أنس".
(10) في ت، ف، أ: "أقضيه".
(11) في ت، ف، أ: "أقضيه".(5/166)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ" (1) .
وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ مُزَاحم، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الجَمَّاء لَتَقْتَصُّ مِنَ الْقَرْنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (2) رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَنَضَعُ (3) الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الْأَنْبِيَاءِ:47] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الْأَنْعَامِ:38]
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا (50) }
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا بَنِي آدَمَ عَلَى عَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمُقَرِّعًا لِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْهُمْ وَخَالَفَ خَالِقَهُ وَمَوْلَاهُ، الَّذِي أَنْشَأَهُ وَابْتَدَاهُ، وَبِأَلْطَافٍ رَزَقَهُ وَغَذَّاهُ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ وَالَى إِبْلِيسَ وَعَادَى اللَّهَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} أَيْ: لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" (4) .
{اسْجُدُوا لآدَمَ} أَيْ: سُجُودَ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ وَتَعْظِيمٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الْحِجْرِ:29، 28]
وَقَوْلِهِ {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أَيْ: خَانَهُ أَصْلُهُ؛ فَإِنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَأَصْلُ خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ نُورٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أنه قَالَ: "خُلِقت الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وخُلق إِبْلِيسُ مِنْ مارج من نار، خُلق (5) آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ" (6) . فَعِنْدَ الْحَاجَةِ نَضَحَ (7) كُلُّ وِعَاءٍ بِمَا فِيهِ، وَخَانَهُ الطَّبْعُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ تَوَسَّم بِأَفْعَالِ الْمَلَائِكَةِ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ، وَتَعَبَّدَ وَتَنَسَّكَ، فَلِهَذَا دَخَلَ فِي خِطَابِهِمْ، وَعَصَى بِالْمُخَالَفَةِ.
وَنَبَّهَ تَعَالَى هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ {مِنَ الْجِنِّ} أَيْ: إِنَّهُ خُلِق مِنْ نَارٍ، كَمَا قَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الْأَعْرَافِ:12، ص:76]
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَط، وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ، كَمَا أَنَّ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَصْلُ الْبَشَرِ. رواه ابن جرير بإسناد صحيح [عنه] (8) (9) .
__________
(1) المسند (3/495) .
(2) روائد المسند (1/12) .
(3) في ت: "ويضع".
(4) عند تفسير الآية: 34.
(5) في ت، ف، ومسلم: "وخلق".
(6) صحيح مسلم برقم (2996) .
(7) في أ: "نضح لكم".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) تفسير الطبري (15/170) .(5/167)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْمَلَائِكَةِ، يُقَالُ لَهُمُ: الْجِنُّ، خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ -قَالَ: وَكَانَ اسْمُهُ الْحَارِثُ، وَكَانَ خَازِنًا مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ، وخُلقت الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ غَيْرَ هَذَا الْحَيِّ-قَالَ: وَخُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذُكروا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ. وَهُوَ لِسَانُ النَّارِ الَّذِي يَكُونُ فِي طَرَفِهَا إِذَا الْتَهَبَتْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أَشْرَفِ الْمَلَائِكَةِ وَأَكْرَمُهُمْ قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا عَلَى الْجِنَانِ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ [السَّمَاءِ] (1) الدُّنْيَا وَسُلْطَانُ الْأَرْضِ، وَكَانَ مِمَّا سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ، مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ لَهُ بِذَلِكَ شَرَفًا عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، فَوَقَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ كِبْرٌ (2) لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. فَاسْتَخْرَجَ اللَّهُ ذَلِكَ الْكِبْرَ مِنْهُ حِينَ (3) أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ "فَاسْتَكْبَرَ، وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَوْلُهُ: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أَيْ: مِنْ خُزَّانِ [الْجِنَانِ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَكِّيٌّ، وَمَدَنِيٌّ، وَبَصْرِيٌّ، وَكُوفِيٌّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ مِنْ خُزَّانِ] (4) الْجَنَّةِ، وَكَانَ يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ، بِهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ رَئِيسَ مَلَائِكَةِ سَمَاءِ (5) الدُّنْيَا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ خَلاد بْنِ (6) عَطَاءٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ -قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ الْمَعْصِيَةَ-مِنَ الْمَلَائِكَةِ، اسْمُهُ عَزَازِيلُ، وَكَانَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ. وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الْمَلَائِكَةِ اجْتِهَادًا وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا. فَذَلِكَ دَعَاهُ إِلَى الْكِبْرِ، وَكَانَ مِنْ حَيٍّ يُسَمَّوْنَ جِنًّا.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأمة وَشَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِر، أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَبِيلَةً مِنَ الْجِنِّ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْهَا، وَكَانَ يَسُوسُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَعَصَى، فَسَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَمَسَخَهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا -لَعَنَهُ اللَّهُ-مَمْسُوخًا، قَالَ: وَإِذَا كَانَتْ خَطِيئَةُ الرَّجُلِ فِي كِبْر فَلَا تَرْجُه، وَإِذَا كَانَتْ فِي مَعْصِيَةٍ فَارْجُهُ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مِنَ الْجَنَّانِينَ، الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْجَنَّةِ.
وَقَدْ رُوي فِي هَذَا آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنِ السَّلَفِ، وَغَالِبُهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي تُنْقَلُ لِيُنْظَرَ فِيهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنْهَا. وَمِنْهَا مَا قَدْ يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْحَقِّ الَّذِي بِأَيْدِينَا، وَفِي الْقُرْآنِ غُنْيَةٌ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكَادُ تَخْلُو مِنْ تَبْدِيلٍ وَزِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَقَدْ وُضِعَ فِيهَا أَشْيَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ الَّذِينَ يَنْفُون عَنْهَا تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، كَمَا لِهَذِهِ [الْأُمَّةِ مِنْ] (7) الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ، وَالسَّادَةِ الْأَتْقِيَاءِ وَالْأَبْرَارِ وَالنُّجَبَاءِ (8) مِنَ الْجَهَابِذَةِ النُّقَّادِ، والحفاظ
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) في ف: "كبر في قلبه".
(3) في ت: "حتى".
(4) زيادة من ف.
(5) في ت، ف: "السماء".
(6) في ف: "عن".
(7) زيادة من ف.
(8) في أ: "البررة والنجباء".(5/168)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
الْجِيَادِ، الَّذِينَ دَوَّنُوا الْحَدِيثَ وَحَرَّرُوهُ، وَبَيَّنُوا صَحِيحَهُ مَنْ حَسَنِهِ، مِنْ ضَعِيفِهِ، مِنْ مُنْكَرِهِ وَمَوْضُوعِهِ، وَمَتْرُوكِهِ وَمَكْذُوبِهِ، وَعَرَفُوا الْوَضَّاعِينَ وَالْكَذَّابِينَ وَالْمَجْهُولِينَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ الرِّجَالِ، كُلُّ ذَلِكَ صِيَانَةً لِلْجَنَابِ النَّبَوِيِّ وَالْمَقَامِ الْمُحَمَّدِيِّ، خَاتَمِ الرُّسُلِ، وَسَيِّدِ الْبَشَرِ [عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّاتُ وَالصَّلَوَاتُ وَالتَّسْلِيمَاتُ] (1) ، أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ كَذِبٌ، أَوْ يُحَدَّثَ عَنْهُ بِمَا لَيْسَ [مِنْهُ] (2) ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُمْ، وَقَدْ فَعَلَ.
وَقَوْلُهُ: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أَيْ: فَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْفِسْقَ هُوَ الْخُرُوجُ، يُقَالُ (3) فَسَقت الرُّطَبة: إِذَا خَرَجَتْ مِنْ أَكْمَامِهَا (4) وَفَسَقَتِ الْفَأْرَةُ مِنْ جُحْرها: إِذَا خَرَجَتْ مِنْهُ لِلْعَيْثِ (5) وَالْفَسَادِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُقَرِّعًا وَمُوَبِّخًا لِمَنِ اتَّبَعَهُ وَأَطَاعَهُ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} أَيْ: بَدَلًا عَنِّي؛ وَلِهَذَا قَالَ: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا}
وَهَذَا الْمَقَامُ كَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا وَمَصِيرِ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ فِي سُورَةِ يس: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 59 -62] .
{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) }
يَقُولُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي عَبِيدٌ أَمْثَالُكُمْ، لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، وَلَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقِي لِلسَّمَوَاتِ (6) وَالْأَرْضِ، وَلَا كَانُوا إِذْ ذَاكَ مَوْجُودِينَ، يَقُولُ تَعَالَى: أَنَا الْمُسْتَقِلُّ بِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَمُدَبِّرُهَا وَمُقَدِّرُهَا وَحْدي، لَيْسَ مَعِي فِي ذَلِكَ شَرِيكٌ وَلَا وَزِيرٌ، وَلَا مُشِيرٌ وَلَا نَظِيرٌ، كَمَا قَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الْآيَةَ [سَبَإٍ: 23، 22] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} قَالَ مَالِكٌ: أَعْوَانًا.
{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يُخاطب بِهِ المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعًا لهم وتوبيخًا:
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ف.
(3) في أ: "تقول".
(4) في أ: "كمامها".
(5) في أ: "للعنت".
(6) في ف، أ: "خلق السموات".(5/169)
{نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أَيْ: فِي دَارِ الدُّنْيَا، ادْعُوهُمُ الْيَوْمَ، يُنْقِذُونَكُمْ مِمَّا (1) أَنْتُمْ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الْأَنْعَامِ:94] .
وَقَوْلُهُ: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} ] كَمَا قَالَ: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ (2) [وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [الْقَصَصِ:64] ، وَقَالَ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الْأَحْقَافِ:5، 6] ، قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مَرْيَمَ:82، 81]
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَهْلكًا (3) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عَمْرًا الْبِكَالِيَّ (4) حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: هُوَ وَادٍ عَمِيقٌ، فُرق بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى وَأَهْلِ الضَّلَالَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {مَوْبِقًا} وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنان الْقَزَّازُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ دِرْهَمٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {مَوْبِقًا} : عَدَاوَةً.
وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ هَاهُنَا: أَنَّهُ الْمَهْلَكُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ أَوْ غَيْرَهُ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ (5) أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا وُصُولَ لَهُمْ إِلَى آلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَزْعُمُونَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا فِي الْآخِرَةِ، فَلَا خَلَاصَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، بَلْ بَيْنَهُمَا مَهْلَكٌ وَهَوْلٌ عَظِيمٌ وَأَمْرٌ كَبِيرٌ.
وَأَمَّا إِنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {بَيْنَهُمْ} (6) عَائِدًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: إِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالَةِ بِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الرُّومِ:14] ، وَقَالَ {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الرُّومِ:43] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:28 -30] .
__________
(1) في ت: "بما".
(2) زيادة من ف.
(3) في ت: "هلكا".
(4) في أ: "البكائي".
(5) في أ: "خير".
(6) في ت: "بينهما".(5/170)
وَقَوْلُهُ: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} أَيْ: إِنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا جَهَنَّمَ حِينَ (1) جِيءَ بِهَا تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَإِذَا رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، تَحَقَّقُوا لَا مَحَالَةَ أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعْجِيلِ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ لَهُمْ، فَإِنَّ تَوَقُّعَ الْعَذَابِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، عَذَابٌ نَاجِزٌ.
{وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} أَيْ: لَيْسَ (2) لَهُمْ طَرِيقٌ يَعْدِلُ بِهِمْ عَنْهَا وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ دَرّاج عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الْكَافِرَ يَرَى (4) جَهَنَّمَ، فَيَظُنُّ أَنَّهَا مُوَاقِعَتُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ (5) سَنَةً" (6)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ (7) لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُنْصَبُ الْكَافِرُ مِقْدَارَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، كَمَا لَمْ يَعْمَلْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّ الْكَافِرَ لَيَرَى جَهَنَّمَ، وَيَظُنُّ أَنَّهَا مُوَاقِعَتُهُ مِنْ مسيرة أربعين سنة" (8) .
__________
(1) في ت: "حتى".
(2) في ت، ف، أ: "وليس".
(3) في ف، أ: "عن النبي".
(4) في ف، أ: "ليرى".
(5) في ف: "أربعمائة".
(6) تفسير الطبري (15/173) ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(7) في ت: "أبي" وهو خطأ.
(8) المسند (3/75) .(5/171)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا (54) } .
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَيَّنَّا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، وَوَضَّحْنَا لَهُمُ الْأُمُورَ، وَفَصَّلْنَاهَا، كَيْلَا (1) يَضِلُّوا عَنِ الْحَقِّ، وَيَخْرُجُوا عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى. وَمَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَهَذَا الْفُرْقَانِ، الْإِنْسَانُ كَثِيرُ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَالْمُعَارَضَةِ لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، إِلَّا مَنْ هَدَى اللَّهُ وَبَصَّرَهُ لِطَرِيقِ النَّجَاةِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً، فَقَالَ: "أَلَا تُصَلِّيَانِ؟ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثنا. فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجع إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ (3) يَضْرِبُ فَخِذَهُ [وَيَقُولُ] (4) {وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} أَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين (5) .
__________
(1) في ف،: "لئلا".
(2) في ف، أ: "النبي".
(3) في ت، ف، أ: "يقول".
(4) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(5) المسند (1/112) وصحيح البخاري برقم (1227) وصحيح مسلم برقم (755) .(5/171)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَرُّدِ (1) الْكَفَرَةِ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ مَعَ مَا يُشَاهِدُونَ مِنَ الْآيَاتِ [وَالْآثَارِ] (2) وَالدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ، وَأَنَّهُ مَا مَنَعَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِ ذَلِكَ إِلَّا طَلَبُهُمْ أَنْ يُشَاهِدُوا الْعَذَابَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ عَيَانًا، كَمَا قَالَ أُولَئِكَ لِنَبِيِّهِمْ: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشُّعَرَاءِ:187] ، وَآخَرُونَ قَالُوا: {ائْتِنَا (3) بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ:29] ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الْأَنْفَالِ:32] ، {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الْحِجْرِ:7، 6] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ [مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ] (4) .
ثُمَّ قَالَ: {إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ} مِنْ غِشْيَانِهِمْ بِالْعَذَابِ وَأَخْذِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا} أَيْ: يَرَوْنَهُ عَيَانًا مُوَاجَهَةً [وَمُقَابَلَةً] (5) ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} أَيْ: قَبْلَ الْعَذَابِ مُبَشِّرِينَ (6) مَنْ صَدَّقَهُمْ وَآمَنَ بِهِمْ، وَمُنْذِرِينَ (7) مَنْ كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْكَفَّارِ بِأَنَّهُمْ يُجَادِلُونَ بِالْبَاطِلِ {لِيُدْحِضُوا بِهِ} أَيْ: لِيُضْعِفُوا بِهِ {الْحَقَّ} الَّذِي جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَاصِلٍ لَهُمْ. {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} أَيْ: اتَّخَذُوا الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ وَخَوَارِقَ الْعَادَاتِ الَّتِي بُعِثَ (8) بِهَا الرُّسُلُ وَمَا أَنْذَرُوهُمْ وَخَوَّفُوهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ {هُزُوًا} أَيْ: سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَشَدُّ التَّكْذِيبِ.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) } .
يَقُولُ تَعَالَى: وَأَيُّ عِبَادِ اللَّهِ أَظْلِمُ (9) مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ اللَّهِ (10) فأعرض عنها، أي: تناساها وأعرض
__________
(1) في ت: "ثمود".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) زيادة من ف.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ت، ف، أ: "مبشرون".
(7) في ت، ف، أ: "ومنذرون".
(8) في ت، أ: "أبعث".
(9) في أ: "وأي عبادى أظلم".
(10) في ف: "ربه".(5/172)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
عَنْهَا، وَلَمْ يَصْغَ (1) لَهَا، وَلَا أَلْقَى إِلَيْهَا بَالًا {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ. {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَيْ: قُلُوبِ هَؤُلَاءِ {أَكِنَّةً} أَيْ: أَغْطِيَةً وَغِشَاوَةً، {أَنْ يَفْقَهُوهُ} أَيْ: لِئَلَّا يَفْهَمُوا (2) هَذَا الْقُرْآنَ وَالْبَيَانَ، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} أَيْ: صَمَمٌ مَعْنَوِيٌّ عَنِ الرَّشَادِ، {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} .
وَقَوْلُهُ: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} أَيْ: رَبُّكَ (3) -يَا مُحَمَّدُ-غَفُورٌ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ، {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} ، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فَاطِرٍ:45] ، وَقَالَ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرَّعْدِ:6] . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَحْلُمُ وَيَسْتُرُ وَيَغْفِرُ، وَرُبَّمَا هَدَى بَعْضَهُمْ مِنَ الْغَيِّ إِلَى الرَّشَادِ، وَمَنِ اسْتَمَرَّ مِنْهُمْ فَلَهُ يَوْمٌ يَشِيبُ فِيهِ الْوَلِيدُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا} أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ عَنْهُ مَحِيدٌ وَلَا مَحِيصٌ وَلَا مَعْدِلٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} أَيْ: الْأُمَمُ السَّالِفَةُ وَالْقُرُونُ الْخَالِيَةُ أَهْلَكْنَاهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} أَيْ: جَعَلْنَاهُ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَوَقْتٍ [مَعْلُومٍ] (4) مُعَيَّنٍ، لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، أَيْ: وَكَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ، احْذَرُوا أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ، فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أَشْرَفَ رَسُولٍ (5) وَأَعْظَمَ نَبِيٍّ، وَلَسْتُمْ بِأَعَزَّ عَلَيْنَا مِنْهُمْ، فَخَافُوا عَذَابِي وَنُذُرِ.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) }
__________
(1) في ت: "يضع".
(2) في ت: "يفهم"، وفي ف، أ: "يفهموه".
(3) في ف، أ: "وربك".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ت: "رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".(5/173)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
{فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) } .
سَبَبُ قَوْلِ مُوسَى [عليه السلام] (1) لفتاه -وهو يُشوع بْنُ نُون-هَذَا الْكَلَامَ: أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُحِطْ بِهِ مُوسَى، فَأَحَبَّ الذَّهَابَ إِلَيْهِ، وَقَالَ لِفَتَاهُ ذَلِكَ: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} أَيْ لَا أَزَالُ سَائِرًا حَتَّى أَبْلُغَ هَذَا الْمَكَانَ الذي فيه مجمع البحرين، قال الفرزدق:
__________
(1) زيادة من ف، أ.(5/173)
فَمَا بَرحُوا حَتَّى تَهَادَتْ نسَاؤهُم ... بِبَطْحَاء ذِي قَارٍ عيابَ اللطَائم (1)
قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: وَهُمَا بَحْرُ فَارِسَ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ، وَبَحْرُ الرُّومِ مِمَّا يَلِي الْمَغْرِبَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرظي: مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَ طَنْجَةَ، يَعْنِي فِي أَقْصَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} أَيْ: وَلَوْ أَنِّي أَسِيرُ حُقُبًا مِنَ الزَّمَانِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ الحُقُب فِي لُغَةِ قَيْسٍ (2) : سَنَةٌ. ثُمَّ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: الحُقُب ثَمَانُونَ سَنَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَبْعُونَ خَرِيفًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} قَالَ: دَهْرًا. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أُمِرَ بِحَمْلِ حُوتٍ مَمْلُوحٍ مَعَهُ، وَقِيلَ لَهُ: مَتَى فقدتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمّة. فَسَارَا حَتَّى بَلَغَا مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ؛ وَهُنَاكَ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا: "عَيْنُ الْحَيَاةِ"، فَنَامَا هُنَالِكَ، وَأَصَابَ الْحُوتُ مِنْ رَشَاشِ ذَلِكَ الْمَاءِ فَاضْطَرَبَ (3) ، وَكَانَ فِي مِكْتَلٍ مَعَ يُوشَعَ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (4) ، وطَفَر مِنَ المَكْتل إِلَى الْبَحْرِ، فَاسْتَيْقَظَ يُوشع، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسَقَطَ الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ وَجَعَلَ يَسِيرُ فِيهِ، وَالْمَاءُ لَهُ مِثْلُ الطَّاقِ لَا يَلْتَئِمُ بَعْدَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} أَيْ: مِثْلَ السَرَب في الأرض.
قال ابن جريح (5) : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَارَ أَثَرُهُ كَأَنَّهُ حَجَر.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَعَلَ الْحُوتُ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنَ الْبَحْرِ إِلَّا يَبِسَ حتى يكون صخرة (6) .
وقال محمد -[هو] (7) بْنُ إِسْحَاقَ-عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبيد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ذَكَرَ حَدِيثَ ذَلِكَ: "مَا انْجَابَ مَاءٌ مُنْذُ كَانَ النَّاسُ غَيْرُهُ ثَبَتَ (8) مَكَانَ الْحُوتِ الَّذِي فِيهِ، فَانْجَابَ كالكُوّة حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ مُوسَى فَرَأَى مَسْلَكَهُ"، فَقَالَ: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} .
وَقَالَ قَتَادَةُ: سَرب مِنَ الْبَرِّ (9) ، حَتَّى أَفْضَى إِلَى الْبَحْرِ، ثُمَّ سَلَكَ فِيهِ فَجَعَلَ لَا يَسْلُكُ فِيهِ طَرِيقًا إِلَّا جُعِلَ (10) مَاءً جَامِدًا.
وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَاوَزَا} أَيِ: الْمَكَانَ الَّذِي نَسِيَا الْحُوتَ فِيهِ، ونُسب النسيان إليهما وإن كان يُوشَع
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (15/176) .
(2) في ف، أ: "العرب".
(3) في ف، أ: "فاضطربت".
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) في ت: "جرير".
(6) في ت، ف، أ: "كصخرة".
(7) زيادة من أ.
(8) في أ: "غير مثبت".
(9) في ت، أ: "الحر".
(10) في ت، أ: "صار".(5/174)
هُوَ الَّذِي نَسِيَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرَّحْمَنِ:22] ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ (1) الْمَالِحِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
فَلَمَّا ذَهَبَا عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي نَسَيَاهُ فِيهِ مَرْحَلَةً {قَالَ} مُوسَى {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [نَصَبًا] (2) } أَيْ: الَّذِي جَاوَزَا فِيهِ الْمَكَانَ {نَصَبًا} يَعْنِي: تَعَبًا. قَالَ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} قَالَ قَتَادَةُ: وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ["وَمَا أَنْسَانِيهِ أَنْ أَذْكُرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ] (3) ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ} أَيْ: طَرِيقَهُ {فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أَيْ: هَذَا الَّذِي نَطْلُبُ {فَارْتَدَّا} أَيْ: رَجَعَا {عَلَى آثَارِهِمَا} أَيْ: طَرِيقِهِمَا {قَصَصًا} أَيْ: يَقُصَّانِ أَثَرَ مَشْيِهِمَا، وَيَقْفُوَانِ أَثَرَهُمَا.
{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} وَهَذَا هُوَ الْخَضِرُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بِذَلِكَ قَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا البِكَالِيّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذِبَ عَدُوّ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئل: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا، تَجْعَلُهُ (4) بِمِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ (5) ثَمَّ. فَأَخَذَ حُوتًا، فَجَعَلَهُ بِمِكْتَلٍ (6) ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ بِفَتَاهُ (7) يُوشع بْنِ نُونٍ عَلَيْهِمَا (8) السَّلَامُ، حَتَّى إِذَا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ، فَخَرَجَ مِنْهُ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ وَاتَّخَذَ (9) سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جِريةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَب حَتَّى جاوَزَا الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. قَالَ لَهُ فَتَاهُ (10) : {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} قَالَ: "فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَقَالَ: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} . قَالَ: "فَرَجَعَا (11) يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسجّى بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الخَضِر: وَأنّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ!. قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمت رُشْدًا. {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ، يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ، لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَه اللَّهُ لا
__________
(1) في ف، أ: "على".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) زيادة من ف، أ، وفي هـ: "أن أذكره".
(4) في أ: "فتجعله".
(5) في أ: "منهم".
(6) في ف: "في مكتل".
(7) في ف: "فتاه".
(8) في ت، ف: "عليه".
(9) في ف: "فاتخذ".
(10) في ت: "قتادة" وهو خطأ.
(11) في ف: "فرجعان".(5/175)
أَعْلَمُهُ. فَقَالَ مُوسَى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} .
فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُ (1) ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ، فَحَمَلُوهُمْ (2) بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَدْ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَعَمَدْتَ (3) إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا. {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} (4) قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا". قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَنَزَلَ (5) عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرة، [أَوْ نَقْرَتَيْنِ] (6) فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ.
ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ [بِيَدِهِ] (7) فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ؟! (8) قَالَ: "وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى"، {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * (9) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ (10) } قَالَ: مَائِلٌ. فَقَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ: {فَأَقَامَهُ} ، فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا، {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا".
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: "وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا" وَكَانَ يَقْرَأُ: "وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ" (11) .
ثُمَّ رَوَاهُ (12) الْبُخَارِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيينة ... فَذَكَرَ نَحْوَهُ (13) ، وَفِيهِ: "فَخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ يُوشع بْنُ نُونٍ، وَمَعَهُمَا الْحُوتُ حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَنَزَلَا عِنْدَهَا -قَالَ: فَوَضَعَ مُوسَى رَأْسَهُ فَنَامَ-قَالَ سُفْيَانُ: وَفِي حَدِيثِ غَيْرِ (14) عَمْرٍو قَالَ: وَفِي أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا: الْحَيَاةُ، لَا يُصِيبُ مِنْ مَائِهَا شَيْءٌ إِلَّا حُيِيَ: فَأَصَابَ (15) الْحُوتَ مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْعَيْنِ، قَالَ، فَتَحَرَّكَ وَانْسَلَّ مِنَ الْمِكْتَلِ، فَدَخَلَ الْبَحْرَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: {آتِنَا غَدَاءَنَا} كَذَا قَالَ: وَسَاقَ (16) الْحَدِيثَ. وَوَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَغَمَسَ مِنْقَارَهُ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: مَا علمي
__________
(1) في ف، أ: "يحملوهم".
(2) في ت: "فحملوه"، وفي ف، أ: "فحملوا".
(3) في ف، أ: "عمدت".
(4) في ف، أ: "أقل لك" وهو خطأ.
(5) في ف، أ: "فوقع".
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ف، أ: "زاكية".
(9) في ف: "قد بلغت مني" وهو خطأ.
(10) في ت: "ينقض فأقامه".
(11) صحيح البخاري برقم (4725) .
(12) في أ: "ورواه".
(13) في ت، ف، أ: "فذكره بنحوه".
(14) في ت، ف، أ: "عن".
(15) في ت: "قال: فأصاب".
(16) في أ: "وسباق".(5/176)
وَعِلْمُكَ وَعِلْمُ الْخَلَائِقِ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مقدارُ مَا غَمَسَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْقَارَهُ وَذَكَرَ تَمَامَهُ بِنَحْوِهِ (1) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيج أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ -يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ-وَغَيْرُهُمَا قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِهِ، إِذْ قَالَ: سَلُونِي. فَقُلْتُ: أَيْ أَبَا عَبَّاسٍ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، بِالْكُوفَةِ رَجُلٌ قَاصٌّ، يُقَالُ لَهُ: "نَوْفٌ" يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ -أَمَّا عَمْرٌو فَقَالَ لِي: قَالَ (2) : كَذِبَ عَدُوُّ اللَّهِ! وَأَمَّا يَعْلَى فَقَالَ لِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ، ذكَّر النَّاسَ يَوْمًا، حَتَّى إِذَا فَاضَتِ الْعُيُونُ، وَرَقَّتِ الْقُلُوبُ، وَلَّى فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الْأَرْضِ (3) أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ، قِيلَ: بَلَى قَالَ: أَيْ رَبِّ، وَأَيْنَ؟ قَالَ: بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. قَالَ: أَيْ رَبِّ، اجْعَلْ لِي عِلْمًا أَعْلَمُ ذَلِكَ بِهِ". قَالَ لِي عَمْرٌو: قَالَ: حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ، وَقَالَ لِي يَعْلَى: خُذْ حُوتًا مَيْتًا حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ. فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، فَقَالَ لِفَتَاهُ: لَا أُكَلِّفُكَ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنِي حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ، قَالَ مَا كَلَّفْتَ كَبِيرًا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، لَيْسَتْ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: "فَبَيْنَا (4) هُوَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ فِي مَكَانٍ ثَرْيَانَ (5) إِذْ تَضَرَّب (6) الْحُوتُ وَمُوسَى نَائِمٌ فَقَالَ فَتَاهُ: لَا أُوقِظُهُ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ، وَتَضَرَّبَ الْحُوتُ حَتَّى دَخَلَ الْبَحْرَ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جَرْيَة الْمَاءِ حَتَّى كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ". [قَالَ: فَقَالَ لِي عَمْرٌو: هَكَذَا كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ] (7) ، وَحَلَّقَ بَيْنَ إِبْهَامَيْهِ وَالَّتِي تَلِيهِمَا: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} قَالَ: "وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ عَنْكَ النَّصَبَ" لَيْسَتْ هَذِهِ عِنْدَ سَعِيدٍ -أَخْبَرَهُ، فَرَجَعَا فَوَجَدَا خَضرًا. قَالَ: قَالَ (8) عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: عَلَى طِنْفِسَة خَضْرَاءَ عَلَى كبِد (9) الْبَحْرِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُسَجى بِثَوْبٍ، قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ، وَطَرَفَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: هَلْ بِأَرْضٍ مِنْ سَلَامٍ؟ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: جِئْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتُ رُشْدًا. قَالَ: يَكْفِيكَ (10) التَّوْرَاةُ (11) بِيَدِكَ، وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ!. يَا مُوسَى، إِنَّ لِي عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْلَمَهُ، وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْلَمَهُ. فَأَخَذَ طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ [فَقَالَ: وَاللَّهُ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ] (12) ، حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ وَجَدَا مَعَابِرَ صِغَارًا تَحْمِلُ (13) أَهْلَ هَذَا السَّاحِلِ إِلَى (14) هَذَا السَّاحِلِ الْآخَرِ عَرَفُوهُ، فَقَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ الصَّالِحُ؟. قَالَ فَقُلْنَا لِسَعِيدٍ: خَضِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. لَا نَحْمِلُهُ بِأَجْرٍ. فَخَرَقَهَا، وَوَتَدَ فِيهَا وَتَدًا. قَالَ مُوسَى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4727) .
(2) في أ: "فقال وقال".
(3) في ت: "هل على الأرض"، وفي ف: "هل في الناس".
(4) في ت: "فبينما".
(5) في ف، أ: "يريان".
(6) ف أ: "يضرب".
(7) زيادة من ف، أ، والبخاري.
(8) في ف، أ: "قال لى".
(9) في ت: "كبده".
(10) في أ: "أما يكفيك"، وفي ت: "ألا تكفيك.
(11) في ف: "أما يكفيك أن التوراة".
(12) زيادة من ف، أ، والبخاري.
(13) في ت: "فحمد".
(14) في ت، أ: "إلى أهل".(5/177)
قَالَ مُجَاهِدٌ: مُنْكِرًا. قَالَ: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} كَانَتِ الْأُولَى نِسْيَانًا، وَالْوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا. فَانْطَلَقَا} . حَتَّى لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ. قَالَ يَعْلَى: قَالَ سَعِيدٌ، وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ، فَأَخَذَ غُلَامًا كَافِرًا ظَرِيفًا فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ، فَقَالَ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} لَمْ تَعْمَلْ بِالْحِنْثِ (1) . وَابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا {زَكِيَّةً} -" زَاكِيَة " مُسْلمَة، كَقَوْلِكَ (2) : غُلَامًا زَكِيًّا فَانْطَلَقَا، فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ، قَالَ [سَعِيدٌ] (3) بِيَدِهِ هَكَذَا، وَرَفَعَ يَدَهُ فَاسْتَقَامَ -قَالَ يَعْلَى: حَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدًا قَالَ: فَمَسْحَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ -قَالَ: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} قَالَ سَعِيدٌ: أَجْرًا نَأْكُلُهُ {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} وَكَانَ أَمَامَهُمْ، قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَمَامَهُمْ مَلِكٌ" يَزْعُمُونَ عَنْ غَيْرِ سَعِيدٍ أَنَّهُ هُدَدُ بْنُ بُدَدَ، وَالْغُلَامُ الْمَقْتُولُ (4) اسْمُهُ -يَزْعُمُونَ-جَيسُور (5) {مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} فَأَرَدْتُ إِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا بِعَيْبِهَا، فَإِذَا جَاوَزَهُ (6) أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: سَدُّوهَا بِقَارُورَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بِالْقَارِ. {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} وَكَانَ كَافِرًا، {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} . أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبّه عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ (7) عَلَى دِينِهِ {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} كَقَوْلِهِ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} ، {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} : هُمَا بِهِ أَرْحَمُ مِنْهُمَا بِالْأَوَّلِ الَّذِي قَتَلَ (8) خَضِرٌ. وَزَعَمَ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا أُبْدِلَا جَارِيَةً. وَأَمَّا دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فَقَالَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: إِنَّهَا جَارِيَةٌ (9) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ مِنِّي. فَأمرَ أَنْ يَلْقَى هَذَا الرَّجُلَ. فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ بِزِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ (10) ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ (11) ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَلَسْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، إِنَّ نَوْفًا ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبٍ، يَزْعُمُ عَنْ كَعْبٍ أَنَّ مُوسَى النَّبِيَّ الَّذِي طَلَبَ الْعَالَمَ إِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ مِيشَا؟ قَالَ سَعِيدٌ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أنوفٌ يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ سَعِيدٌ: فَقُلْتُ لَهُ: نَعَمْ، أَنَا سَمِعْتُ نَوْفًا يَقُولُ (12) ذَلِكَ. قَالَ: أَنْتِ سَمِعْتَهُ يَا سَعِيدُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: كَذَبَ نَوْفٌ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، إِنْ كَانَ فِي عِبَادِكَ أَحَدٌ (13) هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي، فَدُلَّنِي عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ، فِي عِبَادِي مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. ثُمَّ نَعَتَ لَهُ مَكَانَهُ (14) وَأَذِنَ لَهُ فِي لُقِيِّهِ. فَخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ، وَمَعَهُ حُوتٌ مَلِيحٌ، قَدْ قِيلَ لَهُ: إِذَا (15) حَيِيَ هَذَا الْحُوتُ فِي مَكَانٍ، فَصَاحِبُكَ هُنَالِكَ، وَقَدْ أَدْرَكْتَ حَاجَتَكَ. فَخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ، وَمَعَهُ ذَلِكَ الْحُوتُ يَحْمِلَانِهِ، فَسَارَ حَتَّى جَهَدَهُ السَّيْرُ، وَانْتَهَى إِلَى الصَّخْرَةِ وَإِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ، وَذَلِكَ الْمَاءُ مَاءُ الْحَيَاةِ، من
__________
(1) في ت: "لم تعلم بالحنث"، وفي ف، أ: "لم تعمل الحنث".
(2) في ت: "كقوله".
(3) زيادة من ف، أ، والبخاري.
(4) في ت: "المقصود".
(5) في أ: "حيسون".
(6) في أ: "جاوزوا".
(7) في ت: "تبايعاه".
(8) في أ: "قتله".
(9) صحيح البخاري برقم (4726) .
(10) تفسير عبد الرزاق (1/341، 342) .
(11) في ف، أ: "عيينة".
(12) في ت: "فيقول".
(13) في ت: "واحد".
(14) في ف، أ: "بمكان".
(15) في أ: "إنه إذا".(5/178)
شَرِبَ مِنْهُ خُلِّدَ، وَلَا يُقَارِبُهُ شَيْءٌ مَيْتٌ إِلَّا حَيِيَ. فَلَمَّا نَزَلَا وَمَسَّ الْحُوتُ الْمَاءَ حَيِيَ {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} فَانْطَلَقَا فَلَمَّا جَاوَزَ مُنْقَلَبَه قَالَ: مُوسَى لِفَتَاهُ: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} قَالَ الْفَتَى -وَذَكَرَ-: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَظَهَرَ مُوسَى عَلَى الصَّخْرَةِ حَتَّى إِذَا انْتَهَيَا إِلَيْهَا، فَإِذَا رَجُلٌ مُتَلَفِّفٌ فِي كِسَاءٍ لَهُ، فَسَلَّمَ مُوسَى، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْعَالِمُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ إِنْ كَانَ لَكَ فِي قَوْمِكَ لَشُغل؟. قَالَ لَهُ مُوسَى: جِئْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} وَكَانَ رَجُلًا يَعْلَمُ عِلْمَ الْغَيْبِ قَدْ عُلِّم ذَلِكَ -فَقَالَ مُوسَى: بَلَى. قَالَ: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} ؟ أَيْ: إِنَّمَا تَعْرِفُ ظَاهِرَ مَا تَرَى مِنَ الْعَدْلِ، وَلَمْ تُحِطْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ بِمَا أَعْلَمُ. {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} وَإِنْ رأيتُ مَا يُخَالِفُنِي، قَالَ: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} [وَإِنْ أَنْكَرْتَهُ] (1) {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} : فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ يَتَعَرَّضَانِ النَّاسَ، يَلْتَمِسَانِ (2) مَنْ يَحْمِلُهُمَا، حَتَّى مَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ جَدِيدَةٌ وَثِيقَةٌ، لَمْ يَمُرَّ بِهِمَا مِنَ السُّفُنِ أَحْسَنُ وَلَا أَكْمَلُ وَلَا أَوْثَقُ مِنْهَا. فَسَأَلَا أَهْلَهَا أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَحَمَلُوهُمَا (3) ، فَلَمَّا اطْمَأَنَّا فِيهَا وَلجّجَت بِهِمَا مَعَ أَهْلِهَا، أَخْرَجُ مِنْقَارًا لَهُ وَمِطْرَقَةً، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهَا فَضَرَبَ فِيهَا بِالْمِنْقَارِ حَتَّى خَرَقَهَا. ثُمَّ أَخَذَ لَوْحًا فَطَبَّقَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهَا يُرَقِّعُهَا، فَقَالَ: لَهُ مُوسَى -وَرَأَى أَمْرًا أَفْظَعَ بِهِ-: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} أَيْ: بِمَا تَرَكْتُ مِنْ عَهْدِكَ، {وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} . ثُمَّ خَرَجَا (4) مِنَ السَّفِينَةِ فَانْطَلَقَا، حَتَّى أَتَيَا (5) أَهْلَ قَرْيَةٍ، فَإِذَا غِلْمَانٌ يَلْعَبُونَ خَلْفَهَا، فِيهِمْ غُلَامٌ لَيْسَ فِي الْغِلْمَانِ غُلَامٌ أَظْرَفُ مِنْهُ وَلَا أَثْرَى (6) وَلَا أَوْضَأُ (7) مِنْهُ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ، وَأَخَذَ (8) حَجَرًا فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ حَتَّى دَمَغَهُ فَقَتَلَهُ، قَالَ: فَرَأَى مُوسَى أَمْرًا فَظِيعًا لَا صَبْرَ عَلَيْهِ، صَبِيٌّ صَغِيرٌ قَتَلَهُ لَا ذَنْبَ لَهُ (9) قَالَ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} (10) أَيْ: صَغِيرَةً {بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي (11) عُذْرًا} أَيْ: قَدْ أعْذرتَ (12) فِي شَأْنِي. {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ، فَهَدَمَهُ ثُمَّ قَعَدَ يَبْنِيهِ، فَضَجِرَ مُوسَى مِمَّا يَرَاهُ (13) يَصْنَعُ مِنَ التَّكْلِيفِ، وَمَا لَيْسَ عَلَيْهِ صَبْرٌ، قَالَ: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} أَيْ: قَدِ اسْتَطْعَمْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا، وَضِفْنَاهُمْ فَلَمْ يُضَيّفونا، ثُمَّ قَعَدْتَ تَعْمَلُ مِنْ غَيْرِ صَنِيعَةٍ، وَلَوْ شِئْتَ لَأُعْطِيتَ عَلَيْهِ أَجْرًا فِي عَمَلِهِ؟. قَالَ: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} -وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ" -وَإِنَّمَا عِبْتُهَا (14) لِأَرُدَّهُ عَنْهَا، فَسَلِمَتْ (15) حِينَ رَأَى الْعَيْبَ الَّذِي صَنَعْتُ بِهَا. {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أَيْ: مَا فَعَلْتُهُ عَنْ نَفْسِي، {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا كَانَ الْكَنْزُ إِلَّا عِلْمًا (16) .
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا ظَهَرَ مُوسَى وَقَوْمُهُ عَلَى مِصْرَ، أَنْزَلَ قَوْمَهُ (17) ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ بِهِمُ الدَّارُ، أَنْزَلَ اللَّهُ: أَنْ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فَخَطَبَ قَوْمَهُ، فَذَكَرَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ، وَذَكَّرَهُمْ إِذْ نَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَذَكَّرَهُمْ هَلَاكَ عَدُوِّهِمْ، وَمَا اسْتَخْلَفَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ: كَلَّمَ اللَّهُ نَبِيَّكُمْ تَكْلِيمًا، وَاصْطَفَانِي لِنَفْسِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ مَحَبَّةً مِنْهُ، وَآتَاكُمُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ مَا سألتموه؛ فنبيكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرؤون التَّوْرَاةَ، فَلَمْ يَتْرُكْ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا وَعَرَّفَهُمْ إِيَّاهَا. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: هُمْ (18) كَذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْنَا الَّذِي تَقُولُ، فَهَلْ عَلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا. فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ (19) ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ [عَزَّ وَجَلَّ] (20) يَقُولُ: وَمَا يُدْرِيكَ أَيْنَ أَضَعُ عِلْمِي؟ بَلَى (21) . إِنَّ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ رَجُلًا هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ -قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخَضِرُ-فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ إِيَّاهُ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ: أَنِ ائْتِ الْبَحْرَ، فَإِنَّكَ تَجِدُ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ حُوتًا، فَخُذْهُ فَادْفَعْهُ إِلَى فَتَاكَ، ثُمَّ الْزَمْ شَطَّ الْبَحْرِ، فَإِذَا نَسِيتَ الْحُوتَ وَهَلَكَ مِنْكَ، فَثَمَّ تَجِدُ الْعَبْدَ الصَّالِحَ الَّذِي تَطْلُبُ. فَلَمَّا طَالَ سَفَرُ مُوسَى نَبِيِّ اللَّهِ وَنَصَبَ فِيهِ، سَأَلَ فَتَاهُ عَنِ الْحُوتِ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ وَهُوَ غُلَامُهُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} لَكَ، قَالَ الْفَتَى: لَقَدْ رَأَيْتُ الْحُوتَ حِينَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مُوسَى، فَرَجَعَ حَتَّى أَتَى الصَّخْرَةَ، فَوَجَدَ الْحُوتَ، فَجُعِلَ الْحُوتُ يَضْرِبُ فِي الْبَحْرِ وَيَتْبَعُهُ مُوسَى، وَجَعْلَ مُوسَى يُقَدِّمُ عَصَاهُ يُفَرِّجُ بِهَا عَنْهُ الْمَاءَ يَتْبَعُ (22) الْحُوتَ، وَجَعَلَ الْحُوتُ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنَ الْبَحْرِ إِلَّا يَبِسَ، حَتَّى يَكُونَ صَخْرَةً (23) ، فَجَعَلَ نَبِيُّ اللَّهِ يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى انْتَهَى بِهِ الْحُوتُ إِلَى جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، فَلَقِيَ الْخَضِرَ بِهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، وَأَنَّى يَكُونُ السَّلَامُ بِهَذِهِ (24) الْأَرْضِ؟ وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى. فَقَالَ (25) الْخَضِرُ: أَصَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ [قَالَ: نَعَمْ] (26) فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ: مَا جَاءَ (27) بِكَ؟ قال جئتك {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} يَقُولُ: لَا تُطِيقُ ذَلِكَ. قَالَ مُوسَى {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِ، وَقَالَ لَهُ: لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ أَصْنَعُهُ حَتَّى أُبَيِّنَ لَكَ شَأْنَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}
وَقَالَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتبة بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ
__________
(1) زيادة من ف، أ، والطبري.
(2) في ف، أ: "يلتمسان".
(3) في ت: "فحملوها".
(4) في ت: "خرجاه".
(5) في ف، أ: "حتى إذا أتيا".
(6) في ف، أ: "ولا أبرأ".
(7) في أ:"ولا أضوأ".
(8) في ف: "فأخذ".
(9) في ف: "عليه".
(10) في أ: "زاكية".
(11) في ف: "قد بلغت منى". وهو خطأ.
(12) في ت: "عددت"، وفي أ: "عذرت".
(13) في أ: "رآه".
(14) في أ: "عيبتها".
(15) في ف: "فسلمت منه".
(16) رواه الطبري في تفسيره (15/180) .
(17) في ت، ف، أ: "قومه مصر".
(18) في أ: "هن".
(19) في ف: "جبريل عليه السلام إلى موسى عليه السلام"، وفي أ: "جبريل إلى موسى عليه السلام".
(20) زيادة من أ.
(21) في أ: "بل".
(22) في أ: "حتى يتتبع".
(23) في ت: "حتى يكون مثل الحجر".
(24) في أ: "وأني يكون هذا السلام بهذا".
(25) في ف، أ: "فقال له".
(26) زيادة من ف، أ، والطبري.
(27) في أ: "ما حاجتك".(5/179)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ. فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقيه، فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "بَيْنَا مُوسَى فِي مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: تَعْلَمُ مَكَانَ رَجُلٍ أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا؛ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ. فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقيّه فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدت (1) الْحُوتَ [فَهُوَ ثَمَّةَ] (2) فَارْجِعْ، فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ. فَكَانَ مُوسَى يَتْبَعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ. فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} قَالَ مُوسَى {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} فَوَجَدَا عَبْدَنَا (3) خَضِرًا فكان من شأنهما ما قص في الله كِتَابِهِ (4) (5)
{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قِيلِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ لِذَلِكَ [الرَّجُلِ] (6) الْعَالِمِ، وَهُوَ الْخَضِرُ، الَّذِي خَصَّهُ اللَّهُ بِعِلْمٍ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ مُوسَى، كَمَّا أَنَّهُ أَعْطَى مُوسَى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُعْطِهِ الْخَضِرَ، {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} سُؤَالٌ بِتَلَطُّفٍ (7) ، لَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ وَالْإِجْبَارِ. وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سُؤَالُ الْمُتَعَلِّمِ مِنَ الْعَالِمِ. وَقَوْلُهُ: {أَتَّبِعُكَ} أي: أصحبك وأرافقك، {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} أَيْ: مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ شَيْئًا، أَسْتَرْشِدُ بِهِ فِي أَمْرِي، مِنْ عِلْمٍ نَافِعٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ.
فَعِنْدَهَا {قَالَ} الْخَضِرُ لِمُوسَى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} أَيْ: أَنْتَ لا تقدرأن تُصَاحِبَنِي لِمَا تَرَى [منِّي] (8) مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُخَالِفُ شَرِيعَتَكَ؛ لِأَنِّي عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ، مَا عَلَّمَكَهُ اللَّهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ، مَا عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ، فَكُلٌّ مِنَّا مُكَلَّفٌ بِأُمُورٍ (9) . مِنَ اللَّهِ دُونَ صَاحِبِهِ، وَأَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى صُحْبَتِي.
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} فَأَنَا أَعْرِفُ أَنَّكَ سَتُنْكِرُ عَلَيَّ مَا أَنْتَ مَعْذُورٌ فِيهِ، ولكنْ مَا اطَّلَعَتْ عَلَى حِكْمَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي اطَّلَعْتُ أَنَا عَلَيْهَا دُونَكَ.
{قَالَ} لَهُ (10) مُوسَى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} أَيْ: عَلَى مَا أَرَى مِنْ أُمُورِكَ، {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} أَيْ: وَلَا أُخَالِفُكَ فِي شَيْءٍ. فَعِنْدَ ذَلِكَ شَارَطَهُ الْخَضِرُ {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} أَيْ: ابْتِدَاءً {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} أَيْ: حَتَّى أَبْدَأَكَ أَنَا بِهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَنِي.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ (11) ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابن
__________
(1) في ت: "بعدت".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "عبدا".
(4) في ت: "كتابه العزيز".
(5) رواه الطبري في تفسيره (15/183) .
(6) زيادة من أ.
(7) في ت، ف، أ: "تلطف".
(8) زيادة من أ.
(9) في أ: "مأمور".
(10) في أ: "أي".
(11) في ف: "عرة".(5/181)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ (1) : رَبِّ، أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُنِي وَلَا يَنْسَانِي. قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَقَضَى؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى. قَالَ أَيْ رَبِّ، أَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، عَسَى أَنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى. قَالَ: أَيْ رَبٍّ هَلْ فِي أَرْضِكَ (2) أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَنْ هُوَ؟ قَالَ الْخَضِرُ. قَالَ: فَأَيْنَ (3) أَطْلُبُهُ؟ قَالَ عَلَى السَّاحِلِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، الَّتِي يَنْفَلِتُ (4) عِنْدَهَا الْحُوتُ. قَالَ: فَخَرَجَ مُوسَى يَطْلُبُهُ، حَتَّى كَانَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ، وَانْتَهَى مُوسَى إِلَيْهِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، فَسَلَّمَ (5) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَصْحَبَنِي (6) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُطِيقَ (7) صُحْبَتِي. قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَإِنْ صَحِبْتَنِي {فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} قَالَ: فَسَارَ بِهِ فِي الْبَحْرِ (8) حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَجْمَعِ الْبُحُورِ (9) ، وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ (10) مَكَانٌ أَكْثَرُ مَاءً مِنْهُ. قَالَ: وَبَعَثَ اللَّهُ الْخُطَّافَ، فَجَعَلَ يَسْتَقِي مِنْهُ بِمِنْقَارِهِ، فَقَالَ لِمُوسَى: كَمْ تَرَى هَذَا الْخُطَّافَ رَزَأَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: مَا أَقَلَّ مَا رَزَأَ! قَالَ: يَا مُوسَى فَإِنَّ عِلْمِي وَعِلْمَكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كقَدْر مَا اسْتَقَى هَذَا الْخُطَّافُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ. وَكَانَ مُوسَى قَدْ حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْهُ، أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، فَمِنْ ثَمَّ أُمِرَ أَنْ يَأْتِيَ الْخَضِرَ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ، وَقَتْلِ الْغُلَامِ، وَإِصْلَاحِ الْجِدَارِ، وَتَفْسِيرِهِ لَهُ ذَلِكَ.
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى وَصَاحِبِهِ، وَهُوَ الْخَضِرُ، أَنَّهُمَا انْطَلَقَا لَمَّا تَوَافَقَا وَاصْطَحَبَا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَلَّا يَسْأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ أَنْكَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَبْتَدِئُهُ (11) مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِشَرْحِهِ وَبَيَانِهِ، فَرَكِبَا فِي السَّفِينَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ كَيْفَ رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْخَضِرَ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ -يَعْنِي بِغَيْرِ أُجْرَةٍ-تَكْرِمَةً لِلْخَضِرِ. فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فِي الْبَحْرِ، وَلَجَّجَتْ أَيْ: دَخَلَتِ اللُّجَّةَ، قَامَ الْخَضِرُ فَخَرَقَهَا، وَاسْتَخْرَجَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِهَا (12) ثُمَّ رَقَعَهَا. فَلَمْ يَمْلِكْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَفْسَهُ أَنْ قَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِ: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} . وَهَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ لَا لَامُ التَّعْلِيلِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ (13) لدُوا للْمَوت وابْنُوا للخَرَاب
{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: مُنْكَرًا. وَقَالَ قَتَادَةُ عَجَبًا. فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُ الْخَضِرُ مُذَكِّرًا (14) بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرْطِ: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} يَعْنِي وَهَذَا الصَّنِيعُ فَعَلْتُهُ (15) قَصْدًا،
__________
(1) في ت، ف، أ: "فقال أي".
(2) في ت ف، أ: "في الأرض".
(3) في ف، أ: "وأين".
(4) في ت، ف: "يتفلت".
(5) في ت: "وسلم".
(6) في ت: "تستصحبنى".
(7) في ت: "تستطيع".
(8) في ت: "فصار في البحر"، وفي ف، أ: "فسار به إلى البحر".
(9) في ف، أ: "البحرين".
(10) في ت: "في البحر".
(11) في ف، أ: "يبتدئ به".
(12) في ت: "ألواح".
(13) هو أبو العتاهية، والبيت في ديوانه (ص46) أ. هـ. مستفادا من ط-الشعب.
(14) في ت: "مذكورا".
(15) في ت: "عملته".(5/182)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
وَهُوَ (1) مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اشْتَرَطْتُ مَعَكَ أَلَّا تُنْكِرَ عَلَيَّ فِيهَا، لِأَنَّكَ لَمْ تُحِطْ بِهَا خُبْرًا، وَلَهَا دَاخِلٌ هُوَ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ تَعْلَمْهُ (2) أَنْتَ.
{قَالَ} أَيْ مُوسَى: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} أَيْ: لَا تُضَيِّقُ عَلَيَّ وتُشدد (3) عَلَيَّ؛ وَلِهَذَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا".
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) }
__________
(1) في ف: "وهي".
(2) في ت: "تعلم".
(3) في ت، ف: "ولا تشدد".(5/183)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) }
يَقُولُ تَعَالَى: {فَانْطَلَقَا} أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ، {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ} وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فِي قَرْيَةٍ مِنَ الْقُرَى، وَأَنَّهُ عَمَدَ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَكَانَ أَحْسَنَهُمْ وَأَجْمَلَهُمْ وَأَوْضَأَهُمْ (1) فَقَتَلَهُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ احْتَزَّ رَأْسَهُ، وَقِيلَ: رَضَخَهُ بِحَجَرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: اقْتَطَفَهُ بِيَدِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلَمَّا شَاهَدَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا أَنْكَرَهُ أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَبَادَرَ فَقَالَ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} (2) أَيْ صَغِيرَةً لَمْ تَعْمَلِ الْحِنْثَ (3) ، وَلَا حَمَلَتْ إِثْمًا بَعْدُ، فَقَتَلْتَهُ؟! {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أَيْ: بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ لِقَتْلِهِ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} أَيْ: ظَاهِرَ النَّكَارَةِ.
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} فَأَكَّدَ أَيْضًا فِي التِّذْكَارِ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ؛ فَلِهَذَا قَالَ لَهُ مُوسَى: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا} أَيْ: إِنِ اعْتَرَضْتُ عَلَيْكَ بِشَيْءٍ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ {فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} أي: قد أعذرت إِلَيَّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ، بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: "رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى، لَوْ لَبِثَ (4) مَعَ صَاحِبِهِ لَأَبْصَرَ الْعَجَبَ وَلَكِنَّهُ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا" [مُثَقَّلَةً] (5) (6) .
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمَا: إِنَّهُمَا انْطَلَقَا بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ (7) {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} روى
__________
(1) في ف: "وأضوأهم".
(2) في ت: "زاكية بغير نفس".
(3) في أ: "الخبث".
(4) في ف، أ: "ثبت".
(5) زيادة من ف، أ، والطبري.
(6) تفسير الطبري (15/186) ورواه أبو داود في السنن برقم (3984) من طريق حمزة الزيات به.
(7) في أ: "الأولتين".(5/183)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
ابْنُ جَرِيرٍ (1) عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهَا الْأَيْلَةُ (2) وَفِي الْحَدِيثِ: "حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامًا" (3) أَيْ: بُخَلَاءَ {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} إِسْنَادُ الْإِرَادَةِ هَاهُنَا إِلَى الْجِدَارِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ فِي الْمُحْدَثَاتِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ. وَالِانْقِضَاضُ هُوَ: السُّقُوطُ.
وَقَوْلُهُ: {فَأَقَامَهُ} أَيْ: فَرَدَّهُ إِلَى حَالَةِ الِاسْتِقَامَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَدَّهُ بِيَدَيْهِ، وَدَعَمَهُ حَتَّى رَدَّ مَيْلَهُ. وَهَذَا خَارِقٌ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَهُ {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (4) أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُضَيِّفُونَا كَانَ يَنْبَغِي أَلَّا تَعْمَلَ لَهُمْ مَجَّانًا (5)
{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [أَيْ: لِأَنَّكَ شَرَطْتَ عِنْدَ قَتْلِ الْغُلَامِ أَنَّكَ إِنْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي، فَهُوَ فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ] (6) ، {، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ} أَيْ: بِتَفْسِيرِ {مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} .
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) } .
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى، عليه السلام، وما كان أنكر ظاهره وقد أظهر الله الخضر، عليه السلام، على (7) باطنة فقال إن: السفينة (8) إنما خرقتها لأعيبها؛ [لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} صالحة، أي: جيدة {غَصْبًا} فأردت أن أعيبها] (9) لأرده عنها لعيبها (10) ، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها. وقد قيل: إنهم أيتام.
و [قد] (11) روى ابْنُ جُرَيْجٍ (12) عَنْ وَهْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ شعيب الجبائي؛ أن اسم ذلك الملك هُدَدَ (13) بن بُدَدَ، وقد تقدم أيضًا في رواية البخاري، وهو مذكور في التوراة في ذرية "العيص بن إسحاق" وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوراة، والله أعلم (14)
{وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) }
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ كَانَ اسْمُهُ جَيْسُور. وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا". رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}
__________
(1) في أ: "جريج".
(2) في ت: "الأيكة".
(3) رواه أحمد في مسنده (5/119) من طريق أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عباس، عن أبي بن كعب، رضي الله عنهما.
(4) في ت: "اتخذت" وهو خطأ.
(5) في ت: "يعمل مجانا".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ت، ف، أ: "على حكمة".
(8) في ت: "فقال له السفينة"، وفي ف: "أما السفينة".
(9) زيادة من ف، أ.
(10) في ت: "لعينها".
(11) زيادة من ف، أ.
(12) في ت: "جرير".
(13) في أ: "هود".
(14) في ف: "فالله أعلم".(5/184)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
أَيْ: يَحْمِلُهُمَا حُبُّهُ عَلَى مُتَابَعَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ.
قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ فَرِحَ بِهِ أَبَوَاهُ حِينَ وُلِدَ، وَحَزِنَا عَلَيْهِ حِينَ قُتِلَ، وَلَوْ بَقِيَ كَانَ فِيهِ هَلَاكُهُمَا، فَلْيَرْضَ (1) امْرُؤٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ فِيمَا يَكْرَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ قَضَائِهِ (2) فِيمَا يُحِبُّ.
وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ: "لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً (3) إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ". وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ:216] .
وَقَوْلُهُ [تَعَالَى] (4) {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} أَيْ: وَلَدًا أَزْكَى مِنْ هَذَا، وَهُمَا أَرْحَمُ بِهِ مِنْهُ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَبَرُّ بِوَالِدَيْهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا بُدِّلَا جَارِيَةً. وَقِيلَ لَمَّا قَتَلَهُ الْخَضِرُ كَانَتْ أُمُّهُ حَامِلًا بِغُلَامٍ مُسْلِمٍ. قَالَهُ ابْنُ جُرَيْحٍ (5)
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) } .
فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِطْلَاقِ الْقَرْيَةِ عَلَى الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} [الْكَهْفِ:77] وَقَالَ هَاهُنَا: {فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [مُحَمَّدٍ:13] ، {وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخْرُفِ:31] يَعْنِي: مَكَّةَ وَالطَّائِفَ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ هَذَا الْجِدَارَ (6) إِنَّمَا أُصْلِحُهُ (7) لِأَنَّهُ كَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا.
قَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَ تَحْتَهُ مَالٌ مَدْفُونٌ لَهُمَا. وَهَذَا ظَاهِرُ السِّيَاقِ مِنَ الْآيَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْن عَبَّاسٍ: كَانَ تَحْتَهُ كَنْزُ عِلْمٍ. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صُحُفٌ فِيهَا عِلْمٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ مَا يُقَوِّي ذَلِكَ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ الْمَشْهُورِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَحْصَبيّ عَنْ عَيَّاشِ (8) بْنِ عَبَّاسٍ الْقَتْبَانِيِّ (9) عَنِ ابن حُجَيرة (10) ، عن
__________
(1) في ت، ف، أ: "فرضى".
(2) في ف: "من قضائه له".
(3) في أ: "للمؤمنين قضاء".
(4) زيادة من ت.
(5) في ت: "ابن جرير".
(6) في ت: "الجار".
(7) في ف: "أصلحته".
(8) في ت، ف، أ: "عباس".
(9) في أ: "الغسانى".
(10) في هـ: "أبي حجيرة" والصواب ما أثبتناه من مسند البزار.(5/185)
أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، [رَفَعَهُ] (1) قَالَ: "إِنَّ الْكَنْزَ الَّذِي ذَكَرَ (2) اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ مُصْمَتٍ مَكْتُوبٍ فِيهِ: عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدْرِ لِمَ نَصِبَ (3) ؟ وَعَجِبْتُ لِمَنْ ذَكَرَ النَّارَ لِمَ ضَحِك (4) ؟ وَعَجِبَتْ لِمَنْ ذَكَرَ الْمَوْتَ لِمَ غَفَلَ؟ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" (5) .
بِشْرُ بْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا يُقَالُ لَهُ: قَاضِي الْمِصِّيصَةِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ: فِي حَدِيثِهِ وَهْمٌ (6) .
وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا آثَارٌ عَنِ السَّلَفِ، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ نُدْبَةَ (7) حَدَّثَنَا سَلَمَةُ (8) ، عَنْ نُعَيْمٍ الْعَنْبَرِيِّ -وَكَانَ مِنْ جُلَسَاءِ الْحَسَنِ-قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ -يَعْنِي الْبَصْرِيَّ-يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا} قَالَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ مَكْتُوبٍ فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ؟ وَعَجِبْتُ لِمَنْ يُوقِنُ (9) بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ؟ وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفَ الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا؟ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ (10) عَنْ عُمَر (11) مَوْلَى غُفْرَة (12) قَالَ: إِنَّ الْكَنْزَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِي السُّورَةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا الْكَهْفَ: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا} قَالَ: كَانَ لَوْحًا مِنْ ذَهَبٍ مُصْمَت مَكْتُوبًا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عجبٌ لِمَنْ عَرَفَ النَّارَ (13) ثُمَّ ضَحِكَ! عجبٌ (14) لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ نَصِبَ! عَجَبٌ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ أَمِنَ! أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، حَدَّثْنَا هَنَّادَة بِنْتُ مَالِكٍ الْشَيْبَانِيَّةُ قَالَتْ: سَمِعَتْ صَاحِبِي حَمَّادَ بْنَ الْوَلِيدِ الثَّقَفِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (15) {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا} قَالَ: سَطْرَانِ وَنِصْفٌ لَمْ يَتِمَّ الثَّالِثُ: عَجِبْتُ لِلْمُوقِنِ بِالرِّزْقِ كَيْفَ يَتْعَبُ وَعَجِبْتُ لِلْمُوقِنِ (16) بِالْحِسَابِ كَيْفَ يَغْفَلُ؟ وَعَجِبْتُ لِلْمُوقِنِ (17) بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ:47] قَالَتْ: وَذُكِرَ أَنَّهُمَا حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْهُمَا صَلَاحٌ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَبِ الَّذِي حُفِظَا بِهِ سَبْعَةُ آبَاءٍ، وَكَانَ نَسَّاجًا.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ، وَوَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ وَإِنْ صَحَّ، لَا يُنَافِي قَوْلَ عِكْرِمَةَ: أَنَّهُ كَانَ مَالًا لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ لَوْحًا مِنْ ذَهَبٍ، وَفِيهِ مَالٌ جَزِيلٌ، أَكْثَرُ مَا زَادُوا أَنَّهُ كَانَ مُودَعًا فِيهِ عِلْمٌ (18) ، وَهُوَ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ يحفظ في ذريته، وتشمل بركة
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) في ف، أ: "ذكره".
(3) في ف، أ: "ينصب".
(4) في ت، ف: "يضحك"، وفي أ: "ضحك".
(5) مسند البزار برقم (2229) "كشف الأستار" وقد روى موقوفا من طرق عن ابن عباس وعلى، رضي الله عنهما، لكن أسانيدها ضعيفة.
(6) ميزان الاعتدال (2/325) .
(7) في ف، أ::بدنة".
(8) في ت: "مسلم".
(9) في ت، ف: "يؤمن".
(10) في أ، ف: "بن عباس".
(11) في ف: "عن عمرو".
(12) في ف: "عفرة".
(13) في ت: "عجبت لمن عرف الموت".
(14) في ت: "عجبت".
(15) في ف: "عز وجل".
(16) في ت: "للموقف".
(17) في ت: "للموتى".
(18) في ف: "علما".(5/186)
عِبَادَتِهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِشَفَاعَتِهِ فِيهِمْ وَرَفْعِ دَرَجَتِهِمْ إِلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لِتَقَرَّ عَيْنُهُ بِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَوَرَدَتِ السُّنَّةُ بِهِ (1) . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُمَا صَلَاحٌ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ الْأَبُ السَّابِعُ. [فَاللَّهُ أَعْلَمُ] (2)
وَقَوْلُهُ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا} : هَاهُنَا أَسْنَدَ الْإِرَادَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ بُلُوغَهُمَا الْحُلُمَ (3) لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ؛ وَقَالَ فِي الْغُلَامِ: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ} وَقَالَ فِي السَّفِينَةِ: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أَيْ: هَذَا الَّذِي فَعَلْتُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ، وَوَالِدَيِ الْغُلَامِ، وَوَلَدَيِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} لَكِنِّي أُمِرْتُ بِهِ وَوُقِفْتُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِمَنْ قَالَ بِنُبُوَّةِ الْخَضِرِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ (4) قَوْلِهِ: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} .
وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ رَسُولًا. وَقِيلَ بَلْ كَانَ مَلِكًا. نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَذَهَبَ كَثِيرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا. بَلْ كَانَ وَلِيًّا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ أَنَّ اسْمَ الْخَضِرِ بَلْيَا بْنُ مَلْكان بْنِ فَالِغَ بْنِ عَامِرِ بْنِ شَالِخِ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (5)
قَالُوا: وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا الْعَبَّاسِ، وَيُلَقَّبُ بِالْخَضِرِ، وَكَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ، وَحَكَى هُوَ وَغَيْرُهُ فِي كَوْنِهِ بَاقِيًا إِلَى الْآنِ ثُمَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَوْلَيْنِ، وَمَالَ هُوَ وَابْنُ الصَّلَاحِ إِلَى بَقَائِهِ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٍ وَآثَارًا عَنِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ وَجَاءَ ذِكْرُهُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ. وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَشْهَرُهَا أَحَادِيثُ (6) التَّعْزِيَةِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَرَجَّحَ آخَرُونَ مِنَ الْمُحْدَثِينَ وَغَيْرِهِمْ خِلَافَ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الْأَنْبِيَاءِ:34] وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: "اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ" (7) ، وَبِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَلَا حَضَرَ عِنْدَهُ، وَلَا قَاتَلَ مَعَهُ. وَلَوْ كَانَ حَيًّا لَكَانَ مِنْ أَتْبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (8) وَأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (9) كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيعِ الثَّقْلَيْنِ: الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَقَدْ قَالَ: "لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْن مَا (10) وَسِعَهُمَا إِلَّا اتِّبَاعِي" (11) وَأَخْبَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ: أَنَّهُ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَى مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ لَيْلَتِهِ تِلْكَ عَيْنٌ تَطْرفُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ من الدلائل.
__________
(1) في ف: "به السنة".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ت: "الحكم".
(4) في ف: "في".
(5) المعارف (ص42) .
(6) في ت: "حديث".
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (1763) من حديث عمر، رضي الله عنه.
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(10) في ت، ف: "لما".
(11) ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية في سياقه وعلق عليه الشيخ ناصر الألباني في تخريج الطحاوية بقوله: "كذا الأصل، وكأنه يشير إلى الحديث الذي ذكره شيخه ابن كثير في تفسير سورة الكهف بلفظ: "لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ لَمَا وَسِعَهُمَا إلا اتباعى". وهو حديث محفوظ، دون ذكر "عيسى" فيه، فإنه منكر عندى لم أره في شيء من طرقه، وهي مخرجة في إراواء الغليل برقم (1589) ".(5/187)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فِي الخَضر قَالَ] (1) إِنَّمَا سُمِّيَ "خَضِرًا"؛ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَإِذَا هِيَ تَحْتَهُ [تَهْتَزُّ] (2) خَضْرَاءَ" (3) .
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّمَا سُمِّي الخضِر؛ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَة، فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ [مِنْ خَلْفِهِ] (4) خَضْرَاءَ" (5)
وَالْمُرَادُ بِالْفَرْوَةِ هَاهُنَا (6) الْحَشِيشُ الْيَابِسُ، وَهُوَ الْهَشِيمُ مِنَ النَّبَاتِ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ وَجْهُ الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} أَيْ: هَذَا تَفْسِيرُ مَا ضِقْتَ بِهِ ذَرْعًا، وَلَمْ تَصْبِرْ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِهِ ابْتِدَاءً، وَلَمَّا أَنْ فَسَّرَهُ لَهُ وَبَيَّنَهُ وَوَضَّحَهُ وَأَزَالَ الْمُشْكَلَ قَالَ: { [مَا لَمْ] تَسْطِعْ} (7) وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الْإِشْكَالُ قَوِيًّا ثَقِيلًا فَقَالَ: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} فَقَابَلَ الْأَثْقَلَ بِالْأَثْقَلِ، وَالْأَخَفَّ بِالْأَخَفِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} وَهُوَ الصُّعُودُ إِلَى أَعْلَاهُ، {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الْكَهْفِ:97] ، وَهُوَ أَشَقُّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَابَلَ كُلًّا بِمَا يُنَاسِبُهُ لَفْظًا وَمَعْنَى وَاللَّه أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَالُ فَتَى مُوسَى ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَ ذَلِكَ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسِّيَاقِ إِنَّمَا هُوَ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ وَذِكْرُ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا، وَفَتَى مُوسَى مَعَهُ تَبَعٌ، وَقَدْ صُرِّحَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَلِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيْدٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ (8) ، حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ نَسْمَعْ لِفَتَى مُوسَى بِذِكْرٍ مِنْ حَدِيثٍ وَقَدْ كَانَ مَعَهُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاس فِيمَا يُذْكَرُ مِنْ حَدِيثِ الْفَتَى قَالَ: شَرِبَ الْفَتَى مِنَ الْمَاءِ [فَخَلَدَ، فَأَخَذَهُ] (9) الْعَالِمُ، فَطَابَقَ بِهِ سَفِينَةً ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهَا تَمُوجُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ فَشَرِبَ (10)
إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، والحسن متروك، وأبوه غير معروف.
__________
(1) زيادة من ف، أ، والمسند.
(2) زيادة من ف، أ، والمسند.
(3) المسند (2/312) .
(4) زيادة من ف، أ، والبخاري.
(5) صحيح البخاري برقم (3402) .
(6) في ت: "ههنا بالفروة".
(7) زيادة من ف.
(8) في ف: "مسلم".
(9) زيادة من ف، أ، والطبري، وفي هـ: "فحار".
(10) تفسير الطبري (15/182) .(5/188)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) }(5/189)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) } .
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَيَسْأَلُونَكَ} يَا مُحَمَّدُ {عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} أَيْ: عَنْ خَبَرِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ بَعَثَ كُفَّارُ مَكَّةَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ يَسْأَلُونَ (1) مِنْهُمْ مَا يَمْتَحِنُونَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ، وَعَنْ فِتْيَةٍ لَا يُدْرَى مَا صَنَعُوا، وَعَنِ الرُّوحِ، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْكَهْفِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا، وَالْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ، حَدِيثًا أَسْنَدَهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ عُقْبَةَ بن عامر، أن نفرًا من اليهود جاؤوا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذي القرنين، فأخبرهم بما جاؤوا لَهُ ابْتِدَاءً، فَكَانَ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ: "أَنَّهُ كَانَ شَابًّا (2) مِنَ الرُّومِ، وَأَنَّهُ بَنَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَأَنَّهُ عَلَا بِهِ مَلَكٌ فِي السَّمَاءِ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى السَّدِّ، وَرَأَى أَقْوَامًا وُجُوهُهُمْ مِثْلُ وُجُوهِ الْكِلَابِ". وَفِيهِ طُولٌ وَنَكَارَةٌ، وَرَفْعُهُ لَا يَصْحُّ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْعَجَبُ أَنَّ أَبَا زُرْعَة الرَّازِيَّ، مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ، سَاقَهُ بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِهِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ غَرِيبٌ مِنْهُ، وَفِيهِ مِنَ النَّكَارَةِ أَنَّهُ مِنَ الرُّومِ، وَإِنَّمَا الَّذِي كَانَ مِنَ الرُّومِ الْإِسْكَنْدَرُ الثَّانِي ابْنُ فِيلِيبْسَ الْمَقْدُونِيُّ، الَّذِي تُؤَرِّخُ بِهِ الرُّومُ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَهُ الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوَّلُ مَا بَنَاهُ وَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، وَكَانَ مَعَهُ (3) الْخَضِرُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ، إِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِيبْسَ الْمَقْدُونِيُّ الْيُونَانِيُّ، وَكَانَ وَزِيرُهُ أَرِسْطَاطَالِيسَ الْفَيْلَسُوفَ الْمَشْهُورَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهُوَ الَّذِي تُؤَرِّخُ بِهِ مِنْ مَمْلَكَتِهِ مِلَّةُ الرُّومِ. وَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ، عليه السلام، بنحو من ثلثمائة سَنَةٍ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ فَكَانَ فِي زَمَنِ الْخَلِيلِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَنَّهُ طَافَ مَعَ الْخَلِيلِ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ لَمَّا بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ قُرْبَانًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا (4) مِنْ أَخْبَارِهِ فِي كِتَابِ "الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ" (5) ، بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ مَلِكًا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّ؛ صَفْحَتَيْ رَأْسِهِ كَانَتَا مِنْ نُحَاسٍ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ: لِأَنَّهُ مَلِكَ الرُّومَ وَفَارِسَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ فِي رَأْسِهِ شِبْهُ الْقَرْنَيْنِ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: كَانَ عَبْدًا ناصحَ اللَّهَ فناصَحَه، دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ (6) عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ، فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ.
وَكَذَا رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّة عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، سَمِعَ عَلِيًّا يَقُولُ ذَلِكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ (7) قَرْنُ الشَّمْسِ وَيَغْرُبُ.
وَقَوْلُهُ {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ} أَيْ: أَعْطَيْنَاهُ مُلْكًا عَظِيمًا مُتَمَكِّنًا، فِيهِ لَهُ مِنْ جَمِيعِ مَا يُؤْتَى (8) الْمُلُوكُ، مِنَ التَّمْكِينِ وَالْجُنُودِ (9) ، وَآلَاتِ الْحَرْبِ وَالْحِصَارَاتِ؛ وَلِهَذَا مَلِكَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ مِنَ الْأَرْضِ، وَدَانَتْ لَهُ الْبِلَادُ، وَخَضَعَتْ لَهُ مَلُّوكُ الْعِبَادِ، وَخَدَمَتْهُ الْأُمَمُ، مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ؛ وَلِهَذَا ذكر
__________
(1) في ت: "يسألونك".
(2) في ت: "ماشيا".
(3) في أ: "وكان وزيره".
(4) في ف، أ: "طرفا صالحا".
(5) البداية والنهاية (2/95) .
(6) في ت، ف، أ: "فضرب".
(7) في ت، ف: "تطلع".
(8) في ف: "تؤتى".
(9) في ف: "من الجنود والتمكن".(5/189)
بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَ قَرْنَيِ الشَّمْسِ مَشْرِقَهَا وَمَغْرِبَهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ: يَعْنِي عِلْمًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} قَالَ: مَنَازِلَ الْأَرْضِ وَأَعْلَامَهَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} قَالَ: تَعْلِيمُ الْأَلْسِنَةِ، كَانَ لَا يَغْزُو قَوْمًا إِلَّا كَلَّمَهُمْ بِلِسَانِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ لَهيعة: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ غَيْلان، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ؛ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ (1) لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنْتَ تَقُولُ: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ يَرْبُطُ خَيْلَهُ بِالثُّرَيَّا؟ فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: إِنْ كُنْتُ قَلْتُ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} .
وَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ مُعَاوِيَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ هُوَ الصَّوَابُ (2) ، وَالْحَقُّ مَعَ مُعَاوِيَةَ فِي الْإِنْكَارِ؛ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يَقُولُ عَنْ كَعْبٍ: "إِنْ كُنَّا لَنَبْلُو (3) عَلَيْهِ الْكَذِبَ" يَعْنِي: فِيمَا يَنْقُلُهُ، لَا أَنَّهُ كَانَ يَتَعَمَّدُ نَقْلَ مَا لَيْسَ فِي صَحِيفَتِهِ (4) ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي صَحِيفَتِهِ (5) ، أَنَّهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي غَالِبُهَا مُبَدَّلٌ مُصَحَّفٌ مُحَرَّفٌ مُخْتَلَقٌ (6) وَلَا حَاجَةَ لَنَا مَعَ خَبَرِ اللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (7) إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّهُ دَخَلَ مِنْهَا عَلَى النَّاسِ شَرٌّ كَثِيرٌ (8) وَفَسَادٌ عَرِيضٌ. وَتَأْوِيلُ كَعْبٍ قَوْلَ اللَّهِ: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} وَاسْتِشْهَادُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَجِدُهُ فِي صَحِيفَتِهِ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَرْبُطُ خَيْلَهُ بِالثُّرَيَّا غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَا مُطَابِقٍ؛ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْبَشَرِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا إِلَى التَّرَقِّي (9) في أسباب السموات. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّ بِلْقِيسَ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النَّمْلِ: 23] أَيْ: مِمَّا يُؤْتَى مِثْلُهَا مِنَ الْمُلُوكِ، وَهَكَذَا ذُو الْقَرْنَيْنِ يَسَّرَ اللَّهُ لَهُ الْأَسْبَابَ، أَيْ: الطُّرُقَ وَالْوَسَائِلَ إِلَى فَتْحِ الْأَقَالِيمِ والرَّسَاتيق وَالْبِلَادِ وَالْأَرَاضِي وَكَسْرِ الْأَعْدَاءِ، وَكَبْتِ مُلُوكِ الْأَرْضِ، وَإِذْلَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ. قَدْ أُوتِيَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا (10) يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِثْلُهُ سَبَبًا، وَاللَّهَ أَعْلَمُ.
وَفِي "الْمُخْتَارَةِ" لِلْحَافِظِ الضِّيَاءِ الْمُقَدِّسِيِّ، مِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ حِمَازٍ (11) قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ: كَيْفَ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ؟ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ سَخَّرَ لَهُ السَّحَابَ، وقَدَّر لَهُ الْأَسْبَابَ، وَبَسَطَ له اليد (12) .
__________
(1) في ت: "يقول".
(2) في أ: "الطنوب".
(3) في أ: "لنتلو".
(4) في ف، أ: "صحفه".
(5) في ف، أ: "صحفه".
(6) في أ: "مخلق".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ت: "كبير".
(9) في ف: "الرقى".
(10) في أ: "ما".
(11) في ت، ف، أ: "حماد".
(12) المختارة برقم (409) .(5/190)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
{فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} يَعْنِي: بِالسَّبَبِ الْمُنَزَّلِ] (1) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} : مُنَزَّلًا وَطَرِيقًا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {سَبَبًا} قَالَ: طَرِيقًا فِي (2) الْأَرْضِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ أَتْبَعَ مَنَازِلَ الْأَرْضِ وَمَعَالِمَهَا (3) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} أَيِ: الْمَنَازِلَ (4) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} قَالَ: عِلْمًا. وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَعُبَيْدُ بْنُ يَعْلَى، وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ مَطَرٌ: مَعَالِمُ وَآثَارٌ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} أَيْ: فَسَلَكَ طَرِيقًا حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَقْصَى مَا يَسْلُكُ فِيهِ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ، وَهُوَ مَغْرِبُ الْأَرْضِ. وَأَمَّا الْوُصُولُ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ مِنَ السَّمَاءِ فَمُتَعَذِّرٌ، وَمَا يَذْكُرُهُ أَصْحَابُ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ مِنْ أَنَّهُ سَارَ فِي الْأَرْضِ مُدَّةً وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ مِنْ وَرَائِهِ فَشَيْءٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ خُرَافَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَاخْتِلَاقِ (5) زَنَادِقَتِهِمْ وَكَذِبِهِمْ (6)
وَقَوْلُهُ: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أَيْ: رَأَى الشَّمْسَ فِي مَنْظَرِهِ تَغْرُبُ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنِ انْتَهَى إِلَى سَاحِلِهِ، يَرَاهَا كَأَنَّهَا تَغْرُبُ فِيهِ، وَهِيَ لَا تُفَارِقُ الْفَلَكَ الرَّابِعَ الَّذِي هِيَ مُثَبَّتَةٌ فِيهِ لَا تُفَارِقُهُ (7) .
وَالْحَمِئَةُ مُشْتَقَّةٌ عَلَى إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ (8) مِنْ "الْحَمْأَةِ" وَهُوَ الطِّينُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الْحِجْرِ: 28] أَيْ: طِينٍ أَمْلَسَ (9) . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ (10) حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجَ يَقُولُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ (11) {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ثُمَّ فَسَّرَهَا: ذَاتُ حَمْأَةٍ. قَالَ نَافِعٌ: وَسُئِلَ عَنْهَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مِنِّي، وَلَكِنِّي أَجِدُهَا فِي الْكِتَابِ تَغِيبُ فِي طِينَةٍ سَوْدَاءَ (12) .
وَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعْدِ (13) بْنِ أوس، عن مِصْدَع، عن ابن
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في هـ، ت، ف: "طرفي"، والمثبت من الطبري، أ.
(3) في ت: "ومغاربها".
(4) في ت: "المنزل".
(5) في ت: "واختلاف".
(6) في ف: "وكذبتهم".
(7) في ت: "يفارقه".
(8) في ت: "على أحد الروايتين".
(9) في ت: "إبليس".
(10) في ت: "حدثنا وهب".
(11) في ف، أ: "يقرأ".
(12) تفسير الطبري (16/10) .
(13) في ت: "سعيد".(5/191)
عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ {حَمِئَةٍ} (1)
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَجَدَهَا تَغْرُبَ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ" يَعْنِي: حَارَّةً. وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَأَيَّهُمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ (2) .
قُلْتُ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَعْنَيَيْهِمَا، إِذْ قَدْ تَكُونُ حَارَّةً لِمُجَاوَرَتِهَا وَهْج الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا، وَمُلَاقَاتِهَا الشُّعَاعِ بِلَا حَائِلٍ وَ {حَمِئَةٍ} فِي مَاءٍ وَطِينٍ أَسْوَدَ، كَمَا قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا (3) الْعَوَّامُ، حَدَّثَنِي مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الشَّمْسِ حِينَ غَابَتْ، فَقَالَ: "فِي نَارِ اللَّهِ الْحَامِيَةِ [فِي نَارِ اللَّهِ الْحَامِيَةِ] (4) ، لَوْلَا مَا يَزَعُهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، لَأَحْرَقَتْ مَا عَلَى الْأَرْضِ".
قُلْتُ: وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ (5) . وَفِي صِحَّةِ رَفْعِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، وَلَعَلَّهُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، مِنْ زَامِلَتَيْهِ اللَّتَيْنِ وَجَدَهُمَا يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي ابْنَ بِشْرٍ-حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ حَاضِرٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ "تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُعَاوِيَةَ مَا نَقْرَؤُهَا (6) إِلَّا {حَمِئَةٍ} فَسَأَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَيْفَ تَقْرَؤُهَا: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَمَا قَرَأَتْهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ: فِي بَيْتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ؟ فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبٍ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تَجِدُ الشَّمْسَ تَغْرُبُ فِي التَّوْرَاةِ؟ [فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: سَلْ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهَا، وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَجِدُ الشَّمْسَ تَغْرُبُ فِي التَّوْرَاةِ] (7) فِي مَاءٍ وَطِينٍ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَغْرِبِ. قَالَ ابْنُ حَاضِرٍ: لَوْ أَنِّي عِنْدَكُمَا أَفَدْتُكَ (8) بِكَلَامٍ تَزْدَادُ فِيهِ بَصِيرَةً فِي حَمِئَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِذًا مَا هُوَ؟ قُلْتُ: فِيمَا يُؤْثَرُ مِنْ قَوْلِ تُبَّع، فِيمَا ذَكَرَ بِهِ ذَا الْقَرْنَيْنِ فِي تَخَلُّقِهِ بِالْعِلْمِ وَاتِّبَاعِهِ إِيَّاهُ:
بَلَغَ المشَارقَ والمغَارِبَ يَبْتَغِي أسْبَابَ أمْرٍ مِنْ (9) حَكِيمٍ مُرْشِد
فَرَأى مَغِيبَ (10) الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبها ... فِي عَيْنِ ذِي خُلب وَثأط (11) حَرْمَدِ (12) (13)
قَالَ (14) ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا الخُلَب؟ قُلْتُ: الطِّينُ بِكَلَامِهِمْ. [يَعْنِي بِكَلَامِ حِمْيَرَ] (15) . قَالَ: مَا الثَّاطُ؟
__________
(1) مسند الطيالسى برقم (536) .
(2) في ت: "المصيب".
(3) في ت: "حدثنا".
(4) زيادة من ف، أ، والطبري.
(5) المسند (2/207) .
(6) في ت: "تقرأها".
(7) زيادة من ف، أ، والطبري.
(8) في أ: "لأفدتك".
(9) في ت: "من أمر".
(10) في ت أ: "فوجد مغاب". وفي ف: "فرأى مغاب".
(11) في أ: "وأناط".
(12) في ت: "وقاص"، وفي ف: "وناط".
(13) البيتان في لسان العرب، مادة (ثأط) وهما لأمية بن أبي الصلت.
(14) في ف: "فقال".
(15) زيادة من ت، ف.(5/192)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
قُلْتُ: الْحَمْأَةُ. قَالَ: فَمَا الحرْمَد؟ قُلْتُ: الْأَسْوَدُ. قَالَ: فَدَعَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا أَوْ غُلَامًا فَقَالَ: اكْتُبْ مَا يَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بَيْنَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ فَقَرَأَ: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} فَقَالَ كَعْبٌ: وَالَّذِي نَفْسُ كَعْبٍ بِيَدِهِ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَقْرَؤُهَا كَمَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ غَيْرَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّا نَجِدُهَا فِي التَّوْرَاةِ: تَغْرُبُ فِي مَدَرَةٍ سَوْدَاءَ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، حَدَّثْنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جُرَيْجٍ {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} قَالَ: مَدِينَةٌ لَهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ بَابٍ، لَوْلَا أَصْوَاتُ أَهْلِهَا لَسَمِعَ النَّاسُ وُجُوب الشَّمْسِ حِينَ تَجِبُ.
وَقَوْلُهُ: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} أَيْ: أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ، ذَكَرُوا أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّةً عَظِيمَةً مِنْ بني آدم.
وقوله: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} مَعْنَى هَذَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَكَّنَهُ مِنْهُمْ (1) وَحَكَّمَهُ فِيهِمْ، وَأَظْفَرَهُ بِهِمْ (2) وَخَيَّرَهُ: إِنْ شَاءَ قَتَلَ وَسَبَى، وَإِنْ شَاءَ مَنَّ أَوْ فَدَى (3) . فَعُرِفَ عَدْلُهُ وَإِيمَانُهُ فِيمَا أَبْدَاهُ عَدْلَهُ وَبَيَانَهُ (4)
فِي قَوْلِهِ: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} أَيْ: مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَشِرْكِهِ بِرَبِّهِ {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} قَالَ قَتَادَةُ: بِالْقَتْلِ: وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَحْمِي لَهُمْ بَقَرَ النُّحَاسِ وَيَضَعُهُمْ فِيهَا (5) حَتَّى يَذُوبُوا. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ يسلط الظلمة، فتدخل أفوافهم وَبُيُوتَهُمْ، وَتَغْشَاهُمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: (6) {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} أَيْ: شَدِيدًا بَلِيغًا وَجِيعًا أَلِيمًا. وَفِيهِ (7) إِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} أَيْ: تَابَعَنَا عَلَى مَا نَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْرُوفًا.
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) } .
يَقُولُ: ثُمَّ سَلَكَ طَرِيقًا فَسَارَ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ إِلَى مَطْلَعِهَا (8) ، وَكَانَ كُلَّمَا مَرَّ بِأُمَّةٍ قَهَرَهُمْ وَغَلَبَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ أَطَاعُوهُ وَإِلَّا أَذَلَّهُمْ وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ، وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُمْ، وَأَمْتِعَتَهُمْ وَاسْتَخْدَمَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ مَعَ جُيُوشِهِ عَلَى أَهْلِ (9) الْإِقْلِيمِ الْمُتَاخِمِ لَهُمْ. وَذُكِرَ فِي أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ عَاشَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ يَجُوبُ (10) الْأَرْضَ طُولَهَا وَالْعَرْضَ (11) حَتَّى بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ. وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَطْلَعِ الشَّمْسِ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ}
__________
(1) في ت: "فيهم".
(2) في ت: "وأظفره عليهم"، وفي ف، أ: "وأظهره عليهم".
(3) في ف، أ: "وافتدى".
(4) في ت: "وثباته".
(5) في ف: "فيه".
(6) في ت: "فقوله".
(7) في أ: "زفي هذا".
(8) في ت: "من مطلع الشمس إلى مغربها".
(9) في أ: "قتال".
(10) في ف، أ: "يخرب".
(11) في ف، أ: "طولها وعرضها".(5/193)
أَيْ: أُمَّةٍ {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ بِنَاءٌ يُكِنَّهُمْ، وَلَا أَشْجَارٌ تُظِلُّهُمْ وَتَسْتُرُهُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانُوا حُمرًا قِصَارًا، مَسَاكِنُهُمُ الْغِيرَانُ، أَكْثَرُ مَعِيشَتِهِمْ مِنَ السَّمَكِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا سَهْلُ (1) بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، سَمِعْتُ الْحَسَنَ وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} قَالَ: إِنَّ أَرْضَهُمْ (2) لَا تَحْمِلُ الْبِنَاءَ فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ تَغَوَّرُوا (3) فِي الْمِيَاهِ، فَإِذَا غَرَبَتْ خَرَجُوا يَتَرَاعَوْنَ كَمَا تَرْعَى الْبَهَائِمُ. قَالَ (4) الْحَسَنُ: هَذَا حَدِيثُ سَمُرَةَ (5) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ بِأَرْضٍ لَا تُنْبِتُ لَهُمْ شَيْئًا، فَهُمْ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا فِي أَسْرَابٍ، حَتَّى إِذَا زَالَتِ (6) الشَّمْسُ خَرَجُوا إِلَى حُرُوثِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ.
