الرابع: لازم، والعرب تقول طين لازب ولازم، وقال النابغة:
(ولا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازب)
نزلت هذه الآية في ركانة بن زيد بن هاشم بن عبد مناف وأبي الأشد ابن أسيد بن كلاب الجمحي. قوله عز وجل: {بل عجبت ويسخرون} وفي {عجبت} قراءتان: إحداهما: بضم التاء , قرأ بها حمزة والكسائي , وهي قراءة ابن مسعود , ويكون التعجب مضافاً إلى الله تعالى , وإن كان لا يتعجَّبُ من شيء لأن التعجب من حدوث العلم بما لم يعلم , واللَّه تعالى عالم بالأشياء قبل كونها. وفي تأويل ذلك على هذه القراءة وجهان: أحدهما: يعني بل أنكرت حكاه النقاش. الثاني: هو قول علي بن عيسى أنهم قد حلّوا محل من يتعجب منه. والقراءة الثانية: بفتح التاء قرأ بها الباقون , وأضاف التعجب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال: بل عجبت يا محمد , قاله قتادة. وفيما عجبت منه قولان: أحدهما: من القرآن حين أعطيه، قاله قتادة. الثاني: من الحق الذي جاءهم به فلم يقبلوه، وهو معنى قول ابن زياد. وفي قوله {وتسخرون} وجهان: أحدهما: من الرسول إذا دعاهم. الثاني: من القرآن إذا تلي عليهم. قوله عز وجل: {وإذا ذكِّروا لا يذكرون} فيه وجهان: أحدهما: وإذا ذكروا بما نزل من القرآن لا ينتفعون، وهو معنى قول قتادة. والثاني: وإذا ذكروا بمن هلك من الأمم لا يبصرون، وهو معنى ما رواه سعيد.(5/41)
قوله عز وجل: {وإذا رأوا آيةً يَسْتَسْخِرُونَ} وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أنه انشقاق القمر، قاله الضحاك. الثاني: ما شاهدوه من هلاك المكذبين , وهو محتمل. وفي قوله {يستسخِرون} وجهان: أحدهما: يستهزئون , قاله مجاهد. الثاني: هو أن يستدعي بعضهم من بعض السخرية بها لأن الفرق بين سخر واستسخر كالفرق بين علم واستعلم. وقيل إن ذلك في ركانة بن زيد وأبي الأشد بن كلاب. قوله عز وجل: {فانما هي زجرةٌ واحدةٌ} أي صيحة واحدة , قاله الحسن: وهي النفخة الثانية وسميت الصيحة زجرة لأن مقصودها الزجر. {فإذا هم ينظرون} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: البعث الذي كذبوا به. الثاني: ينظرون سوء أعمالهم. الثالث: ينتظرون حلول العذاب بهم , ويكون النظر بمعنى الانتظار.(5/42)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
{وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون} قوله عز وجل: {وقالوا يا ويلنا هذا يومُ الدين} الآية. فيه وجهان: أحدهما: يوم الحساب، قاله ابن عباس. الثاني: يوم الجزاء، قاله قتادة. {هذا يوم الفصل} الآية. فيه وجهان: أحدهما: يوم القضاء بين الخلائق، قاله يحيى. الثاني: يفصل فيه بين الحق والباطل، قاله ابن عيسى.(5/42)
قوله عز وجل: {احشروا الذين ظلموا} الآية. فيه ثلاثة أوجه: أحدها: المكذبون بالرسل. الثاني: هم الشُرَط , حكاه الثوري. الثالث: هم كل من تعدى على الخالق والمخلوق. وفي {وأزواجهم} أربعة أوجه: أحدها: أشباههم فيحشر صاحب الزنى مع صاحب الزنى , وصاحب الخمر مع صاحب الخمر , قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه. الثاني: قرناؤهم , قاله ابن عباس. الثالث: أشياعهم , قاله قتادة , ومنه قول الشاعر:
(فكبا الثور في وسيل وروض ... مونق النبت شامل الأزواج)
الرابع: نساؤهم الموافقات على الكفر , رواه النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. {وما كانوا يعبدون من دون الله} وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: إبليس , قاله ابن زياد. الثاني: الشياطين , وهو مأثور. الثالث: الأصنام , قاله قتادة وعكرمة. {فاهدُوهم إلى صراط الجحيم} أي طريق النار. وفي قوله تعالى: {فاهدوهم} ثلاثة أوجه: أحدها: فدلوهم , قاله ابن. الثاني: فوجهوهم , رواه معاوية بن صالح. الثالث: فادعوهم , قاله السدي. قوله عز وجل: {وقفُوهم إنَّهم مسئولون} أي احبسوهم عن دخول النار.(5/43)