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْل أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لَهُمْ أَكْنَانٌ، إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ طَلَعَتْ عَلَيْهِمْ، فَلِأَحَدِهِمْ أُذُنَانِ يَفْتَرِشُ إِحْدَاهُمَا (7) وَيَلْبِسُ الْأُخْرَى.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} قَالَ: هُمُ الزِّنْجُ (8) .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} قَالَ: لَمْ يَبْنُوا فِيهَا بِنَاءً قَطُّ، وَلَمْ يُبْنَ عَلَيْهِمْ فِيهَا بِنَاءٌ قَطُّ، كَانُوا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا أَسْرَابًا لَهُمْ (9) حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، أَوْ دَخَلُوا الْبَحْرَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَرْضَهُمْ لَيْسَ فِيهَا (10) جَبَلٌ، جَاءَهُمْ جَيْشٌ مَرَّةً فَقَالَ لَهُمْ أَهْلُهَا: لَا تَطْلُعَنَّ عَلَيْكُمُ الشَّمْسُ وَأَنْتُمْ بِهَا. قَالُوا: لَا نَبْرَحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، مَا هَذِهِ الْعِظَامُ؟ قَالُوا: هَذِهِ جيفُ جَيْشٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ هَاهُنَا فَمَاتُوا. قَالَ: فَذَهَبُوا هَارِبِينَ فِي الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: عِلْمًا، أَيْ: نَحْنُ مُطَّلِعُونَ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَحْوَالِ جَيْشِهِ، لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أُمَمُهُمْ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى: {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]
__________
(1) في أ: "سهيل".
(2) في ت: "أرضيكم".
(3) في ت: "فقعدوا"، وفي أ: "يغوروا".
(4) في ت، ف: "فقال".
(5) ورواه الطبري في تفسيره (16/12) من طريق إبراهيم بن المستمر، عن أبي داود به.
(6) في ت: "غربت".
(7) في ف، أ: "واحدة".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/346) .
(9) في ت: "أسرابا بهم".
(10) في أ: "بها".(5/194)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} أَيْ: ثُمَّ سَلَكَ طَرِيقًا مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} وَهُمَا جَبَلَانِ مُتَنَاوِحَانِ بَيْنَهُمَا ثُغْرة يَخْرُجُ مِنْهَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ عَلَى بِلَادِ التُّرْكِ، فَيَعِيثُونَ فِيهِمْ فَسَادًا، وَيُهْلِكُونَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا آدَمُ. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. فَيَقُولُ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ؟ فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، فَيُقَالُ: إِنَّ فِيكُمْ أُمَّتَيْنِ، مَا كَانَتَا فِي شَيْءٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ" (1) .
وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ (2) ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي شَرْحِ "مُسْلِمٍ" عَنْ بَعْضِ النَّاسِ: أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ خُلِقُوا مِنْ مَنِيٍّ خَرَجَ مِنْ آدَمَ فَاخْتَلَطَ بِالتُّرَابِ، فَخُلِقُوا مِنْ ذَلِكَ (3) فَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ مَخْلُوقِينَ مِنْ آدَمَ، وَلَيْسُوا مِنْ حَوَّاءَ. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا، [ثُمَّ] (4) لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَا مِنْ عَقْلٍ وَلَا [مِنْ] (5) نَقْلٍ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ هَاهُنَا عَلَى مَا يَحْكِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ (6) الْمُفْتَعَلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي مُسْنَدِ (7) الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ سَمُرَة؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "وَلَدُ نُوحٌ ثَلَاثَةً: سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ، وَيَافِثُ أَبُو التُّرْكِ" (8) . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَؤُلَاءِ مِنْ نَسْلِ يَافِثَ أَبِي التُّرْكِ، قَالَ: [إِنَّمَا (9) سُمُّوا هَؤُلَاءِ تُرْكًا؛ لِأَنَّهُمْ تُرِكُوا مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ مِنْ (10) هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِلَّا فَهُمْ أَقْرِبَاءُ أُولَئِكَ، وَلَكِنْ كَانَ فِي أُولَئِكَ بَغْيٌ وَفَسَادٌ وَجَرَاءَةٌ (11) . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَثَرًا طَوِيلًا عَجِيبًا فِي سَيْرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَبِنَائِهِ السَّدَّ، وَكَيْفِيَّةِ مَا جَرَى لَهُ، وَفِيهِ طُولٌ وَغَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ فِي أَشْكَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، [وَطُولِهِمْ] (12) وَقِصَرِ بَعْضِهِمْ، وَآذَانِهِمْ (13) . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَحَادِيثَ غَرِيبَةً فِي ذَلِكَ لَا تَصِحُّ (14) أَسَانِيدُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} [أي] (15) : لاستعجام كلامهم وبعدهم
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6530) وصحيح مسلم برقم (222) من حديث أبي سعيد، رضي الله عنه.
(2) في أ: "النواوي".
(3) شرح النووي (3/97) .
(4) زيادة من ف، أ.
(5) زيادة من ت، ف.
(6) في ت: "من الأكاذيب".
(7) في ف، أ: "المسند".
(8) المسند (5/9) .
(9) في أ: "وإنما".
(10) في أ: "فمن".
(11) في أ: "وجرأة".
(12) زيادة من ف، أ.
(13) تفسير الطبري (16/14) .
(14) في ف، أ: "لا يصح".
(15) زيادة من ف، أ.(5/195)
عن الناس.
{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَجْرًا عَظِيمًا، يَعْنِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَالًا يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ، حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ سَدًا. فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِعِفَّةٍ وَدِيَانَةٍ وَصَلَاحٍ وَقَصْدٍ لِلْخَيْرِ: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أَيْ: إِنَّ الَّذِي أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالتَّمْكِينِ (1) خَيْرٌ لِي مِنَ الَّذِي تَجْمَعُونَهُ، كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النَّمْلِ: 36] وَهَكَذَا قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي تَبْذُلُونَهُ، وَلَكِنْ سَاعِدُونِي {بِقُوَّةٍ} أَيْ: بِعَمَلِكُمْ وَآلَاتِ الْبِنَاءِ، {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وَالزُّبَرُ: جَمْعُ زُبْرَة، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ. وَهِيَ كَاللَّبِنَةِ (2) ، يُقَالُ: كُلُّ لَبِنَةٍ [زِنَةُ] (3) قِنْطَارٍ بِالدِّمَشْقِيِّ، أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهِ.
{حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أَيْ: وَضَعَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْأَسَاسِ حَتَّى إِذَا حَاذَى بِهِ رُءُوسَ الْجَبَلَيْنِ طُولًا وَعَرْضًا. وَاخْتَلَفُوا فِي مِسَاحَةِ عَرْضِهِ وَطُولِهِ عَلَى أَقْوَالٍ. {قَالَ انْفُخُوا} أَيْ: أَجَّجَ (4) عَلَيْهِ النَّارَ حَتَّى صَارَ كُلُّهُ نَارًا، {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدي: هُوَ النُّحَاسُ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ: الْمُذَابُ. وَيَسْتَشْهِدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سَبَإٍ: 12] وَلِهَذَا يُشَبَّهُ (5) بِالْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَأَيْتَ سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، قَالَ: "انْعَتْهُ لِي" قَالَ: كَالْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ، طَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ. وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ. قَالَ: "قَدْ رَأَيْتُهُ". هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. (6)
وَقَدْ بَعَثَ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ فِي دَوْلَتِهِ بَعْضَ أُمَرَائِهِ، وَوَجَّهَ (7) مَعَهُ جَيْشًا سِرِّيَّةً، لِيَنْظُرُوا إِلَى السَّدِّ وَيُعَايِنُوهُ وَيَنْعِتُوهُ لَهُ إِذَا رَجَعُوا. فَتَوَصَّلُوا مِنْ بِلَادٍ إِلَى بِلَادٍ، وَمِنْ مُلْك إِلَى مُلْك، حَتَّى وَصَلُوا إِلَيْهِ، وَرَأَوْا بِنَاءَهُ مِنَ الْحَدِيدِ وَمِنَ النُّحَاسِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا فِيهِ بَابًا عَظِيمًا، وَعَلَيْهِ (8) أَقْفَالٌ عَظِيمَةٌ، وَرَأَوْا بَقِيَّةَ اللَّبَنِ وَالْعَمَلِ فِي بُرْجٍ هُنَاكَ. وَأَنَّ عِنْدَهُ حَرَسًا (9) مِنَ الْمُلُوكِ الْمُتَاخِمَةِ لَهُ، وَأَنَّهُ مُنِيفٌ عَالٍ (10) ، شَاهِقٌ، لَا يُسْتَطَاعُ وَلَا مَا حَوْلَهُ مِنَ الْجِبَالِ. ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين،
__________
(1) في أ: "والتمكن".
(2) في أ: "اللبنة".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف: "أججوا".
(5) في أ: "شبه".
(6) وقد روي موصولا من طرق: فرواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف (2/312) من طريق أبي الجماهر -سعيد بن بشير- عن قتادة، عن رجل، عن أبي بكرة الثقفى: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي قد رأيته، فذكر نحوه. ورواه البزار في مسنده كما في تخريج الكشاف (2/313) من طريق عبد الملك بن أبي نعامة عن يوسف بن أبي مريم، عن أبي بكرة بنحوه مطولا. ورواه ابن مردويه أيضا من طريق سفيان، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ رجل من أهل المدينة أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر نحوه.
(7) في ف، أ: "وجهز".
(8) في ت: "وعلى".
(9) في ف، أ: "سرحا".
(10) في ت، ف، أ: "عال منيف".(5/196)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
وَشَاهَدُوا أَهْوَالًا وَعَجَائِبَ.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) }(5/197)
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَنَّهُمْ مَا قَدَرُوا عَلَى أَنَّ يَصْعَدُوا (1) فَوْقَ هَذَا السَّدِّ وَلَا قَدَرُوا عَلَى نَقْبِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ. وَلَمَّا كَانَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ أَسْهَلَ مِنْ نَقْبِهِ قَابَلَ كُلًّا بِمَا يُنَاسِبُهُ فَقَالَ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ (2) يَقْدِرُوا عَلَى نَقْبِهِ، وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ.
فَأُمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا رُوحٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَيَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ كَأَشَدِّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَّغَتْ مُدَّتُهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ (3) [حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ] (4) قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَيَسْتَثْنِي، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ (5) حِينَ تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَهُ وَيَخْرُجُونَ (6) عَلَى النَّاسِ، فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ، وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، [فَتَرْجِعُ وَعَلَيْهَا هَيْئَةُ الدَّمِ، فَيَقُولُونَ: قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ] (7) . فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا (8) فِي أَقْفَائِهِمْ، فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لَتَسْمَنُ، وَتَشْكُرُ شُكْرًا مِنْ لُحُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ" (9) .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ حَسَنٍ -هُوَ ابْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ-عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهِ (10) . وَكَذَا رَوَاهُ (11) ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَزْهَرَ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَ رَافِعٌ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ (12) . ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
__________
(1) في ف، أ: "يصعدوا من".
(2) في ت: "لا".
(3) في أ: "على النار".
(4) زيادة من ف، أ، والمسند.
(5) في أ: "كهيئة".
(6) في ت: "ويخرجونهم".
(7) زيادة من ف، أ، والمسند.
(8) في أ: "نغيفا".
(9) المسند (2/510) .
(10) المسند (2/511) .
(11) في أ: "رواه الإمام".
(12) سنن ابن ماجة برقم (4080) وسنن الترمذي برقم (3153) .(5/197)
وَهَذَا إِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، وَلَكِنْ فِي (1) رَفْعِهِ نَكَارَةٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ ارْتِقَائِهِ وَلَا مِنْ نَقْبِهِ، لِإِحْكَامِ بِنَائِهِ وَصَلَابَتِهِ وَشِدَّتِهِ. وَلَكِنْ هَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنَّهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ يَأْتُونَهُ فَيَلْحَسُونَهُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ (2) إِلَّا الْقَلِيلُ، فَيَقُولُونَ: غَدًا نَفْتَحُهُ. فَيَأْتُونَ مِنَ الْغَدِ وَقَدْ عَادَ كَمَا كَانَ، فَيَلْحَسُونَهُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ (3) إِلَّا الْقَلِيلُ، فَيَقُولُونَ كَذَلِكَ، وَيُصْبِحُونَ وَهُوَ كَمَا كَانَ، فَيَلْحَسُونَهُ وَيَقُولُونَ: غَدًا نَفْتَحُهُ. وَيُلْهَمُونَ أَنْ يَقُولُوا: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ"، فَيُصْبِحُونَ وَهُوَ كَمَا فَارَقُوهُ، فَيَفْتَحُونَهُ. وَهَذَا مُتَّجه، وَلَعَلَّ أَبَا هُرَيْرَةَ تَلَقَّاهُ مِنْ كَعْبٍ. فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا كَانَ يُجَالِسُهُ (4) وَيُحَدِّثُهُ، فَحَدَّثَ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَتَوَهَّمَ (5) بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، فَرَفَعَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُؤَكِّدُ مَا قُلْنَاهُ (6) -مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ نَقْبِهِ وَلَا نَقْبِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَمِنْ نَكَارَةِ هَذَا الْمَرْفُوعِ-قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ:
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ [زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أُمِّهَا أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنْ] (7) زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ سُفْيَانُ: أَرْبَعَ نِسْوَةٍ-قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَوْمِهِ. وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! وَيْلٌ لِلْعَرَبِ (8) مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ! فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا". وحَلَّق. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ".
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى إِخْرَاجِهِ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ (9) ، وَلَكِنْ سَقَطَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ذِكْرُ حَبِيبَةَ، وَأَثْبَتَهَا مُسْلِمٌ. وَفِيهِ أَشْيَاءُ (10) عَزِيزَةٌ نَادِرَةٌ قَلِيلَةُ الْوُقُوعِ فِي صِنَاعَةِ (11) الْإِسْنَادِ، مِنْهَا رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ، وَهُمَا تَابِعِيَّانِ وَمِنْهَا (12) اجْتِمَاعُ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فِي سَنَدِهِ، كُلُّهُنَّ يَرْوِي بِعَضُّهُنَّ عَنْ بَعْضٍ. ثُمَّ كَلٌّ مِنْهُنَّ صَحَابِيَّةٌ (13) ، ثُمَّ ثَنْتَانِ رَبِيبَتَانِ وَثَنْتَانِ زَوْجَتَانِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ.
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، فَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا مُؤمَّل بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ (14) ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "فُتِح الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا" وَعَقَدَ التِّسْعِينَ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم من حديث وهيب (15) ، به (16) .
__________
(1) في ف، أ: "ولكن متنه في".
(2) في ف: "فيه".
(3) في ف، أ: "فيه".
(4) في ت: "كان كثيرا ما يجالسه".
(5) في ت: "فيقرهم".
(6) في أ: "قلنا".
(7) زيادة من ف، أ، والمسند.
(8) في ت: "للغريب".
(9) المسند (6/428) وصحيح البخاري برقم (7135) وصحيح مسلم برقم (2880) .
(10) في أ: "منهم صاحبيه".
(11) في ت: "صياغة".
(12) في أ: "وفيما".
(13) في أ: "منهم صاحبية".
(14) في ت: "وهب".
(15) في ت: "وهب".
(16) صحيح البخاري برقم (7136) وصحيح مسلم برقم (2881) .(5/198)
وَقَوْلُهُ: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أَيْ: لَمَّا بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أَيْ: بِالنَّاسِ حَيْثُ جَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ حَائِلًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَيْثِ (1) فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ. {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أَيْ: إِذَا اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أَيْ: سَاوَاهُ (2) بِالْأَرْضِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: نَاقَةٌ دَكَّاءُ: إِذَا كَانَ ظَهْرُهَا مُسْتَوِيًا لَا سَنَامَ لَهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الْأَعْرَافِ: 143] أَيْ: مُسَاوِيًا لِلْأَرْضِ (3) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} قَالَ: طَرِيقًا كَمَا كَانَ.
{وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} أَيْ: كَائِنًا لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ [يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ] } (4) أي: النَّاسَ يَوْمَئِذَ أَيْ: يَوْمَ يُدَكُّ (5) هَذَا السَّدُّ وَيَخْرُجُ هَؤُلَاءِ فَيَمُوجُونَ فِي النَّاسِ وَيُفْسِدُونَ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَيُتْلِفُونَ أَشْيَاءَهُمْ، وَهَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: ذَاكَ حِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ. وَهَذَا كُلُّهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبَعْدَ الدَّجَّالِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ [إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى] (6) عِنْدَ قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياْ: 96، 97] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: هَذَا أَوَّلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، {وَنُفِخَ (7) فِي الصُّورِ} عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} .
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَخْتَلِطُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ (8) عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ (9) فِي قَوْلِهِ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: إِذَا مَاجَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ قَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ عِلْمَ هَذَا الْأَمْرِ. فَيَظْعَنُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ قَدْ بَطَّنُوا (10) الْأَرْضَ، ثُمَّ يَظْعَنُ إِلَى الْمَغْرِبِ فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ بَطَّنُوا (11) الْأَرْضَ فَيَقُولُ: "مَا مِنْ مَحِيصٍ". ثُمَّ يَظْعَنُ يَمِينًا وَشِمَالًا إِلَى أَقْصَى الْأَرْضِ فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ بَطَّنُوا (12) الْأَرْضَ فَيَقُولُ: "مَا مِنْ مَحِيصٍ" فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ عُرِضُ لَهُ طَرِيقٌ كَالشِّرَاكِ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَيْهِ إِذْ هَجَمُوا عَلَى النَّارِ، فَأَخْرَجَ اللَّهُ خَازِنًا مِنْ خُزَّانِ النار، فقال: يا إبليس، أَلَمْ تَكُنْ لَكَ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ رَبِّكَ؟! أَلَمْ تَكُنْ فِي الْجِنَانِ؟! فَيَقُولُ: لَيْسَ هَذَا يَوْمَ عِتَابٍ، لَوْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيَّ فَرِيضَةً لَعَبَدْتُهُ فِيهَا عِبَادَةً لَمْ يَعْبُدْهُ مِثْلَهَا أَحَدٌ من
__________
(1) في أ: "العبث".
(2) في ت، أ: "واساه".
(3) في ت: "الأرض".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ت: "بذكر".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ت: "ينفخ".
(8) في أ: "العمى".
(9) في أ: "قرارة".
(10) في أ: "قد تطبقوا".
(11) في أ: "قد تطبقوا".
(12) في أ: "قد تطبقوا".(5/199)
خَلْقِهِ. فَيَقُولُ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكَ فَرِيضَةً. فَيَقُولُ: مَا هِيَ؟ فَيَقُولُ: يَأْمُرُكَ أَنْ تَدْخُلَ النَّارَ. فَيَتَلَكَّأُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ بِهِ وَبِذُرِّيَّتِهِ بِجَنَاحَيْهِ فَيَقْذِفُهُمْ فِي النَّارِ. فَتَزْفِرُ النَّارُ (1) زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرسل إِلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ (2)
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ يَعْقُوبَ الْقَمِّيِّ بِهِ. رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ هَارُونَ عَنْ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: الجن الإنس، يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْأَصْفَهَانِيُّ (3) ، حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، وَلَوْ أُرْسِلُوا لَأَفْسَدُوا عَلَى النَّاسِ مَعَايِشَهُمْ، وَلَنْ يَمُوتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا، وَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِمْ ثَلَاثَ أُمَمٍ: تَاوِيلَ، وَتَايَسَ (4) وَمَنْسَكَ". (5) هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ بَلْ مُنْكَرٌ ضَعِيفٌ.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ مَرْفُوعًا: "إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَهُمْ نِسَاءٌ، يُجَامِعُونَ مَا شاؤوا، وشجر يلقحون ما شاؤوا، وَلَا يَمُوتُ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا" (6)
وَقَوْلُهُ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} : وَالصُّورُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "قَرْنٌ يُنْفَخُ" فِيهِ وَالَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ بِطُولِهِ، وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ كَثِيرَةٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: "كَيْفَ أَنْعَمُ، وَصَاحِبُ القَرْن قَدِ الْتَقَمَ القَرْن، وَحَنَى جَبْهَتَهُ وَاسْتَمَعَ مَتَى يُؤْمَرُ". قَالُوا: كَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: "قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا" (7)
وَقَوْلُهُ {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} أَيْ: أَحْضَرْنَا الْجَمِيعَ لِلْحِسَابِ {قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الْوَاقِعَةِ: 49، 50] ، {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47]
__________
(1) في أ: "جهنم".
(2) تفسير الطبري (16/23) .
(3) في ف، أ: "الأصبهاني".
(4) في ت، ف: "تاريس".
(5) الحديث في مسند الطيالسى برقم (2282) وقال الهيثمي في المجمع (8 / 6) : "رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات".
تنبيه: وقع في مجمع الزوائد "تاول وتاريس ومنسك" وعند الطسالسى "تاويل وتاريس وتارليس ومنسك" وفي المطالب العالية "تاويل وتاريس وناسك".
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (11334) .
(7) رواه الترمذي في السنن برقم (2431) وقال: "هذا حديث حسن".(5/200)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَفْعَلُهُ بِالْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ جَهَنَّمَ، أَيْ: يُبْرِزُهَا لَهُمْ وَيُظْهَرُهَا، لِيَرَوْا مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ قَبْلَ دُخُولِهَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَعْجِيلِ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ لَهُمْ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُقَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمام، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ [يَجُرُّونَهَا] (1) (2)
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} أَيْ: تَعَامَوْا وَتَغَافَلُوا وَتَصَامُّوا (3) عَنْ قَبُولِ الْهُدَى وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزُّخْرُفِ: 36] وَقَالَ هَاهُنَا: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} أَيْ: لَا يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ.
ثُمَّ قَالَ {أَفَحَسِبَ (4) الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} أَيِ: اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يَصِحُّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَيَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ؟ {كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مَرْيَمَ: 82] ؛ وَلِهَذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْزِلًا.
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) } .
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرو، عَنْ مُصْعَب قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي -يَعْنِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ-: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا} أَهُمُ الحَرُورية؟ قَالَ: لَا هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى كَفَرُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ. وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ. وَكَانَ سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عنه، يسميهم الفاسقين (5) .
__________
(1) زيادة من ف، أ، ومسلم.
(2) صحيح مسلم برقم (2842) .
(3) في أ: "تصامموا".
(4) في ت: "أفحسبتم" وهو خطأ.
(5) صحيح البخاري برقم (4728) .(5/201)
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (1) وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ.
وَمَعْنَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تَشْمَلُ الْحَرُورِيَّةَ كَمَا تَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَغَيْرَهُمْ، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ عَلَى الْخُصُوصِ وَلَا هَؤُلَاءِ (2) بَلْ هِيَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ قَبْلَ خِطَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَبْلَ (3) وُجُودِ الْخَوَارِجِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ مَرْضِيَّةٍ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِيهَا، وَأَنَّ عَمَلَهُ مَقْبُولٌ، وَهُوَ مُخْطِئٌ، وَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الْغَاشِيَةِ: 2-4] وَقَوْلُهُ (4) تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الْفُرْقَانِ: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النُّورِ: 39] .
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} أَيْ: نُخْبِرُكُمْ {بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا} ؟ ثُمَّ فَسَّرَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ: عَمِلُوا أَعْمَالًا بَاطِلَةً عَلَى غَيْرِ شَرِيعَةٍ مَشْرُوعَةٍ مَرْضِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} أَيْ" يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَأَنَّهُمْ مَقْبُولُونَ مَحْبُوبُونَ.
وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} أَيْ: جَحَدُوا آيَاتِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَبَرَاهِينَهُ الَّتِي أَقَامَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَكَذَّبُوا بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} أَيْ: لَا نُثْقِلُ مَوَازِينَهُمْ؛ لِأَنَّهَا خَالِيَةٌ عَنِ الْخَيْرِ (5) .
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ، حَدَّثَنِي أَبُو الزَّنَاد، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ (6) يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يزن عند الله جناح بعوضة" وقال: "اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} .
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْر، عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، مِثْلَهُ (7) .
هَكَذَا ذَكَرَهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ مُعَلَّقًا (8) . وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، بِهِ (9) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأمة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْأَكُولِ الشَّرُوبِ الْعَظِيمِ، فَيُوزَنُ بِحَبَّةٍ فَلَا يَزِنُهَا". قَالَ: وَقَرَأَ: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي الصَّلْتِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عن صالح مولى
__________
(1) في ت: "طلحة".
(2) في أ: "هو".
(3) في ت: "وقيل".
(4) في ت، ف، أ: "وقال".
(5) في ت: "من الخير".
(6) في ت: "السمين العظيم".
(7) صحيح البخاري برقم (4729) .
(8) في ت: "مغلقا".
(9) صحيح مسلم برقم (2785) .(5/202)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
التَّوْأَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَرْفُوعًا (1) فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْبُخَارِيِّ سَوَاءً.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ عُمَارة (2) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَخْطُرُ فِي حُلَّةٍ لَهُ. فَلَمَّا قَامَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا بُرَيْدَةُ، هَذَا مِمَّنْ لَا يُقِيمُ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا" (3) .
ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ وَاصِلٌ مَوْلَى أَبِي عَنْبَسَةَ (4) وَعَوْنُ (5) بْنُ عُمَارة (6) وَلَيْسَ بِالْحَافِظِ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شِمْرٍ (7) عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ كَعْبٍ قَالَ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَجُلٍ عَظِيمٍ طَوِيلٍ، فَلَا يَزِنُ عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (8) .
وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا} أَيْ: إِنَّمَا جَازَيْنَاهُمْ بِهَذَا الْجَزَاءِ جَهَنَّمَ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَاتِّخَاذِهِمْ آيَاتِ اللَّهِ وَرُسُلَهُ هُزُوًا، اسْتَهْزَءُوا بِهِمْ، وَكَذَّبُوهُمْ أَشَدَّ التَّكْذِيبِ.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا (108) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عباده السعداء، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوهم فيما جاؤوا بِهِ بِأَنَّ لَهُمْ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: الْفِرْدَوْسُ هُوَ: الْبُسْتَانُ بِالرُّومِيَّةِ.
وَقَالَ كَعْبٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ شَجَرُ الْأَعْنَابِ.
وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ (9) الْفِرْدَوْسُ: سُرَّةُ (10) الْجَنَّةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفِرْدَوْسُ: رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ (11) ، عَنْ قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْفِرْدَوْسُ (12) ربوة الجنة، أوسطها وأحسنها" (13)
__________
(1) تفسير الطبري (16/29) .
(2) في ت: "عامر".
(3) مسند البزار برقم (2956) "كشف الأستار".
(4) في ت: "مولى عن عبيد"، وفي ف، أ: "مولى أبي عيينة".
(5) في ف، أ: "وعنه عون".
(6) في ت: "عامر".
(7) في ت: "سمرة".
(8) تفسير الطبري (16/29) ".
(9) في ت: "أسامة".
(10) في ت: "شجرة".
(11) في ف، أ: "بشر".
(12) في ت: "والفردوس".
(13) رواه الطبراني في المعجم الكبير (7/213) من طريق أبى الجماهر، عن سعيد بن بشير به.(5/203)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
وَهَكَذَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ. وَقَدْ نَقَلَهُ (1) ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ (2)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ (3) الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ" (4)
وَقَوْلُهُ: {نُزُلًا} أَيْ ضِيَافَةً، فَإِنَّ النُّزُلَ هُوَ الضِّيَافَةُ.
وَقَوْلُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ: مُقِيمِينَ سَاكِنِينَ (5) فِيهَا، لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا أَبَدًا، {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} أَيْ: لَا يَخْتَارُونَ (6) غَيْرَهَا، وَلَا يُحِبُّونَ سِوَاهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ (7)
فَحَّلْت سُوَيدا القَلْب لَا أنَا بَاغيًا ... سِوَاهَا وَلَا عَنْ حُبّها أتَحوّلُ ...
وَفِي قَوْلِهِ: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} تَنْبِيهٌ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِيهَا، وَحُبِّهِمْ لَهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ (8) فِيمَنْ هُوَ مُقِيمٌ فِي الْمَكَانِ دَائِمًا أَنَّهُ يَسْأَمُهُ أَوْ يَمَلُّهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الدَّوَامِ وَالْخُلُودِ السَّرْمَدِيِّ، لَا يَخْتَارُونَ عَنْ مُقَامِهِمْ ذَلِكَ مُتَحَوَّلًا وَلَا انْتِقَالًا وَلَا ظَعْنًا (9) وَلَا رِحْلَةً (10) وَلَا بَدَلًا (11)
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) } .
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: لَوْ كَانَ مَاءُ الْبَحْرِ مِدَادًا لِلْقَلَمِ الَّذِي تُكْتَبُ (12) بِهِ كَلِمَاتُ رَبِّى وَحِكَمُهُ وَآيَاتُهُ الدَّالَّةُ (13) عَلَيْهِ، {لَنَفِدَ الْبَحْرُ} أَيْ: [لَفَرَغَ الْبَحْرُ] (14) قَبْلَ أَنْ يُفْرَغَ مِنْ كِتَابَةِ ذَلِكَ {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} أَيْ: بِمِثْلِ الْبَحْرِ آخَرَ، ثُمَّ آخَرَ، وَهَلُمَّ جَرًّا، بُحُورٌ تَمُدُّهُ وَيُكْتَبُ بِهَا، لَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لُقْمَانَ: 27] .
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّ مَثَلَ عِلْمِ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَطْرَةٍ مِنْ مَاءِ الْبُحُورِ (15) كُلِّهَا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} .
__________
(1) في أ: "ذكر ذلك كله".
(2) تفسير الطبري (16/30) ورواه الترمذي في السنن برقم (3174) من طريق روح بن عبادة، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
(3) في ت: "وأوسطه".
(4) صحيح البخاري برقم (7423) .
(5) في ف، أ: "ماكثين".
(6) في ت: "لا تختارون".
(7) هو النابغة الجعدي، والبيت في مغني اللبيب (ص265) أ. هـ مستفادا من حاشية ط - الشعب.
(8) في أ: "أنه قد توهم".
(9) في ت: "ضعفا".
(10) في أ: "رحيله".
(11) في ت، ف، أ: "بديلا".
(12) في ف: "يكتب".
(13) في ت، ف، أ: "والدلالات".
(14) زيادة من ت، ف، أ.
(15) في ت: "البحر".(5/204)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
يَقُولُ: لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا [لِكَلِمَاتِ اللَّهِ] (1) ، وَالشَّجَرُ كُلُّهُ أَقْلَامٌ (2) ، لَانْكَسَرَتِ الْأَقْلَامُ وَفَنِيَ مَاءُ الْبَحْرِ، وَبَقِيَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ قَائِمَةً لَا يُفْنِيهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْدُرَ قَدْرَهُ وَلَا يُثْنِيَ عَلَيْهِ كَمَا يَنْبَغِي، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ، إِنَّ رَبَّنَا كَمَا يَقُولُ وَفَوْقَ مَا نَقُولُ (3) ، إِنَّ مَثَلَ نَعِيمِ الدُّنْيَا أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ (4) ، كَحَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فِي خِلَالِ الْأَرْضِ [كُلِّهَا] (5) .
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) } .
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْكُوفِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ (6) .
يَقُولُ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (7) : {قُلْ} لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِرِسَالَتِكَ إِلَيْهِمْ: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} فَمَنْ زَعَمَ (8) أَنِّي كَاذِبٌ، فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا جِئْتُ بِهِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ فِيمَا (9) أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْمَاضِي، عَمَّا سَأَلْتُمْ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، مِمَّا هُوَ مُطَابِقٌ (10) فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَوْلَا مَا أَطْلَعَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنَا أُخْبِرُكُمْ {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ} الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ، {إِلَهٌ وَاحِدٌ} لَا شَرِيكَ لَهُ، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} أَيْ: ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ الصَّالِحَ، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} ، مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ اللَّهِ {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَانَ رُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ. لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، صوابُا (11) عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (12) . وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الجَزَري، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَقِفُ الْمَوَاقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا. حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .
وَهَكَذَا أَرْسَلَ هَذَا مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ أَبُو عُمَارَةَ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَب قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَقَالَ: أَنْبِئْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا يُصَلِّي، يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَد، وَيَصُومُ وَيَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ، وَيَتَصَدَّقُ وَيَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ، وَيَحُجُّ وَيَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ، فَقَالَ عُبَادَةُ: لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: "أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَعِي شَرِيكٌ (13) فَهُوَ له كله، لا حاجة لي فيه". (14)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "والشجر أقلام كلها".
(3) في ت، أ: "يقول".
(4) في أ: "الجنة".
(5) زيادة من ت، ف، أ.
(6) المعجم الكبير (19/392) وقال الهيثمي في المجمع (7/14) : "رجاله ثقات".
(7) في ت، ف، أ: "صلوات الله وسلامة عليه".
(8) في ف، أ: "يزعم".
(9) في أ: "مما".
(10) في ت، أ: "المطابق".
(11) في ت:"صوابا حالصا له".
(12) زيادة من ف، أ.
(13) في أ: "شرك".
(14) تفسير الطبري (16/32) .(5/205)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، ثَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ رُبَيْحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنَّا نَتَنَاوَبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَبِيتُ عِنْدَهُ، تَكُونُ (1) لَهُ الْحَاجَةُ، أَوْ يَطْرُقُهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَبْعَثُنَا. فَكَثُرَ الْمُحْتَسِبُونَ (2) وَأَهْلُ النُّوب، فَكُنَّا نَتَحَدَّثُ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا هَذِهِ النَّجْوَى؟ [أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنِ النَّجْوَى] (3) . قَالَ: فَقُلْنَا: تُبْنَا إِلَى اللَّهِ، أَيْ نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنَّا فِي ذِكْرِ الْمَسِيحِ، وَفَرِقِنَا مِنْهُ، فَقَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَسِيحِ عِنْدِي؟ " قَالَ: قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: "الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي لِمَكَانِ الرَّجُلِ". (4)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ -يَعْنِي ابْنَ بَهْرَام-قَالَ: قَالَ شَهْر بْنُ حَوْشَب: قَالَ ابْنُ غَنْمٍ: لَمَّا دَخَلْنَا مَسْجِدَ الْجَابِيَةِ أَنَا وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، لَقِينَا عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، فَأَخَذَ يَمِينِي بِشِمَالِهِ، وَشِمَالَ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِيَمِينِهِ، فَخَرَجَ يَمْشِي بَيْنَنَا وَنَحْنُ نَتَنَاجَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا نَتَنَاجَى بِهِ، فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: إِنْ طَالَ بِكُمَا عُمْرُ أَحَدِكُمَا أَوْ كِلَيْكُمَا، لَتُوشِكَانِ (5) أَنْ تَرَيَا الرَّجُلَ مِنْ ثَبَجِ الْمُسْلِمِينَ -يَعْنِي مِنْ وَسَطِ-قَرَأَ الْقُرْآنِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعَادَهُ وَأَبْدَأَهُ، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ (6) حَرَامَهُ، وَنَزَلَ عِنْدَ مَنَازِلِهِ، لَا يَحُورُ فِيكُمْ إِلَّا كَمَا يَحُور (7) رَأْسُ الْحِمَارِ الْمَيِّتِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ طَلَعَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، فَجَلَسَا إِلَيْنَا، فَقَالَ شَدَّادٌ: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ لَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ وَالشِّرْكِ". فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وأبو الدرداء: اللهم غفرًا. أو لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَدَّثَنَا أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ (8) فَقَدْ عَرَفْنَاهَا، هِيَ شَهَوَاتُ الدُّنْيَا مِنْ نِسَائِهَا وَشَهَوَاتِهَا، فَمَا هَذَا الشِّرْكُ الَّذِي تُخَوِّفُنَا بِهِ يَا شَدَّادُ؟ فَقَالَ شَدَّادٌ: أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ رَأَيْتُمْ رَجُلًا يُصَلِّي لِرَجُلٍ، أَوْ يَصُومُ لِرَجُلٍ، [أَوْ تَصَدَّقَ لَهُ، أَتَرَوْنَ أَنَّهُ قَدْ أَشْرَكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ مَنْ صَلَّى لِرَجُلٍ أَوْ صَامَ لَهُ] (9) أَوْ تَصَدَّقَ لَهُ، لَقَدْ أَشْرَكَ. فَقَالَ شَدَّادٌ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [يَقُولُ] (10) : مَنْ صَلَّى يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ؟ " فَقَالَ (11) عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ عِنْدَ ذَلِكَ: أَفَلَا يَعْمِدُ اللَّهُ إِلَى مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ كُلِّهِ، فَيَقْبَلُ مَا خُلِصَ لَهُ وَيَدَعُ مَا أُشْرِكَ بِهِ؟ فَقَالَ شَدَّادٌ عَنْ ذَلِكَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ لِمَنْ أَشْرَكَ بِي، مَنْ أَشْرَكَ بِي شَيْئًا فَإِنَّ [حَشْده] (12) عَمَلَهُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي أَشْرَكَ بِهِ، وَأَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ" (13) .
طَرِيقٌ [أُخْرَى] (14) لِبَعْضِهِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَاب، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، أَخْبَرَنَا عُبَادَةُ بْنُ نُسيّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: شَيْءٌ سَمِعْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ [فَذَكَرْتُهُ] (15) فَأَبْكَانِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: "أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ [مِنْ بَعْدِكَ؟] (16) قَالَ: "نعم،
__________
(1) في ت، ف: "تأذن"، وفي أ: "نأذن".
(2) في أ: "المجسسون".
(3) زيادة من ف، أ، والمسند.
(4) المسند (3/30) وفي إسناده ربيح بن عبد الرحمن قال أحمد: ليس بمعروف، وقال البخاري: منكر الحديث.
(5) في أ: "ليوشكان".
(6) في ت: "فحرم".
(7) في ت، ف، أ: "لايجوز منكم إلا كما يجوز".
(8) في أ: "حفية".
(9) زيادة من ف، أ، والمسند.
(10) زيادة من ف، أ، والمسند.
(11) في ف، أ: "قال".
(12) زيادة من ف، أ.
(13) المسند (4/125) .
(14) زيادة من ف، أ.
(15) زيادة من ف، أ.
(16) زيادة من ف، أ.(5/206)
أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا، ولا حجرًا ولا وثنًا، ولكن يراؤون بِأَعْمَالِهِمْ، وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ (1) .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَان، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسيّ، بِهِ (2) . وَعُبَادَةُ فِيهِ ضَعْفٌ وَفِي سَمَاعِهِ مِنْ شَدَّادٍ نَظَرٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ (3) بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ الْأَحْمَرُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ (4) أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، مَنْ (5) أَشْرَكَ بِي أَحَدًا فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ الْعَلَاءَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُ قَالَ: "أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي، فَأَنَا منه برئ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ". تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (6) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا لَيْث، عَنْ يَزِيدَ -يَعْنِي ابْنَ الْهَادِ-عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ". قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ الله؟ قال: "الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً" (7)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ (8) أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ -يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ-أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ زِيَادِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ -وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ-أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا، فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ".
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، [مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ] (9) بَكْرٍ (10) وَهُوَ البُرساني، بِهِ (11)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا بَكَّارٌ، حَدَّثَنِي أَبِي -يَعْنِي عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ (12) -عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سمَّع سمَّع اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ" (13) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أبي سعيد
__________
(1) في أ: "صيامه".
(2) المسند (4/123) وسنن ابن ماجة برقم (4305) .
(3) في ف، أ: "الحسن".
(4) في أ: "عن".
(5) في أ: "فمن".
(6) المسند (2/301) ورواه ابن خزيمة في صحيحة برقم (938) من طريق محمد بن جعفر به.
(7) المسند (5/428) وقال الهيثمي في المجمع (1/102) : "رجاله رجال الصحيح".
(8) في ف، أ: "بكير".
(9) زيادة من ف، أ.
(10) في ف، أ: بكير".
(11) المسند (4/215) وسنن الترمذي برقم (3154) وسنن ابن ماجة برقم (4203) .
(12) في ف، أ: "بكر".
(13) المسند (5/45) .(5/207)
الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعُ اللَّهُ بِهِ" (1) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا فِي بَيْتِ أَبِي عُبَيْدَةَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ (2) عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ ابْنِ عُمَرَ (3) ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَمَّع النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّع اللَّهُ بِهِ، سَامَعَ خَلْقَهُ وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ" [قَالَ] (4) : فَذَرَفَتْ عَيْنَا عَبْدِ اللَّهِ (5) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُعْرَضُ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُحُفٍ مَخْتُومَةٍ (6) ، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَلْقُوا هَذَا، وَاقْبَلُوا هَذَا، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ إِلَّا خَيْرًا. فَيَقُولُ: إِنَّ عَمَلَهُ كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي، وَلَا أَقْبَلُ الْيَوْمَ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهِي".
ثُمَّ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ غَسَّانَ: رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ وَهُوَ بَصْرِيٌّ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ (7)
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (8) بْنِ قَيْسٍ الْخُزَاعِيِّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، لَمْ يَزَلْ (9) فِي مَقْتِ اللَّهِ حَتَّى يَجْلِسَ". (10)
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْهَجَرِيِّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَوْفِ (11) بْنِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَأَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو، فَتِلْكَ (12) اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ". (13)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو السَّكوني، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ (14) ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ؛ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وَقَالَ: إِنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نزلت من القرآن. (15)
وهذا
__________
(1) المسند (3/40) .
(2) في أ: "ليسمع".
(3) في أ: "عمرو".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) المسند (2/162) .
(6) في أ: "مختمة".
(7) مسند البزار برقم (3435) "كشف الأستار".
(8) في أ: "غبد الرحمن".
(9) في ت، أ: "يزد".
(10) قال الهيثمي في المجمع (10/223) : "رواه الطبراني وفيه يزيد بن عياض وهو متروك". وله شاهد من حديث أبي هند الدارى رواه أحمد في مسنده (5/270) .
(11) في ت، ف، أ: "عروة".
(12) في أ: "فذلك".
(13) مسند أبي يعلى (9/54) وحسنه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (3/183) وقال الهيثمي في المجمع (10/221) : "فيه إبراهيم ابن مسلم الهجرى وهو ضعيف".
(14) في ت، أ: "ابن عباس".
(15) تفسير الطبري (16/32) .(5/208)
أَثَرٌ مُشْكِلٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ [هِيَ] (1) آخِرُ سُورَةِ الْكَهْفِ. وَالْكَهْفُ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ، وَلَعَلَّ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا مَا تَنْسَخُهَا (2) وَلَا يُغَيِّرُ حُكْمَهَا (3) بَلْ هِيَ مُثْبَتَةٌ مُحْكَمَةٌ، فَاشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَرَوَى بِالْمَعْنَى عَلَى مَا فَهِمَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شميل، حدثنا أبو قُرَّرة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ، كَانَ لَهُ مِنْ نُورٍ، مِنْ عَدَنَ أَبْيَنَ إِلَى [مَكَّةَ] (4) حَشْوُهُ الْمَلَائِكَةُ (5) غَرِيبٌ جِدًّا.
آخر [تفسير] (6) سورة الكهف ولله الحمد
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "آية تنسخها".
(3) في ت، ف: "بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) مسند البزار برقم (3108) "كشف الأستار"، وأبو قرة الأسدى جهله الذهبي وابن حجر، وقال الذهبي: "نفرد عنه النضر بن شميل". وقال ابن حجر: "أخرج ابن خزيمة حديثه في صحيحه وقال: لا أعرفه بعدالة ولا جرح".
(6) زيادة من ت.(5/209)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
تَفْسِيرُ سُورَةِ مَرْيَمَ [عَلَيْهَا السَّلَامُ] (1)
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ مَكَّةَ: أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَرَأَ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ (2) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) } .
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} أَيْ: هَذَا ذِكْرُ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعَبْدِهِ زَكَرِيَّا.
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ "ذَكَّرَ رَحْمَةَ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَريَّا".
[وَ] (3) {زَكَرِيَّا} : يُمَدُّ وَيُقْصَرُ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ. وَكَانَ نَبِيًّا عَظِيمًا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّهُ كَانَ نَجَّارًا، أَيْ: كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ فِي النِّجَارَةِ.
وَقَوْلُهُ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} : قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّمَا أَخْفَى دُعَاءَهُ، لِئَلَّا يُنْسَبَ فِي طَلَبِ الْوَلَدِ إِلَى الرُّعُونَةِ لِكِبَرِهِ. حَكَاهُ المَاوَرْدِيُّ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا أَخْفَاهُ لِأَنَّهُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ. كَمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} : إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْقَلْبَ التَّقِيَّ (4) ، وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ الْخَفِيَّ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ نَامَ أَصْحَابُهُ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ يَقُولُ خُفْيَةً: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ فَقَالَ اللَّهُ: لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أَيْ: ضَعُفَتْ (5) وَخَارَتِ الْقُوَى، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} أَيِ
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) رواه الإمام أحمد من حديث أم سلمة (5/290) ومن حديث ابن مسعود (1/461) .
(3) زيادة من ت، ف.
(4) في ت: "النقي".
(5) في ت، ف: "ضعف".(5/211)
اضْطَرَمَ الْمَشِيبُ فِي السَّوَادِ، كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيد فِي مَقْصُورَتِهِ (1) :
إمَّا (2) تَرَى رأسِي حَاكى لونُهُ ... طُرَّةَ صُْبحٍ تَحتَ أذْيَال الدُّجى ...
واشْتَعَل المُبْيَض فِي مُسْوَدّه ... مِثْلَ اشتِعَال النَّارِ في جَمْرِ (3) الغَضَا ...
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا: الْإِخْبَارُ عَنِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ، وَدَلَائِلِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أَيْ: وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلَّا الْإِجَابَةَ (4) فِي الدُّعَاءِ، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ فِيمَا سَأَلْتُكَ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} : قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ بِنَصْبِ "الْيَاءِ" مِنَ {الْمَوَالِيَ} عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ، وَعَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ سَكَّنَ الْيَاءَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأنَّ أيْديهنّ في القَاع الفَرقْ ... أَيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَينَ الوَرقْ (5)
وَقَالَ الْآخَرُ:
فَتَى لو يُبَاري الشَّمسَ ألْقَتْ قِنَاعَها ... أَوِ القَمَرَ السَّاري لألْقَى المقَالدَا ...
وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ الطَّائِيِّ:
تَغَاير الشَّعرُ فِيهِ (6) إِذْ سَهرت لَهُ ... حَتَّى ظَنَنْتُ قَوَافِيهِ ستَقتتلُ (7)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: أَرَادَ بِالْمَوَالِي الْعَصَبَةَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْكَلَالَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: "وَإِنِّي خَفَّت الْمَوَالِي مِنْ وَرَائِي" بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ بِمَعْنَى: قَلَّتْ عَصَبَاتِي (8) مِنْ بَعْدِي.
وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَجْهُ خَوْفِهِ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا [مِنْ] (9) بَعْدِهِ فِي النَّاسِ تَصَرُّفًا سَيِّئًا، فَسَأَلَ اللَّهَ وَلَدَا، يَكُونُ نَبِيًّا مِنْ بَعْدِهِ، لِيَسُوسَهُمْ بِنُبُوَّتِهِ وَمَا يُوحَى إِلَيْهِ. فَأُجِيبَ فِي ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ خَشِيَ مِنْ وِرَاثَتِهِمْ لَهُ مَالَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ أَعْظَمُ مَنْزِلَةً وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُشْفِقَ عَلَى مَالِهِ إِلَى مَا هَذَا حَدُّهُ (10) أَنْ يَأْنَفَ (11) مِنْ وِرَاثَةِ عَصَبَاتِهِ (12) لَهُ، وَيَسْأَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَيَحُوزَ (13) مِيرَاثَهُ دُونَهُ دُونَهُمْ. هَذَا وَجْهٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ، بَلْ كَانَ نَجَّارًا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ (14) يَدَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجْمَعُ مَالًا وَلَا سِيَّمَا الْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا نُورَث، مَا
__________
(1) انظر: شرح مقصورة ابن دريد (ص2) أ. هـ. مستفادا من حاشية ط-الشعب.
(2) في أ: "ما".
(3) في ت، ف، أ: "جزل".
(4) في أ: "إجابة".
(5) الرجز في اللسان مادة (قرق) غير منسوب.
(6) في ت: "منه".
(7) البيت في ديوان أبي تمام (227) أ. هـ. مستفادا من حاشية ط- الشعب.
(8) في أ: "عصابتي".
(9) زيادة من ت، ف.
(10) في أ: "حسده".
(11) في أ: "يأتنف".
(12) في أ: "عصابته".
(13) في ف، أ: "ليجوز".
(14) في أ: "من عمل".(5/212)
تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ" (1) وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: "نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ" (2) وَعَلَى (3) هَذَا فَتَعَيَّنَ حَمْلُ قَوْلِهِ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي} عَلَى مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النَّمْلِ: 16] أَيْ: فِي النُّبُوَّةِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْمَالِ لَمَا خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِ بِذَلِكَ، وَلَمَا كَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ أَنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ أَبَاهُ، فَلَوْلَا أَنَّهَا وِرَاثَةٌ خَاصَّةٌ لَمَا أَخْبَرَ بِهَا، وَكُلُّ هَذَا يُقَرِّرُهُ وَيُثْبِتُهُ (4) مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ: "نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكَنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ".
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [قَالَ] (5) : كَانَ وِرَاثَتُهُ عِلْمًا وَكَانَ زَكَرِيَّا مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قَالَ: [قَدْ] (6) يَكُونُ نَبِيًّا كَمَا كَانَتْ آبَاؤُهُ أَنْبِيَاءَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: يَرِثُ نُبُوَّتَهُ وَعِلْمَهُ.
وَقَالَ السُّدِّي: يَرِثُ نُبُوَّتِي وَنُبُوَّةَ آلِ يَعْقُوبَ.
وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قَالَ: نُبُوَّتَهُمْ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ نُوحٍ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، كِلَاهُمَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صالح في قَوْلِهِ: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قَالَ: يَرِثُ مَالِي، وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ.
وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا (7) مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (8) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "يَرْحَمُ اللَّهُ زَكَرِيَّا، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَةٍ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ" (9)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، عَنْ مُبَارَكٍ -هُوَ (10) ابْنُ فَضَالَةَ -عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "رَحِمَ اللَّهُ أَخِي زَكَرِيَّا، مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَةِ مَالِهِ حِينَ يَقُولُ: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (11)
__________
(1) جاء من حديث عائشة، وأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وطلحة، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام أما حديث عائشة فرواه البخاري: (6730) ومسلم برقم (1758) . وأما حديث أبو بكر فرواه البخاري برقم (1/37) ومسلم برقم (1759) . وأما حديث عمر بن الخطاب وعثمان وطلحة والزبير، فرواه البخاري برقم (3094، 6728، 7305) ومسلم برقم (1757) .
(2) لم أجده في سنن الترمذي المطبوع بهذا اللفظ، وانظر كلام الحافظ ابن حجر عن هذه الرواية والوجوه التي تحمل عليها في الفتح (12/8) .
(3) في ف: "فعلى".
(4) في أ: "ونبينه".
(5) زيادة من ف.
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ت: "حدثنا".
(8) في ف، أ: "أن النبي".
(9) تفسير عبد الرزاق (2/5) وقد وصل طرفه الثاني: "يرحم اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شديد".
الإمام أحمد في مسنده (2/350) من طريق الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(10) في ف: "وهو".
(11) تفسير الطبري (16/37) .(5/213)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
وَهَذِهِ مُرْسَلَاتٌ لَا تُعَارِضُ الصِّحَاحَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} أَيْ مَرْضِيًّا عِنْدَكَ وَعِنْدَ خَلْقِكِ، تُحِبُّهُ وَتُحَبِّبُهُ إِلَى خَلْقِكَ فِي دِينِهِ وَخُلُقِهِ.
{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) } .
هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ مَحْذُوفًا، وَهُوَ أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ فِي دُعَائِهِ فَقِيلَ [لَهُ] (1) : {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 38، 39]
وَقَوْلُهُ: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: أَيْ لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} أَيْ: شَبِيهًا.
أَخَذَهُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مَرْيَمَ: 65] أَيْ: شَبِيهًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ لَمْ تَلِدِ الْعَوَاقِرُ قَبْلَهُ مِثْلَهُ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ لَا يُوْلَدُ لَهُ، وَكَذَلِكَ امْرَأَتُهُ كَانَتْ عَاقِرًا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهَا، بِخِلَافِ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَةَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُمَا إِنَّمَا تَعَجَّبَا مِنَ الْبِشَارَةِ بِإِسْحَاقَ عَلَى كِبَرِهِمَا (2) لَا لِعُقْرِهِمَا (3) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ} [الْحِجْرِ: 54] مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ وُلِدَ لَهُ قَبْلَهُ (4) إسماعيل بثلاث عشرة سنة. وقالت امرأته: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هُودٍ: 72، 73] .
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) } .
هَذَا تَعَجُّبٌ مِنْ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ أُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ، وبُشِّر بِالْوَلَدِ، فَفَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَسَأَلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ مَا يُولَدُ لَهُ، وَالْوَجْهُ الَّذِي يَأْتِيهِ مِنْهُ الْوَلَدُ، مَعَ أَنَّ امْرَأَتَهُ [كَانَتْ] (5) عَاقِرًا لَمْ تَلِدْ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهَا مَعَ كِبَرِهَا، وَمَعَ أَنَّهُ قَدْ كَبُرَ وَعَتَا، أَيْ عَسَا عَظْمُهُ وَنَحُلَ (6) وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ لِقَاحٌ وَلَا جِمَاعٌ.
تَقُولُ الْعَرَبُ لِلْعُودِ إِذَا يَبِسَ: "عَتا يَعْتو عِتيا وعُتُوا، وعَسا يَعْسو عُسوا وعِسيا".
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في أ: "لكبرهما".
(3) في أ: "لا لعقرها".
(4) في ت، أ: "أنه قد كان ولد له قبل"، وفي ف: "أنه كان ولد له قبل".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في أ: "وقحل".(5/214)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {عِتِيًّا} بِمَعْنَى: نُحُولِ (1) الْعَظْمِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: {عِتِيًّا} يَعْنِي: الْكِبَرَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَخَصُّ مِنَ الْكِبَرِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا هُشَيْم، أَخْبَرَنَا حُصَيْن، عَنْ عِكْرمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُ السُّنَّةَ كُلَّهَا، غَيْرَ أَنِّي لَا أَدْرِي أَكَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَمْ لَا؟ وَلَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ يَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} أَوْ "عِسِيًّا".
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سُرَيْج (2) بْنِ النُّعْمَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، كِلَاهُمَا عَنْ هُشَيْمٍ، بِهِ.
{قَالَ} أَيِ الْمَلَكُ مُجِيبًا لِزَكَرِيَّا عَمَّا اسْتَعْجَبَ مِنْهُ: {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أَيْ: إِيجَادُ الْوَلَدِ مِنْكَ وَمَنْ زَوْجَتِكَ هَذِهِ لَا مِنْ غَيْرِهَا {هَيِّنٌ} أَيْ: يَسِيرٌ سَهْلٌ عَلَى اللَّهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ مَا هُوَ أَعْجَبُ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الْإِنْسَانُ: 1]
{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أَيْ: عَلَامَةً وَدَلِيلًا عَلَى وُجُودِ مَا وَعَدْتَنِي، لِتَسْتَقِرَّ نَفْسِي وَيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِمَا وَعَدْتَنِي كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 260] . {قَالَ آيَتُكَ} أَيْ: عَلَامَتُكَ {أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} أَيْ: أَنْ تَحْبِسَ (3) لِسَانَكَ عَنِ الْكَلَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَنْتَ صَحِيحٌ سَوِيٌّ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا عِلَّةٍ (4)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَوَهْبُ [بْنُ مُنَبِّهٍ] (5) ، وَالسُّدِّيُّ وقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ يَقْرَأُ وَيُسَبِّحُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ قَوْمَهُ إِلَّا إِشَارَةً.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} أَيْ: مُتَتَابِعَاتٍ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَنْهُ وَعَنِ الْجُمْهُورِ أَصَحُّ (6) كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي [أَوَّلِ] (7) آلِ عِمْرَانَ: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ} [آلِ عِمْرَانَ: 41]
__________
(1) في أ: "يعني قحول".
(2) في ف، أ: "شريح".
(3) في ف: "تحتبس".
(4) في أ: "وعلامة".
(5) زيادة من ت، ف، أ.
(6) في ف، أ: "واضح".
(7) زيادة من أ.(5/215)
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} مِنْ غَيْرِ خَرَسٍ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ وَأَيَّامِهَا {إِلا رَمْزًا} أَيْ: إِشَارَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} أَيِ: الَّذِي بُشِّرَ فِيهِ بِالْوَلَدِ، {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أَيْ: أَشَارَ إِشَارَةً خَفِيَّةً سَرِيعَةً: {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أَيْ: مُوَافَقَةً لَهُ فِيمَا أُمِرَ بِهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِهِ، وَشُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَاهُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أَيْ: أَشَارَ. وَبِهِ قَالَ وَهْبٌ، وقَتَادَةُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أَيْ: كَتَبَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، كَذَا قَالَ السدي.(5/216)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) } .
وَهَذَا أَيْضًا تَضَمَّنَ (1) مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ: أَنَّهُ وَجَدَ هَذَا الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ، وَهُوَ يَحْيَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ الْكِتَابَ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ الَّتِي كَانُوا يَتَدَارَسُونَهَا بَيْنَهُمْ، وَيَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ. وَقَدْ كَانَ سِنُّهُ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا، فَلِهَذَا نَوَّهَ بِذِكْرِهِ، وَبِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ، فَقَالَ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أَيْ: تَعَلَّمِ الْكِتَابَ {بِقُوَّةٍ} أَيْ: بِجِدٍّ وَحِرْصٍ وَاجْتِهَادٍ {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} أَيِ: الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَالْجِدَّ وَالْعَزْمَ، وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْخَيْرِ، وَالْإِكْبَابَ عَلَيْهِ، وَالِاجْتِهَادَ فِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ حَدَثُ [السِّنِّ] (2) .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الصِّبْيَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبْ. قَالَ: مَا لِلَّعِبِ خُلِقْتُ (3) ، قَالَ: فَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} .
وَقَوْلُهُ: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} يَقُولُ: وَرَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ وَزَادَ: لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُنَا. وَزَادَ قَتَادَةُ: رُحِم بِهَا زَكَرِيَّا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} وَتَعَطُّفًا مِنْ رَبِّهِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} [قَالَ: مَحَبَّةً عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَمَّا الْحَنَانُ فَالْمَحَبَّةُ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} ] (4) ، قَالَ: تعظيمًا من لدنا (5) .
__________
(1) في أ: "يضمن".
(2) زيادة من أ.
(3) في ف، أ: "خلقنا".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في أ: "الدنيا".(5/216)
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا أَدْرِي (1) مَا حَنَانًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} ، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْهَا عباس، فَلَمْ يَحْرِ (2) فِيهَا شَيْئًا.
وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ: {وَحَنَانًا [مِنْ لَدُنَّا] } (3) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} أَيْ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ وَحَنَانًا، {وَزَكَاةً} أَيْ: وَجَعَلْنَاهُ ذَا حَنَانٍ وَزَكَاةٍ، فَالْحَنَانُ هُوَ الْمَحَبَّةُ فِي شَفَقَةٍ وَمَيْلٍ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: حَنَّتِ النَّاقَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَحَنَّتِ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا. وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ "حَنَّة" مِنَ الحَنَّة، وَحَنَّ الرَّجُلُ إِلَى وَطَنِهِ، وَمِنْهُ التَّعَطُّفُ وَالرَّحْمَةُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ (4)
تَحنَّنْ (5) عَلَي هَدَاكَ المليكُ ... فإنَّ لكُل مَقامٍ مَقَالا ...
وَفِي الْمُسْنَدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ (6) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ: "يَبْقَى رَجُلٌ فِي النَّارِ يُنَادِي أَلْفَ سَنَةٍ: يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ" (7)
وَقَدْ يُثنَّي (8) وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ مَا وَرَدَ مِنْ (9) ذَلِكَ لُغَةً بِذَاتِهَا، كَمَا قَالَ طُرْفَةُ:
أَنَا مُنْذر أفنيتَ فاسْتبق بَعْضَنَا ... حَنَانَيْك بَعْض الشَّر أهْونُ مِنْ بَعْض (10)
وَقَوْلُهُ: {وَزَكَاةً} مَعْطُوفٌ عَلَى {وَحَنَانًا} فَالزَّكَاةُ الطَّهَارَةُ مِنَ الدَّنَسِ وَالْآثَامِ وَالذُّنُوبِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الزَّكَاةُ (11) الْعَمَلُ الصَّالِحُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ الزَّكِيُّ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَزَكَاةً} [قَالَ: بَرَكَةً] (12) {وَكَانَ تَقِيًّا} طَهُرَ، فَلَمْ يَعْمَلْ بِذَنْبٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى طَاعَتَهُ لِرَبِّهِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ ذَا رَحْمَةٍ وَزَكَاةٍ وَتُقًى، عَطَفَ بِذِكْرِ طَاعَتِهِ لِوَالِدَيْهِ وَبِرِّهِ بِهِمَا، وَمُجَانَبَتِهِ (13) عُقُوقَهُمَا، قَوْلًا وَفِعْلًا [وَأَمْرًا] (14) وَنَهْيًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ جَزَاءً لَهُ عَلَى ذَلِكَ: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} أَيْ: لَهُ الْأَمَانُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَحْوَالِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَوْحَشُ مَا يَكُونُ الْخَلْقُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: يَوْمَ يُولَدُ، فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجًا مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عَايَنَهُمْ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ، فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ عَظِيمٍ. قَالَ: فَأَكْرَمَ اللَّهُ فِيهَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَخَصَّهُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ، {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}
__________
(1) في ت، أ: "لا أدري".
(2) في ف، أ: "يخبر".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) هو الحطيئة، والبيت في اللسان، مادة "حنن".
(5) في ف: "تعطف"
(6) في ت، ف، أ: "عن".
(7) المسند (3/230) .
(8) في أ: "يعني".
(9) في أ: "في".
(10) البيت في ديوانه (ص208) أ. هـ مستفادا من حاشية ط - الشعب.
(11) في ت: "والزكاة".
(12) زيادة من ف، أ.
(13) في ف: ""ومجانبة".
(14) زيادة من أ.(5/217)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ الْفَضْلِ عَنْهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {جَبَّارًا عَصِيًّا} ، قَالَ: كَانَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ يَذْكُرُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا ذَا ذَنْبٍ، إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا". قَالَ قَتَادَةُ: مَا أَذْنَبَ وَلَا هَمَّ بِامْرَأَةٍ، مُرْسَلٌ (1)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (2) : "كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا" (3) ابْنُ إِسْحَاقَ هَذَا مُدَلِّسٌ، وَقَدْ عَنْعَنَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، أَخْبَرَنَا عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْران، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ، أَوْ همَّ بِخَطِيئَةٍ، لَيْسَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، وَمَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى" (4)
وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنُ جُدْعَانَ لَهُ مُنْكَرَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ حسن قَالَ: إِنَّ يَحْيَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، الْتَقَيَا، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: اسْتَغْفِرْ لِي، أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: اسْتَغْفِرْ لِي فَأَنْتَ (5) خَيْرٌ مِنِّي. فَقَالَ لَهُ عِيسَى: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، سَلَّمتُ عَلَى نَفْسِي، وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَعرُف وَاللَّهِ فَضْلُهُمَا.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) } .
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ أَوْجَدَ مِنْهُ، فِي حَالِ كِبَرِهِ وَعُقْمِ زَوْجَتِهِ، وَلَدًا زَكِيًّا طَاهِرًا مُبَارَكًا -عَطَفَ بِذِكْرِ قِصَّةِ مَرْيَمَ فِي إِيجَادِهِ وَلَدَهَا عِيسَى، عَلَيْهِمَا (6) السَّلَامُ، مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَإِنَّ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ مُنَاسَبَةً وَمُشَابَهَةً (7) ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَهُمَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَهَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، يُقْرِنُ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ لِتَقَارُبِ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى، لِيَدُلَّ عِبَادَهُ عَلَى قُدْرَتِهِ وعظمة سلطانه، وأنه على ما يشاء
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (2/7) .
(2) في ت: "أنه قال".
(3) رواه الطبري في تفسيره (16/44) والحاكم في المستدرك (2/373) من طريق محمد بن إسحاق به، وقال الحاكم: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يخرجاه" ووفقه الذهبي، ورجح أبو حاتم وقفه، وقال لابنه: "لا يرفعون هذا الحديث".
(4) المسند (1/254) .
(5) في أ: "أنت".
(6) في ف، أ: "عليه".
(7) في أ: "ومتشابهة".(5/218)
قَادِرٌ (1) ، فَقَالَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} وَهِيَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، مِنْ سُلَالَةِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ مِنْ بَيْتٍ طَاهِرٍ طَيِّبٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ وِلَادَةِ أُمِّهَا لَهَا فِي "آلِ عِمْرَانَ"، وَأَنَّهَا نَذَرَتْهَا مُحَرَّرَةً، أَيْ: تَخْدُمُ (2) مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانُوا يَتَقَرَّبُونَ بِذَلِكَ، {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آلِ عِمْرَانَ: 37] وَنَشَأَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ نَشْأَةً عَظِيمَةً، فَكَانَتْ (3) إِحْدَى الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ الْمَشْهُورَاتِ بِالْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ (4) وَالتَّبَتُّلِ وَالدُّءُوبِ، وَكَانَتْ فِي كَفَالَةِ زَوْجِ أُخْتِهَا -وَقِيلَ: خَالَتِهَا-زَكَرِيَّا نَبِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ ذَاكَ وَعَظِيمِهِمُ، الَّذِي يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ. وَرَأَى لَهَا زَكَرِيَّا مِنَ الْكَرَامَاتِ الْهَائِلَةِ مَا بَهَرَهُ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 37] فَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا ثَمَرَ (5) الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ وَثَمَرَ (6) الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي "آلِ عِمْرَانَ". فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى -وَلَهُ الْحِكْمَةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ-أَنْ يُوجد مِنْهَا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَحَدَ الرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْعِظَامِ، {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} أَيِ: اعْتَزَلَتْهُمْ وَتَنَحَّتْ عَنْهُمْ، وَذَهَبَتْ إِلَى شَرْقِ الْمَسْجِدِ الْمُقَدَّسِ.
قَالَ السُّدِّيُّ: لِحَيْضٍ أَصَابَهَا. وَقِيلَ لِغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو كُدَيْنَة، عَنْ قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظِبْيان، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ إِلَى الْبَيْتِ وَالْحَجُّ إِلَيْهِ، وَمَا صَرَفَهُمْ عَنْهُ إِلَّا قِيلُ رَبِّكَ: {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} قَالَ: خَرَجَتْ مَرْيَمُ مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَصَلُّوا قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لِأَيِّ شَيْءٍ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (7) {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} وَاتَّخَذُوا (8) مِيلَادَ عِيسَى قِبْلَةً (9)
وَقَالَ قَتَادَةُ: {مَكَانًا شَرْقِيًّا} شَاسِعًا مُتَنَحِّيًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ذَهَبَتْ بِقُلَّتِهَا تَسْتَقِي [مِنَ] (10) الْمَاءِ.
وَقَالَ نَوْف البِكَالي: اتَّخَذَتْ لَهَا مَنْزِلًا تَتَعَبَّدُ فِيهِ. فَاللَّهُ (11) أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} أَيِ: اسْتَتَرَتْ مِنْهُمْ وَتَوَارَتْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} أَيْ: عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ تَامٍّ كَامِلٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْج (12) وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّه، والسُّدِّي، فِي قَوْلِهِ: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} يعني: جبريل، عليه السلام.
__________
(1) في ت، أ: "قدير".
(2) في أ: "لخدمة".
(3) في ت: "وكانت".
(4) في ت: "والعظمة".
(5) في أ: "ثمرة".
(6) في أ: "ثمرة".
(7) في ت: "لقول الله عز وجل"، وفي ف: "لقوله".
(8) في أ: "فاتخذوا".
(9) تفسير الطبري (16/45) .
(10) زيادة من ت، ف، أ.
(11) في ت: "والله".
(12) في ت: "وابن جرير".(5/219)
وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ (1) ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ رُوحَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْوَاحِ الَّتِي أُخِذَ عَلَيْهَا الْعَهْدُ فِي زَمَانِ آدَمَ، وَهُوَ الَّذِي تَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، أَيْ: رُوحُ عِيسَى، فَحَمَلَتِ الَّذِي خَاطَبَهَا وَحَلَّ فِي فِيهَا.
وَهَذَا فِي غَايَةِ الْغَرَابَةِ وَالنَّكَارَةِ، وَكَأَنَّهُ إِسْرَائِيلِيٌّ.
{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} أَيْ: لَمَّا تَبَدى لَهَا الْمَلَكُ فِي صُورَةِ بَشَرٍ، وَهِيَ (2) فِي مَكَانٍ مُنْفَرِدٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْمِهَا حِجَابٌ، خَافَتْهُ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} أَيْ: إِنْ كُنْتَ تَخَافُ اللَّهَ. تَذْكِيرٌ (3) لَهُ بِاللَّهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ، فَخَوَّفَتْهُ أَوَّلًا بِاللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ -وَذَكَرَ قِصَّةَ مَرْيَمَ-فَقَالَ: قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَة حِينَ قَالَتْ: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} أَيْ: فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ مُجِيبًا لَهَا وَمُزِيلًا مَا (4) حَصَلَ عِنْدَهَا مِنَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهَا: لَسْتُ مِمَّا تَظُنِّينَ، وَلَكِنِّي رَسُولُ رَبِّكِ، أَيْ: بَعَثَنِي إِلَيْكِ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا لَمَّا ذَكَرَتِ الرَّحْمَنَ انْتَفَضَ جِبْرِيلُ فَرَقًا (5) وَعَادَ إِلَى هَيْئَتِهِ وَقَالَ: "إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِيَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا".
[هَكَذَا قَرَأَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ أَحَدُ مَشْهُورِي الْقُرَّاءِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: {لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} ] (6) وَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ لَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ، وَمَعْنًى صَحِيحٌ، وَكُلٌّ تَسْتَلْزِمُ (7) الْأُخْرَى.
{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيًّا} أَيْ: فَتَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ مِنْ هَذَا وَقَالَتْ: كَيْفَ يَكُونُ لِي غُلَامٌ؟ أَيْ: عَلَى أَيِّ صِفَةٍ يُوجَدُ هَذَا الْغُلَامُ مِنِّي، وَلَسْتُ بِذَاتِ زَوْجٍ، وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنِّي الْفُجُورُ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} وَالْبَغِيُّ: هِيَ الزَّانِيَةُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ نُهِيَ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ.
{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أَيْ: فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ مُجِيبًا لَهَا عَمَّا سَأَلَتْ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ: إِنَّهُ سَيُوجَدُ مِنْكِ غُلَامًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَكِ بَعْلٌ وَلَا تُوجَدُ (8) مِنْكِ فَاحِشَةٌ، فَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ (9) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} أَيْ: دَلَالَةً وَعَلَامَةً لِلنَّاسِ عَلَى قُدْرَةِ بَارِئِهِمْ وَخَالِقِهِمُ، الَّذِي نَوَّعَ (10) فِي خَلْقِهِمْ، فَخَلَقَ أَبَاهُمْ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ بَقِيَّةَ الذُّرِّيَّةِ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، إِلَّا عِيسَى فَإِنَّهُ أَوْجَدَهُ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، فَتَمَّتِ الْقِسْمَةُ الرُّبَاعِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ فَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَرَحْمَةً مِنَّا} أَيْ وَنَجْعَلُ (11) هَذَا الْغُلَامَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ نَبِيًّا من الأنبياء يدعو إلى عبادة
__________
(1) في أ: "وقال أبو جعفر الرازي عن أبيه".
(2) في ت، ف، أ: "وهو".
(3) في أ: "تذكر".
(4) في أ: "لما".
(5) في ف، أ: "فزعا".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في أ: "يستلزم".
(8) في ت، ف، أ: "ولا يوجد".
(9) في أ: "قدير".
(10) في ت، ف، أ: "تنوع".
(11) في ت، ف، أ: "ويجعل".(5/220)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 45، 46] أَيْ: يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ رَبِّهِ فِي مَهْدِهِ (1) وَكُهُولَتِهِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -دُحَيْم-حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْحَارِثِ الْكُوفِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ مَرْيَمُ، عَلَيْهَا السَّلَامُ: كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ حَدَّثَنِي عِيسَى وَكَلَّمَنِي وَهُوَ فِي بَطْنِي وَإِذَا كُنْتُ مَعَ النَّاسِ سَبَّحَ فِي بَطْنِي وَكَبَّرَ.
وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ جِبْرِيلَ لِمَرْيَمَ، يُخْبِرُهَا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُقَدَّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهُ وَمَشِيئَتِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَبَرِ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ كَنَّى بِهَذَا عَنِ النَّفْخِ فِي فَرْجِهَا، كما قال تَعَالَى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التَّحْرِيمِ: 12] وَقَالَ {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 91]
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} أَيْ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَزَمَ عَلَى هَذَا، فَلَيْسَ مِنْهُ بُدٌّ، وَاخْتَارَ هَذَا أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَرْيَمَ أَنَّهَا لَمَّا قَالَ لَهَا جِبْرِيلُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مَا قَالَ، إِنَّهَا اسْتَسْلَمَتْ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (2) فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ أَنَّ الْمَلَكَ -وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ-عِنْدَ ذَلِكَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ حَتَّى وَلَجَتْ فِي الْفَرْجِ، فَحَمَلَتْ بِالْوَلَدِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. فَلَمَّا حَمَلَتْ بِهِ ضَاقَتْ ذَرْعًا بِهِ (3) وَلَمْ تَدْرِ مَاذَا تَقُولُ (4) لِلنَّاسِ، فَإِنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لَا يُصَدِّقُونَهَا فِيمَا تُخْبِرُهُمْ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهَا أَفْشَتْ سِرَّهَا وَذَكَرَتْ أَمْرَهَا لِأُخْتِهَا امْرَأَةِ زَكَرِيَّا. وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ قَدْ سَأَلَ اللَّهَ الْوَلَدَ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَتِ امْرَأَتُهُ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا مَرْيَمُ فَقَامَتْ إِلَيْهَا فَاعْتَنَقَتْهَا، وَقَالَتْ: أَشَعَرْتِ يَا مَرْيَمُ أَنِّي حُبْلَى؟ فَقَالَتْ لَهَا مَرْيَمُ: وَهَلْ عَلِمْتِ أَيْضًا أَنِّي حُبْلَى؟ وَذَكَرَتْ لَهَا شَأْنَهَا وَمَا كَانَ مِنْ خَبَرِهَا وَكَانُوا بَيْتَ إِيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ، ثُمَّ كَانَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا وَاجَهَتْ (5) مَرْيَمَ تَجِدُ الَّذِي فِي جَوْفِهَا (6) يَسْجُدُ لِلَّذِي فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، أَيْ: يُعَظِّمُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ، فَإِنَّ السُّجُودَ كَانَ فِي مِلَّتِهِمْ عِنْدَ السَّلَامِ مَشْرُوعًا، كَمَا سَجَدَ لِيُوسُفَ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ، وَكَمَا أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَسْجُدَ (7) لِآدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَكِنْ حُرِّمَ فِي مِلَّتِنَا هَذِهِ تَكْمِيلًا لِتَعْظِيمِ جَلَالِ الرَّبِّ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: قُرِئَ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ وَأَنَا أَسْمَعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنَ
__________
(1) في ت، أ: "المهد".
(2) في ت: "الله عز وجل".
(3) في أ: "بهما".
(4) في ت: "يقول".
(5) في أ: "وجهت".
(6) في ف: "بطنها".
(7) في ف، أ: "يسجدوا".(5/221)
زَكَرِيَّا ابْنَا خَالَةٍ، وَكَانَ حَمْلُهُمَا جَمِيعًا مَعًا، فَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ يَحْيَى قَالَتْ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَرَى أَنَّ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ. قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ لِتَفْضِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مُدَّةِ حَمْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ -قَالَ: وَلِهَذَا لَا يَعِيشُ وَلَدٌ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: أَخْبَرَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عُثْمَانَ (1) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَسُئِلَ عَنْ حَبَل مَرْيَمَ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ فَوَضَعَتْ (2) .
وَهَذَا غَرِيبٌ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} فَالْفَاءُ وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّعْقِيبِ، وَلَكِنَّ تَعْقِيبَ (3) كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [الْمُؤْمِنُونَ: 12 -14] فَهَذِهِ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِحَسْبِهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ بَيْنَ كُلِّ صِفَتَيْنِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا (4) وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً} [الْحَجِّ: 63] فَالْمَشْهُورُ الظَّاهِرُ -وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ كَمَا تَحْمِلُ النِّسَاءُ بِأَوْلَادِهِنَّ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَتْ مَخَايِلُ الْحَمْلِ عَلَيْهَا وَكَانَ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ قَرَابَاتِهَا يَخْدِمُ مَعَهَا الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ النَّجَّارُ، فَلَمَّا رَأَى ثِقَلَ بَطْنِهَا وَكِبَرَهُ، أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا، ثُمَّ صَرَفَهُ مَا (5) يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَتِهَا وَنَزَاهَتِهَا وَدِينِهَا وَعِبَادَتِهَا، ثُمَّ تَأَمَّلَ مَا هِيَ فِيهِ، فَجَعَلَ أَمْرُهَا يَجُوسُ فِي فِكْرِهِ، لَا يَسْتَطِيعُ صَرْفَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَحَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ عَرَّضَ لَهَا فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ، إِنِّي سَائِلُكِ عَنْ أَمْرٍ فَلَا تَعْجَلِي عَلَيَّ. قَالَتْ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: هَلْ يَكُونُ قَطُّ شَجَرٌ (6) مِنْ غَيْرِ حَبٍّ؟ وَهَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ؟ وَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ -فَهِمَتْ (7) مَا أَشَارَ إِلَيْهِ-أَمَّا قَوْلُكَ: "هَلْ يَكُونُ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ حَبٍّ وَزَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ؟ " فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ خَلَقَ الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ أَوَّلَ مَا خَلَقَهُمَا مِنْ غَيْرِ حَبٍّ، وَلَا بَذْرٍ "وَهَلْ خَلْقٌ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ " (8) فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ. فَصَدَّقَهَا، وسلَّم لَهَا حَالَهَا.
وَلَمَّا اسْتَشْعَرَتْ مَرْيَمُ مِنْ قَوْمِهَا اتِّهَامَهَا بِالرِّيبَةِ، انْتَبَذَتْ مِنْهُمْ مَكَانًا قَصِيًّا، أَيْ: قَاصِيًا مِنْهُمْ بَعِيدًا عَنْهُمْ؛ لِئَلَّا تَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْهَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا حَمَلَتْ بِهِ وَمَلَأَتْ قُلَّتَهَا (9) وَرَجَعَتْ، اسْتَمْسَكَ عَنْهَا الدَّمُ وَأَصَابَهَا مَا يُصِيبُ الْحَامِلَ عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الْوَصَبِ وَالتَّرَحُّمِ وَتَغَيُّرِ اللَّوْنِ، حَتَّى فَطَرَ لِسَانُهَا، فَمَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ زَكَرِيَّا، وَشَاعَ الْحَدِيثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: "إِنَّمَا صَاحِبُهَا يُوسُفُ"، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا فِي الْكَنِيسَةِ غَيْرُهُ، وَتَوَارَتْ مِنَ النَّاسِ، وَاتَّخَذَتْ مِنْ دونهم حجابًا، فلا (10) يراها أحد ولا
__________
(1) في أ: "بن عتبة".
(2) في ت، أ: "وضعت".
(3) في أ: "تعقب".
(4) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وسيأتي عند تفسير الآية: 5 من سورة الحج.
(5) في ف: "لما".
(6) في ف: "شجر قط".
(7) في أ: "وفهمت".
(8) في أ: "وهل يكون ولد من غير أب".
(9) في أ: "قلبها".
(10) في ف، أ: "فلم".(5/222)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
تَرَاهُ.
وَقَوْلُهُ: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [أَيْ: فَاضْطَرَّهَا وَأَلْجَأَهَا الطَّلْقُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ] (1) وَهِيَ نَخْلَةٌ فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَنَحَّتْ إِلَيْهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ شَرْقِيَّ مِحْرَابِهَا الَّذِي تُصَلِّي فِيهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّه: ذَهَبَتْ هَارِبَةً، فَلَمَّا كَانَتْ بَيْنَ الشَّامِ وَبِلَادِ مِصْرَ، ضَرَبَهَا الطَّلْقُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ وَهْبٍ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فِي قَرْيَةٍ هُنَاكَ يُقَالُ لَهَا: "بَيْتُ لَحْمٍ".
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ (2) الْإِسْرَاءِ، مِنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْبَيْهَقِيِّ عَنْ شدَّاد بْنِ أَوْسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ ذَلِكَ بِبَيْتِ لَحْمٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَلَا يَشُكُّ فِيهِ النَّصَارَى أَنَّهُ بِبَيْتِ لَحْمٍ، وَقَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ. وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ إِنْ صَحَّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهَا: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهَا عَرَفَتْ أَنَّهَا سَتُبْتَلَى وَتُمْتَحَنُ بِهَذَا الْمَوْلُودِ الَّذِي لَا يَحْمِلُ النَّاسُ أَمْرَهَا فِيهِ عَلَى السَّدَادِ، وَلَا يُصَدِّقُونَهَا فِي خَبَرِهَا، وَبَعْدَمَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ عَابِدَةً نَاسِكَةً، تُصْبِحُ عِنْدَهُمْ فِيمَا يَظُنُّونَ عَاهِرَةً زَانِيَةً، فَقَالَتْ: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} أَي قَبْلَ هَذَا الْحَالِ، {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} أَي لَمْ أُخْلَقْ وَلَمْ أَكُ شَيْئًا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَتْ وَهِيَ تَطْلِقُ مِنَ الْحَبَلِ -اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْكَرْبِ الَّذِي أَنَا فِيهِ، وَالْحُزْنِ بِوِلَادَتِي الْمَوْلُودَ مِنْ غَيْرِ بَعْل {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} نُسِيَ فتُرِك طَلَبُهُ، كخِرَق الْحَيْضِ إِذَا أُلْقِيَتْ وَطُرِحَتْ لَمْ تُطْلَبْ وَلَمْ تُذْكَرْ. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ نُسِيَ وَتُرِكَ فَهُوَ نَسِيّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} أَيْ: شَيْئًا لَا يُعْرَفُ، وَلَا يُذْكَرُ، وَلَا يُدْرَى مَنْ أَنَا.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} وَهُوَ (3) السَّقْطُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمْ أَكُنْ شَيْئًا قَطُّ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ إِلَّا عِنْدَ الْفِتْنَةِ، عِنْدَ قَوْلِهِ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يُوسُفَ: 101]
{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) }
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ت، ف: "أحاديث"
(3) في ف، أ: "أي".(5/223)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) }(5/223)
قَرَأَ بَعْضُهُمْ {مَنْ تَحْتَهَا} بِمَعْنَى (1) الَّذِي تَحْتَهَا. وَقَرَأَ آخَرُونَ: {مِنْ تَحْتِهَا} عَلَى أَنَّهُ حَرْفُ جَرٍّ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ الْعَوْفِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} جِبْرِيلُ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى حَتَّى أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَالسُّدِّيُّ، وقَتَادَةُ: إِنَّهُ الْمَلَكُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَيْ: نَادَاهَا مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ ابْنُهَا. وَهُوَ إِحْدَى (2) الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ ابْنُهَا، قَالَ: أَوَلَمْ (3) تَسْمَعِ اللَّهَ يَقُولُ: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مَرْيَمَ: 29] ؟ وَاخْتَارَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ (4)
وَقَوْلُهُ: {أَلا تَحْزَنِي} أَيْ: نَادَاهَا قَائِلًا لَا تَحْزَنِي، {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قَالَ: الْجَدْوَلُ. وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: السَّرِيُّ: النَّهْرُ. وَبِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: نَهَرٌ تَشْرَبُ مِنْهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ النَّهْرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر: السَّرِيُّ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ بِالنَّبَطِيَّةِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِي: هُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْجَدْوَلُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّه: السَّرِيُّ: هُوَ رَبِيعُ الْمَاءِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ النَّهْرُ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، فَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ:
حَدَّثَنَا أَبُو شُعَيْبٍ الحَرَّاني: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ البَابلُتِّي (5) حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ نَهِيك، سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "إِنَّ السَّرِيَّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ لِمَرْيَمَ: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} نَهْرٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لِتَشْرَبَ مِنْهُ" (6) وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ هَذَا هُوَ الْحُبُلِيُّ (7) قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: ضَعِيفٌ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَة: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث.
__________
(1) في أ: "أي".
(2) في ت: "أحد".
(3) في ت، أ: "ولم".
(4) تفسير الطبري (16/52) .
(5) في أ: "يحيى بن عبد النابلتي".
(6) المعجم الكبير (12/346) .
(7) في أ: "الحلبي".(5/224)
وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالسَّرِيِّ: عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّاد بْنِ جَعْفَرٍ. وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أُظْهَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} أَيْ: وَخُذِي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ. قِيلَ: كَانَتْ يَابِسَةً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مُثْمِرَةً. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ عَجْوَةً. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ (1) نُفَيْع الْأَعْمَى: كَانَتْ صَرَفَانة (2)
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ شَجَرَةً، وَلَكِنْ لَمْ تَكُنْ فِي إِبَّانِ ثَمَرِهَا، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ؛ وَلِهَذَا امْتَنَّ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، أَنْ جَعَلَ عِنْدَهَا طَعَامًا وَشَرَابًا، فَقَالَ: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} أَيْ: طِيبِي نَفْسًا؛ وَلِهَذَا قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: مَا مِنْ شَيْءٍ خَيْرٌ لِلنُّفَسَاءِ مِنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا شَيْبَان، حَدَّثَنَا مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ (3) حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عُروة بْنِ رُوَيْم، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمُ النَّخْلَةَ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الطِّينِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ مِنَ الشَّجَرِ شَيْءٌ (4) يُلَقَّح غَيْرُهَا". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَطْعِمُوا نِسَاءَكُمُ الولدَ الرطَبَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبٌ فَتَمْرٌ، وَلَيْسَ مِنَ الشَّجَرَةِ شَجَرَةٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَجَرَةٍ نَزَلَتْ تَحْتَهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ".
هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ شَيْبَانَ، بِهِ (5)
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: "تَسَّاقَطْ" بِتَشْدِيدِ السِّينِ، وَآخَرُونَ بِتَخْفِيفِهَا، وَقَرَأَ أَبُو نَهِيك: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ: أَنَّهُ قَرَأَهَا: "تُسَاقِطْ" (6) أَيِ: الْجِذْعُ. وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} أَيْ: مَهْمَا رَأَيْتِ مِنْ أَحَدٍ، {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} الْمُرَادُ بِهَذَا الْقَوْلِ: الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ. لَا أَنَّ (7) الْمُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ اللَّفْظِيُّ؛ لِئَلَّا يُنَافِيَ: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أَيْ: صَمْتًا (8) وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَسٍ: "صَوْمًا وَصَمْتًا"، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا.
وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صَامُوا فِي شَرِيعَتِهِمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ وَالْكَلَامُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ السدي،
__________
(1) في ت: "عن أبي الأسود".
(2) في ف، أ: "صوفانة".
(3) في ت: "التيمي".
(4) في ف: "وليس شيء من الشجر".
(5) مسند أبي يعلى (1/353) ورواه أبو نعيم ف الحلية (6/123) وابن عدي في الكامل (6/431) من طريق مسرور بن سعد التميمي به، وقد ذكر له ابن عدي ثلاث علل:
1- تفرد به مسرور عن الأوزاعي فهو منكر.
2- أنه منقطع بين عروة بن رويم وعلي بن أبي طالب.
3- أن مسور بن سعيد غير معروف. قلت: وضعفه ابن حبان والعقيلي.
(6) في أ: "يساقط".
(7) في ت: "لأن".
(8) في أ: "صوتا".(5/225)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
وقَتَادَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَجَاءَ رَجُلَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُسَلِّمِ الْآخَرُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ أَصْحَابُهُ: حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ النَّاسَ الْيَوْمَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كلِّم النَّاسَ وَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا تِلْكَ امْرَأَةٌ عَلِمَتْ أَنَّ أَحَدًا لَا يُصَدِّقُهَا أَنَّهَا حَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ. يَعْنِي بِذَلِكَ مَرْيَمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ؛ لِيَكُونَ عُذْرًا لَهَا إِذَا سُئِلَتْ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: لَمَّا قَالَ عِيسَى لِمَرْيَمَ: {أَلا تَحْزَنِي} قَالَتْ: وَكَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَأَنْتَ مَعِي؟! لَا ذاتُ زَوْجٍ وَلَا مَمْلُوكَةٌ، أَيُّ شَيْءٍ عُذْرِي عِنْدَ النَّاسِ؟ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، قَالَ لَهَا عِيسَى: أَنَا أَكْفِيكِ الْكَلَامَ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} قَالَ: هَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ عِيسَى لِأُمِّهِ. وَكَذَا قَالَ وَهْبٌ.
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَرْيَمَ حِينَ أُمِرَتْ أَنْ تَصُومَ يَوْمَهَا ذَلِكَ، وَأَلَّا تُكَلِّمَ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ فَإِنَّهَا (1) سَتُكْفَى أَمْرَهَا وَيُقَامُ بِحُجَّتِهَا (2) فَسَلَّمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتَسْلَمَتْ لِقَضَائِهِ، وَأَخَذَتْ وَلَدَهَا {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} فَلَمَّا رَأَوْهَا كَذَلِكَ، أَعْظَمُوا أَمْرَهَا وَاسْتَنْكَرُوهُ جِدًّا، وَقَالُوا: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} أَيْ: أَمْرًا عَظِيمًا. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، حَدَّثَنَا سَيَّار (3) حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الجَوْني، عَنْ نَوْفٍ البِكَاليّ قَالَ: وَخَرَجَ قَوْمُهَا فِي طَلَبِهَا، وَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نُبُوَّةٍ وَشَرَفٍ. فَلَمْ يُحِسُّوا (4) مِنْهَا شَيْئًا، فَرَأَوْا (5) رَاعِيَ بَقَرٍ فَقَالُوا: رَأَيْتَ فَتَاةً كَذَا وَكَذَا نَعْتُها؟ قَالَ: لَا وَلَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ مِنْ بَقَرِي مَا لَمْ أَرَهُ مِنْهَا قَطُّ. قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهَا (6) سُجَّدا نَحْوَ هَذَا الْوَادِي. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ: وَأَحْفَظُ عَنْ سَيَّارٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ نُورًا سَاطِعًا. فَتَوَجَّهُوا حَيْثُ قَالَ لَهُمْ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمْ مَرْيَمُ، فَلَمَّا رَأَتْهُمْ قَعَدَتْ وَحَمَلَتِ ابْنَهَا فِي حِجْرِهَا، فَجَاءُوا حَتَّى قَامُوا عَلَيْهَا، {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} أَمْرًا عَظِيمًا. {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أَيْ: يَا شَبِيهَةَ هَارُونَ فِي الْعِبَادَةِ {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} أَيْ: أَنْتِ مِنْ بيت طيب طاهر، معروف بالصلاح
__________
(1) في ف، أ: "فإنه".
(2) في ف: "وتقام حجتها".
(3) في ت: "سفيان"، وفي أ: "شيبان".
(4) في ت: "يحسبوا".
(5) في أ: "فلقوا".