{إنهم مسئولون} فيه ستة أوجه: أحدها: عن لا إله إلا الله , قاله يحيى بن سلام. الثاني: عما دعوا إليه من بدعة , رواه أنس مرفوعاً. الثالث: عن ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه , حكاه أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري. الرابع: عن جلسائهم , قاله عثمان بن زيادة. الخامس: محاسبون , قاله ابن عباس. السادس: مسئولون. {ما لكم لا تناصرون} على طريق التوبيخ والتقريع لهم , وفيهم ثلاثة أوجه: أحدها: لا ينصر بعضكم بعضاً , قاله يحيى بن سلام. الثاني: لا يمنع بعضكم بعضاً من دخول النار , قاله السدي. الثالث: لا يتبع بعضكم بعضاً في النار يعني العابد والمعبود , قاله قتادة. فإن قيل: فهلا كانوا مسئولين قبل قوله {فاهْدوهم ... } الآية؟ قيل: لأن هذا توبيخ وتقريع فكان نوعاً من العذاب فلذلك صار بعد الأمر بالعذاب. قال مجاهد: ولا تزول من بين يدي الله تعالى قدم عبد حتى يُسأل عن خصال أربع: عمره فيهم أفناه , وجسده فيم أبلاه , وماله مم اكتسبه وفيم أنفقه , وعلمه ما عمل فيه.(5/44)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
{وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين(5/44)
فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين} قوله عز وجل: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} فيهم قولان: أحدهما: أنه أقبل الإنس على الجن , قاله قتادة. الثاني: بعضهم على بعض , قاله ابن عباس. ويحتمل ثالثاً: أقبل الاتباع على المتبوعين. وفي {يتساءلون} وجهان: أحدهما: يتلاومون , قاله ابن عباس. الثاني: يتوانسون , وهذا التأويل معلول لأن التوانس راحة , ولا راحة لأهل النار. ويحتمل ثالثاً: يسأل التابع متبوعه أن يتحمل عنه عذابه. قوله عز وجل: {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} وفي تأويل ذلك قولان: أحدهما: قاله الإنس للجن. قاله قتادة. الثاني: قاله الضعفاء للذين استكبروا , قاله ابن عباس. وفي قوله: {تأتوننا عن اليمين} ثمانية تأويلات: أحدها: تقهروننا بالقوة , قاله ابن عباس , واليمين القوة , ومنه قول الشاعر:
(اذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تَلقاها عَرابةُ باليمين)
أي بالقوة والقدرة. الثاني: يعني من قبل ميامنكم , قاله ابن خصيف. الثالث: من قبل الخير فتصدوننا عنه وتمنعوننا منه , قاله الحسن. الرابع: من حيث نأمنكم , قاله عكرمة. الخامس: من قبل الدين أنه معكم , وهو معنى قول الكلبي.(5/45)
السادس: من قبل النصيحة واليمين , والعرب تتيمن بما جاء عن اليمين ويجعلونه من دلائل الخير ويسمونه السانح , وتتطير بما جاء عن الشمال ويجعلونه من دلائل الشر ويسمونه البارح , وهو معنى قول عليّ بن عيسى. السابع: من قبل الحق أنه معكم , قاله مجاهد. الثامن: من قبل الأموال ترغبون فيها أنها تنال بما تدعون إليه فتتبعون عليه , وهو معنى قول الحسن.(5/46)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
{إنكم لذائقوا العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهن بيض مكنون} قوله عز وجل: {يُطاف عليهم بكأسٍ من مَعينٍ} أي من خمر معين وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الجاري؛ قاله الضحاك. الثاني: الذي لا ينقطع , حكاه جويبر. الثالث: أنه الذي لم يعصر، قاله سعيد بن أبي عروبة. ويحتمل رابعاً: أنه الخمر بعينه الذي لم يمزج بغيره. وفي المعين من الماء خمسة أوجه: أحدها: أنه الظاهر للعين , قاله الكلبي. الثاني: ما مدّته العيون فاتصل ولم ينقطع , قاله الحسن. الثالث: أنه الشديد الجري من قولهم أمعن في كذا إذا اشتد دخوله فيه. الرابع: أنه الكثير مأخوذ من المعين وهو الشيء الكثير.(5/46)
الخامس: أنه المنتفع به مأخوذ من الماعون , قاله الفراء. {بيضاء لذَّةٍ للشاربين} يعني أن خمر الجنة بيضاء اللون , وهي في قراءة ابن مسعود صفراء. ويحتمل أن تكون بيضاء الكأس صفراء اللون فيكون اختلاف لونهما في منظرهما قال الشاعر:
(فكأن بهجتها وبهجة كأسها ... نار ونور قيّدا بوعاء.)