(6) في ف، أ: "رأيتها الليلة".(5/226)
وَالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ (1) ، فَكَيْفَ صَدَرَ هَذَا مِنْكِ؟
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ (2) ، وَالسُّدِّيُّ: قِيلَ لَهَا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أَيْ: أَخِي مُوسَى، وَكَانَتْ مِنْ نَسْلِهِ (3) كَمَا يُقَالُ لِلتَّمِيمِيِّ: يَا أَخَا تَمِيمٍ، وَلِلْمُضَرِيِّ: يَا أَخَا مُضَرٍ.
وَقِيلَ: نُسِبَتْ إِلَى رَجُلٍ صَالِحٍ كَانَ فِيهِمُ اسْمُهُ هَارُونُ، فَكَانَتْ تُقَاسُ (4) بِهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالزَّهَادَةِ.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُمْ شَبَّهُوهَا بِرَجُلٍ فَاجِرٍ كَانَ فِيهِمْ. يُقَالُ لَهُ: هَارُونُ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الهِسِنْجَاني (5) حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالة، حَدَّثَنَا أَبُو صَخْرٍ، عَنِ القُرَظي فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} قَالَ: هِيَ أُخْتُ هَارُونَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَهِيَ أُخْتُ مُوسَى أَخِي هَارُونَ الَّتِي قَصَّت أَثَرَ مُوسَى، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الْقَصَصِ: 11]
وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ مَحْضٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ قفَّى بِعِيسَى بَعْدَ الرُّسُلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْثًا وَلَيْسَ بَعْدَهُ إِلَّا مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (6) ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ (7) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ؛ إِلَّا أَنَّهُ (8) لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ" وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، لَمْ يَكُنْ مُتَأَخِّرًا عَنِ الرُّسُلِ سوى محمد. ولكان قبل سليمان و (9) داود؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ دَاوُدَ بَعْدَ مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسِيتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَالَنَا أَلا نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 246] فَذَكَرَ الْقِصَّةَ إِلَى أَنْ قَالَ: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 251] ، وَالَّذِي جَرَّأَ الْقُرَظِيَّ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ مَا فِي التَّوْرَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْبَحْرِ، وَإِغْرَاقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، قَالَ: وَكَانَتْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ أُخْتُ مُوسَى وَهَارُونَ النَّبِيَّيْنِ، تَضْرِبُ بِالدُّفِّ هِيَ وَالنِّسَاءُ مَعَهَا يُسَبِّحْنَ اللَّهَ وَيَشْكُرْنَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاعْتَقَدَ الْقُرَظِيُّ أَنَّ هَذِهِ هِيَ أَمُّ عِيسَى. وَهِيَ (10) هَفْوَةٌ وَغَلْطَةٌ شَدِيدَةٌ، بَلْ هِيَ بَاسِمِ هَذِهِ، وَقَدْ كَانُوا يُسَمُّوْنَ بِأَسْمَاءِ (11) أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، سَمِعَتْ أَبِي يَذْكُرُهُ (12) عَنْ سِمَاك، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ، فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ مَا تَقْرَءُونَ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ}
__________
(1) في ت: "والزهاد".
(2) في أ: "طالب".
(3) في ت: "قبيلته".
(4) في ت، ف: "+تقاسي".
(5) في +: "الححستاني".
(6) في ف: عليه وسلامه".
(7) في ف، أ: "عن رسول الله".
(8) في أ: "إن أولى الناس بابن مريم لأنا إن".
(9) في أ: "بن".
(10) في ف، أ: "وهذه".
(11) في ف، أ: "باسم".
(12) في أ: "يذكر".(5/227)
، وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَمّون (1) بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ؟ ".
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَمَّاكٍ، بِهِ (2) ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِدْرِيسَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي صَدَقَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ نُبِّئت أَنَّ كَعْبًا قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} : لَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي مُوسَى. قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: كَذَبْتَ، قَالَ (3) يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ، فَهُوَ أَعْلَمُ وَأَخْبَرُ، وَإِلَّا فَإِنِّي أَجِدُ بَيْنَهُمَا سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ. قَالَ: فَسَكَتَتْ (4) وَفِي هَذَا التَّارِيخِ نَظَرٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} قَالَ: كَانَتْ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُعْرَفُونَ بِالصَّلَاحِ، وَلَا يُعْرَفُونَ بِالْفَسَادِ، [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْرَفُونَ بِالصَّلَاحِ وَيَتَوَالَدُونَ بِهِ، وَآخَرُونَ يُعْرَفُونَ بِالْفَسَادِ] (5) وَيَتَوَالَدُونَ بِهِ. وَكَانَ هَارُونُ مُصْلِحًا مُحَبَّبًا، فِي عَشِيرَتِهِ، وَلَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي (6) مُوسَى، وَلَكِنَّهُ هَارُونُ آخَرُ، قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ شَيَّعَ جِنَازَتَهُ يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، كُلُّهُمْ يُسَمَّى هَارُونَ، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَوْلُهُ: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} أَيْ: إِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَرَابُوا فِي أَمْرِهَا وَاسْتَنْكَرُوا قَضِيَّتَهَا (7) ، وَقَالُوا لَهَا مَا قَالُوا مُعَرِّضِينَ بِقَذْفِهَا وَرَمْيِهَا بالفرْية، وَقَدْ كَانَتْ يَوْمَهَا ذَلِكَ صَائِمَةً، صَامِتَةً فَأَحَالَتِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ، وَأَشَارَتْ لَهُمْ إِلَى خِطَابِهِ وَكَلَامِهِ، فَقَالُوا مُتَهَكِّمِينَ بِهَا، ظَانِّينَ أَنَّهَا تَزْدَرِي بِهِمْ وَتَلْعَبُ بِهِمْ: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} ؟
قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْران: {فَأَشَارَتْ [إِلَيْهِ] } (8) ، قَالَتْ: كَلِّمُوهُ. فَقَالُوا: عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ مِنَ الدَّاهِيَةِ تَأْمُرُنَا أَنْ نُكَلِّمَ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا!
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أَشَارَتْ إِلَيْهِ غَضِبُوا، وَقَالُوا: لَسُخْريَتُها (9) بِنَا حِينَ تَأْمُرُنَا أَنَّ نُكَلِّمَ هَذَا الصَّبِيَّ أَشُدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا.
{قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} أَيْ: مَنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي مَهْدِهِ فِي حَالِ صِبَاهُ وَصِغَرِهِ، كَيْفَ يَتَكَلَّمُ؟ قَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ نَزَّهَ جَنَابَ رَبِّهِ تَعَالَى (10) وَبَرَّأَ اللَّهَ عَنِ الْوَلَدِ، وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْعُبُودِيَّةَ لِرَبِّهِ.
وَقَوْلُهُ: {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} : تَبْرِئَةٌ لِأُمِّهِ مِمَّا نُسِبَتْ إِلَيْهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ.
__________
(1) في ف، أ: "يسمون".
(2) المسند (4/252) وصحيح مسلم برقم (2135) وسنن الترمذي برقم (3155) وسنن النسائي الكبرى برقم (11315) .
(3) في ف، أ: "فقال".
(4) تفسير الطبري (16/58) .
(5) زيادة من ف، أ، والطبري.
(6) في أ: "وليس أخي بهارون".
(7) في ف، أ: "قصتها".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في أ: "لسخرتها".
(10) في ف، أ: "عز وجل".(5/228)
قَالَ نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ: لَمَّا قَالُوا لِأُمِّهِ مَا قَالُوا، كَانَ يَرْتَضِعُ ثَدْيَهُ، فَنَزَعَ الثَّدْيَ مِنْ فَمِهِ، وَاتَّكَأَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، وَقَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} إِلَى قَوْلِهِ: {مَا دُمْتُ حَيًّا}
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ البُنَاني: رَفَعَ إِصْبَعَهُ السَّبَّابَةَ فَوْقَ مَنْكِبِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} الْآيَةَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} أَيْ: قَضَى أَنَّهُ (1) يُؤْتِينِي الْكِتَابَ فِيمَا قَضَى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (2) عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَدْ دَرَسَ الْإِنْجِيلَ وَأَحْكَمَهُ (3) فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} .
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعَطَّارُ الْحِمْصِيُّ: مَتْرُوكٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، وَالثَّوْرِيُّ: وَجَعَلَنِي مُعَلِّمًا لِلْخَيْرِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: نَفَّاعًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ (4) بْنِ خُنَيْس الْمَخْزُومِيُّ، سَمِعْتُ وُهَيْب بْنَ الْوَرْدِ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ قَالَ: لَقِيَ عَالِمٌ عَالِمًا هُوَ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ، فَقَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، مَا الَّذِي أُعْلِنُ مِنْ عَمَلِي؟ قَالَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَإِنَّهُ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ إِلَى عِبَادِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} ، وَقِيلَ: مَا بَرَكَتُهُ؟ قَالَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَيْنَمَا كَانَ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الْحِجْرِ: 99] .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} قَالَ: أَخْبَرَهُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِهِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ (5) ، مَا أَثْبَتَهَا لِأَهْلِ الْقَدَرِ.
وَقَوْلُهُ: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} أَيْ: وَأَمَرَنِي بِبِرِّ وَالِدَتِي، ذَكَرَهُ بَعْدَ طَاعَةِ اللَّهِ رَبِّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يُقْرِنُ (6) بَيْنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الْإِسْرَاءِ: 23] وَقَالَ {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لُقْمَانَ: 14] .
وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} أَيْ: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَبِرِّ وَالِدَتِي، فَأَشْقَى بِذَلِكَ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْجَبَّارُ الشقي: الذي يقبل (7) على الغضب.
__________
(1) في ف، أ: "أن".
(2) في أ: "يحيى بن سعيد العطار".
(3) في أ: "وأحكمها".
(4) في أ: "زيد".
(5) في أ: "أمره حتى يموت".
(6) في أ: "قرن كثيرا".
(7) في ف: "يقتل".(5/229)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تُجِدُ أَحَدًا عَاقًّا لِوَالِدَيْهِ إِلَّا وَجَدْتَهُ جَبَّارًا شَقِيًّا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} ، قَالَ: وَلَا تَجِدُ سَيِّئَ الْمَلَكَةِ إِلَّا وَجَدَّتَهُ مُخْتَالًا فَخُورًا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} [النِّسَاءِ: 36]
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ امْرَأَةً رَأَتِ ابْنَ مَرْيَمَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، فِي آيَاتٍ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ، وَأَذِنَ لَهُ فِيهِنَّ، فَقَالَتْ: طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ وَلِلثَّدْيِ الَّذِي أُرْضِعْتَ بِهِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُجِيبُهَا: طُوبَى لِمَنْ تَلَا كَلَامَ (1) اللَّهِ، فَاتَّبَعَ مَا فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا شَقِيًّا.
وَقَوْلُهُ: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} : إِثْبَاتٌ مِنْهُ لِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَحْيَا (2) وَيَمُوتُ وَيُبْعَثُ كَسَائِرِ الْخَلَائِقِ، وَلَكِنْ لَهُ السَّلَامَةَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ أَشَقُّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ، [صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ] (3)
{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) } .
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْهِ ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَا (4) عَلَيْكَ مِنْ خَبَرِ عِيسَى، {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} أَيْ: يَخْتَلِفُ الْمُبْطِلُونَ وَالْمُحِقُّونَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَكَفَرَ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ: "قَوْلُ الْحَقِّ" بِرَفْعِ قَوْلٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ: {قَوْلَ الْحَقِّ} .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: "ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَالُ الْحَقَّ"، وَالرَّفْعُ أَظْهَرُ إِعْرَابًا، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 59، 60] .
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَهُ عَبْدًا نَبِيًّا، نَزَّهَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ فَقَالَ: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} أَيْ: عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أَيْ: إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ، فَيَصِيرُ (5) كَمَا يَشَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 59، 60]
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أَيْ: وَمِمَّا (6) أَمَرَ عِيسَى بِهِ (7) قَوْمَهُ وَهُوَ فِي مَهْدِهِ، أَنْ أَخْبَرَهُمْ إِذْ ذَاكَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَرَبُّهُ (8) ، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ: {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
__________
(1) في أ: "كتاب".
(2) في أ: "يحيي ويميت".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف: "قصصناه".
(5) في ت: "فتصير".
(6) في ت: "ربما".
(7) في ت، ف، أ: "به عيسى".
(8) في ت، ف: "ربه وربهم".(5/230)
أَيْ: هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ عَنِ اللَّهِ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ: قَوِيمٌ، مَنِ اتَّبَعَهُ رَشَدَ وَهَدَى، وَمَنْ خَالَفَهُ ضَلَّ وَغَوَى.
وَقَوْلُهُ: {فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} أَيِ: اخْتَلَفَتْ (1) أَقْوَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عِيسَى بَعْدَ بَيَانِ أَمْرِهِ وَوُضُوحِ حَالِهِ، وَأَنَّهُ عَبْدُهُ (2) وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، فصَمَّمَت طَائِفَةٌ -وَهُمْ جُمْهُورُ الْيَهُودِ، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ -عَلَى أَنَّهُ وَلَدُ زنْيَة، وَقَالُوا: كَلَامُهُ هَذَا سِحْرٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: إِنَّمَا تَكَلَّمَ (3) اللَّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ، الَّذِي أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَيْهِ (4) الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ رُوِيَ [نَحْوُ هَذَا] (5) عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا (6) مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} ، قَالَ: اجْتَمَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، أَخْرَجَ كُلُّ قَوْمٍ عَالِمَهُمْ، فَامْتَرُوا (7) فِي عِيسَى حِينَ رُفِعَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هُوَ اللَّهُ هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ فَأَحْيَا مَنْ أَحْيَا، وَأَمَاتَ مَنْ أَمَاتَ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ -وَهُمُ الْيَعْقُوبِيَّةُ. فَقَالَ الثَّلَاثَةُ: كَذَبْتَ. ثُمَّ قَالَ اثْنَانِ مِنْهُمْ لِلثَّالِثِ: قُلْ (8) أَنْتَ فِيهِ، قَالَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ -وَهُمُ الْنَسْطُورِيَّةُ. فَقَالَ الِاثْنَانِ: كَذَبْتَ. ثُمَّ قَالَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ لِلْآخَرِ: قُلْ فِيهِ. قَالَ: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: اللَّهُ إِلَهٌ، وَهُوَ إِلَهٌ، وَأُمُّهُ إِلَهٌ -وَهُمُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ مُلُوكُ (9) النَّصَارَى، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ. قَالَ الرَّابِعُ: كَذَبْتَ، بَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ. فَكَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَتْبَاعٌ عَلَى مَا قَالُوا، فَاقْتَتَلُوا فظُهِرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 21] وَقَالَ (10) قَتَادَةُ: وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: {فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} قَالَ: اخْتَلَفُوا فِيهِ فَصَارُوا أَحْزَابًا (11)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ قُسْطَنْطِينَ جَمَعَهُمْ فِي مَحْفَلٍ كَبِيرٍ مِنْ مَجَامِعِهِمُ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَهُمْ، فَكَانَ جَمَاعَةُ الْأَسَاقِفَةِ (12) مِنْهُمْ أَلْفَيْنِ وَمِائَةً وَسَبْعِينَ أُسْقُفًا، فَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا، فَقَالَتْ كُلُّ شِرْذِمَةٍ فِيهِ قَوْلًا فَمِائَةٌ تَقُولُ فِيهِ قَوْلًا (13) وَسَبْعُونَ تَقُولُ (14) فِيهِ قَوْلًا آخَرَ، وَخَمْسُونَ تَقُولُ (15) فِيهِ شَيْئًا آخَرَ، وَمِائَةٌ وَسِتُّونَ تَقُولُ شَيْئًا، وَلَمْ يَجْتَمِعْ عَلَى مَقَالَةٍ وَاحِدَةٍ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ مِنْهُمُ، اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ وصَمَّموا عَلَيْهِ (16) وَمَالَ (17) إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ، وَكَانَ فَيْلَسُوفًا، فَقَدَّمَهُمْ وَنَصَرَهُمْ وَطَرَدَ مَنْ عَدَاهُمْ، فَوَضَعُوا لَهُ الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ، بَلْ هِيَ الْخِيَانَةُ الْعَظِيمَةُ، وَوَضَعُوا لَهُ كُتُبَ الْقَوَانِينِ، وشرَّعوا لَهُ أَشْيَاءَ (18)
__________
(1) في أ: "اختلف".
(2) في ت: "عبد الله".
(3) في ف، أ: "يكلم".
(4) في ت: "فيه".
(5) زيادة من أ.
(6) في ت: "حدثنا".
(7) في أ: "فامتتروا".
(8) في أ: "قلت".
(9) في ت: "ملك".
(10) في ت، ف، أ: "قال".
(11) تفسير عبد الرزاق (2/9) .
(12) في ت: "الأساومة".
(13) في أ: "شيئا".
(14) في ف، أ: "يقولون".
(15) في ف، أ: "يقولون".
(16) في ت: "عليهم".
(17) في ف، أ: "فمال".
(18) في أ: "شيئا".(5/231)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
وَابْتَدَعُوا بِدَعًا كَثِيرَةً، وحَرَّفوا دِينَ الْمَسِيحِ، وَغَيَّرُوهُ، فَابْتَنَى حِينَئِذٍ لَهُمُ (1) الْكَنَائِسَ الْكِبَارَ فِي مَمْلَكَتِهِ كُلِّهَا: بِلَادِ الشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالرُّومِ، فَكَانَ مَبْلَغُ الْكَنَائِسِ فِي أَيَّامِهِ مَا يُقَارِبُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ (2) أَلْفَ كَنِيسَةٍ، وَبَنَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ قُمَامة عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ الْمَصْلُوبُ (3) الَّذِي تَزْعُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَقَدْ كَذَبُوا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، وَافْتَرَى، وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا. وَلَكِنْ أَنْظَرَهُمْ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَجَّلَهُمْ حِلْمًا وَثِقَةً بِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي لَا يَعْجَلُ عَلَى مَنْ عَصَاهُ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي (4) لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هُودٍ: 102] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ (5) مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ" (6) . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الْحَجِّ: 48] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ} [إِبْرَاهِيمَ: 42] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أَيْ: يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ [وَرَسُولُهُ] (7) وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حُقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ" (8)
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) }
__________
(1) في ت، ف، أ: "فابتنى لهم حينئذ".
(2) في أ: "اثنى عشر"، وهو خطأ والصواب ما بالأصل.
(3) في ت: "المصلون".
(4) في ت: "إنه ليملي".
(5) في ت: "يسمعه".
(6) صحيح البخاري برقم (6099) وصحيح مسلم برقم (2804) .
(7) زيادة من ف، أ، والبخاري ومسلم.
(8) صحيح البخاري برقم (3435) وصحيح مسلم برقم (29) .(5/232)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ [يَوْمَ الْقِيَامَةِ] (1) أَنَّهُمْ أسْمَعُ شَيْءٍ وأبْصَرُه كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السَّجْدَةِ:12] أَيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يُجْدِي (2) عَنْهُمْ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ هَذَا قَبْلَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، لَكَانَ نَافِعًا لَهُمْ وَمُنْقِذًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (3) أَيْ: مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أَيْ: لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ، فَحَيْثُ يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْهُدَى لَا يَهْتَدُونَ، وَيَكُونُونَ مُطِيعِينَ حيث لا ينفعهم ذلك.
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ت: "يجزي".
(3) في أ: "به".(5/232)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} أَيْ: أَنْذِرِ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، {إِذْ قُضِيَ الأمْرُ} أَيْ: فَصَلَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، ودَخل كُلٌّ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مُخَلَّدًا فِيهِ، {وَهُمْ} أَيِ: الْيَوْمَ {فِي غَفْلَةٍ} عَمَّا أُنْذِرُوا بِهِ {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ: لَا يُصَدقون بِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ [الْخُدْرِيِّ] (1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، يُجَاءُ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ: "فَيَشْرَئِبُّونَ [فَيَنْظُرُونَ] (2) وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ". قَالَ: "فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ: فَيَشْرَئِبُّونَ فَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ" قَالَ: "فَيُؤْمَرُ بِهِ (3) فَيُذْبَحُ" قَالَ: "وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ" قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} وَأَشَارَ بِيَدِهِ (4) قَالَ: "أَهْلُ الدُّنْيَا فِي غَفْلَةِ الدُّنْيَا".
هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا، مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، بِهِ (5) . وَلَفْظُهُمَا قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنِي أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هريرة مرفوعا، مِثْلَهُ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ، مِنْ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ (6) وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (7) . وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْج قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَكَرَ مِنْ قِبَلِهِ نَحْوَهُ (8) . وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ فِي قِصَصِهِ: يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ دَابَّةٌ، فَيُذْبَحُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ (9) وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيل، حَدَّثَنَا أَبُو الزَّعْرَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ-فِي قِصَّةٍ ذَكَرَهَا، قَالَ: فَلَيْسَ نَفْسٌ إِلَّا وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى بَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ وَبَيْتٍ فِي النَّارِ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَسْرَةِ. [فَيَرَى أَهْلُ النار البيت الذي الَّذِي كَانَ قَدْ أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ لَوْ آمَنُوا، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَوْ آمَنْتُمْ وَعَمِلْتُمْ صَالِحًا، كَانَ لَكُمْ هَذَا الَّذِي تَرَوْنَهُ فِي الْجَنَّةِ، فَتَأْخُذُهُمُ الْحَسْرَةُ] (10) قَالَ: وَيَرَى أَهْلُ الْجَنَّةِ الْبَيْتَ الَّذِي فِي النَّارِ، فَيُقَالُ: لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ... (11)
وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ زِيَادٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْش، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ} قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، أُتِيَ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، هَذَا الْمَوْتُ الَّذِي كَانَ يُميتُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي أَهْلِ عِلِّيِّينَ وَلَا فِي أَسْفَلِ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا نَظَرَ إِلَيْهِ، ثم ينادى: يا أهل
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف، أ، والمسند.
(3) في ت: "فيؤتى بهم".
(4) المسند (3/9) .
(5) صحيح البخاري برقم (4730) وصحيح مسلم برقم (2849) .
(6) سنن ابن ماجه برقم (4327) .
(7) صحيح البخاري برقم (6548) وصحيح مسلم برقم (2850) .
(8) أخرجه الطبري في تفسيره (16/66) .
(9) أخرجه الطبري في تفسيره (16/67) .
(10) زيادة من ف، أ، والطبري.
(11) رواه الطبري في تفسيره (16/66) .(5/233)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
النَّارِ، هَذَا الْمَوْتُ الَّذِي كَانَ يُمِيتُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَا فِي أَسْفَلِ دَرْكٍ مِنْ جَهَنَّمَ، إِلَّا نَظَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُنَادَى: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، هُوَ الْخُلُودُ أَبَدَ الْآبِدِينَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، هُوَ الْخُلُودُ أَبَدَ الْآبِدِينَ، فَيَفْرَحُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرْحَةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ مَيِّتًا مِنْ فَرَحٍ مَاتُوا، وَيَشْهَقُ أَهْلُ النَّارِ شَهْقَةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ مَيِّتًا مِنْ شَهْقَةٍ مَاتُوا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ} يَقُولُ: إِذَا ذُبِحَ الْمَوْتُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَظَّمَهُ اللَّهُ وَحَذَّرَهُ عِبَادَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَرَأَ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزُّمَرِ: 56]
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ، وَأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَهْلَكُونَ وَيَبْقَى هُوَ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَلَا أَحَدَ يَدّعي مُلْكا وَلَا تَصَرُّفًا، بَلْ هُوَ الْوَارِثُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، الْبَاقِي بَعْدَهُمْ، الْحَاكِمُ فِيهِمْ، فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَلَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذَكَرَ هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ الْقَيْسِيُّ: حَدَّثَنَا حَزْمُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ القُطَعي قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبِ الْكُوفَةِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى خَلْقِهِ حِينَ خَلَقَهُمُ الْمَوْتَ، فَجَعَلَ مَصِيرَهُمْ إِلَيْهِ، وَقَالَ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ الصَّادِقِ الَّذِي حَفِظَهُ بِعِلْمِهِ، وَأَشْهَدَ مَلَائِكَتَهُ عَلَى خَلْقِهِ: أَنَّهُ يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) } .
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ واتلُه عَلَى قَوْمِكَ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَاذْكُرْ لَهُمْ مَا كَانَ مَنْ خَبَرِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ (2) هُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّتِهِ، وَهُوَ (3) كَانَ صَدِّيقًا نَبِيًّا -مَعَ أَبِيهِ-كَيْفَ نَهَاهُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَقَالَ، {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} أَيْ: لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَدْفَعُ عَنْكَ ضَرَرًا.
{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} : يَقُولُ: فَإِنْ كُنْتُ مِنْ صُلْبِكَ وَتَرَى أَنِّي أَصْغَرُ مِنْكَ، لِأَنِّي وَلَدُكَ، فَاعْلَمْ أَنِّي قَدِ اطَّلَعْتُ مِنَ الْعِلْمِ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا لَمْ تَعْلَمْهُ أَنْتَ وَلَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ وَلَا جَاءَكَ بَعْدُ، {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} أَيْ: طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا مُوَصِّلًا إِلَى نَيْلِ الْمَطْلُوبِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ الْمَرْهُوبِ.
__________
(1) في ف: "صلوات الله وسلامه عليه".
(2) في ف، ت: "الذي".
(3) في: "وقد".(5/234)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} أَيْ: لَا تُطِعْهُ (1) فِي عِبَادَتِكَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ، فَإِنَّهُ هُوَ الدَّاعِي إِلَى ذَلِكَ، وَالرَّاضِي بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] وَقَالَ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النِّسَاءِ: 117]
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} أَيْ: مُخَالِفًا مُسْتَكْبِرًا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، فَطَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ، فَلَا تَتْبَعْهُ تَصِرْ مِثْلَهُ.
{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} أَيْ: عَلَى شِرْكِكَ وَعِصْيَانِكَ لِمَا آمُرُكَ بِهِ، {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (2) يَعْنِي: فَلَا يَكُونُ لَكَ مَوْلًى وَلَا نَاصِرًا وَلَا مُغِيثًا إِلَّا إِبْلِيسُ، وَلَيْسَ إِلَيْهِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ اتِّبَاعُكَ لَهُ مُوجِبٌ لِإِحَاطَةِ الْعَذَابِ بِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النَّحْلِ: 63] .
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ [لِوَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ] (3) فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} يَعْنِي: [إِنْ كُنْتَ لَا] (4) تُرِيدُ عِبَادَتَهَا وَلَا تَرْضَاهَا، فَانْتَهِ عَنْ سَبِّهَا وَشَتْمِهَا وَعَيْبِهَا، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ اقتصصتُ مِنْكَ وَشَتَمْتُكَ وَسَبَبْتُكَ، وَهُوَ (5) قَوْلُهُ: {لأرْجُمَنَّكَ} ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} : قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: يَعْنِي دَهْرًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: زَمَانًا طَوِيلًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: أَبَدًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَالْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: سَوِيًّا سَالِمًا، قَبْلَ أَنْ تُصِيبَكَ مِنِّي عُقُوبَةٌ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ وَعَطِيَّةُ الجَدَلي وَ [أَبُو] (6) مَالِكٍ، وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
فَعِنْدَهَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: {سَلامٌ عَلَيْكَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الْفَرْقَانِ: 63] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] .
__________
(1) في أ: "لا تطيعه" وهو خطأ، والصواب ما بالأصل.
(2) في ت: "فيكون".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) زيادة من ف، أ، وفي هـ: "أما".
(5) في أ: "وهي".
(6) زيادة من ف، أ.(5/235)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
وَمَعْنَى قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ: {سَلامٌ عَلَيْكَ} يَعْنِي: أَمَّا أَنَا فَلَا يَنَالُكَ مِنِّي مَكْرُوهٌ وَلَا أَذًى، وَذَلِكَ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ، {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} أَيْ: وَلَكِنْ سَأَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِيكَ أَنْ يَهْدِيَكَ وَيَغْفِرَ ذَنْبَكَ، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَطِيفًا، أَيْ: فِي أَنْ هَدَانِي لِعِبَادَتِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} قَالَ (1) : [و] (2) عَوّدَه الْإِجَابَةَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: "الْحَفِيُّ": الَّذِي يَهْتَم بِأَمْرِهِ.
وَقَدِ اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَبَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إِلَى الشَّامِ وَبَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَبَعْدَ أَنْ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا (3) اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إِبْرَاهِيمَ: 41] .
وَقَدِ اسْتَغْفَرَ الْمُسْلِمُونَ لِقَرَابَاتِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ اقْتِدَاءً بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} الْآيَةَ [الْمُمْتَحِنَةِ: 4] ، يَعْنِي إِلَّا فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَلَا (4) تَتَأَسَّوْا بِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَرَجَعَ عَنْهُ، فَقَالَ (5) تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التَّوْبَةِ: 113، 114] .
وَقَوْلُهُ: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} أَيْ: أَجْتَنِبُكُمْ وَأَتَبَرَّأُ مِنْكُمْ وَمِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا [مِنْ دُونِ اللَّهِ] (6) ، {وَأَدْعُو رَبِّي} أَيْ: وَأَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} وَ "عَسَى" هَذِهِ مُوجِبَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ.
{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) } .
يَقُولُ: فَلَمَّا اعْتَزَلَ الْخَلِيلُ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ فِي اللَّهِ، أَبْدَلَهُ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَوَهَبَ لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، يَعْنِي ابْنَهُ وَابْنَ إِسْحَاقَ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الْأَنْبِيَاءِ: 72] ، وَقَالَ: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هُودٍ: 71] .
وَلَا خِلَافَ أَنَّ إِسْحَاقَ وَالِدُ يَعْقُوبَ، وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [الْبَقَرَةِ: 133] . وَلِهَذَا إِنَّمَا ذَكَرَ هَاهُنَا إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، أَيْ: جَعَلْنَا لَهُ نَسْلًا وَعَقِبًا أَنْبِيَاءَ، أَقَرَّ اللَّهُ بهم
__________
(1) في أ: "قالوا".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت، ف، أ: "رب".
(4) في ت: "ولا".
(5) في ت: "وقال".
(6) زيادة من ف، أ.(5/236)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
عَيْنَهُ فِي حَيَاتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا} ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْقُوبُ قَدْ نُبئ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ، لَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَلَذَكَرَ وَلَدَهُ يُوسُفَ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ أَيْضًا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، حِينَ سُئِلَ عَنْ خَيْرِ النَّاسِ، فَقَالَ: "يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ يَعْقُوبَ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ إِسْحَاقَ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ" (1) وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ: "إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ: يوسفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ" (2)
وَقَوْلُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الثَّنَاءَ الْحَسَنَ. وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّمَا قَالَ: {عَلِيًّا} ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ يُثْنُونَ عَلَيْهِمْ وَيَمْدَحُونَهُمْ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا (51) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3374) وصحيح مسلم برقم (2378) .
(2) صحيح البخاري برقم (4688) .(5/237)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) } .
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْكَلِيمِ، فَقَالَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِكَسْرِ اللَّامِ، مِنَ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ (1) ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيع (2) ، عَنْ أَبِي لُبَابَةَ (3) قَالَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: يَا رُوحَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنِ الْمُخْلِصِ لِلَّهِ. قَالَ: الَّذِي يَعْمَلُ لِلَّهِ، لَا يُحِبُّ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (4) بِفَتْحِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مُصْطَفًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الْأَعْرَافِ: 144] .
{وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا} ، جُمِع لَهُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الْكِبَارِ أُولِي (5) الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ، وَهُمْ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَجْمَعِينَ.
وَقَوْلُهُ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} أَيِ: الْجَبَلِ {الأيْمَنِ} أَيْ: مِنْ جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ مِنْ مُوسَى حِينَ ذَهَبَ يَبْتَغِي مِنْ تِلْكَ النَّارِ جَذْوَةً، رَآهَا تَلُوحُ فَقَصَدَهَا، فَوَجَدَهَا فِي جَانِبِ الطُّوْرِ الْأَيْمَنِ مِنْهُ (6) ، عِنْدَ شَاطِئِ الْوَادِي. فَكَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، نَادَاهُ وَقَرَّبَهُ وَنَاجَاهُ (7) . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ (8) ، حَدَّثَنَا يَحْيَى -هُوَ الْقَطَّانُ-حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ (9) ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير، عن ابن عباس: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قَالَ: أُدْنِيَ حَتَّى سَمِعَ (10) صَرِيفَ القلم.
__________
(1) في أ: "قال العوفي".
(2) في ت: "نفيع".
(3) في ت: "تمامة".
(4) في أ: "قرأ آخرون".
(5) في ت: "وأولي".
(6) في ت، ف، أ: "منه غربية".
(7) في ت: "ناداه أو قربه فناجاه".
(8) في ت: "ابن يسار".
(9) في ت: "ابن يساري"، وفي أ: "ابن يسار".
(10) في ت: "يسمع".(5/237)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَغَيْرُهُمْ. يَعْنُونَ صَرِيفَ الْقَلَمِ بِكِتَابَةِ التَّوْرَاةِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قَالَ: أُدْخِلَ فِي السَّمَاءِ فَكُلِّمَ، وَعَنْ مجاهد نَحْوَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قَالَ: نَجَا بِصِدْقِهِ (1)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ، عَنْ أَبِي الْوَصْلِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَب، عن عمرو بن معد يكرب قَالَ: لَمَّا قَرَّبَ اللَّهُ مُوسَى نَجِيًّا بِطُورِ سَيْنَاءَ، قَالَ: يَا مُوسَى، إِذَا خَلَقْتُ لَكَ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً تُعِينُ عَلَى الْخَيْرِ، فَلَمْ أُخَزِّنْ عَنْكَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، وَمَنْ أُخَزِّنُ عَنْهُ هَذَا فَلَمْ أَفْتَحْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا.
وَقَوْلُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} أَيْ: وَأَجَبْنَا سُؤَالَهُ وَشَفَاعَتَهُ فِي أَخِيهِ، فَجَعَلْنَاهُ نَبِيًّا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [الْقَصَصِ: 34] ، وَقَالَ (2) : {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طَهَ: 36] ، وَقَالَ: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشُّعَرَاءِ: 13، 14] ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا شُفِّعَ أَحَدٌ فِي أَحَدٍ شَفَاعَةً فِي الدُّنْيَا أَعْظَمُ مِنْ شَفَاعَةِ مُوسَى فِي هَارُونَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} ، قَالَ: كَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى، وَلَكِنْ أَرَادَ: وَهَبَ لَهُ نُبُوَّتَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مُعَلَّقًا، عَنْ يَعْقُوبَ وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، بِهِ.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) } .
هَذَا (3) ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ وَالِدُ عَرَبِ الْحِجَازِ كُلِّهِمْ بِأَنَّهُ {كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}
قَالَ (4) ابْنُ جُرَيْجٍ: لَمْ يَعدْ رَبَّهُ عِدَةً إِلَّا أَنْجَزَهَا، يَعْنِي: مَا الْتَزَمَ قَطُّ عِبَادَةً (5) بِنَذْرٍ إِلَّا قَامَ بِهَا، وَوَفَّاهَا حَقَّهَا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ عَقِيلٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ إِسْمَاعِيلَ النَّبِيَّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَدَ رَجُلًا مَكَانًا أَنْ يَأْتِيَهُ، فَجَاءَ وَنَسِيَ الرَّجُلُ، فَظَلَّ بِهِ إِسْمَاعِيلُ وَبَاتَ حَتَّى جَاءَ الرَّجُلُ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: مَا بَرِحْتَ مِنْ هَاهُنَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: إِنِّي نَسِيتُ. قَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَبْرَحَ حَتَّى تَأْتِيَنِي. فلذلك {كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} .
__________
(1) في ت: "لصدقه".
(2) في ت، ف: "إلى أن قال".
(3) في أ: "وهذا".
(4) في ت: "قالت".
(5) في ف، أ: "عبادة قط".(5/238)
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّهُ أَقَامَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ يَنْتَظِرُهُ حَوْلًا حَتَّى جَاءَهُ.
وَقَالَ ابْنُ (1) شَوْذَب: بَلَغَنِي أَنَّهُ اتَّخَذَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ سَكَنًا.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْخَرَائِطِيُّ فِي كِتَابِهِ "مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ" مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَان، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (2) بْنِ مَيْسَرة، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقيق-عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ فَبَقِيَتْ لَهُ عَلَيَّ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ، قَالَ: فَنَسِيتُ (3) يَوْمِي وَالْغَدَ، فَأَتَيْتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: "يَا فَتَى، لَقَدْ شَقَقْتَ (4) عَلَيَّ، أَنَا هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ" لَفْظُ الْخَرَائِطِيِّ (5) ، وَسَاقَ آثَارًا حَسَنَةً فِي ذَلِكَ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَنْده أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي كِتَابِ "مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ"، بِإِسْنَادِهِ (6) عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَان، عَنْ بُدَيْل بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، بِهِ (7) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُ: {صَادِقَ الْوَعْدِ} ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصَّافَّاتِ: 102] ، فَصَدَقَ فِي ذَلِكَ.
فَصِدْقُ الْوَعْدِ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، كَمَا أَنَّ خُلْفَه مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصَّفِّ: 2، 3] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ" (8)
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ التَّلَبُّسُ بِضِدِّهَا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ إِسْمَاعِيلَ بِصِدْقِ الْوَعْدِ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقَ الْوَعْدِ أَيْضًا، لَا يَعِدُ أَحَدًا شَيْئًا إِلَّا وَفَّى لَهُ بِهِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ زَوْجِ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ، فَقَالَ: "حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي" (9) . وَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخَلِيفَةُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدَةٌ أَوْ دَيْن فَلْيَأْتِنِي أُنْجِزْ لَهُ، فَجَاءَهُ (10) جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَالَ: "لَوْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا"، يَعْنِي: مِلْءَ كَفَّيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرِينِ أَمَرَ الصِّدِّيقُ جَابِرًا، فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ مِنَ الْمَالِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِعَدّه، فَإِذَا هُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ مِثْلَيْهَا مَعَهَا (11)
وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا} فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى شَرَفِ إِسْمَاعِيلَ عَلَى أَخِيهِ إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ إنما
__________
(1) في ت: "أبو".
(2) في سنن أبي داود: "بديل".
(3) في ت: "نسيت".
(4) في ت: "لو أشفقت".
(5) سنن أبي داود برقم (4996) ومكارم الأخلاق برقم (177) .
(6) في ت، أ: "إنه بإسناده".
(7) ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (3/113) بإسناده إلى إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ بُدَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ مثله.
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (33) ومسلم في صحيحه برقم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) رواه البخاري في صحيحه برقم (3729) ومسلم في صحيحه برقم (2449) من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
(10) في أ: "فجاء".
(11) رواه البخاري في صحيحه برقم (2683) ومسلم في صحيحه برقم (2314) .(5/239)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
وُصِفَ (1) بِالنُّبُوَّةِ فَقَطْ، وَإِسْمَاعِيلُ وُصِفَ (2) بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (3) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ ... " وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} : هَذَا أَيْضًا مِنَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ، وَالصِّفَةِ الْحَمِيدَةِ، وَالْخِلَّةِ السَّدِيدَةِ (4) ، حَيْثُ كَانَ مُثَابِرًا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ آمِرًا بِهَا لِأَهْلِهِ (5) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} الْآيَةَ [التَّحْرِيمِ: 6] أَيْ: مُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا تَدَعُوهُمْ هَمْلًا فَتَأْكُلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَح فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ (6) فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ (7) .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ، كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَاللَّفْظُ لَهُ (8) .
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) } .
وَهَذَا (9) ذِكْرُ إِدْرِيسَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ (10) كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، وَأَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ مَكَانًا عَلِيًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ بِهِ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا عَجِيبًا، فَقَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَمِر بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا، وَأَنَا حَاضِرٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا قَوْلُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-لِإِدْرِيسَ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} فَقَالَ كَعْبٌ: أَمَّا إِدْرِيسُ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنِّي أَرْفَعُ لَكَ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ عَمَلِ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ، فَأَحَبَّ أَنْ يَزْدَادَ عَمَلًا (11) فَأَتَاهُ خَلِيلٌ لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ كَذَا وَكَذَا، فَكَلِّمْ لِي (12) مَلَكَ الْمَوْتِ، فَلْيؤخرني حَتَّى أَزْدَادَ عَمَلًا فَحَمَلَهُ بَيْنَ جَنَاحَيْهِ، حَتَّى صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ تَلَقَّاهُمْ مَلَك الْمَوْتِ مُنْحَدِرًا، فَكَلَّمَ مَلَكَ الْمَوْتِ فِي الَّذِي كَلَّمَهُ فِيهِ إِدْرِيسُ، فَقَالَ: وَأَيْنَ إِدْرِيسُ؟ فَقَالَ: هُوَ ذَا عَلَى ظَهْرِي. قَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ: فَالْعَجَبُ! بُعِثْتُ وَقِيلَ لي: اقبض روح إدريس
__________
(1) في ف: "وصفه".
(2) في ف: "وصفه".
(3) لفظه عند مسلم في صحيحه برقم (2276) : "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا"، والله أعلم.
(4) في ت: "الشديدة".
(5) في ف: "أهله".
(6) في ت: "فنضحت".
(7) سنن أبي داود برقم (1450) وسنن ابن ماجه برقم (1336) .
(8) سنن أبي داود برقم (1451) وسنن النسائي الكبرى برقم (11406) وسنن ابن ماجه برقم (1335) .
(9) في ت: "وهكذا".
(10) في أ: "فإنه".
(11) في ف، أ: "تزداد علما".
(12) في ت: "له".(5/240)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ". فَجَعَلْتُ أَقُولُ: كَيْفَ (1) أَقْبِضُ رُوحَهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، وَهُوَ فِي الْأَرْضِ؟ فَقَبَضَ رُوْحَهُ هُنَاكَ، فَذَلِكَ (2) قَوْلُ اللَّهِ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (3) .
هَذَا مِنْ أَخْبَارِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَفِي بَعْضِهِ نَكَارَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَاهُ (4) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سَأَلَ كَعْبًا، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ لِذَلِكَ الْمَلَكِ: هَلْ لَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ -يَعْنِي: مَلَكَ الْمَوْتِ-كَمْ بَقِيَ مِنْ أَجَلِي لِكَيْ أَزْدَادَ مِنَ الْعَمَلِ وَذَكَرَ بَاقِيَهُ (5) ، وَفِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ عَمَّا بَقِيَ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ (6) : لَا أَدْرِي حَتَّى أَنْظُرَ، ثُمَّ نَظَرَ، قَالَ: إِنَّكَ تَسْأَلُنِي (7) عَنْ رَجُلٍ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ إِلَّا طَرْفَةُ عَيْنٍ، فَنَظَرَ الْمَلَكُ (8) تَحْتَ جَنَاحِهِ إِلَى إِدْرِيسَ، فَإِذَا (9) هُوَ قَدْ قُبِضَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ.
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ خَيَّاطًا، فَكَانَ (10) لَا يَغْرِزُ إِبْرَةً إِلَّا قَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ"، فَكَانَ يُمْسِي حِينَ يُمْسِي (11) وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ أَفْضَلَ عَمَلًا مِنْهُ. وَذَكَرَ بَقِيَّتَهُ كَالَّذِي قَبْلَهُ، أَوْ نَحْوَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قَالَ: إِدْرِيسُ رُفِعَ وَلَمْ يَمُتْ، كَمَا رُفِعَ عِيسَى.
وَقَالَ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قَالَ: [رُفِعَ إِلَى] (12) السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قَالَ: رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَمَاتَ بِهَا. وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحم.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَغَيْرُهُ، فِي قَوْلِهِ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قَالَ: الْجَنَّةُ.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) }
يَقُولُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ النَّبِيُّونَ -وَلَيْسَ الْمُرَادُ [هَؤُلَاءِ] (13) الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَطْ، بَلْ جِنْسُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، اسْتَطْرَدَ مِنْ ذِكْرِ الْأَشْخَاصِ إِلَى الْجِنْسِ - {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} الآية.
__________
(1) في ف: "فكيف".
(2) في ف: "فهذا".
(3) تفسير الطبري (16/72) .
(4) في أ: "وقد روى".
(5) في أ: "وذكر ما فيه".
(6) في ف، أ: "فقال".
(7) في ف، أ: "لتسألني".
(8) في أ: "ملك الموت".
(9) في ت: "قال".
(10) في ف: "وكان".
(11) في أ: "وكان يمشي حين يمشي".
(12) زيادة من ف، أ.
(13) زيادة من ف، أ.(5/241)
قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: [فَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ: إِدْرِيسَ، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ: إِبْرَاهِيمَ] (1) وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ: إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ: مُوسَى، وَهَارُونَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلِذَلِكَ (2) فَرَّقَ أَنْسَابَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ آدَمُ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ وَلَدِ مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، وَهُوَ إِدْرِيسُ، فَإِنَّهُ جَدُّ نُوحٍ.
قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ إِدْرِيسَ فِي عَمُودِ نَسَبِ نُوحٍ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، حَيْثُ قَالَ فِي سَلَامِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ"، وَلَمْ يَقِلْ: "وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ"، كَمَا قَالَ آدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ (3) ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ (4) أَنَّ إِدْرِيسَ أَقْدَمُ مِنْ نُوحٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، وَيَعْمَلُوا (5) مَا شَاءُوا فَأَبَوْا، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
[وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ جنسُ الْأَنْبِيَاءِ، أَنَّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ] (6) إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إِلَى أَنْ قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْعَامِ 83-90] وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (7) } [غَافِرٍ: 78] . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَفِي "ص" سَجْدَةٌ؟ قَالَ (8) نَعَمْ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ، فَنَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِر أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ، قَالَ: وَهُوَ مِنْهُمْ، يَعْنِي دَاوُدَ (9) .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} أَيْ: إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ الْمُتَضَمِّنَ حُجَجه وَدَلَائِلَهُ وَبَرَاهِينَهُ، سَجَدُوا لِرَبِّهِمْ خُضُوعًا وَاسْتِكَانَةً، وَحَمْدًا وَشُكْرًا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ.
"والبُكِيّ": جَمْعُ بَاكٍ، فَلِهَذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى شَرْعِيَّةِ السُّجُودِ هَاهُنَا، اقْتِدَاءً بِهِمْ، وَاتِّبَاعًا لِمِنْوَالِهِمْ (10)
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَر قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بن الخطاب، رضي
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في أ: "وكذلك".
(3) في ت: "إبراهيم وآدم".
(4) في ف، أ: "بن عمر".
(5) في ف، أ: "ويعملون" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(6) زيادة من ت، ف، أ.
(7) في ت، ف، أ: "عليك وكلم الله موسى تكليما".
(8) في ف، أ: "فقال".
(9) صحيح البخاري برقم (4807) .
(10) في ف، أ: "لمواليهم".(5/242)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
اللَّهُ عَنْهُ، سُورَةَ مَرْيَمَ، فَسَجَدَ وَقَالَ: هَذَا السُّجُودُ، فَأَيْنَ الْبُكِيُّ؟ يُرِيدُ الْبُكَاءَ.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وسَقَط مِنْ رِوَايَتِهِ ذِكْرُ "أَبِي مَعْمَرٍ" فِيمَا رَأَيْتُ (1) ، وَاللَّهُ (2) أَعْلَمُ.
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) } .
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حزْبَ السُّعَدَاءِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ، مِنَ الْقَائِمِيْنَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ، الْمُؤَدِّينَ فَرَائِضَ اللَّهِ، التَّارِكِينَ لِزَوَاجِرِهِ -ذَكَرَ أَنَّهُ {خَلَفَ مِنْ بَعْدِهم خَلْفٌ} أَيْ: قُرُونٌ أُخَرُ، {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} -وَإِذَا أَضَاعُوهَا فَهُمْ لِمَا سِوَاهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ أَضْيَعُ؛ لِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ وَقَوَامُهُ، وَخَيْرُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ-وَأَقْبَلُوا عَلَى شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَمَلَاذِّهَا، وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا، فَهَؤُلَاءِ سَيَلْقَوْنَ غَيًّا، أَيْ: خَسَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِإِضَاعَةِ الصَّلَاةِ هَاهُنَا، فَقَالَ قَائِلُونَ: الْمُرَادُ بِإِضَاعَتِهَا تَرْكُها بِالْكُلِّيَّةِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظي، وَابْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَالسُّدِّيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَلِهَذَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَوْلٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ إِلَى تَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، لِلْحَدِيثِ (3) : " بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ تَركُ الصَّلَاةِ" (4) ، وَالْحَدِيثِ الْآخَرِ: "الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ" (5) . وَلَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيمرة فِي قَوْلِهِ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} ، قَالَ: إِنَّمَا أَضَاعُوا الْمَوَاقِيتَ، وَلَوْ كَانَ تَرْكًا كَانَ كُفْرًا.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يُكْثِرُ ذِكْرَ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} وَ {عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} وَ {عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ؟ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَى مَوَاقِيتِهَا. قَالُوا: مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ إِلَّا عَلَى التَّرْكِ؟ قَالَ: ذَاكَ (6) الكفر.
[و] (7) قال مَسْرُوقٌ: لَا يُحَافِظُ أَحَدٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَيُكْتَبُ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَفِي إِفْرَاطِهِنَّ الْهَلَكَةُ، وَإِفْرَاطِهِنَّ: إِضَاعَتُهُنَّ عَنْ وَقْتِهِنَّ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ (8) : أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَرَأَ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ تَكُنْ (9) إِضَاعَتُهُمْ تَرْكَهَا، وَلَكِنْ أَضَاعُوا الْوَقْتَ.
__________
(1) تفسير الطبري (16/73) .
(2) في ف، أ: "فالله".
(3) في أ: "الحديث".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (82) من حديث جابر رضي الله عنه.
(5) رواه الترمذي في السنن برقم (2621) والنسائي في السنن (1/231) من حَدِيثُ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ".
(6) في ت، ف، أ: "ذلك".
(7) زيادة من ت، ف.
(8) في أ: "زيد".
(9) في ت، ف، أ: "يكن".(5/243)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} قَالَ: عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَذَهَابِ صَالِحِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْأَزِقَّةِ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ جُرَيج، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ (1) .
وَرَوَى جَابِرٌ الجُعْفي، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَعْنُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ الْأَشْيَبُ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} ، قَالَ: هُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ (2) ، يَتَرَاكَبُونَ تَرَاكُبَ الْأَنْعَامِ وَالْحُمُرِ فِي الطُّرُقِ، لَا يَخَافُونَ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا يَسْتَحْيُونَ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْخَوْلَانِيُّ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَكُونُ خَلْفٌ بَعْدَ سِتِّينَ سَنَةً، أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. ثُمَّ يَكُونُ خَلْفٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ. وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةٌ: مُؤْمِنٌ، وَمُنَافِقٌ، وَفَاجِرٌ". قَالَ بَشِيرٌ (3) : قُلْتُ لِلْوَلِيدِ: مَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ؟ قَالَ: الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنٌ بِهِ، وَالْمُنَافِقُ كَافِرٌ بِهِ، وَالْفَاجِرُ يَأْكُلُ بِهِ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، الْمُقْرِئِ (4) ، بِهِ (5)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَنْبَأَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَوْهَب (6) ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ (7) أَبِي الرِّجَالِ، أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُرْسِلُ بِالشَّيْءِ صَدَقَةً لِأَهْلِ الصُّفَّة، وَتَقُولُ: لَا تُعْطُوا مِنْهُ بَرْبَرِيًّا وَلَا بَرْبَرِيَّةً، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "هُمُ الْخَلْفُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} . هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ (8) .
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضَّحَّاكِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا حَريز (9) ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ القُرَظِي يَقُولُ فِي قَوْلِهِ (10) : {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} الْآيَةَ، قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْغَرْبِ (11) ، يَمْلِكُونَ وَهُمْ شَرُّ من ملك.
__________
(1) في ت: "منكم".
(2) في ت، ف: "الآية".
(3) في ف، أ: "بشر".
(4) في ف، أ: "المقبري".
(5) المسند (3/38) .
(6) في ف، أ: "ابن وهب".
(7) في ف: "ابن".
(8) ورواه الحاكم في المستدرك (2/244) من طريق الحسن بن علي عن إبراهيم بن موسى به.
وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي بقوله: "عبيد الله مختلف في توثيقه، ومالك لا أعرفه ثم هو منقطع".
(9) في ت، ف، أ: "ابن جرير".
(10) في ف: "قول الله عز وجل".
(11) في ت: "القرى"، وفي أ: "المغرب".(5/244)
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَجِدُ صِفَةَ الْمُنَافِقِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: شَرَّابِينَ لِلْقَهَوَاتِ تَرَّاكِينَ (1) لِلصَّلَوَاتِ، لَعَّابِينَ بِالْكَعَبَاتِ، رَقَّادِينَ عَنِ الْعَتَمَاتِ، مُفَرِّطِينَ فِي الْغَدَوَاتِ، تَرَّاكِينَ لِلْجُمُعَاتِ (2) قَالَ: ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَطَّلُوا الْمَسَاجِدَ، وَلَزِمُوا الضَّيْعَاتِ.
وَقَالَ أَبُو الْأَشْهَبِ العُطَارِدي: أَوْحَى اللَّهُ -تَعَالَى-إِلَى دَاوُدَ: يَا دَاوُدُ، حَذّر وَأَنْذِرْ أَصْحَابَكَ أَكْلَ الشَّهَوَاتِ؛ فَإِنَّ الْقُلُوبَ المعَلقة بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عُقُولُهَا عَنِّي مَحْجُوبَةٌ، وَإِنَّ أَهْوَنَ مَا أَصْنَعُ بِالْعَبْدِ مِنْ عَبِيدِي إِذَا آثَرَ شَهْوَةً مِنْ شَهَوَاتِهِ عَلَيَّ (3) أَنْ أَحْرِمَهُ طَاعَتِي.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنَا أَبُو [السَّمْحِ] (4) التَّمِيمِيُّ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ (5) ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ (6) بْنَ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اثْنَتَيْنِ: الْقُرْآنَ [وَاللَّبَنَ، أَمَّا اللَّبَنُ] (7) فَيَتَّبِعُونَ الرِّيفَ، وَيَتِّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَيَتْرُكُونَ الصَّلَوَاتِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَيَتَعَلَّمُهُ الْمُنَافِقُونَ، فَيُجَادِلُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ" (8) .
وَرَوَاهُ عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ (9) لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو قَبِيلٍ، عَنْ عُقْبَةَ، بِهِ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ تَفَرَّدَ بِهِ (10) .
وَقَوْلُهُ: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} أَيْ: خُسْرَانًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: شَرًّا.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبيعي، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، بَعِيدُ الْقَعْرِ، خَبِيثُ الطَّعْمِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ زَيَّانَ، حَدَّثَنَا شَرْقِيُّ بْنُ قَطَامِيِّ، عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: جِئْتُ أَبَا أُمَامَةَ صُدَيّ بْنَ (11) عَجْلان الْبَاهِلِيَّ فَقُلْتُ: حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَدَعَا بِطَعَامٍ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّ صَخْرَةً زِنَةَ عَشْرِ (12) أَوَاقٍ قُذِفَ بِهَا مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ، ما بلغت قعرها خمسين خريفًا،
__________
(1) في أ: "تاركين".
(2) في أ: "للجماعات".
(3) في أ: "عليه".
(4) زيادة من ف، أ، والمسند.
(5) في أ: "عن ابن قنبل".
(6) في ت: "عبد الله".
(7) في هـ،، ت ف، أ: "الكنى، وأما الكنى" والمثبت في المسند.
(8) المسند (4/156) والمراد باللبن كما قال الحربي: "أظنه أراد يتباعدون عن الأمصار وعن صلاة الجماعة، ويطلبون مواضع اللبن في المراعي والبوادي".
(9) في ت: "أبي".
(10) المسند (4/146) .
(11) في ت: "حدثني".
(12) في ف: "عشر عشر"، وفي أ: "عشر عشراوات".(5/245)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
ثُمَّ تَنْتَهِي إِلَى غَيٍّ وَآثَامٍ". قَالَ: قُلْتُ: وَمَا غَيٌّ وَآثَامٌ؟ قَالَ: "بِئْرَانِ فِي أَسْفَلِ جَهَنَّمَ، يَسِيلُ فِيهِمَا صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَهُمَا اللَّتَانِ (1) ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} وَقَوْلُهُ فِي الْفُرْقَانِ: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (2) هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ.
وَقَوْلُهُ: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} ، أَيْ: إِلَّا مَنْ رَجَعَ عَنْ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، وَيُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ، وَيَجْعَلُهُ مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تُجُبُّ مَا قَبْلَهَا، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ" (3) ؛ وَلِهَذَا لَا يُنْقص هَؤُلَاءِ التَّائِبُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا شَيْئًا، وَلَا قُوبِلُوا بِمَا عَمِلُوهُ قَبْلَهَا فَيُنْقَصُ (4) لَهُمْ مِمَّا عَمِلُوهُ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَهَبَ هَدَرًا وَتُرِكَ نِسْيًا، وَذَهَبَ مَجَّانا، مِنْ كَرَمِ الْكَرِيمِ، وَحِلْمِ الْحَلِيمِ.
وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ هَاهُنَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الْفَرْقَانِ: 68 -70]
{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) } .
يَقُولُ تَعَالَى: الْجَنَّاتُ الَّتِي يَدْخُلُهَا (5) التَّائِبُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، هِيَ {جَنَّاتِ عَدْنٍ} أَيْ: إِقَامَةٍ {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ} بِظَهْرِ الْغَيْبِ، أَيْ: هِيَ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَا رَأَوْهُ؛ وَذَلِكَ لِشِدَّةِ إِيقَانِهِمْ وَقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} تَأْكِيدٌ لِحُصُولِ ذَلِكَ وَثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا يُبَدِّلُهُ، كَقَوْلِهِ: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا} [الْمُزَّمِّلِ: 18] (6) أَيْ: كَائِنًا لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ هَاهُنَا: {مَأْتِيًّا} أَيِ: الْعِبَادُ صَائِرُونَ إِلَيْهِ، وَسَيَأْتُونَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: {مَأْتِيًّا} بِمَعْنَى: آتِيًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَتَتْ عَلَيَّ خَمْسُونَ سَنَةً، وَأَتَيْتُ عَلَى خَمْسِينَ سَنَةً، كلاهما بمعنى [واحد] (7)
__________
(1) في ف: "اللذان".
(2) تفسير الطبري (16/75) .
(3) جاء من حديث أنس بن مالك، وابن مسعود، وأبو سعيد الأنصاري، وابن عباس، رضي الله عنهم، وأجودها حديث ابن مسعود، أخرجه ابن ماجه في السنن برقم (4250) لكنه فيه انقطاع.
(4) في ف: "فنقص".
(5) في ت: "يدخل إليها".
(6) في ت: "إنه كان" وهو خطأ، وفي أ: "كان وعده مفعولا" وهو الصواب.
(7) زيادة من ف، أ.(5/246)
وَقَوْلُهُ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} أَيْ: هَذِهِ (1) الْجَنَّاتُ لَيْسَ فِيهَا كَلَامٌ سَاقِطٌ تَافِهٌ لَا مَعْنًى لَهُ، كَمَا قَدْ يُوجَدُ فِي الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: {إِلا سَلامًا} اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَقَوْلِهِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} [الْوَاقِعَةِ: 25، 26] (2)
وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أَيْ: فِي مِثْلِ وَقْتِ البُكُرات وَوَقْتِ العَشيّات، لَا أَنَّ (3) هُنَاكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا (4) وَلَكِنَّهُمْ فِي أَوْقَاتٍ تَتَعَاقَبُ، يَعْرِفُونَ مُضِيَّهَا بِأَضْوَاءٍ وَأَنْوَارٍ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا معْمَر، عَنْ هَمَّام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَّلُ زُمْرَة تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورهم عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يبصُقون فِيهَا، وَلَا يَتَمَخَّطُونَ (5) فِيهَا، وَلَا يَتَغَوّطون، آنِيَتُهُمْ وَأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَمُجَامِرُهُمُ (6) الألْوّة، ورَشْحُهم الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يَرَى مُخّ سَاقَيْهِمَا (7) مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ؛ مِنَ الْحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنِهِمْ وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا".
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ بِهِ (8)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ (9) ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ (10) فُضَيْلٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا" (11) تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} قَالَ: مَقَادِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْمٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ زُهَيْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} قَالَ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ، هُمْ فِي نُورٍ أَبَدًا، وَلَهُمْ مِقْدَارُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَعْرِفُونَ مِقْدَارَ اللَّيْلِ بِإِرْخَاءِ الْحُجُبِ وَإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ، وَيَعْرِفُونَ مِقْدَارَ النَّهَارِ بِرَفْعِ الْحُجُبِ، وَبِفَتْحِ (12) الْأَبْوَابِ.
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ خُلَيْد، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَذَكَرَ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: أَبْوَابٌ (13) يُرى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، فَتُكَلِّمُ وَتُكَلَّمُ، فَتُهَمْهِم (14) انفتحي انغلقي، فتفعل.
__________
(1) في ت، ف: "أي: في هذه".
(2) في ت: "تأثيم".
(3) في ت: "إلا أن".
(4) في ف: "ونهارا".
(5) في ف: "يمتخطون".
(6) في أ: "ومجامرهم من".
(7) في ف: "ساقها".
(8) المسند (2/316) وصحيح البخاري برقم (3225) وصحيح مسلم برقم (2834) .
(9) في ت: "عن موسى بن إسحاق".
(10) في ت: "ثم".
(11) المسند (1/266) وقال الهيثمي في المجمع (5/294) : "إسناد رجاله ثقات".
(12) في ت، ف: "فتح".
(13) في ت: "أبواب الجنة".
(14) في ت: "فيفهمهم"، وفي ف، أ: "فتفهم".(5/247)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} : فِيهَا سَاعَتَانِ: بَكَرَةٌ وَعَشِيٌّ: لَيْسَ ثَمَّ (1) لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَيْسَ [فِيهَا] (2) بُكْرَةٌ وَلَا عَشِيٌّ، وَلَكِنْ يُؤتون بِهِ عَلَى مَا كَانُوا يَشْتَهُونَ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا: كَانَتِ الْعَرَبُ، الأنْعَم فِيهِمْ، مَنْ يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى، وَنَزَلَ (3) الْقُرْآنُ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ (4) مِنَ النَّعِيمِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}
وَقَالَ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} قَالَ: الْبُكُورُ يَرِدُ عَلَى الْعَشِيِّ، وَالْعَشِيُّ يَرِدُ عَلَى الْبُكُورِ، لَيْسَ فِيهَا لَيْلٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ (5) بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَاضِي أَهْلِ شَمْشَاط (6) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرِيرٍ (7) عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ غَدَاةٍ مِنْ غَدَوَاتِ الْجَنَّةِ، وَكُلُّ الْجَنَّةِ غَدَوَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ يُزَفُّ إِلَى وَلِيِّ اللَّهِ فِيهَا زَوْجَةٌ مِنَ الْحَوَرِ الْعَيْنِ، أَدْنَاهُنَّ الَّتِي خُلِقَتْ مِنَ الزَّعْفَرَانِ" (8)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
[وَقَوْلُهُ تَعَالَى] (9) {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} أَيْ: هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي وَصَفْنَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ هِيَ الَّتِي نُورِثُهَا عِبَادَنَا الْمُتَّقِينَ، وَهُمُ الْمُطِيعُونَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكَاظِمُونَ (10) الْغَيْظَ وَالْعَافُونَ (11) عَنِ النَّاسِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إِلَى أَنْ قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1-11]
{وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) }
__________
(1) في أ: "ثمت".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في أ: "فنزل".
(4) في ف: "نفوسهم".
(5) في جميع النسخ: "سليمان" والمثبت من الجرح والتعديل 4/1/176.
(6) في أ: "شمياط".
(7) في ت، ف، أ: "جدير".
(8) ورواه ابن عدي في الكامل (6/394) من طريق سليم بن منصور بن عمار به وقال: "ولا يعرف هذا إلا لمنصور بهذا الإسناد". ومنصور بن عمار ضعفه العقيلي وقال أبو حاتم: ليس بالقوي.
(9) زيادة من ت، وفي أ: "وقوله".
(10) في ت، ف: "والكاظمين".
(11) في ت، ف: "والعافين".(5/248)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلى وَوَكِيعٌ قَالَا حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: "مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا؟ " قَالَ: فَنَزَلَتْ {وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ.
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ، فَرَوَاهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ بِهِ (1) وَعِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، فكان
__________
(1) المسند (1/231) ، (1/233) وصحيح البخاري برقم (4731) وتفسير الطبري (16/78) .(5/248)
ذَلِكَ الْجَوَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ وحَزَن، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، {وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَبِثَ جِبْرِيلُ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَيَقُولُونَ [قُلِيَ] (1) فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ لَقَدْ رِثْتَ عَلَيَّ حَتَّى ظَنَّ الْمُشْرِكُونَ كُلَّ ظَنٍّ. فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ [لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ] (2) وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} قَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ كَالَّتِي فِي الضُّحَى.
وَكَذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحم، وقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي احْتِبَاسِ جِبْرِيلَ.
وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَبْطَأَ جِبْرِيلُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا نَزَلْتَ حَتَّى اشْتَقْتُ إِلَيْكَ" فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: بَلْ أَنَا كُنْتُ إِلَيْكَ أَشْوَقُ، وَلَكِنِّي مَأْمُورٌ، فأوحِيَ إِلَى جِبْرِيلَ أَنْ قُلْ لَهُ: {وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} الْآيَةَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ غَرِيبٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَبْطَأَتِ الرسلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: مَا حَبَسَكَ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: وَكَيْفَ نَأْتِيكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَقُصُّونَ أَظْفَارَكُمْ، وَلَا تُنْقُون بَرَاجِمَكُمْ، وَلَا تَأْخُذُونَ شَوَارِبَكُمْ، وَلَا تَسْتَاكُونَ؟ ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّورِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ [الدِّمَشْقِيُّ] (3) حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، أَخْبَرَنِي ثَعْلَبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي كَعْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ جِبْرِيلَ أَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: وَكَيْفَ وَأَنْتُمْ لَا تَسْتَنّون، وَلَا تُقَلّمُون أَظْفَارَكُمْ، وَلَا تَقُصُّونَ شَوَارِبَكُمْ، وَلَا تُنْقُون رَوُاجِبَكُمْ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، بِهِ نَحْوَهُ (4) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سَيَّار، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ حَبِيبٍ -[خَتَنُ] (5) مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ-حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَصْلِحِي لَنَا الْمَجْلِسَ، فَإِنَّهُ يَنْزِلُ (6) مَلَكٌ إِلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَنْزِلْ إِلَيْهَا قَطُّ" (7)
وَقَوْلُهُ: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} قِيلَ: الْمُرَادُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا: أَمْرُ الدُّنْيَا، وَمَا خَلْفَنَا: أَمْرُ الْآخِرَةِ، {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. هَذَا قَوْلُ أَبِي العالية، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) في ت، ف، أ: "إلى قوله".
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) المعجم الكبير (11/431) والمسند (1/243) وفي إسناده أبو كعب مولى ابن عباس، قال أبو زرعة: "لا يسمى ولا يعرف إلا في هذا الحديث".
(5) في هـ، ت، ف: "عن"، والمثبت من أ، والمسند.
(6) في ف، أ: "يتنزل".
(7) المسند (6/296) .(5/249)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
جُبَيْرٍ. وَقَتَادَةَ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا، وَالسُّدِّيِّ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ.
وَقِيلَ: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} مَا نَسْتَقْبِلُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، {وَمَا خَلْفَنَا} أَيْ: مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا، {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} أَيْ: مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. يُرْوَى نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكِ، وقَتَادَةَ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَالثَّوْرِيِّ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} قَالَ مُجَاهِدٌ [والسُّدِّيّ] (1) مَعْنَاهُ: مَا نَسِيَكَ رَبُّكَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَقَوْلِهِ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضُّحَى: 1-3]
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ (2) -يَعْنِي أَبَا الْجُمَاهِرِ (3) -حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ يَرْفَعُهُ قَالَ: "مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ [عَنْهُ] (4) فَهُوَ عَافِيَةٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى (5) شَيْئًا" ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (6)
وَقَوْلُهُ: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [أَيْ: خَالِقٌ ذَلِكَ وَمُدَبِّرُهُ، وَالْحَاكِمُ فِيهِ وَالْمُتَصَرِّفُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ] (7) هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ تَعْلَمُ لِلرَّبِّ مَثَلًا أَوْ شَبَهًا.
وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ أَحَدٌ يُسَمَّى الرَّحْمَنَ غَيْرَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتَقَدَّسَ اسْمُهُ.
{وَيَقُولُ الإنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَتَعَجَّبُ وَيَسْتَبْعِدُ إِعَادَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] ،
__________
(1) زيادة من ت، ف.
(2) في ت: "ابن عباس".
(3) في أ: "أبا الجماهير".
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) في أ: "لينسنا".
(6) ورواه البزار في مسنده برقم (123) من طريق سليمان بن عبد الرحمن عن إسماعيل بن عياش به وقال: "إسناده صالح".
ورواه الحاكم في المستدرك (2/375) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (10/12) عن طريق أبي نعيم الفضل بن دكين عن عاصم بن رجاء عن أبيه بِهِ وَقَالَ الْحَاكِمُ: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ".
وله شاهد من حديث سلمان رضي الله عنه.
(7) زيادة من ت، ف، أ.(5/250)
وَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 77-79] ، وَقَالَ هَاهُنَا: {وَيَقُولُ الإنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} يَسْتَدِلُّ، تَعَالَى، بِالْبَدَاءَةِ عَلَى الْإِعَادَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ، تَعَالَى [قَدْ] (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، أَفَلَا يُعِيدُهُ وَقَدْ صَارَ شَيْئًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ: 27] ، وَفِي الصَّحِيحِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَآذَانِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَنِي، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلِيَّ مِنْ آخِرِهِ، وَأَمَّا أَذَاهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: إِنَّ لِي وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (2) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ (3) كُفُوًا أَحَدٌ" (4) .
وَقَوْلُهُ: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} أَقْسَمَ الرَّبُّ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَحْشُرَهُمْ جَمِيعًا وَشَيَاطِينَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} .
قَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي: قُعُودًا كَقَوْلِهِ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الْجَاثِيَةِ: 28] .
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} : يَعْنِي: قِيَامًا، وَرُوِيَ عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ [مِثْلَهُ] (5) .
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} يَعْنِي: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} .
قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ [عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ] (6) ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَحْبِسُ الْأَوَّلَ عَلَى الْآخِرِ، حَتَّى إِذَا تَكَامَلَتِ الْعِدَّةُ (7) ، أَتَاهُمْ جَمِيعًا، ثُمَّ بَدَأَ بِالْأَكَابِرِ، فَالْأَكَابِرِ جُرْمًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} .
وَقَالَ قَتَادَةُ: {ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} قَالَ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ أَهْلِ كُلِّ (8) دِينٍ قَادَتَهُمْ [وَرُؤَسَاءَهُمْ] (9) فِي الشَّرِّ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الْأَعْرَافِ: 38، 39]
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} ثُمَّ" هَاهُنَا لِعَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ يَصْلَى بِنَارِ جَهَنَّمَ ويخلَّد فيها، وبمن (10) يستحق تضعيف
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ت، ف، أ: "ألد ولم أولد".
(3) في ف، أ: "لي".
(4) صحيح البخاري برقم (4975) .
(5) زيادة من ف، أ.
(6) زيادة من ت، ف، أ، وفي هـ: "أبي" والمثبت من الطبري.
(7) في ت: "المغيرة".
(8) في ت، ف: "من كل أهل".
(9) زيادة من ت، ف، أ.
(10) في ت، ف، أ: "ومن".(5/251)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ}
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) } .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ البُرْساني، عَنْ أَبِي سُمَيَّة قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ بَعْضُنَا: لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا. فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ: يَرِدُونَهَا جَمِيعًا -وَقَالَ سُلَيْمَانُ مَرَّةً (1) يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا-وَأَهْوَى بِأُصْبُعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: صُمّتا، إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ (2) بَرْدًا وَسَلَامًا، كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَيَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا" (3) غَرِيبٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ بَكَّارِ بْنِ (4) أَبِي مَرْوَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَان قَالَ: قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْدَمَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ: أَلَمْ يَعِدْنَا رَبُّنَا الْوُرُودَ عَلَى النَّارِ؟ قَالَ: قَدْ مَرَرْتُمْ عَلَيْهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحة وَاضِعًا رَأْسَهُ فِي حِجْر امْرَأَتِهِ، فَبَكَى، فَبَكَتِ امْرَأَتُهُ فَقَالَ (5) مَا يُبْكِيكِ؟ فَقَالَتْ: (6) رَأَيْتُكَ تَبْكِي فَبَكَيْتُ. قَالَ: إِنِّي ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ مِنْكُمْ (7) إِلا وَارِدُهَا} ، فَلَا أَدْرِي أَنْجُو مِنْهَا أَمْ لَا؟ (8) وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ مَرِيضًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَان، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْول، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: كَانَ أَبُو مَيْسَرَةَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: يَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي ثُمَّ يَبْكِي، فَقِيلَ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا مَيْسَرَةَ؟ فَقَالَ: أُخْبِرْنَا أَنَّا وَارِدُوهَا، وَلَمْ نُخْبَرْ أَنَّا صَادِرُونَ عَنْهَا (9) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِأَخِيهِ: هَلْ أَتَاكَ أَنَّكَ وَارِدٌ النَّارَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ أَتَاكَ أَنَّكَ صَادِرٌ عَنْهَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَفِيمَ الضَّحِكُ؟ [قَالَ فَمَا رُئي ضاحكًا حتى لحق بالله] (10) .
__________
(1) في أ: "سليمان بن مرة".
(2) في ف: "المؤمنين".
(3) المسند (3/328) وقال المنذري في الترغيب (2/306) : "رجاله ثقات".
(4) في ف: "عن".
(5) في ف: "قال".
(6) في أ: قالت".
(7) في ت: "وما منكم".
(8) تفسير عبد الرزاق (2/11) .
(9) تفسير الطبري (16/82) .
(10) زيادة من ف، أ، والطبري.(5/252)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَة، عَنْ عَمْرٍو، أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُخَاصِمُ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوُرُودُ (1) الدُّخُولُ؟ فَقَالَ نَافِعٌ: لَا فَقَرَأَ ابْنَ عَبَّاسٍ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] وَرَدُوا أَمْ لَا؟ وَقَالَ: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هُودٍ: 98] أورْدٌ هُوَ (2) أَمْ لَا؟ أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا، فَانْظُرْ هَلْ نَخْرُجُ مِنْهَا أَمْ لَا؟ وَمَا أَرَى اللَّهَ مُخْرِجَكَ مِنْهَا بِتَكْذِيبِكَ فَضَحِكَ نَافِعٌ (3) .
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رَاشِدٍ الحَرُوري -وَهُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ-: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 102] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيْلَكَ: أَمَجْنُونٌ أَنْتَ؟ أَيْنَ قَوْلُهُ: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هُودٍ: 98] ، {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مَرْيَمَ: 86] ، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} ؟ وَاللَّهِ إِنْ كَانَ دُعَاءُ مَنْ مَضَى: اللَّهُمَّ أَخْرِجْنِي مِنَ النَّارِ سَالِمًا، وَأَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ غَانِمًا (4) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو رَاشِدٍ، وَهُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ يَا أَبَا رَاشِدٍ فَسَنَرِدُهَا، فَانْظُرْ: هَلْ نَصْدُرُ عَنْهَا أَمْ لَا (5) .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: قَالَ شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ، عَمَّنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا [كَذَلِكَ] (6) : "وَإِنْ مِنْهُمْ إِلَّا وَارِدُهَا" يَعْنِي: الْكُفَّارَ (7)
وَهَكَذَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْوَلِيدِ الشَّنِّي (8) ، أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ: "وَإِنْ مِنْهُمْ إِلَّا وَارِدُهَا"، قَالَ: وَهُمُ الظَّلَمَةُ. كَذَلِكَ كُنَّا نَقْرَؤُهَا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} يَعْنِي: الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ لِفِرْعَوْنَ: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} ، فَسَمَّى الْوُرُودَ فِي النَّارِ دُخُولًا وَلَيْسَ بِصَادِرٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ- {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَرِدُ النَّاسُ [النَّارَ] (9) كلهم، ثم يصدرون عنها بأعمالهم".
__________
(1) في ت: "المورود".
(2) في ت: "أوردهم"، وفي أ: "أوردوها".
(3) تفسير عبد الرزاق (2/11) .
(4) رواه الطبري في تفسيره (16/82) .
(5) تفسير الطبري (16/84) .
(6) زيادة من ت، ف، أ
(7) رواه الطبري في تفسيره (16/83) .
(8) في أ: "السني".
(9) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.(5/253)
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ بِهِ (1) . وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا (2) (3) .
هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ هَاهُنَا مَرْفُوعًا. وَقَدْ رَوَاهُ أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرّة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَرِدُ النَّاسُ جَمِيعًا الصِّرَاطَ، وَوُرُودُهُمْ قِيَامُهُمْ حَوْلَ النَّارِ، ثُمَّ يَصْدُرُونَ عَنِ الصِّرَاطِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الْبَرْقِ (4) ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الطَّيْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَأَجْوَدِ الْخَيْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَأَجْوَدِ الْإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَعَدْوِ الرَّجُلِ، حَتَّى إِنَّ آخِرَهُمْ مَرًّا رَجُلٌ نُورُهُ عَلَى مَوْضِعَيْ (5) إِبْهَامَيْ قَدَمَيْهِ، يَمُرُّ يَتَكَفَّأُ (6) بِهِ الصِّرَاطَ، وَالصِّرَاطُ دَحْضُ مَزَلّة، عَلَيْهِ حَسَك كَحَسك القَتَاد، حَافَّتَاهُ مَلَائِكَةٌ، مَعَهُمْ كَلَالِيبُ مِنْ نَارٍ، يَخْتَطِفُونَ بِهَا النَّاسَ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. رَوَاهُ (7) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ (8) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: قَوْلُهُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} قَالَ: الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ مِثْلُ حَدِّ السَّيْفِ، فَتَمُرُّ الطَّبَقَةُ الْأُولَى كَالْبَرْقِ، وَالثَّانِيَةُ كَالرِّيحِ، وَالثَّالِثَةُ كَأَجْوَدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعَةُ كَأَجْوَدِ الْبَهَائِمِ، ثُمَّ يَمُرُّونَ وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلّم سَلّم.
وَلِهَذَا شَوَاهِدُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَابِرٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (9) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة عَنِ الجُرَيري، عَنْ [أَبِي السَّلِيلِ] (10) عَنْ غُنَيْم بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَكَرُوا وُرُودَ النَّارِ، فَقَالَ كَعْبٌ: تُمْسِكُ النَّارُ لِلنَّاسِ (11) كَأَنَّهَا مَتْن (12) إِهَالَةٍ حَتَّى يَسْتَوِيَ عَلَيْهَا أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ، بِرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، ثُمَّ يُنَادِيهَا مُنَادٍ: أَنِ امْسِكِي أَصْحَابَكِ، وَدَعِي أَصْحَابِي، قَالَ: فَتَخْسِفُ بِكُلِّ وَلِيٍّ لَهَا، وَلَهِيَ أَعْلَمُ بِهِمْ (13) مِنَ الرَّجُلِ بِوَلَدِهِ، وَيَخْرُجُ الْمُؤْمِنُونَ نَدِيَّةٌ ثِيَابُهُمْ. قَالَ كَعْبٌ: مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الْخَازِنِ مِنْ خَزَنَتِهَا مَسِيرَةُ سَنَةٍ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَمُودٌ ذُو شُعْبَتَيْنِ (14) ، يَدْفَعُ بِهِ الدَّفْعَ فَيَصْرَعُ بِهِ فِي النَّارِ سَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ (15) .
__________
(1) المسند (1/434) وسنن الترمذي برقم (3159) وقال: "حديث حسن، ورواه شعبة عن السدي فلم يرفعه".
(2) في ت، ف: "مرفوعا".
(3) سنن الترمذي برقم (3160) .
(4) في ف، أ: "البرق الخاطف".
(5) في أ: "موضع".
(6) في أ: "فيمر فيكفأ".
(7) في ت، ف: "ورواه".
(8) في ت: "مولى الأحوص".
(9) أما حديث أنس فرواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (367) وضعف إسناده.
وأما حديث أبي هريرة فهو في صحيح البخاري برقم (6573) وصحيح مسلم برقم (182) .
وأما حديث أبي سعيد فهو في صحيح البخاري برقم (6574) وصحيح مسلم برقم (183) .
(10) في هـ: "ابن أبي ليلى" والمثبت من ت، ف، أ، والطبري.
(11) في ف، أ: "الناس".
(12) في أ "بين".
(13) في أ: "فتخسف بكل وليها وهي أعلم بهم".
(14) في ت، ف، أ: "عمود وشعبتين".
(15) تفسير الطبري (16/82) .(5/254)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ (1) ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ أُمِّ مُبَشِّر، عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَرْجُوَ أَلَّا يَدْخُلَ النَّارَ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ-أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ" قَالَتْ (2) فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} ؟ قَالَتْ (3) : فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (4) .
وَقَالَ [الْإِمَامُ] (5) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ (6) ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ -امْرَأَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ-قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقَالَ: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ" قَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} (7) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ، إِلَّا تَحِلَّة الْقَسَمِ". (8)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي الزَّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ" يَعْنِي الْوُرُودَ (9) .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا زَمْعَة، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، تَمَسُّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ". قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَأَنَّهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (10) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيُّ (11) ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةَ (12) ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ تَمِيمٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ وعِكًا، وَأَنَا مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ؛ لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ" غَرِيبٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (13) .
وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْحُمَّى حَظُّ كَلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ: "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَة، حَدَّثَنَا زَبَّان بْنِ فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حَتَّى يَخْتِمَهَا عشر
__________
(1) في ت: "شقيق".
(2) في ت: "قال".
(3) في أ: "قال".
(4) المسند (6/285) .
(5) زيادة من ت.
(6) في ت: "شقيق".
(7) المسند (6/362) .
(8) صحيح البخاري برقم (6656) وصحيح مسلم برقم (2632) .
(9) تفسير عبد الرزاق (2/11) .
(10) مسند الطيالسي برقم (2304) .
(11) في ت: "الخلاعي".
(12) في ت: "أبو شعبة".
(13) تفسير الطبري (6/831) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (3/382) من طريق محمد بن يحيى عن أبي المغيرة به.(5/255)
مَرَّاتٍ، بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ". فَقَالَ عُمَرُ: إِذًا نَسْتَكْثِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَلَّهُ] (1) أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ" (2) .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كُتب يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُتَطَوِّعًا لَا بِأُجْرَةِ (3) سُلْطَانٍ، لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنَيْهِ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} وَإِنَّ الذِّكْرَ فِي سَبِيلِ [اللَّهِ] (4) يُضْعفُ فَوْقَ النَّفَقَةِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ". وَفِي رِوَايَةٍ: "بِسَبْعِمِائَةِ أَلْفِ ضِعْفٍ" (5)
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ [وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ] (6) كِلَاهُمَا عَنْ زَبَّانَ (7) ، عَنْ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالذِّكْرَ تُضَاعَفُ عَلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ" (8) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} قَالَ: هُوَ الْمَمَرُّ عَلَيْهَا (9)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} ، قَالَ: وُرُودُ الْمُسْلِمِينَ الْمُرُورُ عَلَى الْجِسْرِ بَيْنَ ظَهْرَيْهَا، وَوُرُودُ الْمُشْرِكِينَ: أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الزَّالُّونَ وَالزَّالَّاتُ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَقَدْ أَحَاطَ بِالْجِسْرِ يَوْمَئِذٍ سِمَاطان مِنَ الْمَلَائِكَةِ، دُعَاؤُهُمْ: يَا أَللَّهُ سَلِّمْ سَلِّمْ" (10) .
وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} قَالَ: قَسَمًا وَاجِبًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: [حَتْمًا] (11) ، قَالَ: قَضَاءً. وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ (12)
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أَيْ: إِذَا مَرَّ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ عَلَى النَّارِ، وَسَقَطَ فِيهَا مَنْ سَقَطَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْعُصَاةِ ذَوِي الْمَعَاصِي، بِحَسَبِهِمْ، نَجَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مِنْهَا بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ. فَجَوَازُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَسُرْعَتُهُمْ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُشَفَّعُونَ فِي أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ (13) ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَكَلَتْهُمُ النَّارُ، إِلَّا دَارَاتِ وُجُوهِهِمْ -وَهِيَ مَوَاضِعُ السُّجُودِ-وَإِخْرَاجُهُمْ إِيَّاهُمْ مِنَ النَّارِ بِحَسْبِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، فَيُخْرِجُونَ أَوَّلًا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، [ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ] (14) حَتَّى يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ ثم يخرج الله من النار
__________
(1) زيادة من ف، أ، والمسند.
(2) المسند (3/437) .
(3) في ت، ف،: "بأجر".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) رواه أحمد في مسنده (3/437) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه.
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في أ: "ريان".
(8) سنن أبي داود برقم (2498) .
(9) تفسير عبد الرزاق (2/11) .
(10) تفسير الطبري (16/83)
(11) زيادة من ف، أ.
(12) في ت: "ابن جرير".
(13) في ت: "فيشفع الله الملائكة والنبيين والمؤمنين
(14) زيادة من ف، أ.(5/256)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
مَنْ قَالَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (1) وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَلَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ حِينَ تُتْلَى (2) عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ ظَاهِرَةَ الدَّلَالَةِ بَيِّنَةَ الْحُجَّةِ وَاضِحَةَ الْبُرْهَانِ: أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ ذَلِكَ، وَيُعْرِضُونَ وَيَقُولُونَ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا مُفْتَخِرِينَ عَلَيْهِمْ وَمُحْتَجِّينَ عَلَى صِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْبَاطِلِ بِأَنَّهُمْ: {خَيْرٌ مَقَامًا وأَحْسَنُ نَدِيًّا} [أَيْ: أَحْسَنُ مَنَازِلَ وَأَرْفَعُ دُوْرًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا] (3) ، وَهُوَ مَجْمَعُ الرِّجَالِ لِلْحَدِيثِ، أَيْ: نَادِيهِمْ أَعْمَرُ وَأَكْثَرُ وَارِدًا وَطَارِقًا، يَعْنُونَ: فَكَيْفَ نَكُونُ وَنَحْنُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عَلَى بَاطِلٍ، وَأُولَئِكَ [الَّذِينَ هُمْ] (4) مُخْتَفُونَ مُسْتَتِرُونَ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ وَنَحْوِهَا مِنَ (5) الدُّورِ عَلَى الْحَقِّ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الْأَحْقَافِ: 11] . وَقَالَ قَوْمُ نُوحٍ: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 111] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الْأَنْعَامِ: 53] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ شُبْهَتَهُمْ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أَيْ: وَكَمْ مِنْ أُمَّةٍ وَقَرْنٍ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ قَدْ أَهْلَكْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ، {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} أَيْ: كَانُوا أَحْسَنَ مِنْ هؤلاء أموالا وأمتعة ومناظر وأشكالا.
[و] (6) قال الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَان، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} قَالَ: الْمَقَامُ: الْمَنْزِلُ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ، وَالْأَثَاثُ: الْمَتَاعُ، وَالرِّئْيُ: الْمَنْظَرُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمَقَامُ: الْمَسْكَنُ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ وَالنِّعْمَةُ وَالْبَهْجَةُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، وَهُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ حِينَ (7) أَهْلَكَهُمْ وَقَصَّ شَأْنَهُمْ فِي الْقُرْآنِ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ (8) وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدُّخَانِ: 25، 26] ، فَالْمَقَامُ: الْمَسْكَنُ وَالنَّعِيمُ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ وَالْمَجْمَعُ الَّذِي كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَقَالَ [اللَّهُ] (9) فِيمَا قَصَّ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْرِ قَوْمِ لُوطٍ (10) : {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 29] ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَجْلِسَ: النَّادِي.
وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْشِهِمْ خُشُونَةٌ، وَفِيهِمْ قَشَافَةٌ، تَعَرّض (11) أَهْلُ الشِّرْكِ بِمَا تَسْمَعُونَ (12) : {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْأَثَاثِ: هُوَ الْمَالُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَتَاعُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الثِّيَابُ، وَالرِّئْيُ: الْمَنْظَرُ كَمَا قَالَ ابن عباس، ومجاهد وغير واحد.
__________
(1) في ف: "من قال: لا إله إلا الله يوما من الدهر".
(2) في ف: "يتلى".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ت: "في".
(6) زيادة من ت.
(7) في ت: "حتى".
(8) في ت، ف، أ: "وكنوز".
(9) زيادة من ت، ف.
(10) في أ: "لوط إذ قال".
(11) في ت: "وفيهم".
(12) في ت، ف، أ: "يسمعون"(5/257)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي الصُّوَرَ، وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ: {أَثَاثًا وَرِئْيًا} : أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَحْسَنُ صُوَرًا. وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ صَحِيحٌ.
{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمُ الْمُدَّعِينَ، أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّكُمْ عَلَى الْبَاطِلِ: {مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ} أَيْ: مِنَّا وَمِنْكُمْ، {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} أَيْ: فَأَمْهَلَهُ الرَّحْمَنُ (1) فِيمَا هُوَ فِيهِ، حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ وَيَنْقَضِيَ (2) أَجْلُهُ، {إِمَّا الْعَذَابَ} يُصِيبُهُ، {وَإِمَّا السَّاعَةَ} بَغْتَةً تَأْتِيهِ، {فَسَيَعْلَمُونَ} حِينَئِذٍ {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} [أَيْ] (3) : فِي مُقَابَلَةِ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ خَيْرِيَّةِ الْمَقَامِ وَحُسْنِ النَّدِيِّ.
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} فَلْيَدَعْهُ اللَّهُ فِي طُغْيَانِهِ. هَكَذَا قَرَّرَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَهَذِهِ مُبَاهَلَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى فِيمَا هُمْ فِيهِ (4) ، كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى مُبَاهَلَةَ الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الْجُمُعَةِ: 6] أَيِ: ادْعُوا عَلَى الْمُبْطِلِ مِنَّا وَمِنْكُمْ بِالْمَوْتِ (5) إِنْ كُنْتُمْ تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّكُمُ الدُّعَاءُ، فَنَكَلُوا عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" مَبْسُوطًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَكَمَا ذَكَرَ تَعَالَى الْمُبَاهَلَةَ مَعَ النَّصَارَى فِي سُورَةِ "آلِ عِمْرَانَ" حِينَ (6) صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى الطُّغْيَانِ وَالْغُلُوِّ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ عِيسَى وَلَدُ اللَّهِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ حُجَجه وَبَرَاهِينَهُ عَلَى عُبُودِيَّةِ عِيسَى، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ كَآدَمَ، قَالَ (7) بَعْدَ ذَلِكَ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 61] فَنَكَلُوا أَيْضًا عَنْ ذَلِكَ.
{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) } .
لَمَّا ذَكَرَ [اللَّهُ] (8) تَعَالَى إِمْدَادَ مَنْ هُوَ فِي الضَّلَالَةِ فِيمَا هُوَ فِيهِ وَزِيَادَتَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ الْمُهْتَدِينَ هُدى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125] .