قوله عز وجل: {لا فيها غَوْلٌ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أي ليس فيها صداع، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. الثاني: ليس فيها وجع البطن، قاله مجاهد. الثالث: ليس فيها أذى، قاله الفراء وعكرمة وهذه الثلاثة متقاربة لاشتقاق الغول من الغائلة. الرابع: ليس فيها إثم، قاله الكلبي. الخامس: أنها لا تغتال عقولهم، قاله السدي وأبو عبيدة، ومنه قول الشاعر:
(وهذا من الغيلة أن ... يصرع واحد واحدا)
{ولا هم عنها ينزفون} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا تنزف العقل ولا تذهب الحلم بالسكر، قاله عطاء، ومنه قول الشاعر:
(لعمري لئن أنزفتم أو صحوتُم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا)
الثاني: لا يبولون , قاله ابن عباس , وحكى الضحاك عنه أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول , فذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال. الثالث: أي لا تفنى مأخوذ من نزف الركية، قاله أبو عمرو بن العلاء، ومنه قول الشاعر:(5/47)
(دعيني لا أبا لك أن تطيقي ... لحاك الله قد أنزفت ريقي)
وقد يختلف هذا التأويل باختلاف القراءة , فقرأ حمزة والكسائي، ينزفون بكسر الزاي، وقرأ الباقون يُنزَفون بفتح الزاي، والفرق بينهما أن الفتح من نزف فهو منزوف إذا ذهب عقله بالسكر، والكسر من أنزف فهو منزوف إذا فنيت خمره , وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع عنهم التذاذ نعيمهم. قوله عز وجل: {وعندهم قاصِراتُ الطّرفِ عينٌ} يعني بقاصرات الطرف النساء اللاتي قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم مأخوذ من قولهم: قد اقتصر على كذا إذا اقتنع به وعدل عن غيره , قال امرؤ القيس:
(من القاصرات الطرف لو دب مُحولٌ ... من الذّرّ فوق الخد منها لأثّرا)
وفي العين وجهان: أحدهما: الحسان العيون , قاله مجاهد ومقاتل. الثاني: العظام الأعين , قاله الأخفش وقطرب. {كأنهن بيضٌ مكنون} فيه وجهان: أحدهما: يعني اللؤلؤ في صدفه , قاله ابن عباس , ومنه قول الشاعر:
(وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون)
الثاني: يعني البيض المعروف في قشره، والمكنون المصون. وفي تشبيههم بالبيض المكنون أربعة أوجه: أحدها: تشبيهاً ببيض النعام يُكنّ بالريش من الغبار والريح فهو أبيض إلى الصفرة، قاله الحسن. الثاني: تشبيهاً ببطن البيض إذا لم تمسه يد، قاله سعيد بن جبير.(5/48)
الثالث: تشبيهاً ببياض البيض حين ينزع قشرة، قاله السدي. الرابع: تشبيهاً بالسحاء الذي يكون بين القشرة العليا ولباب البيض , قاله عطاء.(5/49)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
{فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون} قوله عز وجل: {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} يعني أهل الجنة كما يسأل أهل النار. {قال قائلٌ منهم} يعني من أهل الجنة. {إني كان لي قرين} يعني في الدنيا , وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الشيطان كان يغويه فلا يطيعه , قاله مجاهد. الثاني: شريك له كان يدعوه إلى الكفر فلا يجيبه , قاله ابن عباس. الثالث: أنهما اللذان في سورة الكهف {واضرب لهم مثلاً رجلين} إلى آخر قصتهما , فقال المؤمن منهما في الجنة للكافر في النار. {يقول أئنك لمن المصدقين} يعني بالبعث. {أئذا مِتْنَا وكُنَّا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون} فيه تأويلان: أحدهما: لمحاسبون، قاله مجاهد وقتادة والسدي. الثاني: لمجازون، قاله ابن عباس ومحمد بن كعب من قوله: كما تدين تدان. قوله عز وجل: {قال هل أنتم مطلعون} وهذا قول صاحب القرين للملائكة وقيل لأهل الجنة , هل أنتم مطلعون يعني في النار. يحتمل ذلك وجهين: أحدهما: لاستخباره عن جواز الاطلاع.(5/49)
الثاني: لمعاينة القرين. {فاطّلَعَ} يعني في النار. {فرآه} يعني قرينه {في سواءِ الجحيم} قال ابن عباس في وسط الجحيم , وإنما سمي الوسط سواءً لاستواء المسافة فيه إلى الجوانب قال قتادة: فوالله لولا أن الله عَرّفه إياه ما كان ليعرفه , لقد تغير حبْرُهُ وسبرُه يعني حسنه وتخطيطه. قوله عز وجل: {قال تالله إن كِدْتَ لتُرْدين} هذا قول المؤمن في الجنة لقرينه في النار , وفيه وجهان: أحدهما: لتهلكني لو أطعتك , قاله السدي. الثاني: لتباعدني من الله تعالى , قاله يحيى. {ولولا نعمة ربي} يعني بالإيمان {لكنت من المحْضَرين} يعني في النار , لأن أحضر لا يستعمل مطلقاً إلا في الشر.(5/50)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
{أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إلا عباد الله المخلصين} قوله عز وجل: {أذلك خيرٌ نزلاً أم شجرة الزقوم} والنُّزل العطاء الوافر ومنه إقامة الإنزال، وقيل ما يعد للضيف والعسكر. وشجرة الزقوم هي شجرة في النار يقتاتها أهل النار , مرة الثمر خشنة اللمس منتنة الريح. واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي يعرفها العرب أولا؟ على قولين:(5/50)
أحدهما: أنها معروفة من شجر الدنيا، ومن قال بهذا اختلفوا فيها فقال قطرب: إنها شجرة مرّة تكون بتهامة من أخبث الشجر، وقال غيره بل كل نبات قاتل. القول الثاني: أنها لا تعرف في شجر الدنيا , فلما نزلت هذه الآية في شجرة الزقوم قال كفار قريش: ما نعرف هذه الشجرة , فقال ابن الزبعرى: الزقوم بكلام البربر: الزبد والتمر فقال أبو جهل لعنه الله: يا جارية ابغينا تمراً وزبداً ثم قال لأصحابه تزقموا هذا الذي يخوفنا به محمد يزعم أن النار تنبت الشجر , والنار تحرق الشجر. {إنا جعلناها فتنة للظالمين} فيه قولان: أحدهما: أن النار تحرق الشجر فكيف ينبت فيها الشجر وهذا قول أبي جهل إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه فكان هذا هو الفتنة للظالمين , قاله مجاهد. الثاني: أن شدة عذابهم بها هي الفتنة التي جعلت لهم , حكاه ابن عيسى. قوله عز وجل: {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم} فكان المقصود بهذا الذكر أمرين: أحدهما: وصفها لهم لاختلافهم فيها. الثاني: ليعلمهم جواز بقائها في النار لأنها تنبت من النار. قال يحيى بن سلام: وبلغني أنها في الباب السادس وانها تحيا بلهب النار كما يحيا شجركم ببرد الماء. {طلعها كأنه رؤُوس الشياطين} يعني بالطلع الثمر , فإن قيل فكيف شبهها برؤوس الشياطين وهم ما رأوها ولا عرفوها؟ قيل عن هذا أربعة أجوبة: أحدها: أن قبح صورتها مستقر في النفوس , وإن لم تشاهد فجاز أن ينسبها بذلك لاستقرار قبحها في نفوسهم كما قال امرؤ القيس:
(ايقتُلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونةٍ زُرقٍ كأنياب أغوال)(5/51)
فشببها بأنياب الأغوال وإن لم يرها الناس. الثاني: أنه أراد رأس حية تسمى عندالعرب شيطاناً وهي قبيحة الرأس. الثالث: أنه أراد شجراً يكون بين مكة واليمن يسمى رؤوس الشياطين , قاله مقاتل. قوله عز وجل: {ثم إنّ لهم عليها لشوباً من حميم} يعني لمزاجاً من حميم والحميم الحار الداني من الإحراق قال الشاعر:
(كأن الحميم على متنها ... إذا اغترفته بأطساسها)
(جُمان يجول على فضة ... عَلَتْه حدائد دوّاسها)
ومنه سمي القريب حميماً لقربه من القلب , وسمي المحموم لقرب حرارته من الإحراق , قال الشاعر:
(أحم الله ذلك من لقاءٍ ... آحاد آحاد في الشهر الحلال)
أي أدناه فيمزج لهم الزقوم بالحميم ليجمع لهم بين مرارة الزقوم وحرارة الحميم تغليظاً لعذابهم وتشديداً لبلاتهم. قوله عز وجل: {ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني بأن مأواهم لإلى الجحيم , قاله عبد الرحمن بن زيد. الثاني: أن منقلبهم لإلى الجحيم , قاله سفيان. الثالث: يعني أن مرجعهم بعد أكل الزقوم إلى عذاب الجحيم , قاله ابن زياد. الرابع: أنهم فيها كما قال الله تعالى {يطوفون بينها وبين حميم آن} ثم يرجعون إلى مواضعهم , قاله يحيى بن سلام.(5/52)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
{ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين}(5/52)