__________
(1) في ت، ف، أ: "الله".
(2) في أ: "ويقضي".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون على هدى قيامهم".
(5) في ف: "أي ادعوا بالموت على المبطل منا ومنكم"، وفي أ: "أي ادعوا بالموت على المبطل منا أو منكم".
(6) في أ: "حتى".
(7) في ت: "وقال".
(8) زيادة من ت.(5/258)
وَقَوْلُهُ: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَإِيرَادُ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا فِي سُورَةِ "الْكَهْفِ".
{خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} أَيْ: جَزَاءً {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} أَيْ: عَاقِبَةً وَمَرَدًّا عَلَى صَاحِبِهَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَخَذَ عُودًا يَابِسًا فَحَطَّ وَرَقَهُ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ قَوْلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، تَحُطُّ الْخَطَايَا كَمَا تَحُطُّ وَرَقَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الرِّيحُ (1) ، خُذْهُنَّ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ، هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَهُنَّ (2) مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ" قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: لَأُهَلِّلَنَّ اللَّهَ، وَلَأُكَبِّرَنَّ اللَّهَ، وَلَأُسَبِّحَنَّ اللَّهَ، حَتَّى إِذَا رَآنِي الْجَاهِلُ حَسِبَ أَنِّي مَجْنُونٌ (3)
وَهَذَا ظَاهِرُهُ (4) أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا وَقَعَ فِي سُنَنِ ابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ عُمر (5) بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فذكر نحوه (6)
__________
(1) في أ: "كما يحط ورق هذا الشجر الريح".
(2) في أ: "وهو".
(3) تفسير عد الرزاق (2/12) .
(4) في أ: "وهذا ظاهر".
(5) في ت: "عمرو".
(6) سنن ابن ماجه برقم (3813) وقال البوصيري في الزوائد (3/194) : "هذا إسناد ضعيف".(5/259)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) } .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ (1) [فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2) حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: فَإِنِّي إِذَا مُتُّ ثُمَّ بُعِثْتُ جِئْتَنِي وَلِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ، فَأَعْطَيْتُكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} .
أَخْرَجَهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُمَا، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ (3) ، وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ: كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ، فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ سَيْفًا، فَجِئْتُ أَتَقَاضَاهُ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ: {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ: مَوْثِقًا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ خَبَّاب
__________
(1) في ت: "محمد".
(2) زيادة من ف، أ، والمسند.
(3) المسند (4/111) وصحيح البخاري برقم (2091) ، (4734، 4735) وصحيح مسلم برقم (2795) .(5/259)
بْنُ الْأَرَتِّ، كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ، فَكُنْتُ أَعْمَلُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، قَالَ: فَاجْتَمَعَتْ لِي عَلَيْهِ دَرَاهِمُ، فَجِئْتُ لِأَتَقَاضَاهُ (1) ، فَقَالَ لِي: لَا أَقْضِيكَ (2) حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: فَإِذَا بُعِثْتُ كَانَ لِي مَالٌ وَوَلَدٌ. قَالَ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} (3) .
وَقَالَ العَوْفِيّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كَانُوا يَطْلُبُونَ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ بِدَيْنٍ، فَأَتَوْهُ يَتَقَاضُونَهُ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَحَرِيرًا، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ (4) الْآخِرَةُ، فَوَاللَّهِ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا، وَلَأُوتَيَنَّ مِثْلَ كِتَابِكُمُ الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ. فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَهُ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ (5) {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا}
وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ.
وَقَوْلُهُ: {لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ "الْوَاوِ" مِنْ "وَلَدًا" وَقَرَأَ آخَرُونَ بِضَمِّهَا، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، قَالَ رُؤْبَةُ:
الحمْدُ للهِ الْعَزِيزِ فَرْدًا ... لَمْ يَتَّخِذْ مِنْ وُلْد شَيْءٍ وُلْدا (6)
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
وَلَقَد رأيتُ معَاشرًا ... قَدْ تمرُوا مَالًا وَولْدا (7)
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَيت فُلانًا كانَ فِي بَطْن أُمِّهِ ... وَليتَ فُلانًا كَانَ وُلْد حِمَار (8)
وَقِيلَ: إِنَّ "الوُلْد" بِالضَّمِّ جَمْعٌ، "والوَلَد" بِالْفَتْحِ مُفْرَدٌ، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} : إِنْكَارٌ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ، {لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ: أَعَلِمَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى تَألى (9) وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} : أَمْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ سَيُؤْتِيهِ ذَلِكَ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: أَنَّهُ الْمَوْثِقُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَرْجُوَ بِهَا (10) . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (11) قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} .
__________
(1) في ف، أ: "أتقاضاه".
(2) في أ: "فقال لي أقضيك".
(3) تفسير عبد الرزاق "2/13".
(4) في ت: "قال فموعدكم".
(5) في ت: "فقالوا".
(6) الرجز في تفسير الطبري (16/92) .
(7) البيت في تفسير الطبري (16/92) .
(8) البيت في تفسير الطبري (16/92) واللسان مادة "ولد" غير منسوب.
(9) في أ: "حتى مالأ".
(10) في أ: "فيرجونها".
(11) في ف: "أم اتخذ"، وفي هـ: "إلا من اتخذ"، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.(5/260)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
وَقَوْلُهُ: {كَلا} : هِيَ حَرْفُ رَدْع لِمَا قَبْلَهَا وَتَأْكِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا، {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} أَيْ: مِنْ طَلَبِهِ ذَلِكَ وحُكْمه لِنَفْسِهِ بِمَا تَمَنَّاهُ، وَكَفْرِهِ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ، وَكُفْرِهِ [بِاللَّهِ] (1) فِي الدُّنْيَا.
{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أَيْ: مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، نَسْلُبُهُ مِنْهُ، عَكْسَ مَا قَالَ: إِنَّهُ يُؤْتى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مَالًا وَوَلَدًا، زِيَادَةً عَلَى الَّذِي لَهُ فِي الدُّنْيَا؛ بَلْ فِي الْآخِرَةِ يُسلَب مِنَ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} أَيْ: مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} ، [قَالَ: نَرِثُهُ] (2)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} : مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَذَلِكَ الَّذِي قَالَ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مُعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} قَالَ: مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَنَرِثُهُ مَا عِنْدَهُ".
وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} : لَا مَالَ لَهُ، وَلَا وَلَدَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} قَالَ: مَا جَمَعَ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا عَمِلَ فِيهَا، قَالَ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} قَالَ: فَرْدًا مِنْ ذَلِكَ، لَا يَتْبَعُهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ.
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمْ: أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، لِتَكُونَ تِلْكَ الْآلِهَةُ {عِزًّا} يَعْتَزُّونَ بِهَا وَيَسْتَنْصِرُونَهَا.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، وَلَا يَكُونُ مَا طَمِعُوا، فَقَالَ: {كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} أَيْ: بِخِلَافِ مَا ظَنُّوا فِيهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (3) } [الْأَحْقَافِ: 5، 6]
وَقَرَأَ أَبُو نَهِيك: "كُلٌّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ".
وَقَالَ السُّدِّيُّ (4) : {كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} أَيْ: بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَقَوْلُهُ: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} أَيْ: بِخِلَافِ مَا رَجَوا مِنْهُمْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} قَالَ: أَعْوَانًا.
قَالَ مجاهد: عونًا عليهم، تُخَاصِمُهم وتُكَذّبهم.
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.
(3) في ت: "كافرون"، وهو خطأ.
(4) في ت: "السندي".(5/261)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} قَالَ: قُرَنَاءَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: قُرَنَاءَ فِي النَّارِ، يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَكْفُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} قَالَ: الْخُصَمَاءُ الْأَشِدَّاءُ فِي الْخُصُومَةِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} قَالَ: أَعْدَاءً.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الضِّدُّ: الْبَلَاءُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الضِّدُّ: الْحَسْرَةُ.
وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُغْوِيهِمْ إِغْوَاءً.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: تُحَرِّضُهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تُشليهم إِشْلَاءً (1) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا إِلَى مَعَاصِي اللَّهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: تُغْرِيهِمْ إِغْرَاءً وَتَسْتَعْجِلُهُمُ اسْتِعْجَالًا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: تُطْغِيهِمْ طُغْيَانًا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزُّخْرُفِ: 36] .
وَقَوْلُهُ: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} أَيْ: لَا تَعْجَلْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي وُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ، {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} أَيْ: إِنَّمَا نُؤَخِّرُهُمْ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ مَضْبُوطٍ، وَهُمْ صَائِرُونَ لَا مَحَالَةَ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ وَنَكَالِهِ، {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ} [إِبْرَاهِيمَ: 42] ، {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطَّارِقِ: 17] {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آلِ عِمْرَانَ: 178] ، {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لُقْمَانَ: 24] ، {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إِبْرَاهِيمَ: 30] .
قَالَ السُّدِّيُّ: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} السِّنِينَ، وَالشُّهُورَ، وَالْأَيَّامَ، وَالسَّاعَاتِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} قَالَ: نَعُدُّ أَنْفَاسَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) } .
__________
(1) في ف: "تمليهم إملاء".(5/262)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ خَافُوهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا (1) وَاتَّبَعُوا رُسُلَهُ وَصَدَّقُوهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ، وَأَطَاعُوهُمْ فِيمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ، وَانْتَهَوْا عَمَّا عَنْهُ زَجَرُوهُمْ: أَنَّهُ (2) يَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفْدًا إِلَيْهِ. وَالْوَفْدُ: هُمُ الْقَادِمُونَ رُكْبَانًا، وَمِنْهُ الْوُفُودُ وَرُكُوبُهُمْ عَلَى نَجَائِبَ مِنْ نُورٍ، مِنْ مَرَاكِبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُمْ قَادِمُونَ عَلَى خَيْرِ مَوْفُودٍ إِلَيْهِ، إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ وَرِضْوَانِهِ. وَأَمَّا الْمُجْرِمُونَ الْمُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُسَاقُونَ عُنْفًا إِلَى النَّارِ، {وِرْدًا} عِطَاشًا، قَالَهُ [عَطَاءٌ] (3) ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهَاهُنَا يُقَالُ: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مَرْيَمَ: 73] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ خَالِدٍ (4) ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ، عَنِ ابْنِ مَرْزُوقٍ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} قَالَ: يَسْتَقْبِلُ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ أَحْسَنُ صُورَةٍ رَآهَا، وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ وَحَسَّنَ وَجْهَكَ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، وَهَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا، حَسَنَ الْعَمَلِ طَيِّبَهُ، فَطَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا، فَهَلُمَّ ارْكَبْنِي، فَيَرْكَبُهُ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} قَالَ: رُكْبَانًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ (5) ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} قَالَ: عَلَى الْإِبِلِ.
وَقَالَ ابْنُ جُريج: عَلَى النَّجَائِبِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَلَى الْإِبِلِ النُّوقِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} قَالَ: إِلَى الْجَنَّةِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ: حَدَّثَنَا سُوَيْد بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِر، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا النُّعْمَانُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشَرُونَ، وَلَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَكِنْ بِنُوقٍ لَمْ يَرَ (6) الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ، فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ (7) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَدَنِيِّ، بِهِ. وَزَادَ: "عَلَيْهَا رَحَائِلُ الذَّهَبِ، وَأَزِمَّتُهَا الزَّبَرْجَدُ" وَالْبَاقِي مِثْلُهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا مَرْفُوعًا، عَنْ عَلِيٍّ فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّهْدِيُّ، حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ جَعْفَرٍ البَجَلي،
__________
(1) في ف: "الآخرة".
(2) في أ: "أن".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف: "أبو خالد".
(5) في أ: "سعيد".
(6) في ف، أ: "لم تر".
(7) زوائد المسند (1/155) وتفسير الطبري (16/96) .(5/263)
سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْبَصْرِيَّ قَالَ: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} فَقَالَ: مَا أَظُنُّ الْوَفْدَ إِلَّا الرَّكْبَ (1) يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ يُسْتَقْبَلُونَ -أَوْ: يُؤْتَوْنَ-بِنُوقٍ بِيضٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ، وَعَلَيْهَا رِحَالُ الذَّهَبِ، شُرُك نِعَالِهِمْ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ كُلُّ خَطْوَةٍ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ، فَيَنْتَهُونَ إِلَى شَجَرَةٍ يَنْبُعُ مَنْ أَصِلُهَا عَيْنَانِ، فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَتَغْسِلُ مَا فِي بُطُونِهِمْ مَنْ دَنَسٍ، وَيَغْتَسِلُونَ مِنَ الْأُخْرَى فَلَا تَشْعَثُ أَبْشَارُهُمْ وَلَا أَشْعَارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ، فَيَنْتَهُونَ أَوْ: فَيَأْتُونَ بَابَ الْجَنَّةِ، فَإِذَا حَلْقَةٌ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ عَلَى صَفَائِحِ الذَّهَبِ، فَيَضْرِبُونَ بِالْحَلْقَةِ عَلَى الصَّفِيحَةِ (3) فَيُسْمَعُ (4) لَهَا طَنِينٌ يَا عَلِيُّ، فَيَبْلُغُ كُلَّ حَوْرَاءَ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ أَقْبَلَ، فَتَبْعَثُ قَيِّمَهَا فَيَفْتَحُ لَهُ، فَإِذَا رَآهُ خَرَّ لَهُ -قَالَ مَسْلَمَةُ (5) أُرَاهُ قَالَ: سَاجِدًا-فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَإِنَّمَا أَنَا قَيِّمُكَ، وُكِّلْتُ بِأَمْرِكَ. فَيَتْبَعُهُ وَيَقْفُو أَثَرَهُ، فَتَسْتَخِفُّ الْحَوْرَاءَ الْعَجَلَةُ فَتَخْرُجُ مِنْ خِيَامِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ حَتَّى تَعْتَنِقَهُ، ثُمَّ تَقُولُ: أَنْتَ -حِبّي، وَأَنَا حِبُّكَ، وَأَنَا الْخَالِدَةُ الَّتِي لَا أَمُوتُ، وَأَنَا النَّاعِمَةُ الَّتِي لَا أَبْأَسُ، وَأَنَا الرَّاضِيَةُ الَّتِي لَا أَسْخَطُ، وَأَنَا الْمُقِيمَةُ الَّتِي لَا أَظْعَنُ. فَيَدْخُلُ بَيْتًا مِنْ أُسِّهِ إِلَى سَقْفِهِ مِائَةُ أَلْفِ ذِرَاعٍ، بِنَاؤُهُ عَلَى جَنْدَلِ اللُّؤْلُؤِ طَرَائِقُ: أَصْفَرُ وَأَحْمَرُ وَأَخْضَرُ، لَيْسَ مِنْهَا طَرِيقَةٌ تُشَاكِلُ صَاحِبَتَهَا. وَفِي الْبَيْتِ سَبْعُونَ سَرِيرًا، عَلَى كُلِّ سَرِيرٍ سَبْعُونَ حَشِيَّةً، عَلَى كُلِّ حَشِيَّةٍ سَبْعُونَ زَوْجَةً، عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً، يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ الْحُلَلِ، يَقْضِي جِمَاعَهَا فِي مِقْدَارِ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيكُمْ هَذِهِ. الْأَنْهَارُ مِنْ تَحْتِهِمْ تَطَّرِدُ، أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ -قَالَ: صَافٍ لَا كَدَر فِيهِ (6) -وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ضُرُوعِ الْمَاشِيَةِ، وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، لَمْ يَعْتَصِرْهَا (7) الرِّجَالُ بِأَقْدَامِهِمْ (8) وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بُطُونِ النَّحْلِ، فَيَسْتَحْلِي (9) الثِّمَارَ، فَإِنْ شَاءَ أَكَلَ قَائِمًا، وَإِنْ شَاءَ قَاعِدًا، وَإِنْ شَاءَ مُتَّكِئًا، ثُمَّ تَلَا {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا} [الْإِنْسَانِ: 14] ، فَيَشْتَهِي الطَّعَامَ، فَيَأْتِيهِ طَيْرٌ أَبْيَضُ، وَرُبَّمَا قَالَ: أَخْضَرُ (10) فَتَرْفَعُ أَجْنِحَتَهَا، فَيَأْكُلُ مِنْ جُنُوبِهَا أَيَّ الْأَلْوَانِ شَاءَ، ثُمَّ تَطِيرُ فَتَذْهَبُ، فَيَدْخَلُ الْمَلَكُ فَيَقُولُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزُّخْرُفِ: 72] وَلَوْ أَنَّ شَعْرَةً مِنْ شَعْرِ الْحَوْرَاءِ (11) وَقَعَتْ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، لَأَضَاءَتِ الشَّمْسُ مَعَهَا سَوَادٌ فِي نُورٍ" (12) .
هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَرْفُوعًا، وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِنَحْوِهِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصِّحَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} أَيْ: عِطَاشًا.
{لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ، كَمَا يَشْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100، 101]
__________
(1) في أ: "الركوب".
(2) في أ: "النبي".
(3) في ف: "الصفحة".
(4) في أ: "فلو تسمع".
(5) في ف، أ: "سلمة".
(6) في ف: "فيها".
(7) في ف، أ: "يعصرها".
(8) في أ: "بأقدامها".
(9) في ف، أ: "فيستميل".
(10) في ف، أ: "خضر".
(11) في ف: "الحور العين"، وفي أ: "من شعر الحور".
(12) ورواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة برقم (7) من طريق الضحاك بن مزاحم، عن الحارث، عن علي أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ هذه الآية: (يوم يحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) فذكر نحوه.(5/264)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
وَقَوْلُهُ: {إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} : هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، بِمَعْنَى: لَكِنْ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهَا.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ: الْعَهْدُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَلَا يَرْجُو إِلَّا اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي فاخِتَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ-هَذِهِ الْآيَةَ: {إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} ثُمَّ قَالَ: اتَّخِذُوا عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ فَلْيَقُمْ" قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَعلمنا. قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى عَمَلٍ تُقَرِّبُنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبَاعِدُنِي (1) مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، فَاجْعَلْ (2) لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُؤدّيه إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: فَحَدَّثَنِي زَكَرِيَّا، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ: وَكَانَ يُلْحِقُ بِهِنَّ: خَائِفًا مُسْتَجِيرًا مُسْتَغْفِرًا، رَاهِبًا رَاغِبًا إِلَيْكَ (3) .
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، بِنَحْوِهِ.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) } .
لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ عُبُودِيَّةَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَكَرَ خَلْقَهُ مِنْ مَرْيَمَ بِلَا أَبٍ، شَرَعَ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا-فَقَالَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ} أَيْ: فِي قَوْلِكُمْ هَذَا، {شَيْئًا إِدًّا} (4) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ: أَيْ عَظِيمًا.
وَيُقَالُ: {إِدًّا} بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا، وَمَعَ مَدِّهَا أيضا، ثلاث لغات، أشهرها الأولى.
__________
(1) في ف، أ: "ويباعوني".
(2) في أ: "فاجعله".
(3) ورواه الحاكم في المستدرك (2/377) من طريق عبد الرحمن بن سعد عن المسعودي عن عون عن الأسود بن يزيد عن ابن مسعود بنحوه، ولم يذكر أبا فاختة، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(4) في ف: (شيئا إدا) : أي: في قولكم هذا.(5/265)
وَقَوْلُهُ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} أَيْ: يَكَادُ يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ سَمَاعِهِنَّ (1) هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ فَجَرَةِ بَنِي آدَمَ، إِعْظَامًا لِلرَّبِّ وَإِجْلَالًا؛ لِأَنَّهُنَّ مَخْلُوقَاتٌ وَمُؤَسَّسَاتٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا وَلَدَ لَهُ، وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ، وَلَا كُفْءَ لَهُ، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ:
وَفِي كُلّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ ... تَدُل عَلَى أَنَّهُ واحِدُ ...
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} قَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ (2) فَزِعَتْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ، فَكَادَتْ أَنْ تَزُولَ مِنْهُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَكَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ إِحْسَانُ الْمُشْرِكِ، كَذَلِكَ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ ذُنُوبَ الْمُوَحِّدِينَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا عِنْدَ مَوْتِهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ قَالَهَا فِي صِحَّتِهِ؟ قَالَ: "تِلْكَ أَوْجَبُ وَأَوْجَبُ". ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ جِيءَ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ (3) وَمَا فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَمَا تَحْتَهُنَّ، فَوُضِعْنَ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَوُضِعَتْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى، لَرَجَحَتْ بِهِنَّ" (4)
هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أَيْ: يَتَشَقَّقْنَ فَرَقًا (5) مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {وَتَنْشَقُّ الأرْضُ} أَيْ: غَضَبًا لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
{وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَدْمًا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {هَدًّا} يَنْكَسِرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ مُتَتَابِعَاتٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُوَيْد الْمَقْبُرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَوْنِ بْنِ (6) عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ الْجَبَلَ لِيُنَادِي الْجَبَلَ بِاسْمِهِ: يَا فُلَانُ، هَلْ مَرَّ بِكَ الْيَوْمَ ذاكرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ (7) ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَيَسْتَبْشِرُ. قَالَ عَوْنٌ: لَهِيَ (8) لِلْخَيْرِ أَسْمَعُ، أَفَيَسْمَعْنَ (9) الزُّورَ وَالْبَاطِلَ إِذَا قِيلَ وَلَا يَسْمَعْنَ (10) غَيْرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (11)
__________
(1) في ف، أ: "سماعهم".
(2) في أ: "الشريك".
(3) في أ: "والأرض".
(4) تفسير الطبري (16/98) .
(5) في ف: "فرعا"، وفي أ: "أي ينشق فزعا".
(6) في ف: "ابن".
(7) في ف، أ: "ذاكر الله تعالى".
(8) في أ: "فهي".
(9) في ف، أ: "أفيستمعن".
(10) في ف، أ: "يستمعن".
(11) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1176) من طريق ابن أبي عمر، عن سفيان، عن مسعر به، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (9/107) من طريق سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عن عون، عن ابن مسعود، بنحوه. وقال الهيثمي في المجمع (10/79) : "رجاله رجال الصحيح".(5/266)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا هَوْذَة، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ غَالِبِ بْنِ عَجْرَد، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فِي مَسْجِدِ مِنَى قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ وَخَلَقَ مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ، لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ شَجَرَةٌ يَأْتِيهَا بَنُو آدَمَ إِلَّا أَصَابُوا مِنْهَا مَنْفَعَةً -أَوْ قَالَ: كَانَ لَهُمْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ-وَلَمْ تَزَلِ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بِذَلِكَ، حَتَّى تَكَلَّمَ فَجَرَةُ بَنِي آدَمَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الْعَظِيمَةِ، قَوْلِهِمُ: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} فَلَمَّا تَكَلَّمُوا بِهَا اقْشَعَرَّتِ الْأَرْضُ، وَشَكَاكَ الشَّجَرُ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: غَضِبَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَاسْتَعَرَتِ النَّارُ (1) ، حِينَ قَالُوا مَا قَالُوا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَحَدٌ (2) أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ (3) مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ، وَيُجْعَلُ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ وَيَرْزُقُهُمْ".
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (4) وَفِي لَفْظٍ: "إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ يرزُقُهم وَيُعَافِيهِمْ".
وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} أَيْ: لَا يَصْلُحُ لَهُ، وَلَا يَلِيقُ بِهِ لِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا كُفْءَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ (5) ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ عَبِيدٌ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أَيْ: قَدْ عَلِمَ عَدَدَهم مُنْذُ خَلْقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ذَكَرهم وَأُنْثَاهُمْ وَصَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ،
{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} أَيْ: لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مُجِيرَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَيَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّة، وَلَا يظلم أحدا.
__________
(1) في ف، أ: "وأسعرت جهنم".
(2) في ف: "لا أحد".
(3) في ف، أ: "سمعه".
(4) المسند (4/405) وصحيح البخاري برقم (6099) وصحيح مسلم برقم (2804) .
(5) في ف، أ: "الخلق".(5/267)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَغْرِسُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، لِمُتَابَعَتِهَا الشَّرِيعَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ -يَغْرِسُ لَهُمْ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مَوَدَّةً، وَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا مَحِيدَ (1) عَنْهُ. وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانة، حَدَّثَنَا سُهَيْل، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ، إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ. قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ". قَالَ: "ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا". قَالَ: "فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ، إِنِّي أبغضُ فُلَانًا
__________
(1) في أ: "فلا محيد".(5/267)
فَأَبْغِضْهُ". قَالَ: "فَيَبْغَضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ". قَالَ: "فيُبْغضُه أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْل (1) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ مُوسَى بْنِ عُتْبَةَ (2) عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ (4) ، حَدَّثَنَا مَيْمُونٌ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْئِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ ثَوْبَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (5) إِنَّ الْعَبْدَ لَيَلْتَمِسُ مَرْضَاتَ (6) اللَّهِ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ (7) فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لِجِبْرِيلَ: إِنَّ فُلَانًا عَبْدِي يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِي؛ أَلَا وَإِنَّ رَحْمَتِي عَلَيْهِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: "رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ"، وَيَقُولُهَا (8) حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَيَقُولُهَا مَنْ حَوْلَهُمْ، حَتَّى يَقُولَهَا أَهْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ثُمَّ يَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ" (9)
غَرِيبٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا شَرِيك، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ أَبِي ظَبْيَة، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْمِقَةَ مِنَ اللَّهِ -قَالَ شَرِيكٌ: هِيَ الْمَحَبَّةُ-وَالصِّيتَ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ لِجِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ: إِنَّ رَبَّكُمْ يَمِقُ (10) -يَعْنِي: يُحِبُّ-فُلَانًا، فَأَحِبُّوهُ -وَأَرَى شَرِيكًا قَدْ قَالَ: فَتُنَزَّلُ لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي الْأَرْضِ-وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا قَالَ لِجِبْرِيلَ: إِنِّي أَبْغَضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ"، قَالَ: "فَيُنَادِي جِبْرِيلُ: إِنَّ رَبَّكُمْ يَبْغَضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ". قَالَ: أَرَى شَرِيكًا قَدْ قَالَ: فَيَجْرِي لَهُ الْبُغْضُ فِي الْأَرْضِ" (11) . غَرِيبٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الحَفَريّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الدَّرَاوَرْدي-عَنْ سُهَيْلِ بْنِ (12) أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا، فَأَحِبَّهُ، فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ يُنَزِّلُ لَهُ الْمَحَبَّةَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}
__________
(1) المسند (2/413) وصحيح مسلم برقم (2637) .
(2) في ف، أ: "ابن عيينة".
(3) المسند (2/4/5) وصحيح البخاري برقم (6040) .
(4) في ف، أ: "ابن بكير".
(5) في ف، أ: "أنه قال".
(6) في أ: "فرحات".
(7) في أ: "بذلك".
(8) في ت: "ويقول".
(9) المسند (5/279) .
(10) في أ: "يمقه".
(11) المسند (5/263) .
(12) في ف: "عن".(5/268)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ الدَّرَاوِرْدِيِّ، بِهِ (1) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} قَالَ: حُبًّا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنْهُ: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} قَالَ: مَحَبَّةً فِي النَّاسِ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْهُ: يُحِبُّهُمْ ويُحببهم، يَعْنِي: إِلَى خَلْقِهِ الْمُؤْمِنِينَ. كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا، وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْوُدُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ، وَاللِّسَانُ الصَّادِقُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} إِي وَاللَّهِ، فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، ذُكِرَ (2) لَنَا أَنَّ هَرِم بْنَ حَيَّان كَانَ يَقُولُ: مَا أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ إِلَّا أَقْبَلَ اللَّهُ بِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَرْزُقَهُ مَوَدَّتَهُمْ وَرَحْمَتَهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَعْمَلُ خَيْرًا، أَوْ شَرًّا، إِلَّا كَسَاهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، رِدَاءَ عَمَلِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَان، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيح، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لَأَعْبُدَنَّ اللَّهَ عِبَادَةً أُذْكَرُ بِهَا، فَكَانَ لَا يُرَى فِي حِينِ صَلَاةٍ إِلَّا قَائِمًا يُصَلِّي، وَكَانَ أَوَّلَ دَاخِلٍ إِلَى الْمَسْجِدِ وَآخَرَ خَارِجٍ، فَكَانَ لَا يُعَظَّمُ، فَمَكَثَ بِذَلِكَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ لَا يَمُرُّ عَلَى قَوْمٍ إِلَّا قَالُوا: "انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُرَائِي" فَأَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: لَا أَرَانِي أُذْكَرُ إِلَّا بِشَرّ، لَأَجْعَلَنَّ عَمَلِي كُلَّهُ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ (3) قَلَبَ نِيَّتَهُ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، فَكَانَ يَمُرُّ بَعْدُ بِالْقَوْمِ، فَيَقُولُونَ: رَحِمَ اللَّهُ فُلَانًا الْآنَ، وَتَلَا الْحَسَنُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَثَرًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هِجْرَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. وَهُوَ خَطَأٌ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ بِتَمَامِهَا (4) مَكِّيَّةٌ لَمْ يَنْزِلْ مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَصِحَّ سَنَدُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، {بِلِسَانِكَ} أَيْ: يَا مُحَمَّدُ، وَهُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ الْفَصِيحُ الْكَامِلُ، {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} أَيِ: الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ الْمُصَدِّقِينَ لِرَسُولِهِ، {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} أَيْ: عُوَّجًا عَنِ الْحَقِّ مَائِلِينَ إِلَى الْبَاطِلِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: {قَوْمًا لُدًّا} لا يستقيمون.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2637) وسنن الترمذي برقم (3161) .
(2) في أ: "وذكر".
(3) في أ: "أنه".
(4) في أ: "بكمالها"(5/269)
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ -وَهُوَ السُّدِّي-عَنْ أَبِي صَالِحٍ: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} عُوَّجًا عَنِ الْحَقِّ.
[وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْخَصْمُ، وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: الْأَلَدُّ: الْكَذَّابُ] (1)
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {قَوْمًا لُدًّا} صُمًّا.
وَقَالَ غَيْرُهُ صُمُّ آذَانِ الْقُلُوبِ (2)
وَقَالَ قَتَادَةُ: {قَوْمًا لُدًّا} يَعْنِي قُرَيْشًا.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {قَوْمًا لُدًّا} فُجَّارًا، وَكَذَا رَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَلَدُّ: الظَّلُومُ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [الْبَقَرَةِ: 204] .
وَقَوْلُهُ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أَيْ: مِنْ أُمَّةٍ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} أَيْ: هَلْ تَرَى مِنْهُمْ أَحَدًا، أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَير، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي: صَوْتًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وقَتَادَةُ: هَلْ تَرَى عَيْنًا، أَوْ تَسْمَعُ صَوْتًا.
وَالرِّكْزُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: هُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، قَالَ الشَّاعِرُ (3) :
فَتَوجست (4) رِكْز الْأَنِيسِ فَرَاعَها ... عَنْ ظَهْر غَيب والأنيسُ سَقَامُها ...
آخر تفسير "سورة مريم" ولله الحمد والمنة. ويتلوه إن شاء الله تعالى تفسير "سورة طه" والحمد لله.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "وقال غيرهم آذان القلوب".
(3) البيت في تفسير الطبري (16/102) غير منسوب، وهو للبيد بن ربيعة من معلقته في ديوانه (ص311) ا. هـ. مستفادا من حاشية ط - الشعب.
(4) في ف: "فتوحشت".(5/270)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
تَفْسِيرُ سُورَةِ طه
هِيَ مَكِّيَّةٌ.
رَوَى إِمَامُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ " التَّوْحِيدِ "، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الحِزَامي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ ذَكْوَان، عَنْ مَوْلَى الحُرقة -يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَعْقُوبَ -عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ قَرَأَ " طه " وَ " يس " قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفِ عَامٍ، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ قَالُوا: طُوبَى لِأَمَةٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ هَذَا (1) وَطُوبَى لِأَجْوَافٍ تَحْمِلُ هَذَا، وَطُوبَى لِأَلْسُنٍ تَتَكَلَّمُ (2) بِهَذَا " (3) .
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ نَكَارَةٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ وَشَيْخُهُ تُكلِّم فِيهِمَا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{طه (1) مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنزيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) }
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَنْبَةَ (4) الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ -يَعْنِي: الزُّبَيْرِيَّ -أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: طه: يَا رَجُلُ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جبير، و [عطاء] (5) وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَالْحَسَنِ، وقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ، وَابْنِ أَبْزَى أَنَّهُمْ قَالُوا: "طه" بِمَعْنَى: يَا رَجُلُ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهَا (6) كَلِمَةٌ بِالنَّبَطِيَّةِ مَعْنَاهَا: يَا رَجُلُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ هِيَ مُعَرّبة.
وَأَسْنَدَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِهِ "الشِّفَاءِ" مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حميد في تفسيره: حدثنا هاشم بن
__________
(1) في ف: "هذا عليهم".
(2) في أ: "تكلم".
(3) التوحيد (ص 109) ورواه ابن أبي عاصم في السنة برقم (607) واللالكائي في شرح السنة برقم (368) من طريق إبراهيم بن المنذر به.
قال ابن حبان: "هذا متن موضوع"، وقال ابن عدي: "لم أجد لإبراهيم- أي: ابن مهاجر- حديثا أنكر من هذا؛ لأنه لا يرويه غيره".
(4) في ف: "شيبة".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في أ: "أنه".(5/271)
[الْقَاسِمِ] (1) عَنِ ابْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى، فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {طه} ، يَعْنِي: طَأِ الْأَرْضَ يَا مُحَمَّدُ، {مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} . ثُمَّ قَالَ: وَلَا خَفَاءَ بِمَا فِي هَذَا مِنَ الْإِكْرَامِ وَحُسْنِ (2) الْمُعَامَلَةِ (3) .
وَقَوْلُهُ {مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} قَالَ جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ عَلَى رَسُولِهِ، قَامَ بِهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى مُحَمَّدٍ إِلَّا لِيَشْقَى! فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {طه مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} .
فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ الْمُبْطِلُونَ، بَلْ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْعِلْمَ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا كَثِيرًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يُرد اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ". (4) .
وَمَا أَحْسَنَ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ سَالِمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ الطَّالَقَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سِمَاك بْنِ حَرْبٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "يقول اللَّهُ تَعَالَى لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا قَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ لِقَضَاءِ عِبَادِهِ: إِنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي وَحِكْمَتِي فِيكُمْ (5) إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ، وَلَا أُبَالِي" (6) .
إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَثَعْلَبَةُ بْنُ الْحَكَمِ هَذَا [هُوَ اللَّيْثِيُّ] (7) ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي اسْتِيعَابِهِ، وَقَالَ: نَزَلَ الْبَصْرَةَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَرَوَى عَنْهُ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ (8) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} : هِيَ كَقَوْلِهِ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ} [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَكَانُوا يُعَلِّقُونَ الْحِبَالَ بِصُدُورِهِمْ فِي الصَّلَاةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} : لَا وَاللَّهِ مَا جَعَلَهُ شَقَاءً، وَلَكِنْ جَعَلَهُ رَحْمَةً وَنُورًا، وَدَلِيلًا إِلَى الْجَنَّةِ.
{إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} : إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَبَعَثَ رُسُلَهُ (9) .
رَحْمَةً، رَحِمَ بِهَا الْعِبَادَ، لِيَتَذَكَّرَ ذَاكِرٌ، وَيَنْتَفِعَ رَجُلٌ بِمَا سَمِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ ذِكْرٌ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ.
وَقَوْلُهُ: {تَنزيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا} (10) أَيْ: هذا القرآن الذي جاءك يا محمد
__________
(1) زيادة من ف، أ، والشفا.
(2) في ف: "أو حسن"، وفي أ: "وأحسن".
(3) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/26) .
(4) صحيح البخاري برقم (71) وصحيح مسلم برقم (1037) .
(5) في ف: "علمي فيكم وحكمتي".
(6) المعجم الكبير (2/84) وقال الهيثمي في المجمع (1/126) : "رجاله موثقون".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) الاستيعاب (1/204) .
(9) في أ: "رسوله".
(10) في ف: "تنزيل".(5/272)
[هُوَ] (1) تَنْزِيلٌ مِنْ [رَبِّكَ] (2) رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ، الْقَادِرِ عَلَى مَا يَشَاءُ، الَّذِي خَلَقَ الأرض بانخفاضها وكثافتها، وخلق السموات العلى فِي ارْتِفَاعِهَا وَلَطَافَتِهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. أَنَّ سُمْك كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وبُعْد مَا بَيْنَهَا وَالَّتِي (3) تَلِيهَا [مَسِيرَةُ] (4) خَمْسِمِائَةِ عَامٍ (5) .
وَقَدْ أَوْرَدَ (6) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثَ الْأَوْعَالِ (7) مِنْ رِوَايَةِ الْعَبَّاسُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، بما أغنى عن إعادته أَيْضًا، وَأَنَّ الْمَسْلَكَ الْأَسْلَمَ فِي (8) ذَلِكَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ، إِمْرَارُ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ، وَلَا تَعْطِيلٍ، وَلَا تَمْثِيلٍ.
وَقَوْلُهُ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} أَيِ: الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَفِي قَبْضَتِهِ، وَتَحْتَ تَصْرِيفِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَحُكْمِهِ، وَهُوَ خَالِقٌ ذَلِكَ وَمَالِكُهُ وَإِلَهُهُ، لَا إِلَهَ سِوَاهُ، وَلَا رَبَّ غَيْرُهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: أَيْ مَا تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَهُ أَنَّ كَعْبًا سُئِل فَقِيلَ لَهُ: مَا تَحْتَ هَذِهِ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: الْمَاءُ. قِيلَ: وَمَا تَحْتَ الْمَاءِ؟ قَالَ: الْأَرْضُ. قِيلَ: وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ؟ قَالَ: الْمَاءُ. قِيلَ: وَمَا تَحْتَ الْمَاءِ؟ قَالَ: الْأَرْضُ، قِيلَ: وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ؟ قَالَ: الْمَاءُ. قِيلَ: وَمَا تَحْتَ الْمَاءِ؟ قَالَ: الْأَرْضُ، قِيلَ: وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ؟ قَالَ الْمَاءُ. قِيلَ: وَمَا تَحْتَ الْمَاءِ؟ قَالَ: الْأَرْضُ، قِيلَ: وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ؟ قَالَ: صَخْرَةٌ. قِيلَ: وَمَا تَحْتَ الصَّخْرَةِ؟ قَالَ: مَلَكٌ. قِيلَ: وَمَا تَحْتَ الْمَلَكِ؟ قَالَ: حُوتٌ مُعَلَّقٌ طَرَفَاهُ بِالْعَرْشِ، قِيلَ: وَمَا تَحْتَ الْحُوتِ؟ قَالَ: الْهَوَاءُ وَالظُّلْمَةُ وَانْقَطَعَ الْعِلْمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ الله بن أخي بن وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاش، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ دَرَّاج، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْأَرَضِينَ بَيْنَ كُلِّ أَرْضٍ وَالَّتِي تَلِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَالْعُلْيَا مِنْهَا عَلَى ظَهْرِ حُوتٍ، قَدِ الْتَقَى طَرَفَاهُ فِي السَّمَاءِ، وَالْحُوتُ عَلَى صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ بِيَدِ الْمَلَكِ، وَالثَّانِيَةُ سِجْنُ (9) الرِّيحِ، وَالثَّالِثَةُ فِيهَا حِجَارَةُ جَهَنَّمَ، وَالرَّابِعَةُ فِيهَا كِبْرِيتُ جَهَنَّمَ، وَالْخَامِسَةُ فِيهَا حَيَّاتُ جَهَنَّمَ وَالسَّادِسَةُ فِيهَا عَقَارِبُ جَهَنَّمَ، وَالسَّابِعَةُ فِيهَا سَقَر، وَفِيهَا إِبْلِيسُ مُصَفّد بالحديد، يد أمامه ويد خلفه،
__________
(1) زيادة من ف، وفي أ: "يا محمد تنزيل من ربك".
(2) زيادة من ف، وفي أ: "يا محمد تنزيل من ربك".
(3) في أ: "وبين التي".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) سنن الترمذي برقم (3298) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب من هذا الوجه".
(6) في ف: "روى".
(7) سيأتي حديث الأوعال بطوله عند تفسير الآية: 7 من سورة غافر.
(8) في أ: "من".
(9) في أ: "مسجن".(5/273)
فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُطْلِقَهُ لِمَا يَشَاءُ أَطْلَقُهُ" (1) .
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَرَفْعُهُ فِيهِ نَظَرٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الْهَرَوِيُّ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ [قَالَ] : (2) قُلْتُ: ابْنُ الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ؟ قَالَ: نَعَمْ، [عَنِ الْقَاسِمِ] (3) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَأَقْبَلْنَا رَاجِعِينَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، فَنَحْنُ مُتَفَرِّقُونَ بَيْنَ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ، مُنْتَشِرِينَ، قَالَ: وَكُنْتُ فِي أَوَّلِ الْعَسْكَرِ: إِذْ عَارَضَنَا رَجُلٌ فَسَلّم ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَمَضَى أَصْحَابِي وَوَقَفْتُ مَعَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أَقْبَلَ فِي وَسَطِ العَسْكَر عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، مُقَنَّع بِثَوْبِهِ عَلَى رَأْسِهِ مِنَ الشَّمْسِ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا السَّائِلُ، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ أَتَاكَ. فَقَالَ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقُلْتُ: صَاحِبُ البَكْر الْأَحْمَرِ. فَدَنَا مِنْهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ رَاحِلَتِهُ، فَكَفَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال (4) : أَنْتَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ خِصَالٍ، لَا يَعْلَمُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَلْ عَمَّا شِئْتَ". فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَيَنَامُ النَّبِيُّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ". قَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مِنْ أَيْنَ يُشْبِهُ الْوَلَدُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ؟ قَالَ (5) مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ، فَأَيُّ الْمَاءَيْنِ غَلَبَ عَلَى الْآخَرِ نَزَعَ الْوَلَدُ". فَقَالَ (6) صَدَقْتَ. فَقَالَ: مَا لِلرَّجُلِ مِنَ الْوَلَدِ وَمَا لِلْمَرْأَةِ مِنْهُ؟ فَقَالَ: "لِلرَّجُلِ الْعِظَامُ وَالْعُرُوقُ وَالْعَصَبُ، وَلِلْمَرْأَةِ اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَالشَّعْرُ (7) قَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا تَحْتَ هَذِهِ، يَعْنِي الْأَرْضَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَلْقٌ". فَقَالَ: فَمَا تَحْتَهُمْ؟ قَالَ: "أَرْضٌ". قَالَ: فَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ؟ قَالَ "الْمَاءُ" قَالَ: فَمَا تَحْتَ الْمَاءِ؟ قَالَ: "ظُلْمَةٌ". قَالَ: فَمَا تَحْتَ الظُّلْمَةِ؟ قَالَ: "الْهَوَاءُ". قَالَ: فَمَا تَحْتَ الْهَوَاءِ؟ قَالَ: "الثَّرَى". قَالَ: فَمَا تَحْتَ الثَّرَى؟ فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُكَاءِ، وَقَالَ: "انْقَطَعَ عِلْمُ الْمَخْلُوقِينَ عِنْدَ عِلْمِ الْخَالِقِ، أَيُّهَا السَّائِلُ، مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ". قَالَ: فَقَالَ: صَدَقْتَ، أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (8) (9) .
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَسِيَاقٌ عَجِيبٌ، تَفَرَّدَ بِهِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا، وَقَدْ قَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: "لَيْسَ يُسَاوِي شَيْئًا" وَضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لا يعرف.
__________
(1) ورواه ابن منده في كتاب التوحيد برقم (63) من طريق حرملة بن يحيى عن عبد الله بن وهب بنحوه. ورواه الحاكم في المستدرك (4/594) من طريق بحر بن نصر عن عبد الله بن وهب عن عبد الله بن عياش عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أبي الهيثم عن عيسى بن هلال عن عبد الله بن عمرو بمثله، فزاد أبو الهيثم في إسناده. وقال: "صحيح ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي. قلت: "بلى منكر فيه عبد الله بن عياش ضعفه أبو داود وعند مسلم أنه: ثقة، ودراج وهو كثير المناكير".
(2) في ف، أ: "ابن عباس".
(3) زيادة من ف.
(4) في ف: "قال".
(5) في أ::فقال".
(6) في ف، أ: "قال".
(7) في ف، أ: "والكبد"
(8) في ف: "عليه السلام".
(9) ورواه ابن مردوية في تفسيره كما في الدر المنثور (5/552) من حديث جابر رضي الله عنه.(5/274)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
قُلْتُ: وَقَدْ خَلَطَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي شَيْءٍ، وَحَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ. وَقَدْ يُحْتَمل أَنَّهُ تَعَمَّد ذَلِكَ، أَوْ أَدْخَلَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أَيْ: أَنْزَلَ هذا القرآن الذي خلق [الأرض والسموات العلى، الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي] (1) السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الْفَرْقَانِ: 6] .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: السِّرُّ مَا أَسَرَّ ابْنُ آدَمَ فِي نَفْسِهِ، {وَأَخْفَى} : مَا أَخْفَى عَلَى ابْنِ آدَمَ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَهُ فَاللَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَعلْمه فِيمَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ وَمَا بَقِيَ عِلْم وَاحِدٌ، وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لُقْمَانَ: 28] .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: السِّرُّ: مَا تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ، وَأَخْفَى: مَا لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَكَ بَعْدُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنْتَ تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ الْيَوْمَ، وَلَا تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ غَدًا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّ الْيَوْمَ، وَمَا تُسِرُّ غَدًا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَأَخْفَى} يَعْنِي: الْوَسْوَسَةَ.
وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {وَأَخْفَى} أَيْ: مَا هُوَ عَامِلُهُ مِمَّا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ.
وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} [أَيِ: الَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَيْكَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ذو الأسماء الحسنى] (2) والصفات العلى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ "الْأَعْرَافِ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) }
مِنْ هَاهُنَا شَرَعَ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فِي ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (3) وَكَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ إِلَيْهِ وَتَكْلِيمُهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا قَضَى مُوسَى الأجَل الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صهْره فِي رِعَايَةِ الْغَنَمِ وَسَارَ بِأَهْلِهِ قِيلَ: قَاصِدًا بِلَادَ مِصْرَ بَعْدَمَا طَالَتِ الْغَيْبَةُ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ، فَأَضَلَّ الطَّرِيقَ، وَكَانَتْ لَيْلَةً شَاتِيَةً، وَنَزَلَ مَنْزِلًا بَيْنَ شِعَابٍ وَجِبَالٍ، فِي بَرْدٍ وَشِتَاءٍ، وسحاب وظلام
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.
(3) زيادة من ف.(5/275)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
وَضَبَابٍ، وَجَعَلَ يَقْدَحُ بِزَنْدٍ مَعَهُ (1) ليُوريَ نَارًا، كَمَا جَرَتْ لَهُ الْعَادَةُ بِهِ، فَجَعَلَ لَا يَقْدَحُ شَيْئًا، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَرَرٌ وَلَا شَيْءٌ. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطَّوْرِ نَارًا، أَيْ: ظَهَرَتْ لَهُ نَارٌ مِنْ جَانِبِ الْجَبَلِ الَّذِي هُنَاكَ عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ يُبَشِّرُهُمْ: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} أَيْ: شِهَابٍ (2) مِنْ نَارٍ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} [الْقَصَصِ: 29] وَهِيَ الْجَمْرُ: الَّذِي مَعَهُ لَهَبٌ، {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [الْقَصَصِ: 29] دَلَّ عَلَى وُجُودِ الْبَرْدِ، وَقَوْلُهُ: {بِقَبَسٍ} دَلَّ عَلَى وُجُودِ الظَّلَامِ.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} أَيْ: مَنْ يَهْدِينِي الطَّرِيقَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَاهَ عَنِ الطَّرِيقِ، كَمَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ الْأَعْوَرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} قَالَ: مَنْ يَهْدِينِي إِلَى الطَّرِيقِ. وَكَانُوا شَاتِّينَ وَضَلُّوا الطَّرِيقَ، فَلَمَّا رَأَى النَّارَ قَالَ: إِنْ لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَهْدِينِي إِلَى الطَّرِيقِ آتِكُمْ (3) بِنَارٍ تُوقِدُونَ بِهَا.
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) }
__________
(1) في ف: "له".
(2) في ف: "بشهاب".
(3) في أ: "آتيتكم".(5/276)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) }
يَقُولُ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا} أَيِ: النَّارَ وَاقْتَرَبَ (1) مِنْهَا، {نُودِيَ يَا مُوسَى} وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [الْقَصَصِ: 30] وَقَالَ هَاهُنَا {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} أَيِ: الَّذِي يُكَلِّمُكَ وَيُخَاطِبُكَ، {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ ذَكِيٍّ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا أَمَرَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ تَعْظِيمًا لِلْبُقْعَةِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَمَا يُؤْمَرُ الرَّجُلُ أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ (2) الْكَعْبَةَ.
وَقِيلَ: لِيَطَأَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ بِقَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ مُنْتَعِلٍ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {طُوًى} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ اسْمٌ لِلْوَادِي.
وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَطْفَ بَيَانٍ.
وقيل: عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه.
__________
(1) في ف: "وقرب"، وفي أ: "وأقرب".
(2) في ف، أ: "أراد دخول".(5/276)
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ قُدّس مَرَّتَيْنِ، وَطَوَى لَهُ الْبَرَكَةَ وَكُرِّرَتْ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، كَقَوْلِهِ (1) {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النَّازِعَاتِ: 16] .
وَقَوْلُهُ: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} كَقَوْلِهِ {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الْأَعْرَافِ: 144] أَيْ: عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ مِنَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَانِهِ.
و [قَدْ] (2) قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: يَا مُوسَى، أَتَدْرِي لِمَ خَصَصْتُكَ بِالتَّكْلِيمِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ؟ [قَالَ: لَا. قَالَ:] (3) لِأَنِّي لَمْ يَتَوَاضَعْ لِي أَحَدٌ تَوَاضُعَكَ.
وَقَوْلُهُ: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} أَيِ: اسْمَعِ الْآنَ مَا أَقُولُ لَكَ وَأُوحِيهِ إِلَيْكَ
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا} هَذَا أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدْنِي} أَيْ: وَحِّدْنِي وَقُم بِعِبَادَتِي مِنْ غَيْرِ شَرِيكٍ، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} قِيلَ: مَعْنَاهُ: صَلِّ لِتَذْكُرَنِي. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ عِنْدَ ذِكْرِكَ لِي.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا الثَّانِي مَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "إِذَا رَقَد أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ، أَوْ غَفَلَ عَنْهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} (4) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ" (5) .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} أَيْ: قَائِمَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَكَائِنَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: "أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي"، يَقُولُ: لِأَنَّهَا لَا تَخْفَى مِنْ نَفْسِ اللَّهِ أَبَدًا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ نَفْسِهِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَيَحْيَى بْنُ رَافِعٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} يَقُولُ: لَا أُطْلِعُ عَلَيْهَا أَحَدًا غَيْرِي.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أهل السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا قَدْ أَخْفَى اللَّهُ عَنْهُ عِلْمَ السَّاعَةِ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "إِنِّي أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي"، يَقُولُ: كَتَمْتُهَا عَنِ الْخَلَائِقِ، حَتَّى لَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَكْتُمَهَا مِنْ نَفْسِي لَفَعَلْتُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} وَهِيَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي، وَلَعَمْرِي لقد أخفاها الله من
__________
(1) في ف: "لقوله".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) زيادة من ف، أ.
(4) المسند (3/184) .
(5) صحيح البخاري برقم (597) وصحيح مسلم برقم (684) .(5/277)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
قُلْتُ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النَّمْلِ: 65] وَقَالَ: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً} [الْأَعْرَافِ: 187] أَيْ: ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة حَدَّثَنَا مِنْجَاب، حَدَّثَنَا أَبُو نُمَيْلة، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَسَدِيُّ، عَنْ وِقَاء قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ (أَكَادُ أَخْفيها) ، يَعْنِي: بِنَصْبِ (1) الْأَلْفِ وَخَفْضِ الْفَاءِ، يَقُولُ: أُظْهِرُهَا، ثُمَّ [قَالَ] (2) أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ (3) .
دَأبَ شَهْرَين، ثُمَّ شَهْرًا دَمِيكًا ... بأريكَين يَخْفيان غَميرًا ...
وَقَالَ الْأَسَدِيُّ: الْغَمِيرُ: نَبْتٌ رَطْبٌ، يَنْبُتُ فِي خِلَالِ يَبَسٍ. وَالْأَرِيكِينُ: مَوْضِعٌ، وَالدَّمِيكُ: الشَّهْرُ التَّامُّ. وَهَذَا الشِّعْرُ لِكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} أَيْ: أُقِيمُهَا لَا مَحَالَةَ، لِأَجْزِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ: 7، 8] وَ {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطُّورِ: 16] .
وَقَوْلُهُ: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} الْمُرَادُ بِهَذَا الْخِطَابِ آحَادُ الْمُكَلَّفِينَ، أَيْ: لَا تَتَّبِعُوا [سَبِيلَ] (4) مَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَلَاذِّهِ فِي دُنْيَاهُ، وَعَصَى مَوْلَاهُ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، فَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ {فَتَرْدَى} أَيْ: تَهْلَكُ وَتَعْطَبُ (5) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [اللَّيْلِ: 11] .
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى (21) } .
هَذَا بُرْهَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ، وَخَرْقٌ لِلْعَادَةِ بَاهِرٌ، دَالٌّ (6) عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِينَاسِ له. وقيل: إنما قال له
__________
(1) في أ: "ونصب".
(2) زيادة من ف.
(3) هو كعب بن زهير، والبيت في ديوانه (ص174) أ. هـ مستفادا من حاشية الشعب.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف، أ: "وتردى أي هلك وعطب" وفي أ: "ردى".
(6) في ف، أ: "باهرة دالة".(5/278)
ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ، أَيْ: أَمَّا هَذِهِ الَّتِي فِي يَمِينِكَ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا، فَسَتَرَى مَا نَصْنَعُ بِهَا الْآنَ، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ.
{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} أَيْ: أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا فِي حَالِ الْمَشْيِ {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} أَيْ: أَهُزُّ بِهَا الشَّجَرَةَ لِيَسْقُطَ وَرَقُهَا، لِتَرْعَاهُ غَنَمِي.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ: عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ: وَالْهَشُّ: أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ المحْجَن فِي الْغُصْنِ، ثُمَّ يُحَرِّكُهُ حَتَّى يُسْقِطَ وَرَقَهُ وثَمَره، وَلَا يَكْسِرُ الْعُودَ، فَهَذَا الْهَشُّ، وَلَا يَخْبِطُ. وَكَذَا قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} أَيْ: مَصَالِحُ وَمَنَافِعُ وَحَاجَاتٌ أُخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَكَلَّفَ (1) بَعْضُهُمْ لِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَآرِبِ الَّتِي أُبْهِمَتْ، فَقِيلَ: كَانَتْ تُضِيءُ لَهُ بِاللَّيْلِ، وَتَحْرُسُ لَهُ الْغَنَمَ إِذَا نَامَ، وَيَغْرِسُهَا فَتَصِيرُ شَجَرَةً تُظِلُّهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا اسْتَنْكَرَ مُوسَى صَيْرُورَتَهَا ثُعْبَانًا، فَمَا كَانَ يَفِرُّ مِنْهَا هَارِبًا، وَلَكِنْ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ (2) وَكَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهَا كَانَتْ لِآدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: إِنَّهَا هِيَ الدَّابَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ اسْمُهَا مَاشَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { [قَالَ] (3) أَلْقِهَا يَا مُوسَى} أَيْ: هَذِهِ الْعَصَا الَّتِي فِي يَدِكَ يَا مُوسَى، أَلْقِهَا {فَأَلْقَاهَا (4) فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} أَيْ: صَارَتْ فِي الْحَالِ حَيَّة عَظِيمَةً، ثُعْبَانًا طَوِيلًا يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً سَرِيعَةً، فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ، وَهُوَ (5) أَسْرَعُ الْحَيَّاتِ حَرَكَةً، وَلَكِنَّهُ صَغِيرٌ، فَهَذِهِ فِي غَايَةِ الْكُبْرِ، وَفِي غَايَةِ سُرْعَةِ الْحَرَكَةِ، {تَسْعَى} أَيْ: تَمْشِي وَتَضْطَرِبُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَة، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ جُمَيْع، حَدَّثَنَا سِمَاك، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ [ابْنِ عَبَّاسٍ] (6) {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ حَيَّةً، فَمَرَّتْ بِشَجَرَةٍ فَأَكَلَتْهَا، وَمَرَّتْ بِصَخْرَةٍ فَابْتَلَعَتْهَا، فَجَعَلَ مُوسَى يَسْمَعُ وَقْعَ الصَّخْرَةِ فِي جَوْفِهَا، فَوَلَّى مُدْبِرًا، فَنُودِيَ أَنْ: يَا مُوسَى، خُذْهَا. فَلَمْ يَأْخُذْهَا، ثُمَّ نُودِيَ الثَّانِيَةَ أَنْ: خُذْهَا وَلَا تَخَفْ. فَقِيلَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ. فَأَخَذَهَا.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبّه فِي قَوْلِهِ: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} قَالَ: فَأَلْقَاهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ حَانَتْ نَظْرَةٌ فَإِذَا بِأَعْظَمِ (7) ثُعْبَانٍ نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاظِرُونَ، فَدَبّ يَلْتَمِسُ كَأَنَّهُ يَبْتَغِي شَيْئًا يُرِيدُ أخْذَه، يَمُرُّ بِالصَّخْرَةِ مِثْلَ الخَلِفَة مِنَ الْإِبِلِ فَيَلْتَقِمُهَا، وَيَطْعَنُ بِالنَّابِ مِنْ أَنْيَابِهِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الْعَظِيمَةِ فَيَجْتَثُّهَا، عَيْنَاهُ تُوقَدَانِ نَارًا، وَقَدْ عَادَ المحْجَن مِنْهَا عُرفًا. قِيلَ: شَعْرٌ مِثْلُ النَّيَازِكِ، وَعَادَ الشُّعْبَتَانِ مِنْهَا مِثْلَ الْقَلِيبِ الْوَاسِعِ، فِيهِ أَضْرَاسٌ وَأَنْيَابٌ، لَهَا صَرِيفٌ، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مُوسَى وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّب،
__________
(1) في أ: "تكلم".
(2) في أ: "الإسرائيليات".
(3) زيادة من ف
(4) في ف: "فألقيها"
(5) في ف: "وهي".
(6) زيادة من ف.
(7) في ف: "بأعظم".(5/279)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
فَذَهَبَ حَتَّى أَمْعَنَ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أعجَز الْحَيَّةَ، ثُمَّ ذَكَرَ رَبَّهُ فَوَقَفَ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، ثُمَّ نُودِيَ: يَا مُوسَى أنْ: ارْجِعْ حَيْثُ كُنْتَ. فَرَجَعَ مُوسَى وَهُوَ شَدِيدُ الْخَوْفِ. فَقَالَ: {خُذْهَا} بِيَمِينِكَ {وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى} وَعَلَى مُوسَى حِينَئِذٍ مِدْرَعة مِنْ صُوفٍ، فَدَخَلَهَا بِخِلَالٍ مِنْ عِيدَانٍ، فَلَمَّا أَمَرَهُ بِأَخْذِهَا أَدْلَى طَرْفَ الْمِدْرَعَةِ عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ لَهُ مَلَكٌ (1) أَرَأَيْتَ يَا مُوسَى، لَوْ أَذِنَ اللَّهُ بِمَا تُحَاذِرُ أَكَانَتِ الْمِدْرَعَةُ تُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا وَلَكِنِّي ضَعِيفٌ، وَمِنْ ضَعْف خُلِقْتُ. فَكَشَفَ عَنْ يَدِهِ ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى فَمِ الْحَيَّةِ، حَتَّى سَمِعَ حِسَّ الْأَضْرَاسِ وَالْأَنْيَابِ، ثُمَّ قَبض فَإِذَا هِيَ عَصَاهُ الَّتِي عَهِدَهَا، وَإِذَا يَدُهُ فِي مَوْضِعِهَا الَّذِي كَانَ يَضَعُهَا إِذَا تَوَكَّأَ بَيْنَ الشُّعْبَتَيْنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى} أَيْ: إِلَى حَالِهَا (2) الَّتِي تُعْرَفُ قَبْلَ ذَلِكَ.
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) } .
وَهَذَا بُرهان ثَانٍ لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهَاهُنَا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [الْقَصَصِ: 32] .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} كَفُّهُ تَحْتَ عَضُدِهِ.
وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، تَخْرُجُ تَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا فَلْقَةُ قَمَرٍ.
وَقَوْلُهُ: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ بَرَص وَلَا أَذًى، وَمِنْ غَيْرِ شَيْنٍ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَخْرَجَهَا -وَاللَّهِ-كَأَنَّهَا مِصْبَاحٌ، فَعَلِمَ مُوسَى أَنَّهُ قَدْ لَقِيَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} .
وَقَالَ وَهْبٌ: قَالَ لَهُ رَبُّهُ: ادْنُهْ: فَلَمْ يَزَلْ يُدْنِيهِ حَتَّى شَدَّ ظَهْرَهُ بِجِذْعِ الشَّجَرَةِ، فَاسْتَقَرَّ وَذَهَبَتْ عَنْهُ الرِّعْدَةُ، وَجَمَعَ يَدَهُ فِي الْعَصَا، وَخَضَعَ بِرَأْسِهِ وَعُنُقِهِ.
وَقَوْلُهُ {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أَيِ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ، الَّذِي خَرَجت فَارًّا منه
__________
(1) في ف: "مالك".
(2) في ف: "حالتها".(5/280)
وَهَارِبًا، فَادْعُهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمُرْهُ فَلْيُحْسِن إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا يُعَذِّبْهُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ طَغَى وبَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَنَسِيَ الرَّبَّ الْأَعْلَى.
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّه: قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: انْطَلِقْ بِرِسَالَتِي فَإِنَّكَ بِعَيْنِي وَسَمْعِي، وَإِنِّي (1) مَعَكَ أَيْدِي ونَصْري، وَإِنِّي قَدْ أَلْبَسْتُكَ جُنَّةً مِنْ سُلْطَانِي لِتَسْتَكْمِلَ بِهَا الْقُوَّةَ فِي أَمْرِي، فَأَنْتَ جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنْدِي، بَعَثْتُكَ إِلَى خَلْقٍ ضَعِيفٍ مِنْ خَلْقِي، بَطَرَ نِعْمَتِي، وَأَمِنَ مَكْرِي، وَغَرَّتْهُ الدُّنْيَا عَنِّي، حَتَّى جَحَدَ حَقِّي، وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتِي، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُنِي، فَإِنِّي أُقْسِمُ بِعِزَّتِي لَوْلَا الْقَدَرُ الَّذِي وَضَعْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي، لَبَطَشْتُ به بطشة جبار، يغضب لغضبه السموات وَالْأَرْضُ، وَالْجِبَالُ وَالْبِحَارُ، فَإِنْ أَمَرْتُ السَّمَاءَ حَصَبَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ ابْتَلَعَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْجِبَالَ دَمَّرَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْبِحَارَ غَرَّقَتْهُ، وَلَكِنَّهُ هَانَ عَلَيَّ، وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِي، وَوَسِعَهُ حِلْمِي، وَاسْتَغْنَيْتُ بِمَا عِنْدِي، وَحَقِّي إِنِّي أَنَا الْغَنِيُّ لَا غَنِيَّ غَيْرِي، فَبَلِّغْهُ رِسَالَتِي، وَادْعُهُ إِلَى عِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي وَإِخْلَاصِي، وَذَكِّرْهُ أَيَّامِي (2) وَحَذِّرْهُ نِقْمَتِي وَبَأْسِي، وَأَخْبِرْهُ أَنَّهُ لَا يَقُومُ شَيْءٌ لِغَضَبِي، وَقُلْ لَهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، وخَبّره (3) أَنِّي إِلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أَسْرَعُ مِنِّي إِلَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ، وَلَا يُرَوِّعَنَّكَ مَا أَلْبَسْتُهُ مِنْ لِبَاسِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي، لَيْسَ يَنْطِقُ وَلَا يَطْرِفُ وَلَا يَتَنَفَّسُ إِلَّا بِإِذْنِي، وَقُلْ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ فَإِنَّهُ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، وَقَدْ أَمْهَلَكَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، فِي كُلِّهَا أَنْتَ مُبَارِزُهُ بِالْمُحَارَبَةِ، تَسُبُّهُ وَتَتَمَثَّلُ بِهِ وَتَصُدُّ عِبَادَهُ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ يُمْطِرُ عَلَيْكَ السَّمَاءَ، وَيُنْبِتُ لَكَ الْأَرْضَ، [و] (4) لَمْ تَسْقَمْ وَلَمْ تَهْرَمْ وَلَمْ تَفْتَقِرْ [وَلَمْ تُغْلَبْ] (5) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يعَجِّل لَكَ الْعُقُوبَةَ لَفَعَلَ، وَلَكِنَّهُ ذُو أَنَاةٍ وَحِلْمٍ عَظِيمٍ. وَجَاهِدْهُ بِنَفْسِكَ وَأَخِيكَ وَأَنْتُمَا تَحْتَسِبَانِ بِجِهَادِهِ (6) فَإِنِّي لَوْ شِئْتُ أَنْ آتِيهُ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُ بِهَا لَفَعَلْتُ، وَلَكِنْ لِيَعْلَمَ هَذَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ الَّذِي قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ وَجُمُوعُهُ أَنَّ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ -وَلَا قَلِيلَ مِنِّي-تَغْلِبُ الْفِئَةَ الْكَثِيرَةَ بِإِذْنِي، وَلَا تُعْجِبَنَّكُمَا (7) زِينَتُهُ، وَلَا مَا مَتّع بِهِ، وَلَا تَمُدَّا إِلَى ذَلِكَ أَعْيُنُكُمَا، فَإِنَّهَا زَهْرُ (8) الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَزِينَةُ الْمُتْرَفِينَ. وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُزَيِّنَكُمَا مِنَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ، لِيَعْلَمَ فِرْعَوْنُ حِينَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا أَنَّ مَقْدِرَتَهُ تَعْجَزُ عَنْ مِثْلِ مَا أُوتِيتُمَا، فَعَلْتُ، وَلَكِنِّي أَرْغَبُ بِكُمَا عَنْ ذَلِكَ، وَأَزْوِيهِ عَنْكُمَا. وَكَذَلِكَ أَفْعَلُ بِأَوْلِيَائِي، وَقَدِيمًا مَا جَرَتْ عَادَتِي فِي ذَلِكَ. فَإِنِّي لأذودُهم عَنْ نَعِيمِهَا وَرَخَائِهَا، كَمَا يَذُودُ الرَّاعِي الشَّفِيقُ إِبِلَهُ عَنْ مَبَارِكِ الْغِرَّةِ، وَمَا ذَاكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيَّ، وَلَكِنْ لِيَسْتَكْمِلُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ كَرَامَتِي سَالِمًا مُوْفَرًا لَمْ تكْلَمْه الدُّنْيَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَتَزَيَّنُ لِيَ الْعِبَادُ بِزِينَةٍ هِيَ أَبْلَغُ مِمَّا (9) عِنْدِي مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا زِينَةُ الْمُتَّقِينَ، عَلَيْهِمْ مِنْهَا لِبَاسٌ يُعْرَفون بِهِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالْخُشُوعِ، سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، أُولَئِكَ أَوْلِيَائِي حَقًّا حَقًّا، فَإِذَا لَقِيْتَهُمْ فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَذَلِّلْ قَلْبَكَ وَلِسَانَكَ، واعلم أنه من أهان لي
__________
(1) في ف: "وإن".
(2) في أ: "وذكره. آياتي".
(3) في ف: "وأخبره".
(4) زيادة من ف.
(5) زيادة من أ.
(6) في أ: "وإنما يحتسب أن يجاهده".
(7) في ف، أ: "يعجبكما".
(8) في ف، أ: "زهرة".
(9) في ف، أ "فيما".(5/281)
وَلِيًّا أَوْ أَخَافَهُ، فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَبَادَأَنِي وَعَرَضَ لِي نَفْسَهُ وَدَعَانِي إِلَيْهَا، وَأَنَا أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِي، أَفَيَظُنُّ الَّذِي يُحَارِبُنِي أَنْ يَقُومَ لِي، أَمْ يَظُنُّ الَّذِي يُعَادِينِي أَنْ يُعْجِزَنِي، أَمْ (1) يَظُنُّ الَّذِي يُبَارِزُنِي أَنْ يَسْبِقَنِي أَوْ يَفُوتَنِي. وَكَيْفَ وَأَنَا الثَّائِرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لَا أَكِلُ مُضْطَرَّهُمْ (2) إِلَى غَيْرِي.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} هَذَا سُؤَالٌ مِنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَشْرَحَ لَهُ صَدْرَهُ فِيمَا بَعَثَهُ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَهُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَخَطْبٍ جَسِيمٍ، بَعَثَهُ إِلَى أَعْظَمِ مَلِكٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِذْ ذَاكَ، وَأَجْبَرِهِمْ، وَأَشَدِّهِمْ كُفْرًا، وَأَكْثَرِهِمْ جُنُودًا، وَأَعْمَرِهِمْ مُلْكًا، وَأَطْغَاهُمْ وَأَبْلَغِهِمْ تَمَرُّدًا، بَلَغَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِ ادَّعَى أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ، وَلَا يَعْلَمُ لِرَعَايَاهُ إِلَهًا غَيْرَهُ.
هَذَا وَقَدْ مَكَثَ مُوسَى فِي دَارِهِ مُدَّةً وَلِيدًا عِنْدَهُمْ، فِي حَجْرِ فِرْعَوْنَ، عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ قَتَلَ مِنْهُمْ نَفْسًا فَخَافَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ بِكَمَالِهَا. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا بَعَثَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ نَذِيرًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} أَيْ: إِنْ لَمْ تَكُنْ أَنْتَ عَوْنِي وَنَصِيرِي، وَعَضُدِي وَظَهِيرِي، وَإِلَّا فَلَا طَاقَةَ لِي بِذَلِكَ.
{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} وَذَلِكَ لِمَا كَانَ أَصَابَهُ مِنَ اللَّثَغِ، حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ التَّمْرَةَ وَالْجَمْرَةَ، فَأَخَذَ الْجَمْرَةَ فَوَضَعَهَا عَلَى لِسَانِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَمَا سَأَلَ أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ بِحَيْثُ (3) يَزُولُ الْعَيُّ، وَيَحْصُلُ لَهُمْ فَهْمُ مَا يُرِيدُ مِنْهُ وَهُوَ قَدْرُ الْحَاجَةِ. وَلَوْ سَأَلَ الْجَمِيعَ لَزَالَ، وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَسْأَلُونَ إِلَّا بِحَسْبِ الْحَاجَةِ، وَلِهَذَا بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزُّخْرُفِ 52] أَيْ: يُفْصِحُ بِالْكَلَامِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} قَالَ: حُلَّ عُقْدَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ سَأَلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أُعْطِيَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَكَا مُوسَى إِلَى رَبِّهِ مَا يَتَخَوَّفُ من آل فرعون في القتيل، وعقدة لسانه، فَإِنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ يَكُونُ لَهُ رِدْءًا وَيَتَكَلَّمُ عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا لَا يُفْصِحُ بِهِ لِسَانُهُ، فَآتَاهُ سُؤْلَهُ، فَحَلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ عَمْرو بْنِ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا بَقِيّة، عَنْ أَرْطَاةَ بْنِ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْهُ قَالَ: أَتَاهُ ذُو قُرَابَةٍ لَهُ. فَقَالَ لَهُ: مَا بِكَ بَأْسٌ لَوْلَا أَنَّكَ تَلْحَنُ فِي كَلَامِكَ، وَلَسْتَ تُعْرِبُ فِي قِرَاءَتِكَ؟ فَقَالَ الْقُرَظِيُّ: يَا ابْنَ أَخِي، أَلَسْتُ أُفْهِمُكَ إِذَا حَدَّثْتُكَ (4) ؟ . قَالَ:
__________
(1) في أ: "أو".
(2) في ف، أ: "نصرتهم".
(3) في أ: "بحيث ما".
(4) في أ: "حدثت"(5/282)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَحُلَّ (1) عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ كَيْ يَفْقَهَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَلَامَهُ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا. هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} : وَهَذَا أَيْضًا سُؤَالٌ مِنْ مُوسَى فِي أَمْرٍ خَارِجِيٍّ عَنْهُ، وَهُوَ مُسَاعَدَةُ أَخِيهِ هَارُونَ لَهُ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَنُبّئ هَارُونُ سَاعَتَئِذٍ حِينَ نُبِّئَ مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذَكَرَ عَنِ ابْنِ نُمَير، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ (2) عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا خَرَجَتْ فِيمَا كَانَتْ تَعْتَمِرُ، فنَزَلَتْ بِبَعْضِ الْأَعْرَابِ، فَسَمِعَتْ رَجُلًا يَقُولُ: أَيُّ أَخٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا (3) أَنْفَعَ لِأَخِيهِ؟ قَالُوا: مَا نَدْرِي. قَالَ: وَاللَّهِ أَنَا أَدْرِي (4) قَالَتْ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: فِي حَلِفِهِ لَا يَسْتَثْنِي، إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَيَّ أَخٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَنْفَعَ لِأَخِيهِ. قَالَ: مُوسَى حِينَ سَأَلَ لِأَخِيهِ النُّبُوَّةَ. فَقُلْتُ: صَدَقَ وَاللَّهِ. قُلْتُ: وَفِي (5) هَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الثَّنَاءِ عَلَى مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الْأَحْزَابِ: 69] .
وَقَوْلُهُ: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} قَالَ مُجَاهِدٌ: ظَهْرِي.
{وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}
أَيْ: فِي مُشَاوَرَتِي.
{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا، حَتَّى يَذْكُرَ اللَّهَ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} أَيْ: فِي اصْطِفَائِكَ لَنَا، وَإِعْطَائِكَ إِيَّانَا النُّبُوَّةَ، وَبَعْثَتِكَ لَنَا إِلَى عَدُوِّكَ فِرْعَوْنَ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ.
{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) }
__________
(1) في ف، أ: "يحلل".
(2) في أ: "هشام بن عون".
(3) في ف، أ: "في الدنيا كان".
(4) في ف، أ:"وتذكيرا".
(5) في أ: "ومن".(5/283)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
{إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا (40) }
هَذِهِ (1) إِجَابَةٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِيمَا سَأَلَ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَذْكِيرٌ (2) لَهُ بِنِعَمِهِ السَّالِفَةِ عَلَيْهِ، فِيمَا كَانَ أَلْهَمَ أُمَّهُ حِينَ كَانَتْ تُرْضِعُهُ، وَتَحْذَرُ عَلَيْهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ أَنْ يَقْتُلُوهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ وُلِدَ فِي السَّنَةِ الَّتِي يَقْتُلُونَ فِيهَا الْغِلْمَانَ. فَاتَّخَذَتْ لَهُ تَابُوتًا، فَكَانَتْ (3) تُرْضِعُهُ ثُمَّ تَضَعُهُ فِيهِ، وَتُرْسِلُهُ فِي الْبَحْرِ -وَهُوَ النِّيلُ-وَتُمْسِكُهُ إِلَى مَنْزِلِهَا بِحَبْلٍ فذهبت مرة لتربطه (4) فانفلت منها
__________
(1) في ف، أ: "هذا".
(2) في ف، أ: "وتذكيرًا".
(3) في ف، أ: "وكانت".
(4) في ف، أ: "لتربط الحبل".(5/283)
وَذَهَبَ بِهِ الْبَحْرُ، فَحَصَلَ لَهَا مِنَ الْغَمِّ وَالْهَمِّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [الْقَصَصِ: 10] فَذَهَبَ بِهِ الْبَحْرُ إِلَى دَارِ فِرْعَوْنَ {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [الْقَصَصِ: 8] أَيْ قَدَرًا مَقْدُورًا (1) مِنَ اللَّهِ، حَيْثُ كَانُوا هُمْ يَقْتُلُونَ الْغِلْمَانَ (2) مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَذَرًا مِنْ وُجُودِ مُوسَى، فَحَكَمَ اللَّهُ -وَلَهُ السُّلْطَانُ الْعَظِيمُ، وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ-أَلَّا يُرَبَّى إِلَّا عَلَى فِرَاشِ فِرْعَوْنَ، وَيُغَذَّى بِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، مَعَ مَحَبَّتِهِ وَزَوْجَتِهِ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [أَيْ: عِنْدَ عَدُوِّكَ، جَعَلْتُهُ يُحِبُّكَ. قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} ] (3) قَالَ: حَبَّبْتُكَ إِلَى عِبَادِي.
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} قَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: تُرَبَّى بِعَيْنِ اللَّهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: تُغَذَّى عَلَى عَيْنِي.
وَقَالَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} بِحَيْثُ أَرَى.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَعْنِي أَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَلِكِ يَنْعَمُ وَيَتْرَفُ، غِذَاؤُهُ عِنْدَهُمْ غِذَاءُ الْمَلِكِ، فَتِلْكَ الصَّنْعَةُ.
وَقَوْلُهُ: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَ آلِ فِرْعَوْنَ، عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ، فَأَبَاهَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجل: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} فجات أُخْتُهُ وَقَالَتْ (4) {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [الْقَصَصِ: 12] . تَعْنِي (5) هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ تُرْضِعُهُ (6) لَكُمْ بِالْأُجْرَةِ؟ فَذَهَبَتْ بِهِ وَهُمْ مَعَهَا إِلَى أُمِّهِ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ ثَدْيَهَا، فَقَبِلَهُ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَاسْتَأْجَرُوهَا عَلَى إِرْضَاعِهِ فَنَالَهَا بِسَبَبِهِ سَعَادَةٌ وَرِفْعَةٌ وَرَاحَةٌ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ (7) أَغْنَمُ وَأَجْزَلُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَثَلُ الصَّانِعِ الَّذِي يَحْتَسِبُ (8) فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، كَمَثَلِ أَمِّ مُوسَى، تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا" (9) .
وَقَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} أَيْ: عَلَيْكَ، {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} يَعْنِي: الْقِبْطِيَّ، {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} وَهُوَ مَا حَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ عَزْمِ آلِ فِرْعَوْنَ عَلَى قَتْلِهِ (10) فَفَرَّ مِنْهُمْ هَارِبًا، حَتَّى وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ، وَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الْقَصَصِ: 25] .
وَقَوْلُهُ: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ من سننه، قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} :
__________
(1) في أ: "أي قدرا مقدرا".
(2) في أ: "العلماء"
(3) زيادة من أ.
(4) في ف، أ: "فقالت".
(5) في ف، أ: "يعني".
(6) في ف: "يرضعه".
(7) في أ: "الأخرى".
(8) في ف، أ: "يحسب".
(9) روى أبو داود في المراسيل برقم (332) من طريق جبير بن نفير نحوه ولفظه "مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجعل ويتقوون على عدوهم به مثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها".
(10) في ف: "آل فرعون ليقتلوه" وفي أ: "ليقتله".(5/284)
حَدِيثُ الْفِتُونِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا أَصْبُغُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفُتُونِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: اسْتَأْنِفِ النَّهَارَ يَا بْنَ جُبَيْرٍ، فَإِنَّ لَهَا حَدِيثًا طَوِيلًا. فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى (1) ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنْتَجِزَ مِنْهُ مَا وَعَدَنِي مِنْ حَدِيثِ الْفُتُونِ، فَقَالَ: تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (2) أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ، مَا (3) يَشُكُّونَ فِيهِ وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا هَلَكَ قَالُوا: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ وَعْدُ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: فَكَيْفَ تَرَوْنَ؟ فَائْتَمَرُوا وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ، يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمُوتُونَ بِآجَالِهِمْ، وَالصِّغَارَ يُذْبَحُونَ، قَالُوا: يُوشِكُ أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَصِيرُوا إِلَى أَنْ تُبَاشِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْخِدْمَةِ الَّتِي (4) كَانُوا يَكْفُونَكُمْ، فَاقْتُلُوا عَامًا كُلَّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ، فَيَقِلُّ أَبْنَاؤُهُمْ (5) وَدَعُوا عَامًا فَلَا تَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، فَيَشِبُّ الصِّغَارُ مَكَانَ مَنْ يَمُوتُ مِنَ الْكِبَارِ؛ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَكْثُرُوا (6) بِمَنْ تَسْتَحْيُونَ مِنْهُمْ فَتَخَافُوا مُكَاثَرَتَهُمْ إِيَّاكُمْ، وَلَمْ يُفْنَوْا بِمَنْ تَقْتُلُونَ وَتَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهَارُونَ فِي الْعَامِ الَّذِي لَا يُذْبَحُ فِيهِ الْغِلْمَانُ، فَوَلَدَتْهُ عَلَانِيَةً آمِنَةً. فَلَمَّا كَانَ مَنْ قَابِلٍ حَمَلَتْ بِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا الهَمّ وَالْحُزْنُ، وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ -يَا بْنَ جُبَيْرٍ-مَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، مِمَّا يُرَادُ بِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ [جُلَّ ذِكْرُهُ] (7) إِلَيْهَا أَنْ {لَا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الْقَصَصِ: 7] فَأَمَرَهَا إِذَا وَلَدَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ ثُمَّ تُلْقِيهِ (8) فِي الْيَمِّ. فَلَمَّا وَلَدَتْ فَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَوَارَى عَنْهَا ابنُها أَتَاهَا الشَّيْطَانُ، فقالت في نفسها: ما فعلت با بني، لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي فَوَارَيْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ، كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُلْقِيَهُ إِلَى دَوَابِّ الْبَحْرِ وَحِيتَانِهِ.
فَانْتَهَى الْمَاءُ بِهِ حَتَّى أَوْفَى بِهِ عِنْدَ فُرْضَة مُسْتَقَى جَوَارِي امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَخَذْنَهُ فَهَمَمْنَ أَنْ يَفْتَحْنَ التَّابُوتَ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ (9) إِنَّ فِي هَذَا مَالًا وَإِنَّا إِنْ فَتَحْنَاهُ لَمْ تُصَدِّقْنَا امْرَأَةُ الْمَلِكِ بِمَا وَجَدْنَاهُ فِيهِ، فَحَمَلْنَهُ كَهَيْئَتِهِ لَمْ يُخْرِجْنَ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى رَفَعْنَهُ (10) إِلَيْهَا. فَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتْ فِيهِ غُلَامًا، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا (11) مَحَبَّةٌ لَمْ يُلْقَ مِنْهَا عَلَى أَحَدٍ قَطُّ. وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا مِنْ ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى.
فَلَمَّا سَمِعَ الذَّبَّاحُونَ بِأَمْرِهِ، أَقْبَلُوا بِشِفَارِهِمْ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ لِيَذْبَحُوهُ، وَذَلِكَ من الفتون يا بن
__________
(1) في ف، أ: "على".
(2) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(3) في ف: "ما كانوا".
(4) في أ: "الذي".
(5) في أ: "بناتهم".
(6) في أ: "يكبروا".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ف، أ: "وتلقيه".
(9) في أ: "بعضهم".
(10) في ف، أ: "دفعنه".
(11) في ف، أ: "عليها منه".(5/285)
جُبَيْرٍ، فَقَالَتْ لَهُمْ: أَقِرُّوهُ، فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ لَا يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى آتِيَ فِرْعَوْنَ فَأَسْتَوْهِبَهُ مِنْهُ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِي كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ لَمْ أَلُمْكُمْ.
فَأَتَتْ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [الْقَصَصِ: 9] فَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكِ، فَأَمَّا لِي فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي يُحْلَف بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ (1) كَمَا أَقَرَّتِ امْرَأَتُهُ، لَهَدَاهُ اللَّهُ كَمَا هَدَاهَا، وَلَكِنْ (2) حَرَمَهُ ذَلِكَ". فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ حَوْلَهَا، إِلَى كُلِّ امْرَأَةٍ لَهَا لَبَنٌ لِتَخْتَارَ لَهُ ظِئْرًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخَذَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ لِتُرْضِعَهُ لَمْ يُقْبِلْ عَلَى ثَدْيِهَا حَتَّى أَشْفَقَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللَّبَنِ فَيَمُوتَ، فَأَحْزَنَهَا ذَلِكَ، فَأَمَرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى السُّوقِ وَمَجْمَعِ النَّاسِ، تَرْجُو أَنْ تَجِدَ لَهُ ظِئْرًا تَأْخُذُهُ مِنْهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى وَالِهًا، فَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّي أَثَرَهُ وَاطْلُبِيهِ، هَلْ تَسْمَعِينَ لَهُ ذِكْرًا، أَحَيٌّ ابْنِي أَمْ قَدْ أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ؟ وَنَسِيَتْ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا فِيهِ، فَبَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ -والجُنُب: أَنْ يَسْمُوَ بَصَرُ الْإِنْسَانِ إِلَى شَيْءٍ بَعِيدٍ (3) وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ (4) وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ -فَقَالَتْ مِنَ الْفَرَحِ حِينَ أَعْيَاهُمُ الظُّؤُرات: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ. فَأَخَذُوهَا فَقَالُوا: مَا يُدْرِيكِ؟ مَا نُصْحُهُمْ لَهُ؟ هَلْ يَعْرِفُونَهُ (5) ؟ حَتَّى شَكُّوا فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا بْنَ جُبَيْرٍ. فَقَالَتْ: نُصْحُهُمْ (6) لَهُ وَشَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ رَغْبَتُهُمْ فِي ظُؤْرَةِ الْمَلِكِ، وَرَجَاءُ مَنْفَعَةِ الْمَلِكِ. فَأَرْسَلُوهَا فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا (7) فَأَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ. فَجَاءَتْ أُمُّهُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا نَزَا إِلَى ثَدْيِهَا فمصَّه، حَتَّى امْتَلَأَ جَنْبَاهُ رِيًّا، وَانْطَلَقَ الْبُشَرَاءُ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يُبَشِّرُونَهَا أَنْ قَدْ وَجَدْنَا لِابْنِكِ ظِئْرًا. فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا. فَأَتَتْ بِهَا وَبِهِ فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ بِهَا قَالَتِ: امْكُثِي تُرْضِعِي ابْنِي هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أُحِبَّ شَيْئًا حُبَّهُ قَطُّ. قَالَتْ أُمُّ مُوسَى: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَ بَيْتِي وَوَلَدِي فَيَضِيعَ، فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُكِ أَنْ تُعْطِيَنِيهِ فَأَذْهَبَ بِهِ إِلَى بَيْتِي، فَيَكُونَ مَعِي لَا آلُوهُ خَيْرًا [فَعَلْتُ، وَإِلَّا] (8) فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكَةٍ بَيْتِي وَوَلَدِي. وَذَكَرَتْ أُمُّ مُوسَى مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا فِيهِ، فَتَعَاسَرَتْ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ (9) فَرَجَعَتْ بِهِ إِلَى بَيْتِهَا مِنْ يَوْمِهَا، [وَأَنْبَتَهُ] (10) اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا وَحَفِظَهُ (11) لِمَا قَدْ قَضَى فِيهِ.
فَلَمْ يَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ، مُمْتَنِعِينَ مِنَ السُّخْرَةِ وَالظُّلْمِ مَا كَانَ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لِأُمِّ مُوسَى: أَتُرِينِي (12) ابْنِي؟ فَوَعَدَتْها يَوْمًا (13) تُرِيهَا إِيَّاهُ فِيهِ، وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لِخُزَّانِهَا وظُؤُرها وَقَهَارَمَتِهَا: لَا يَبْقَيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا اسْتَقْبَلَ ابْنِي الْيَوْمَ بِهَدِيَّةٍ وَكَرَامَةٍ لِأَرَى ذَلِكَ (14) وَأَنَا بَاعِثَةٌ أَمِينًا يُحْصِي (15) مَا يَصْنَعُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ، فَلَمْ تَزَلِ الهدايا والنحل
__________
(1) في ف، أ: "أن يكون له قرة عين".
(2) في أ: "ولكن الله حرمه".
(3) في ف، أ: "الشيء البعيد".
(4) في ف، أ: "ناحية".
(5) في ف، أ: "تعرفونه".
(6) في ف، أ: "نصيحتهم".
(7) في ف، أ: "أمه".
(8) زيادة من ف، أ، والطبري.
(9) في ف، أ: "موعوده".
(10) في ف: "فأنبته".
(11) في أ: "حفظ"
(12) في أ: "تريني".
(13) في أ: "يوما أن".
(14) في أ: "ذلك فيه".
(15) في ف: "يحصي كل".(5/286)
وَالْكَرَامَةُ (1) تَسْتَقْبِلُهُ مِنْ حِينِ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ إِلَى أَنْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا نَحَلَتْهُ (2) وَأَكْرَمَتْهُ، وَفَرِحَتْ بِهِ وَنَحَلَتْ أُمَّهُ لِحُسْنِ أَثَرِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَتْ: لَآتِيَنَّ بِهِ فِرْعَوْنَ فَلَيَنْحَلَنَّهُ (3) وَلَيُكْرِمَنَّهُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهِ عَلَيْهِ جَعَلَهُ فِي حِجْرِهِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ يَمُدُّهَا (4) إِلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ الْغُوَاةُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ لِفِرْعَوْنَ: أَلَا تَرَى مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ نَبِيَّهُ، إِنَّهُ زَعَمَ أَنْ يَرِثَكَ وَيَعْلُوَكَ وَيَصْرَعَكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الذَّبَّاحِينَ لِيَذْبَحُوهُ. وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا بْنَ جُبَيْرٍ بَعْدَ كَلِّ بَلَاءٍ ابْتُلِيَ بِهِ، وَأُرِيدَ بِهِ (5) .
فَجَاءَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ (6) مَا بَدَا لَكَ فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي وَهَبْتَهُ لِي؟ فَقَالَ (7) أَلَا تَرَيِنَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَصْرَعُنِي وَيَعْلُونِي! فَقَالَتِ: اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَمْرًا يُعْرَفُ فِيهِ الْحَقُّ، ائْتِ بِجَمْرَتَيْنِ وَلُؤْلُؤَتَيْنِ، فَقَرِّبْهُنَّ إِلَيْهِ، فَإِنْ بَطَشَ بِاللُّؤْلُؤَتَيْنِ (8) وَاجْتَنَبَ الْجَمْرَتَيْنِ فَاعْرِفْ (9) أَنَّهُ يَعْقِلُ، وَإِنْ تَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ وَلَمْ يُرِدِ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، عَلِمْتَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُؤْثِرُ الْجَمْرَتَيْنِ عَلَى اللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَهُوَ يَعْقِلُ. فَقَرَّبَ إِلَيْهِ فَتَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ، فَانْتَزَعَهُمَا مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَحْرِقَا يَدَهُ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَلَا تَرَى؟ فَصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا كَانَ قَدْ هَمَّ بِهِ، وَكَانَ اللَّهُ بَالِغًا فِيهِ أَمْرَهُ.
فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَكَانَ مِنَ الرِّجَالِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ بِظُلْمٍ وَلَا سُخْرَةٍ، حَتَّى امْتَنَعُوا كُلَّ الِامْتِنَاعِ، فَبَيْنَمَا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَمْشِي فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، إِذَا (10) هُوَ بِرَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، أَحَدُهُمَا فِرْعَوْنِيٌّ وَالْآخَرُ إِسْرَائِيلِيٌّ، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ، فَغَضِبَ مُوسَى غَضَبًا شَدِيدًا؛ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَتَهُ (11) مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحِفْظَهُ لَهُمْ، لَا يَعْلَمُ النَّاسُ إِلَّا أَنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الرَّضَاعِ، إِلَّا أُمُّ مُوسَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ [سُبْحَانَهُ] (12) أَطْلَعَ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ. فَوَكَزَ (13) مُوسَى الْفِرْعَوْنِيَّ فَقَتَلَهُ، وَلَيْسَ يَرَاهُمَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِسْرَائِيلِيُّ، فَقَالَ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [الْقَصَصِ: 15] . ثُمَّ قَالَ {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الْقَصَصِ: 16] فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ الْأَخْبَارَ، فَأَتَى فِرْعَوْنَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَخُذْ لَنَا بِحَقِّنَا (14) وَلَا تُرَخِّصُ لَهُمْ. فَقَالَ: ابْغُونِي قَاتِلَهُ، وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَغْوه مَعَ قَوْمِهِ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُ أَنْ يُقِيدَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ، فَاطْلُبُوا لِي عِلْمَ ذَلِكَ آخُذُ لَكُمْ بِحَقِّكُمْ. فَبَيْنَمَا هُمْ يَطُوفُونَ وَلَا (15) يَجِدُونَ ثَبْتًا، إِذَا بِمُوسَى (16) مِنَ الْغَدِ قَدْ رَأَى ذَلِكَ الْإِسْرَائِيلِيَّ يُقَاتِلُ رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ آخَرَ. فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ، فَصَادَفَ مُوسَى قَدْ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَكَرِهَ الَّذِي رَأَى، فَغَضِبَ الْإِسْرَائِيلِيُّ وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال:
__________
(1) في ف: "والكرامة والنحل".
(2) في أ: "بجلته".
(3) في أ: "فليبجلنه".
(4) في ف، أ: "فمدها".
(5) في ف، أ: "به فتونا".
(6) في أ: "فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت".
(7) في ف: "فقالت".
(8) في ف: "باللؤلؤ".
(9) في أ: "فعرفت".
(10) في ف: "إذا".
(11) في ف: "منزله".
(12) زيادة من أ.
(13) في ف، أ: "فوكزه".
(14) في ف، أ: "بحقك".
(15) في ف: "لا".
(16) في ف: "موسى".(5/287)
لِلْإِسْرَائِيلِيِّ لِمَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ وَالْيَوْمِ: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} فَنَظَرَ الْإِسْرَائِيلِيُّ إِلَى مُوسَى بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ مَا قَالَ، فَإِذَا هُوَ غَضْبَانُ كَغَضَبِهِ بِالْأَمْسِ الَّذِي قَتَلَ فِيهِ الْفِرْعَوْنِيَّ فَخَافَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [الْقَصَصِ: 18] أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ، وَلَمْ يَكُنْ أَرَادَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْفِرْعَوْنِيَّ. فَخَافَ الْإِسْرَائِيلِيُّ وَقَالَ: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ} [الْقَصَصِ: 19] وَإِنَّمَا قَالَهُ (1) مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ مُوسَى لِيَقْتُلَهُ، فَتَتَارَكَا، وَانْطَلَقَ الْفِرْعَوْنِيُّ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ مِنَ الْخَبَرِ حِينَ يَقُولُ: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ} فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ لِيَقْتُلُوا مُوسَى، فَأَخَذَ رُسُلَ فِرْعَوْنَ فِي الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يَطْلُبُونَ مُوسَى، وَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَنْ يَفُوتَهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَاخْتَصَرَ طَرِيقًا حَتَّى سَبَقَهُمْ إِلَى مُوسَى، فَأَخْبَرَهُ (2) وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا بْنَ جُبَيْرٍ.
فَخَرَجَ مُوسَى مُتَوَجِّهًا نَحْوَ مَدْيَنَ، لَمْ يَلْقَ بَلَاءً قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ بِالطَّرِيقِ عِلْمٌ إِلَّا حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ قَالَ: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَان} [الْقَصَصِ: 22، 23] .
يَعْنِي بِذَلِكَ حَابِسَتَيْنِ غَنَمَهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: مَا خَطْبُكُمَا مُعْتَزِلَتَيْنِ لَا تَسْقِيَانِ مَعَ النَّاسِ؟ قَالَتَا (3) لَيْسَ لَنَا قُوَّةٌ نُزَاحِمُ الْقَوْمَ، إِنَّمَا نَنْتَظِرُ فُضُولَ حِيَاضِهِمْ. فَسَقَى لَهُمَا، فَجَعَلَ يَغْتَرِفُ فِي الدَّلْوِ مَاءً كَثِيرًا، حَتَّى كَانَ أَوَّلَ الرِّعَاءِ، فَانْصَرَفَتَا (4) بِغَنَمِهِمَا إِلَى أَبِيهِمَا، وَانْصَرَفَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَاسْتَظَلَّ بِشَجَرَةٍ، وَقَالَ: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [الْقَصَصِ: 24] . وَاسْتَنْكَرَ أَبُوهُمَا سُرْعَةَ صُدُورِهِمَا بِغَنَمِهِمَا حُفَّلا بِطَانًا فَقَالَ: إِنَّ لَكُمَا الْيَوْمَ لَشَأْنًا، فَأَخْبَرَتَاهُ بِمَا صَنَعَ مُوسَى، فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَدْعُوَهُ، فَأَتَتْ مُوسَى فَدَعَتْهُ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الْقَصَصِ: 25] . لَيْسَ لِفِرْعَوْنَ وَلَا لِقَوْمِهِ عَلَيْنَا سُلْطَانٌ وَلَسْنَا فِي مَمْلَكَتِهِ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ} [الْقَصَصِ: 26] فَاحْتَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى أَنْ قَالَ لَهَا: مَا يُدْرِيكِ مَا قُوَّتُهُ؟ وَمَا أَمَانَتُهُ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا قُوَّتُهُ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ فِي الدَّلْوِ حِينَ سَقَى لَنَا، لَمْ أَرَ رَجُلًا قَطُّ أَقْوَى فِي ذَلِكَ السَّقْيِ مِنْهُ، وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَإِنَّهُ نَظَرَ إِلَيَّ حِينَ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ وَشَخَصْتُ لَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنِّي امْرَأَةٌ صَوَّبَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ، حَتَّى بَلَّغْتُهُ رِسَالَتَكَ. ثُمَّ قَالَ لِيَ: امْشِي خَلْفِي، وَانْعُتِي لِيَ الطَّرِيقَ. فَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا وَهُوَ أَمِينٌ، فَسُرِّيَ عَنْ أَبِيهَا وَصَدَّقَهَا، وَظَنَّ بِهِ الَّذِي قَالَتْ.
فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ {أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الْقَصَصِ: 27] فَفَعَلَ فَكَانَتْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى ثَمَانِي سِنِينَ وَاجِبَةٌ، وَكَانَتْ سَنَتَانِ عِدَةً مِنْهُ، فَقَضَى اللَّهُ عَنْهُ عِدَتَهُ فَأَتَمَّهَا عَشْرًا.
قَالَ سَعِيدٌ -وَهُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ-: فَلَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ قَالَ: هَلْ تَدْرِي أَيَّ
__________
(1) في ف، أ: "قال له".
(2) في ف، أ: "فأخبره الخبر".
(3) في ف: "فقالتا".
(4) في ف: "وانصرفتا".(5/288)
الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لَا. وَأَنَا يَوْمَئِذٌ لَا أَدْرِي. فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ ثَمَانِيًا كَانَتْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَاجِبَةً، لَمْ يَكُنْ لِنَبِيِّ اللَّهِ أَنْ يُنْقِصَ (1) مِنْهَا شَيْئًا، وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ قَاضِيًا عَنْ مُوسَى عِدَتَهُ الَّتِي وَعَدَهُ فَإِنَّهُ قَضَى عَشْرَ سِنِينَ. فَلَقِيتُ النَّصْرَانِيَّ فَأَخْبَرْتُهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: الَّذِي سَأَلْتَهُ فَأَخْبَرَكَ أَعْلَمُ مِنْكَ بِذَلِكَ. قُلْتُ: أَجَلْ، وَأَوْلَى.
فَلَمَّا سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّارِ وَالْعَصَا وَيَدِهِ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ، فَشَكَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (2) مَا يَتَخَوَّفُ مِنْ آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه، فإنه كَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ، يَكُونُ لَهُ رِدْءًا، وَيَتَكَلَّمُ عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا لَا يُفْصِحُ بِهِ لِسَانُهُ. فَآتَاهُ اللَّهُ سُؤْلَهُ، وَحَلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَارُونَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْقَاهُ. فَانْدَفَعَ مُوسَى بِعَصَاهُ حَتَّى لَقِيَ هَارُونَ، عَلَيْهِمَا (3) السَّلَامُ. فَانْطَلَقَا جَمِيعًا إِلَى فِرْعَوْنَ، فَأَقَامَا عَلَى بَابِهِ حِينًا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حِجَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَا {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه: 47] . قَالَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا؟ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: فَمَا تُرِيدَانِ؟ وَذَكَّرَهُ الْقَتِيلَ، فَاعْتَذَرَ بِمَا قَدْ سَمِعْتَ. قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَتُرْسِلَ مَعِيَ بَنَى إِسْرَائِيلَ؟ فَأَبَى عَلَيْهِ وَقَالَ: {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 154] . فَأَلْقَى عَصَاهُ [فَإِذَا هِيَ] (4) حَيَّةٌ تَسْعَى عَظِيمَةً فَاغِرَةً فَاهَا، مُسْرِعَةً إِلَى فِرْعَوْنَ. فَلَمَّا رَآهَا فِرْعَوْنُ قَاصِدَةً إِلَيْهِ خَافَهَا، فَاقْتَحَمَ عَنْ سَرِيرِهِ وَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ. فَفَعَلَ، ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَرَآهَا بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ -يَعْنِي مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ-ثُمَّ رَدَّهَا فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ. فَاسْتَشَارَ الْمَلَأَ حَوْلَهُ فِيمَا رَأَى، فَقَالُوا (5) لَهُ: هَذَانِ سَاحِرَانِ {يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] يَعْنِي: مُلْكَهُمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْعَيْشَ، وَأَبَوْا عَلَى مُوسَى أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا مِمَّا طَلَبَ، وَقَالُوا لَهُ: اجْمَعِ السَّحَرَةَ (6) فَإِنَّهُمْ بِأَرْضِكَ كَثِيرٌ حَتَّى تَغْلِبَ بِسِحْرِكَ سِحْرَهُمَا. فَأَرْسَلَ إِلَى (7) الْمَدَائِنِ فَحُشِرَ لَهُ كُلُّ سَاحِرٍ مُتَعَالِمٍ، فَلَمَّا أَتَوْا فِرْعَوْنَ قَالُوا: بِمَ يَعْمَلُ هَذَا السَّاحِرُ؟ قَالُوا: يَعْمَلُ بِالْحَيَّاتِ. قَالُوا: فَلَا وَاللَّهِ مَا أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ يَعْمَلُ بِالسِّحْرِ بِالْحَيَّاتِ وَالْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ الَّذِي نَعْمَلُ. فَمَا أَجْرُنَا إِنْ نَحْنُ غَلَبْنَا؟ قَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَقَارِبِي وَخَاصَّتِي، وَأَنَا صَانِعٌ إِلَيْكُمْ كُلَّ شَيْءٍ أَحْبَبْتُمْ، فَتَوَاعَدُوا يَوْمَ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضَحًّى.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ يَوْمَ الزِّينَةِ الَّذِي أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَالسَّحَرَةِ، هُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ.
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ قَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا فَلْنَحْضُرْ هَذَا الْأَمْرَ، {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 40] يَعْنُونَ مُوسَى وَهَارُونَ اسْتِهْزَاءً بِهِمَا، فَقَالُوا: يَا مُوسَى -لقُدْرتهم بِسِحْرِهِمْ- {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الْأَعْرَافِ: 115] {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} [طه: 66] {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الاشعراء: 44] فرأى
__________
(1) في ف: "نبي الله صلى الله عليه وسلم لينقص".
(2) في ف، أ: "الله سبحانه".
(3) في ف: "عليه".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف: "فقالا".
(6) في ف: "اجمع السحرة لهما".
(7) في ف، أ: "في".(5/289)
مُوسَى مِنْ سِحْرِهِمْ مَا أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ، فَلَمَّا أَلْقَاهَا صَارَتْ ثُعْبَانًا عَظِيمَةً فَاغِرَةً فَاهَا، فَجَعَلَتِ الْعِصِيُّ تَلْتَبِسُ بِالْحِبَالِ حَتَّى صَارَتْ جَزرًا إِلَى الثُّعْبَانِ، تَدْخُلُ فِيهِ، حَتَّى مَا أَبْقَتْ عَصًا وَلَا حِبَالًا (1) إِلَّا ابْتَلَعَتْهُ، فَلَمَّا عَرَفَتِ (2) السَّحَرَةُ ذَلِكَ قَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا سِحْرًا لَمْ يَبْلُغْ مِنْ سِحْرِنَا كُلَّ هَذَا، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، آمَنَّا بِاللَّهِ (3) وَبِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَنَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ. فَكَسَرَ اللَّهُ ظَهْرَ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ (4) الْمَوْطِنِ وَأَشْيَاعِهِ، وَظَهَرَ الْحَقُّ، وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 119] وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ بَارِزَةٌ مُتَبَذِّلَةٌ (5) تَدْعُو اللَّهَ بِالنَّصْرِ لِمُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ، فَمَنْ رَآهَا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ظَنَّ أَنَّهَا إِنَّمَا ابْتُذِلَتْ لِلشَّفَقَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ حُزْنُهَا وَهَمُّهَا لِمُوسَى.
فَلَمَّا طَالَ مُكْثُ مُوسَى بِمَوَاعِيدِ فِرْعَوْنَ الْكَاذِبَةِ، كُلَّمَا جَاءَ بِآيَةٍ وَعَدَهُ عِنْدَهَا أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا مَضَتْ أَخْلَفَ مَوْعِدَهُ وَقَالَ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يَصْنَعَ غَيْرَ هَذَا؟ . فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى قَوْمِهِ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَشْكُو إِلَى مُوسَى وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ، وَيُوَاثِقُهُ عَلَى أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كَفَّ ذَلِكَ أَخْلَفَ مَوْعِدَهُ، وَنَكَثَ عَهْدَهُ.
حَتَّى أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِالْخُرُوجِ بِقَوْمِهِ فَخَرَجَ بِهِمْ لَيْلًا فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ مَضَوْا أَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، فَتَبِعَهُ بِجُنُودٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةٍ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ: إِذَا ضَرَبَكَ عَبْدِي مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلِقِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً، حَتَّى يَجُوزَ مُوسَى وَمِنْ مَعَهُ، ثُمَّ الْتَقِ عَلَى مَنْ بَقِيَ بَعْدُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ. فَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِالْعَصَا وَانْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ وَلَهُ قَصِيفٌ، مَخَافَةَ أَنْ يَضْرِبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ وَهُوَ غَافِلٌ فَيَصِيرُ عَاصِيًا لِلَّهِ.
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَقَارَبَا، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، افْعَلْ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ تَكْذِبْ. قَالَ وَعَدَنِي (6) أَنْ إِذَا أَتَيْتُ الْبَحْرَ انْفَرَقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً، حَتَّى أُجَاوِزَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَصَا فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ حِينَ دَنَا أَوَائِلُ جُنْدِ فِرْعَوْنَ مِنْ أَوَاخِرِ جُنْدِ مُوسَى، فَانْفَرَقَ الْبَحْرُ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ وَكَمَا وَعَدَ مُوسَى، فَلَمَّا أَنْ جَازَ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمُ الْبَحْرَ، وَدَخَلَ فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ، الْتَقَى عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ كَمَا أُمِرَ، فَلَمَّا جَاوَزَ مُوسَى الْبَحْرَ قَالَ أَصْحَابُهُ: إِنَّا نَخَافُ أَلَّا يَكُونَ فِرْعَوْنُ غَرَقَ وَلَا نُؤْمِنُ بِهَلَاكِهِ. فَدَعَا رَبَّهُ فَأَخْرَجَهُ لَهُ بِبَدَنِهِ حَتَّى اسْتَيْقَنُوا بِهَلَاكِهِ.
ثُمَّ مَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَافِ: 138، 139] . قَدْ رَأَيْتُمْ مِنَ العِبَر وَسَمِعْتُمْ مَا يَكْفِيكُمْ وَمَضَى. فَأَنْزَلَهُمْ مُوسَى مَنْزِلًا وَقَالَ (7) أَطِيعُوا هَارُونَ، فَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي. وَأَجَّلَهُمْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فيها، فلما أتى ربه وأراد
__________
(1) في ف، أ: "حبلا".
(2) في ف: "عرف" وفي أ: "علم".
(3) في أ: "به".
(4) في ف، أ: "هذا".
(5) في ف: "مبتذلة".
(6) في ف: "وعدني ربي".
(7) في ف، أ: "وقال لهم".(5/290)
أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ صَامَهُنَّ، لَيْلَهُنَّ وَنَهَارَهُنَّ، وَكَرِهَ أَنْ يُكَلِّمَ رَبَّهُ وَرِيحُ فِيهِ رِيحُ فَمِ الصَّائِمِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ شَيْئًا فَمَضَغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ حِينَ أَتَاهُ: لِمَ أَفْطَرْتَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالَّذِي كَانَ، قَالَ: يَا رَبِّ، إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلَّا وَفَمِي طَيِّبُ الرِّيحِ. قَالَ: أَوَمَا عَلِمْتَ يَا مُوسَى أَنَّ رِيحَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، ارْجِعْ فَصُمْ عَشْرًا ثُمَّ ائْتِنِي. فَفَعَلَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا أُمِرَ (1) بِهِ، فَلَمَّا رَأَى قَوْمُ مُوسَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ فِي الْأَجَلِ، سَاءَهُمْ ذَلِكَ. وَكَانَ هَارُونُ قَدْ خَطَبَهُمْ وَقَالَ: إِنَّكُمْ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ مِصْرَ، وَلِقَوْمِ فِرْعَوْنَ عِنْدَكُمْ عَوَارِيُّ وَوَدَائِعُ، وَلَكُمْ فِيهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ وَأَنَا (2) أَرَى أَنَّكُمْ تَحْتَسِبُونَ (3) مَا لَكَمَ عِنْدَهُمْ، وَلَا أَحِلُّ لَكُمْ وَدِيعَةً اسْتُودِعْتُمُوهَا وَلَا عَارِيَةً، وَلَسْنَا بِرَادِّينَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا (4) مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُمْسِكِيهِ لِأَنْفُسِنَا، فَحَفَرَ حَفِيرًا، وَأَمَرَ كُلَّ قَوْمٍ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ حِلْيَةٍ أَنْ يَقْذِفُوهُ فِي ذَلِكَ الْحَفِيرِ، ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهِ النَّارَ فَأَحْرَقَهُ، فَقَالَ (5) لَا يَكُونُ لَنَا وَلَا لَهُمْ.
وَكَانَ السَّامِرِيُّ مَنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، جِيرَانٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاحْتَمَلَ مَعَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ احْتَمَلُوا، فَقُضِيَ لَهُ أَنْ رَأَى أَثَرًا فَقَبَضَ (6) مِنْهُ قَبْضَةً، فَمَرَّ بِهَارُونَ، فَقَالَ لَهُ هَارُونُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا سَامِرِيُّ، أَلَا تُلْقِي مَا فِي يَدِكَ؟ وَهُوَ قَابِضٌ عَلَيْهِ، لَا يَرَاهُ أَحَدٌ طِوَالَ ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذِهِ قَبْضَةٌ مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاوَزَ بِكُمُ الْبَحْرَ، وَلَا أُلْقِيهَا لِشَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ إِذَا أَلْقَيْتُهَا أَنْ يَكُونَ مَا أُرِيدُ. فَأَلْقَاهَا، وَدَعَا لَهُ هَارُونُ، فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عِجْلًا. فَاجْتَمَعَ مَا كَانَ فِي الْحَفِيرَةِ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ حِلْيَةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ، فَصَارَ عِجْلًا أَجْوَفَ. لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ، وَلَهُ خُوَارٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا وَاللَّهِ، مَا كَانَ لَهُ صَوْتٌ قَطُّ، إِنَّمَا كَانَتِ الرِّيحُ تَدْخُلُ فِي (7) دُبُرِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، فَكَانَ ذَلِكَ الصَّوْتُ مِنْ ذَلِكَ.
فَتَفَرَّقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِرَقًا، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَا سَامِرِيُّ مَا هَذَا؟ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ. قَالَ: هَذَا رَبُّكُمْ وَلَكِنَّ مُوسَى أَضَلَّ الطَّرِيقَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا نُكَذِّبُ بِهَذَا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى، فَإِنْ كَانَ رَبَّنَا لَمْ نَكُنْ ضَيَّعْنَاهُ وَعَجَزْنَا فِيهِ حِينَ رَأَيْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبَّنَا فَإِنَّا نَتَّبِعُ قَوْلَ مُوسَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا عَمَلُ الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ بِرَبِّنَا وَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُصَدِّقُ، وَأُشْرِبَ فِرْقَةٌ فِي قُلُوبِهِمُ الصِّدْقَ بِمَا قَالَ السَّامِرِيُّ فِي الْعَجَلِ، وَأَعْلَنُوا التَّكْذِيبَ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} [طه: 90] . قَالُوا (8) فَمَا بَالُ مُوسَى وَعَدَنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ أَخْلَفَنَا، هَذِهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَدْ مَضَتْ؟ وَقَالَ (9) سُفَهَاؤُهُمْ: أَخْطَأَ رَبَّهُ فَهُوَ يَطْلُبُهُ وَيَتْبَعُهُ.
فَلَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ مَا قَالَ، أَخْبَرَهُ بِمَا لَقِيَ قَوْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ، {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه: 86] فَقَالَ لَهُمْ مَا سَمِعْتُمْ فِي الْقُرْآنِ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى
__________
(1) في ف، أ: "أمره".
(2) في ف: "وإني".
(3) في ف: "تحتسبوا".
(4) في ف: "شيئا إليهم".
(5) في ف: "وقال".
(6) في ف، أ: "فأخذ".
(7) في ف، أ: "من".
(8) في أ: "هكذا قالوا".
(9) في ف: "فقال".(5/291)
الْأَلْوَاحَ مِنَ الْغَضَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَذَرَ أَخَاهُ بِعُذْرِهِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَانْصَرَفَ (1) إِلَى السَّامِرِيِّ فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: قَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، وَفَطِنْتُ لَهَا (2) وَعَمِيَتْ عَلَيْكُمْ فَقَذَفْتُهَا {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه: 96، 97] وَلَوْ كَانَ إِلَهًا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى ذَلِكَ مِنْهُ. فَاسْتَيْقَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالْفِتْنَةِ، وَاغْتَبَطَ الَّذِينَ كَانَ رَأْيُهُمْ فِيهِ مِثْلَ رَأْيِ هَارُونَ، فَقَالُوا لِجَمَاعَتِهِمْ: يَا مُوسَى، سَلْ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَفْتَحَ لَنَا بَابَ تَوْبَةٍ نَصْنَعُهَا، فَيُكَفِّرَ عَنَّا مَا عَمِلْنَا. فَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِذَلِكَ، لَا يَأْلُو الْخَيْرَ، خِيَارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ فِي الْعِجْلِ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ يَسْأَلُ لَهُمُ التَّوْبَةَ، فَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَاسْتَحْيَا نَبِيُّ اللَّهِ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ وَفْدِهِ حِينَ فُعِلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ فَقَالَ: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الْأَعْرَافِ: 155] وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ اطَّلَعَ اللَّهُ مِنْهُ (3) عَلَى مَا أُشْرِبَ قَلْبُهُ مِنْ حُبِّ الْعِجْلِ وَإِيمَانِهِ بِهِ، فَلِذَلِكَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَقَالَ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيل} [الْأَعْرَافِ: 156، 157] . فَقَالَ: يَا رَبِّ، سَأَلْتُكَ التَّوْبَةَ لِقَوْمِي، فَقُلْتَ: إِنَّ رَحْمَتِي كَتَبْتُهَا لِقَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِي، هَلَّا أَخَّرْتَنِي حَتَّى تُخْرِجَنِي فِي أُمَّةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمَرْحُومَةِ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ تَوْبَتَهُمْ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ (4) مَنْ لَقِيَ مِنْ وَالِدٍ وَوَلَدٍ، فَيَقْتُلُهُ بِالسَّيْفِ، وَلَا (5) يُبَالِي مَنْ قَتَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ، وَتَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ خَفِيَ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَاطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ فَاعْتَرَفُوا بِهَا، وَفَعَلُوا مَا أُمِرُوا، وَغَفَرَ اللَّهُ لِلْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ.
ثُمَّ سَارَ بِهِمْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ (6) مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَخَذَ الْأَلْوَاحَ بَعْدَ مَا سَكَتَ عَنْهُ الْغَضَبُ، فَأَمَرَهُمْ بِالَّذِي أُمِرَ بِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ، فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بِهَا، فَنَتَقَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ كَأَنَّهُ ظُلَّةً، وَدَنَا مِنْهُمْ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ فَأَخَذُوا الْكِتَابَ بِأَيْمَانِهِمْ وَهُمْ مُصْغُونَ يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ، وَالْكِتَابُ بِأَيْدِيهِمْ، وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى أَتَوُا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَوَجَدُوا مَدِينَةً فِيهَا قَوْمٌ جَبَّارُونَ خَلْقُهُم خَلْق مُنْكَرٌ -وَذَكَرُوا مِنْ ثِمَارِهِمْ أَمْرًا عَجِيبًا مِنْ عِظَمِهَا-فَقَالُوا: يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ، لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، وَلَا نَدْخُلُهَا مَا دَامُوا فِيهَا، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ. قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُون-قِيلَ لِيَزِيدَ: هَكَذَا قَرَأَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ مِنَ الْجَبَّارِينَ، آمَنَا بِمُوسَى، وَخَرَجَا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِقَوْمِنَا إِنْ كُنْتُمْ إِنَّمَا تَخَافُونَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ أَجْسَامِهِمْ وَعَدَدِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا قُلُوبَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَة عِنْدَهُمْ، فَادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ-وَيَقُولُ أُنَاسٌ: إِنَّهُمْ (7) مِنْ قَوْمِ مُوسَى. فَقَالَ الَّذِينَ يَخَافُونَ، بَنُو إِسْرَائِيلَ: { [قَالُوا] (8) يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [الْمَائِدَةِ: 24] فَأَغْضَبُوا مُوسَى، فَدَعَا عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ فَاسِقِينَ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، لِمَا رَأَى
__________
(1) في ف: "فانصرف".
(2) في ف: "إليها".
(3) في ف: "الله اطلع منه".
(4) في ف: "منهم كل".
(5) في ف: "لا".
(6) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(7) في ف، أ::إنهما".
(8) زيادة من أ.(5/292)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
مِنْهُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَإِسَاءَتِهِمْ حَتَّى كَانَ يَوْمَئِذٍ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَسَمَّاهُمْ كَمَا سَمَّاهُمْ (1) فَاسِقِينَ، فَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ فَيَسِيرُونَ، لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ، ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَجَعَلَ لَهُمْ ثِيَابًا لَا تَبْلَى وَلَا تَتَّسِخُ، وَجَعَلَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ (2) حَجَرًا مُرَبَّعًا، وَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ. فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ ثَلَاثُ (3) أَعْيُنٍ، وَأَعْلَمَ كُلَّ سِبْط عَيْنَهُمُ (4) الَّتِي يَشْرَبُونَ مِنْهَا، فَلَا يَرْتَحِلُونَ مِنْ مَنْقَلَة إِلَّا وَجَدُوا ذَلِكَ الْحَجَرَ مَعَهُمْ بِالْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بِالْأَمْسِ.
رَفَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصَدَّقَ ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ (5) هَذَا الْحَدِيثَ، فَأَنْكَرُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْفِرْعَوْنِيُّ الَّذِي أَفْشَى عَلَى مُوسَى أَمْرَ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلَ، فَقَالَ: كَيْفَ يُفْشي عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ إِلَّا الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي حَضَرَ ذَلِكَ؟. فَغَضِبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَأَخَذَ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، هَلْ تَذْكُرُ يَوْمَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتِيلِ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ؟ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي أَفْشَى عَلَيْهِ أَمِ الْفِرْعَوْنِيُّ؟ قَالَ: إِنَّمَا أَفْشَى عَلَيْهِ الْفِرْعَوْنِيُّ، بِمَا سَمِعَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ وَحَضَرَهُ.
هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى، وَأَخْرَجَهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا (6) كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ (7) وَهُوَ مَوْقُوفٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ فِيهِ مَرْفُوعٌ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُ، وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (8) مِمَّا أُبِيحَ نَقْلُهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَوْ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا.
{فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ لَبِثَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ "مَدْيَنَ" فَارًّا مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، يَرْعَى عَلَى صِهْرِهِ، حَتَّى انْتَهَتِ الْمُدَّةُ وَانْقَضَى الْأَجَلُ، ثُمَّ جَاءَ مُوَافِقًا لَقَدَرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ (9) تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُوَ الْمُسَيَّرُ عِبَادَهُ وَخَلْقَهُ فِيمَا يَشَاءُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا [مُوسَى] } (10) قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ عَلَى مَوْعِدٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} قَالَ: عَلَى قدر
__________
(1) في ف، أ: "كما سماهم موسى".
(2) في ف: "أظهرهم".
(3) في ف: "ثلاثة".
(4) في أ: "منهم".
(5) في أ: "حدث".
(6) في أ: "في تفسيرهما".
(7) سنن النسائي الكبرى برقم (11326) وتفسير الطبري (16/125) .
(8) في ف، أ: "عنهما".
(9) في ف: "له".
(10) زيادة من ف، أ.(5/293)
الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ.
وَقَوْلُهُ: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} أَيِ: اصْطَفَيْتُكَ وَاجْتَبَيْتُكَ رَسُولا لِنَفْسِي، أَيْ: كَمَا أُرِيدُ وَأَشَاءُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابن سِيرين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَمُ: وَأَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فوجدتَه قَدْ كَتَبَ عَليّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ. فحَجّ آدَمُ مُوسَى" أَخْرَجَاهُ (1) .
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} أَيْ: بحُجَجي وَبَرَاهِينِي وَمُعْجِزَاتِي، {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} قال علي ابن أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تُبْطئا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَضْعُفا.
وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتُرَانِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، بَلْ يَذْكُرَانِ اللَّهَ فِي حَالِ مُوَاجَهَةِ فِرْعَوْنَ، لِيَكُونَ ذكرُ اللَّهِ عَوْنًا لَهُمَا عَلَيْهِ، وَقُوَّةً لَهُمَا وَسُلْطَانًا كَاسِرًا لَهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِي لَلَّذِي (2) يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُنَاجِز قِرْنه". (3)
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أَيْ: تَمَرَّدَ وَعَتَا وتَجَهْرم عَلَى اللَّهِ وَعَصَاهُ،
{فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ أَنَّ فِرْعَوْنَ فِي غَايَةِ الْعُتُوِّ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَمُوسَى صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ إِذْ ذَاكَ، وَمَعَ هَذَا أُمِرَ أَلَّا يُخَاطِبَ فِرْعَوْنَ إِلَّا بِالْمُلَاطَفَةِ وَاللِّينِ، كَمَا قَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} : يَا مَنْ يَتَحَبَّبُ إِلَى مَنْ يُعَادِيهِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُنَادِيهِ؟
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبه: قُولَا لَهُ: إِنِّي إِلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أقربُ مِنِّي إِلَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ (4) عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} أعْذرا إِلَيْهِ، قُولَا لَهُ: إِنَّ لَكَ رَبًّا وَلَكَ مَعَادًا، وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ جَنَّةً وَنَارًا.
وَقَالَ بقيَّة، عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَارُونَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحم، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَة، عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} قَالَ: كَنِّه.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثوري: كَنّه بأبي مُرَّة.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4736) .
(2) في أ: "الذي".
(3) رواه الترمذي في السنن برقم (3580) من حديث عمارة بن زعكرة رضي الله عنه. وقال الترمذي "هذا حديث غريب ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوى".
(4) في أ: "وعن".(5/294)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
وَالْحَاصِلُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَنَّ دَعْوَتَهُمَا لَهُ تَكُونُ بِكَلَامٍ رَقِيقٍ لَيِّنٍ قَرِيبٍ سَهْلٍ، لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ وَأَبْلَغَ وَأَنْجَعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الْآيَةَ [النَّحْلِ: 125] .
[قَوْلُهُ] (1) {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} أَيْ: لَعَلَّهُ يَرْجِعُ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْهَلَكَةِ، {أَوْ يَخْشَى} أَيْ: يُوجد طَاعَةً مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ يَخْشَى} (2) فَالتَّذَكُّرُ: الرُّجُوعُ عَنِ الْمَحْذُورِ، وَالْخَشْيَةُ: تَحْصِيلُ الطَّاعَةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ [فِي قَوْلِهِ] (3) {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} يَقُولُ: لَا تَقُلْ أَنْتَ يَا مُوسَى وَأَخُوكَ هَارُونُ: أهْلكْه قَبْلَ أَنْ أَعْذُرَ (4) إِلَيْهِ.
وَهَاهُنَا نَذْكُرُ شِعْرَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَيُرْوَى لأمَيّة بْنِ أَبِي الصَّلْت فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَأَنْتَ الَّذِي مِنْ فَضْلِ مَنٍّ وَرَحْمَةٍ ... بَعَثْتَ إِلَى مُوسَى رَسُولًا مُنَادِيًا ...
فَقُلْتَ لَهُ يَا اذْهَبْ وهارون فادعُوَا ... إلى الله فرعون الذي كان بَاغِيَا ...
فَقُولَا لَهُ هَلْ أَنْتَ سَوَّيْتَ هَذِهِ ... بِلَا وَتَدٍ حَتَّى اسْتَقَلَّتْ كَمَا هِيَا ...
وُقُولَا له أأنت رَفَّعت هذه ... بلا عمد? أرفق إِذَنْ بِكَ بَانِيَا ...
وَقُولَا لَهُ آأَنْتَ سَوَّيْتَ وَسْطَهَا ... مُنِيرًا إِذَا مَا جَنَّه اللَّيْلُ هَادِيَا ...
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُخْرِجُ الشَّمْسَ بُكْرَةً ... فَيُصْبِحُ مَا مَسَّتْ مِنَ الْأَرْضِ ضَاحِيَا ...
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُنْبِتُ الْحَبَّ فِي الثَّرَى ... فَيُصْبِحُ مِنْهُ الْبَقْلُ يَهْتَزُّ رَابِيَا ...
وَيُخْرِجُ مِنْهُ حَبَّهُ فِي رُءُوسِهِ (5) فَفِي ذَاكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيَا (6)
{قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) }
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أنهما قالا مستجيرين بالله تعالى شاكيَيْن
__________
(1) زيادة من ف، وفي أ: "وقوله".
(2) هكذا في كل النسخ، وليست آية.
(3) زيادة من أ.
(4) في ف: "تعذرا"، وفي أ: "يعذر".
(5) في أ: "دويبة".
(6) السيرة النبوية لابن هشام (1/228) .(5/295)
إِلَيْهِ: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} يَعْنِيَانِ أَنْ يَبْدُر إِلَيْهِمَا بِعُقُوبَةٍ، أَوْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِمَا فَيُعَاقِبَهُمَا وَهُمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ مِنْهُ ذَلِكَ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: {أَنْ يَفْرُطَ} يَعْجَلَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَبْسُطَ عَلَيْنَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَوْ أَنْ يَطْغَى} : يَعْتَدِيَ.
{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} أَيْ: لَا تَخَافَا مِنْهُ، فَإِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ كَلَامَكُمَا وَكَلَامَهُ، وَأَرَى مَكَانَكُمَا وَمَكَانَهُ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ مِنْ أَمْرِكُمْ شَيْءٌ، وَاعْلَمَا أَنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي، فَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَتَنَفَّسُ وَلَا يَبْطِشُ إِلَّا بِإِذْنِي وَبَعْدَ أَمْرِي، وَأَنَا مَعَكُمَا بِحِفْظِي وَنَصْرِي وَتَأْيِيدِي.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسيّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا بَعَثَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ قَالَ: رَبِّ، أَيُّ شَيْءٍ أَقُولُ؟ قَالَ قُلْ: هَيَا شَرَاهِيَا. قَالَ الْأَعْمَشُ: فَسَّرَ ذَلِكَ: الْحَيُّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْحَيُّ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ.
إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَشَيْءٌ غَرِيبٌ.
{فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} ، قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ "الْفُتُونِ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَكَثَا (1) عَلَى بَابِهِ حِينًا لَا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شَدِيدٍ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ خَرَجَا، فَوَقَفَا بِبَابِ فِرْعَوْنَ يَلْتَمِسَانِ الْإِذْنَ عَلَيْهِ وَهُمَا يَقُولَانِ: إِنَّا رُسُلُ (2) رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَآذِنُوا بِنَا هَذَا الرَّجُلَ، فَمَكَثَا فِيمَا بَلَغَنِي سَنَتَيْنِ يَغْدوان وَيَرُوحَانِ، لَا يَعْلَمُ بِهِمَا وَلَا يَجْتَرِئُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يُخْبِرَهُ بِشَأْنِهِمَا، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ بَطَّال لَهُ يُلَاعِبُهُ ويُضْحكه، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّ عَلَى بَابِكَ رَجُلًا يَقُولُ قَوْلًا عَجِيبًا، يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ إِلَهًا (3) غَيْرَكَ أَرْسَلَهُ إِلَيْكَ. قَالَ: بِبَابِي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَدْخِلُوهُ، فَدَخَلَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ وَفِي يَدِهِ عَصَاهُ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى فِرْعَوْنَ قَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَعَرَفَهُ فِرْعَوْنُ.
وَذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ بِلَادَ مِصْرَ، ضَافَ أُمَّهُ وَأَخَاهُ وَهُمَا لَا يَعْرِفَانِهِ، وَكَانَ طَعَامُهُمَا (4) لَيْلَتَئِذٍ الطَّعْثَلِلَ (5) وَهُوَ اللِّفْتُ، ثُمَّ عَرَفَاهُ وَسَلَّمَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا هَارُونُ، إِنَّ رَبِّي قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ هَذَا الرَّجُلَ فِرْعَوْنَ فَأَدْعُوَهُ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَرَ (6) أَنْ تُعَاوِنَنِي. قَالَ: افْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ. فَذَهَبَا، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا فَضَرَبَ مُوسَى بَابَ الْقَصْرِ بِعَصَاهُ، فَسَمِعَ فِرْعَوْنُ فَغَضِبَ وَقَالَ (7) من يجترئ على هذا
__________
(1) في ف: "عن ابن عباس أنهما مكثا في بابه"، وفي أ: عن ابن عباس أنه قال: مكثا في بابه".
(2) في أ: "رسول".
(3) في أ: "أن له إله" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(4) في أ: "وكان طعامهم".
(5) في أ: "الطفسل".
(6) في ف، أ: "وأمرك".
(7) في ف، أ: "فقال".(5/296)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
الصَّنِيعِ؟ فَأَخْبَرَهُ السَّدَنَةُ وَالْبَوَّابُونَ (1) بِأَنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مَجْنُونًا يَقُولُ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِ. فَلَمَّا وَقَفَا بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَا وَقَالَ لَهُمَا مَا ذَكَرَ (2) اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.
وَقَوْلُهُ: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} أَيْ: بِدَلَالَةٍ وَمُعْجِزَةٍ مِنْ رَبِّكَ، {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} أَيْ: وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ إِنِ اتَّبَعْتَ الْهُدَى.
وَلِهَذَا لَمَّا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ [كِتَابًا، كَانَ أَوَّلُهُ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ] (3) سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ، [فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدَعَايَةِ الْإِسْلَامِ] (4) فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ".
وَكَذَلِكَ لَمَّا كَتَبَ مُسَيْلِمَةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كِتَابًا صُورَتُه: "مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ (5) فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، فَلَكَ الْمَدَرُ (6) وَلِي الْوَبَرُ، وَلَكِنْ قُرَيْشٌ (7) قَوْمٌ يَعْتَدُونَ". فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (8) .
وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى وَهَارُونُ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، لِفِرْعَوْنَ: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أَيْ: قَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيْنَا مِنَ الْوَحْيِ المعصوم أن العذاب متحمض لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النَّازِعَاتِ: 37 -39] وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [اللَّيْلِ: 14 -16] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الْقِيَامَةِ: 31، 32] . أَيْ: كَذَّبَ بِقَلْبِهِ وَتَوَلَّى بِفِعْلِهِ.
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى (51) }
__________
(1) في أ: "والبوابين" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(2) في ف: "ذكره".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف، أ: "اشتركت".
(6) في أ: "فلك الدر".
(7) في ف، أ: "قريشا".
(8) السيرة النبوية لابن هشام (2/600) .(5/297)
قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى (52) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى مُنْكِرًا وُجُودَ الصَّانِعِ الْخَالِقِ، إِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبَّهُ وَمَلِيكَهُ، قَالَ: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} أَيِ: الَّذِي بَعَثَكَ وَأَرْسَلَكَ مَنْ هُوَ؟ فَإِنِّي لَا أَعْرِفُهُ، وَمَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: خَلَقَ لِكُلِّ شَيْءٍ زَوْجة.(5/297)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَعَلَ الْإِنْسَانَ إِنْسَانًا، وَالْحِمَارَ حِمَارًا، وَالشَّاةَ شَاةً.
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيم، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: سَوّى خَلْقَ كُلِّ دَابَّةٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قَالَ: أَعْطَى كُلَّ ذِي خَلْق مَا يُصْلِحُهُ مِنْ خَلْقه، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْإِنْسَانِ مِنْ خَلْق الدَّابَّةِ، وَلَا لِلدَّابَّةِ مِنْ خَلْقِ الْكَلْبِ، وَلَا لِلْكَلْبِ (1) مِنْ خَلْقِ الشَّاةِ، وَأَعْطَى كُلَّ (2) شَيْءٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ النِّكَاحِ، وَهَيَّأَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ، لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ (3) فِي الخَلْق وَالرِّزْقِ وَالنِّكَاحِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الْأَعْلَى: 3] أَيْ: قَدَّرَ قَدَرًا، وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ، أَيْ: كَتَب الْأَعْمَالَ وَالْآجَالَ وَالْأَرْزَاقَ، ثُمَّ الْخَلَائِقُ مَاشُونَ عَلَى ذَلِكَ، لَا يَحِيدُونَ عَنْهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ. يَقُولُ: رَبُّنَا الَّذِي خَلَقَ [الْخَلْقَ] (4) وَقَدَّرَ القَدَر، وجَبَل الْخَلِيقَةَ عَلَى مَا أَرَادَ.
{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى} أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَخْبَرَهُ مُوسَى بِأَنَّ رَبَّهُ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ وَرَزَقَ وَقَدَّرَ فَهَدَى، شَرَعَ يَحْتَجُّ بِالْقُرُونِ الْأُولَى، أَيِ: الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، أَيْ: فَمَا بَالُهُمْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ، لَمْ يَعْبُدُوا رَبَّكَ (5) بَلْ عَبَدُوا غَيْرَهُ؟ فَقَالَ لَهُ مُوسَى فِي جَوَابِ ذَلِكَ: هُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ فَإِنَّ عَمَلَهُمْ (6) عِنْدَ اللَّهِ مَضْبُوطٌ عَلَيْهِمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ بِعَمَلِهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وَكِتَابُ الْأَعْمَالِ، {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} أَيْ: لَا يَشِذُّ عَنْهُ (7) شَيْءٌ، وَلَا يَفُوتُهُ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ، وَلَا يَنْسَى شَيْئًا. يَصِفُ عِلْمَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْسَى شَيْئًا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ، فَإِنَّ عِلْمَ الْمَخْلُوقِ يَعْتَرِيهِ نُقْصَانَانِ (8) أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ، وَالْآخَرُ نِسْيَانُهُ بَعْدَ عِلْمِهِ، فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) } .
هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى فِيمَا وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، حِينَ سَأَلَهُ فِرْعَوْنُ عَنْهُ، فَقَالَ: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ، ثُمَّ اعْتُرِضَ الْكَلَامُ بَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مِهَادًا}
__________
(1) في أ: "ولا للخلق".
(2) في ف، أ: "كل ذي".
(3) في ف: "من فعاله".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف، أ: "لم يعبدوه".
(6) في ف، أ: "علمهم".
(7) في ف: "عليه".
(8) في ف، أ: "نقصان".(5/298)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
وَفِي قِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ "مَهْدًا" أَيْ: قَرَارًا تَسْتَقِرُّونَ (1) عَلَيْهَا وَتَقُومُونَ وَتَنَامُونَ عَلَيْهَا (2) وَتُسَافِرُونَ (3) عَلَى ظَهْرِهَا، {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} أَيْ: جَعَلَ لَكُمْ طُرُقًا تَمْشُونَ فِي مَنَاكِبِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 31] .
{وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} أَيْ: [مِنْ] (4) أَلْوَانِ النَّبَاتَاتِ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ، وَمِنْ حَامِضٍ وَحُلْوٍ، وَسَائِرِ الْأَنْوَاعِ.
{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ}
أَيْ: شَيْءٌ لِطَعَامِكُمْ وَفَاكِهَتِكُمْ، وَشَيْءٌ لِأَنْعَامِكُمْ لِأَقْوَاتِهَا خَضِرًا وَيَابِسًا.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أَيْ: لَدَلَالَاتٍ وَحُجَجًا (5) وَبَرَاهِينَ {لأولِي النُّهَى} أَيْ: لِذَوِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}
أَيْ: مِنَ الْأَرْضِ مَبْدَؤُكُمْ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أَيْ: وَإِلَيْهَا تَصِيرُونَ إِذَا مُتُّمْ وَبَلِيتُمْ، وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى. {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} [الْإِسْرَاءِ: 52] .
وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الْأَعْرَافِ: 25] .
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَرَ جِنَازَةً، فَلَمَّا دُفِنَ الْمَيِّتُ أَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَأَلْقَاهَا فِي الْقَبْرِ ثُمَّ قَالَ (6) {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} ثُمَّ [أَخَذَ] (7) أُخْرَى وَقَالَ: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} . ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى وَقَالَ: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} .
وَقَوْلُهُ {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} ، يَعْنِي: فِرْعَوْنَ، أَنَّهُ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَجُ وَالْآيَاتُ وَالدَّلَالَاتُ وَعَايَنَ ذَلِكَ وَأَبْصَرَهُ، فَكَذَّبَ بِهَا وَأَبَاهَا كُفْرًا وَعِنَادًا وَبَغْيًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النَّمْلِ: 14] .
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى حِينَ أَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى، وَهِيَ إِلْقَاءُ عَصَاهُ فَصَارَتْ ثُعْبَانًا عَظِيمًا وَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ جَنَاحِهِ فَخَرَجَتْ (8) بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فَقَالَ: هَذَا سِحْرٌ، جِئْتَ بِهِ لِتَسْحَرَنَا وَتَسْتَوْلِيَ بِهِ عَلَى النَّاسِ، فَيَتَّبِعُونَكَ وَتُكَاثِرُنَا بِهِمْ، وَلَا يَتِمُّ هَذَا مَعَكَ، فَإِنَّ عِنْدَنَا سِحْرًا مِثْلَ
__________
(1) في ف: "يستقرون".
(2) في ف: "ويقومون وينامون عليها".
(3) في ف: "ويسافرون".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في أ: "وحجج" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(6) في أ،: "وقال".
(7) زيادة من، ف، أ.
(8) في أ: "فتخرج.(5/299)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
سِحْرِكَ، فَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا أَنْتَ فِيهِ {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} أَيْ: يَوْمًا نَجْتَمِعُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِيهِ، فَنُعَارِضُ مَا جِئْتَ بِهِ بِمَا عِنْدَكَ مِنَ السِّحْرِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَوَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَعِنْدَ ذَلِكَ {قَالَ} لَهُمْ مُوسَى {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} وَهُوَ يَوْمُ عِيدِهِمْ ونَوروزُهم وَتَفَرُّغِهِمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ جَمِيعِهِمْ؛ لِيُشَاهِدَ النَّاسُ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَمُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبُطْلَانَ مُعَارَضَةِ السِّحْرِ لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ النَّبَوِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ} أَيْ: جَمِيعُهُمْ {ضُحًى} أَيْ: ضَحْوَةً مِنَ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَظْهَرَ وَأَجْلَى وَأَبْيَنَ وَأَوْضَحَ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْأَنْبِيَاءِ، كُلُّ أَمْرِهِمْ وَاضِحٌ، بَيِّنٌ، لَيْسَ فِيهِ خَفَاءٌ وَلَا تَرْوِيجٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ "لَيْلًا" وَلَكِنْ نَهَارًا ضُحًى.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ يَوْمُ الزِّينَةِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ، وقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: كَانَ يَوْمَ عِيدِهِمْ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَوْمَ سُوقِهِمْ.
وَلَا مُنَافَاةَ. قُلْتُ: وَفِي مِثْلِهِ أَهْلَكَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّه: قَالَ فِرْعَوْنُ: يَا مُوسَى، اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا نَنْظُرُ فِيهِ. قَالَ مُوسَى: لَمْ أُومَرْ بِهَذَا، إِنَّمَا أُمِرْتُ بِمُنَاجَزَتِكَ، إِنْ أَنْتَ لَمْ تَخْرُجْ دَخَلْتُ إِلَيْكَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنِ اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَجَلًا وَقُلْ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ هُوَ. قَالَ فِرْعَوْنُ: اجْعَلْهُ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَفَعَلَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ: {مَكَانًا سُوًى} (1) مَنْصَفًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَدْلًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {مَكَانًا سُوًى} [مستوى] (2) يَتَبَيَّنُ النَّاسُ مَا (3) فِيهِ، لَا يَكُونُ صَوَب (4) وَلَا شَيْءَ يَتَغَيَّبُ بَعْضُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضٍ مستوٍ حَتَّى (5) يُرى.
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ لَمَّا تَوَاعَدَ هُوَ بِمُوسَى (6) عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى وَقْتٍ وَمَكَانٍ مَعْلُومَيْنِ، تَوَلَّى، أَيْ: شَرَعَ فِي جَمْعِ السَّحَرَةِ مِنْ مَدَائِنِ مَمْلَكَتِهِ، كُلِّ مَنْ يُنْسَبُ (7) إِلَى سِحْرٍ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَقَدْ كَانَ السِّحْرُ فِيهِمْ كَثِيرًا نَافِقًا جِدًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس: 79] .
__________
(1) في أ: "سويا".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في أ: "وما".
(4) في أ، و: "لا صوت".
(5) في ف، أ:"مستوى".
(6) في أ: "تواعد هو وموسى".
(7) في أ: "كل من يسب".(5/300)
{ثُمَّ أَتَى} أَيِ: اجْتَمَعَ النَّاسُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَجَلَسَ فِرْعَوْنُ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ، وَاصْطَفَّ لَهُ أَكَابِرُ دَوْلَتِهِ، وَوَقَفَتْ الرَّعَايَا يُمْنَةً وَيُسْرَةً وَأَقْبَلَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصَاهُ، وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ، وَوَقَفَ السَّحَرَةُ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ صُفُوفًا، وَهُوَ يُحَرِّضُهُمْ وَيَحُثُّهُمْ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِي إِجَادَةِ عَمَلِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَيَتَمَنَّوْنَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، فَيَقُولُونَ: {أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ (1) إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 41، 42] . {قَالَ (2) لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أَيْ: لَا تُخَيّلُوا لِلنَّاسِ بِأَعْمَالِكُمْ إِيجَادَ أَشْيَاءَ لَا حَقَائِقَ لَهَا، وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ، وليست مخلوقة، فتكونون قَدْ كَذَبْتُمْ عَلَى اللَّهِ، {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} أَيْ: يُهْلِكُكُمْ بِعُقُوبَةٍ هَلَاكًا لَا بَقِيَّةَ لَهُ، {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} قِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ تَشَاجَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَائِلٌ يَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِكَلَامِ سَاحِرٍ، إِنَّمَا هَذَا كَلَامُ نَبِيٍّ. وَقَائِلٌ يَقُولُ: بَلْ هُوَ سَاحِرٌ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} أَيْ: تَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ، {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} هَذِهِ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ، جَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى إِعْرَابِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ: "إنْ هَذَينِ لَسَاحِرَانِ" وَهَذِهِ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَقَدْ تَوَسَّعَ النُّحَاةُ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْقِرَاءَةِ الْأَوْلَى بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ.
وَالْغَرَضُ أَنَّ السَّحَرَةَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: تَعْلَمُونَ (3) أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ وَأَخَاهُ -يَعْنُونُ: مُوسَى وَهَارُونَ-سَاحِرَانِ عَالِمَانِ خَبِيرَانِ بِصِنَاعَةِ السِّحْرِ، يُرِيدَانِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ يَغْلِبَاكُمْ وَقَوْمَكُمْ وَيَسْتَوْلِيَا عَلَى النَّاسِ، وَتَتْبَعَهُمَا الْعَامَّةُ وَيُقَاتِلَا فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ، فَيَنْتَصِرَا عَلَيْهِ وَيُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} أَيْ: وَيَسْتَبِدَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَهِيَ السِّحْرُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا معظَّمين بِسَبَبِهَا، لَهُمْ أَمْوَالٌ وَأَرْزَاقٌ عَلَيْهَا، يَقُولُونَ: (4) إِذَا غَلَبَ هَذَانَ أَهْلَكَاكُمْ وَأَخْرَجَاكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَتَفَرَّدَا بِذَلِكَ، وَتَمَحَّضَتْ لَهُمَا الرِّيَاسَةُ بِهَا دُونَكُمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ عَنِ (5) ابْنِ عَبَّاسٍ [قَالَ] (6) فِي قَوْلِهِ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} يَعْنِي: مُلْكَهُمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْعَيْشَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْم، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، سَمِعَ الشَّعْبِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} قَالَ: يَصْرِفَا (7) وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِمَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} قَالَ: أُولِي الشَّرَفِ وَالْعَقْلِ وَالْأَسْنَانِ.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} أَشْرَافُكُمْ وَسَرُوَاتُكُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: بِخَيْرِكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَطَرِيقَتُهُمُ الْمُثْلَى يَوْمَئِذٍ بَنُو إِسْرَائِيلَ، كَانُوا أَكْثَرَ الْقَوْمِ عَدَدًا وَأَمْوَالًا فَقَالَ عَدُوُّ الله: يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما.
__________
(1) في ف: "إنكم".
(2) في أ: "فقال".
(3) في ف أ: "يعلمون".
(4) في ف: "يقولان".
(5) في ف، أ: "أن".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ف، أ: "يصرفان".(5/301)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} بِالَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} أَيِ اجْتَمِعُوا كُلُّكُمْ (1) صَفًّا وَاحِدًا، وَأَلْقُوا مَا فِي أَيْدِيكُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِتَبْهَرُوا الْأَبْصَارَ، وَتَغْلِبُوا هَذَا وَأَخَاهُ، {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} أَيْ: مِنَّا وَمِنْهُ، أَمَّا نَحْنُ فَقَدَ وَعَدَنَا هَذَا الْمَلِكُ الْعَطَاءَ الْجَزِيلَ، وَأَمَّا هو فينال الرياسة العظيمة.
__________
(1) في أ: "كلهم".(5/302)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ السَّحَرَةِ حِينَ تَوَافَقُوا هُمْ وَمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} أَيْ: أَنْتَ أَوَّلًا {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا} أَيْ: أَنْتُمْ أَوَّلًا ليُرى مَاذَا تَصْنَعُونَ مِنَ السِّحْرِ، وَلِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ جَلِيَّةً أَمْرُهُمْ، {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} . وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَلْقَوْا {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 44] وَقَالَ تَعَالَى: {سَحَرُوا (1) أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الْأَعْرَافِ: 116] ، وَقَالَ هَاهُنَا {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} .
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَوْدَعُوهَا مِنَ الزِّئْبَقِ مَا كَانَتْ تَتَحَرَّكُ بِسَبَبِهِ وَتَضْطَرِبُ وَتَمِيدُ، بِحَيْثُ يُخَيَّلُ لِلنَّاظِرِ (2) أَنَّهَا تَسْعَى بِاخْتِيَارِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ حِيلَةً، وَكَانُوا جَمًّا غَفِيرًا وَجَمْعًا كَبِيرًا (3) فَأَلْقَى كُلٌّ مِنْهُمْ عَصًا وَحَبْلًا حَتَّى صَارَ الْوَادِي مَلْآنَ حَيَّاتٍ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَقَوْلُهُ: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} أَيْ خَافَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْتَتِنوا بِسِحْرِهِمْ وَيَغْتَرُّوا بِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَ مَا فِي يَمِينِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ أَنْ {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يَعْنِي: عَصَاهُ، فَإِذَا هِيَ {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} وَذَلِكَ أَنَّهَا صَارَتْ تِنِّينًا (4) عَظِيمًا هَائِلًا ذَا عُيُونٍ وَقَوَائِمَ وَعُنُقٍ وَرَأْسٍ وَأَضْرَاسٍ، فَجَعَلَتْ تَتْبَعُ تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ حَتَّى لَمْ تُبْقِ (5) مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا تَلَقَّفَتْهُ وَابْتَلَعَتْهُ، وَالسَّحَرَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى ذَلِكَ عِيَانًا جَهْرة، نَهَارًا ضَحْوَةً. فَقَامَتِ الْمُعْجِزَةُ، وَاتَّضَحَ الْبُرْهَانُ، وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (6) ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الشَّيْبَانِيُّ (7) حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مُعَاذٍ -أَحْسَبُهُ الصَّائِغَ-عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جُنْدَب بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: قَالَ رسول الله
__________
(1) في ف: "فسحروا".
(2) في ف، أ: "للناظرين".
(3) في ف، أ: "كثيرا".
(4) في ف، أ: ثعبانا".
(5) في ف: "لم يبق".
(6) في ف، أ: "ووقع الحق وبطل السحر".
(7) في ف: "ابن الشيباني".(5/302)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا أَخَذْتُمْ -يَعْنِي السَّاحِرَ-فَاقْتُلُوهُ" ثُمَّ قَرَأَ: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} قَالَ: "لَا يُؤْمَنُ بِهِ حَيْثُ وُجِدَ".
وَقَدْ رَوَى أَصْلَهُ التِّرْمِذِيُّ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا. (1)
فَلَمَّا عَايَنَ السَّحَرَةُ ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ، وَلَهُمْ خِبْرَةٌ بِفُنُونِ السِّحْرِ وَطُرُقِهِ وَوُجُوهِهِ، عَلِمُوا عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مُوسَى لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ وَالْحِيَلِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا إِلَّا الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ وَقَعُوا سُجَّدًا لِلَّهِ وَقَالُوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 47، 48] .
وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وعُبَيد بْنُ عُمَير:كَانُوا أَوَّلَ النَّهَارِ سَحَرَةً، وَفِي آخِرِ النَّهَارِ شُهَدَاءَ بَرَرَةً.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بزَّة: كَانُوا سَبْعِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْع، عَنْ أَبِي ثُمَامَةَ: كَانَ (2) سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا (3) عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ السَّحَرَةُ سَبْعِينَ رَجُلًا أَصْبَحُوا سَحَرَةً وَأَمْسَوْا شُهَدَاءَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْمُسَيَّبُ بْنُ وَاضِحٍ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَمَّا خرَّ السَّحَرَةُ سُجَّدًا رُفعت لَهُمُ الْجَنَّةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهَا.
قَالَ: وذُكر عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَّامٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلَهُ: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} قَالَ: رَأَوْا مَنَازِلَهُمْ تُبْنَى لَهُمْ وَهُمْ فِي سُجُودِهِمْ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّة.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (1460) من طريق إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدُبٍ رضي الله عنه وقال: "هذا حديث لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث، وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري قال وكيع: هو ثقة ويروى عن الحسن أيضا والصحيح عن جندب موقوف، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه ومسلم وغيرهم". تنبيه: ذكر الحافظ المزي هذا الحديث في كتابه تحفة الأشراف (2/446) من مسند جندب الخير الأزدي لا من مسند جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنهما فليتنبه".
(2) في أ: "كانوا".
(3) في أ: "حدثنا محمد بن موسى حدثني علي بن الحسين".(5/303)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَعِنَادِهِ وَبَغْيِهِ وَمُكَابَرَتِهِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنَ الْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْآيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَرَأَى الَّذِينَ قَدِ اسْتَنْصَرَ بِهِمْ قَدْ آمَنُوا بِحَضْرَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ وغُلِب كُلَّ الْغَلَبِ -شَرَعَ فِي الْمُكَابَرَةِ وَالْبَهْتِ، وَعَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِهِ وَسُلْطَانِهِ فِي (1) السَّحَرَةِ، فَتَهَدَّدَهُمْ وَأَوْعَدَهُمْ (2) وَقَالَ {آمَنْتُمْ لَهُ} أَيْ: صَدَّقْتُمُوهُ {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أَيْ: وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِذَلِكَ، وَافْتَتُّمْ (3) عَلَيَّ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ قَوْلًا يَعْلَمُ هُوَ وَالسَّحَرَةُ وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ أَنَّهُ بَهْت وَكَذِبٌ: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أَيْ أَنْتُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُ السِّحْرَ عَنْ مُوسَى، وَاتَّفَقْتُمْ أَنْتُمْ وَإِيَّاهُ عَلَيَّ وَعَلَى رَعِيَّتِي، لِتُظْهِرُوهُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ 123] .
ثُمَّ أَخَذَ يَتَهَدَّدُهُمْ فَقَالَ: {فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أَيْ: لَأَجْعَلَنَّكُمْ مُثْلَةً [وَلَأَقْتُلَنَّكُمْ] (4) وَلَأَشُهِّرَنَّكُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} أَيْ أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إِنِّي وَقُومِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنْتُمْ مَعَ مُوسَى وَقَوْمِهِ عَلَى الْهُدَى. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَكُونُ لَهُ الْعَذَابُ وَيَبْقَى فِيهِ.
فَلَمَّا صَالَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَتَوَعَّدَهُمْ، هَانَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَ {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} أَيْ: لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى مَا حَصَلَ لَنَا مِنَ الْهُدَى وَالْيَقِينِ. {وَالَّذِي فَطَرَنَا} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْبَيِّنَاتِ.
يَعْنُونَ: لَا (5) نَخْتَارُكَ عَلَى فَاطِرِنَا وَخَالِقِنَا الَّذِي أَنْشَأْنَا مِنَ الْعَدَمِ، الْمُبْتَدِئِ خَلْقَنَا مِنَ الطِّينِ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَالْخُضُوعِ لَا أَنْتَ.
{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} أَيْ: فَافْعَلْ مَا شِئْتَ وَمَا وَصَلَت إِلَيْهِ يَدُكَ، {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أَيْ: إِنَّمَا لَكَ تَسَلُّط فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَهِيَ دَارُ الزَّوال ونحن قد رغبنا في دار القرار. (6)
__________
(1) في ف: "إلى".
(2) في ف: "وتوعدهم" وفي أ: "فهددهم وتوعدهم".
(3) في ف: "وأقسم" وفي أ: "وأقشم".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف، أ: "لن".
(6) في أ: "البقاء"(5/304)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} أَيْ: مَا كَانَ مِنَّا مِنَ الْآثَامِ، خُصُوصًا مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ لِنُعَارِضَ بِهِ آيَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَمُعْجِزَةَ نَبِيِّهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} قَالَ: أَخَذَ فِرْعَوْنُ أَرْبَعِينَ غُلَامًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَمَرَ أَنْ يُعَلَّمُوا السِّحْرَ بالفَرَمَا، وَقَالَ: عَلِّمُوهُمْ تَعْلِيمًا لَا يَعْلَمُهُ (1) أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَهُمْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى، وَهْمُ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا: { [إِنَّا] (2) آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} .
وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أَيْ: خَيْرٌ لَنَا مِنْكَ {وَأَبْقَى} أَيْ: أَدْوَمُ ثَوَابًا مِمَّا كُنْتَ وَعَدْتَنَا وَمَنَّيْتَنَا. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِي: {وَاللَّهُ خَيْرُ} أَيْ: لَنَا مِنْكَ إِنْ أُطِيعَ، {وَأَبْقَى} أَيْ: مِنْكَ عَذَابًا إِنْ عُصِيَ.
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَيْضًا:
وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ -لَعَنَهُ اللَّهُ-صَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَفَعَلَهُ بِهِمْ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: أَصْبَحُوا سَحَرَةً، وأمسَوْا شُهَدَاءَ.
{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) } .
الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ مَا وَعَظَ بِهِ السَّحَرَةُ لِفِرْعَوْنَ، يُحَذِّرُونَهُ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ الدَّائِمِ السَّرْمَدِيِّ، وَيُرَغِّبُونَهُ فِي ثَوَابِهِ الْأَبَدِيِّ الْمُخَلَّدِ، فَقَالُوا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} أَيْ: يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مُجْرِمٌ، {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} كَقَوْلِهِ: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فَاطِرٍ: 36] ، وَقَالَ: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الْأَعْلَى: 11-13] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزُّخْرُفِ: 77] .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ وَلَكِنَّ [النَّاسَ] (3) تُصِيبُهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ، فَتُمِيتُهُمْ إِمَاتَةً، حَتَّى إِذَا صَارُوا فَحْمًا، أُذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ، جِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ، ضَبَائِرَ، فبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ (4) فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السيل"
__________
(1) في أ: "يغلبهم".
(2) زيادة من ف.
(3) زيادة من ف، والمسند.
(4) في ف، أ: "علينا".(5/305)
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِالْبَادِيَةِ.
وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِهِ الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ وَبِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي مَسْلَمة (1) سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ بِهِ (2) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا حَيَّانُ، سَمِعْتُ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِهَا، فَإِنَّ النَّارَ تَمَسُّهُمْ، ثُمَّ يَقُومُ الشُّفَعَاءُ فَيَشْفَعُونَ، فَتُجْعَلُ الضَّبَائِرُ، فَيُؤْتَى (3) بِهِمْ نَهْرًا يُقَالُ لَهُ: الْحَيَاةُ -أَوِ: الْحَيَوَانُ-فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ القثَّاء فِي حَمِيلِ السَّيْلِ".
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} أَيْ: وَمَنْ لَقِيَ رَبَّهُ يَوْمَ الْمَعَادِ مُؤْمِنَ الْقَلْبِ، قَدْ صَدَقَ ضَمِيرَهُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا} أَيِ: الْجَنَّةُ ذَاتُ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ، وَالْغُرَفِ الْآمِنَاتِ، وَالْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَاتِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، أَنْبَأَنَا هَمَّام، حَدَّثَنَا زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً وَمِنْهَا تَخْرُجُ (4) الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ، وَالْعَرْشُ فَوْقَهَا، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ هَمَّامٍ، بِهِ (5) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، فِي كُلِّ دَرَجَةٍ مِائَةُ دَرَجَةٍ، بَيْنَ (6) كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فِيهِنَّ الْيَاقُوتُ وَالْحُلِيُّ، فِي كُلِّ دَرَجَةٍ أَمِيرٌ، يَرَوْنَ لَهُ الْفَضْلَ وَالسُّؤْدُدَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "أَنَّ أَهْلَ عِلِّيِّينَ لَيَرَوْنَ مَنْ فَوْقَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: "بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وصدقوا المرسلين" (7) .
__________
(1) في ف، أ: "سلمة".
(2) المسند (3/11) ، وصحيح مسلم برقم (185) .
(3) في ف: "فيؤتون".
(4) في ف: "يخرج"
(5) المسند (5/316) ، وسنن الترمذي برقم (2531) .
(6) في ف، أ: "ما بين".
(7) صحيح البخاري برقم (6555) وصحيح برقم (2830) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.(5/306)
وَفِي السُّنَنِ: "وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمِنْهُمْ وَأَنْعَمَا" (1) .
وَقَوْلُهُ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي} أَيْ: إِقَامَةٌ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى، { [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ] خَالِدِينَ فِيهَا} (2) أَيْ: مَاكِثِينَ أَبَدًا، {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} أَيْ: طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الدَّنَسِ وَالْخَبَثِ وَالشِّرْكِ، وَعَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَصَدَّقَ (3) الْمُرْسَلِينَ فِيمَا جَاءُوا به من خَبَر وطلب.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (3987) وسنن ابن ماجه برقم (96) .
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ف: "واتبع".(5/307)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا أَنَّهُ أَمَرَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ أَبَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنْ يَسْرِيَ بِهِمْ فِي اللَّيْلِ، وَيَذْهَبَ بِهِمْ مِنْ قَبْضَةِ فِرْعَوْنَ. وَقَدْ بَسَطَ اللَّهُ هَذَا الْمَقَامَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا خَرَجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَصْبَحُوا وَلَيْسَ مِنْهُمْ بِمِصْرَ لَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَغَضِبَ فِرْعَوْنُ غَضَبًا شَدِيدًا وَأَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، أَيْ مَنْ يَجْمَعُونَ لَهُ الْجُنْدَ مِنْ بُلْدَانِهِ ورَسَاتيقه، يَقُولُ: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 54، 55] ثُمَّ لَمَّا جَمَعَ جُنْدَهُ وَاسْتَوْثَقَ لَهُ جَيْشُهُ، سَاقَ فِي طَلَبِهِمْ {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 60] أَيْ: عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أَيْ: نَظَرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْآخَرِ {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشُّعَرَاءِ: 61، 62] ، وَوَقَفَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، الْبَحْرُ أَمَامَهُمْ، وَفِرْعَوْنُ وَرَاءَهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ {اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، وَقَالَ: "انْفَلِقْ (1) بِإِذْنِ اللَّهِ" {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشُّعَرَاءِ: 63] أَيِ: الْجَبَلِ الْعَظِيمِ. فَأَرْسَلَ اللَّهُ الرِّيحَ عَلَى أَرْضِ الْبَحْرِ فَلَفَحَتْهُ حَتَّى صَارَ يَابِسًا كَوَجْهِ الْأَرْضِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا} أَيْ: مِنْ فِرْعَوْنَ، {وَلا تَخْشَى} يَعْنِي: مِنَ الْبَحْرِ أَنْ يُغْرِقَ قَوْمَكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ} (2) أَيِ: الْبَحْرِ {مَا غَشِيَهُمْ} أَيِ: الَّذِي هُوَ مَعْرُوفٌ وَمَشْهُورٌ. وَهَذَا يُقَالُ عِنْدَ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ، كَمَا (3) قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النَّجْمِ: 53، 54] ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أنَا أبُو النَّجْم وشِعْري شِعْري
أَيِ: الذي يعرف، وهو مشهور.
__________
(1) في أ: "على".
(2) في ف، أ: "اليم ما غشيهم".
(3) في ف: "وكما".(5/307)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
وَكَمَا تَقَدَّمَهُمْ (1) فِرْعَوْنُ فَسَلَكَ بِهِمْ فِي الْيَمِّ فَأَضَلَّهُمْ وَمَا هَدَاهُمْ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، كَذَلِكَ {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: 98] .
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ وَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) } .
يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعِظَامَ، وَمِنَنَهُ الْجِسَامَ، حَيْثُ نَجَّاهم مِنْ عَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ، وَأَقَرَّ أَعْيُنَهُمْ مِنْهُ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَإِلَى جُنْدِهِ قَدْ غَرِقُوا فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] : (2) {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [الْبَقَرَةِ: 50] .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا رَوْح بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَصُومُ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَ: " نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى فَصُومُوهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ (3) .
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَاعَدَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَهُوَ الَّذِي كَلَّمَهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَسَأَلَ فِيهِ الرُّؤْيَةَ، وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ هُنَاكَ. (4) وَفِي غُضُون ذَلِكَ عَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْعِجْلَ، كَمَا يَقُصُّهُ تَعَالَى قَرِيبًا.
وَأَمَّا الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" (5) وَغَيْرِهَا. فَالْمَنُّ: حَلْوَى كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ. وَالسَّلْوَى: طَائِرٌ يَسْقُطُ عَلَيْهِمْ، فَيَأْخُذُونَ مِنْ كُلٍّ، قَدْرَ الْحَاجَةِ إِلَى الْغَدِ، لُطْفًا مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أَيْ: كُلُوا مِنْ هَذَا [الرِّزْقِ] (6) الَّذِي رَزَقْتُكُمْ، وَلَا تَطْغَوْا فِي رِزْقِي، فَتَأْخُذُوهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَتُخَالِفُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ، {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أَيْ: أَغْضَبُ عَلَيْكُمْ {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ: فَقَدْ شَقِيَ.
وَقَالَ شُفَيّ بْنُ مَاتِعٍ: إِنَّ فِي جَهَنَّمَ قَصْرًا يُرمى الْكَافِرُ مِنْ أَعْلَاهُ، فَيَهْوِي فِي جَهَنَّمَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الصَّلْصَالَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أَيْ: كُلُّ مَنْ تَابَ إِلَيَّ تبتُ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ، حَتَّى إِنَّهُ تَعَالَى تَابَ (7) عَلَى مَنْ عبد العجل من بني إسرائيل.
__________
(1) في ف: "يقدمهم".
(2) زيادة من ف.
(3) صحيح البخاري برقم (4737) ، وصحيح مسلم برقم (1130) .
(4) في ف، أ: "هنالك".
(5) عند تفسير الآية 57 وما بعدها.
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ف، أ: "أنه تاب تعالى".(5/308)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
وَقَوْلُهُ: {تَابَ} أَيْ: رَجَعَ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ شِرْكٍ أَوْ نِفَاقٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَآمَنَ} أَيْ: بِقَلْبِهِ (1) {وَعَمِلَ صَالِحًا} أَيْ: بِجَوَارِحِهِ.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اهْتَدَى} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ ثُمَّ لَمْ يُشَكِّكْ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {ثُمَّ اهْتَدَى} أَيِ: اسْتَقَامَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. ورُوي نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {ثُمَّ اهْتَدَى} أَيْ: لَزِمَ الْإِسْلَامَ حَتَّى يَمُوتَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: {ثُمَّ اهْتَدَى} أَيْ: عَلِمَ أَنَّ لِهَذَا (2) ثَوَابًا.
وَثُمَّ هَاهُنَا لِتَرْتِيبِ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [الْبَلَدِ: 17] .
{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) }
__________
(1) في ف: "قلبه".
(2) في ف: "هذا".(5/309)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (89) } .
لَمَّا سَارَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ، وَافَوْا (1) {عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَافِ: 138، 139] وَوَاعَدَهُ رَبُّهُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ثُمَّ أَتْبَعَهَا (2) لَهُ عَشْرًا، فَتَمَّتْ [لَهُ] (3) أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، أَيْ: يَصُومُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ "الْفُتُونِ" بَيَانُ ذَلِكَ. فَسَارَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبَادِرًا إِلَى الطُّورِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَاهُ هَارُونَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} أَيْ: قَادِمُونَ يَنْزِلُونَ قَرِيبًا مِنَ الطُّورِ، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أَيْ: لِتَزْدَادَ عَنِّي رِضًا، {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} أَخْبَرَ تَعَالَى نَبَيَّهُ مُوسَى بِمَا كَانَ بَعْدَهُ مِنَ الْحَدَثِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعِبَادَتِهِمُ الْعَجَلَ الَّذِي عَمِلَهُ لهم ذلك
__________
(1) في ف، أ: "وأتوا".
(2) في ف، أ: "أتمها".
(3) زيادة من ف، أ.(5/309)
السَّامِرِيُّ. وَفِي الْكُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ: أَنَّهُ كَانَ اسْمُهُ هَارُونَ أَيْضًا، وَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْأَلْوَاحَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلتَّوْرَاةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الْأَعْرَافِ: 145] أَيْ: عَاقِبَةَ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِي الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِي.
وَقَوْلُهُ: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} أَيْ: بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، فِي غَايَةِ الْغَضَبِ والحَنَق عَلَيْهِمْ، هُوَ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِأَمْرِهِمْ، وتَسَلّم التَّوْرَاةِ الَّتِي فِيهَا شَرِيعَتُهُمْ، وَفِيهَا شَرَفٌ لَهُمْ. وَهُمْ قَوْمٌ قَدْ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ مَا يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ لَهُ لُبٌّ [وَحَزْمٌ] (1) بُطْلَانَ (2) [مَا هُمْ فِيهِ] (3) وَسَخَافَةَ عُقُولِهِمْ وَأَذْهَانِهِمْ؛ وَلِهَذَا رَجَعَ إِلَيْهِمْ غَضْبَانَ أَسِفًا، وَالْأَسَفُ: شِدَّةُ الْغَضَبِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {غَضْبَانَ أَسِفًا} أَيْ: جَزِعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: {أَسِفًا} أَيْ: حَزِينًا عَلَى مَا صَنَعَ قَوْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} أَيْ: أَمَا وَعَدَكُمْ عَلَى لِسَانِي كُلَّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحُسْنَ الْعَاقِبَةِ كَمَا شَاهَدْتُمْ مِنْ نُصْرَتِهُ إِيَّاكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ، وَإِظْهَارِكُمْ عَلَيْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَيَادِيهِ عِنْدَكُمْ؟ {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} أَيْ: فِي انْتِظَارِ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ. وَنِسْيَانِ مَا سَلَفَ مِنْ (4) نِعَمِهِ، وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ. {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} "أَمْ" هَاهُنَا بِمَعْنَى "بَلْ" وَهِيَ لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَعُدُولٌ إِلَى الثَّانِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: بَلْ أَرَدْتُمْ بِصَنِيعِكُمْ هَذَا أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا} أَيْ: بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي جَوَابِ مَا أَنَّبَهُمْ (5) مُوسَى وَقَرَّعَهُمْ: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أَيْ: عَنْ قُدْرَتِنَا وَاخْتِيَارِنَا.
ثُمَّ شَرَعُوا يَعْتَذِرُونَ بِالْعُذْرِ الْبَارِدِ، يُخْبِرُونَهُ عَنْ تَوَرُّعِهِمْ عَمَّا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ حُلي الْقِبْطِ الَّذِي كَانُوا قَدِ اسْتَعَارُوهُ مِنْهُمْ، حِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ، {فَقَذَفْنَاهَا} أَيْ: أَلْقَيْنَاهَا عَنَّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ "الْفُتُونِ" أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي كَانَ أَمَرَهُمْ بِإِلْقَاءِ الْحُلِيِّ فِي حُفْرَةٍ فِيهَا نَارٌ.
وَفِي رِوَايَةِ السُّدِّيّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا أَرَادَ هَارُونُ أَنْ يَجْتَمِعَ الحُلي كُلُّهُ فِي تِلْكَ الْحُفَيْرَةِ (6) وَيُجْعَلَ حَجَرًا وَاحِدًا. حَتَّى إِذَا رَجَعَ مُوسَى يَرَى (7) فِيهِ مَا يَشَاءُ. ثُمَّ جَاءَ [بَعْدَ] (8) ذَلِكَ السَّامِرِيُّ فَأَلْقَى عَلَيْهَا تِلْكَ الْقَبْضَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، وَسَأَلَ هَارُونَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ فِي دَعْوَتِهِ، فَدَعَا لَهُ هَارُونُ -وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا يُرِيدُ -فَأُجِيبَ لَهُ (9) فَقَالَ السَّامِرِيُّ عِنْدَ ذَلِكَ: أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ عِجْلًا. فَكَانَ عِجْلًا لَهُ خُوار، أَيْ: صَوْتٌ، اسْتِدْرَاجًا وَإِمْهَالًا وَمِحْنَةً وَاخْتِبَارًا؛ وَلِهَذَا قَالُوا: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ البَخْتَريّ (10) حَدَّثَنَا يَزِيدُ بن هارون أخبرنا حَمَّاد
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف: "بضلال".
(3) زيادة من ف، أوفي هـ: "ما لقيه".
(4) في ف: "في".
(5) في أ: "نبيهم".
(6) في ف: "الحفرة".
(7) في ف، أ: "رأى".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في ف، أ: "فيه".
(10) في ف: "البحتري".(5/310)
عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ هَارُونَ مَرَّ بِالسَّامِرِيِّ وَهُوَ يَنْحِتُ الْعِجْلَ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ؟ فَقَالَ: أَصْنَعُ مَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ فَقَالَ هَارُونُ: اللَّهُمَّ أَعْطِهِ مَا سَأَلَ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ وَمَضَى هَارُونُ، فَقَالَ (1) السَّامِرِيُّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ يَخُور فَخَار، فَكَانَ إِذَا خَارَ سَجَدُوا لَهُ، وَإِذَا خَارَ رَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ.
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حَمَّادٍ وَقَالَ: [أَعْمَلُ] (2) مَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَخُورُ وَيَمْشِي.
فَقَالُوا -أَيِ: الضُّلال مِنْهُمُ، الَّذِينَ افْتُتِنُوا بِالْعِجْلِ وَعَبَدُوهُ -: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} أَيْ: نَسِيَهُ هَاهُنَا، وَذَهَبَ يَتَطَلَّبُهُ. كَذَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ "الْفُتُونِ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ.
وَقَالَ سِماك عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَنَسِيَ} أَيْ: نَسِيَ أَنْ يُذَكِّرَكُمْ أَنَّ هَذَا إِلَهُكُمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالُوا: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} قَالَ: فَعَكَفُوا عَلَيْهِ وَأَحَبُّوهُ حُبًّا لَمْ يُحِبُّوا شَيْئًا قَطُّ يَعْنِي مِثْلَهُ، يَقُولُ اللَّهُ: {فَنَسِيَ} أَيْ: تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ يَعْنِي: السَّامِرِيَّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ، وَتَقْرِيعًا لَهُمْ، وَبَيَانًا لِفَضِيحَتِهِمْ وَسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أَيِ: الْعَجَلُ {أَفَلا يَرَوْنَ} أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُمْ إِذَا سَأَلُوهُ، وَلَا إِذَا خَاطَبُوهُ، {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أَيْ: فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا فِي أُخْرَاهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ خُوَارُهُ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الريح في دبره فيخرج فِيهِ، فَيُسْمَعَ لَهُ صَوْتٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مُتُونِ الْحَدِيثِ (4) عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ هَذَا الْعَجَلَ اسْمُهُ بَهْمُوتُ.
وَحَاصِلُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ أَنَّهُمْ تَوَرَّعُوا عَنْ زِينَةِ الْقِبْطِ، فَأَلْقَوْهَا عَنْهُمْ، وَعَبَدُوا الْعِجْلَ. فَتَوَرَّعُوا عَنِ الْحَقِيرِ وَفَعَلُوا الْأَمْرَ الْكَبِيرَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ -يَعْنِي: هَلْ يُصَلِّي فِيهِ أَمْ لَا؟ -فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (5) انْظُرُوا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يعني: الحسين -وهم يسألون عن دم البعوض؟ (6) .
__________
(1) في ف: "وقال".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ف، أ: "عنهما".
(4) في ف، أ: "حديث الفتون".
(5) في ف، أ: "عنهما".
(6) صحيح البخاري برقم (5994) .(5/311)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا كَانَ مِنْ نَهْي هَارُونَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَإِخْبَارِهِ إِيَّاهُمْ: إِنَّمَا هَذَا فِتْنَةٌ لَكُمْ {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ، الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ {فَاتَّبِعُونِي} أَيْ: فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ، وَاتْرُكُوا مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ.
{قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} أَيْ: لَا نَتْرُكَ عِبَادَتَهُ حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَ مُوسَى فِيهِ. وَخَالَفُوا هَارُونَ فِي ذَلِكَ وَحَارَبُوهُ وَكَادُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ.
{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) } .
يَقُولُ مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَرَأَى مَا قَدْ حَدَثَ فِيهِمْ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، فَامْتَلَأَ عِنْدَ ذَلِكَ غَيْظًا، (1) وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنَ الْأَلْوَاحِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي "الْأَعْرَافِ" بَسْطَ ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ حَدِيثَ "لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ".
وَشَرَعَ يَلُومُ أَخَاهُ (2) هَارُونَ فَقَالَ: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلا تَتَّبِعَنِ} أَيْ: فَتُخْبِرَنِي بِهَذَا الْأَمْرِ أَوَّلَ مَا وَقَعَ {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} أَيْ: فِيمَا كُنْتُ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الْأَعْرَافِ: 142] . قَالَ: {يَا ابْنَ أُمَّ} تَرَفَّقَ لَهُ بِذِكْرِ الْأُمِّ مَعَ أَنَّهُ شَقِيقُهُ لِأَبَوَيْهِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْأُمِّ هَاهُنَا أَرَقُّ وَأَبْلَغُ، أَيْ: فِي الْحُنُوِّ وَالْعَطْفِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} .
هَذَا اعْتِذَارٌ مِنْ هَارُونَ عِنْدَ مُوسَى فِي سَبَبِ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ، حَيْثُ لَمْ يَلْحَقْهُ فَيُخْبِرْهُ بِمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْخَطْبِ الْجَسِيمِ قَالَ {إِنِّي خَشِيتُ} أَنْ أَتْبَعَكَ فَأُخْبِرَكَ بِهَذَا، فَتَقُولَ لِي: لِمَ تَرَكْتَهُمْ وَحْدَهُمْ وَفَرَّقْتَ بَيْنَهُمْ {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} أَيْ: وَمَا رَاعَيْتَ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ حَيْثُ اسْتَخْلَفْتُكَ فِيهِمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ هَارُونُ هَائِبًا لَهُ مُطِيعًا.
__________
(1) في ف: "غضبا".
(2) في ف: "أخوه".(5/312)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) } .
يَقُولُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِلسَّامِرِيِّ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ وَمَا الَّذِي عَرَضَ لَكَ حَتَّى فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ؟
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ السَّامِرِيُّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَاجَرْمَا، وَكَانَ مَنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، وَكَانَ حُبُّ عِبَادَةِ الْبَقَرِ فِي نَفْسِهِ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَكَانَ اسْمَ السَّامِرِيِّ: مُوسَى بْنُ ظُفَرٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: [أَنَّهُ] (1) كَانَ مِنْ كَرْمَانَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ مِنْ قَرْيَةٍ اسْمُهَا سَامَرَّا.
{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} أَيْ: رَأَيْتُ جِبْرِيلَ حِينَ جَاءَ لِهَلَاكِ فِرْعَوْنَ، {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} أَيْ: مِنْ أَثَرِ فَرَسِهِ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عمار بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ السُّدِّيِّ، عَنِ أُبَيِّ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا نَزَلَ فَصَعِدَ بِمُوسَى إِلَى السَّمَاءِ، بُصُرَ بِهِ السَّامِرِيُّ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الْفَرَسِ قَالَ: وَحَمَلَ جِبْرِيلُ مُوسَى خَلْفَهُ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ بَابِ السَّمَاءِ، صَعِدَ وَكَتَبَ اللَّهُ الْأَلْوَاحَ (2) وَهُوَ يَسْمَعُ صَرِيرَ الْأَقْلَامِ فِي الْأَلْوَاحِ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّ قَوْمَهُ قَدْ فُتِنُوا مِنْ بَعْدِهِ قَالَ: نَزَلَ مُوسَى، فَأَخَذَ الْعِجْلَ فَأَحْرَقَهُ. غَرِيبٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} قَالَ: مِنْ تَحْتِ حَافِرِ فَرَسِ (3) جِبْرِيلَ، قَالَ: وَالْقَبْضَةُ مِلْءُ الْكَفِّ، وَالْقَبْضَةُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَبَذَ السَّامِرِيُّ، أَيْ: أَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ عَلَى حِلْيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَانْسَبَكَ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوار حَفِيفُ الرِّيحِ فِيهِ، فَهُوَ خُوَارُهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يحيى، أخبرنا علي بن الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْع، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ؛ أَنَّ السَّامِرِيَّ رَأَى الرَّسُولَ، فَأُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ أَنَّكَ إِنْ أَخَذْتَ مِنْ أَثَرِ هَذَا الْفَرَسِ قَبْضَةً فَأَلْقَيْتَهَا فِي شَيْءٍ، فَقُلْتُ لَهُ: "كُنْ فَكَانَ" فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، فَيَبِسَتْ أَصَابِعُهُ عَلَى الْقَبْضَةِ، فَلَمَّا ذَهَبَ مُوسَى لِلْمِيقَاتِ وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ اسْتَعَارُوا حُلِيَّ آلِ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: إِنَّمَا أَصَابَكُمْ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحُلِيِّ، فَاجْمَعُوهُ. فَجَمَعُوهُ، فَأَوْقَدُوا عَلَيْهِ، فَذَابَ، فَرَآهُ السَّامِرِيُّ فَأُلْقِيَ فِي رُوعِهِ أَنَّكَ لَوْ قَذَفْتَ هَذِهِ الْقَبْضَةَ فِي هَذِهِ فَقُلْتَ: "كُنْ" كَانَ. فَقَذَفَ الْقَبْضَةَ وَقَالَ: "كُنْ"، فَكَانَ عِجْلًا لَهُ خُوَارٌ، فَقَالَ: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} .
وَلِهَذَا قَالَ: {فَنَبَذْتُهَا} أَيْ: أَلْقَيْتُهَا مَعَ مَنْ أَلْقَى، {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} أَيْ: حَسَّنَتْهُ وَأَعْجَبَهَا إِذْ ذَاكَ.
{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} أَيْ: كَمَا أَخَذْتَ ومَسَسْتَ مَا لَمْ
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ف: "وكتب الله الأقلام في الألواح".
(3) في ف: "فرس حافر".(5/313)
يَكُنْ أَخْذُهُ وَمَسُّهُ مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، فَعُقُوبَتُكَ فِي الدُّنْيَا أَنْ تَقُولَ: "لَا مِسَاسَ" أَيْ: لَا تَمَاسُّ النَّاسَ وَلَا يَمَسُّونَكَ.
{وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {لَنْ تُخْلَفَهُ} أَيْ: لَا مَحِيدَ لَكَ عَنْهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} قَالَ: عُقُوبَةٌ لَهُمْ، وَبَقَايَاهُمُ الْيَوْمَ يَقُولُونَ: لَا مِسَاسَ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو نَهِيك: لَنْ تَغِيبَ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} أَيْ: مَعْبُودِكَ، {الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} أَيْ: أَقَمْتَ عَلَى عِبَادَتِهِ، يَعْنِي: الْعِجْلَ {لَنُحَرِّقَنَّهُ} قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ: سَحَله (1) بِالْمَبَارِدِ، وَأَلْقَاهُ عَلَى النَّارِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَحَالَ الْعِجْلُ مِنَ الذَّهَبِ لَحْمًا وَدَمًا، فَحَرَقَهُ بِالنَّارِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ، أَيْ: رَمَادَهُ (2) فِي الْبَحْرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ (3) عَبْدٍ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ مُوسَى لَمَّا تَعَجَّلَ إِلَى رَبِّهِ، عَمَدَ السَّامِرِيُّ فَجَمَعَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ حُلِيِّ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ صَوَّرَهُ عِجْلًا قَالَ: فَعَمَدَ مُوسَى إِلَى الْعِجْلِ، فَوَضَعَ عَلَيْهِ الْمَبَارِدَ، فَبَرَدَهُ بِهَا، وَهُوَ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ، فَلَمْ يَشْرَبْ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مِمَّنْ كَانَ يَعْبُدُ الْعِجْلَ إِلَّا اصْفَرَّ وَجْهُهُ مِثْلَ الذَّهَبِ. فَقَالُوا لِمُوسَى: مَا تَوْبَتُنَا (4) ؟ قَالَ: يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
وَهَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" ثُمَّ فِي حَدِيثِ "الْفُتُونِ" بَسْطُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ [وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} يَقُولُ لَهُمْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَيْسَ هَذَا إِلَهَكُمْ، إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ] (5) أَيْ: لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عَلَى الْعِبَادِ إِلَّا هُوَ، وَلَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، عَبْدٌ لِرَبِّهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: هُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلَاقِ: 12] ، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الْجِنِّ: 28] ، فَلَا {يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سَبَأٍ: 3] ، {وَمَا (6) تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الْأَنْعَامِ: 59] ، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هُودٍ: 6] وَالْآيَاتُ فِي هذا كثيرة جدًّا.
__________
(1) في ف: "ينتحله".
(2) في ف: "ثم ألقى رماده".
(3) في ف: "عن".
(4) في ف، أ: "ما يريد منا".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ف: "ولا".(5/314)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا (101) } .
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ خَبَرَ مُوسَى، وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَالْأَمْرِ الْوَاقِعِ، كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ الْأَخْبَارَ الْمَاضِيَةَ كَمَا وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، هَذَا {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا} أَيْ: عِنْدِنَا {ذِكْرًا} وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، الذِي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فُصِّلَتْ: 42] ، الَّذِي لَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ [مُنْذُ بُعِثُوا إِلَى أَنْ خُتِمُوا] (1) بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا، كِتَابًا مِثْلَهُ وَلَا أَكْمَلَ مِنْهُ، وَلَا أَجْمَعَ لِخَبَرِ مَا سَبَقَ وَخَبَرِ مَا هُوَ كَائِنٌ، وَحُكْمِ الْفَصْلِ بَيْنَ النَّاسِ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} أَيْ: كَذَّبَ بِهِ وَأَعْرَضَ عَنِ اتِّبَاعِهِ أَمْرًا وَطَلَبًا، وَابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} أَيْ: إِثْمًا، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (2) تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هُودٍ: 17] .
وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الْأَنْعَامِ: 19] . فَكُلُّ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَهُوَ نَذِيرٌ لَهُ وَدَاعٍ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ هُدِيَ، وَمَنْ خَالَفَهُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ ضَلَّ وَشَقِيَ فِي الدُّنْيَا، وَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ} أَيْ: لَا مَحِيد لَهُمْ عَنْهُ وَلَا انْفِكَاكَ {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا} أَيْ: بِئْسَ الْحِمْلُ حِمْلُهُمْ. (3)
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا (104) } .
ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الصُّور، فَقَالَ: "قَرنٌ يُنفَخ فِيهِ" (4) .
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ "الصُّورِ" مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ قَرْنٌ عَظِيمٌ، الدَّارة مِنْهُ بِقَدْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "كَيْفَ أنعَمُ وَصَاحِبُ القَرْن قَدِ الْتَقَمَ القَرْن، وَحَنَى جَبْهَتَهُ، وَانْتَظَرَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: "قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا" (5) .
وَقَوْلُهُ: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} قِيلَ: مَعْنَاهُ زُرْق الْعُيُونِ مِنْ شِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ.
{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَسَارُّونَ (6) بَيْنَهُمْ، أَيْ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا}
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.
(3) في ف: "عليهم".
(4) رواه أحمد في مسنده (2/192) من حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(5) سبق الحديث في الكلام عن الصور عند الآية: 73 من تفسير سورة الأنعام.
(6) في ف: "يتشاورون".(5/315)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
أَيْ: فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، لَقَدْ كَانَ لُبْثُكُمْ فِيهَا قَلِيلًا عَشَرَةُ أَيْامٍ أَوْ نَحْوُهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أَيْ: فِي حَالِ تَنَاجِيهِمْ بَيْنَهُمْ {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أَيِ: الْعَاقِلُ الْكَامِلُ فِيهِمْ، {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} أَيْ لِقِصَرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا فِي أَنْفُسِهِمْ [يَوْمَ الْمَعَادِ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّها وَإِنْ تَكَرَّرَتْ أَوْقَاتُهَا وَتَعَاقَبَتْ لَيَالِيهَا وَأَيَّامُهَا] (1) وَسَاعَاتُهَا كَأَنَّهَا يَوْمٌ وَاحِدٌ؛ وَلِهَذَا تَسْتَقْصِرُ مُدَّةُ (2) الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: وَكَانَ غَرَضُهُمْ فِي ذَلِكَ [دَرْءَ] (3) قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، لِقِصَرِ الْمُدَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الرُّومِ: 55، 56] ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فَاطِرٍ: 37] ، وَقَالَ تَعَالَى: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 112-114] أَيْ: إِنَّمَا كَانَ لُبثكم فِيهَا قَلِيلًا لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَآثَرْتُمُ الْبَاقِيَ عَلَى الْفَانِي، وَلَكِنْ تَصَرَّفْتُمْ فَأَسَأْتُمُ التَّصَرُّفَ، قَدَّمتُم الْحَاضِرَ الْفَانِيَ عَلَى الدَّائِمِ الْبَاقِي.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} أَيْ: هَلْ تَبْقَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ تَزُولُ؟ {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} أَيْ: يُذْهِبُهَا عَنْ أَمَاكِنِهَا وَيَمْحَقُهَا وَيُسَيِّرُهَا تَسْيِيرًا.
{فَيَذَرُهَا} أَيِ: الْأَرْضَ {قَاعًا صَفْصَفًا} أَيْ: بِسَاطًا وَاحِدًا.
وَالْقَاعُ: هُوَ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ. وَالصَّفْصَفُ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ مُرَادًا أَيْضًا بِاللَّازِمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} أَيْ: لَا تَرَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ وَادِيًا وَلَا رَابِيَةً، وَلَا مَكَانًا مُنْخَفِضًا وَلَا مُرْتَفِعًا، كَذَلِكَ (4) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ.
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ} أَيْ: يَوْمَ يَرَوْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ وَالْأَهْوَالَ، يَسْتَجِيبُونَ مُسَارِعِينَ إِلَى الدَّاعِي، حَيْثُمَا أُمِرُوا بَادَرُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الدُّنْيَا لَكَانَ أَنْفَعَ لَهُمْ، وَلَكِنْ حَيْثُ (5) لَا يَنْفَعُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مَرْيَمَ: 38] ، وَقَالَ: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [الْقَمَرِ: 8] .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِي: يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظلمة، وتطوي (6) السماء،
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف: "يستقصر الكافرون مدة".
(3) زيادة من ف، أ".
(4) في أ: "وكذا".
(5) في ف: "حيث كان".
(6) في ف: "ويطوى".(5/316)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
وَتَتَنَاثَرُ (1) النُّجُومُ، وَتَذْهَبُ (2) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَيُنَادِي مُنَادٍ، فَيَتْبَعُ النَّاسُ الصَّوْتَ [فَيَأْتُونَهُ] (3) فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ} .
وَقَالَ قَتَادَةُ: {لَا عِوَجَ لَهُ} لَا يَمِيلُونَ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: {لَا عِوَجَ لَهُ} لَا عِوَجَ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَكَنَتْ: وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ.
{فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي: وَطْءَ الْأَقْدَامِ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَاكُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} : الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} : الْحَدِيثَ، وَسِرَّهُ، وَوَطْءَ الْأَقْدَامِ. فَقَدْ جَمَعَ سَعِيدٌ كِلَا الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، أَمَّا وَطْءُ الْأَقْدَامِ فَالْمُرَادُ سَعْيُ النَّاسِ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَهُوَ مَشْيُهُمْ فِي سُكُونٍ وَخُضُوعٍ. وَأَمَّا الْكَلَامُ الْخَفِيُّ فَقَدْ يَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هُودٍ: 105] .
{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} أَيْ: عِنْدَهُ {إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا} كَقَوْلِهِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [الْبَقَرَةِ: 255] ،وَقَوْلُهُ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النَّجْمِ: 26] ، وَقَالَ: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الْأَنْبِيَاءِ: 28] وَقَالَ: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سَبَأٍ: 23] ، وَقَالَ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النَّبَأِ: 38] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَكْرَمُ الْخَلَائِقِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: "آتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، وَأَخِرُّ (4) لِلَّهِ سَاجِدًا، ويَفْتَح عَلَيَّ بِمَحَامِدَ لَا أُحْصِيهَا الْآنَ، فَيَدَعُنِي (5) مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ (6) وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ". قَالَ: "فَيَحِدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ"، فَذَكَرَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه
__________
(1) في ف: "ويتناثر".
(2) في ف: "ويذهب".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف، أ: "فأخر".
(5) في ف: "ويدعني".
(6) في ف: "تسمع".(5/317)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَفِي الْحَدِيثِ [أَيْضًا] (1) يَقُولُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيُخْرِجُون خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُ: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ مِنْ إِيمَانٍ، أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً، مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ" الْحَدِيثَ. (2)
وَقَوْلُهُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أَيْ: يُحِيطُ عِلْمًا بِالْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} كَقَوْلِهِ: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [الْبَقَرَةِ: 255] .
وَقَوْلُهُ: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: خَضَعَتْ وَذَلَّتْ وَاسْتَسْلَمَتِ الْخَلَائِقُ لِجَبَّارِهَا الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، الْقَيُّومُ: الَّذِي لَا يَنَامُ، وَهُوَ قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، يُدَبِّرُهُ وَيَحْفَظُهُ، فَهُوَ الْكَامِلُ فِي نَفْسِهِ، الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي كُلَّ حَقٍّ إِلَى صَاحِبِهِ، حَتَّى يَقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَا يُجَاوِزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمُ ظَالِمٍ" (3) .
وَفِي الصَّحِيحِ: "إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (4) . وَالْخَيْبَةُ كُلَّ الْخَيْبَةِ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13]
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} لَمَّا ذَكَرَ الظَّالِمِينَ وَوَعِيدَهُمْ، ثَنَّى بِالْمُتَّقِينَ وَحُكْمِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُون وَلَا يُهضَمون، أَيْ: لَا يُزَادُ فِي سَيِّئَاتِهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ (5) . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. فَالظُّلْمُ: الزِّيَادَةُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ ذَنْبُ غَيْرِهِ، وَالْهَضْمُ: النَّقْصُ.
{وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) }
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) انظر: أحاديث الشفاعة عند تفسير الآية: 79 من سورة الإسراء.
(3) في ف، أ: "الظالم".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (2390) من حديث جابر بلفظ: "اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
(5) في ف: "سيئاته ولا ينقص من حسناته".(5/318)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) }
يَقُولُ: وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ، أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، بِلِسَانٍ(5/318)
عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فَصِيحٍ (1) لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا عِيَّ، {وَصَرَّفْنَا (2) فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أَيْ: يَتْرُكُونَ الْمَآثِمَ وَالْمَحَارِمَ وَالْفَوَاحِشَ، {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} وَهُوَ إِيجَادُ الطَّاعَةِ وَفِعْلُ الْقُرُبَاتِ. {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أَيْ: تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ (3) الْمَلِكُ الْحَقُّ، الَّذِي هُوَ حَقٌّ، وَوَعْدُهُ حَقٌّ، وَوَعِيدُهُ حَقٌّ، وَرُسُلُهُ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ حَقٌّ. وَعَدْلُهُ تَعَالَى أَلَّا يُعَذِّبَ أَحَدًا قَبْلَ الْإِنْذَارِ وَبَعْثَةِ الرُّسُلِ وَالْإِعْذَارِ إِلَى خَلْقِهِ؛ لِئَلَّا يَبْقَى لِأَحَدٍ حُجَّةٌ وَلَا شُبْهَةٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ "لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ" {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [الْقِيَامَةِ: 16-19] ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَالِجُ مِنَ الْوَحْيِ شِدَّةً، فَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ لِسَانَهُ، فَأَنْزَلَ (4) اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (5) يَعْنِي: أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ إِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ، كُلَّمَا قَالَ جِبْرِيلُ آيَةً قَالَهَا مَعَهُ، مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى حِفْظِ (6) الْقُرْآنِ، فَأَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَا هُوَ الْأَسْهَلُ وَالْأَخَفُّ فِي حَقِّهِ؛ لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِ. فَقَالَ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أَيْ: أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ، ثُمَّ تَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أَيْ: بَلْ أَنْصِتْ، فَإِذَا فَرَغَ الْمَلَكُ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَيْكَ فَاقْرَأْهُ بَعْدَهُ، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أَيْ: زِدْنِي مِنْكَ عِلْمًا.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَة، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زِيَادَةٍ [مِنَ الْعِلْمِ] (7) حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ تَابَعَ الْوَحْيَ عَلَى رَسُولِهِ، حَتَّى كَانَ الْوَحْيُ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَوْمَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (8) وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْر، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا علَّمتني، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ" (9) .
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ أَبِي كُرَيْب، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْر، بِهِ. وَقَالَ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ، عَنِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، بِهِ. وَزَادَ فِي آخِرِهِ: "وَأَعُوذُ بِاللَّهِ من حال أهل النار".
__________
(1) في ف: "فصيح اللسان".
(2) في أ: "وصرفنا ما فيه" وهو خطأ.
(3) في ف: "تقدس وتنزه".
(4) في ف: "فنزل".
(5) صحيح البخاري برقم (5) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(6) في ف، أ: "تحفظ".
(7) زيادة من ف.
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (4982) من حديث أنس رضي الله عنه.
(9) سنن ابن ماجه برقم (251) وسنن الترمذي برقم (3599) .(5/319)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) }
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَان، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانَ لِأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ. وَكَذَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: تَرَكَ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} يَذْكُرُ تَعَالَى تَشْرِيفَ آدَمَ وَتَكْرِيمَهُ، وَمَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" وَفِي "الْأَعْرَافِ" وَفِي "الْحِجْرِ" وَ"الْكَهْفِ" (1) وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ سُورَةِ "ص" (2) [إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى] . (3) يَذْكُرُ فِيهَا تَعَالَى خَلْقَ آدَمَ وأَمْرَه الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا، وَيُبَيِّنُ (4) عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ لِبَنِي آدَمَ وَلِأَبِيهِمْ قَدِيمًا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى} أَيِ: امْتَنَعَ وَاسْتَكْبَرَ. {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} يَعْنِي: حَوَّاءَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} أَيْ: إِيَّاكَ أَنْ يَسْعَى (5) فِي إِخْرَاجِكَ مِنْهَا، فَتَتْعَبَ وَتُعَنَّى وَتَشْقَى فِي طَلَبِ رِزْقِكَ، فَإِنَّكَ هَاهُنَا فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ هَنِيءٍ، لَا (6) كُلْفَةَ وَلَا مَشَقَّةَ.
{إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} إِنَّمَا قَرَنَ بَيْنَ الْجُوعِ والعُرْي؛ لِأَنَّ الْجُوعَ ذُلّ الْبَاطِنِ، وَالْعُرْيَ ذُلّ الظَّاهِرِ.
{وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} وَهَذَانَ أَيْضًا مُتَقَابِلَانِ، فَالظَّمَأُ: حَرُّ الْبَاطِنِ، وَهُوَ الْعَطَشُ. وَالضُّحَى: حَرُّ الظَّاهِرِ.
وَقَوْلُهُ: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ (7) {دَلاهُمَا بِغُرُور} [الْأَعْرَافِ: 22] ؛ {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] . وقد
__________
(1) انظر: تفسير سورة البقرة، الآيات: 30-38، وتفسير سورة الأعراف، الآيات: 11-24، وتفسير سورة الحجر، الآيات: 28-40، وتفسير سورة الكهف، الآية: 50.
(2) عند تفسير الآيات: 71-85.
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف: "وبين".
(5) في ف: "تسعى".
(6) في ف، أ: "بلا".
(7) في ف: "أنهما".(5/320)
تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى آدَمَ وَزَوْجَتِهِ أَنَّ يَأْكُلَا مِنْ كُلِّ الثِّمَارِ، وَلَا يَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي الْجَنَّةِ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِمَا إِبْلِيسُ حَتَّى أَكَلَا مِنْهَا، وَكَانَتْ شجرةَ الْخُلْدِ -يَعْنِي: الَّتِي مَنْ أَكَلَ مِنْهَا خُلِّدَ وَدَامَ مُكْثُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ شَجَرَةِ الْخُلْدِ، فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الضَّحَّاكِ (1) سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، مَا يَقْطَعُهَا وَهِيَ شَجَرَةُ الْخُلْدِ". وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. (2) .
وَقَوْلُ: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِشْكَابَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ رَجُلًا طِوَالًا كَثِيرَ شَعْرِ (3) الرَّأْسِ، كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوق. فَلَمَّا ذَاقَ الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ لِبَاسُهُ، فَأَوَّلُ مَا بَدَا مِنْهُ عَوْرَتُهُ. فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ جَعَلَ يَشْتَد فِي الْجَنَّةِ، فأخذتْ شعرَه شَجَرَةٌ، فَنَازَعَهَا، فَنَادَى الرَّحْمَنُ: يَا آدَمُ، منِّي تَفِرُّ؟ فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّحْمَنِ قَالَ: يَا رَبِّ، لَا وَلَكِنِ اسْتِحْيَاءً (4) أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَرَجَعْتُ، أَعَائِدِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ" فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (5)
وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ الْحَسَنِ وأُبيّ بْنِ كَعْبٍ، فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يُرَقِّعَانِ كَهَيْئَةِ الثَّوْبِ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، عَنْ (6) عَوْنٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ المِنْهال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} قَالَ: يَنْزِعَانِ وَرَقَ التِّينِ، فَيَجْعَلَانِهِ عَلَى سَوْآتِهِمَا.
وَقَوْلُهُ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ النَّجَّارِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حَاجَّ مُوسَى آدَمَ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبِكَ وَأَشْقَيْتَهُمْ؟ قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى، أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي -أَوْ: قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي -" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فحج آدم موسى". (7)
__________
(1) في ف، أ: "أبي الضحى".
(2) مسند الطياليسي برقم (2547) والمسند للإمام أحمد (2/455) .
(3) في ف: "الشعر".
(4) في ف، أ: "أستحيي"
(5) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية: 37 من سورة البقرة.
(6) في ف، أ: "ابن".
(7) صحيح البخاري برقم (4738) .(5/321)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَسَانِيدِ (1) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وهب، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذُبَابَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَجَّ آدمُ وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ إِلَى الْأَرْضِ بِخَطِيئَتِكَ؟ قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ، وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا، فَبِكَمْ وجدتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ [قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ] (2) قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا. قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وجدتَ فِيهَا {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عملتُ عَمَلًا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى".
قَالَ الْحَارِثُ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمزُ بِذَلِكَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (3) .
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) }
__________
(1) انظر: صحيح البخاري برقم (4736) وصحيح مسلم برقم (2652) .
(2) زيادة من ف، أ.
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2652) من طريق أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذياب عن يزيد بن هرمز وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.(5/322)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) } .
يَقُولُ تَعَالَى لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ: اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا، أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ كُلُّكُمْ. وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ".
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} قَالَ: آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَإِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَالْبَيَانُ.
{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} أَيْ: خَالَفَ أَمْرِي، وَمَا أَنْزَلْتُهُ عَلَى رَسُولِي، أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَنَاسَاهُ وَأَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ هُدَاهُ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا، فَلَا طُمَأْنِينَةَ لَهُ، وَلَا انْشِرَاحَ لِصَدْرِهِ، بَلْ صَدْرُهُ [ضَيِّقٌ] (1) حَرَج لِضَلَالِهِ، وَإِنْ تَنَعَّم ظَاهِرُهُ، وَلَبِسَ مَا شَاءَ وَأَكَلَ مَا شَاءَ، وَسَكَنَ حَيْثُ شَاءَ، فَإِنَّ قلبه
__________
(1) زيادة من ف، أ.(5/322)
مَا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى الْيَقِينِ وَالْهُدَى، فَهُوَ فِي قَلَقٍ وَحَيْرَةٍ وَشَكٍّ، فَلَا يَزَالُ فِي رِيبَةٍ يَتَرَدَّدُ. فَهَذَا مِنْ ضَنْكِ الْمَعِيشَةِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} قَالَ: الشَّقَاءُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} قَالَ: كُلُّ مَالٍ (1) أَعْطَيْتُهُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، لَا يَتَّقِينِي فِيهِ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَهُوَ الضَّنْكُ فِي الْمَعِيشَةِ. وَيُقَالُ: إِنْ قَوْمًا ضُلالا أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ، وَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا مُتَكَبِّرِينَ، فَكَانَتْ مَعِيشَتُهُمْ ضَنْكًا؛ [وَ] (2) ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ مُخَلِّفًا لَهُمْ مَعَايِشَهُمْ، مِنْ سُوءِ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يُكَذِّبُ بِاللَّهِ، وَيُسِيءُ الظَّنَّ بِهِ وَالثِّقَةَ بِهِ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ مَعِيشَتُهُ، فَذَلِكَ الضَّنْكُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْعَمَلُ السَّيِّئُ، وَالرِّزْقُ الْخَبِيثُ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ: {مَعِيشَةً ضَنْكًا} قَالَ: يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ فِيهِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ (3) يُكَنَّى أَبَا سَلَمَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعة، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} قَالَ: "ضَمَّةُ الْقَبْرِ" الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. (4)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٌ أَبُو السَّمْحِ، عَنِ ابْنِ حُجَيْرة -اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ -عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَيُرَحَّبُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ قَبْرُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَتَدْرُونَ فِيمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} ؟ أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، أَتَدْرُونَ مَا التِّنِّينُ؟ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً، لِكُلِّ حَيَّةٍ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ، يَنْفُخُونَ فِي جِسْمِهِ، وَيَلْسَعُونَهُ وَيَخْدِشُونَهُ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ". (5) .
رَفْعُهُ مُنْكَرٌ جِدًّا.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو (6) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، [عَنْ أَبِي حُجَيْرة] (7) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} قَالَ: "الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ تسعة وتسعون
__________
(1) في هـ: "ما" والمثبت من ف، أ.
(2) زيادة من ف.
(3) في ف: "عياض".
(4) والمرفوع في إسناده دراج عن أبي الهيثم وهو ضعيف.
(5) ورواه أبو يعلى في مسنده (11/521) من طريق ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ بِهِ.
(6) في ف: "محمد بن عمر".
(7) زيادة من ف، أ.(5/323)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
حَيَّةً، يَنْهَشُونَ لَحْمَهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ" (1) .
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} قَالَ: "عَذَابُ الْقَبْرِ". إِسْنَادٌ جَيِّدٌ (2) .
وَقَوْلُهُ: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالسُّدِّيُّ: لَا حُجَّةَ لَهُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عُمِّي عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا جَهَنَّمَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّهُ يُحشَر أَوْ يُبْعَثُ (3) إِلَى النَّارِ أَعْمَى الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ أَيْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 97] . وَلِهَذَا يَقُولُ: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا.
{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} أَيْ: لَمَّا أَعْرَضْتَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ، وعامَلْتها مُعَامَلَةَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهَا، بَعْدَ بَلَاغِهَا إِلَيْكَ تَنَاسَيْتَهَا وَأَعْرَضْتَ عَنْهَا وَأَغْفَلْتَهَا، كَذَلِكَ نُعَامِلُكَ [الْيَوْمَ] (4) مُعَامَلَةَ مَنْ يَنْسَاكَ (5) {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الْأَعْرَافِ: 51] فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَأَمَّا نِسْيَانُ لَفْظِ الْقُرْآنِ مَعَ فَهْمِ مَعْنَاهُ وَالْقِيَامِ بِمُقْتَضَاهُ، فَلَيْسَ دَاخِلًا فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْخَاصِّ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَعدًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالنَّهْيِ الْأَكِيدِ، وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ فَائِدٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ رَجُلٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَنَسِيَهُ، إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَهُوَ أَجْذَمُ" (6) .
ثُمَّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ فَائِدٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً (7) .
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) }
يَقُولُ تَعَالَى: وَهَكَذَا نُجَازِي الْمُسْرِفِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرَّعْدِ: 34] وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} أَيْ: أَشَدُّ أَلَمًا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَأَدْوَمُ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَلَاعِنِينَ: "إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عذاب الآخرة".
__________
(1) مسند البزار برقم (2233) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/67) "فيه من لم أعرفه".
(2) وروي من حديث أبي سعيد مثله، ورواه الحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة في المصنف.
(3) في ف: "أن يبعث أو يحشر".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف، أ: "نسيك".
(6) المسند (5/285) .
(7) المسند (5/323) .(5/324)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَهْدِ} لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ: يَا مُحَمَّدُ، كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ قَبْلَهُمْ، فَبَادُوا فَلَيْسَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ وَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، كَمَا يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ مِنْ دِيَارِهِمُ الْخَالِيَةِ الَّتِي خَلَّفُوهُمْ فِيهَا، يَمْشُونَ فِيهَا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى} أَيِ: الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَلْبَابِ الْمُسْتَقِيمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الْحَجِّ: 46] ، وَقَالَ فِي سُورَةِ "الم السَّجْدَةِ": {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السَّجْدَةِ: 26] .
قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} أَيْ: لَوْلَا الْكَلِمَةُ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ أَنَّهُ (1) لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ بَغْتَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ لِنَبِيِّهِ مُسَلِّيًا لَهُ: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أَيْ: مِنْ تَكْذِيبِهِمْ لَكَ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} يَعْنِي: صَلَاةَ الْفَجْرِ، {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} يَعْنِي: صَلَاةَ الْعَصْرِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البَجَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: " إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُّون فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا" ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبة قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: " لَنْ يَلجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، بِهِ (3) .
وَفِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، يَنْظُرُ إِلَى أَقْصَاهُ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى أَدْنَاهُ، وَإِنَّ أَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْيَوْمِ مرتين " (4) .
__________
(1) في ف: "أن".
(2) صحيح البخاري برقم (554) وصحيح مسلم برقم (633) .
(3) المسند (4/136) ، وصحيح مسلم برقم (634) .
(4) المسند (2/13) وسنن الترمذي برقم (3330) وقال: "هذا حديث غريب".(5/325)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} أَيْ: مِنْ سَاعَاتِهِ فَتَهَجَّدْ بِهِ. وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} فِي مُقَابَلَةِ آنَاءِ اللَّيْلِ، {لَعَلَّكَ تَرْضَى} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضُّحَى: 5] .
وَفِي الصَّحِيحِ: " يَقُولُ اللَّهُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. فَيَقُولُونَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا " (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ [الْآخَرِ] (2) يُقَالُ: " يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ (3) عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجزكُمُوه. فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُزَحْزِحْنَا عَنِ النَّارِ، وَيُدْخِلْنَا (4) الْجَنَّةَ؟ فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمْ خَيْرًا مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَهِيَ (5) الزِّيَادَةُ " (6) .
{وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) }
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: لَا تَنْظُرْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُتْرَفِينَ (7) وَأَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ، وَمَا فِيهِ مِنَ النِّعَمِ (8) فَإِنَّمَا هُوَ زَهْرَةٌ زَائِلَةٌ، وَنِعْمَةٌ حَائِلَةٌ، لِنَخْتَبِرَهُمْ بِذَلِكَ، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} يَعْنِي: الْأَغْنِيَاءَ فَقَدْ آتَاكَ [اللَّهُ] (9) خَيْرًا مِمَّا آتَاهُمْ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الْحِجْرِ: 87، 88] ، وَكَذَلِكَ (10) مَا ادَّخَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يُحَدّ وَلَا يُوصَفُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضُّحَى: 5] وَلِهَذَا قَالَ: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فِي تِلْكَ الْمَشْرُبَةِ الَّتِي كَانَ قَدِ اعْتَزَلَ فِيهَا نِسَاءَهُ، حِينَ آلَى مِنْهُمْ فَرَآهُ مُتَوَسِّدًا مُضْطَجِعًا عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ إِلَّا صُبْرَة مِنْ قَرَظ، وأهَب (11) مُعَلَّقَةٌ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَا عُمَرَ بِالْبُكَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " مَا يبكيك (12) ؟ ".
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6549) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ف: "بكم".
(4) في ف: "تبيض وجوهنا وتثقل موازيننا وتزحزحنا عن النار وتدخلنا".
(5) في أ: "وهو".
(6) رواه مسلم في صحيحه برقم (181) من حديث صهيب رضي الله عنه.
(7) من أ: "إلى ما متعنا به هؤلاء المسرفين".
(8) في ف، أ: "النعيم".
(9) زيادة من ف، أ.
(10) في ف: "ولذلك".
(11) في أ: "واهية".
(12) في ف: "ما يبكيك يا عمر؟ ".(5/326)
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ؟ فَقَالَ: "أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلت لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا ". (1)
فَكَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (2) أَزْهَدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، إِذَا حَصَلَتْ لَهُ يُنْفِقُهَا هَكَذَا وَهَكَذَا، فِي عِبَادِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَّخِرْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا لِغَدٍ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنْبَأَنَا يُونُسُ، أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ عَطَاءِ بْنِ يَسَار، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: " إن أخوف ما أخاف عليكم مَا يَفْتَحُ اللَّهُ (3) مِنْ زَهْرَةِ (4) الدُّنْيَا ". قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " بَرَكَاتُ الْأَرْضِ " (5) .
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: زَهْرَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، يَعْنِي: زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لِنَبْتَلِيَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أَيِ: اسْتَنْقِذْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَاصْطَبِرْ أَنْتَ عَلَى فِعْلِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التَّحْرِيمِ: 6] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسلم، عن أبيه: أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَبِيتُ عِنْدَهُ أَنَا وَيَرْفَأُ، وَكَانَ لَهُ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي فِيهَا، فَرُبَّمَا لَمْ يَقُمْ (6) فَنَقُولُ: لَا يَقُومُ اللَّيْلَةَ كَمَا كَانَ يَقُومُ، وَكَانَ إِذَا [اسْتَيْقَظَ أَقَامَ] (7) -يَعْنِي أَهْلَهُ -وَقَالَ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (8) .
وَقَوْلُهُ: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} يَعْنِي (9) إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ أَتَاكَ الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب} [الطَّلَاقِ: 2، 3] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذَّارِيَاتِ: 56-58] وَلِهَذَا قَالَ: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} أَيْ: لَا نُكَلِّفُكَ الطَّلَبَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ [أَيْضًا] (10) حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ أَبِيهِ؛ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، فَرَأَى مِنْ دُنْيَاهُمْ طَرَفًا فَإِذَا رَجَعَ إِلَى أهله، فدخل الدار
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4913) .
(2) في ف، أ: "عليه وسلامه".
(3) في أ: "يفتح الله لكم".
(4) في أ: "زهرة الحياة الدنيا".
(5) أصله في صحيح البخاري برقم (2842) وصحيح مسلم برقم (1052) من طريق عطاء عن أبي سعيد الخدري ولفظه: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ عليكم من زهرة الدنيا".
(6) في ف، أ: "لم ينم".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) ورواه مالك في الموطأ (1/119) عن زيد بن أسلم عن أبيه بنحوه.
(9) في ف: "أي".
(10) زيادة من ف، أ.(5/327)
قَرَأَ: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} ثُمَّ يَقُولُ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، رَحِمَكُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ القَطَوَاني، حَدَّثَنَا سَيَّار، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَهُ خَصَاصَةٌ نَادَى أَهْلَهُ: " يَا أَهْلَاهُ، صَلُّوا، صَلُّوا ". قَالَ ثَابِتٌ: وَكَانَتِ (1) الْأَنْبِيَاءُ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ (2) أَمْرٌ فَزِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ. (3)
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ زَائِدَةَ، عَنِ أَبِيهِ، عَنِ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغ لِعِبَادَتِي أمْلأ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ملأتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ " (4) .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الضَّحَّاكِ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ الْمَعَادِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمّ دُنْيَاهُ. وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهِ هَلَكَ " (5) .
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عُمَر بْنِ سُلَيْمَانَ (6) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنِ أَبِيهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّه فرَّق اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ. وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نيَّته، جَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ " (7) .
{وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} أَيْ: وَحُسْنُ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهِيَ الْجَنَّةُ، لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ.
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: " رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ كَأَنَّا فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ وَأَنَّا أُتِينَا بِرُطَبٍ [مِنْ رُطَبِ] (8) ابْنِ طَابَ، فَأَوَّلْتُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ لَنَا فِي (9) الدنيا والرفعة وأن ديننا قد طاب " (10) .
__________
(1) في ف: "وكان".
(2) في أ: "بها".
(3) ورواه الإمام أحمد في الزهد برقم (48) عن سيار به، دون قول ثابت.
(4) سنن الترمذي برقم (2466) وسنن ابن ماجه برقم (4107) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
(5) سنن ابن ماجه برقم (4106) .
(6) في ف: "عمرو بن سليم".
(7) سنن ابن ماجه برقم (4105) . وقال البوصيري في الزوائد (3/271) : "هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات".
(8) زيادة من ف، أ، ومسلم.
(9) في ف: "في الدار الدنيا".
(10) صحيح مسلم برقم (2270) مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.(5/328)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
{وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: {لَوْلا} أَيْ: هَلَّا {يَأْتِينَا} مُحَمَّدٌ {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أَيْ: بِعَلَامَةٍ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ فِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى} يَعْنِي: الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ اللَّهُ (1) وَهُوَ أُمِّيٌّ، لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَلَمْ يُدَارِسْ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَخْبَارُ الْأَوَّلِينَ، بِمَا كَانَ مِنْهُمْ (2) فِي سَالِفِ الدُّهُورِ، بِمَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ الصَّحِيحَةُ مِنْهَا؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهَا، يُصَدِّقُ الصَّحِيحَ، ويُبَيّن خَطَأَ الْمَكْذُوبِ فِيهَا وَعَلَيْهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ "الْعَنْكَبُوتِ": {وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ (3) عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ (4) إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 50، 51] وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مَثَلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (5) .
وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَاهُنَا أَعْظَمَ الْآيَاتِ الَّتِي أُعْطِيَهَا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَلَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُحْصَرُ، كَمَا هُوَ مُودَعٌ فِي كُتُبِهِ، وَمُقَرَّرٌ فِي مَوَاضِعِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} أَيْ: لَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَا هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَ أَنْ نُرْسِلَ (6) إِلَيْهِمْ هَذَا الرَّسُولَ الْكَرِيمَ، وَنُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ لَكَانُوا قَالُوا: {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} قَبْلَ أَنْ تُهْلِكَنَا، حَتَّى نُؤْمِنَ بِهِ وَنَتَّبِعَهُ؟ كَمَا قَالَ: {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} ، يُبَيِّنُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ مُتَعَنِّتُونَ مُعَانِدُونَ لَا يُؤْمِنُونَ {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ: 97] ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الْأَنْعَامِ: 155-157] وَقَالَ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} [فَاطِرٍ: 42] وَقَالَ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْأَنْعَامِ: 109، 110] .
__________
(1) في ف: "أنزله الله عليه".
(2) في ف، أ: "فيهم".
(3) في ف: "نزل".
(4) في ف: "فقل".
(5) صحيح البخاري برقم (4981) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) في ف، أ: "يرسل".(5/329)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {قُلْ} أَيْ: يَا مُحَمَّدُ لِمَنْ كَذَّبَكَ وَخَالَفَكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ {كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} أَيْ: مِنَّا وَمِنْكُمْ {فَتَرَبَّصُوا} أَيْ: فَانْتَظِرُوا، {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} أَيِ: الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، {وَمَنِ اهْتَدَى} إِلَى الْحَقِّ وَسَبِيلِ الرَّشَادِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ (1) تَعَالَى {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الْفُرْقَانِ: 42] ، {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ} [الْقَمَرِ: 26] .
آخَرُ تَفْسِيرِ سورة طه، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في هـ: "قوله" والمثبت من ف، أ.(5/330)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَر، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ أَبِي إِسْحَاقَ: سَمِعْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ (1) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَالْكَهْفُ، وَمَرْيَمُ، وَطه، وَالْأَنْبِيَاءُ، هُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي (2) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) }
هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى اقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَدُنُوِّهَا، وَأَنَّ النَّاسَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا، أَيْ: لَا يَعْمَلُونَ لَهَا، وَلَا يَسْتَعِدُّونَ مِنْ أَجْلِهَا.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} قَالَ: "فِي الدُّنْيَا" (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النَّحْلِ: 1] ، وَقَالَ [تَعَالَى] (4) : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [الْقَمَرِ: 1، 2]
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْحَسَنِ بْنِ هَانِئٍ أَبِي نُوَاس الشَّاعِرِ أَنَّهُ قَالَ: أَشْعَرُ النَّاسِ الشَّيْخُ الطَّاهِرُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ حَيْثُ يَقُولُ:
النَّاس فِي غَفَلاتِهِمْ ... وَرَحا المِنيَّة تَطْحَنُ ...
فَقِيلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ أَخَذَ (5) هَذَا؟ قَالَ (6) : مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} (7) .
__________
(1) في أ: "زيد".
(2) صحيح البخاري برقم (4739) .
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (11332) .
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف، أ: "أخذت".
(6) في ف، أ: "فقال".
(7) تاريخ دمشق (4/611 "المخطوط") .(5/331)
[وَرَوَى فِي تَرْجَمَةِ "عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ"، مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الْآمِدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ أَبِيهِ، عن عامر ابن رَبِيعَةَ: أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَكْرَمَ عَامِرٌ مَثْوَاهُ، وَكَلَّمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنِّي اسْتَقْطَعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادِيًا فِي الْعَرَبِ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أقطعَ لَكَ مِنْهُ قِطْعَةً تَكُونُ لَكَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ. فَقَالَ عَامِرٌ: لَا حَاجَةَ لِي فِي قَطِيعَتِكَ، نَزَلَتِ الْيَوْمَ سُورَةٌ أَذْهَلَتْنَا عَنِ الدُّنْيَا: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} ] (1) (2) .
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُصغون إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَالْخِطَابُ مَعَ قُرَيْشٍ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَقَالَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} أَيْ: جَدِيدٌ إِنْزَالُهُ {إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَمَّا بِأَيْدِيهِمْ وَقَدْ حَرفوه وَبَدَّلُوهُ وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ، وَكِتَابُكُمْ أَحْدَثُ الْكُتُبِ بِاللَّهِ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِنَحْوِهِ (3) .
وَقَوْلُهُ: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أَيْ: قَائِلِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ خفْيَةً {هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} يعنونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْتَبْعِدُونَ كَوْنَهُ نَبِيًّا؛ لِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، فَكَيْفَ اخْتُصَّ بِالْوَحْيِ دُونَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ؟ أَيْ: أَفَتَتْبَعُونَهُ فَتَكُونُونَ كَمَنْ أَتَى (4) السِّحْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ. فَقَالَ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ عَمَّا افْتَرَوْهُ وَاخْتَلَقُوهُ مِنَ الْكَذِبِ.
{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ} أَيِ: الَّذِي يَعْلَمُ ذَلِكَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى خَبَرِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بمثله، إلا الذي يعلم السر في السموات وَالْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [أَيِ: السَّمِيعُ] (5) لِأَقْوَالِكُمْ، {الْعَلِيم} بِأَحْوَالِكُمْ. وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ.
وَقَوْلُهُ: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ} هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ تَعَنُّتِ الْكُفَّارِ وَإِلْحَادِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ (6) الْقُرْآنَ، وَحَيْرَتِهِمْ فِيهِ، وَضَلَالِهِمْ عَنْهُ. فَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ سِحْرًا، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ شِعْرًا، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ مُفْتَرًى، كَمَا قَالَ: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} [الْإِسْرَاءِ: 48، وَالْفُرْقَانِ: 9] .
وَقَوْلُهُ: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ} : يَعْنُونَ نَاقَةَ صَالِحٍ، وَآيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الْآيَةَ] (7) [الْإِسْرَاءِ: 59] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} أَيْ: مَا آتَيْنَا قَرْيَةً مِنَ الْقُرَى الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ الرُّسُلُ آيَةً عَلَى يَدَيْ نَبِيِّهَا فَآمَنُوا بِهَا، بَلْ كَذَّبُوا، فأهلكناهم
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) تاريخ دمشق (8/680 "المخطوط") .
(3) صحيح البخاري برقم (7522) .
(4) في أ: "يأتي".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ف، أ: " فيه".
(7) زيادة من ف.(5/332)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
بِذَلِكَ، أَفَهَؤُلَاءِ يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ لَوْ (1) رَأَوْها دُونَ أُولَئِكَ؟ كَلَّا بَلْ {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ: 96، 97] .
هَذَا كُلُّهُ، وَقَدْ شَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ، وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَاتِ، عَلَى يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ أَظْهَرُ وَأَجْلَى، وَأَبْهَرُ وَأَقْطَعُ وَأَقْهَرُ، مِمَّا شُوهِدَ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: ذُكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ عُلَيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ، حَدَّثَنِي مَنْ شَهِدَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، يَقُولُ: كُنَّا فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يُقْرِئُ بَعْضُنَا بَعْضًا الْقُرْآنَ، فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بن أبي بن سَلُولَ، وَمَعَهُ نُمْرُقة وزِرْبِيّة، فَوَضَعَ وَاتَّكَأَ، وَكَانَ صَبِيحًا فَصِيحًا جَدِلًا فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، قُلْ لِمُحَمَّدٍ يَأْتِينَا بِآيَةٍ كَمَا جَاءَ الْأَوَّلُونَ؟ جَاءَ مُوسَى بِالْأَلْوَاحِ، وَجَاءَ دَاوُدُ بِالزَّبُورِ، وَجَاءَ صَالِحٌ بِالنَّاقَةِ، وَجَاءَ عِيسَى بِالْإِنْجِيلِ وَبِالْمَائِدَةِ. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُومُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْتَغِيثُ بِهِ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ لَا يُقَامُ لِي، إِنَّمَا يُقَامُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَقِينَا مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ:"إِنَّ (3) جِبْرِيلَ قَالَ (4) لِي: اخْرُجْ فَأَخْبِرْ بِنِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكَ، وَفَضِيلَتِهِ الَّتِي فُضِّلت بِهَا، فَبَشَّرَنِي أَنِّي بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُنْذِرَ الْجِنَّ، وَآتَانِي كِتَابَهُ وَأَنَا أُمِّيٌّ، وَغَفَرَ ذَنْبِي مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَذَكَرَ اسْمِي فِي الْأَذَانِ وَأَيَّدَنِي (5) بِالْمَلَائِكَةِ، وَآتَانِي النَّصْرَ، وَجَعَلَ الرُّعْبَ أَمَامِي، وَآتَانِي الْكَوْثَرَ، وَجَعَلَ حَوْضِي مِنْ أَعْظَمِ الْحِيَاضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَوَعَدَنِي الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ وَالنَّاسُ مُهْطِعُونَ مُقْنِعُو (6) رُءُوسِهِمْ، وَجَعَلَنِي فِي أَوَّلِ زُمْرَةٍ تَخْرُجُ مِنَ النَّاسِ، وَأَدْخَلَ فِي شَفَاعَتِي سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَآتَانِي السُّلْطَانَ وَالْمُلْكَ، وَجَعَلَنِي فِي أَعْلَى غُرْفَةٍ فِي الْجَنَّةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (7) ، فَلَيْسَ فَوْقِي أَحَدٌ إِلَّا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ، وَأَحَلَّ لِيَ (8) الْغَنَائِمَ (9) ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلَنَا". وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ جِدًّا.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا يُوحَى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) } .
يَقُولُ تَعَالَى رادِّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا يُوحَى (10) إِلَيْهِمْ}
__________
(1) في ف: "ولو".
(2) في ف: "إلى رسوله".
(3) في ف: "أتى".
(4) في ف: "فقال".
(5) في أ: "وأمرني".
(6) في ف: "مقنعي".
(7) في ف، أ: "عدن".
(8) في ف، أ: "لي ولأمتي".
(9) في أ: "المغانم".
(10) في ف، أ: "نوحي".(5/333)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
أَيْ: جَمِيعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا كَانُوا رِجَالًا مِنَ الْبَشَرِ، لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا يُوحَى (1) إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يُوسُفَ: 109] ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الْأَحْقَافِ:9] ، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَمَّنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ فَقَالُوا: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التَّغَابُنِ:6] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أَيِ:اسْأَلُوا أَهْلَ الْعِلْمِ مِنَ الْأُمَمِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الطَّوَائِفِ: هَلْ كَانَ الرُّسُلُ الَّذِينَ أَتَوْهُمْ بَشَرًا أَوْ مَلَائِكَةً؟ إِنَّمَا كَانُوا بَشَرًا، وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ نِعمَ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ؛ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رُسُلًا (2) مِنْهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ تَنَاوُلِ الْبَلَاغِ مِنْهُمْ وَالْأَخْذِ عَنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} أَيْ: بَلْ قَدْ كَانُوا أَجْسَادًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ} [الْفُرْقَانِ:20] أَيْ: قَدْ كَانُوا بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ مِثْلَ النَّاسِ، وَيَدْخُلُونَ الْأَسْوَاقَ لِلتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِضَارٍّ لَهُمْ وَلَا نَاقِصٍ مِنْهُمْ شَيْئًا، كَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي قَوْلِهِمْ: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا} [الْفُرْقَانِ: 7، 8] .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا، بَلْ كَانُوا يَعِيشُونَ ثُمَّ يَمُوتُونَ، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الْأَنْبِيَاءِ:34] ، وَخَاصَّتُهُمْ أَنَّهُمْ يُوحَى إِلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ عَنِ اللَّهِ بِمَا يَحْكُمُ (3) فِي خَلْقِهِ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} أَيِ: الَّذِي وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ: "لَيُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ"، صَدَقَهُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} أَيْ: أَتْبَاعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} أَيِ: الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جَاءَتِ الرُّسُلُ بِهِ.
{لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) }
__________
(1) في ف، أ: "نوحي".
(2) في ف، أ: "رسولا"، وهو خطأ.
(3) في ف: "يحكمه".(5/334)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى شَرَفِ الْقُرْآنِ، وَمُحَرِّضًا لَهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ: {لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَرَفُكم.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَدِيثُكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: دِينُكُمْ.(5/334)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزُّخْرُفِ: 44] .
وَقَوْلُهُ: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} هَذِهِ صِيغَةُ تَكْثِيرٍ، كَمَا قَالَ {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الْإِسْرَاءِ: 17] .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَكَأَيِّنْ (1) مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الْحَجِّ:45] . وَقَوْلُهُ: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} أَيْ: أُمَّةً أُخْرَى بَعْدَهُمْ.
{فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} أَيْ: تَيَقَّنُوا أَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ (2) بِهِمْ، كَمَا وَعَدَهُمْ نَبِيُّهُمْ، {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} أَيْ: يَفِرُّونَ هَارِبِينَ.
{لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} هَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ قَدَرًا أَيْ: قِيلَ لَهُمْ قَدَرًا: لَا تَرْكُضُوا هَارِبِينَ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَارْجِعُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ، وَالْمَعِيشَةِ وَالْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَةِ.
قَالَ قَتَادَةُ: اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ.
{لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أَيْ: عَمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ شُكْرِ النِّعْمَةِ.
{قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} أَيْ: مَا (3) زَالَتْ تِلْكَ الْمَقَالَةُ، وَهِيَ الِاعْتِرَافُ بِالظُّلْمِ، هِجيراهم حَتَّى حَصَدْنَاهُمْ حَصْدًا (4) وَخَمَدَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ خُمُودًا.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) } .
يخبر تعالى أنه خلق السموات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، أَيْ: بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النَّجْمِ:31] ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ ذَلِكَ عَبَثًا وَلَا لَعِبًا، كَمَا قَالَ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ (5) وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} يَعْنِي: مِنْ عِنْدِنَا، يَقُولُ: وَمَا خَلَقْنَا جَنَّةً وَلَا نَارًا، وَلَا مَوْتًا، وَلَا بَعْثًا، وَلَا حِسَابًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} اللهو: المرأة بلسان أهل اليمن.
__________
(1) في ف: "وكأين".
(2) في ف: "تيقنوا العذاب أنه واقع".
(3) في ف: "فما".
(4) في ف، أ: "جعلناهم حصيدا خامدين".
(5) في ف، أ: "السماوات".(5/335)
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخعِي: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ} مِنْ الْحُورِ الْعِينِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِاللَّهْوِ هَاهُنَا: الْوَلَدُ.
وَهَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ مُتَلَازِمَانِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ} [الزُّمَرِ:4] ، فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ مُطْلَقًا، لَا سِيَّمَا عَمَّا يَقُولُونَ مِنَ الْإِفْكِ وَالْبَاطِلِ، مِنَ اتِّخَاذِ عِيسَى، أَوِ الْعُزَيْرِ (1) أَوْ الْمَلَائِكَةِ، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الْإِسْرَاءِ:43] .
وَقَوْلُهُ: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَم، أَيْ: مَا كُنَّا فَاعِلِينَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ "إِنْ" فَهُوَ إِنْكَارٌ.
وَقَوْلُهُ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} أَيْ: نُبَيِّنُ الْحَقَّ فَيَدْحَضُ الْبَاطِلَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أَيْ: ذَاهِبٌ مُضْمَحِلٌّ، {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} أي: أيها القاتلون: لِلَّهِ وَلَدٌ، {مِمَّا تَصِفُونَ} أَيْ: تَقُولُونَ وَتَفْتَرُونَ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عُبُودِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ، وَدَأْبِهِمْ فِي طَاعَتِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَقَالَ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ، {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أَيْ: لَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْهَا، كَمَا قَالَ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النِّسَاءِ:172] .
وَقَوْلُهُ: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} أَيْ: لَا يَتْعَبُونَ وَلَا يَملُّون.
{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} فَهُمْ دَائِبُونَ فِي الْعَمَلِ لَيْلًا وَنَهَارًا، مُطِيعُونَ قَصْدًا وَعَمَلًا قَادِرُونَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التَّحْرِيمِ:6] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي دُلامة الْبَغْدَادِيِّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانِ بْنِ مُحرِز، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَام قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، إِذْ قَالَ لَهُمْ: "هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟ " قَالُوا: مَا نَسْمَعُ مِنْ شَيْءٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءِ، وَمَا تُلَامُ أَنْ تَئِطَّ، وَمَا فِيهَا مَوْضِعِ شِبْر إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ". غَرِيبٌ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ (2) .
ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْع، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ (3) ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ مُخَارِقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَأَنَا غُلَامٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ [لِلْمَلَائِكَةِ] (4) {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}
__________
(1) في ف: "أو عزيز".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (3/201) والطحاوي في مشكل الآثار برقم (1134) من طريق عبد الوهاب بن عطاء به، وله شاهد من حديث أبي ذر الغفاري أخرجه الترمذي في السنن برقم (2312) وقال: "هذا حديث حسن غريب".
(3) في هـ، ف، أ: "محمد بن إسحاق" والمثبت من الطبري 17/70.
(4) زيادة من ف، أ.(5/336)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
أَمَا يَشْغَلُهُمْ عَنِ التَّسْبِيحِ الْكَلَامُ وَالرِّسَالَةُ وَالْعَمَلُ؟. فَقَالَ: فَمَنْ هَذَا الْغُلَامُ؟ فَقَالُوا: مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: فَقَبَّلَ رَأْسِي، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، إِنَّهُ جَعَلَ لَهُمُ التَّسْبِيحَ، كَمَا جَعَلَ لَكُمُ النَّفَسَ، أَلَيْسَ تَتَكَلَّمُ وَأَنْتَ تَتَنَفَّسُ (1) وَتَمْشِي وَأَنْتَ تَتَنَفَّسُ؟.
{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) }
يُنْكِرُ (2) تَعَالَى عَلَى مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، فَقَالَ: بَلِ {اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} أَيْ: أَهُمْ يُحْيُونَ الْمَوْتَى وَيَنْشُرُونَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ؟ أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَكَيْفَ جَعَلُوهَا لِلَّهِ نِدًّا وَعَبَدُوهَا مَعَهُ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْوُجُودِ آلِهَةٌ غَيْرُهُ لَفَسَدَتِ السموات الْأَرْضُ، فَقَالَ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} أَيْ: فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، {لَفَسَدَتَا} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ:91] ، وَقَالَ هَاهُنَا: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أَيْ: عَمَّا يَقُولُونَ إِنَّ لَهُ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنِ الَّذِي يَفْتَرُونَ وَيَأْفِكُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَقَوْلُهُ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أَيْ: هُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَعُلُوِّهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَلُطْفِهِ، {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أَيْ: وَهُوَ سَائِلٌ خَلْقَهُ عَمَّا يَعْمَلُونَ، كَقَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْحِجْرِ:92، 93] وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [الْمُؤْمِنُونَ:88] .
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) }
__________
(1) في ف: "وأنت تمشي".
(2) في ف: "فينكر".(5/337)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) }
يَقُولُ تَعَالَى: بَلِ {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ} يَا مُحَمَّدُ: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أَيْ: دَلِيلَكُمْ عَلَى مَا تَقُولُونَ، {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} يَعْنِي: الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى خِلَافِ مَا تَقُولُونَ وَتَزْعُمُونَ، فَكُلُّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، نَاطِقٌ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَكِنْ أَنْتُمْ أَيْهَا الْمُشْرِكُونَ لَا تَعْلَمُونَ الْحَقَّ، فَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا يُوحَى (1) إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، كَمَا قَالَ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزُّخْرُفِ: 45] ،
__________
(1) في ف، أ: "نوحي".(5/337)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
وَقَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النَّحْلِ:36] ، فَكُلُّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْفِطْرَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَالْمُشْرِكُونَ لَا بُرْهَانَ لَهُمْ، وَحُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) } .
يَقُولُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ-وَلَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَقَالَ: {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} أَيِ: الْمَلَائِكَةُ عِبَادُ اللَّهِ مُكْرَمُونَ عِنْدَهُ، فِي مَنَازِلَ عَالِيَةٍ وَمَقَامَاتٍ سَامِيَةٍ، وَهُمْ لَهُ فِي غَايَةِ الطَّاعَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا.
{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أَيْ: لَا يَتَقَدَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرٍ، وَلَا يُخَالِفُونَهُ فِيمَا أَمَرَ (1) بِهِ بَلْ يُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِهِ، وَهُوَ تَعَالَى عِلْمه مُحِيطٌ بِهِمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}
وَقَوْلُهُ: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} كَقَوْلِهِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [الْبَقَرَةِ: 255] ، وَقَوْلُهُ: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سَبَأٍ:23] ، فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي مَعْنَى ذَلِكَ.
{وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ} أَيْ: مِنْ خَوْفِهِ وَرَهْبَتِهِ {مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} أَيْ: مَنِ ادَّعَى مِنْهُمْ أَنَّهُ إِلَهٌ مَنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ: مَعَ اللَّهِ، {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أَيْ: كُلُّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَهَذَا شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَلْزَمُ وُقُوعُهُ، كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزُّخْرُفِ: 81] ، وَقَوْلُهُ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزُّمَرِ:65] .
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ، وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ فِي خَلْقِهِ الْأَشْيَاءَ، وَقَهْرِهِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيِ: الْجَاحِدُونَ لِإِلَهِيَّتِهِ العابدون (2) معه غيره، ألم يعلموا
__________
(1) في ف، أ: "أمرهم".
(2) في أ: "العابدين".(5/338)
أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ، الْمُسْتَبِدُّ بِالتَّدْبِيرِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ أَوْ يُشْرَكَ بِهِ مَا سِوَاهُ، أَلَمْ (1) يَرَوْا {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} أَيْ: كَانَ الْجَمِيعُ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُتَلَاصِقٌ مُتَرَاكِمٌ، بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَفَتَقَ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ. فجعل السموات سَبْعًا، وَالْأَرْضَ (2) سَبْعًا، وَفَصَلَ بَيْنَ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَالْأَرْضِ بِالْهَوَاءِ، فَأَمْطَرَتِ السَّمَاءُ وَأَنْبَتَتِ الْأَرْضُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} أَيْ: وَهُمْ يُشَاهِدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا عِيَانًا، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْقَادِرِ عَلَى مَا يَشَاءُ: فَفِي كُلّ شَيْءٍ لَهُ آيَة ... تَدُلّ علَى أنَّه وَاحد ...
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّيْلُ كان قبل أو النهار؟ فقال: أرأيتم السموات وَالْأَرْضَ حِينَ كَانَتَا رَتْقًا، هَلْ كَانَ بَيْنَهُمَا إِلَّا ظُلْمَةٌ؟ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّيْلَ قَبْلَ النَّهَارِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رجلا أتاه يسأله عن السموات وَالْأَرْضِ {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} ؟. قَالَ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْخِ فَاسْأَلْهُ، ثُمَّ تَعَالَ فَأَخْبِرْنِي بِمَا قَالَ لَكَ. قَالَ: فَذَهَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فسأله. فقال ابن عباس: نعم، كانت السموات رَتْقًا لَا تُمْطِرُ، وَكَانَتْ الْأَرْضُ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ.
فَلَمَّا خَلَقَ لِلْأَرْضِ أَهْلًا فَتَقَ هَذِهِ بِالْمَطَرِ، وَفَتْقَ هَذِهِ بِالنَّبَاتِ. فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْآنَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ أُوتِيَ فِي الْقُرْآنِ عِلْمًا، صَدَقَ -هَكَذَا كَانَتْ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ كُنْتُ أَقُولُ: مَا يُعْجِبُنِي جَرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، فَالْآنَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أُوتِيَ فِي الْقُرْآنِ عِلْمًا.
وَقَالَ عَطِيَّةُ العَوْفي: كَانَتْ هَذِهِ رَتْقًا لَا تُمْطِرُ، فَأَمْطَرَتْ. وَكَانَتْ هَذِهِ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ، فَأَنْبَتَتْ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: سَأَلْتُ أَبَا صَالِحٍ الحنَفِي عَنْ قَوْلِهِ: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} ، قَالَ: كَانَتِ السَّمَاءُ وَاحِدَةً، فَفَتَقَ مِنْهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، وَكَانَتْ الْأَرْضُ وَاحِدَةً فَفَتَقَ مِنْهَا سَبْعَ أَرْضِينَ.
وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَزَادَ: وَلَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ مُتَمَاسَّتَيْنِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بَلْ كَانَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ مُلْتَزِقَتَيْنِ، فَلَمَّا رَفَعَ السَّمَاءَ وَأَبْرَزَ مِنْهَا الْأَرْضَ، كَانَ ذَلِكَ فَتْقَهُمَا الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، كَانَتَا جَمِيعًا، فَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْهَوَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أَيْ: أَصْلُ كل الأحياء منه.
__________
(1) في أ: "أولم"."
(2) في ف، أ: "والأرضين".(5/339)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْجَمَاهِرِ (1) ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنِ أَبِي مَيْمُونَةَ (2) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِذَا رَأَيْتُكَ قَرَّتْ عَيْنِي، وَطَابَتْ نَفْسِي، فَأَخْبِرْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ: "كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي، وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ: "كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ" قَالَ: قُلْتُ: أَنْبِئْنِي عَنِ أَمْرٍ إِذَا عملتُ بِهِ دَخَلَتُ الْجَنَّةَ. قَالَ: "أفْش السَّلَامَ، وَأَطْعِمِ الطَّعَامَ، وصِل الْأَرْحَامَ، وَقُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، ثُمَّ ادْخُلِ الجنَّة بِسَلَامٍ" (3) .
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَبْدُ الصَّمَدِ وَعَفَّانُ وبَهْز، عَنْ هَمَّامٍ (4) . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا مَيْمُونَةَ مِنْ رِجَالِ السُّنَنِ، وَاسْمُهُ سُلَيْمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ يُصَحِّحُ لَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا وَاللَّهُ (5) أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ} أَيْ: جِبَالًا أَرْسَى الْأَرْضَ بِهَا وَقَرَّرَهَا وَثَقَّلَهَا؛ لِئَلَّا تَمِيدَ بِالنَّاسِ، أَيْ: تَضْطَرِبَ وَتَتَحَرَّكَ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ عَلَيْهَا قَرَارٌ (6) لِأَنَّهَا غَامِرَةٌ فِي الْمَاءِ إِلَّا مِقْدَارَ الرُّبْعِ، فَإِنَّهُ بَادٍ لِلْهَوَاءِ وَالشَّمْسِ، لِيُشَاهِدَ أَهْلُهَا السَّمَاءَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ، وَالْحِكَمِ وَالدَّلَالَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} أَيْ: لِئَلَّا تَمِيدَ بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا} أَيْ: ثَغْرًا فِي الْجِبَالِ، يَسْلُكُونَ فِيهَا طُرُقًا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، وَإِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُ الْجَبَلُ حَائِلًا بَيْنَ هَذِهِ الْبِلَادِ وَهَذِهِ الْبِلَادِ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ فَجْوَةً -ثَغْرَةً-لِيَسْلُكَ النَّاسُ فِيهَا مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} .
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} أَيْ: عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ كَالْقُبَّةِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذَّارِيَاتِ: 47] ، وَقَالَ: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشَّمْسِ:5] ، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] ، وَالْبِنَاءُ هُوَ نَصْبُ الْقُبَّةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُنِي الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ" أَيْ: خَمْسُ (7) دَعَائِمَ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْخِيَامِ، عَلَى مَا (8) تَعْهَدُهُ الْعَرَبُ.
{مَّحْفُوظًا} أَيْ: عَالِيًا مَحْرُوسًا أَنْ يُنال. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَرْفُوعًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّشْتَكي، حَدَّثَنِي
__________
(1) في ف، أ: "الجماهير".
(2) في ف، أ: "أبي ميمون".
(3) المسند (2/295) ورواه الحاكم في المستدرك (4/129) من طريق يزيد بن هارون وصححه. ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (642) "موارد" من طريق أبي عامر العقدي عن همام به.
(4) المسند (2/323-493) من طريق عبد الصمد، (2/323) من طريق عفان، (2/324) من طريق بهز. وقال الهيثمي في المجمع (5/16) : "رجاله رجال الصحيح، خلا أبي ميمونة وهو ثقة".
(5) في ف: "فالله".
(6) في ف: "قرار عليها".
(7) في ف: "خمسة".
(8) في ف:" كما".(5/340)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
أَبِي، عَنِ أَبِيهِ، عَنِ أَشْعَثَ -يَعْنِي ابْنَ إسحاق القُمِّي-عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ السَّمَاءُ، قَالَ: "مَوْجٌ مَكْفُوفٌ عَنْكُمْ" (1) إِسْنَادٌ غَرِيبٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} ، كَقَوْلِهِ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يُوسُفَ:105] أَيْ: لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الِاتِّسَاعِ الْعَظِيمِ، وَالِارْتِفَاعِ الْبَاهِرِ، وَمَا زُيِّنَتْ بِهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ فِي لَيْلِهَا، وَفِي نَهَارِهَا (2) مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ الَّتِي تَقْطَعُ الْفَلَكَ بِكَمَالِهِ، فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَتَسِيرُ غَايَةً لَا يَعْلَمُ قَدْرَهَا إِلَّا الَّذِي (3) قَدَّرَهَا وَسَخَّرَهَا وَسَيَّرَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِهِ "التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ": أَنَّ بَعْضَ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَعَبَّدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا تَعَبَّدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَظَلَّتْهُ غَمَامَةٌ، فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَرَى لِغَيْرِهِ، فَشَكَى ذَلِكَ إِلَى أُمِّهِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا بُنَيَّ، فَلَعَلَّكَ أَذْنَبْتَ فِي مُدَّةِ عِبَادَتِكَ هَذِهِ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ، قَالَتْ: فَلَعَلَّكَ هَمَمْتَ؟ قَالَ: لَا (4) وَلَا هَمَمْتُ. قَالَتْ: فَلَعَلَّكَ رَفَعْتَ بَصَرَكَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ رَدَدْتَهُ بِغَيْرِ فِكْرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كَثِيرًا. قَالَتْ: فَمِنْ هَاهُنَا أُتِيتَ.
ثُمَّ قَالَ مُنَبِّهًا عَلَى بَعْضِ آيَاتِهِ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أَيْ: هَذَا فِي ظَلَامِهِ وَسُكُونِهِ، وَهَذَا بِضِيَائِهِ وَأُنْسِهِ، يَطُولُ هَذَا تَارَةً ثُمَّ يَقْصُرُ أُخْرَى، وَعَكْسُهُ الْآخَرُ. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} هَذِهِ لَهَا نُورٌ يَخُصُّهَا، وَفَلَكٌ بِذَاتِهِ، وَزَمَانٌ عَلَى حِدَةٍ، وَحَرَكَةٍ وَسَيْرٍ خَاصٍّ، وَهَذَا بِنُورٍ خَاصٍّ آخَرَ، وَفَلَكٍ آخَرَ، وَسَيْرٍ آخَرَ، وَتَقْدِيرٍ آخَرَ، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] ، أَيْ: يَدُورُونَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَدُورُونَ كَمَا يَدُورُ الْمِغْزَلُ فِي الْفَلْكَةِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَا يَدُورُ الْمِغْزَلُ إِلَّا بِالْفَلْكَةِ، وَلَا الْفَلْكَةُ إِلَّا بِالْمِغْزَلِ، كَذَلِكَ النُّجُومُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، لَا يَدُورُونَ إِلَّا بِهِ، وَلَا يَدُورُ إِلَّا بِهِنَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الْأَنْعَامِ:96] .
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ} أَيْ: يَا مُحَمَّدُ، {الْخُلْدَ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا بَلْ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرَّحْمَنِ:26، 27] .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَضِرَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَاتَ وَلَيْسَ بِحَيٍّ إِلَى الْآنِ؛ لِأَنَّهُ بَشَرٌ، سَوَاءٌ كَانَ وَلِيًّا أَوْ نِبِيًّا أَوْ رَسُولًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} .
__________
(1) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (539) من طريق أحمد بن القاسم عن أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي به.
(2) في ف، أ: "النهار".
(3) في ف، أ: "الله".
(4) في ف، أ: "بل والله".(5/341)
وَقَوْلُهُ: {أَفَإِنْ مِتَّ} أَيْ: يَا مُحَمَّدُ، {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ؟! أَيْ: يُؤَمِّلُونَ أَنْ يَعِيشُوا بَعْدَكَ، لَا يَكُونُ هَذَا، بَلْ كُلٌّ إِلَى فَنَاءٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ أَنْشَدَ وَاسْتَشْهَدَ بِهَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ: تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ فَتلْكَ سَبيل لَسْت فيهَا بأوْحد
فقُلْ للَّذي يَبْغي خِلَافَ الَّذِي مَضَى: تَهَيَّأ لأخْرى مثْلها فكَأن قَدِ (1)
وَقَوْلُهُ: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أَيْ: نَخْتَبِرُكُمْ بِالْمَصَائِبِ تَارَةً، وَبِالنِّعَمِ أُخْرَى، لِنَنْظُرَ مَنْ يَشْكُرُ وَمَنْ يَكْفُرُ، وَمَنْ يَصْبِرُ وَمَنْ يَقْنَطُ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَنَبْلُوكُمْ} ، يَقُولُ: نَبْتَلِيكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ..
وَقَوْلُهُ: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أَيْ: فَنُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
__________
(1) البيتان ذكرهما البيهقي في مناقب الشافعي (2/62) والرازي في مناقب الشافعي (ص119) .(5/342)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) } .
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي: كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَأَبِي جَهْلٍ وَأَشْبَاهِهِ {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} أَيْ: يَسْتَهْزِئُونَ بِكَ وَيَنْتَقِصُونَكَ، يَقُولُونَ: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} يَعْنُونُ: أَهَذَا الَّذِي يَسُبُّ آلِهَتَكُمْ وَيُسَفِّهُ أَحْلَامَكُمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} أَيْ: وَهُمْ كَافِرُونَ بِاللَّهِ، وَمَعَ هَذَا يَسْتَهْزِئُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا. إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الْفُرْقَانِ:41، 42] .
وَقَوْلُهُ: {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَكَانَ (1) الإنْسَانُ عَجُولا} [الْإِسْرَاءِ:11] أَيْ: فِي الْأُمُورِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ بَعْدَ كَلِّ شَيْءٍ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ، مِنْ يَوْمِ خَلَقَ الْخَلَائِقَ فَلَمَّا أَحْيَا الرُّوحُ عَيْنَيْهِ وَلِسَانَهُ وَرَأْسَهُ، وَلَمْ يَبْلُغْ (2) أَسْفَلَهُ قَالَ: يَا رَبِّ، اسْتَعْجِلْ بِخَلْقِي قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَان، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ يَوْمٍ طلعت فيه
__________
(1) في ف: "وخلق".
(2) في ف: "تبلغ".(5/342)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُهْبِطَ مِنْهَا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا مُؤْمِنٌ يُصَلِّي -وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ قَلَّلَها (1) -فَسَأَلَ اللَّهَ خَيْرًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ". قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: قَدْ عَرَفْتُ تِلْكَ السَّاعَةَ، وَهِيَ آخِرُ سَاعَاتِ النَّهَارِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا آدَمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} (2) .
وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ عِجَلَةِ الْإِنْسَانِ هَاهُنَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ [وَسَلَامُهُ] (3) عَلَيْهِ، وَقَعَ فِي النُّفُوسِ سُرْعَةُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَاسْتَعْجَلَتْ (4) ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، يُؤَجِّلُ ثُمَّ يُعَجِّلُ، وَيُنْظِرُ ثُمَّ لَا يُؤَخِّرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي} أَيْ: نَقْمِي وَحُكْمِي وَاقْتِدَارِي عَلَى مَنْ عَصَانِي، {فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} .
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ أَيْضًا بِوُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ، تَكْذِيبًا وَجُحُودًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا وَاسْتِبْعَادًا، فَقَالَ: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} أَيْ: لَوْ تَيَقَّنُوا أَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ لَمَا اسْتَعْجَلُوا، بِهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ حِينَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزُّمَرِ:16] ، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الْأَعْرَافِ:41] ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} وَقَالَ: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إِبْرَاهِيمَ:50] ، فَالْعَذَابُ مُحِيطٌ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ، {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أَيْ: لَا نَاصِرَ لَهُمْ كَمَا قَالَ: {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرَّعْدِ:34] .
وَقَوْلُهُ: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً} (5) أَيْ: "تَأْتِيهِمُ النَّارُ بَغْتَةً"، أَيْ: فَجْأَةً {فَتَبْهَتُهُمْ} أَيْ: تَذْعَرُهُمْ (6) فَيَسْتَسْلِمُونَ لَهَا حَائِرِينَ، لَا (7) يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ، {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ حِيلَةٌ فِي ذَلِكَ، {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أَيْ: وَلَا يُؤَخَّرُ عَنْهُمْ ذَلِكَ ساعة واحدة.
__________
(1) في أ: "يقللها"
(2) أخرج مالك في الموطأ (1/108) من طريق يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه دون ذكر الآية وأخرج الشيخان أوله والله أعلم.
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف، أ: "واستعجلت ذلك".
(5) في ف: "بغته فتبهتهم"
(6) في ف، أ: "تدعوهم".
(7) في ف: "حائرون ولا".(5/343)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِرَسُولِهِ [صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ] (1) عَمَّا آذَاهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يَعْنِي: مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الْأَنْعَامِ:34] .
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى نِعْمَتَهُ عَلَى عَبِيدِهِ فِي حِفْظِهِ لَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكِلَاءَتِهِ وَحِرَاسَتِهِ لَهُمْ بِعَيْنِهِ الَّتِي لَا تَنَامُ، فَقَالَ: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} ؟ أَيْ: بَدَلَ الرَّحْمَنِ بِمَعْنَى غَيْرِهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ (2)
جَارية لَمْ تَلْبَس المُرقَّقا ... وَلَم تَذق منَ البُقول الفُسْتُقا ...
أَيْ: لَمْ تَذُقْ بَدَلَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} أَيْ: لَا يَعْتَرِفُونَ (3) بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، بَلْ يُعْرِضُونَ عَنِ آيَاتِهِ وَآلَائِهِ، ثُمَّ قَالَ {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، أَيْ: أَلَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ وَتَكْلَؤُهُمْ غَيْرُنَا؟ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمُوا وَلَا كَمَا (4) زَعَمُوا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} أَيْ: هَذِهِ [الْآلِهَةُ] (5) الَّتِي اسْتَنَدُوا إِلَيْهَا غَيْرَ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أَيْ: يُجَارُونَ (6) وَقَالَ قَتَادَةُ لَا يُصْحَبُونَ [مِنَ اللَّهِ] (7) بِخَيْرٍ وَقَالَ غَيْرُهُ: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} يمنعون.
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) هو أبو نخيلة يعمر بن حزن، والبيت في اللسان مادة (فسق) وصدره: دسته لم تأكل المرققا
وقد حمل صاحب اللسان قوله بأنه ظن الفستق من البقول.
(3) في ف، أ: "لا يعرفون".
(4) في ف، أ: "ولا قد كما".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ف، أ: "يجازون".
(7) زيادة من ف.(5/344)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) } .(5/345)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّمَا غَرَّهُمْ وَحَمَلَهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ، أَنَّهُمْ مُتّعوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَنُعِّمُوا وَطَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فِيمَا هُمْ فِيهِ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ.
ثُمَّ قَالَ وَاعِظًا لَهُمْ: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ، وَقَدْ أَسْلَفْنَاهُ فِي سُورَةِ "الرَّعْدِ"، وَأَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الْأَحْقَافِ:27] .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي بِذَلِكَ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ عَلَى الْكُفْرِ.
وَالْمَعْنَى: أَفَلَا يَعْتَبِرُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ لِأَوْلِيَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَإِهْلَاكِهِ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ وَالْقُرَى الظَّالِمَةَ، وَإِنْجَائِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} يَعْنِي: بَلْ هُمْ الْمَغْلُوبُونَ الْأَسْفَلُونَ الْأَخْسَرُونَ الْأَرْذَلُونَ.
وَقَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} أَيْ: إِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ (1) عَنِ اللَّهِ مَا أُنْذِرُكُمْ (2) بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا عَمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، وَلَكِنْ لَا يُجْدِي هَذَا عَمَّنْ أَعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} .
وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أَيْ: وَلَئِنْ مَسَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، لَيَعْتَرِفُنَّ بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} أَيْ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْعَدْلَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا جُمِعَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَعْمَالِ الْمَوْزُونَةِ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الْكَهْفِ:49] ، وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّسَاءِ:40] ، وَقَالَ لُقْمَانُ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لُقْمَانَ:16] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ" (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الطَّالَقَاني، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ يَحْيَى، عَنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَخْلِصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يقول أتنكر من هذا شيئًا؟
__________
(1) في ف، أ: "مبلغكم".
(2) في ف، أ: "أنذرتكم".
(3) صحيح البخاري برقم (7563) وصحيح مسلم برقم (2694) .(5/345)
أَظْلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ، قَالَ: أَفَلَكَ عُذْرٌ، أَوْ حَسَنَةٌ؟ " قَالَ: فَيُبْهَتُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً، لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ. فَيُخْرِجُ لَهُ بِطَاقَةً فِيهَا: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ (1) مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" فَيَقُولُ: أَحْضِرُوهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: "فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ [وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ] " (2) ، قَالَ: "فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ" قَالَ: "وَلَا يَثْقُلُ شَيْءٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" (3) .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، بِهِ، (4) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "تُوضَعُ الْمَوَازِينُ (5) يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ، فَيُوضَعُ في كفة، فيوضع (6) ما أحصى عليه، فتايل (7) بِهِ الْمِيزَانُ" قَالَ: "فَيُبْعَثُ بِهِ إِلَى النَّارِ" قَالَ: فَإِذَا أَدْبَرَ بِهِ إِذَا (8) صَائِحٌ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: [لَا تَعْجَلُوا] (9) ، فَإِنَّهُ قَدْ بَقِيَ لَهُ، فَيُؤْتَى بِبِطَاقَةٍ فِيهَا "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَتُوضَعُ مَعَ الرَّجُلِ فِي كِفَّةٍ (10) حَتَّى يَمِيلَ بِهِ الْمِيزَانُ" (11) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو نُوحٍ قُرَادٌ (12) أَنْبَأَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ، يَكْذِبُونَنِي، وَيَخُونُونَنِي، وَيَعْصُونَنِي، وَأَضْرِبُهُمْ وَأَشْتُمُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، إِنْ (13) كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ، كَانَ فَضْلًا لَكَ [عَلَيْهِمْ] (14) وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، كَانَ كَفَافًا لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ، اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ الَّذِي يَبْقَى (15) قِبَلَكَ". فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَبْكِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما لَهُ أَمَا يَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ؟: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجِدُ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ فِرَاقِ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي عَبِيدَهُ-إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أحرار كلهم (16) .
__________
(1) في ف: "وأشهد أن".
(2) زيادة من ف، والمسند.
(3) المسند (2/213) .
(4) سنن الترمذي برقم (2639) وسنن ابن ماجه برقم (4300) .
(5) في ف: "يوضع الميزان".
(6) في ف: "ويوضع".
(7) في ف: "فيمايل".
(8) في ف: "فإذا"
(9) زيادة من ف، والمسند.
(10) في ف: "كفته".
(11) المسند (2/221) .
(12) في ف، أ: "مرارا".
(13) في ف: "فإن".
(14) زيادة من ف، والمسند.
(15) في ف: "بقي".
(16) المسند (6/280) .(5/346)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) } .
قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ بَيْنَ ذِكْرِ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَبَيْنَ كِتَابَيْهِمَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} . قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: الْكِتَابَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: التَّوْرَاةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: التَّوْرَاةُ، حَلَالُهَا وَحَرَامُهَا، وَمَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي: النَّصْرَ.
وَجَامِعُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَعَلَى مَا يُحَصِّلُ نُورًا فِي الْقُلُوبِ، وَهِدَايَةً وَخَوْفًا وَإِنَابَةً وَخَشْيَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ: {الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ: [تَذْكِيرًا] (1) لَهُمْ وَعِظَةً.
ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} كَقَوْلِهِ {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33] ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الْمُلْكِ:12] ، {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} أَيْ: خَائِفُونَ وَجِلُونَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ} يَعْنِي: الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، الذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} أَيْ: أَفَتُنْكِرُونَهُ وَهُوَ فِي غَايَةِ [الْجَلَاءِ] (2) وَالظُّهُورِ؟.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ آتَاهُ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ، أَيْ: مِنْ صِغَرِهِ أَلْهَمَهُ الْحَقَّ وَالْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الْأَنْعَامِ:83] ، وَمَا يُذْكَرُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْهُ (3) فِي إِدْخَالِ أَبِيهِ لَهُ فِي السِّرْبِ، وَهُوَ رَضِيعٌ، وَأَنَّهُ خَرَجَ بِهِ بَعْدَ أَيْامٍ، فَنَظَرَ إِلَى الْكَوْكَبِ وَالْمَخْلُوقَاتِ، فَتَبَصَّرَ فِيهَا وَمَا قَصَّهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ -فَعَامَّتُهَا أَحَادِيثُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَا وَافَقَ مِنْهَا الْحَقَّ مِمَّا بِأَيْدِينَا عَنِ الْمَعْصُومِ قَبِلْنَاهُ لِمُوَافَقَتِهِ الصَّحِيحَ، وَمَا خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ رَدَدْنَاهُ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ وَلَا مُخَالَفَةٌ لَا نصدقه ولا نكذبه، بل نجعله وفقًا، وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنْهَا فَقَدْ تَرَخَّصَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ فِي رِوَايَتِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا حاصل له
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.
(3) في ف: "عنه من الأخبار".(5/347)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدِّينِ. وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ فَائِدَةٌ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي دِينِهِمْ لَبَيَّنَتْهُ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الشَّامِلَةُ. وَالَّذِي نَسْلُكُهُ (1) فِي هَذَا التَّفْسِيرِ الْإِعْرَاضُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ تَضْيِيعِ الزَّمَانِ، وَلِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْهَا مِنَ الْكَذِبِ الْمُرَوَّجِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا تَفْرِقَةَ (2) عِنْدَهُمْ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا كَمَا حَرَّرَهُ الْأَئِمَّةُ الْحُفَّاظُ الْمُتْقِنُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ آتَى إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ، مِنْ قَبْلُ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أَيْ: وَكَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: {إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} هَذَا هُوَ الرُّشْدُ الَّذِي أُوتِيهِ مِنْ صِغَرِهِ، الْإِنْكَارُ عَلَى قَوْمِهِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أَيْ: مُعْتَكِفُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّبَّاحُ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ طَرِيفٍ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: مَرَّ عَلِيٌّ، عَلَى قَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ لَأَنْ يَمَسَّ أَحَدُكُمْ جَمْرًا حَتَّى يُطْفَأَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا.
{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} : لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ سِوَى صَنِيعِ آبَائِهِمُ الضُّلَّالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أَيِ: الْكَلَامُ مَعَ آبَائِكُمُ الَّذِينَ احْتَجَجْتُمْ بِصَنِيعِهِمْ كَالْكَلَامِ مَعَكُمْ، فَأَنْتُمْ وَهُمْ فِي ضَلَالٍ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ.
فَلَمَّا سَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ، وَضَلَّلَ آبَاءَهُمْ، وَاحْتَقَرَ آلِهَتَهُمْ {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ} يَقُولُونَ (3) : هَذَا الْكَلَامُ الصَّادِرُ عَنْكَ تَقُولُهُ لَاعِبًا أَوْ مُحِقًّا فِيهِ؟ فَإِنَّا لَمْ نَسْمَعْ بِهِ قَبْلَكَ.
{قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} أَيْ: رَبُّكُمْ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السموات [وَالْأَرْضَ] (4) وَمَا حَوَتْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّذِي ابْتَدَأَ خَلْقَهُنَّ، وَهُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أَيْ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
{وَتَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) }
__________
(1) في هـ: "يذكر" والمثبت من ف.
(2) في ف: "لا معرفة".
(3) في ف: "يقول".
(4) زيادة من ف.(5/348)
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) } .
ثُمَّ أَقْسَمَ الْخَلِيلُ قَسَمًا أَسْمَعَهُ بَعْضَ قَوْمِهِ لَيَكِيدَنَّ أَصْنَامَهُمْ، أَيْ: لَيَحْرِصَنَّ عَلَى أَذَاهُمْ وَتَكْسِيرِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُوَلُّوا (1) مُدْبِرِينَ أَيْ: إِلَى عِيدِهِمْ. وَكَانَ لَهُمْ عيد يخرجون إليه.
__________
(1) في ف: "تولو".(5/348)
قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا اقْتَرَبَ (1) وَقْتُ ذَلِكَ الْعِيدِ قَالَ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا لَأَعْجَبَكَ دِينُنَا! فَخَرَجَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى نَفْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَهُوَ صَرِيعٌ، فَيَقُولُونَ: مَهْ! فَيَقُولُ: إِنِّي سَقِيمٌ، فَلَمَّا جَازَ عَامَّتُهُمْ وَبَقِيَ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ: {تَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} فَسَمِعَهُ أُولَئِكَ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ، إِلَى عِيدِهِمْ مَرُّوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَا تَخْرُجُ مَعَنَا؟ قَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ. وَقَدْ كَانَ بِالْأَمْسِ قَالَ: {تَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} فَسَمِعَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} أَيْ: حُطَامًا كَسَّرَهَا كُلَّهَا {إِلا كَبِيرًا لَهُمْ} يَعْنِي: إِلَّا الصَّنَمَ الْكَبِيرَ عِنْدَهُمْ كَمَا قَالَ: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصَّافَّاتِ:93] .
وَقَوْلُهُ: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} ذَكَرُوا أَنَّهُ وَضَعَ الْقَدُومَ فِي يَدِ كَبِيرِهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي غَارَ لِنَفْسِهِ، وَأَنِفَ أَنْ تُعْبَدَ مَعَهُ هَذِهِ الْأَصْنَامُ الصِّغَارُ، فَكَسَّرَهَا.
{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أَيْ: حِينَ رَجَعُوا وَشَاهَدُوا مَا فَعَلَهُ الْخَلِيلُ بِأَصْنَامِهِمْ مِنَ الْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّتِهَا، وَعَلَى سَخَافَةِ عُقُولِ عَابِدِيهَا {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أَيْ: فِي صَنِيعِهِ هَذَا.
{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أَيْ: قَالَ مَنْ سَمِعَهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَيَكِيدَنَّهُمْ: {سَمِعْنَا فَتًى} أَيْ: شَابًّا {يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ قَابُوسٍ [عَنْ أَبِيهِ] (2) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا شَابًّا، وَلَا أُوتِيَ الْعَلَمَ عَالِمٌ إِلَّا وَهُوَ شَابٌّ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} .
وَقَوْلُهُ: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} أَيْ: عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي الْمَلَإِ الْأَكْبَرِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَكْبَرَ لِإِبْرَاهِيمَ أَنْ يَتَبَيَّنَ (3) فِي هَذَا الْمَحْفِلِ الْعَظِيمِ كَثْرَةُ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةُ عَقْلِهِمْ (4) فِي عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا ضَرًّا، وَلَا تَمْلِكُ (5) لَهَا نَصْرًا، فَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؟.
{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} يَعْنِي: الَّذِي تَرَكَهُ لَمْ يَكْسِرْهُ {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنْ يُبَادِرُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، فَيَعْتَرِفُوا أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَصْدُرُ عَنْ هَذَا الصَّنَمِ، لِأَنَّهُ جَمَادٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَكْذِبْ غَيْرَ ثَلَاثٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ (6) ، قَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وَقَوْلُهُ {إِنِّي سَقِيمٌ} قَالَ: "وَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ فِي أرض جبار من الجبابرة ومعه
__________
(1) في ف: "قرب".
(2) زيادة من ف.
(3) في ف، أ: "يبين".
(4) في ف: "عقولهم".
(5) في ف: "ولا تستطيع".
(6) في ف، أ: "كتاب".(5/349)
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
سَارَةُ، إِذْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَأَتَى الْجَبَّارَ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِأَرْضِكَ رَجُلٌ مَعَهُ امْرَأَةٌ أَحْسَنُ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَجَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْكَ؟ قَالَ: هِيَ أُخْتِي. قَالَ: فَاذْهَبْ فَأَرْسِلْ بِهَا إِلَيَّ، فَانْطَلَقَ إِلَى سَارَةَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ (1) سَأَلَنِي عَنْكِ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي عِنْدَهُ، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، فَانْطَلَقَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي. فَلَمَّا أَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَرَآهَا أَهْوَى إِلَيْهَا، فَتَنَاوَلَهَا، فَأُخِذَ أَخْذًا شَدِيدًا، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ لَهُ فَأُرْسِلَ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا، فَتَنَاوَلَهَا فَأُخِذَ بِمِثْلِهَا أَوْ أَشَدَّ. فَفَعَلَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ فَأُخِذَ، [فَذَكَرَ] (2) مِثْلَ الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ (3) فَقَالَ ادْعِي اللَّهَ فَلَا أَضُرُّكِ. فَدَعَتْ، لَهُ فَأُرْسِلَ، ثُمَّ دَعَا أَدْنَى حُجَّابِهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، وَإِنَّمَا (4) أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، أَخْرِجْهَا وَأَعْطِهَا هَاجَرَ، فَأُخْرِجَتْ وَأُعْطِيَتْ هَاجَرَ، فَأَقْبَلَتْ، فَلَمَّا أَحَسَّ إِبْرَاهِيمُ بِمَجِيئِهَا انْفَتَلَ مِنْ صِلَاتِهِ، قَالَ (5) : مَهْيَم؟ قَالَتْ: كَفَى اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ الْفَاجِرِ، وَأَخْدَمَنِي هَاجَرَ" قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ (6) وَكَانَ (7) : أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ (8)
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا (9) عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ قَالَ لَهُمْ مَا قَالَ: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} أَيْ: بِالْمَلَامَةِ فِي عَدَمِ احْتِرَازِهِمْ وَحِرَاسَتِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ، فَقَالُوا: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} أَيْ: فِي تَرْكِكِمْ لَهَا مُهْمَلَةً لَا حَافِظَ عِنْدَهَا، {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} أَيْ: ثُمَّ أَطْرَقُوا فِي الْأَرْضِ فَقَالُوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: أَدْرَكَتِ الْقَوْمَ حَيْرَةُ سُوءٍ فَقَالُوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} .
وَقَالَ السُّدِّيُّ: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} أَيْ: فِي الْفِتْنَةِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ فِي الرَّأْيِ.
وَقَوْلُ قَتَادَةَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَيْرَةً وَعَجْزًا؛ وَلِهَذَا قَالُوا لَهُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} ، فَكَيْفَ تَقُولُ لَنَا: سَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَنْطِقُ فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ} أَيْ: إِذَا كَانَتْ لَا تَنْطِقُ (10) ، وَهِيَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، فَلِمَ تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
{أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
__________
(1) في ف: "الجبار قد سألني".
(2) زيادة من ف، والسنن.
(3) في ف، أ: "الأولتين".
(4) في ف: "ولكنك".
(5) في ف: "وقال".
(6) في ف، أ: "إدريس".
(7) في ف: "فكان".
(8) لم أجده في الصحيحين من طريق هشام بن حسان وإنما هو في السنن: فرواه أبو داود في السنن برقم (2212) من طريق عبد الوهاب الثقفي عن هشام بن حسان. ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (8374) من طريق أبي أسامة عن هشام بن حسان. وهو في الصحيحين من طريق أيوب عن محمد بن سيرين؛ صحيح البخاري برقم (5084) ، وصحيح مسلم برقم (2371) .
(9) في ف، أ: "يخبر تعالى".
(10) في أ: "كان لا ينطق".(5/350)
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
أَيْ: أَفَلَا تَتَدَبَّرُونَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ الْغَلِيظِ، الَّذِي لَا يُرَوَّجُ إِلَّا عَلَى جَاهِلٍ ظَالِمٍ فَاجِرٍ؟ فَأَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، وَأَلْزَمَهُمْ بِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ:83] .
{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ (70) } .