قوله عز وجل: {ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون} أي دعانا , ودعاؤه كان على قومه عند إياسه من إيمانهم , وإنما دعا عليهم بالهلاك بعد طول الاستدعاء لأمرين: أحدهما: ليطهر الله الأرض من العصاة. الثاني: ليكونوا عبرة يتعظ بها من بعدهم من الأمم. وقوله: {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: فلنعم المجيبون لنوح في دعائه. الثاني: فلنعم المجيبون لمن دعا لأن التمدح بعموم الإجابة أبلغ. {ونجيناه وأهله} قال قتادة: كانوا ثمانية: نوح وثلاثة بنين ونساؤهم , أربعة [أي] رجال وأربعة نسوة. {من الكرب العظيم} فيه وجهان: أحدهما: من غرق الطوفان , قاله السدي. الثاني: من الأذى الذي كان ينزل من قومه , حكاه ابن عيسى. {وجعلنا ذريته هم الباقين} قال ابن عباس: والناس كلهم بعد نوح من ذريته وكان بنوه ثلاثة: سام وحام ويافث , فالعرب والعجم أولاد سام , والروم والترك والصقالبة أولاد يافث والسودان من أولاد حام , قال الشاعر:
(عجوز من بني حام بن نوح ... كأن جبينها حجر المقام)
قوله عز وجل: {وتركنا عليه في الآخرين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أبقى الله الثناء الحسن في الآخرين , قاله قتادة. الثاني: لسان صدق للأنبياء كلهم , قاله مجاهد. الثالث: هو قوله سلام عل نوح في العالمين , قاله الفراء.(5/53)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
{وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه(5/53)
وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين} قوله عز وجل: {وإن من شيعته لإبراهيم} فيه وجهان: أحدهما: من أهل دينه , قاله ابن عباس. الثاني: على منهاجه وسنته , قاله مجاهد. وفي أصل الشيعة في اللغة قولان: أحدهما: أنهم الأتباع ومنه قول الشاعر:
(قال الخليط غداً تصدُّ عَنّا ... أو شيعَه أفلا تشيعنا)
قوله أو شيعه أي اليوم الي يتبع غداً، قاله ابن بحر. الثاني: وهو قول الأصمعي الشيعة الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار الذي يوضع مع الكبار حتى يستوقد لأنه يعين على الوقود. ثم فيه قولان: أحدهما: إن من شيعة محمد لإبراهيم عليهما السلام , قاله الكلبي والفراء. الثاني: من شيعة نوح لإبراهيم , قاله مجاهد ومقاتل. وفي إبراهيم وجهان: أحدهما: أنه اسم أعجمي وهو قول الأكثرين. الثاني: مشتق من البرهمة وهي إدّامة النظر. قوله عز وجل: {إذ جاء ربّه بقَلْب سليم} فيه أربعة أوجه: أحدها: سليم من الشك، قاله قتادة. الثاني: سليم من الشرك، قاله الحسن. الثالث: مخلص، قاله الضحاك.(5/54)
الرابع: ألا يكون لعاناً , قاله عروة بن الزبير. ويحتمل مجيئه إلى ربه وجهين: أحدهما: عند دعائه إلى توحيده وطاعته. الثاني: عند إلقائه في النار.(5/55)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
{فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين} قوله عز وجل: {فنظر نظرة في النجوم} فيها أربعة تأويلات: أحدها: أنه رأى نجماً طالعاً، فعلم بذلك أن له إلهاً خالقاً، فكان هذا نظره في النجوم، قاله سعيد بن المسيب. الثاني: أنها كلمة من كلام العرب إذا تفكر الرجل في أمره قالوا قد نظر في النجوم , قاله قتادة. الثالث: أنه نظر فيما نجم من قولهم، وهذا قول الحسن. الرابع: أن علم النجوم كان من النبوة، فلما حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون أبطل ذلك، فنظر إبراهيم فيها [كان] علماً نبوياً , قاله ابن عائشة. وحكى جويبر عن الضحاك أن علم النجوم كان باقياً إلى زمن عيسى ابن مريم عليه السلام حتى دخلوا عليه في موضع لا يطلع عليه فقالت لهم مريم من أين(5/55)
علمتم موضعه؟ قالوا: من النجوم , فدعا ربه عند ذلك فقال: اللهم فوهمهم في علمها فلا يعلم علم النجوم أحد , فصار حكمها في الشرع محظوراً وعلمها في الناس مجهولاً. قال الكلبي وكانوا بقرية بين البصرة والكوفة يقال لها هرمزجرد وكانوا ينظرون في النجوم. {فقال إني سقيم} فيه سبعة تأويلات: أحدها: أنه استدل بها على وقت حمى كانت تأتيه. الثاني: سقيم بما في عنقي من الموت. الثالث: سقيم بما أرى من قبح أفعالكم في عبادة غير الله. الرابع: سقيم لشكه. الخامس: لعلمه بأن له إلهاً خالقاً معبوداً , قاله ابن بحر. السادس: لعلة عرضت له. السابع: أن ملكهم أرسل إليه أن غداً عيدنا فاخرج , فنظر إلى نجم فقال: إن ذا النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقمي، فتولوا عنه مدبرين , قاله عبد الرحمن بن زيد قال سعيد بن المسيب: كابد نبي الله عن دينه فقال إني سقيم. وقال سفيان: كانوا يفرون من المطعون فأراد أن يخلوا بآلهتهم فقال: إني سقيم أي طعين وهذه خطيئته التي قال اغفر لي خطيئتي يوم الدين وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لم يكذب إبراهيم غير ثلاث: ثنتين في ذات الله عز وجل قوله إني سقيم , وقوله بل فعله كبيرهم هذا، وقوله في سارة هي أختي) . {فراغ إلىءَالَهِتِهِمْ} فيه أربعة أوجه:(5/56)
أحدها: ذهب إليهم , قاله السدي. الثاني: مال إليهم , قاله قتادة. الثالث: صال عليهم , قاله الأخفش. الرابع: أقبل عليهم , قاله الكلبي وقطرب , وهذا قريب من المعنيين المتقدمين. {فقال ألا تأكلون} فيه قولان: أحدهما: أنه قال ذلك استهزاء بهم , قاله ابن زياد. الثاني: أنه وجدهم حين خرجوا إلى عيدهم قد صنعوا لآلهتهم طعاماً لتبارك لهم فيه فلذلك قال للأصنام وإن كانت لا تعقل عنه الكلام احتجاجاً على جهل من عبدها. وتنبيهاً على عجزها , ولذلك قال: {ما لكم لا تنطقون} . {فراغ عليهم ضرباً باليمين} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يده اليمنى. قاله الضحاك , لأنها أقوى والضرب بها أشد. الثاني: باليمين التي حلفها حين قال {وتالله لأكيدن أصنامكم} حكاه ابن عيسى. الثالث: يعني بالقوة , وقوة النبوة أشد , قاله ثعلب. {فأقبلوا إليه يزفون} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يخرجون، قاله ابن عباس. الثاني: يسعون، قاله الضحاك. الثالث: يتسللون، حكاه ابن عيسى. الرابع: يرعدون غضباً، حكاه يحيى بن سلام. الخامس: يختالون وهو مشي الخيلاء , وبه قال مجاهد، ومنه أخذ زفاف العروس إلى زوجها , وقال الفرزدق:
(وجاء قريع الشول قَبل إفالها ... يزفّ وجاءت خَلْفه وهي زفّف)
قوله عز وجل: {والله خلقكم وما تعملون} فيه وجهان: أحدهما: أن الله خلقكم وخلق عملكم.(5/57)
الثاني: خلقكم وخلق الأصنام التي عملتموها. {فأرادوا به كيداً} يعني إحراقه بالنار التي أوقدوها له. {فجعلناهم الأسفلين} فيه أربعة أوجه: أحدها: الأسفلين في نار جهنم , قاله يحيى. الثاني: الأسفلين في دحض الحجة , قال قتادة: فما ناظروه بعد ذلك حتى أهلكوا. الثالث: يعني المهلكين فإن الله تعالى عقب ذلك بهلاكهم. الرابع: المقهورين لخلاص إبراهيم من كيدهم. قال كعب: فما انتفع بالنار يومئذٍ أحد من الناس وما أحرقت منه يومئذٍ إلا وثاقه. وروت أم سبابة الأنصارية عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثها أن (إبراهيم لما ألقي في النار كانت الدواب كلها تطفىء عنه النار إلا الوزغة فإنها كانت تنفخ عليها) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها.(5/58)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
{وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين}(5/58)
{وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} وفي زمان هذا القول منه قولان: أحدهما: أنه قال عند إلقائه في النار، وفيه على هذا القول تأويلان: أحدهما: إني ذاهب إلى ما قضى به عليّ ربي. الثاني: إني ميت كما يقال لمن مات قد ذهب إلى الله تعالى لأنه عليه السلام تصور أنه يموت بإلقائه في النار على المعهود من حالها في تلف ما يلقى فيها إلى أن قيل لها كوني برداً وسلاماً , فحينئذٍ سلم إبراهيم منها. وفي قوله: {سيهدين} على هذا القول تأويلان: أحدهما: سيهدين إلى الخلاص من النار. الثاني: إلى الجنة. فاحتمل ما قاله إبراهيم من هذا وجهين: أحدهما: أن بقوله لمن يلقيه في النار فيكون ذلك تخويفاً لهم. الثاني: أن بقوله لمن شاهده من الناس الحضور فيكون ذلك منه إنذارً لهم , فهذا تأويل ذلك على قول من ذكر أنه قال قبل إلقائه في النار. والقول الثاني: أنه قاله بعد خروجه من النار. {إني ذاهب إلى ربي} وفي هذا القول ثلاثة تأويلات: أحدها: إني منقطع إلى الله بعبادتي , حكاه النقاش. الثاني: ذاهب إليه بقلبي وديني وعملي , قاله قتادة. الثالث: مهاجر إليه بنفسي فهاجر من أرض العراق. قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة. وفي البلد الذي هاجر إليه قولان: أحدهما: إلى أرض الشام. الثاني: إلى أرض حران، حكاه النسائي. وفي قوله: سيهدين على هذا القول تأويلان: أحدهما: سيهدين إلى قول: حسبي الله عليه توكلت، قاله سليمان. الثاني: إلى طريق الهجرة، قاله يحيى.(5/59)