لَمَّا دَحَضت حُجَّتُهُمْ، وَبَانَ عَجْزُهُمْ، وَظَهَرَ الْحَقُّ، وَانْدَفَعَ الْبَاطِلُ، عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِ مُلْكِهِمْ، فَقَالُوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} فَجَمَعُوا حَطَبًا كَثِيرًا جِدًّا -قَالَ السُّدِّيُّ: حَتَّى إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمْرَضُ، فَتَنْذُرُ إِنْ عُوفِيَتْ أَنْ تَحْمِلَ حَطَبًا لِحَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ-ثُمَّ جَعَلُوهُ فِي جَوْبة مِنَ الْأَرْضِ، وَأَضْرَمُوهَا نَارًا، فَكَانَ لَهَا شَرَرٌ عَظِيمٌ وَلَهَبٌ مُرْتَفِعٌ، لَمْ تُوقَدْ قَطُّ نَارٌ (1) مِثْلُهَا، وَجَعَلُوا إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ بِإِشَارَةِ رَجُلٍ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ مِنَ الْأَكْرَادِ -قَالَ شُعَيب الْجِبَائِيُّ: اسْمُهُ هِيزُنُ-فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَمَّا أَلْقَوْهُ قَالَ: "حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "حَسْبِي (2) اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا (3) مُحَمَّدٌ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آلِ عِمْرَانَ: 173] (4) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا ابْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ (5) بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم "لما أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي النَّارِ قَالَ: اللَّهُمَّ، إِنَّكَ فِي السَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَأَنَا فِي الْأَرْضِ وَاحِدٌ أَعْبُدُكَ" (6) .
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا جَعَلُوا يُوثِقُونَهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ لَكَ الْحَمْدُ، وَلَكَ الْمُلْكُ، لَا شَرِيكَ لَكَ (7) .
وَقَالَ شُعَيْبٌ الْجِبَائِيُّ: كَانَ عُمْرُهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ فِي الْهَوَاءِ، فَقَالَ: أَلِكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا [وَأَمَّا من الله فبلى] (8) .
__________
(1) في ف، "نار قط".
(2) في ف: "حسبنا".
(3) في ف: "وقال".
(4) صحيح البخاري برقم (4563)
(5) في ف، أ: "أبو إسحاق".
(6) ورواه البزار في مسنده برقم (2349) "كشف الأستار" وأبو نعيم في الحلية (1911) والخطيب في تاريخ بغداد (10/346) من طريق أبي هشام الرفاعي به. وقال البزار: "لا نعلم رواه عن عاصم إلا أبا جعفر، ولا عنه إلا إسحاق، ولم نسمعه إلا من أبي هشام" قلت: عاصم بن عمر بن حفص متكلم فيه.
(7) رواه الطبري في تفسيره كما في الدار المنثور (5/642) عن أرقم.
(8) زيادة من ف.(5/351)
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -وَيُرْوَى (1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا-قَالَ: لَمَّا أُلقيَ إِبْرَاهِيمُ جَعَلَ خَازِنُ الْمَطَرِ يَقُولُ: مَتَى أُومَرُ بِالْمَطَرِ فَأَرْسِلُهُ؟ قَالَ: فَكَانَ (2) أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعَ مِنْ أَمْرِهِ، قَالَ اللَّهُ: [عَزَّ وَجَلَّ] (3) {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} قَالَ: لَمْ (4) يَبْقَ نَارٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا طُفِئَتْ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَمْ يَنْتَفِعْ [أَحَدٌ] (5) يَوْمَئِذٍ بِنَارٍ، وَلَمْ تُحْرِقِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ سِوَى وِثَاقِهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَيْخٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [قَالَ: بَرَدَتْ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَتْ تَقْتُلُهُ، حَتَّى قِيلَ: {وَسَلامًا} ] (6) ، قَالَ: لَا تضرِّيه.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَسَلامًا} لَآذَى إِبْرَاهِيمَ بَرْدُها.
وَقَالَ جُوَيبر، عَنِ الضَّحَّاكِ: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} قَالَ: صَنَعُوا لَهُ حَظِيرَةً مِنْ حَطَب جَزْل، وَأَشْعَلُوا فِيهِ النَّارَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَصْبَحَ وَلَمْ يصِبه مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى أَخْمَدَهَا اللَّهُ -قَالَ: وَيَذْكُرُونَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ مَعَهُ يَمْسَحُ وَجْهَهُ مِنَ الْعَرَقِ، فَلَمْ يُصِبْه مِنْهَا شَيْءٌ غيرُ ذَلِكَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مَعَهُ فِيهَا مَلَكُ الظِّلِّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مِهْران، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ المِنْهَال بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَخُبِرْتُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، فَقَالَ: كَانَ (7) فِيهَا إِمَّا خَمْسِينَ وَإِمَّا أَرْبَعِينَ، قَالَ: مَا كُنْتُ أَيْامًا وَلَيَالِيَ قَطُّ أَطْيَبَ عَيْشًا إِذْ كُنْتُ فِيهَا، وَدِدْتُ أَنَّ عَيْشِي وَحَيَاتِي كُلَّهَا مِثْلُ عَيْشِي إِذْ كُنْتُ فِيهَا.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَة بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ أَحْسَنَ [شَيْءٍ] (8) قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ -لَمَّا رُفِعَ عنه الطبق وهو في النار، وجده يرش جَبِينُهُ-قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: نعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ يَا إِبْرَاهِيمُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَأْتِ يَوْمَئِذٍ دَابَّةٌ إِلَّا أَطْفَأَتْ عَنْهُ النَّارَ، إِلَّا الوَزَغ -وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِقَتْلِهِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا (9) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنُ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عَمِّي، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ قَالَ: حَدَّثَتْنِي مَوْلَاةُ (10) الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَرَأَيْتُ فِي بَيْتِهَا رُمْحًا. فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا الرُّمْحِ؟ فَقَالَتْ: نَقْتُلُ بِهِ هَذِهِ الْأَوْزَاغَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، لَمْ يَكُنْ (11) فِي الْأَرْضِ دَابَّةٌ إِلَّا تُطْفِئُ النَّارَ، غَيْرَ الوَزَغ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ"، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ (12) .
__________
(1) في ف، أ: "وروي".
(2) في ف: "وكان".
(3) زيادة من ف.
(4) في ف، أ: "فلم".
(5) زيادة من ف.
(6) زيادة من ف.
(7) في ف: "فكان".
(8) زيادة من ف.
(9) جاء من حديث أم شريك: رواه البخاري برقم (3307) ومسلم في صحيحه برقم (2237) .
(10) في ف، أ: "حدثني مولاه".
(11) في ف: "تكن"
(12) ورواه أحمد في المسند (6/83، 109) وابن ماجه في السنن برقم (3231) من طريق نافع عن سائبة مولاة الفاكه به.(5/352)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
وَقَوْلُهُ: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ} أَيِ: الْمَغْلُوبِينَ الْأَسْفَلِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ كَيْدًا، فَكَادَهُمُ اللَّهُ وَنَجَّاهُ مِنَ النَّارِ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ.
وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: لَمَّا ألقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ، جَاءَ مَلِكُهُمْ لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ فَطَارَتْ شَرَارَةٌ فَوَقَعَتْ عَلَى إِبْهَامِهِ، فَأَحْرَقَتْهُ مِثْلَ الصُّوفَةِ.
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) }(5/353)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ نَارِ قَوْمِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ مُهَاجِرًا إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ مِنْهَا، كَمَا قَالَ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: {إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: الشَّامُ، وَمَا مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ إِلَّا يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ الصَّخْرَةِ.
وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ أَيْضًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ إِلَى الشَّامِ، [وَكَانَ يُقَالُ لِلشَّامِ: عِمَادُ دَارِ الْهِجْرَةِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ الْأَرْضِ زِيدَ فِي الشَّامِ] (1) وَمَا نَقَصَ مِنَ الشَّامِ زِيدَ فِي فِلَسْطِينَ. وَكَانَ يُقَالُ: هِيَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ، وَبِهَا يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِهَا يَهْلِكُ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ فِي قَوْلِهِ: {إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} إِلَى حَرَّانَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: انْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ قِبَل الشَّامِ، فَلَقِيَ إِبْرَاهِيمُ سَارَةَ، وَهِيَ ابْنَةُ مَلِكِ حَرَّانَ، وَقَدْ طَعَنَتْ عَلَى قَوْمِهَا فِي دِينِهِمْ، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلَّا يُغَيِّرَهَا.
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ غَرِيبٌ [وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا ابْنَةُ عَمِّهِ، وَأَنَّهُ خَرَجَ بِهَا مُهَاجِرًا مِنْ بِلَادِهِ] (2) .
وَقَالَ العَوفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَى مَكَّةَ؛ أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آلِ عِمْرَانَ:96] .
وَقَوْلُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ: عَطِيَّةً.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُيينة: النَّافِلَةُ وَلَدُ الْوَلَدِ، يَعْنِي: أَنَّ يَعْقُوبَ وَلَدَ إِسْحَاقَ، كَمَا قَالَ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هُودٍ:71] .
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.(5/353)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: سَأَلَ وَاحِدًا فَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصَّافَّاتِ:100] ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ إِسْحَاقَ وَزَادَهُ يَعْقُوبَ نَافِلَةً.
{وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أَيِ: الْجَمِيعُ أَهْلُ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} أَيْ: يُقْتَدَى بِهِمْ، {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أَيْ: يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} أَيْ: فَاعِلِينَ لِمَا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ.
ثُمَّ عَطَفَ بِذِكْرِ لُوطٍ -وَهُوَ لُوطُ بْنُ هَارَانَ بْنِ آزَرَ-كَانَ قَدْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ، وَاتَّبَعَهُ، وَهَاجَرَ مَعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [الْعَنْكَبُوتِ:26] ، فَآتَاهُ اللَّهُ حُكْمًا وَعِلْمًا، وَأَوْحَى إِلَيْهِ، وَجَعَلَهُ نَبِيًّا، وَبَعَثَهُ إِلَى سَدُومَ وَأَعْمَالِهَا، فَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ ودَمَّر عَلَيْهِمْ، كَمَا قَصَّ خَبَرَهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اسْتِجَابَتِهِ لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ دَعَا عَلَى قَوْمِهِ لَمَّا كَذَّبُوهُ: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] ، {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نُوحٍ:26، 27] ، وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ (1) وَأَهْلَهُ} أَيِ: الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ كَمَا قَالَ: {وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} [هُودٍ:40] .
وَقَوْلُهُ: {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أَيْ: مِنَ الشِّدَّةِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَذَى، فَإِنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَكَانُوا يَقْصِدُونَ لِأَذَاهُ (2) وَيَتَوَاصَوْنَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ عَلَى خِلَافِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} أَيْ: وَنَجَّيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ مُنْتَصِرًا مِنَ الْقَوْمِ {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أَيْ: أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِعَامَّةٍ، وَلَمْ يُبْقِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ منهم أحدًا؛ إذ (3) دعا عليهم نبيهم.
__________
(1) في ف، أ: "ونجيناه".
(2) في ف: أذاه".
(3) في ف: "كما".(5/354)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) }(5/355)
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) } .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُرّة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كَانَ ذَلِكَ الْحَرْثُ كَرْمًا قَدْ نَبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ. وَكَذَا قَالَ شُرَيْح.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّفْشُ: الرَّعْيُ.
وَقَالَ شُرَيح، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ: النَّفْشُ بِاللَّيْلِ. زَادَ قَتَادَةُ: والهَمْلُ بِالنَّهَارِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب وَهَارُونُ بْنُ إدريسَ الْأَصَمُّ قَالَا حدثنا المحاربي، عن أشعت، عَنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُرّة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قَالَ: كَرْمٌ قَدْ أَنْبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ، فَأَفْسَدَتْهُ. قَالَ: فَقَضَى دَاوُدُ بالغَنَم لِصَاحِبِ الكَرْم، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: غيرُ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ! قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تَدْفَعُ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ، فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَتَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ فيُصيب مِنْهَا حَتَّى إِذَا كَانَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ دَفَعْتَ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِهِ، وَدَفَعْتَ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} .
وَهَكَذَا رَوَى العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا (1) خَلِيفَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَحَكَمَ (2) دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ، فَخَرَجَ الرِّعاء مَعَهُمُ الْكِلَابُ، فَقَالَ لَهُمْ سُلَيْمَانُ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمْ؟
فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: لَوْ وَلَيْتُ أَمْرَكُمْ لقضيتُ بِغَيْرِ هَذَا! فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ دَاوُدُ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: كَيْفَ تَقْضِي بَيْنَهُمْ؟ قَالَ (3) أَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ، فَيَكُونُ لَهُ أَوْلَادُهَا وَأَلْبَانُهَا وَسِلَاؤُهَا وَمَنَافِعُهَا ويبذُر أَصْحَابُ الْغَنَمِ لِأَهْلِ الْحَرْثِ مثلَ حَرْثِهِمْ، فَإِذَا بَلَغَ الْحَرْثُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَخَذَ أَصْحَابُ الْحَرْثِ الحرثَ وَرَدُّوا الْغَنَمَ إِلَى أَصْحَابِهَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا خُدَيْج، عَنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُرَّة، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: الْحَرْثُ الَّذِي نَفَشَتْ فِيهِ الْغَنَمُ إِنَّمَا كَانَ كَرْمًا نَفَشَتْ فِيهِ الْغَنَمُ، فَلَمْ تَدَع فِيهِ وَرَقَةً وَلَا عُنْقُودًا مِنْ عِنَبٍ إِلَّا أَكَلَتْهُ، فَأَتَوْا دَاوُدَ، فَأَعْطَاهُمْ رِقَابَهَا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَا بَلْ تُؤْخَذُ الْغَنَمُ فَيُعْطَاهَا (4) أهلُ الْكَرْمِ، فَيَكُونُ لَهُمْ لَبَنُهَا وَنَفْعُهَا، وَيُعْطَى أَهْلُ الْغَنَمِ الْكَرْمَ فَيُصْلِحُوهُ وَيُعَمِّرُوهُ (5) حَتَّى يَعُودَ كَالَّذِي كَانَ لَيْلَةَ نَفَشت فِيهِ الْغَنَمُ، ثُمَّ يُعطَى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم.
__________
(1) في ف: "حدثني".
(2) في ف، أ: "قضى".
(3) في ف: "فقال".
(4) في ف: "فتعطى".
(5) في ف: "فيعمره ويصلحوه".(5/355)
وَهَكَذَا قَالَ شُرَيح، ومُرَّة، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زِيَادٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلَانِ إِلَى شُرَيح، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ شَاةَ هَذَا قَطَعَتْ غَزَلًا لِي، فَقَالَ شُرَيْحٌ: نَهَارًا أَمْ لَيْلًا؟ فَإِنْ كَانَ نَهَارًا فَقَدْ بَرِئَ صَاحِبُ الشَّاةِ، وَإِنْ كَانَ لَيْلًا ضَمِن، ثُمَّ قَرَأَ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ} الْآيَةَ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ شُرَيح شَبِيهٌ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرام بْنِ مُحَيْصة (1) ؛ أَنَّ نَاقَةَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا، فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَمَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا (2) . وَقَدْ عُلِّل هَذَا الْحَدِيثُ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ "الْأَحْكَامِ" وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَوْلُهُ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ حُمَيْدٍ؛ أَنَّ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لَمَّا اسْتَقْضَى أَتَاهُ الْحَسَنُ فَبَكَى، قَالَ (3) مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ (4) يَا أَبَا سَعِيدٍ، بَلَغَنِي أَنَّ الْقُضَاةَ: رَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَخَطَأَ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ مَالَ بِهِ الْهَوَى فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ مَنْ نَبَأِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَالْأَنْبِيَاءِ حُكْمًا يَرُدُّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ النَّاسِ عَنْ قَوْلِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَى سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَذُمَّ دَاوُدَ. ثُمَّ قَالَ -يَعْنِي: الْحَسَنَ-: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ عَلَى الْحُكَمَاءِ ثَلَاثًا: لَا يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا وَلَا يَتَّبِعُونَ فِيهِ الْهَوَى، وَلَا يَخْشَوْنَ فِيهِ أَحَدًا، ثُمَّ تَلَا {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (5) ] } [ص:26] وَقَالَ: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [الْمَائِدَةِ:44] ، وَقَالَ {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا} [الْمَائِدَةِ:44] .
قُلْتُ: أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَكُلُّهُمْ مَعْصُومُونَ مُؤيَّدون مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ (6) فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أجران،
__________
(1) في ف: "عن حرام عن الزهري بن محيصة".
(2) المسند (5/435) وسنن أبي داود برقم (3570) وسنن ابن ماجه برقم (2332) .
تنبيه: هذا الطريق إنما هو طريق ابن ماجه، أما أحمد فرواه عن مالك وسفيان ومعمر عن الزهري، وأما أبو داود فرواه عن معمر والأوزعي عن الزهري.
(3) في ف، أ: "فقال".
(4) في ف، أ: "فقال"
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ف: "ما لا اختلاف فيه".(5/356)
وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ (1) فَلَهُ أَجْرٌ" (2) فَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ نَصًّا مَا تَوَهَّمَهُ "إِيَاسٌ" مِنْ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَخَطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي السُّنَنِ: "الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضِيَانِ فِي النَّارِ: رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ، فَهُوَ فِي النَّارِ (3) .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْص، أَخْبَرَنَا وَرْقاء عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَانِ لَهُمَا، جَاءَ (4) الذِّئْبُ فَأَخَذَ أَحَدَ الِابْنَيْنِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا. فَدَعَاهُمَا سُلَيْمَانُ فَقَالَ: هَاتُوا السِّكِّينَ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا، لَا تَشُقه، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى" (5) .
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ في صحيحهما (6) وَبَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: (بَابُ الْحَاكِمُ يُوهِمُ خِلَافَ الْحُكْمِ لِيَسْتَعْلِمَ الْحَقَّ) (7) .
وَهَكَذَا القصة التي أوردها الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ "سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ" مِنْ تَارِيخِهِ، مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -فَذَكَرَ قِصَّةً مُطَوَّلَةً (8) مُلَخَّصُهَا-: أَنَّ امْرَأَةً حَسْنَاءَ فِي زَمَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، فَامْتَنَعَتْ عَلَى (9) كُلٍّ مِنْهُمْ، فَاتَّفَقُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَيْهَا، فَشَهِدُوا عَلَيْهَا عِنْدَ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهَا مَكَّنت مِنْ نَفْسِهَا كَلْبًا لَهَا، قَدْ عَوَّدَتْهُ ذَلِكَ مِنْهَا، فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا. فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، جَلَسَ سُلَيْمَانُ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ وِلْدانٌ، مِثْلُهُ، فَانْتَصَبَ حَاكِمًا وَتَزَيَّا أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ بِزِيِّ أُولَئِكَ، وَآخَرُ بِزِيِّ الْمَرْأَةِ، وَشَهِدُوا عَلَيْهَا بِأَنَّهَا مكَنت مِنْ نَفْسِهَا كَلْبًا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: فَرِّقُوا بَيْنَهُمْ. فَقَالَ لِأَوَّلِهِمْ: مَا كَانَ لَوْنُ الْكَلْبِ؟ فَقَالَ: أَسْوَدُ. فَعَزَلَهُ، وَاسْتَدْعَى الْآخَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ لَوْنِهِ، فَقَالَ: أَحْمَرُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَغْبَشُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَبْيَضُ. فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَحُكِيَ ذَلِكَ لِدَاوُدَ، فَاسْتَدْعَى مِنْ فَوْرِهِ بِأُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ، فَسَأَلَهُمْ مُتَفَرِّقِينَ عَنْ لَوْنِ ذَلِكَ الْكَلْبِ، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فأمر بقتلهم (10) .
__________
(1) في ف: "وأخطأ".
(2) صحيح البخاري برقم (7352) .
(3) سنن أبي داود برقم (3573) وسنن النسائي الكبرى برقم (5922) وسنن ابن ماجه برقم (2315)
(4) في ف: "إذ جاء".
(5) المسند (2/322)
(6) في ف: "صحيحيهما".
(7) صحيح البخاري برقم (6769) وصحيح مسلم برقم (1720) وسنن النسائي الكبرى برقم (5958) والباب فيه "التوسعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل ليستبين له الحق".
(8) في ف: "طويلة".
(9) في أ: "عن".
(10) تاريخ دمشق (7/565 "المخطوط")(5/357)
وَقَوْلُهُ: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} : وَذَلِكَ لِطِيبِ صَوْتِهِ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ الزَّبُورِ، وَكَانَ إِذَا تَرَنَّم بِهِ تَقِفُ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ، فَتُجَاوِبُهُ، وتَرد عَلَيْهِ الْجِبَالُ تَأْوِيبًا؛ وَلِهَذَا لمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ يَتْلُو الْقُرْآنَ مِنَ اللَّيْلِ، وَكَانَ لَهُ صَوْتٌ طَيِّبٌ [جَدًا] (1) . فَوَقَفَ وَاسْتَمَعَ لِقِرَاءَتِهِ، وَقَالَ: "لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مَزَامِيرَ آلِ دَاوُدَ". قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُ (2) لِحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا (3) .
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: مَا سَمِعْتُ صَوْتَ صَنْج وَلَا بَرَبْطَ وَلَا مِزْمَارٍ مِثْلَ صَوْتِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَعَ هَذَا قَالَ: لَقَدْ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ.
وَقَوْلُهُ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيُحْصِنَكُمْ (4) مِنْ بَأْسِكُمْ} يَعْنِي صَنْعَةَ الدُّرُوعِ.
قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا كَانَتِ الدُّرُوعُ قَبْلَهُ صَفَائِحَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا حلَقًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سَبَأٍ:10، 11] أَيْ: لَا تُوَسِّعِ الْحَلْقَةَ فَتُقْلِقَ (5) الْمِسْمَارَ، وَلَا تُغْلِظِ الْمِسْمَارَ فتَقَدّ الحَلْقة؛ وَلِهَذَا قال: {لِيُحْصِنَكُمْ (6) مِنْ بَأْسِكُمْ} يَعْنِي: فِي الْقِتَالِ، {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} أَيْ: نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، لِمَا أَلْهَمَ بِهِ عَبْدَهُ دَاوُدَ، فَعَلَّمَهُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أَيْ: وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ الْعَاصِفَةَ، {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يَعْنِي أَرْضَ الشَّامِ، {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ بِسَاطٌ مِنْ خَشَبٍ، يُوضَعُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْمَمْلَكَةِ، وَالْخَيْلِ وَالْجِمَالِ وَالْخِيَامِ وَالْجُنْدِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرِّيحَ أَنْ تَحْمِلَهُ فَتَدْخُلَ تَحْتَهُ، ثُمَّ تَحْمِلَهُ فَتَرْفَعَهُ وَتَسِيرَ بِهِ، وَتُظِلُّهُ الطَّيْرُ مِنَ الْحَرِّ، إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَنْزِلُ وَتُوضَعُ آلَاتُهُ وَخُشُبُهُ (7) ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] ، وَقَالَ {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سَبَأٍ:12] .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ أَبِي سِنَان، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ يُوضَع لِسُلَيْمَانَ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ كُرْسِيٍّ، فَيَجْلِسُ مِمَّا يَلِيهِ مُؤْمِنُو الْإِنْسِ، ثُمَّ يَجْلِسُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُؤْمِنُو الْجِنِّ، ثُمَّ يَأْمُرُ الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرِّيحَ فَتَحْمِلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (8) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْد بْنِ عُمَيْرٍ: كَانَ سُلَيْمَانُ يَأْمُرُ الرِّيحَ، فتجتَمع كالطَّود الْعَظِيمِ، كَالْجَبَلِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِفِرَاشِهِ فَيُوضَعُ عَلَى أَعْلَى مَكَانٍ مِنْهَا، ثُمَّ يَدْعُو بفَرَس مِنْ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ، فَتَرْتَفِعُ (9) حَتَّى تَصْعَدَ (10) عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرِّيحَ فَتَرْتَفِعُ بِهِ كُل شَرَف دُونَ السَّمَاءِ، وَهُوَ مُطَأْطِئٌ رَأْسَهُ، مَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا تَعْظِيمًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَشُكْرًا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ صِغَرِ مَا هُوَ فِيهِ فِي ملك الله
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف: "تستمع".
(3) سبق الحديث في فضائل القرآن.
(4) في ف، أ: "لتحصنكم".
(5) في ف: "فتفلق".
(6) في ف، أ: "لتحصنكم".
(7) في أ: "وحشمه"
(8) في أ: "فتحملهم عليه السلام".
(9) في ف، أ: "فيرتفع".
(10) في ف، أ: "يصعد".(5/358)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
تَعَالَى (1) حَتَّى تَضَعَهُ (2) . الرِّيحُ حَيْثُ شَاءَ أَنْ تَضَعَهُ (3)
وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} أَيْ: فِي الْمَاءِ يَسْتَخْرِجُونَ اللَّآلِئَ [وَغَيْرَ ذَلِكَ. {وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ} أَيْ: غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ *] (4) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ} . [ص: 37، 38] .
وَقَوْلُهُ: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} (5) أَيْ: يَحْرُسُهُ اللَّهُ أَنْ يَنَالَهُ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ بِسُوءٍ، بَلْ كُلٌّ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الدُّنُوِّ إِلَيْهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، بَلْ هُوَ مُحَكَّم (6) فِيهِمْ، إِنْ شَاءَ أَطْلَقَ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَ مِنْهُمْ مَنْ يَشَاءُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ}
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) } .
يَذْكُرُ تَعَالَى عَنْ أَيُّوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا كَانَ أَصَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ، فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَسَدِهِ (7) ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَأَوْلَادٌ كَثِيرَةٌ، وَمَنَازِلُ مَرْضِيَّةٌ. فَابْتُلِيَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَذَهَبَ عَنِ آخِرِهِ، ثُمَّ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ -يُقَالُ: بِالْجُذَامِ فِي سَائِرِ بَدَنِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ سَلِيمٌ سِوَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، يَذْكُرُ بِهِمَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى عَافَهُ الْجَلِيسُ، وأفردَ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَلَدِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ (8) يَحْنُو عَلَيْهِ سِوَى زَوْجَتِهِ، كَانَتْ تَقُومُ بِأَمْرِهِ (9) ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا احْتَاجَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُ النَّاسَ مِنْ أَجْلِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ" (10) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ" (11) .
وَقَدْ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ أَيُّوبُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، غَايَةً فِي الصَّبْرِ، وَبِهِ يُضْرَبُ الْمَثَلُ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ مَيْسَرَةَ: لَمَّا ابْتَلَى اللَّهُ أَيُّوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِذَهَابِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، ولم له يبق شَيْءٌ، أَحْسَنَ الذَّكَرَ، ثُمَّ قَالَ: أَحْمَدُكَ رَبَّ الْأَرْبَابِ، الَّذِي أَحْسَنْتَ إِلَيَّ، أَعْطَيْتَنِي الْمَالَ وَالْوَلَدَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ قَلْبِي شُعْبَةٌ، إِلَّا قَدْ دَخَلَهُ ذَلِكَ، فَأَخَذْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنِّي، وفرَّغت قَلْبِي، لَيْسَ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَيْءٌ، لَوْ يَعْلَمُ عَدُوِّي إِبْلِيسُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، حَسَدَنِي. قَالَ: فَلَقِيَ إِبْلِيسُ مِنْ ذَلِكَ مُنْكَرًا.
قَالَ: وَقَالَ أَيُّوبُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ أَعْطَيْتَنِي الْمَالَ وَالْوَلَدَ، فَلَمْ يَقُمْ عَلَى بَابِي أَحَدٌ يَشْكُونِي لِظُلْمٍ ظَلَمْتُهُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ ذَلِكَ. وَأَنَّهُ كَانَ يُوطَأُ لِيَ الْفِرَاشُ فَأَتْرُكُهَا وَأَقُولُ لِنَفْسِي:
__________
(1) في ف، أ: "عز وجل".
(2) في ف: "يضعه".
(3) في ف، أ: "حيث يشاء أن يضعه".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ف: "له".
(6) في ف، أ: "يحكم".
(7) في ف: "وجسده وولده".
(8) في ف: "أحد من الناس".
(9) في ف: "بأوده".
(10) رواه أحمد في المسند (1/172) والترمذي في السنن برقم (2398) وابن ماجه في السنن برقم (4023) من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
(11) هو جزء من الحديث المتقدم، والله أعلم.(5/359)
يَا نَفْسُ، إِنَّكِ لَمْ تُخْلَقِي لِوَطْءِ الْفُرُشِ (1) ، مَا تَرَكْتُ ذَلِكَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِي خَبَرِهِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ، سَاقَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِالسَّنَدِ عَنْهُ، وَذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُفَسِّرِينَ، وَفِيهَا غَرَابَةٌ تَرَكْنَاهَا لِحَالِ الطُّولِ (2) .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَكَثَ فِي الْبَلَاءِ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الْمُهَيِّجِ لَهُ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ، فَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، ابْتُلِيَ أَيُّوبُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا، مُلْقًى عَلَى كُنَاسَة بَنِي إِسْرَائِيلَ، تَخْتَلِفُ الدَّوَابُّ فِي جَسَدِهِ فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ، وعَظَمَّ لَهُ الْأَجْرَ، وَأَحْسَنَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: مَكَثَ فِي الْبَلَاءِ ثَلَاثَ سِنِينَ، لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَسَاقَطَ لَحْمُ أَيُّوبَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَصَبُ وَالْعِظَامُ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَقُومُ عَلَيْهِ وَتَأْتِيهِ بِالزَّادِ يَكُونُ فِيهِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ لَمَّا طَالَ وَجَعُهُ: يَا أَيُّوبُ، لَوْ دَعَوْتَ رَبَّكَ (3) يُفَرِّجُ عَنْكَ؟ فَقَالَ: قَدْ عِشْتُ سَبْعِينَ سَنَةً صَحِيحًا، فَهَلْ (4) قَلِيلٌ لِلَّهِ أَنْ أَصْبِرَ لَهُ سَبْعِينَ سَنَةً؟ فجَزَعت مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَتْ، فَكَانَتْ تَعْمَلُ لِلنَّاسِ بِأَجْرٍ وَتَأْتِيهِ بِمَا تُصِيبُ فَتُطْعِمُهُ، وَإِنَّ إِبْلِيسَ انْطَلَقَ إِلَى رَجُلَيْنِ مِنْ فِلَسْطِينَ كَانَا صَدِيقَيْنِ لَهُ وَأَخَوَيْنِ، فَأَتَاهُمَا فَقَالَ: أَخُوكُمَا أَيُّوبُ أَصَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ كَذَا وَكَذَا، فَأْتِيَاهُ وَزُورَاهُ وَاحْمِلَا مَعَكُمَا مِنْ خَمْرِ أَرْضِكُمَا، فَإِنَّهُ إِنْ شَرِبَ مِنْهُ بَرَأ. فَأَتَيَاهُ، فَلَمَّا نَظَرَا إِلَيْهِ بَكَيَا، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَا (5) : نَحْنُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ! فرحَّب بِهِمَا وَقَالَ: مَرْحَبًا بِمَنْ لَا يَجْفُونِي عِنْدَ الْبَلَاءِ، فَقَالَا يَا أَيُّوبُ، لَعَلَّكَ كُنْتَ تُسر شَيْئًا وَتُظْهِرُ غَيْرَهُ، فَلِذَلِكَ ابْتَلَاكَ اللَّهُ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: هُوَ يَعْلَمُ، مَا أَسْرَرْتُ شَيْئًا أَظْهَرْتُ غَيْرَهُ. وَلَكِنَّ رَبِّي ابْتَلَانِي لِيَنْظُرَ أَأَصْبِرُ أَمْ أَجْزَعُ، فَقَالَا لَهُ: يَا أَيُّوبُ، اشْرَبْ مِنْ خَمْرِنَا فَإِنَّكَ إِنْ شَرِبْتَ مِنْهُ بَرَأت. قَالَ: فَغَضِبَ وَقَالَ جَاءَكُمَا الْخَبِيثُ فَأَمَرَكُمَا بِهَذَا؟ كَلَامُكُمَا وَطَعَامُكُمَا وَشَرَابُكُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ. فَقَامَا مِنْ عِنْدِهِ، وَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ تَعْمَلُ لِلنَّاسِ فَخَبَزَتْ لِأَهْلِ بَيْتٍ لَهُمْ صَبِيٌّ، فَجَعَلَتْ لَهُمْ قُرْصًا (6) ، وَكَانَ ابْنُهُمْ نَائِمًا، فَكَرِهُوا أَنْ يُوقِظُوهُ، فَوَهَبُوهُ لَهَا.
فَأَتَتْ بِهِ إِلَى أَيُّوبَ، فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: مَا كُنْتِ تَأْتِينِي بِهَذَا، فَمَا بَالُكِ الْيَوْمَ؟ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ. قَالَ: فَلَعَلَّ الصَّبِيَّ قَدِ اسْتَيْقَظَ، فَطَلَبَ الْقَرْصَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَهُوَ يَبْكِي عَلَى أَهْلِهِ. [فَانْطَلِقِي بِهِ إِلَيْهِ. فَأَقْبَلَتْ حَتَّى بَلَغَتْ دَرَجَةَ الْقَوْمِ، فَنَطَحَتْهَا شَاةٌ لَهُمْ، فَقَالَتْ: تَعِسَ أَيُّوبُ الْخَطَّاءُ! فَلَمَّا صَعِدَتْ وَجَدَتِ الصَّبِيَّ قَدِ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَطْلُبُ الْقُرْصَ، وَيَبْكِي عَلَى أَهْلِهِ] (7) ، لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ شَيْئًا غَيْرَهُ، فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ أَيُّوبَ فَدَفَعَتِ الْقُرْصَ إِلَيْهِ وَرَجَعَتْ. ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ أَتَاهَا فِي صُورَةِ طَبِيبٍ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ زَوْجَكِ قَدْ طَالَ سُقمه، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَبْرَأَ فَلْيَأْخُذْ ذُبَابًا فَلْيَذْبَحْهُ بِاسْمِ صَنَمِ بَنِي فَلَانٍ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ وَيَتُوبُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَالَتْ ذَلِكَ لِأَيُّوبَ، فَقَالَ: قَدْ أَتَاكِ الْخَبِيثُ. لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ بَرَأْتُ أَنْ أَجْلِدَكِ مِائَةَ جَلْدَةٍ. فَخَرَجَتْ تَسْعَى عَلَيْهِ، فَحُظِرَ عَنْهَا الرِّزْقُ، فَجَعَلَتْ لَا تَأْتِي أَهْلَ بَيْتٍ فَيُرِيدُونَهَا، فَلَمَّا اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب
__________
(1) في ف: "الفراش".
(2) تفسير الطبري (1/42) .
(3) في ف، أ: "الله".
(4) في أ: "فهو".
(5) في ف، أ: "قالا".
(6) في ف، أ: "قرصة".
(7) زيادة من ف، أ.(5/360)
الْجُوعَ حَلَقَتْ مِنْ شَعْرِهَا قَرْنًا فَبَاعَتْهُ مِنْ صَبِيَّةٍ مِنْ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ، فَأَعْطَوْهَا طَعَامًا طَيِّبًا كَثِيرًا فَأَتَتْ بِهِ أَيُّوبَ، فَلَمَّا رَآهُ أَنْكَرَهُ وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ: عَمِلْتُ لِأُنَاسٍ فَأَطْعَمُونِي. فَأَكَلَ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ خَرَجَتْ فَطَلَبَتْ أَنْ تَعْمَلَ فَلَمْ تَجِدْ فَحَلَقَتْ أَيْضًا قَرْنًا فَبَاعَتْهُ مِنْ تِلْكَ الْجَارِيَةِ، فَأَعْطَوْهَا مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَأَتَتْ بِهِ أَيُّوبَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ حَتَّى أَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ هُوَ؟ فَوَضَعَتْ خِمَارَهَا، فَلَمَّا رَأَى رَأْسَهَا مَحْلُوقًا جَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنَيُّ، عَنْ نَوْف البِكَالي؛ أَنَّ الشَّيْطَانَ الَّذِي عَرَّجَ فِي أَيُّوبَ كَانَ يُقَالُ لَهُ: "سَوْطٌ" (1) ، قَالَ: وَكَانَتِ امْرَأَةُ أَيُّوبَ تَقُولُ: "ادْعُ اللَّهَ فَيَشْفِيَكَ"، فَجَعَلَ لَا يَدْعُو، حَتَّى مَرَّ بِهِ نَفَرٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ إِلَّا بِذَنْبٍ عَظِيمٍ أَصَابَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: "رَبِّ إِنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ".
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ لِأَيُّوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَخَوَانِ فَجَاءَا يَوْمًا، فَلَمْ يَسْتَطِيعَا أَنْ يَدْنُوَا مِنْهُ، مِنْ رِيحِهِ، فَقَامَا مِنْ بَعِيدٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: لَوْ كَانَ اللَّهُ عَلِمَ مِنْ أَيُّوبَ خَيْرًا مَا ابْتَلَاهُ بِهَذَا؟ فَجَزِعَ أَيُّوبُ مِنْ قَوْلِهِمَا جَزعا لَمْ يَجْزَعْ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَبِتْ لَيْلَةً قَطُّ شَبْعَانَ (2) وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ جَائِعٍ، فَصَدِّقْنِي. فَصُدِّقَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ يَكُنْ لِي قَمِيصَانِ قَطُّ، وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ عَارٍ، فَصَدقني فَصُدِّقَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ. اللَّهُمَّ (3) بِعِزَّتِكَ ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا، ثُمَّ قَالَ (4) اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ لَا أَرْفَعُ رَأْسِي أَبَدًا حَتَّى تَكْشِفَ عَنِّي. فَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى كُشِفَ عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِ هَذَا فَقَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيل، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ، كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ، كَانَا (5) يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعَلَّم -وَاللَّهِ-لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذَنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ فَيَكْشِفَ (6) مَا بِهِ. فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا، كَرَاهَةَ أَنْ يَذْكُرَا اللَّهَ إِلَّا فِي حَقٍّ. قَالَ: وَكَانَ يَخْرُجُ فِي حَاجَتِهِ (7) ، فَإِذَا قَضَاهَا أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَتْ عَلَيْهِ، فَأُوحِيَ إِلَى
__________
(1) في ف، أ: "مبسوط".
(2) في ف: "شبعانا".
(3) في ف، أ: "ثم قال: اتللهم".
(4) في ف: "فقال".
(5) في ف، أ: "له".
(6) في ف: "فكشف".
(7) في ف: "حاجة".(5/361)
أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ: أَنِ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ" (1) .
رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، أَخْبَرَنَا عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْران، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَأَلْبَسَهُ اللَّهُ حُلَّةً مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَنَحَّى أَيُّوبُ فَجَلَسَ فِي نَاحِيَةٍ، وَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ، فَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَيْنَ ذَهَبَ الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هَاهُنَا؟ لَعَلَّ الْكِلَابَ ذَهَبَتْ بِهِ أَوِ الذِّئَابَ، فَجَعَلَتْ تَكَلُّمَهُ سَاعَةً، فَقَالَ: وَيْحَكِ! أَنَا أَيُّوبُ! قَالَتْ: أَتَسْخَرُ مِنِّي يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ! أَنَا أَيُّوبُ، قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ جَسَدِي.
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرَدَّ عَلَيْهِ مَالَهُ وَوَلَدَهُ عِيَانًا، وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَيُّوبَ: قَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، فَاغْتَسِلْ بِهَذَا الْمَاءِ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءَكَ، وَقَرِّبْ عَنْ صَاحِبَتِكَ (2) قُرْبَانًا، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
[وَقَالَ] (3) أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا همام، عن قتادة، عن النضر ابن أَنَسٍ، عَنْ بَشير (4) بْنِ نَهِيك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا عَافَى اللَّهُ أَيُّوبَ، أَمْطَرَ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيَجْعَلُهُ فِي ثَوْبِهِ". قَالَ: "فَقِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ، أَمَا تَشْبَعُ؟ قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَنْ يَشْبَعُ مِنْ رَحْمَتِكَ".
أَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (5) ، وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} قَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: رُدُّوا عَلَيْهِ بِأَعْيَانِهِمْ. وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اسْمَ زَوْجَتِهِ رَحْمَةُ، فَإِنْ كَانَ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ فَقَدْ أَبْعَدَ النَّجْعَة، وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ مِنْ نَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَهُوَ مِمَّا لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ. وَقَدْ سَمَّاهَا ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-قَالَ: وَيُقَالُ: اسْمُهَا لَيَا ابْنَةُ مِنَشَّا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: وَيُقَالُ: لَيَا بِنْتُ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، زَوْجَةُ أَيُّوبَ كَانَتْ مَعَهُ بِأَرْضِ البَثَنيَّة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ، إِنْ أَهْلَكَ لَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ أَتَيْنَاكَ بِهِمْ، وَإِنْ شئت
__________
(1) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2091) "موارد" من طريق حرملة بن يحيى عن ابن وهب بنحوه.
(2) في ف: "صحابتك".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف: "بشر".
(5) ورواه الحاكم في المستدرك (2/582) من طرق عن عمرو بن مرزوق به، وسيأتي أصل الحديث في صحيح البخاري عند تفسير الآية: 42 من سورة ص.(5/362)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
تَرَكْنَاهُمْ لَكَ فِي الْجَنَّةِ، وَعَوَّضْنَاكَ مِثْلَهُمْ. قَالَ: لَا بَلِ اتْرُكْهُمْ لِي فِي الْجَنَّةِ. فتُركوا لَهُ فِي الْجَنَّةِ وَعُوِّضَ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الجَوْني، عَنْ نَوف البِكَالي قَالَ: أُوتِيَ أَجْرَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأُعْطِيَ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ مُطَرَّفا، فَقَالَ: مَا عَرَفْتُ وَجْهَهَا قَبْلَ الْيَوْمِ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أَيْ: فَعَلْنَا بِهِ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِهِ، {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أَيْ: وَجَعَلْنَاهُ فِي ذَلِكَ قُدْوَةً، لِئَلَّا يَظُنَّ أَهْلُ الْبَلَاءِ أَنَّمَا فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ (1) لِهَوَانِهِمْ عَلَيْنَا، وَلِيَتَأَسَّوْا بِهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَقْدُورَاتِ اللَّهِ وَابْتِلَائِهِ لِعِبَادِهِ بِمَا (2) يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي ذَلِكَ.
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) } .
أَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَالْمُرَادُ بِهِ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وَكَذَلِكَ إِدْرِيسُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (3) وَأَمَّا ذُو الْكِفْلِ فَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّهُ مَا قُرِنَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَهُوَ نَبِيٌّ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَكَانَ مَلِكًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا، وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيج، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَذَا الْكِفْلِ} قَالَ: رَجُلٌ صَالِحٌ غَيْرُ نَبِيٍّ، تَكَفَّلَ لِنَبِيِّ قَوْمِهِ أَنْ يَكْفِيَهُ أَمْرَ قَوْمِهِ وَيُقِيمَهُمْ لَهُ وَيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسُمي: ذَا الْكِفْلِ. وَكَذَا روَى ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيب، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمَّا كَبُرَ الْيَسَعُ قَالَ: لَوْ أَنِّي اسْتَخْلَفْتُ رَجُلًا عَلَى النَّاسِ يَعْمَلُ عَلَيْهِمْ فِي حَيَاتِي، حَتَّى أَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُ؟ فَجَمَعَ النَّاسَ، فَقَالَ: مَنْ يَتَقَبَّلُ مِنِّي بِثَلَاثٍ: أَسْتَخْلِفُهُ يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَلَا يَغْضَبُ. قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ تَزْدَرِيهِ الْعَيْنُ، فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: أَنْتَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَلَا تَغْضَبُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَدَّهُمْ (4) ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَالَ مِثْلَهَا فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ، فَسَكَتَ النَّاسُ، وَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَقَالَ (5) أَنَا. فَاسْتَخْلَفَهُ، قَالَ: وَجَعَلَ إِبْلِيسُ يَقُولُ لِلشَّيَاطِينِ: عَلَيْكُمْ بِفُلَانٍ. فَأَعْيَاهُمْ ذَلِكَ (6) ، قَالَ: دَعُونِي (7) وَإِيَّاهُ، فَأَتَاهُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبِيرٍ فَقِيرٍ، فَأَتَاهُ حِينَ أَخَذَ مَضْجَعَهُ لِلْقَائِلَةِ
__________
(1) في ف: "إنما فعل ذلك بهم".
(2) في ف: "فيما".
(3) انظر: تفسير الآيات: 54-57.
(4) في ف، أ: "فيردهم".
(5) في ف: "فقال"
(6) في ف، أ: "ذلك الرجل".
(7) في أ: "دعوني أنا وإياه".(5/363)
-وَكَانَ لَا يَنَامُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِلَّا تِلْكَ النَّوْمَةَ-فَدَقَّ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَظْلُومٌ. قَالَ: فَقَامَ فَفَتَحَ الْبَابَ، فَجَعَلَ يَقُصُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي خُصُومَةً، وَإِنَّهُمْ ظَلَمُونِي، وَفَعَلُوا بِي وَفَعَلُوا. وَجَعَلَ يُطَول عَلَيْهِ حَتَّى حَضَرَ الرَّوَاحُ وَذَهَبَتِ الْقَائِلَةُ، فَقَالَ (1) : إِذَا رُحْتُ فَأْتِنِي آخُذُ لَكَ بِحَقِّكَ. فَانْطَلَقَ، وَرَاحَ. فَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ هَلْ يَرَى الشَّيْخَ؟ فَلَمْ يَرَهُ، فَقَامَ يَتْبَعُهُ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَعَلَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، وَيَنْتَظِرُهُ وَلَا (2) يَرَاهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْقَائِلَةِ فَأَخَذَ مَضْجَعَهُ، أَتَاهُ فَدَقَّ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ (3) الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْمَظْلُومُ. فَفَتَحَ لَهُ (4) فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِذَا قَعَدْتُ فَأْتِنِي؟ قَالَ: إِنَّهُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ، إِذَا عَرَفُوا (5) أَنَّكَ قَاعِدٌ قَالُوا: نَحْنُ نُعْطِيكَ حَقَّكَ. وَإِذَا قُمْتَ جَحَدُونِي. قَالَ: فَانْطَلِقْ، فَإِذَا رُحْتُ فَأْتِنِي. قَالَ: فَفَاتَتْهُ الْقَائِلَةُ، فَرَاحَ فَجَعَلَ يَنْتَظِرُهُ (6) وَلَا يَرَاهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ النُّعَاسُ، فَقَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ: لَا تَدَعَنَّ أَحَدًا يَقرب هَذَا الْبَابَ حَتَّى أَنَامَ، فَإِنِّي قَدْ شَقَّ عَلَيَّ النَّوْمُ. فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ السَّاعَةَ أَتَاهُ (7) فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَرَاءَكَ وَرَاءَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَتَيْتُهُ أَمْسِ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَمْرِي، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَقَدْ أَمَرَنَا أَلَّا نَدَعَ أَحَدًا يَقْرَبُهُ. فَلَمَّا أَعْيَاهُ نَظَرَ فَرَأَى كُوَّة فِي الْبَيْتِ، فَتَسَوَّرَ مِنْهَا، فَإِذَا هُوَ فِي الْبَيْتِ، وَإِذَا هُوَ يَدُقُّ الْبَابَ مِنْ دَاخِلٍ، قَالَ: فَاسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا فُلَانُ، أَلَمْ آمُرْكَ؟ فَقَالَ (8) أَمَّا مِنْ قِبَلِي وَاللَّهِ فَلَمْ تؤتَ، فَانْظُرْ مِنْ أَيْنَ أُتِيتَ؟ قَالَ: فَقَامَ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُغْلَقٌ كَمَا أَغْلَقَهُ، وَإِذَا الرَّجُلُ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ، فَعَرَفَهُ، فَقَالَ: أَعْدُوُّ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَعْيَيْتَنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَفَعَلْتُ مَا تَرَى لِأُغْضِبَكَ. فَسَمَّاهُ اللَّهُ ذَا الْكِفْلِ؛ لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بأمر فوفى به (9) .
وهكذا رواه بن أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِمِثْلِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ قَاضٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَقَالَ: مَنْ يَقُومُ مَقَامِي عَلَى أَلَّا يَغْضَبَ؟ قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا. فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ. قَالَ: فَكَانَ (10) لَيْلَهُ جَمِيعًا يُصَلِّي، ثُمَّ يُصْبِحُ صَائِمًا فَيَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ -قَالَ: وَلَهُ (11) سَاعَةٌ يَقِيلُهَا-قَالَ: فَكَانَ كَذَلِكَ، فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ نَوْمَتِهِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: مَا لَكَ؟ قَالَ: إِنْسَانٌ مِسْكِينٌ، لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ، وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهِ. قَالُوا: كَمَا أَنْتَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ -قَالَ: وَهُوَ فَوْقَ نَائِمٌ-قَالَ: فَجَعَلَ يَصِيحُ عَمْدًا حَتَّى يُوقِظَهُ (12) ، قَالَ: فَسَمِعَ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: إِنْسَانٌ مِسْكِينٌ، لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ. قَالَ: اذْهَبْ فَقُلْ لَهُ يُعْطِيكَ. قَالَ: قَدْ أَبَى. قَالَ: اذْهَبْ أَنْتَ إِلَيْهِ. قَالَ: فَذَهَبَ، ثُمَّ جَاءَ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: ذَهَبْتُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَرْفَعْ بِكَلَامِكَ رَأْسًا. قَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يُعْطِيكَ حَقَّكَ، قَالَ: فَذَهَبَ، ثُمَّ جَاءَ مِنَ الْغَدِ حِينَ قَالَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: اخْرُجْ، فَعَلَ اللَّهُ بِكَ، تَجِيءُ كُلَّ يَوْمٍ حِينَ ينام، لا
__________
(1) في ف: "وقال".
(2) في ف، أ: "فلا".
(3) في ف: "فقال".
(4) في ف: "ففتح الباب".
(5) في ف، أ: "اعترفوا".
(6) في ف: "ينتظر".
(7) في ف: "جاءه".
(8) في ت: "قال".
(9) تفسير الطبري (17/59) .
(10) في ف: "فقال".
(11) في ف: "فله".
(12) في ف: "يغضبه".(5/364)
تَدَعُهُ يَنَامُ؟. فَجَعَلَ (1) يَصِيحُ: مِنْ أَجْلِ أَنِّي إِنْسَانٌ مِسْكِينٌ، لَوْ كُنْتُ غَنِيًّا؟ قَالَ: فَسَمِعَ أَيْضًا، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: ذَهَبْتُ إِلَيْهِ فَضَرَبَنِي. قَالَ: امْشِ حَتَّى أَجِيءَ مَعَكَ. قَالَ: فَهُوَ مُمْسِكٌ بِيَدِهِ، فَلَمَّا رَآهُ ذَهَبَ مَعَهُ نَثَر يَدَهُ مِنْهُ (2) فَفَر.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، وَابْنِ حُجَيرة الْأَكْبَرِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ، نَحْوٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْجَمَاهِرِ (3) ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنِ أَبِي كِنَانَةَ بْنِ الْأَخْنَسِ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَشْعَرِيَّ وَهُوَ يَقُولُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ: مَا كَانَ ذُو الْكِفْلِ بِنَبِيٍّ، وَلَكِنْ كَانَ -يَعْنِي: فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ-رَجُلٌ صَالِحٌ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ، فَتَكَفَّلَ لَهُ ذُو الْكِفْلِ مِنْ بَعْدِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ، فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: "قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ... " فَذَكَرَهُ مُنْقَطِعًا (4) ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثًا غَرِيبًا فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعْدٍ (5) مَوْلَى طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ -حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ-وَلَكِنْ قَدْ سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "كَانَ الْكِفْلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا، عَلَى أَنْ يَطَأها، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا (6) مَقعدَ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ، أرعِدَت (7) وَبَكَتْ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ أكْرَهْتُك؟ قَالَتْ: لَا وَلَكِنَّ هَذَا عَمَلٌ لَمْ أَعْمَلْهُ قَطُّ، وَإِنَّمَا حَمَلني عَلَيْهِ الْحَاجَةُ. قَالَ: فَتَفْعَلِينَ هَذَا وَلَمْ تَفْعَلِيهِ قَطُّ؟ فَنزل (8) فَقَالَ: اذْهَبِي فَالدَّنَانِيرُ لَكِ. ثُمَّ قَالَ: "وَاللَّهِ لَا يَعصي اللَّهَ الْكِفْلُ أَبَدًا. فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لِلْكِفْلِ" (9) .
هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِوَايَةِ "الْكِفْلُ"، مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ (10) ، وَإِسْنَادُهُ غَرِيبٌ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَفْظُ الْحَدِيثِ إِنْ كَانَ "الْكِفْلَ"، وَلَمْ يَقُلْ: "ذُو الْكِفْلِ"، فَلَعَلَّهُ رَجُلٌ آخَرُ، وَاللَّهُ أعلم.
__________
(1) في ف، أ: "قال: فجعل".
(2) في أ: "منه فذهب".
(3) في ف، أ: "أبو الجماهير".
(4) تفسير الطبري (17/60) .
(5) في ف، أ: "سعيد".
(6) في أ: "معها".
(7) في أ: "ارتعدت".
(8) في ف: "ثم نزل".
(9) المسند (2/23) .
(10) قلت: بل أخرجه الترمذي في السنن برقم (2496) من طريق عبيد بن أسباط عن أبيه به، وقال: "هذا حديث حسن قد رواه شيبان وغير واحد عن الأعمش نحو هذا ورفعوه وروى بعضهم عن الأعمش فلم يرفعه".(5/365)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) } .
هَذِهِ الْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ "الصَّافَّاتِ" وَفِي سُورَةِ "ن" (1) وَذَلِكَ أَنَّ يُونُسَ بْنَ مَتَّى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ قَرْيَةِ "نِينَوَى"، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَتَمَادَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ، فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ مُغَاضِبًا لَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ بَعْدَ ثَلَاثٍ. فَلَمَّا تَحَقَّقُوا مِنْهُ ذَلِكَ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكْذِبُ، خَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ بِأَطْفَالِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْأُمَّهَاتِ وَأَوْلَادِهَا، ثُمَّ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَأَرُوا (2) إِلَيْهِ، وَرَغَتِ الإبل وفُضْلانها، وَخَارَتِ الْبَقَرُ وَأَوْلَادُهَا، وَثَغَتِ الْغَنَمُ وحُمْلانها، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ (3) الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يُونُسَ:98] .
وَأَمَّا يُونُسُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ ذَهَبَ فَرَكِبَ مَعَ قَوْمٍ فِي سَفِينَةٍ فَلَجَّجت بِهِمْ، وَخَافُوا أَنْ يَغْرَقُوا (4) . فَاقْتَرَعُوا عَلَى رَجُلٍ يُلْقُونَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ يَتَخَفَّفُونَ مِنْهُ، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، فَأَبَوْا (5) أَنْ يُلْقُوهُ، ثُمَّ أَعَادُوا الْقُرْعَةَ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَأَبَوْا، ثُمَّ أَعَادُوهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصَّافَّاتِ:141] ، أَيْ: وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ (6) ، فَقَامَ يُونُسُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ، ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ -فِيمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ-حُوتًا يَشُقُّ الْبِحَارَ، حَتَّى جَاءَ فَالْتَقَمَ يُونُسَ حِينَ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ السَّفِينَةِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ الْحُوتِ أَلَّا تَأْكُلَ لَهُ لَحْمًا، وَلَا تُهَشِّمَ لَهُ عَظْمًا؛ فَإِنَّ يُونُسَ لَيْسَ لَكَ رِزْقًا، وَإِنَّمَا بَطْنُكَ لَهُ يَكُونُ سِجْنًا.
وَقَوْلُهُ: {وَذَا النُّونِ} يَعْنِي: الْحُوتَ، صَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ.
وَقَوْلُهُ: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} : قَالَ الضَّحَّاكُ: لِقَوْمِهِ، {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [أَيْ: نُضَيِّقَ عَلَيْهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. يُروَى نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَغَيْرِهِمْ، وَاخْتَارَهُ (7) ابْنُ جَرِيرٍ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطَّلَاقِ:7] .
وَقَالَ عَطِيَّةُ العَوفي: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} (8) ، أَيْ: نَقْضِيَ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: قدَر وقَدّر بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَقَالَ الشاعر:
__________
(1) سورة الصافات الآيات: (139-148) ، وسورة نون (القلم) الآيات: (48-50) .
(2) في ت: "ولجؤوا".
(3) في ت: "العذاب".
(4) في ت، ف: "تغرق بهم".
(5) في ت: "فأتوا".
(6) في ف: "فوقعت القرعة عليه".
(7) في ت: "واختارهم".
(8) زيادة من ت، ف، أ.(5/366)
فَلا عَائد ذَاكَ الزّمَانُ الَّذِي مَضَى ... تَبَارَكْتَ مَا تَقْدرْ يَكُنْ، فَلَكَ الأمْرُ ...
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [الْقَمَرِ: 12] ، أَيْ: قُدِّرَ.
وَقَوْلُهُ: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) ، وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَير، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ.
وَقَالَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ: ظلمةُ حُوت فِي بَطْنِ حُوتٍ (2) ، فِي ظُلْمَةِ الْبَحْرِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا: وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ الحوتُ فِي الْبِحَارِ يَشُقُّها، حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى قَرَارِ الْبَحْرِ، فَسَمِعَ (3) يونسُ تَسْبِيحَ الْحَصَى فِي قَرَارِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ وهنالكَ قَالَ: {لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ}
وَقَالَ عَوْفٌ: لَمَّا صَارَ يُونُسُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ حَرَّكَ رِجْلَيْهِ فَلَمَّا تَحَرَّكَتْ سَجَدَ مَكَانَهُ، ثُمَّ نَادَى: يَا رَبِّ (4) ، اتَّخَذْتُ لَكَ مَسْجِدًا (5) فِي مَوْضِعٍ مَا اتَّخَذَهُ (6) أَحَدٌ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: مَكَثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. رَوَاهُمَا (7) ابْنُ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بن إسحاق بن يَسَار، عمن حدثه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ -مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ-سمعتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ أَنْ خُذْهُ، وَلَا تَخْدِشْ لَحْمًا وَلَا تَكْسِرْ عَظْمًا، فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى أَسْفَلِ الْبَحْرِ، سَمِعَ يُونُسُ حِسًّا، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا هَذَا؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي بَطْنِ (8) الْحُوتِ: إِنَّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ الْبَحْرِ. قَالَ: فَسَبَّح وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَسَمِعَ (9) الْمَلَائِكَةُ تَسْبِيحَهُ فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا، إِنَّا نَسْمَعُ صَوْتًا ضَعِيفًا [بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ] (10) قَالَ: ذَلِكَ عَبْدِي يُونُسُ، عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ. قَالُوا: الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عملٌ صَالِحٌ؟. قَالَ: نَعَمْ". قَالَ: "فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ الْحُوتَ فَقَذَفَهُ فِي السَّاحِلِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (11) {وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصَّافَّاتِ: 145] .
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ (12) ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ (13) ، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَقِّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلمَة (14) ،
__________
(1) في ف: "ابن مسعود".
(2) في ف، أ: "حوت آخر".
(3) في ت، أ: "حتى يسمع"، وفي ف: "حتى سمع".
(4) في ت: "رب الحوت".
(5) في ت: "مسجد".
(6) في ف، أ: "ما أخده".
(7) في ت: "رواها".
(8) في ف: "وهو ببطن".
(9) في ف، أ: "فسمعت".
(10) زيادة من ف، أ.
(11) في ت: "الله تعالى".
(12) تفسير الطبري (17/65) .
(13) مسند البزار برقم (2254) "كشف الأستار".
(14) في ت، ف: "مسلم".(5/367)
عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: " أَنَا (1) خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى"؛ سَبَّحَ لِلَّهِ فِي الظُّلُمَاتِ (2) .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَسَيَأْتِي أَسَانِيدُهَا فِي سُورَةِ "ن" (3) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بن عبد الرحمن بن أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي: حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ: أَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ حَدَّثَهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّ أَنْسًا يَرْفَعُ الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَنَّ يُونُسَ النَّبِيَّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذِهِ الْكَلَمَّاتِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، قَالَ: "اللَّهُمَّ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ". فَأَقْبَلَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ تَحُفُّ بِالْعَرْشِ (4) ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ غَرِيبَةٍ؟ فَقَالَ: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَاكَ (5) ؟ قَالُوا: لَا يَا رَبِّ (6) ، وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدِي يُونُسُ. قَالُوا: عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرفَع لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ (7) ، وَدَعْوَةٌ مُجَابَةٌ؟. [قَالَ: نَعَمْ] (8) . قَالُوا: يَا رَبِّ، أَوَلا (9) تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُ (10) فِي الرَّخَاءِ فتنجيَه مِنَ الْبَلَاءِ؟ قَالَ: بَلَى. فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ فِي الْعَرَاءِ (11) .
وَقَوْلُهُ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} أَيْ: أَخْرَجْنَاهُ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ، وَتِلْكَ الظُّلُمَاتِ، {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: إِذَا كَانُوا فِي الشَّدَائِدِ ودَعَونا مُنِيبِينَ إِلَيْنَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي حَالِ الْبَلَاءِ، فَقَدْ جَاءَ التَّرْغِيبُ فِي الدُّعَاءِ بِهَا عَنْ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَر، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، حدثنا إبراهيم بن محمد (12) ابن سَعْدٍ، حَدَّثَنِي وَالِدِي مُحَمَّدٌ عَنِ أَبِيهِ سَعْدٍ، -وَهُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -قَالَ: مَرَرْتُ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي الْمَسْجِدِ، فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يَردُدْ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَأَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ شَيْءٌ؟ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: لَا وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: لَا إِلَّا أَنِّي مررتُ بِعُثْمَانَ (13) آنِفًا فِي الْمَسْجِدِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَمَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنِّي، ثُمَّ لَمْ يَرْدُد (14) عَلَيَّ السَّلَامَ. قَالَ: فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى عُثْمَانَ فَدَعَاهُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ ألا تكون رَدَدت على أخيك
__________
(1) في ف: "أنا عند الله خير".
(2) كذا (ابن عبد الحق) ، وأظنه تحريف عن عبد بن حميد، إلا أني لا أجزم بذلك، وقد ذكره الهندي في كنز العمال (12/476) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر في تاريخه.
(3) كذا قال الحافظ ابن كثير، وإنما ذكره هناك من حديث ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهما.
فأما حديث ابن عباس: فرواه البخاري في صحيحه برقم (3395) ومسلم في صحيحه برقم (2377) .
وأما حديث عبد الله بن جعفر: فرواه أبو داود في السنن برقم (4670) .
(4) في ت: "نحو العرش" وفي ف: "تحت العرش".
(5) في ف: "ذلك".
(6) في ت، ف: "يا ربنا".
(7) في ت، ف: "متقبلا".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في ت، ف، أ: "أفلا".
(10) في ت، ف: "يصنعه".
(11) ورواه ابن أبي الدنيات في الفرج بعد الشدة برقم (32) من طريق أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وهب به.
(12) في ت: "محمد بن إبراهيم".
(13) في ف، أ: "بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ".
(14) فِي ت: "يرد".(5/368)
السَّلَامَ؟ قَالَ: مَا فعلتُ. قَالَ سَعْدٌ: قلتُ: بَلَى (1) حَتَّى حلفَ وَحَلَفْتُ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ ذكرَ فَقَالَ: بَلَى، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، إِنَّكَ مَرَرْتَ بِي آنِفًا وَأَنَا أُحَدِّثُ نَفْسِي بِكَلِمَةٍ سمعتُها مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَاللَّهِ مَا ذَكَرْتُهَا قَطُّ إِلَّا تَغْشَى بَصَرِي وَقَلْبِي غشَاوة. قَالَ سَعْدٌ: فَأَنَا أُنَبِّئُكَ بِهَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ لَنَا [أَوَّلَ دَعْوَةٍ] (2) ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَشَغَلَهُ، حَتَّى قَام رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعْتُهُ، فَلَمَّا أَشْفَقْتُ أَنْ يَسْبِقَنِي إِلَى مَنْزِلِهِ ضَرَبْتُ بِقَدَمِي الْأَرْضَ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟ أَبُو إِسْحَاقَ؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "فَمَهْ؟ " قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، إِلَّا إِنَّكَ ذكرتَ لَنَا أَوَّلَ دَعْوَةٍ، ثُمَّ جَاءَ هَذَا الْأَعْرَابِيُّ فَشَغَلَكَ. قَالَ: "نَعَمْ، دعوةُ ذِي النُّونِ، إِذْ هُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي "الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ (3) ، بِهِ (4) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ كَثِير بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ -قَالَ أَبُو خَالِدٍ: أَحْسَبُهُ عَنْ مُصْعَبٍ، يَعْنِي: ابْنَ سَعْدٍ -عَنْ سَعْدٍ (5) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "من دَعَا بِدُعَاءِ يُونُسَ، استُجِيب (6) لَهُ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: يُرِيدُ بِهِ {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (7) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّار الكَلاعي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي بِشْر بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ-يَقُولُ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اسْمُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعي بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِل بِهِ أَعْطَى، دعوةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى". قَالَ: قُلْتُ (8) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، هِيَ لِيُونُسَ خَاصَّةً أَمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: هِيَ لِيُونُسَ بْنِ مَتَّى خَاصَّةً وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً، إِذَا دَعَوْا بِهَا، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} . فَهُوَ شَرْطٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ دَعَاهُ بِهِ" (9) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيج، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ المُحَبَّر بْنِ قَحْذَم الْمَقْدِسِيُّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ، قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى؟ قَالَ: ابنَ أَخِي، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَوْلَ اللَّهِ: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا}
__________
(1) في ف: "ويلي".
(2) زيادة من ف، أ، والمسند.
(3) في ت: "ابن سعيد".
(4) المسند (1/170) وسنن الترمذي برقم (3505) وسنن النسائي الكبرى برقم (10492) .
(5) في ت: "عن سعيد".
(6) في ت: "استجبت".
(7) ورواه الحاكم في المستدرك (2/584) من طريق يحيى بن عبد الحميد، وابن عدي في الكامل (6/68) من طريق أبي هشام الرفاعي كلاهما عن أبي خالد الأحمر به.
(8) في ت، ف: "فقلت".
(9) تفسير الطبري (17/65) .(5/369)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
إِلَى قَوْلِهِ: {الْمُؤْمِنِينَ} ، ابْنَ أَخِي، هَذَا اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، الَّذِي إِذَا دُعي بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى.
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ زَكَرِيَّا، حِينَ طَلَبَ أَنْ يَهبَه اللَّهُ وَلَدًا، يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ نَبِيًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةً فِي أَوَّلِ سُورَةِ "مَرْيَمَ" وَفِي سُورَةِ "آلِ عِمْرَانَ" أَيْضًا، وَهَاهُنَا أَخْصَرُ مِنْهُمَا؛ {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أَيْ: خُفْيَةً عَنْ قَوْمِهِ: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} أَيْ: لَا ولدَ لِي وَلَا وارثَ يَقُومُ بَعْدِي فِي النَّاسِ، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ مُنَاسِبٌ لِلْمَسْأَلَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أَيِ: امْرَأَتَهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ عَاقِرًا لَا تَلِدُ، فَوَلَدَتْ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ (1) ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ: كَانَ فِي لِسَانِهَا طُولٌ فَأَصْلَحَهَا اللَّهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ فِي خَلْقها شَيْءٌ فَأَصْلَحَهَا اللَّهُ. وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالسُّدِّيُّ. وَالْأَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ الْأَوَّلُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أَيْ: فِي عَمَلِ القُرُبات وَفِعْلِ الطَّاعَاتِ، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} قَالَ الثَّوْرِيُّ: {رَغَبًا} فِيمَا عِنْدَنَا، {وَرَهَبًا} مِمَّا عِنْدَنَا، {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ مُصَدِّقِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُؤْمِنِينَ حَقًّا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: خَائِفِينَ. وَقَالَ أَبُو سِنَان: الْخُشُوعُ هُوَ الْخَوْفُ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ، لَا يُفَارِقُهُ أَبَدًا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا {خَاشِعِينَ} أَيْ: مُتَوَاضِعِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: {خَاشِعِينَ} أَيْ: مُتَذَلِّلِينَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ (2) عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وتُثنُوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَتَخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ، وَتَجْمَعُوا الْإِلْحَافَ بِالْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} .
__________
(1) في ت: "ابن منبه".
(2) في ت، ف: "عن".(5/370)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) } .
هَكَذَا قَرَن تَعَالَى (1) قِصَّةَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِقِصَّةِ زَكَرِيَّا وَابْنِهِ يَحْيَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَيَذْكُرُ أَوَّلًا قِصَّةَ زَكَرِيَّا، ثُمَّ يُتْبِعُهَا بِقِصَّةِ مَرْيَمَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ مُوَطّئة لِهَذِهِ، فَإِنَّهَا إِيجَادُ وَلَدٍ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ قَدْ طَعَن فِي السِّنِّ، وَمِنَ امْرَأَةٍ عَجُوزٍ عَاقِرٍ لَمْ تَكُنْ تَلِدُ فِي حَالِ شَبَابِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُ قِصَّةَ مَرْيَمَ وَهِيَ أَعْجَبُ، فَإِنَّهَا إِيجَادُ وَلَدٍ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ. هَكَذَا وَقَعَ فِي سُورَةِ "آلِ عِمْرَانَ"، وَفِي سُورَةِ "مَرْيَمَ"، وَهَاهُنَا ذَكَرَ قِصَّةَ زَكَرِيَّا، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِقِصَّةِ مَرْيَمَ، فَقَوْلُهُ: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} يَعْنِي: مَرْيَمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التَّحْرِيمِ:12] .
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أَيْ: دَلَالَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مَرْيَمَ:21] .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مُخَلَّد (2) عَنْ شَبِيب (3) -يَعْنِي ابْنَ بِشْرٍ (4) -عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: الْعَالَمِينَ: الْجِنُّ وَالْأَنْسُ.
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ (5) هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يَقُولُ: دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ؛ فِي (6) هَذِهِ الْآيَةِ: بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ وَمَا يَأْتُونَ ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ: سُنَّتُكُمْ سُنَّةٌ وَاحِدَةٌ. فَقَوْلُهُ: {إِنَّ هَذِهِ} إِنَّ وَاسْمُهَا، وَ {أُمَّتُكُمْ} خَبَرُ إِنَّ، أَيْ: هَذِهِ شَرِيعَتُكُمُ الَّتِي بَيَّنْتُ لَكُمْ وَوَضَّحْتُ لَكُمْ، وَقَوْلُهُ: {أُمَّةً وَاحِدَةً} نُصِبَ (7) عَلَى الْحَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} ، كَمَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ:51، 52] ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلات دِينُنَا وَاحِدٌ"، يَعْنِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِشَرَائِعَ مُتَنَوِّعَةٍ لِرُسُلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [الْمَائِدَةِ:48] .
__________
(1) في ت: "يقرن الله تعالى" وفي ف، أ: "يقرن تعالى".
(2) في ف: "عن مجلز".
(3) في ت، ف، أ: "شعيب".
(4) في ف: "بشير".
(5) في ت، ف: "وإن".
(6) في ت: "من".
(7) في ت: "نصيب".(5/371)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
وَقَوْلُهُ: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أَيِ: اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ عَلَى رُسُلِهَا، فَمِنْ بَيْنِ مُصَدق لَهُمْ وَمُكَذِّبٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فيجازَى كُلٌّ بِحَسَبِ عَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أَيْ: قَلْبُهُ مُصَدِّقٌ، وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} [الْكَهْفِ:30] أَيْ: لَا يُكْفَر سعيُه، وَهُوَ عَمَلُهُ، بَلْ يُشْكَر، فَلَا يُظْلَمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} أَيْ: يُكتب جميعُ عَمَلِهِ، فَلَا يَضيع عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) } .
يَقُولُ تَعَالَى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَجَبَ، يَعْنِي: قَدَرًا مُقَدرًا (1) أَنَّ أَهْلَ كُلِّ (2) قَرْيَةٍ (3) أُهْلِكُوا أَنَّهُمْ لَا يُرْجَعُونَ إِلَى الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أَيْ: لَا يَتُوبُونَ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} : قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ هُمْ مِنْ نَسْلِ نُوحٍ أَيْضًا (4) مِنْ أَوْلَادِ يَافِثَ أَبِي التُّرْكِ، وَالتُّرْكُ شِرْذِمَةٌ مِنْهُمْ، تُرِكُوا مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ الَّذِي بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ.
وَقَالَ: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا. وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الْكَهْفِ:98، 99] ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} أَيْ: يُسْرِعُونَ فِي الْمَشْيِ إِلَى الْفَسَادِ.
والحَدَب: هُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهَذِهِ صِفَتُهُمْ فِي حَالِ خُرُوجِهِمْ، كَأَنَّ السَّامِعَ مُشَاهِدٌ لِذَلِكَ، {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فَاطِرٍ:14] : هَذَا إِخْبَارُ عَالِمٍ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السموات وَالْأَرْضِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُبَيد اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: رَأَى ابُن عَبَّاسٍ صِبْيَانًا يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، يَلْعَبُونَ، فَقَالَ ابن عباس: هكذا
__________
(1) في ت، ف: "مقدورا".
(2) في ت، ف: "إن كل أهل".
(3) في ت: "القرية".
(4) في ف، أ: "عليه السلام".(5/372)
يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ (1) .
وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ خُرُوجِهِمْ فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَر بْنِ قَتَادَةَ، عن محمود بن لَبيد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُفتَح يأجوجُ ومأجوجُ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ": { [وَهُمْ] (2) مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} ، فيغشونَ النَّاسَ، وَيَنْحَازُ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ إِلَى مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ (3) ، وَيَضُمُّونَ إِلَيْهِمْ مواشيَهم، وَيَشْرَبُونَ مِيَاهَ الْأَرْضِ، حَتَّى أَنَّ بعضَهم لَيَمُرُّ بِالنَّهْرِ، فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهِ حَتَّى يَتْرُكُوهُ يَبَسا، حَتَّى أَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ لَيَمُرُّ بِذَلِكَ النَّهْرِ فَيَقُولُ (4) : قَدْ كَانَ هَاهُنَا مَاءٌ مَرَّةً حَتَّى إِذَا لَمْ يبقَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا أحدٌ فِي حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ قَالَ قَائِلُهُمْ: هَؤُلَاءِ أهلُ الْأَرْضِ، قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُمْ، بَقِيَ أهلُ السَّمَاءِ. قَالَ: "ثُمَّ يَهُزُّ أَحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ يَرْمِي بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَتَرْجِعُ إِلَيْهِ مُخْتَضبَةً دَمًا؛ لِلْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دُودًا فِي أَعْنَاقِهِمْ كنَغَف الْجَرَادِ الَّذِي يَخْرُجُ فِي أَعْنَاقِهِ، فَيُصْبِحُونَ (5) مَوْتًى لَا يُسمَع لَهُمْ حِسٌّ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: أَلَا رَجُلٌ يَشْري لَنَا نَفْسَهُ، فَيَنْظُرُ مَا فَعَلَ هَذَا الْعَدُوُّ؟ " قَالَ: "فَيَتَجَرَّدُ رَجُلٌ مِنْهُمْ مُحْتَسِبًا نَفْسَهُ، قَدْ أَوْطَنَهَا عَلَى أَنَّهُ مَقْتُولٌ، فَيَنْزِلُ فَيَجِدُهُمْ مَوْتًى، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَلَا أَبْشِرُوا، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ كَفَاكُمْ عَدُوَّكُمْ، فَيَخْرُجُونَ مِنْ مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ ويُسَرِّحون مَوَاشِيَهُمْ، فَمَا يَكُونُ لَهَا رَعْيٌ إِلَّا لُحُومَهُمْ، فَتَشْكر عَنْهُ كَأَحْسَنِ مَا شَكرَت عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّبَاتِ أَصَابَتْهُ قَطُّ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْر، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، بِهِ (6) .
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَالَ [الْإِمَامُ] (7) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ الطَّائِيُّ -قَاضِي حِمْصَ-حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَير بْنِ نُفَير الْحَضْرَمِيُّ، عَنِ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّوّاس بْنَ سمْعانَ الْكِلَابِيَّ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَداة، فخَفَض فِيهِ ورَفَع، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، [فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِنَا، فَسَأَلْنَاهُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ الْغَدَاةَ، فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ] (8) . فَقَالَ: "غَيْرُ الدَّجَّالِ أخْوَفُني عَلَيْكُمْ، فَإِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُه دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ: إنه شاب جَعْدُ قَطَط عينه
__________
(1) تفسير الطبري (17/70) .
(2) زيادة من أ.
(3) في ت: "وحضرتهم".
(4) في ت: "فيقولون".
(5) في ت: "فيحصون".
(6) المسند (3/77) وسنن ابن ماجه برقم (4079) ، وقال البوصيري في الزوائد (3/260) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(7) زيادة من ت، ف، أ.
(8) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.(5/373)
طَافِيَةٌ، وَإِنَّهُ يَخْرُجُ خَلَةَ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَشِمَالًا يَا عِبَادَ اللَّهِ اثْبُتُوا".
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لُبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: "أَرْبَعِينَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ".
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَاكَ الْيَوْمُ الَّذِي هُوَ كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؟ قَالَ: "لَا اقْدِرُوا لَهُ قَدْرَهُ".
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: "كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ". قَالَ: "فَيَمُرُّ بِالْحَيِّ فَيَدْعُوهُمْ فَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، وَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ وَهِيَ أَطْوَلُ مَا كَانَتْ ذُرَى، وَأَمَدُّهُ خَوَاصِرَ، وَأَسْبَغُهُ ضُرُوعًا. وَيَمُرُّ بِالْحَيِّ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قولَه، فَتَتْبَعُهُ أَمْوَالُهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحلين، لَيْسَ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَيَمُرُّ بالخَربة فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ". قَالَ: "وَيَأْمُرُ بِرَجُلٍ فيُقتَل، فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلتين رَمْيَةَ الغَرَض، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ إِلَيْهِ [يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ] (1) .
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ (2) الْبَيْضَاءِ، شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَين وَاضِعًا يَدَه عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكين، فَيَتْبَعُهُ فَيُدْرِكُهُ، فَيَقْتُلُهُ عِنْدَ بَابِ لُدّ الشَّرْقِيِّ".
قَالَ: "فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: أَنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا مِنْ عِبَادِي لَا يَدَانِ لَكَ بِقِتَالِهِمْ، فَحَوّز عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ: {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} فَيَرْغَبُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسى، كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ.
فَيَهْبِطُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ بَيْتًا إِلَّا قَدْ مَلَأَهُ زَهَمُهم ونَتْنهُم، فَيَرْغَبُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ، فَيُرْسِلُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ البُخْت، فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ".
قَالَ ابْنُ جَابِرٍ (3) فَحَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ السَّكْسَكيّ (4) ، عَنْ كَعْبٍ -أَوْ غَيْرِهِ-قَالَ: فَتَطْرَحُهُمْ بالمَهْبِل. [قَالَ ابْنُ جَابِرٍ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا يَزِيدَ، وَأَيْنَ المَهْبِل؟] (5) ، قَالَ: مَطْلَعُ الشَّمْسِ.
قَالَ: "وَيُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنَّ (6) مِنْهُ بَيْتُ مَدَر وَلَا وَبَر أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كالزّلَقَةِ، وَيُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، ورُدي بَرَكَتَكِ". قَالَ: "فَيَوْمَئِذٍ يَأْكُلُ النَّفَرُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بقحْفها، ويُبَارك فِي الرَسْل، حَتَّى إِنَّ اللَّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ تَكْفِي الْفَخِذَ، وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ تَكْفِي أَهْلَ الْبَيْتِ".
__________
(1) زيادة من ف، أ، والمسند.
(2) في ت: "المنازل".
(3) في ت: "جرير".
(4) في ت: "السلسلي".
(5) زيادة من ف، أ، والمسند.
(6) في ت: "يكون".(5/374)
قَالَ: "فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ (1) ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رِيحًا طَيِّبَةً تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُسْلِمٍ -أَوْ قَالَ: كُلِّ مُؤْمِنٍ-وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ تَهَارُجَ الْحَمِيرِ، وَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ".
انْفَرَدَ (2) بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ، فَرَوَاهُ مَعَ بَقِيَّةِ أَهْلِ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، بِهِ (3) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ حَرْمَلَة، عَنْ خَالَتِهِ قَالَتْ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَاصِبٌ أصبعُه مِنْ لَدْغَةِ عَقْرب، فَقَالَ: "إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: "لَا عَدُوَّ (4) ، وَإِنَّكُمْ لَا تَزَالُونَ تُقَاتِلُونَ عَدُوًّا، حَتَّى يَأْتِيَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ عِرَاضُ الْوُجُوهِ، صِغَارُ الْعُيُونِ، صُهْبَ الشِّعَافِ، مِنْ كُلِّ حَدَب يَنْسِلُونَ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانّ المُطرَقة" (5) .
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَرْمَلة الْمُدْلِجِيِّ، عَنْ خَالَةٍ لَهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ (6) .
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مِنْ رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ هُشَيْم، عَنِ العَوَّام، عَنْ جَبَلَة بْنِ سُحَيْم، عَنْ مُؤثر بْنِ عَفَازَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَقِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَالَ: فَتَذَاكَرُوا أَمْرَ السَّاعَةِ، فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا (7) . فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا (8) . فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى عِيسَى، فَقَالَ: أَمَّا وَجْبَتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وَفِيهَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّيَ أَنَّ الدَّجَّالَ خَارِجٌ".
قَالَ: "وَمَعِي قَضِيبَانِ، فَإِذَا رَآنِي ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ" قَالَ: "فَيُهْلِكُهُ اللَّهُ إِذَا رَآنِي، حَتَّى إِنَّ الْحَجَرَ وَالشَّجَرَ يَقُولُ: يَا مُسْلِمُ إِنَّ تَحْتِي كَافِرًا، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ". قَالَ: "فَيُهْلِكُهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ". قَالَ: "فَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُ يأجوج ومأجوج وهم مِنْ كُلِّ حَدَب يَنسلون، فَيَطَؤُونَ بِلَادَهُمْ، لَا (9) يَأْتُونَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَهْلَكُوهُ، وَلَا يَمُرُّونَ عَلَى مَاءٍ إِلَّا شَرِبُوهُ". قَالَ: "ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَيَّ يَشْكُونَهُمْ، فَأَدْعُو اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَيُهْلِكُهُمْ وَيُمِيتُهُمْ، حَتَّى تَجوى الْأَرْضُ مِنْ نَتْن رِيحِهِمْ، وَيُنْزِلُ اللَّهُ الْمَطَرَ فَيَجْتَرِفُ أَجْسَادَهُمْ، حَتَّى يَقْذِفَهُمْ فِي الْبَحْرِ. فَفِيمَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، أَنَّ السَّاعَةَ كَالْحَامِلِ المُتِمّ، لَا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَى تَفْجُؤهم بِوِلَادِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا".
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ العَوَّام بْنِ حَوْشَب، به (10)
__________
(1) في ف: "هم كذلك".
(2) في ت: "وانفرد".
(3) المسند (4/181) وصحيح مسلم برقم (2137) وسنن أبي داود برقم (4321) وسنن الترمذي برقم (2240) وسنن النسائي الكبرى برقم (10783) وسنن ابن ماجه برقم (4075) .
(4) في ت، ف، أ: "لا عدو لكم".
(5) المسند (5/217) .
(6) في ت، أ: "مثله سواء".
(7) في ت: "فيها".
(8) في ت: "فيها".
(9) في ت، ف: "ولا".
(10) المسند (1/375) وسنن ابن ماجه برقم (4081) وسبق عند تفسير الآية: 187 من سورة الأعراف.(5/375)
، نَحْوَهُ وَزَادَ: "قَالَ العَوَّام، وَوُجِدَ تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} .
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا مِنْ حَدِيثِ جَبَلَةَ، بِهِ (1) .
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَالْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ كَذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى ابُن جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ مَعْمَر، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ هِلَالٍ، عَنِ أَبِي الصَّيف قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: إِذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، حَفَرُوا حَتَّى يَسْمَعَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَرْعَ فُؤُوسِهِمْ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ قَالُوا: نَجِيءُ غَدًا فَنَخْرُجُ، فَيُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ. فَيَجِيئُونَ مِنَ الْغَدِ فَيَجِدُونَهُ قَدْ أَعَادَهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ، فَيَحْفِرُونَهُ حَتَّى يَسْمَعَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَرْعَ فُؤُوسِهِمْ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ أَلْقَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: نَجِيءُ غَدًا فَنَخْرُجُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَيَجِيئُونَ مِنَ الْغَدِ فَيَجِدُونَهُ كَمَا تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَ حَتَّى يَخْرُجُوا. فَتَمُرُّ الزُّمْرَةُ الْأُولَى بِالْبُحَيْرَةِ، فَيَشْرَبُونَ مَاءَهَا، ثُمَّ تَمُرُّ الزُّمْرَةُ الثَّانِيَةُ فَيَلْحَسُونَ طِينَهَا، ثُمَّ تَمُرُّ الزُّمْرَةُ الثَّالِثَةُ فَيَقُولُونَ (2) : قَدْ كَانَ هَاهُنَا مَرَّةً مَاءٌ، وَيَفِرُّ النَّاسُ مِنْهُمْ، فَلَا يَقُومُ لَهُمْ شَيْءٌ. ثُمَّ يَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ إِلَيْهِمْ مُخَضَّبة بِالدِّمَاءِ فَيَقُولُونَ: غَلَبْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ وَأَهْلَ السَّمَاءِ. فَيَدْعُو عَلَيْهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ، لَا طَاقَةَ وَلَا يَدَين لَنَا بِهِمْ، فَاكْفِنَاهُمْ بِمَا شِئْتَ"، فَيُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دُودًا يُقَالُ لَهُ: النَّغْفُ، فَيَفْرِسُ (3) رِقَابَهُمْ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا تَأْخُذُهُمْ بِمَنَاقِيرِهَا فَتُلْقِيهِمْ فِي الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ عَيْنًا يُقَالُ لَهَا: "الْحَيَاةُ" يُطَهِّرُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيُنْبِتُهَا، حَتَّى إِنَّ الرُّمَّانَةَ لَيَشْبَعُ مِنْهَا السَّكْن". قِيلَ: وَمَا السَّكن يَا كَعْبُ؟ قَالَ: أَهْلُ الْبَيْتِ -قَالَ: "فَبَيْنَمَا النَّاسُ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمُ الصَّريخ أَنَّ ذَا السُّويقَتَين يُرِيدُهُ. قَالَ: فَيَبْعَثُ (4) عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ طَلِيعَةً سَبْعَمِائَةٍ، أَوْ بَيْنَ السَّبْعِمِائَةِ وَالثَّمَانِمِائَةِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا يَمَانِيَّةً طَيِّبَةً، فَيَقْبِضُ فِيهَا رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، ثُمَّ يَبْقَى عَجَاج (5) النَّاسِ، فَيَتَسَافَدُونَ كَمَا تَسَافَدُ الْبَهَائِمُ، فَمَثل السَّاعَةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ يَطِيفُ حَوْلَ فَرَسِهِ يَنْتَظِرُهَا مَتَى تَضَعُ؟ قَالَ كَعْبٌ: فَمَنْ تَكَلَّفَ بَعْدَ قَوْلِي هَذَا شَيْئًا -أَوْ بَعْدَ عِلْمِي هَذَا شَيْئًا-فَهُوَ الْمُتَكَلِّفُ (6) .
هَذَا مِنْ أَحْسَنِ سِيَاقَاتِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، لِمَا شَهِدَ لَهُ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَحُجُّ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليُحَجَّنَّ هَذَا الْبَيْتَ، وليُعْتَمَرنّ بَعْدَ خروج يأجوج ومأجوج". انفرد بإخراجه البخاري (7) .
__________
(1) تفسير الطبري (17/72) .
(2) في ت: "فيقول".
(3) في ت: "فيفرش".
(4) في ت: "فيبعث الله عيسى".
(5) في ت، ف: "عجاج من".
(6) تفسير الطبري (17/71) .
(7) المسند (3/27) وصحيح البخاري برقم (1593) .(5/376)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
وَقَوْلُهُ: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا وُجدت هَذِهِ الْأَهْوَالُ وَالزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ، أَزِفَتِ السَّاعَةُ وَاقْتَرَبَتْ، فَإِذَا كَانَتْ وَوَقَعَتْ قَالَ الْكَافِرُونَ: {هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [الْقَمَرِ:8] . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: مِنْ شِدَّةِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ: {يَا وَيْلَنَا} أَيْ: يَقُولُونَ: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا، {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} ، يَعْتَرِفُونَ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ.
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) } .(5/377)
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
{لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِأَهْلِ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ وَقُودُهَا، يَعْنِي كَقَوْلِهِ: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التَّحْرِيمِ:6] .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} بِمَعْنَى: شَجَرِ جَهَنَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} يَعْنِي: حَطَبَ جَهَنَّمَ، بِالزِّنْجِيَّةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ: حَطَبُهَا. وَهِيَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} أَيْ: مَا يُرْمَى بِهِ فِيهَا.
وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ. وَالْجَمِيعُ قَرِيبٌ.
وَقَوْلُهُ: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أَيْ: دَاخِلُونَ.
{لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} يَعْنِي: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ الَّتِي اتَّخَذْتُمُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً صَحِيحَةً لَمَا وَرَدُوا النَّارَ، وَلَمَا دَخَلُوهَا، {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} أَيِ: الْعَابِدُونَ وَمَعْبُودَاتُهُمْ، كُلُّهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} ، كَمَا قَالَ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هُودٍ: 106] ، وَالزَّفِيرُ: خُرُوجُ أَنْفَاسِهِمْ، وَالشَّهِيقُ: وُلُوجُ أَنْفَاسِهِمْ، {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسيّ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْل، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -يَعْنِي: الْمَسْعُودِيَّ-عَنِ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا بَقِيَ مَنْ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، جُعلوا فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ، فِيهَا مَسَامِيرُ مِنْ نَارٍ، فَلَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ غَيْرُهُ، ثُمَّ تَلَا(5/377)
عَبْدُ اللَّهِ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} .
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبّاب (1) ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرَهُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} : قَالَ عِكْرِمَةُ: الرَّحْمَةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّعَادَةُ، {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْلَ النَّارِ وَعَذَابَهُمْ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ، عَطَفَ بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ ورسُله (2) ، وَهُمُ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ، وَأَسْلَفُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يُونُسَ: 26] : وَقَالَ {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ} [الرَّحْمَنِ:60] ، فَكَمَا أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا، أَحْسَنَ اللَّهُ مَآلَهُمْ وَثَوَابَهُمْ، فَنَجَّاهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وحَصَل (3) لَهُمْ جَزِيلُ الثَّوَابِ، فَقَالَ: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أَيْ: حَرِيقَهَا فِي الْأَجْسَادِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ (4) ، عَنِ أَبِي عُثْمَانَ: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} ، قَالَ: حَيَّاتٌ عَلَى الصِّرَاطِ (5) تَلْسَعُهُمْ، فَإِذَا لَسَعَتْهُمْ قَالَ: حَسَ حَسَ.
وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} فَسَلَّمَهُمْ مِنَ الْمَحْذُورِ وَالْمَرْهُوبِ، وَحَصَلَ لَهُمُ الْمَطْلُوبُ وَالْمَحْبُوبُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيج، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عَمِّ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ -وسَمَرَ مَعَ عَلِيٍّ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قَالَ: أَنَا مِنْهُمْ، وَعُمَرُ مِنْهُمْ، وَعُثْمَانُ مِنْهُمْ، وَالزُّبَيْرُ مِنْهُمْ، وَطَلْحَةُ مِنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْهُمْ -أَوْ قَالَ: سَعْدٌ مِنْهُمْ-قَالَ: وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَقَامَ، وَأَظُنُّهُ يَجُرُّ ثَوْبَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} .
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ الْمَكِّيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ (6) قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} قَالَ: عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ -وَلَيْسَ بِابْنِ مَاهَكَ-عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَلِيٍّ، فَذَكَرَهُ وَلَفْظُهُ: عُثْمَانُ مِنْهُمْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} : فَأُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ مَرًّا هُوَ أَسْرَعُ مِنَ الْبَرْقِ، وَيَبْقَى الْكُفَّارُ فِيهَا جِثيًا.
__________
(1) في ت: "ابن حبان".
(2) في ت: "ورسوله".
(3) في ت: "وجعل".
(4) في ت، ف، أ: "عن أبي عثمان الجريري".
(5) في ت: "على الصراط المستقيم".
(6) في ت: "خاطب".(5/378)
فَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتِ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمَعْبُودِينَ، وَخَرَجَ مِنْهُمْ عُزَيْرٌ وَالْمَسِيحُ، كَمَا قَالَ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} فَيُقَالُ (1) : هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَعِيسَى، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ (2) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} قَالَ: نَزَلَتْ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وعُزَير، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى بْنِ مَيْسَرَة، حَدَّثَنَا أَبُو زُهَير، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ طَرِيف، عَنِ الْأَصْبَغِ، عَنْ عَليّ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي النَّارِ إِلَّا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ. إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ، قَالَ: عِيسَى، وعُزَيْر، وَالْمَلَائِكَةُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عِيسَى، وَمَرْيَمُ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَأَبِي صَالِحٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا، فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ الرُّخَّاني، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُغيث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قَالَ: عِيسَى، وعُزَير، وَالْمَلَائِكَةُ (3) .
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ قِصَّةَ ابْنِ الزِّبَعْرَى ومناظرةَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويه:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَنٍ الْأَنْمَاطِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ -يَعْنِي: ابْنَ أَبَانٍ-عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنَزَلَ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ، فَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: قَدْ عُبدت الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْمَلَائِكَةُ، وعُزَير وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ مَعَ آلِهَتِنَا؟ فَنَزَلَتْ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا (4) بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ، ثُمَّ نَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ "الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ".
__________
(1) في ف: "فقال".
(2) في ت: "وابن ماجه وابن جريج".
(3) وفي إسناده سعيد بن مسلمة وشيخه ليث بن أبي سليم وهما ضعيفان.
(4) في ت: "مثلا".(5/379)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا قَبِيصة بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ -يَعْنِي: الثَّوْرِيَّ-عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ أَصْحَابِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} قال المشركون: فالملائكة (1) ،عُزَير، وَعِيسَى يُعْبَدون مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَنَزَلَتْ: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} ، الْآلِهَةُ الَّتِي يُعْبَدُونَ، {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} .
وَرُوِيَ عَنِ أَبِي كُدَيْنَة، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقَالَ فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} .
وَقَالَ [الْإِمَامُ] (2) مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ (3) ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِ "السِّيرَةِ": وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -فِيمَا بَلَغَنِي-يَوْمًا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى جَلَسَ مَعَهُمْ، وَفِي الْمَسْجِدِ (4) غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَفْحَمَهُ، وَتَلَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} (5) ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزبَعْرَى السَّهْمِيُّ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى: وَاللَّهِ مَا قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لِابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آنِفًا وَلَا قَعَدَ، وَقَدْ زَعَمَ مُحَمَّدٌ أنَّا وَمَا نَعْبُدُ (6) مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصمته، فَسَلُوا مُحَمَّدًا: كُلُّ مَا يُعْبَد (7) مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي جَهَنَّمَ مَعَ مَنْ عَبَده، فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَالْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا، وَالنَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ؟ فَعَجِبَ الْوَلِيدُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ، مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى، وَرَأَوْا أَنَّهُ قَدْ احْتَجَّ وَخَاصَمَ.
فَذُكر ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "كُلُّ مَنْ أحَبَّ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، إِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ (8) وَمَنْ أمَرَتْهُم (9) بِعِبَادَتِهِ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} أَيْ: عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَمَنْ عُبدوا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، الَّذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، فَاتَّخَذَهُمْ مَنْ يَعْبُدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَنَزَلَ فِيمَا يَذْكُرُونَ، أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَأَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ:26 -29] ، وَنَزَلَ فِيمَا ذُكر مَنْ أَمْرِ عِيسَى، وَأَنَّهُ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وعَجَب الْوَلِيدِ وَمَنْ حَضَره مِنْ حُجَّته وَخُصُومَتِهِ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف:57 -61]
__________
(1) في ت: "والملائكة".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ت: "ابن بشار".
(4) في ف: "المجلس".
(5) في ت، ف: "أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ. لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ. لَهُمْ فِيهَا زفير وهم فيها لا يسمعون".
(6) في ت: "تعبدون".
(7) في ت: "يعبدون".
(8) في ت، ف: "الشيطان".
(9) في ف: "أمرهم".(5/380)
أَيْ: مَا وَضَعْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ، فكَفى بِهِ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ، يَقُولُ: {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزُّخْرُفِ:61] (1) .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الزِّبَعْرَى خَطَأٌ كَبِيرٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ خِطَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ لَا تَعْقِلُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا لِعَابِدِيهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} فَكَيْفَ يُورِدُ عَلَى هَذَا الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ (2) وَنَحْوَهُمَا، مِمَّنْ (3) لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَلَمْ يَرْضَ بِعِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُ. وعَوّل ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ "مَا" لِمَا لَا يَعْقِلُ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَقَدْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ. وَكَانَ يُهَاجِي الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا ثُمَّ قَالَ مُعْتَذِرًا:
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ، إِنَّ لِسَانِي ... رَاتقٌ مَا فتَقْتُ إذْ أنَا بُورُ ...
إذْ أجَاري الشَّيطَانَ فِي سَنَن الغَي ... وَمَنْ مَالَ مَيْلَه مَثْبُور (4)
وَقَوْلُهُ: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ} قِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمَوْتُ. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَطَاءٍ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَزَعِ الْأَكْبَرِ: النَّفْخَةُ فِي الصُّورِ. قَالَهُ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سِنَان سَعِيدُ (5) ابن سِنَانٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَقِيلَ: حِينَ يُؤْمَر بِالْعَبْدِ إِلَى النَّارِ. قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
وَقِيلَ: حِينَ تُطبق النَّارُ عَلَى أَهْلِهَا. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَابْنُ جُرَيج.
وَقِيلَ: حِينَ يُذبَح الْمَوْتُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ (6) ، فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ، يَعْنِي: تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، تُبَشِّرُهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أَيْ: قابلوا (7) ما يسركم.
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/358) ، ورواه الطبري في تفسيره (17/76) .
(2) في ف: "وعزير".
(3) في ت: "وممن".
(4) البيتين في السيرة النبوية لابن هشام (2/419) .
(5) في ت، ف، أ: "سعد".
(6) في ف، أ: "الهمداني".
(7) في ت: "فأملوا".(5/381)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) } .
يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمَرِ: 67] وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا مُقَدم بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي عَمِّي الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عُبَيد اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأرضَين، وَتَكُونُ السموات بِيَمِينِهِ" (1) .
انْفَرَدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَجَّاجِ الرَّقِّي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ أَبِي الْوَاصِلِ (2) ، عَنِ أَبِي الْمَلِيحِ الْأَزْدِيِّ (3) ، عَنِ أَبِي الْجَوْزَاءِ الْأَزْدِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَطْوِي الله (4) السموات السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ، يَطْوِي ذَلِكَ كُلَّهُ (5) بِيَمِينِهِ، يَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ خَرْدَلَةٍ.
وَقَوْلُهُ: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالسِّجِلِّ [الْكِتَابُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسِّجِلِّ] (6) هَاهُنَا: مَلَك مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَفَاءِ الْأَشْجَعِيُّ، عَنِ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} ، قَالَ: السِّجِلُّ: مَلَك، فَإِذَا صَعِدَ بِالِاسْتِغْفَارِ قَالَ: اكْتُبْهَا نُورًا.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنِ ابْنِ يَمَانٍ، بِهِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (7) مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ السِّجِلَّ مَلَكٌ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: السِّجِلُّ: مَلَك مُوَكَّلٌ بِالصُّحُفِ، فَإِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ رُفِعَ (8) كتابُه إِلَى السِّجِلِّ فَطَوَاهُ، وَرَفَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ اسْمُ رَجُلٍ صِحَابِيٍّ، كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعة، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الجَهْضَميّ، حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابن عباس: [ {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} ] (9) ، قَالَ: السجل: هو الرجل.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (7412) .
(2) في ت: "المواصل".
(3) في ت: "الأودي".
(4) في ت: "إليه".
(5) في ف: "كله ذلك".
(6) زيادة من ف.
(7) في ت: "أبي حفص".
(8) في ت: "دفع".
(9) زيادة من ف.(5/382)
قَالَ نُوحٌ: وَأَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ كَعْبٍ -هُوَ العَوْذي-عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السِّجِلُّ كَاتِبٌ (1) لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ (2) ، عَنْ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: السِّجِلُّ كَاتِبٌ (3) لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ النُّكْريّ عَنِ أَبِيهِ، عَنِ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ (5) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِبٌ يُسَمَّى (6) السِّجِلَّ وَهُوَ قَوْلُهُ: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} ، قَالَ: كَمَا يَطْوِي السِّجِلُّ الْكِتَابَ، كَذَلِكَ نَطْوِي السَّمَاءَ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ (7) .
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ البَرْقَاني، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَجَّاجِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، أَنَّ حَمْدَانَ بْنَ سَعِيدٍ حَدَّثَهُمْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: السِّجِلُّ: كَاتِبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (8) .
وَهَذَا مُنْكَرٌ جِدًّا مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، لَا يَصِحُّ أَصْلًا وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ، لَا يَصِحُّ أَيْضًا. وَقَدْ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ بِوَضْعِهِ -وَإِنْ كَانَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ-مِنْهُمْ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو الْحَجَّاجِ المِزِّي، فَسَح اللَّهُ فِي عُمْرِهِ، ونَسَأ فِي أَجَلِهِ، وَخَتَمَ لَهُ بِصَالِحِ عَمَلِهِ، وَقَدْ أَفْرَدَتُ لِهَذَا الْحَدِيثِ جُزْءًا عَلَى حِدَةٍ (9) ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ تَصَدَّى الْإِمَامُ أبو جعفر بن جَرِيرٍ لِلْإِنْكَارِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَدَّهُ أَتَمَّ رَدٍّ، وَقَالَ: لَا يُعَرف فِي الصَّحَابَةِ أَحَدٌ (10) اسْمُهُ السجِل، وكُتَّاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْرُوفُونَ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ اسْمُهُ السِّجِلُّ، وصَدَق رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى نَكَارة هَذَا الْحَدِيثِ. وَأَمَّا مَنْ ذَكَرَ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ هَذَا، فَإِنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السِّجِلَّ هِيَ الصَّحِيفَةُ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْعَوْفِيُّ، عَنْهُ. وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} أَيْ: عَلَى [هَذَا] (11) الْكِتَابِ، بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصَّافَّاتِ:103] ، أَيْ: عَلَى الْجَبِينِ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} يَعْنِي: هَذَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، يَوْمَ يُعِيدُ اللَّهُ الْخَلَائِقَ خَلْقًا جَدِيدًا، كَمَا بَدَأَهُمْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِعَادَتِهِمْ (12) ، وذلك واجب الوقوع، لأنه من
__________
(1) في ت: "كانت".
(2) في ت: "سعد".
(3) في ت: "كانت".
(4) سنن أبي داود برقم (2935) وسنن النسائي الكبرى برقم (11335) .
(5) في ت: "كان لرسول الله".
(6) في ت: "كانت تسمى".
(7) الكامل (7/205) .
(8) تاريخ بغداد (8/175) .
(9) في أ: "حدته".
(10) في ف: "لا يعرف أحد في الصحابة".
(11) زيادة من ف، أ.
(12) في ت: "إعادته".(5/383)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
جُمْلَةِ وَعْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ وَلَا يُبَدَّلُ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع وَابْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْنَى (1) ، قَالَا (2) : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ"؛ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ. وَرَوَاهُ (3) الْبُخَارِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِهِ (4) .
وَقَدْ رَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ (5) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} قَالَ: نُهْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ، كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا حَتَّمَهُ وَقَضَاهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَوِرَاثَةِ الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الْأَعْرَافِ:128] . وَقَالَ: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ} [غَافِرٍ:51] . وَقَالَ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا] (6) } ،الْآيَةَ [النُّورِ:55] .وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا مَكْتُوبٌ مَسْطُورٌ فِي الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ فَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} ، قَالَ الْأَعْمَشُ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَير عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} فَقَالَ الزَّبُورُ: التَّوْرَاةُ، وَالْإِنْجِيلُ، وَالْقُرْآنُ (7) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الزَّبُورُ: الْكِتَابُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: الزَّبُورُ: الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى دَاوُدَ، وَالذِّكْرُ: التَّوْرَاةُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الزَّبُورُ: الْقُرْآنُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَير: الذِّكْرُ: الَّذِي في السماء.
__________
(1) في هـ، ت، ف، أ: "وابن جعفر، وعفان المعنى" والمثبت من المسند.
(2) في ت: "قالوا".
(3) في ت: "وذكره"، وفي ف، أ: "ذكره".
(4) المسند (1/235) وصحيح البخاري برقم (4625) ، (4740) وصحيح مسلم برقم (2860) .
(5) في ت، ف: "عن رسول الله".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في أ: "الفرقان".(5/384)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الزَّبُورُ: الكتبُ بَعْدَ الذِّكْرِ، وَالذِّكْرُ: أُمُّ الْكِتَابِ عِنْدَ اللَّهِ.
وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ (1) ، وَكَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الزَّبُورُ: الْكُتُبُ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَالذِّكْرُ: أُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي (2) يُكْتَبُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ (3) فِي التَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ قَبْلَ أَنْ تكون السموات وَالْأَرْضُ، أَنْ يُورثَ أمةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَرْضَ وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ، وَهُمُ الصَّالِحُونَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} قَالَ: أَرْضُ الْجَنَّةِ. وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَير، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالثَّوْرِيُّ [رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى] (4) .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} أَيْ: إِنَّ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَى عَبْدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبَلاغًا: لمَنْفعةَ وَكِفَايَةً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّهَ بِمَا شَرَعَهُ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ، وَآثَرُوا طَاعَةَ اللَّهِ عَلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَشَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ.
وَقَوْلُهُ [تَعَالَى] (5) : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} : يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ جَعَل مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، أَيْ: أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لَهُمْ كُلِّهِمْ، فَمَنْ قَبِل هَذِهِ الرحمةَ وشكَر هَذِهِ النعمةَ، سَعد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ رَدّها وَجَحَدَهَا خَسِرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ (6) الْقَرَارُ} [إِبْرَاهِيمَ: 28، 29] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فُصِّلَتْ: 44] .
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الفَزَاريّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَان، عَنِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: "إِنِّي لَمْ أبعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعثْتُ رَحْمَةً". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ (7) .
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ". رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَرَابَةَ، وَغَيْرُهُ، عَنْ وَكِيع، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا (8) . قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ وَكِيعٍ،
__________
(1) تفسير الطبري (17/81) .
(2) في ت: "أم الكتاب والذي".
(3) في ف: "الله تعالى".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) زيادة من ت، وفي ف، أ: "عز وجل".
(6) في ت، ف، أ: "فبئس".
(7) صحيح مسلم برقم (2559) .
(8) رواه أبو الحسن السكري في "الفوائد المنتقاة" (157/2) . كما في السلسلة الصحيحة (1/803) للألباني - حدثنا عبد الله بن محمد ابن أسد، حدثنا حاتم بن منصور الشاشي قال: حدثنا عبد الله بن أبي عرابة الشاشي به. ورواه غيره متصلا: فرواه عبد الله بن نصر الأصم عَنْ وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هريرة مرفوعا. خرجه ابن عدي في الكامل (4/231) من طريق عمر بن سنان عن عبد الله بن نصر.
وقال: "هكذا حدثناه عمر بن سنان عن عبد الله بن نصر عن وكيع عن الأعمش، وهذا غير محفوظ عن وكيع عن الأعمش، إنما يرويه مالك بن سعيد عن الأعمش، وعبد الله بن نصر هذا له غير ما ذكرت مما أنكرت عليه".(5/385)
فَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا هُرَيْرَةَ (1) . وَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: كَانَ عِنْدَ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ مُرْسَلًا.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكُ بْنُ سُعَير بْنِ الْخِمْس، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا (2) . ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُقْرِئِ وَأَبِي أَحْمَدَ الْحَاكِمِ، كِلَاهُمَا عَنْ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيِّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، عَنِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ (3) بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ".
ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ الصَّلْت بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَر (4) ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً مُهْدَاةً، بُعثْتُ بِرَفْعِ قَوْمٍ وَخَفْضِ آخَرِينَ" (5) .
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ الطَّحَّانُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: وَجَدْتُ كِتَابًا بِالْمَدِينَةِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ التَّمَّارِ، عَنِ ابْنِ [شِهَابٍ] (6) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَير بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ حِينَ قَدِمَ [مَكَّةَ] (7) مُنْصَرَفَهُ عَنْ حَمْزَة: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ مُحَمَّدًا نَزَلَ يَثْرِبَ وَأَرْسَلَ طَلَائِعَهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَ مِنْكُمْ شَيْئًا، فَاحْذَرُوا أَنْ تَمُرُّوا طريقَه أَوْ تُقَارِبُوهُ (8) ، فَإِنَّهُ كَالْأَسَدِ الضَّارِي؛ إِنَّهُ حَنِق عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ نَفَيْتُمُوهُ نَفْيَ القِرْدَان عَنِ الْمَنَاسِمِ (9) ، وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَسحْرَةً، مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ وَلَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَّا رَأَيْتُ مَعَهُمُ الشَّيْطَانَ، وَإِنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ عَدَاوَةَ ابْنَيْ قَيلَةَ -يَعْنِي: الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ-لَهُوٌ عَدُوٌّ اسْتَعَانَ بِعَدُوٍّ، فَقَالَ لَهُ مُطْعِمُ بْنُ عُدَيٍّ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، وَاللَّهِ مَا رأيتُ أَحَدًا أصدقَ لِسَانًا، وَلَا أَصْدَقَ مَوْعِدًا، مِنْ أَخِيكُمُ الَّذِي طَرَدْتُمْ، وَإِذْ فَعَلْتُمُ الَّذِي فَعَلْتُمْ فَكُونُوا أَكَفَّ النَّاسِ عَنْهُ. قَالَ [أَبُو سُفْيَانَ] (10) بْنُ الْحَارِثِ: كُونُوا أَشَدَّ مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ، إِنَّ (11) ابْنِيْ قيلَةَ إِنْ ظفَرُوا بِكُمْ لَمْ يرْقُبوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَإِنْ أَطَعْتُمُونِي أَلْجَأْتُمُوهُمْ خير كنابة، أو تخرجوا محمدًا
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/504) عن وكيع مرسلا، ورواه ابن سعد في الطبقات (1/182) عن وكيع مرسلا، ورواه البيهقي في دلائل النبوة (1/157) من طريق إبراهيم بن عبد الله عن وكيع مرسلا.
(2) ورواه البزار في مسنده برقم (2369) "كشف الأستار" والبيهقي في دلائل النبوة (1/158) من طريق زياد بن يحيى عن مالك بن سعيد به، وقال البزار: "لا نعلم أحدا وصله إلا مالك بن سعيد، وغيره يرسله".
(3) في ت، أ: "حسن".
(4) في أ: "عن شعبة".
(5) وذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له الألباني بالضعف.
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من أ.
(8) في ت: "أو تحاربوه".
(9) في أ: "الناس".
(10) زيادة من أ.
(11) في ت: "فإن".(5/386)
مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَيَكُونُ وَحِيدًا مَطْرُودًا، وَأَمَّا [ابْنَا قَيْلة فَوَاللَّهِ مَا هُمَا] (1) وَأَهْلُ [دَهْلَكٍ] (2) فِي الْمَذَلَّةِ إِلَّا سَوَاءً وَسَأَكْفِيكُمْ حَدَّهُمْ، وَقَالَ:
سَأمْنَحُ جَانبًا مِنِّي غَليظًا ... عَلَى مَا كَانَ مِنْ قُرب وَبُعْد ...
رجَالُ الخَزْرَجيَّة أهْلُ ذُل ... إِذَا مَا كَانَ هَزْل بَعْدَ جَدِّ ...
فَبَلَغَ ذَلِكَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْتُلَنَّهُمْ ولأصلبَنَّهم وَلَأَهْدِيَنَّهُمْ وَهُمْ كَارِهُونَ، إِنِّي رَحْمَةٌ بَعَثَنِي اللَّهُ، وَلَا يَتَوفَّاني حَتَّى يُظْهِرَ اللَّهُ دِينَهُ، لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحِي اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ" (3) .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ صَحِيحًا.
وَقَالَ الإمامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، حَدَّثَنِي عَمْرو بْنُ قَيس، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قُرّة الكِنْديّ قَالَ: كَانَ حُذيفةُ بِالْمَدَائِنِ، فَكَانَ يَذْكُرُ أَشْيَاءَ قَالَهَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ حذيفةُ إِلَى سَلْمان فَقَالَ سَلْمَانُ: يَا حذيفةَ، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم [كَانَ يَغْضَبُ فَيَقُولُ، وَيَرْضَى فَيَقُولُ: لَقَدْ عَلِمْتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم] (4) خطَب فَقَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي سَبَبتُه [سَبَّةً] (5) فِي غَضَبي أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً، فَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُونَ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَاجْعَلْهَا صَلَاةً عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنْ زَائِدَةَ (6) .
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ رَحْمَةٍ حَصَلَتْ لِمَنْ كَفَر بِهِ؟ فَالْجَوَابُ ما رواه أبو جعفر بن جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: سَعِيدٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، كُتِبَ لَهُ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عُوِفي مِمَّا أَصَابَ الْأُمَمَ مِنَ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ (7) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ أَبِي سَعْدٍ -وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ الْبَقَّالُ-عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو القاسمُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدَانَ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ عِيسَى بن يونس الرَمْلِي، عن أيوب ابن سُوَيد، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: مَنْ تَبِعَهُ كَانَ لَهُ رَحْمَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ عُوفِي مِمَّا كَانَ يُبْتَلَى بِهِ سَائِرُ الْأُمَمِ مِنَ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ (8) .
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) زيادة من ت، أ.
(3) المعجم الكبير (2/123) .
(4) زيادة من ت، أ، والمسند.
(5) زيادة من ت، أ، والمسند.
(6) المسند (5/437) وسنن أبي داود برقم (4659) .
(7) تفسير الطبري (17/83) .
(8) المعجم الكبير (12/23) .(5/387)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) } .
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ: {إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أَيْ: مُتَّبِعُونَ عَلَى ذَلِكَ، مُسْتَسْلِمُونَ مُنْقَادُونَ (1) لَهُ.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} أَيْ: تَرَكُوا مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ، {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} أَيْ: أَعْلَمْتُكُمْ أَنِّي حَرْب لَكُمْ، كَمَا أَنَّكُمْ حَرْبٌ لِي، بَرِيءٌ مِنْكُمْ كَمَا أَنَّكُمْ بُرآء مِنِّي، كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يُونُسَ: 41] . وَقَالَ {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الْأَنْفَالِ: 58] : لِيَكُنْ (2) عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِنَبْذِ الْعُهُودِ عَلَى السَّوَاءِ، وَهَكَذَا هَاهُنَا، {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} أَيْ: أَعْلَمْتُكُمْ بِبَرَاءَتِي مِنْكُمْ، وَبَرَاءَتِكُمْ مِنِّي؛ لِعِلْمِي بِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} أَيْ: هُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنْ لَا عِلْمَ لِي بِقُرْبِهِ وَلَا بِبُعْدِهِ، {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} أَيْ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ جميعَه، وَيَعْلَمُ مَا يُظْهِرُهُ الْعِبَادُ وَمَا يُسِرُّونَ، يَعْلَمُ الظَّوَاهِرَ وَالضَّمَائِرَ، وَيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَيَعْلَمُ مَا الْعِبَادُ عَامِلُونَ فِي أَجْهَارِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى الْقَلِيلِ وَالْجَلِيلِ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أَيْ: وَمَا أَدْرِي لَعَلَّ هَذَا فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَعَلَّ تَأْخِيرَ ذَلِكَ (3) عَنْكُمْ فِتْنَةٌ لَكُمْ، وَمَتَاعٌ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (4) . وَحَكَاهُ عَوْنٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أَيِ: افْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا الْمُكَذِّبِينَ بِالْحَقِّ.
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، يَقُولُونَ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الْأَعْرَافِ: 89] ، وَأَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ.
وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا شَهِدَ قِتَالًا قَالَ: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} .
وَقَوْلُهُ: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أَيْ: عَلَى مَا يَقُولُونَ وَيَفْتَرُونَ مِنَ الْكَذِبِ، وَيَتَنَوَّعُونَ فِي مَقَامَاتِ التَّكْذِيبِ والإفك، والله المستعان عليكم في ذلك (5) .
__________
(1) في ت: "متقاربين".
(2) في ت: "لكن".
(3) في أ: "هذا".
(4) تفسير الطبري (17/84) .
(5) وقع في ت: "آخر تفسير "سورة الأنبياء" عليهم السلام، ولله الحمد والمنة، عفا الله لمن نظر فيه ولكاتبه وللمسلمين أجمعين".(5/388)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحَجِّ
[وَهِيَ مَكِّيَّةٌ] (1) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) } .
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِتَقْوَاهُ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ بِمَا يُسْتَقْبَلُونَ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَزَلَازِلِهَا وَأَحْوَالِهِا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي زَلْزَلَةِ السَّاعَةِ: هَلْ هِيَ بَعْدَ قِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ نَشُورِهِمْ إِلَى عَرصَات الْقِيَامَةِ؟ أَوْ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ زَلْزَلَةِ الْأَرْضِ قَبْلَ قِيَامِ النَّاسِ مَنْ أَجْدَاثِهِمْ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا. وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 1، 2] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً * وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الْحَاقَّةِ: 14، 15] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا. فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الْوَاقِعَةِ: 4 -6] .
فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ كَائِنَةٌ فِي آخِرِ عُمُرِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلِ أَحْوَالِ السَّاعَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّار، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَة فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} ، قَالَ: قَبْلَ السَّاعَةِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ وَالْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، فَذَكَرَهُ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ، وعُبَيْد بْنِ عُمَيْر، نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ بن جَرِيرٍ مُسْتَنَدَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الصُّور، من رواية إسماعيل ابن رَافِعٍ قَاضِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلَقَ الصُّور، فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيه، شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى العَرش، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الصُّورُ؟
قَالَ: "قَرْنٌ" قَالَ: فَكَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: "قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلَاثُ نفخات، الأولى نفخة الفزع،
__________
(1) زيادة من ت.(5/389)
وَالثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعْق، وَالثَّالِثَةُ نَفْخَةُ (1) الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى فَيَقُولُ: انفخ نَفْخَةَ الْفَزَعِ. فيفزعُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَأْمُرُهُ فَيَمُدُّهَا وَيُطَوِّلُهَا وَلَا يَفْتُرُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص: 15] فَيُسير اللَّهُ الْجِبَالَ، فَتَكُونُ سَرَابًا وتُرج الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجًّا، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النَّازِعَاتِ: 6 -8] ، فَتَكُونُ الْأَرْضُ، كَالسَّفِينَةِ الْمُوبِقَةِ (2) فِي الْبَحْرِ، تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ تَكْفَؤُهَا بِأَهْلِهَا، وَكَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بِالْعَرْشِ تُرَجِّحُهُ الْأَرْوَاحُ.
فَيَمْتَدُّ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِهَا، فَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ، وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ. وَيَشِيبُ (3) الْوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً، حَتَّى تَأْتِيَ الْأَقْطَارَ، فَتَلَقَّاهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَضْرِبُ وُجُوهَهَا، فَتَرْجِعُ، وَيُوَلِّي (4) النَّاسُ مُدْبِرِينَ، يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ التَّنَادِ (5) * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غَافِرٍ: 32، 33] فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذِ انْصَدَعَتِ الْأَرْضُ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، فَرَأوا أَمْرًا عَظِيمًا، فَأَخَذَهُمْ لِذَلِكَ مِنَ الْكَرْبِ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هِيَ كَالْمُهْلِ، ثُمَّ خُسِفَ شَمْسُهَا وخُسفَ قَمَرُهَا، وَانْتَثَرَتْ نُجُومُهَا، ثُمَّ كُشِطت عَنْهُمْ" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالْأَمْوَاتُ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ حِينَ يَقُولُ: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ (6) شَاءَ اللَّهُ} [النَّمْلِ: 87] ؟ قَالَ: أُولَئِكَ الشُّهَدَاءُ، وَإِنَّمَا يَصِلُ الْفَزَعُ إِلَى الْأَحْيَاءِ، أُولَئِكَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَآمَنَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ اللَّهِ يَبْعَثُهُ عَلَى شِرَارِ خَلْقِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (7) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ (8) مُطَوَّلًا جِدًّا.
وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ (9) كَائِنَةٌ قَبْلَ يَوْمِ السَّاعَةِ، وَأُضِيفَتْ إِلَى السَّاعَةِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ هَوْلٌ وَفَزَعٌ وَزِلْزَالٌ وَبِلْبَالٌ، كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَرَصَاتِ، بَعْدَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْقُبُورِ. وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ:
الْأَوَّلُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا (10) قَتَادَةُ، عن الحسن، عن عمران [ابن] (11) حُصَين؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَقَدْ تَفَاوَتَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ السَّيْرُ، رَفَعَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ صَوْتَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}
__________
(1) في ت: "والنفخة الثالثة".
(2) في ت: "المرسية".
(3) في ت، أ: "وتشيب".
(4) في ت: "وتولي".
(5) في ت: "التنادي".
(6) في ت: "ما".
(7) تفسير الطبري (17/85) .
(8) حديث الصور سبق عند تفسير الآية 73 من سورة الأنعام.
(9) في ت: "الزلزلة له".
(10) في ت: "عن".
(11) زيادة من ت، أ، والمسند.(5/390)
فَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُهُ بِذَلِكَ حَثْوا المُطي، وَعَرَفُوا أَنَّهُ عِنْدَ قَوْلٍ يَقُولُهُ، فَلَمَّا تَأَشَّهُوا حَوْلَهُ قَالَ: " أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ ذَاكَ؟ يَوْمَ يُنَادَى آدَمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيُنَادِيهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: يَا آدَمُ، ابْعَثْ بَعْثَكَ إِلَى النَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ". قَالَ فَأَبْلَسَ أَصْحَابُهُ حَتَّى مَا أَوْضَحُوا بِضَاحِكَةٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: "أَبْشِرُوا وَاعْمَلُوا، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لَمَعَ (1) خَليقتين مَا كَانَتَا مَعَ شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَمَنْ هَلَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَبَنِي إِبْلِيسَ" قَالَ: فسُرّي عَنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ: اعْمَلُوا وَأَبْشِرُوا، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ، أَوِ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنَيْهِمَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّار، عَنْ يَحْيَى -وَهُوَ القَطَّان-عَنْ هِشَامٍ-وَهُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ-عَنْ قَتَادَةَ، بِهِ (2) بِنَحْوِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى لِهَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ (3) التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُدعان، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْن؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ (4) اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ، قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ، وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذَلِكَ؟ " فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "ذَلِكَ يَوْمٌ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ: ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ" فَأَنْشَأَ الْمُسْلِمُونَ يَبْكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَارِبُوا وسَدِّدوا، فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهَا جَاهِلِيَّةٌ" قَالَ: "فَيُؤْخَذُ الْعَدَدُ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنْ تَمَّتْ وَإِلَّا كُمّلت مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَمَا مَثَلُكُمْ وَالْأُمَمُ إِلَّا كَمَثَلِ الرَّقمة فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ، أَوْ كَالشَّامَةِ (5) فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ" ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أهل الجنة" فَكَبَّرُوا ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فَكَبَّرُوا، ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فَكَبَّرُوا، قَالَ: وَلَا أَدْرِي أَقَالَ الثُّلُثَيْنِ أَمْ لَا؟
وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ (6) ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبة عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ وَالْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ الْعَدَوِيِّ، عَنْ عمران بن الحصين (7) ، فذكره.
__________
(1) في ت: "مع".
(2) المسند (4/435) وسنن الترمذي برقم (3169) وسنن النسائي الكبرى برقم (11340) .
(3) في ت: "وقال".
(4) في ت: "يا أيها الذين آمنوا" وهو خطأ.
(5) في ت: "وكالشامة".
(6) سنن الترمذي برقم (3168) والمسند (4/432) .
(7) في ت: "ابن حصين".(5/391)
وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بُنْدَار، عَنْ غُنْدَر، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لَمَّا قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ العُسرة وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ بَعْدَ مَا شَارَفَ الْمَدِينَةَ قَرَأَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (1) ، فَذَكَرَ نَحْوَ سِيَاقِ ابْنِ جُدْعَان، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ الطَبَّاع، حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ -[يَعْنِي] (2) الْمَعْمَرِيَّ-عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ أَنْسٍ قَالَ: نَزَلَتْ: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} وَذَكَرَ -يَعْنِي: نَحْوَ سِيَاقِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ-غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَمَنْ هَلَكَ مِنْ كَفَرَةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ".
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِطُولِهِ، مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ (3) .
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ -يَعْنِي: ابْنَ الْعَوَّامِ-حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ خَبَّابٍ (4) ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَلَا (5) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَقَالَ فِيهِ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ" ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فَفَرِحُوا، وَزَادَ أَيْضًا: "وَإِنَّمَا أَنْتُمْ جُزْءٌ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ" (6) .
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادَى بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ. قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ -أَرَاهُ قَالَ-تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ (7) . فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا، وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين (8) ، وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ، ثُمَّ أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ". فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: "ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ". فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: "شَطْرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فَكَبَّرْنَا (9) .
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ (10) .
__________
(1) تفسير الطبري (17/86) .
(2) زيادة من أ.
(3) تفسير الطبري (17/87) .
(4) في ت: "ابن حبان".
(5) في ت: "قال".
(6) ورواه البزار في مسنده برقم (2235) "كشف الأستار" حدثنا أبو بكر بن إسحاق عن سعد بن سليمان به، وقال: "لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا بهذا الإسناد". وقال الهيثمي في المجمع (7/69) : "قلت في الصحيح بعضه، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير هلال بن خباب وهو ثقة".
(7) في ت: "وتسعون".
(8) في ت: "وتسعون".
(9) صحيح البخاري برقم (4741) .
(10) صحيح البخاري برقم (3348، 7483) وصحيح مسلم برقم (222) وسنن النسائي الكبرى برقم (11339) .(5/392)
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَمَّارُ (1) بْنُ مُحَمَّدٍ -ابْنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ-وَعُبَيْدَةَ الْمَعْنَى، كِلَاهُمَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن اللَّهَ يَبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنَادِيًا [يُنَادِي] (2) : يَا آدَمُ، إِنْ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَبْعَثَ بَعْثًا مِنْ ذُرِّيَّتِكَ إِلَى النَّارِ، فَيَقُولُ آدَمُ: يَا رَبِّ، مَنْ هُمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: مَنْ هَذَا النَّاجِي مِنَّا بَعْدَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ (3) : "هَلْ تَدْرُونَ مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي صَدْرِ الْبَعِيرِ" (4) .
انْفَرَدَ بِهَذَا السَّنَدِ وَهَذَا السِّيَاقِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ؛ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفاة عُرَاةً غُرْلًا". قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ، إِنَّ الْأَمْرَ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكَ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (5) .
الْحَدِيثُ السَّابِعُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْران، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَذْكُرُ الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ، أَمَّا عِنْدَ ثَلَاثٍ فَلَا أَمَّا عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يِثْقُلَ أَوْ يَخِفَّ، فَلَا. وَأَمَّا عِنْدَ تَطَايُرِ الْكُتُبِ فَإِمَّا يُعْطَى بِيَمِينِهِ أَوْ يُعْطَى بِشَمَالِهِ، فَلَا. وَحِينَ يَخْرُجُ عُنُق مِنَ النَّارِ فَيَنْطَوِي عَلَيْهِمْ، وَيَتَغَيَّظُ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُ ذَلِكَ الْعُنُقُ: وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ: وُكِّلْتُ بِمَنِ ادَّعَى مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَوُكِّلْتُ بِمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَوُكِّلْتُ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ" قَالَ: "فَيَنْطَوِي (6) عَلَيْهِمْ، وَيَرْمِيهِمْ فِي غَمَرَاتٍ، وَلِجَهَنَّمَ جِسْرٌ أَدَقُّ مِنَ الشِّعْرِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، عَلَيْهِ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ يأخُذْنَ مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالنَّاسُ عَلَيْهِ كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ: رَبِّ، سَلِّم، سَلِّم. فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُسَلَّمٌ، ومكَوّر (7) فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ (8) " (9) .
وَالْأَحَادِيثُ فِي أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، لَهَا مَوْضِعٌ آخَرُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} أَيْ: أَمْرٌ كَبِيرٌ، وَخَطْبٌ جَلِيلٌ، وَطَارِقٌ مُفْظِعٌ، وَحَادِثٌ هَائِلٌ، وَكَائِنٌ عَجِيبٌ.
وَالزِّلْزَالُ (10) : هُوَ مَا يَحْصُلُ لِلنُّفُوسِ مِنَ الْفَزَعِ، وَالرُّعْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] .
__________
(1) في ت: "عمارة".
(2) زيادة من ف، أ، والمسند.
(3) في ت: "فقال".
(4) المسند (1/388) .
(5) المسند (6/53) وصحيح البخاري برقم (6527) وصحيح مسلم برقم (2855) .
(6) في ت: "وينطوي".
(7) في أ: "ومكبوب".
(8) في ت: "وجوههم".
(9) المسند (6/110) .
(10) في ت: "والزلازل".(5/393)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} : هَذَا مِنْ بَابِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُفَسِّرًا لَهُ: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أَيْ: تَشْتَغِلُ لِهَوْلِ مَا تَرَى عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهَا، وَالَّتِي هِيَ أَشْفَقُ النَّاسِ عَلَيْهِ، تَدْهَشُ عَنْهُ فِي حَالِ إِرْضَاعِهَا لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كُلُّ مُرْضِعَةٍ} ، وَلَمْ يَقِلْ: "مُرْضِعٍ" وَقَالَ: {عَمَّا أَرْضَعَتْ} أَيْ: عَنْ رَضِيعِهَا قَبْلَ فِطَامِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أَيْ: قَبْلَ تَمَامِهِ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} وَقُرِئَ: "سَكْرَى" أَيْ: مِنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ الَّذِي [قَدْ] (1) صَارُوا فِيهِ قَدْ دَهِشَتْ عُقُولُهُمْ، وَغَابَتْ أَذْهَانُهُمْ، فَمَنْ رَآهُمْ حَسَبَ أَنَّهُمْ سُكارى، {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) } .
يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ، وَأَنْكَرَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، مُعْرِضًا عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، مُتَّبِعًا فِي قَوْلِهِ وَإِنْكَارِهِ وَكُفْرِهِ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الضَّلَالِ (2) وَالْبِدَعِ، الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ، الْمُتَّبِعِينَ لِلْبَاطِلِ، يَتْرُكُونَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَيَتَّبِعُونَ أَقْوَالَ رُءُوسِ الضَّلَالَةِ، الدُّعَاةِ إِلَى الْبِدَعِ بِالْأَهْوَاءِ وَالْآرَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي شَأْنِهِمْ وَأَشْبَاهِهِمْ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، أَيْ: عِلْمٍ صَحِيحٍ، {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ. مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الشَّيْطَانَ، يَعْنِي: كُتِبَ عَلَيْهِ كِتَابَةً قَدَرِيَّةً {أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ} أَيِ: اتَّبَعَهُ وَقَلَّدَهُ، {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أَيْ: يُضِلُّهُ فِي الدُّنْيَا وَيَقُودُهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، وَهُوَ الْحَارُّ الْمُؤْلِمُ الْمُزْعِجُ الْمُقْلِقُ.
وَقَدْ قَالَ السُّدِّيُّ، عَنِ أَبِي مَالِكٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ. وَكَذَلِكَ (3) قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سَلْمٍ (4) الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْمَحْرَمِ أَبُو قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا الْمَعْمَرُ (5) ، حَدَّثَنَا أَبُو كَعْبٍ الْمَكِّيُّ قَالَ: قَالَ خَبِيثٌ مِنْ خُبثاء قُرَيْشٍ: أَخْبِرْنَا (6) عَنْ رَبِّكُمْ، مِنْ ذَهَبٍ هُوَ، أَوْ مِنْ فِضَّةٍ هُوَ، أَوْ مِنْ نُحَاسٍ هُوَ؟ فَقَعْقَعَتِ السَّمَاءُ قَعْقَعَةً -وَالْقَعْقَعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الرَّعْدُ-فَإِذَا قِحْف رَأَسِهِ سَاقِطٌ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: جَاءَ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنَا عَنْ رَبِّكَ: مَنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ مِنْ دُرٍّ أَمْ مِنْ يَاقُوتٍ؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت: "الضلالة".
(3) في ف: "وكذا".
(4) في ت، ف: "ابن مسلم".
(5) في ت: "المعتمر".
(6) في ت: "حدثنا".(5/394)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) } .(5/395)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) } .
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمُخَالِفَ لِلْبَعْثِ، الْمُنْكِرَ لِلْمَعَادِ، ذَكَرَ تَعَالَى الدَّلِيلَ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى الْمَعَادِ، بِمَا يُشَاهَدُ مِنْ بَدْئِهِ لِلْخَلْقِ (1) ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أَيْ: فِي شَكٍّ {مِنَ الْبَعْثِ} وَهُوَ الْمَعَادُ وَقِيَامُ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أَيْ: أَصْلُ بَرْئه (2) لَكُمْ مِنْ تُرَابٍ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أَيْ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ، مَكَثَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَذَلِكَ، يُضَافُ إِلَيْهِ مَا يَجْتَمِعُ إِلَيْهَا، ثُمَّ تَنْقَلِبُ عَلَقَةً حَمْرَاءَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَتَمْكُثُ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَسْتَحِيلُ فَتَصِيرُ مُضْغَةً -قِطْعَةً مِنْ لَحْمٍ لَا شَكْلَ فِيهَا وَلَا تَخْطِيطَ-ثُمَّ يُشْرَعُ فِي التَّشْكِيلِ وَالتَّخْطِيطِ، فَيُصَوَّرُ مِنْهَا رَأْسٌ وَيَدَانِ، وَصَدْرٌ وَبَطْنٌ، وَفَخْذَانِ وَرِجْلَانِ، وَسَائِرُ الْأَعْضَاءِ. فَتَارَةً تُسقطها الْمَرْأَةُ قَبْلَ التَّشْكِيلِ وَالتَّخْطِيطِ، وَتَارَةً تُلْقِيهَا وَقَدْ صَارَتْ ذَاتَ شَكْلٍ وَتَخْطِيطٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أَيْ: كَمَا تُشَاهِدُونَهَا، {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ: وَتَارَةً تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ لَا تُلْقِيهَا الْمَرْأَةُ وَلَا تُسْقِطُهَا، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} قَالَ: هُوَ السَّقْطُ مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَهِيَ مُضْغَةٌ، أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا مَلَكًا فَنَفَخَ (3) فِيهَا الرَّوْحَ، وَسَوَّاهَا كَمَا يَشَاءُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (4) ، مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَذَكَرٍ وَأَنْثَى، وَكَتَبَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، وَشِقِّيٌ أَوْ سَعِيدٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ-:"إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجمع فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضغة مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلَمَّاتٍ: بِكَتْبِ عَمَلِهِ وَأَجَلِهِ وَرِزْقِهِ، وَشَقِّيٌ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ" (5) .
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ علقمة، عن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: النُّطْفَةُ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ، أَخَذَهَا (6) مَلَكٌ بِكَفِّهِ قَالَ (7) : يَا رَبِّ، مخلقة أو غير
__________
(1) في ت: "بما شاهد من بين يديه للخلق"، وفي ف: "بما يشاهده من بين يديه للخلق".
(2) في ت، ف: "تربه".
(3) في أ: "فينفخ".
(4) في ف، أ: "الله تعالى".
(5) صحيح البخاري برقم (6594) وصحيح مسلم برقم (2643) .
(6) في هـ، ت، ف: "جاءها"، والمثبت من الدر المنثور 3/345.
(7) في ت، ف: "فقال".(5/395)
مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قِيلَ: "غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ" لَمْ تَكُنْ نَسَمَةٌ، وَقَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا. وَإنْ قِيلَ: "مُخَلَّقَةٌ"، قَالَ: أَيْ رَبِّ، ذَكَرٌ أَوْ أَنْثَى؟ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ مَا الْأَجَلُ؟ وَمَا الْأَثَرُ؟ وَبِأَيِّ أَرْضٍ يَمُوتُ (1) ؟ قَالَ: فَيُقَالُ لِلنُّطْفَةِ: مَنْ رَبُّكِ؟ فَتَقُولُ: اللَّهُ. فَيُقَالُ: مَنْ رَازِقُكِ؟ فَتَقُولُ: اللَّهُ. فيقال له: اذهب إلى الْكِتَابِ، فَإِنَّكَ سَتَجِدُ فِيهِ قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ. قَالَ: فَتُخْلَقُ فَتَعِيشُ فِي أَجَلِهَا، وَتَأْكُلُ رِزْقَهَا، وَتَطَأُ أَثَرَهَا، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا مَاتَتْ، فَدُفِنَتْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، ثُمَّ تَلَا عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} فَإِذَا بَلَغَتْ مُضْغَةً نُكِّسَتْ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ فَكَانَتْ نَسَمَةً، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ قَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا، وَإِنْ كَانَتْ مُخَلَّقَةً نُكِّسَتْ فِي الْخَلْقِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ -يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: "يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ، وَيَكْتُبَانِ، فَيَقُولُ: أَذَكَرٌ أَمْ أَنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ وَيَكْتُبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَرِزْقُهُ وَأَجَلُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا فِيهَا وَلَا يُنْتَقَصُ (2) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمِنْ طُرُقٍ أُخَرَ، عَنِ أَبِي الطُّفَيل، بِنَحْوِ مَعْنَاهُ (3) .
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا} أَيْ: ضَعِيفًا فِي بَدَنِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَحَوَاسِّهِ، وَبَطْشِهِ وَعَقْلِهِ. ثُمَّ يُعْطِيهِ اللَّهُ الْقُوَّةَ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَلْطُفُ (4) بِهِ، وَيَحْنُنْ عَلَيْهِ وَالِدِّيَةُ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أَيْ: يَتَكَامَلُ (5) الْقُوَى وَيَتَزَايَدُ، وَيَصِلُ إِلَى عُنْفُوَانِ الشَّبَابِ وَحُسْنِ الْمَنْظَرِ.
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} ، أَيْ: فِي حَالِ شَبَابِهِ وَقَوَاهُ، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} ، وَهُوَ الشَّيْخُوخَةُ والهَرَم وَضَعْفُ الْقُوَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، وَتَنَاقُصُ الْأَحْوَالِ مِنَ الخَرَف (6) وَضَعْفِ الْفِكْرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لِكَيْلا (7) يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الرُّومِ: 54] .
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى [أَحْمَدُ] (8) بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ (9) ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الزَّيَّاتُ، حَدَّثَنِي دَاوُدُ أَبُو سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ ابن حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَفَعَ الْحَدِيثَ-قَالَ: "الْمَوْلُودُ حَتَّى يَبْلُغَ الْحِنْثَ، مَا عَمِلَ مِنْ حَسَنَةٍ، كُتِبَتْ لِوَالِدِهِ أَوْ لِوَالِدَتِهِ (10) وَمَا عَمِلَ مِنْ سَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى وَالِدَيْهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْحِنْثَ جَرَّى اللَّهُ عَلَيْهِ الْقَلَمُ أُمِرَ الْمَلِكَانِ اللَّذَانِ مَعَهُ أَنْ يَحْفَظَا وَأَنْ يُشَدِّدَا، فَإِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سنة في
__________
(1) في ف: "تموت".
(2) في ف: "ولا ينقص".
(3) صحيح مسلم برقم (2644) .
(4) في أ: "ويتلطف".
(5) في ت: "تتكامل".
(6) في ت، ف، أ: "من الحزن".
(7) في ت: "لا".
(8) زيادة من ت، ف، أ.
(9) في أ: "ابن أبي عاصم".
(10) في ت، ف: "لوالديه".(5/396)
الْإِسْلَامِ أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنَ الْبَلَايَا الثَّلَاثِ: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ. فَإِذَا بَلَغَ الْخَمْسِينَ، خَفَّفَ اللَّهُ حِسَابَهُ. فَإِذَا بَلَغَ سِتِّينَ رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ إِلَيْهِ بِمَا يُحِبُّ، فَإِذَا بَلَغَ السَّبْعِينَ أَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، فَإِذَا بَلَّغَ الثَّمَانِينَ كَتَبَ اللَّهُ حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ التسعين غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَشَفَّعَهُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وَكَانَ أَسِيرَ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، فَإِذَا بَلَغَ أَرْذَلَ الْعُمُرِ {لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ مِنَ الْخَيْرِ، فَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ" (1) .
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَفِيهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ. وَمَعَ هَذَا قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا الْفَرَجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيِّ (2) ، عَنْ عَمْرِو بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَنْسٍ قَالَ: إِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَايَا، مِنَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ (3) ، فَإِذَا بَلَغَ الْخَمْسِينَ لَيَّن اللَّهُ حِسَابَهُ، وَإِذَا بَلَغَ السِّتِّينَ رَزَقَهُ اللَّهُ إِنَابَةً يُحِبُّهُ عَلَيْهَا، وَإِذَا بَلَغَ السَّبْعِينَ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَأَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَإِذَا بَلَغَ الثَّمَانِينَ تَقَبَّلَ اللَّهُ حَسَنَاتِهِ، وَمَحَا عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ، وَإِذَا بَلَغَ التِّسْعِينَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وسمي أسير اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَشُفِّعَ فِي أَهْلِهِ (4) .
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، حَدَّثَنَا الْفَرَجُ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عبد الله بن عمر بن الخطاب، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلَهُ (5) .
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ أَبِي ذَرَّةَ (6) الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْري، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ مُعَمَّرٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلَامِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، إِلَّا صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْبَلَاءِ: الْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ (7) ..... وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، كَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءً (8) .
وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَبِيبٍ، عَنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ (9) ، عَنِ أَبِي قَتَادَةَ العُذْري، عَنِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلَامِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، إِلَّا صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْوَاعًا مِنَ الْبَلَاءِ: الْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسِينَ سَنَةً لَيَّنَ اللَّهُ لَهُ الْحِسَابَ، فَإِذَا بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ إِلَيْهِ بِمَا يُحِبُّ، فَإِذَا بَلَغَ سَبْعِينَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وسمي أَسِيرَ اللَّهِ، وَأَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ (10) ، فَإِذَا بَلَغَ الثَّمَانِينَ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ حَسَنَاتِهِ وَتَجَاوُزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِ، فَإِذَا بَلَغَ التِّسْعِينَ غَفَر لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وسُمي أسير اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَشُفِّعَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ" (11) .
__________
(1) مسند أبي يعلى (6/352) .
(2) في ت، ف: "العاملي".
(3) في ف: "البرص والجذام".
(4) المسند (2/89) .
(5) المسند (2/89)
(6) في هـ، ت، ف: "أبي بردة"، والتصويب من كتب الرجال.
(7) في ت: "أو الجذام أو البرص".
(8) المسند (3/217) وفي إسناده يوسف بن أبي ذرة وهو ضعيف.
(9) في ت: "عبد الله بن مالك".
(10) في أ: "السموات".
(11) مسند البزار برقم (3588) "كشف الأستار".(5/397)
وَقَوْلُهُ: {وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً} : هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ الْهَامِدَةَ، وَهِيَ القحلَة الَّتِي لَا نَبْتَ فِيهَا وَلَا شَيْءَ (1) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: غَبْرَاءُ مُتَهَشِّمَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَيْتَةٌ.
{فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أَيْ: فَإِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْمَطَرَ {اهْتَزَّتْ} أَيْ: تَحَرَّكَتْ وَحَيِيَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا، {وَرَبَتْ} أَيِ: ارْتَفَعَتْ لَمَّا سَكَنَ فِيهَا الثَّرَى، ثُمَّ أَنْبَتَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْأَلْوَانِ وَالْفُنُونِ، مِنْ ثِمَارٍ وَزُرُوعٍ، وَأَشْتَاتِ النَّبَاتَاتِ فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَطَعُومِهَا، وَرَوَائِحِهَا وَأَشْكَالِهَا وَمَنَافِعِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أَيْ: حَسَنِ الْمَنْظَرِ طَيِّبِ الرِّيحِ.
وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أَيِ: الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} [أَيْ: كَمَا أَحْيَا الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ وَأَنْبَتَ مِنْهَا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ؛ {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} ] (2) ، {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فُصِّلَتْ: 39] فَـ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] .
{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} أَيْ: كَائِنَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا وَلَا مِرْيَةَ، {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أَيْ: يُعِيدُهُمْ بَعْدَ مَا صَارُوا فِي قُبُورِهِمْ رِمَمًا، وَيُوجِدُهُمْ بَعْدَ الْعَدَمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 78 -80] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهز (4) ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَنْبَأَنَا يَعْلَى عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُس (5) ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزين الْعُقَيْلِيِّ -وَاسْمُهُ لَقِيط بْنُ عَامِرٍ (6) -أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَنْظُرُ إِلَى الْقَمَرِ مُخْليا بِهِ؟ " قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: "فَاللَّهُ أَعْظَمُ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: "أَمَا مَرَرْتَ بِوَادِي أَهْلِكَ مَحْلًا (7) " قَالَ: بَلَى. قَالَ: "ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا؟ ". قَالَ: بَلَى. قَالَ: "فَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَذَلِكَ آيَتُهُ فِي خَلْقِهِ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ (8) .
ثُمَّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ أَبِي رَزين العُقَيْلي قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى؟ قَالَ: "أَمَرَرْتَ بِأَرْضٍ من أرضك مُجْدبةً، ثم مررت بها
__________
(1) في ت: "التي لا ينبت فيهات شيئا".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ت: "لكثيرة".
(4) في ت: "يزيد".
(5) في ت: "عدس"، وفي ف، أ: "عدي".
(6) في ت: "ليث بن أبي عامر".
(7) في أ: "ممحلا".
(8) المسند (4/11) وسنن أبي داود برقم (4731) وسنن ابن ماجه برقم (180) .(5/398)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
مُخْصِبَةً؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "كَذَلِكَ النُّشُورُ" (1) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيس (2) بْنُ مَرْحُومٍ، حَدَّثَنَا بُكَيْر بْنُ أَبِي السُّمَيْط، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ أَبِي الْحَجَّاجِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ -دَخَلَ الْجَنَّةَ. [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (3) .
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (10) } .
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الضُّلَّالِ الْجُهَّالِ الْمُقَلِّدِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ حَالَ الدُّعَاةِ إِلَى الضَّلَالِ مِنْ رُءُوسِ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ، فَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أَيْ: بِلَا عَقْلٍ صَحِيحٍ، وَلَا نَقْلٍ صَحِيحٍ صَرِيحٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالْهَوَى.
وَقَوْلُهُ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: مُسْتَكْبِرًا عَنِ الْحَقِّ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أَيْ: لَاوِيَ عُنُقِهِ، وَهِيَ رَقَبَتُهُ، يَعْنِي: يُعْرِضُ عَمَّا يُدْعَى إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ رقَبَته اسْتِكْبَارًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذَّارِيَاتِ: 38، 39] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النِّسَاءِ: 61] ، وَقَالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 5] : وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لُقْمَانَ: 18] أَيْ: تُمِيلُهُ عَنْهُمُ اسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لُقْمَانَ: 7] .
وَقَوْلُهُ: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُقْصَدُ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَامَ التَّعْلِيلِ. ثُمَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُعَانِدِينَ (4) ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا أَنَّ هَذَا الْفَاعِلَ لِهَذَا إِنَّمَا جَبَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْخُلُقِ الَّذِي يَجْعَلُهُ مِمَّنْ يُضِلُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} وَهُوَ الْإِهَانَةُ وَالذُّلُّ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَكْبَرَ عَنِ آيَاتِ اللَّهِ لَقَّاه اللَّهُ الْمَذَلَّةَ فِي الدُّنْيَا، وَعَاقَبَهُ فِيهَا قَبْلَ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهَا أَكْبَرُ هَمّه وَمَبْلَغُ عِلْمِهِ، {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}
__________
(1) المسند (4/11)
(2) في ف، أ: "عيسى".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ت، ف: "المعاندون".(5/399)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
أَيْ: يُقَالُ لَهُ هَذَا تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِِ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدُّخَانِ: 47 -50] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنِ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا هِشَامٌ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَحَدَهُمْ يُحرق فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) } .
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا: {عَلَى حَرْفٍ} : عَلَى شَكٍّ (1) .
وَقَالَ غَيْرُهُمْ: عَلَى طَرَفٍ. وَمِنْهُ حَرْفُ الْجَبَلِ، أَيْ: طَرَفَهُ، أَيْ: دَخَلَ فِي الدِّينِ عَلَى طَرَفٍ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يُحِبُّهُ اسْتَقَرَّ، وَإِلَّا انْشَمَرَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْر (2) ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِين، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقدم الْمَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا، ونُتِجَت خيلُه، قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ. وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ، وَلَمْ تُنتَج (3) خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ سُوءٌ (4) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ إِسْحَاقَ القُمِّي، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيُسْلِمون، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَإِنْ وَجَدُوا عَامَ غَيث وَعَامَ خِصْبٍ وَعَامَ وَلَادٍ حَسَنٍ، قَالُوا: "إِنَّ دِينَنَا هَذَا لَصَالِحٌ، فتمَسَّكُوا بِهِ". وَإِنْ وَجَدُوا عَامَ جُدوبة وَعَامَ وِلَادٍ سَوء وَعَامَ قَحْطٍ، قَالُوا: "مَا فِي دِينِنَا هَذَا خَيْرٌ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} .
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا قَدم الْمَدِينَةَ، وَهِيَ أَرْضٌ وَبِيئَةٌ (5) ، فَإِنْ صَحَّ بِهَا جِسْمُهُ، ونُتِجت فَرَسُهُ مُهْرًا حَسَنًا، وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا، رَضِيَ بِهِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَقَالَ: "مَا أَصَبْتُ مُنْذُ كنتُ عَلَى دِينِي هَذَا إِلَّا خَيْرًا". وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ -وَالْفِتْنَةُ: الْبَلَاءُ-أَيْ: وَإِنْ أَصَابَهُ وَجَعُ المدينة،
__________
(1) في ت: "على شدة".
(2) في ف: "ابن أبي بكر".
(3) في ت، ف: "ينتج".
(4) صحيح البخاري برقم (4742) .
(5) في هـ، ت: "وهم أرض دونه" والمثبت من ف، أ.(5/400)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ جَارِيَةً، وَتَأَخَّرَتْ عَنْهُ الصَّدَقَةُ، أَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَصَبْتُ مُنْذُ كُنْتُ عَلَى دِينِكَ هَذَا إِلَّا شَرًّا. وَذَلِكَ الْفِتْنَةُ.
وَهَكَذَا ذَكَرَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُريج، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ الْمُنَافِقُ، إِنْ صَلُحَتْ لَهُ دُنْيَاهُ أَقَامَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَإِنْ فَسَدَتْ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَتَغَيَّرَتْ، انْقَلَبَ فَلَا يُقِيمُ عَلَى الْعِبَادَةِ إِلَّا لِمَا صَلُحَ مِنْ دُنْيَاهُ، فَإِنْ (1) أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ أَوْ شِدَّةٌ أَوِ اخْتِبَارٌ أَوْ ضِيقٌ، تَرَكَ دِينَهُ وَرَجَعَ إِلَى الْكُفْرِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} أَيِ: ارْتَدَّ كَافِرًا.
وَقَوْلُهُ: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} أَيْ: فَلَا هُوَ حَصَل مِنَ الدُّنْيَا عَلَى شَيْءٍ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، فَهُوَ فِيهَا فِي غَايَةِ الشَّقَاءِ وَالْإِهَانَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أَيْ: هَذِهِ هِيَ الْخَسَارَةُ الْعَظِيمَةُ، وَالصَّفْقَةُ الْخَاسِرَةُ.
وَقَوْلُهُ: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} أَيْ: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، يَسْتَغِيثُ بِهَا وَيَسْتَنْصِرُهَا وَيَسْتَرْزِقُهَا، وَهِيَ لَا تَنْفَعُهُ وَلَا تَضُرُّهُ، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} أَيْ: ضَرَرُهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فِيهَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَضَرَرُهُ مُحَقَّقٌ مُتَيَقَّنٌ.
وَقَوْلُهُ: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} : قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْوَثَنَ، يَعْنِي: بِئْسَ هَذَا الَّذِي دَعَا بِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَوْلًى، يَعْنِي: وَلِيًّا وَنَاصِرًا، {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} وَهُوَ الْمُخَالِطُ وَالْمُعَاشِرُ.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ: لَبِئْسَ ابْنُ الْعَمِّ وَالصَّاحِبُ مَنْ يَعْبُدُ [اللَّهَ] (2) عَلَى حَرْفٍ، {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}
وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَثَنُ، أَوْلَى وَأَقْرَبُ إِلَى سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) } .
لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ الضَّلَالَةِ الْأَشْقِيَاءَ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْأَبْرَارِ السُّعَدَاءِ، مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَصَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِأَفْعَالِهِمْ، فَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، [وَتَرَكُوا الْمُنْكَرَاتِ] (3) فَأَوْرَثَهُمْ ذَلِكَ سُكْنَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ، فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَضَلَّ أُولَئِكَ، وَهَدَى هَؤُلَاءِ، قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
__________
(1) في ت، ف، أ: "فإذا".
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) زيادة من ف، أ.(5/401)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) }(5/402)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
{وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} أَيْ: بِحَبْلٍ {إِلَى السَّمَاءِ} أَيْ: سَمَاءِ بَيْتِهِ، {ثُمَّ ليَقْطَعْ} يَقُولُ: ثُمَّ لِيَخْتَنِقْ بِهِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {فَلْيَمْدُدْ (1) بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} أَيْ: لِيَتَوَصَّلْ إِلَى بُلُوغِ السَّمَاءِ، فَإِنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا يَأْتِي مُحَمَّدًا مِنَ السَّمَاءِ، {ثُمَّ لِيَقْطَعْ} ذَلِكَ عَنْهُ، إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ أَوْلَى وَأَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى، وَأَبْلَغُ فِي التَّهَكُّمِ؛ فَإِنَّ الْمَعْنَى: مَنْ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِنَاصِرٍ مُحَمَّدًا وَكِتَابَهُ وَدِينَهُ، فَلْيَذْهَبْ فَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ غَائِظَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ لَا مَحَالَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غَافِرٍ: 51، 52] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}
قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: مِنْ شَأْنِ مُحَمَّدٍ (2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يَشْفِي ذَلِكَ مَا يَجِدُ فِي صَدْرِهِ مِنَ الْغَيْظِ.
وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ} أَيِ: الْقُرْآنَ {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أَيْ: وَاضِحَاتٍ فِي لَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا، حُجَّةً مِنَ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} أَيْ: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ (3) الْقَاطِعَةُ فِي ذَلِكَ، {لَا (4) يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 23] ، أَمَّا هُوَ فَلِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَعِلْمِهِ وَقَهْرِهِ وَعَظَمَتِهِ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ أَهْلِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالصَّابِئِينَ -وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" التَّعْرِيفَ بِهِمْ، واختلافَ النَّاسِ فِيهِمْ-وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا فَعَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ مَعَهُ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ (5) ، فَيُدْخِلُ مَنْ آمَنَ بِهِ الْجَنَّةَ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ (6) النَّارَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى شَهِيدٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، حَفِيظٌ لِأَقْوَالِهِمْ، عليم بسرائرهم، وما تُكِن ضمائرهم.
__________
(1) في ت: "وليمدد".
(2) في ت: "محمدا".
(3) في ت: "وله الحجة".
(4) في ت: "ولا".
(5) في ت: "بالعذاب".
(6) في ت، أ: "إلى".(5/402)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) } .
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُ يَسْجُدُ (1) لِعَظَمَتِهِ كُلُّ شَيْءٍ طَوْعًا وَكَرْهًا وَسُجُودُ [كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا] (2) يَخْتَصُّ بِهِ، كَمَا قَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا (3) إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النَّحْلِ: 48] . وَقَالَ هَاهُنَا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ} أَيْ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي أَقْطَارِ السموات، وَالْحَيَوَانَاتِ فِي جَمِيعِ الْجِهَاتِ، مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الْإِسْرَاءِ: 44] .
وَقَوْلُهُ: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ} : إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ عَلَى التَّنْصِيصِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ عُبدت مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَبَيَّنَ أَنَّهَا تَسْجُدُ لِخَالِقِهَا، وَأَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ مُسَخَّرَةٌ {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فُصِّلَتْ: 37] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟ ". قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ، ثُمَّ تُسْتَأْمَرُ فَيُوشِكُ أَنْ يُقَالَ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ" (4) .
وَفِي الْمُسْنَدِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ خَلْقان مِنْ خَلْق اللَّهِ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا تَجَلى لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ (5) لَهُ" (6) .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ، إِلَّا يَقَعُ لِلَّهِ سَاجِدًا حِينَ يَغِيبُ، ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ، فَيَأْخُذَ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَطْلَعِهِ.
وَأَمَّا الْجِبَالُ وَالشَّجَرُ فَسُجُودُهُمَا بفَيء ظِلَالِهِمَا (7) عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ، كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فسجدتُ فسجَدَت الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فسمعتُها وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ، اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِيَ بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ. قَالَ ابْنُ عباس: فقرأ
__________
(1) في ت: "سجد".
(2) زيادة من ف.
(3) في ت: "يرى".
(4) صحيح البخاري برقم (4803) وصحيح مسلم برقم (159) .
(5) في ف، أ: "خضع".
(6) المسند (4/267) وسنن أبي داود برقم (1177) وسنن النسائي (14113) وسنن ابن ماجه برقم (1262) .
(7) في ت: "فسجودها على ظلالها".(5/403)
النَّبِيُّ (1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَةً ثُمَّ سَجَد، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يقولُ مثلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (2) .
وَقَوْلُهُ: {وَالدَّوَابُّ} أَيِ: الْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ ظُهُورِ الدَّوَابِّ (3) مَنَابِرَ (4) فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ (5) وَأَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ مِنْ رَاكِبِهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} أَيْ: يَسْجُدُ لِلَّهِ طَوْعًا مُخْتَارًا مُتَعَبِّدًا بِذَلِكَ، {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} أَيْ: مِمَّنِ امْتَنَعَ وَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَيْبَانَ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَدَّاحُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قِيلَ لَعَلِّيٍّ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَشِيئَةِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، خَلَقَكَ اللَّهُ كَمَا يَشَاءُ أَوْ كَمَا شِئْتَ (6) ؟ قَالَ: بَلْ كَمَا شَاءَ. قَالَ: فَيُمَرِّضُكَ إِذَا شَاءَ أَوْ إِذَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلْ إِذَا شَاءَ. قَالَ: فَيَشْفِيكَ إِذَا شَاءَ أَوْ إِذَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلْ إِذَا شَاءَ. قَالَ: فَيُدْخِلُكَ حَيْثُ شِئْتَ أَوْ حَيْثُ يَشَاءُ؟ قَالَ: بَلْ حَيْثُ يَشَاءُ. قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ قُلْتَ غَيْرَ ذَلِكَ لضربتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ بِالسَّيْفِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا قَرَأَ ابنُ آدَمَ السَّجْدَةَ اعْتَزَلَ (7) الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ. أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ، فَلَهُ الْجَنَّةُ، وأمِرتُ بِالسُّجُودِ فأبيتُ، فَلِيَ النَّارُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (8) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا مَشْرَح بْنُ هَاعَانَ (9) أَبُو مُصعب الْمُعَافِرِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عُقَبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ عَلَى سَائِرِ الْقُرْآنِ بِسَجْدَتَيْنِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ بِهِمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ، بِهِ (10) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "لَيْسَ بِقَوِيٍّ (11) " وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ فَإِنَّ ابْنَ لَهِيعة قَدْ صَرح فِيهِ بِالسَّمَاعِ، وَأَكْثَرُ مَا نَقَموا عَلَيْهِ تدليسه.
__________
(1) في ت: "رسول الله".
(2) سنن الترمذي برقم (579) وسنن ابن ماجه برقم (1053) وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
(3) في ف، أ: "الحيوانات".
(4) ورواه أبو داود في السنن برقم (2567) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) في ف: "خيرا".
(6) في ت، ف: "لما يشاء أو لما شئت".
(7) في ف: "فاعتزل".
(8) صحيح مسلم برقم (81) .
(9) في أ: "عاهان".
(10) المسند (4/151) وسنن أبي داود برقم (1402) وسنن الترمذي برقم (578) .
(11) في ف: "ليس هو بقوي".(5/404)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرح، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ جَشِب (1) ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدان؛ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فُضِّلت سُورَةُ الْحَجِّ عَلَى الْقُرْآنِ بِسَجْدَتَيْنِ".
ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقَدْ أسندَ هَذَا، يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا يَصِحُّ (2) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عَنَانٍ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، حَدَّثَنِي أَبُو الْجَهْمِ: أَنَّ عُمَرَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ بِالْجَابِيَةِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ فُضِّلَتْ بِسَجْدَتَيْنِ (3) .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ العُتَقيّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنَين، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي المُفَصّل، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ (4) . فَهَذِهِ (5) شَوَاهِدُ يَشُدّ بَعْضُهَا بَعْضًا.
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) } .
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ (6) حَدِيثِ أَبِي مِجْلَز، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَاد، عَنِ أَبِي ذَرٍّ؛ أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وصاحِبَيه، وعتبةَ وَصَاحِبَيْهِ، يَوْمَ بَرَزُوا فِي بَدْرٍ (7) .
لَفْظُ الْبُخَارِيِّ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا، ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَال، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلز عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَاد، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ قَيْسٌ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} ، قَالَ: هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: عليّ وحمزة وعبيدة، وشيبة ابن رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ (8) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ: اخْتَصَمَ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَكِتَابُنَا قبل كتابكم. فنحن أولى بالله
__________
(1) في ف، أ: "جيب".
(2) المراسيل برقم (78) .
(3) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (2/317) من طريق نافع عن رجل من أهل مصر أنه صلى مع عمر بن الخطاب فذكر مثله.
(4) سنن أبي داود برقم (1401) وسنن ابن ماجه برقم (1057) .
(5) في ف: "فهو".
(6) في ت: "عن".
(7) صحيح البخاري برقم (4743) وصحيح مسلم برقم (3033) .
(8) صحيح البخاري برقم (4744) .(5/405)
مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ كُلِّهَا، وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ. فَأَفْلَجَ اللَّهُ الإسلامَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ، وَأَنْزَلَ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} . وَكَذَا رَوَى العَوفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ: مُصدق وَمُكَذِّبٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَثَلُ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ اخْتَصَمَا فِي الْبَعْثِ. وَقَالَ -فِي رِوَايَةٍ: هُوَ وَعَطَاءٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ-: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ: هِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، قَالَتِ النَّارَ: اجْعَلْنِي لِلْعُقُوبَةِ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: اجْعَلْنِي لِلرَّحْمَةِ.
وقولُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْكَافِرُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ، يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وَيَنْتَظِمُ فِيهِ قِصَّةُ يَوْمِ بَدْرٍ وَغَيْرُهَا؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُونَ نُصْرَةَ دِينِ اللَّهِ، وَالْكَافِرُونَ يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِ الْإِيمَانِ وخذلانَ الْحَقِّ وَظُهُورَ الْبَاطِلِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ حَسَن؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} أَيْ: فُصِّلَتْ لَهُمْ مُقَطَّعَاتٌ مِنْ نَارٍ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مِنْ نُحَاسٍ وَهُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ حَرَارَةً إِذَا حَمِيَ.
{يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} أَيْ: إِذَا صُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ [بْنُ جُبَيْرٍ] (1) هُوَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ، أَذَابَ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الشَّحْمِ وَالْأَمْعَاءِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَكَذَلِكَ تَذُوبُ (2) جُلُودُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدٌ: تَسَاقَطَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَبُو إِسْحَاقَ الطالَقاني، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ (3) ، عَنِ أَبِي السَّمْح، عَنِ ابْنِ (4) حُجَيرة، عَنْ أَبِي هُرَيرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: "إِنْ الْحَمِيمَ ليُصَب عَلَى رُءُوسِهِمْ، فينفُد الجمجمةَ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ، فَيَسْلِتُ (5) مَا فِي جَوْفِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ الصِّهْرُ، ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ (6) ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، بِهِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحَوَاريّ، سَمِعْتُ عَبْدَ الله ابن السُّرِّيّ قَالَ: يَأْتِيهِ الْمَلَكُ يَحْمِلُ الْإِنَاءَ بِكَلْبتين مِنْ حَرَارَتِهِ، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْ وَجْهِهِ تَكَرَّهَهُ، قال: فيرفع مِقْمَعَة معه فيضرب
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف: "يذوب".
(3) في ت، ف: "زيد".
(4) في ت: "أبي".
(5) في أ: "فيسلت".
(6) تفسير الطبري (17/100) وسنن الترمذي برقم (2582) .(5/406)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
بِهَا رَأْسَهُ، فَيُفرغ (1) دِمَاغَهُ، ثُمَّ يُفرغ (2) الْإِنَاءَ مِنْ دِمَاغِهِ، فَيَصِلُ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ دِمَاغِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}
وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا دَرَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ أَنَّ مِقْمَعا مِن حَديد وُضِع فِي (3) الْأَرْضِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ الثَّقَلَانِ مَا أقَلُّوه مِنَ الْأَرْضِ" (4) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا (5) دَرَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ ضُرب الجبلُ بمِقْمَع مِنْ حَدِيدٍ، لَتَفَتَّتَ ثُمَّ عَادَ كَمَا كَانَ، وَلَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاق يُهَرَاق فِي الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أَهْلُ الدُّنْيَا" (6) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} قَالَ: يُضْرَبُونَ بِهَا، فَيَقَعُ كُلُّ عُضْوٍ عَلَى حِيَالِهِ، فَيَدْعُونَ (7) بِالثُّبُورِ.
وَقَوْلُهُ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} : قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنِ أَبِي ظِبْيان، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: النَّارُ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ، لَا يُضِيءُ لَهَبُهَا وَلَا جَمْرُهَا، ثُمَّ قَرَأَ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ لَا يَتَنَفَّسُونَ.
وَقَالَ الفُضيل (8) بْنُ عِيَاضٍ: وَاللَّهِ مَا طَمِعُوا فِي الْخُرُوجِ، إِنَّ الْأَرْجُلَ لَمُقَيَّدَةٌ، وَإِنَّ الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَلَكِنْ يَرْفَعُهُمْ لَهَبُهَا، وَتَرُدُّهُمْ (9) مَقَامِعُهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} كَقَوْلِهِ {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السَّجْدَةِ: 20] وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّهُمْ يُهَانُونَ بِالْعَذَابِ قَوْلًا وَفِعْلًا.
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) } .
__________
(1) في ت، ف: "فيقرع".
(2) في ت: "يقرع".
(3) في ت: "على".
(4) المسند (3/29) .
(5) في ت، ف: "عن".
(6) المسند (3/83) ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(7) في ت، ف: "فيدعو".
(8) في ت: "الفضل".
(9) في ف: "ويردهم".(5/407)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) } .
لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ حَالِهِمْ، وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ والنَّكال(5/407)
وَالْحَرِيقِ وَالْأَغْلَالِ، وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الثِّيَابِ مِنَ النَّارِ، ذَكَرَ حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ -نَسْأَلُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ-فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أَيْ: تتخَرّق فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا، يَصْرِفُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا وَأَيْنَ شَاءُوا، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} مِنَ الْحِلْيَةِ، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} أَيْ: فِي أَيْدِيهِمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ: "تَبْلُغُ الحِلْيَة مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضُوء" (1) .
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مَلَكًا لَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَهُ لسميتُه، يَصُوغُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ الْحُلِيَّ مُنْذُ خَلَقَهُ اللَّهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَوْ أُبْرِزَ قُلْب مِنْهَا -أَيْ: سِوَارٌ مِنْهَا-لَرَدَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ، كَمَا تَرُدُّ (2) الشَّمْسُ نُورَ الْقَمَرِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} : فِي مُقَابَلَةِ ثِيَابِ أَهْلِ النَّارِ الَّتِي فُصِّلَتْ لَهُمْ، لِبَاسُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْحَرِيرِ، إِسْتَبْرَقِهِ وسُنْدُسه، كَمَا قَالَ: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا. إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الْإِنْسَانِ: 21، 22] ، وَفِي الصَّحِيحِ: "لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ" (3) .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: وَمَنْ لَمْ يَلْبَسِ الْحَرِيرَ فِي الْآخِرَةِ، لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}
وَقَوْلُهُ: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} كَقَوْلِهِ {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إِبْرَاهِيمَ: 23] ، وَقَوْلِهِ: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرَّعْدِ: 23، 24] ، وَقَوْلِهِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} [الْوَاقِعَةِ: 25، 26] ، فَهُدُوْا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَسْمَعُونَ فِيهِ الْكَلَامَ الطَّيِّبَ، {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الْفُرْقَانِ: 75] ، لَا كَمَا يُهَانُ أَهْلُ النَّارِ بِالْكَلَامِ الَّذِي يُرَوّعون بِهِ (4) وَيُقَرَّعُونَ بِهِ، يُقَالُ لَهُمْ: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}
وَقَوْلُهُ: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أَيْ: إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَحْمَدُونَ فِيهِ رَبَّهُمْ، عَلَى مَا أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَنْعَمَ بِهِ وَأَسْدَاهُ إِلَيْهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: "إِنَّهُمْ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ".
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أَيِ: الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ، {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أَيِ: الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الدُّنْيَا. وَكُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي ما ذكرناه، والله أعلم.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (246) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) في ف: "يرد".
(3) الحديث في صحيح البخاري برقم (5426) وصحيح مسلم برقم (2067) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(4) في ت: "يوبخون فيه"، وفي ف، أ: "يوبخون به".(5/408)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّارِ فِي صَدّهم الْمُؤْمِنِينَ عَنْ إِتْيَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَضَاءِ مَنَاسِكِهِمْ فِيهِ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُمُ أَوْلِيَاؤُهُ: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الْأَنْفَالِ: 34] .
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ [عَلَى] (1) أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ": {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 217] ، وَقَالَ: هَاهُنَا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أَيْ: وَمِنْ صِفَتِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمُ أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَيْ: وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَنْ أَرَادَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرَّعْدِ: 28] أَيْ: وَمِنْ صِفَتِهِمُ أَنَّهُمْ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [أَيْ: يَمْنَعُونَ النَّاسَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ شَرْعَا سَوَاءً، لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُقِيمِ فِيهِ وَالنَّائِي عَنْهُ الْبَعِيدِ الدَّارِ مِنْهُ، {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} ] (2) وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِوَاءُ النَّاسِ فِي رِبَاعِ مَكَّةَ وَسُكْنَاهَا، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قَالَ: يَنْزِلُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ [فِي قَوْلِهِ] (3) : {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} : أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ فِي الْمَنَازِلِ. وَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ [بْنِ أَسْلَمَ] (4) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ: سَوَاءٌ فِيهِ أَهْلُهُ وَغَيْرُ أَهْلِهِ.
وَهَذِهِ المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهَويه بِمَسْجِدِ الخِيف، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَاضِرٌ (5) أَيْضًا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ (6) إِلَى أَنَّ رِبَاعَ مَكَّةَ تُمَلَّكُ وَتُوَرَّثُ وَتُؤَجَّرُ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَين، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنْزِلُ غَدًا فِي دَارِكَ (7) بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقيل مِنْ رِبَاعٍ". ثُمَّ قَالَ: "لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ". وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرّج فِي الصَّحِيحَيْنِ (8) [وَبِمَا ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اشْتَرَى مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ دَارًا بِمَكَّةَ، فَجَعَلَهَا سِجْنًا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ.
وَذَهَبَ إِسْحَاقُ بن راهَويه إلا أَنَّهَا تُوَرَّثُ وَلَا تُؤَجَّرُ. وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ من السلف، ونص عليه
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من ف.
(3) زيادة من ف، أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ت: "حاضرا".
(6) في ف: "رضي الله عنه"، وفي أ: "رضي الله تعالى عنه".
(7) في ف: "بدارك".
(8) صحيح البخاري برقم (6764) وصحيح مسلم برقم (1614) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.(5/409)
مجاهد وعطاء، واحتج إسحاق بن راهَويه بِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة، عن عيسى ابن يُونُسَ، عَنْ عُمَر بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَين (1) ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلة قَالَ: تُوُفي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمَا تُدْعَى رِبَاعُ مَكَّةَ إِلَّا] (2) السَّوَائِبَ، مَنِ احْتَاجَ سَكَنَ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ (3) .
وَقَالَ عَبْدُ الرزاق ابْنِ مُجَاهِدٍ، عَنِ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ بَيْعُ دَوْرِ مَكَّةَ وَلَا كِرَاؤُهَا.
وَقَالَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: كَانَ عَطَاءٌ يَنْهَى عَنِ الْكِرَاءِ فِي الْحَرَمِ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كان ينهي عن تُبوّب دُورُ مَكَّةَ؛ لِأَنْ يَنْزِلَ الْحَاجُّ فِي عَرَصاتها، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَوّب دَارَهُ سُهَيل بْنُ عَمْرٍو، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَنْظِرْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً تَاجِرًا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ بَابَيْنِ يَحْبِسَانِ لِي ظَهْرِي قَالَ: فَذَلِكَ إِذًا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، لَا تَتَّخِذُوا لِدَوْرِكُمْ أَبْوَابًا لِيَنْزِلَ الْبَادِي حَيْثُ يَشَاءُ (4) .
قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مَعْمر، عَمَّنْ سَمِعَ عَطَاءً يَقُولُ [فِي قَوْلِهِ] (5) : {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} ، قَالَ: يَنْزِلُونَ حَيْثُ شَاءُوا.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا (6) مَنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ أَكَلَ نَارًا (7) .
"وَتَوَسَّطَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ [فِيمَا نَقَلَهُ صَالِحٌ ابْنُهُ] (8) فَقَالَ: تُمَلَّكُ وَتُوَرَّثُ وَلَا تُؤَجَّرُ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: الْبَاءُ هَاهُنَا زَائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 20] أَيْ: تُنْبِتُ الدُّهْنَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ (9) } تَقْدِيرُهُ إِلْحَادًا، وَكَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
ضَمنَتْ بِرِزْقِ عِيَالِنَا أرْماحُنا ... بَيْنَ المَرَاجِل، والصّريحَ الْأَجْرَدِ (10)
وَقَالَ الْآخَرُ:
بوَاد يَمانِ يُنْبتُ الشَّثّ صَدْرُهُ ... وَأسْفَله بالمَرْخ والشَّبَهَان ...
__________
(1) في ت: "جبير"، وفي ف، أ: "حيوة".
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) سنن ابن ماجه برقم (3107) وهو مرسل.
(4) في ت، ف: "شاء".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ف، أ: "مرفوعا".
(7) سنن الدارقطني (2/300)
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في ف، أ: "بإلحاد بظلم".
(10) البيت في تفسير الطبري (17/103) غير منسوب.(5/410)
وَالْأَجْوَدُ أَنَّهُ ضَمَّنَ الْفِعْلَ هَاهُنَا مَعْنَى "يَهُمّ"، وَلِهَذَا (1) عَدَّاهُ بِالْبَاءِ، فَقَالَ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} أَيْ: يَهُمّ فِيهِ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ مِنَ الْمَعَاصِي الْكِبَارِ.
وَقَوْلُهُ: {بِظُلْمٍ} أَيْ: عَامِدًا قَاصِدًا أَنَّهُ ظُلْمٌ لَيْسَ بِمُتَأَوِّلٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ (2) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ [التَّعَمُّدُ] (3) .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {بِظُلْمٍ} بِشِرْكٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْ يُعْبَدَ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {بِظُلْمٍ} هُوَ أَنْ تَستحلَ مِنَ الْحَرَمِ مَا حَرّم اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ لِسَانٍ أَوْ قَتْلٍ، فَتَظْلِمَ مَنْ لَا يَظْلِمُكَ، وَتَقْتُلَ مَنْ لَا يَقْتُلُكَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ [لَهُ] (4) الْعَذَابُ الْأَلِيمُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {بِظُلْمٍ} : يَعْمَلُ فِيهِ عَمَلًا سَيِّئًا.
وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْحَرَمِ أَنَّهُ يعاقَب الْبَادِي فِيهِ الشَّرَّ، إِذَا كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُوقِعْهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَان، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنِ السُّدِّي: أَنَّهُ سَمِعَ مُرَّة يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ-فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلا أَرَادَ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ، وَهُوَ بعَدَن أبينَ، أَذَاقَهُ (5) اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ.
قَالَ شُعْبَةُ: هُوَ رَفَعَهُ لَنَا، وَأَنَا لَا أَرْفَعُهُ لَكُمْ. قَالَ يَزِيدُ: هُوَ قَدْ رَفَعَهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، بِهِ (6) .
[قُلْتُ: هَذَا الْإِسْنَادُ] (7) صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَوَقْفُهُ أَشْبَهُ مِنْ رَفْعِهِ؛ وَلِهَذَا صَمم شُعْبَةُ عَلَى وَقْفه مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَسْبَاطٌ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ السُّدِّيُّ، عَنْ مُرَّة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَهُمُّ بِسَيِّئَةٍ فَتُكْتَبُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بعَدَن أبينَ هَمّ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا بِهَذَا الْبَيْتِ، لَأَذَاقَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزاحم.
وَقَالَ سُفْيَانُ [الثَّوْرِيُّ] (8) ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ "إِلْحَادٌ فِيهِ"، لَا وَاللَّهِ، وَبِلَى وَاللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، مثله.
__________
(1) في ف: "ولذا".
(2) في ت: "جرير".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ت، ف، أ: "لأذاقه".
(6) المسند (1/428)
(7) زيادة من ف، أ.
(8) زيادة من ف.(5/411)
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَير: شَتْمُ الْخَادِمِ ظُلْمٌ فَمَا فوقَه.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَان، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قَالَ: تِجَارَةُ الْأَمِيرِ فِيهِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: بَيْعُ الطَّعَامِ [بِمَكَّةَ] (1) إِلْحَادٌ.
وَقَالَ حَبِيبُ (2) بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قَالَ: الْمُحْتَكِرُ بِمَكَّةَ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ الْجَوْهَرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَمِّهِ عُمَارَةَ بْنِ ثَوْبَانَ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ بَاذَانَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ" (3) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْر (4) ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بَعَثَهُ مَعَ رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا مُهَاجِرٌ وَالْآخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَافْتَخَرُوا فِي الْأَنْسَابِ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَقَتَلَ الْأَنْصَارِيَّ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وهَرَب إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَتْ فِيهِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} يَعْنِي: مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ بِإِلْحَادٍ يَعْنِي بِمَيْلٍ عَنِ الْإِسْلَامِ.
وَهَذِهِ الْآثَارُ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْإِلْحَادِ، ولكنْ هُو أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ فِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهَا، وَلِهَذَا لَمَّا هَمَّ أَصْحَابُ الْفِيلِ عَلَى تَخْرِيبِ الْبَيْتِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الْفِيلِ: 4، 5] ، أَيْ: دمَّرهم وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِكُلِّ مَنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ؛ وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ خُسِف بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ" الْحَدِيثَ (5) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسة، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ أَبِيهِ قَالَ: أَتَى عبدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عبدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ، إِيَّاكَ وَالْإِلْحَادَ فِي حَرَم اللَّهِ، فَإِنِّي سمعتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "إِنَّهُ سيلحدُ فِيهِ رَجُلٌ مَنْ قُرَيْشٍ، لَوْ تُوزَن ذُنُوبُهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَرَجَحَتْ"، فَانْظُرْ لَا تَكُنْ هُوَ (6) .
وَقَالَ أَيْضًا [فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ] (7) : حَدَّثَنَا هاشم، حدثنا إسحاق بن سعيد،
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) في ت: "جندب".
(3) ورواه أبو داود في السنن برقم (2020) ، والفاكهي في تاريخ مكة برقم (1771) من طريق أبي عاصم به.
(4) في ت، ف: "بكر".
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (2118) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6) المسند (2/136)
(7) زيادة من ف، أ.(5/412)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: أَتَى عبدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ابنَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الحِجْر فَقَالَ: يَا بْنَ الزُّبَيْرِ، إِيَّاكَ والإلحادَ فِي الْحَرَمِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لسَمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَحِلُّهَا وَيَحِلُّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَوْ وُزنت ذُنُوبُهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَوَزَنَتْهَا". قَالَ: فَانْظُرْ لَا تَكُنْ (1) هُوَ (2) .
وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) } .
هَذَا فِيهِ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَأَشْرَكَ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ، فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي أسسّتْ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَوأ إِبْرَاهِيمَ مكانَ الْبَيْتِ، أَيْ: أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ، وَسَلَّمَهُ لَهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي بِنَائِهِ.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ قَبْلَهُ"، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (3) عَنِ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "بَيْتُ الْمَقْدِسِ". قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ سَنَةً" (4) .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيم} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 96، 97] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الْبَقَرَةِ: 125] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ مَا وَرَدَ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ مِنَ الصِّحَاحِ وَالْآثَارِ، بِمَا أَغْنَى عَنِ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا (5) .
وَقَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي} أَيِ: ابْنه عَلَى اسْمِي وَحْدِي، {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مِنَ الشِّرْكِ، {لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أَيِ: اجْعَلْهُ خَالِصًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
فَالطَّائِفُ بِهِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَخَصُّ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْعَلُ بِبُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ سِوَاهَا، {وَالْقَائِمِينَ} أَيْ: فِي الصَّلَاةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فَقَرَنَ الطَّوَافَ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُشْرَعَانِ إِلَّا مُخْتَصَّيْنِ بِالْبَيْتِ، فَالطَّوَافُ عِنْدَهُ، وَالصَّلَاةُ إِلَيْهِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنَ الصَّلَاةِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَفِي الْحَرْبِ، وَفِي النَّافِلَةِ فِي السِّفْرِ، وَاللَّهُ أعلم.
__________
(1) في ت: "لا يكون" وفي ف: "لا تكون".
(2) المسند (21912) .
(3) في ف: "الصحيحين".
(4) صحيح البخاري برقم (3366) وصحيح مسلم برقم (520)
(5) انظر تفسير الآية: 125 من سورة البقرة.(5/413)