واحتمل هذا القول منه وجهين: أحدهما: أن بقوله لمن فارقه من قومه فيكون ذلك توبيخاً لهم. الثاني: أن بقوله لمن هاجر معه من أهله فيكون ذلك منه ترغيباً. قوله عز وجل: {فبشرناه بغُلام حليم} أي وقور. قال الحسن: ما سمعت الله يحل عباده شيئاً أجل من الحلم. وفي قولان: أحدهما: أنه إسحاق , ولم يثن الله تعالى على أحد بالحلم إلا على إسحاق وإبراهيم قاله قتادة. الثاني: إسماعيل وبشر بنبوة إسحاق بعد ذلك , قاله عامر الشعبي. قال الكلبي وكان إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. قوله عز وجل: {فلما بلغ معه السعي} فيه أربعة أوجه: أحدها: يمشي مع أبيه , قاله قتادة. الثاني: أدرك معه العمل , قاله عكرمة. الثالث: أنه سعي العمل الذي تقوم به الحجة , قاله الحسن. الرابع: أنه السعي في العبادة , قاله ابن زيد. قال ابن عباس: صام وصلى , ألم تسمع الله يقول {وسعى لها سعيها} [الإسراء: 19] قال الفراء والكلبي , وكان يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة. {قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحُك} فروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رؤيا الأنبياء في المنام وحي) . {فانظُرْ ماذا تَرَى} لم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله سبحانه , وفيه ثلاثة أوجه:(5/60)
أحدها: أنه قاله إخباراً بما أمره الله تعالى به ليكون أطوع له. الثاني: أنه قاله امتحاناً لصبره على أمر الله تعالى. الثالث: أي ماذا تريني من صبرك أو جزعك , قاله الفراء. {قال يا أبت افْعَلْ ما تؤمرُ} الآية. فيه وجهان: أحدهما: على الذبح , قاله مقاتل. الثاني: على القضاء , حكاه الكلبي , فوجده في الامتحان صادق الطاعة سريع الإجابة قوي الدين. قوله عز وجل: {فلما أسْلَما} فيه وجهان: أحدهما: اتفقا على أمر واحد , قاله أبو صالح. الثاني: سلما لله تعالى الأمر , وهو قول السدي. قال قتادة: سلم إسماعيل نفسه لله , وسلم إبراهيم ابنه لله تعالى. {وتله للجبين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه صرعه على جبينه , قاله ابن عباس , والجبين ما عن يمين الجبهة وشمالها , قال الشاعر:
(وتله أبو حكم للجبين ... فصار إلى أمِّه الهاوية)
الثاني: أنه أكبَّه لوجهه , قاله مجاهد. الثالث: أنه وضع جبينه على تل , قاله قطرب. وحكى مجاهد عن إسحاق أنه قال: يا أبت اذبحني وأنا ساجد , ولا تنظر إلى وجهي فعسى أن ترحمني فلا تذبحني. {وناديناه أن يا إبراهيم قد صَدَّقْتَ الرؤيا} أي عملت ما رأيته في المنام , وفي الذي رآه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الذي رآه أنه قعد منه مقعد الذابح ينتظر الأمر بإمضاء الذبح. الثاني: أن الذي رآه أنه أمر بذبحه بشرط التمكين ولم يمكن منه لما روي أنه كان كلما اعتمد بالشفرة انقلبت وجعل على حلقه صفيحة من نحاس. الثالث: أن الذي رآه أنه ذبحه وقد فعل ذلك وإنما وصل الله تعالى الأوداج بلا فصل.(5/61)
{إنا كذلك نجزِي المحسنين} بالعفو عن ذبح ابنه. وفي الذبيح قولان مثل اختلافهم في الحليم الذي بشر به. أحدهما: أنه إسحاق , قاله علي رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وكعب الأحبار وقتادة والحسن. قال ابن جريج ذبح إبراهيم ابنه إسحاق وهو ابن سبع سنين وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة. وفي الموضع الذي أراد ذبحه فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: بمكة في المقام. الثاني: في المنحر بمنى. الثالث: بالشام , قاله ابن جريج وهو من بيت المقدس على ميلين. ولما علمت سارة ما أراد بإسحاق بقيت يومين وماتت في اليوم. القول الثاني: أنه إسماعيل , قاله ابن عباس وعبد الله بن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب , وأنه ذبحه بمنى عند الجمار التي رمى إبليس في كل جمرة بسبع حصيات حين عارضه في ذبحه حتى جمر بين يديه أي أسرع فسميت جماراً. وحكى سعيد بن جبير أنه ذبحه على الصخرة التي بأصل ثبير بمنى: قوله عز وجل: {إنَّ هذا لهو البلاءُ المبين} فيه وجهان: أحدهما: الاختبار العظيم , قاله ابن قتيبة. الثاني: النعمة البينة , قاله الكلبي ومقاتل وقطرب وأنشد قول الحطيئة:
(وإن بلاءهم ما قد علمتم ... على الأيام إن نفع البلاءُ)
قوله عز وجل: {وفديناه بذبح عظيم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه فدى بوعل أنزل عليه من ثبير , قاله ابن عباس , وحكى عنه سعيد ابن جبير أنه كبش رعي في الجنة أربعين خريفاً. الثاني: أنه فدي بكبش من غنم الدنيا , قاله الحسن. الثالث: أنه فدي بكبش أنزل عليه من الجنة وهو الكبش الذي قربه هابيل بن(5/62)
آدم فقيل منه. قال ابن عباس حدثني من رأى قرني الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام معلقين بالكعبة. والذبح بالكسر هو المذبوح , والذبح بالفتح هو فعل الذبح. وفي قوله: {عظيم} خمسة تأويلات: أحدها: لأنه قد رعى في الجنة , قاله ابن عباس. الثاني: لأنه ذبح بحق , قاله الحسن. الثالث: لأنه عظيم الشخص. الرابع: لأنه عظيم البركة. الخامس: لأنه متقبل , قاله مجاهد. قوله عز وجل: {وتركنا عليه في الآخِرين} فيه قولان: أحدهما: الثناء الحسن , قاله قتادة. الثاني: هو السلام على إبراهيم , قاله عكرمة.(5/63)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
{ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين} قوله عز وجل: {ولقد مننا على موسى وهارون} فيه قولان: أحدهما: بالنبوة , قاله مقاتل. الثاني: بالنجاة من فرعون , قاله الكلبي. {ونجيناهما} الآية. فيه قولان: أحدهما: من الغرق. الثاني: من الرق.(5/63)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
{وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا(5/63)
وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين} قوله عز وجل: {وإن إلياس لمن المرسلين} فيه قولان: أحدهما: أنه إدريس قاله ابن عباس وقتادة , وهي قراءة ابن مسعود: وابن إدريس. الثاني: أنه من ولد هارون , قاله محمد بن إسحاق , قال مقاتل: هو إلياس بن بحشر , وقال الكلبي هو عم اليسع. وجوز قوم أن يكون هو إلياس بن مضر. وقيل لما عظمت الأحداث في بني إسرائيل بعد حزقيل بعث الله إليهم إلياس عليه السلام نبياً , وتبعه اليسع وآمن به , فلما عتا عليه بنو إسرائيل دعا ربه أن يقبضه إليه ففعل وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة إنيساً ملكياً , أرضياً سماوياً , والله أعلم. قوله عز وجل: {أتدعون بعلاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني ربّاً , قاله عكرمة ومجاهد. قال مقاتل هي لغة أزد شنوءة، وسمع ابن عباس رجلاً من أهل اليمن يسوم ناقة بمنى فقال: من بعل هذه أي ربها، ومنه قول أبي دؤاد:
(ورأيت بعلك في الوغى ... متقلداً سيفاً ورمحا)
الثاني: أنه صنم يقال له بعل كانوا يعبدونه وبه سميت بعلبك، قاله الضحاك وابن زيد وقال مقاتل: كسره إلياس وذهب. الثالث: أنه اسم امرأة كانوا يعبدونها، قاله ابن شجرة.(5/64)
{وتذرون أحْسَنَ الخالقين} فيه وجهان: أحدهما: من قيل له خالق. الثاني: أحسن الصانعين لأن الناس يصنعون ولا يخلقون. قوله عز وجل: {سلامٌ على إِلْ يَاسِينَ} قرأ نافع وابن عامر: سلامٌ على آل ياسين بفتح الهمزة ومدها وكسر اللام , وقرأ الباقون بكسر الهمزة وتسكين اللام , وقرأ الحسن: سلام على ياسين بإسقاط الألف واللام , وقرأ ابن مسعود: سلام على ادراسين , لأنه قرأ وإن إدريس لمن المرسلين. فمن قرأ الياس ففيه وجهان: أحدهما: أنه جمع يدخل فيه جميع آل إلياس بمعنى أن كل واحد من أهله يسمى الياس. الثاني: أنه إلياس فغير بالزيادة لأن العرب تغير الأسماء الأعجمية بالزيادة كما يقولون ميكال وميكاييل وميكائين. قال الشاعر:
(يقول أهل السوق لما جينا ... هذا وربِّ البيت إسرائينا)
ومن قرأ آل ياسين ففي قراءته وجهان: أحدهما: أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم آل إلياس. فعلى هذا في دخول الزيادة في ياسين وجهان: أحدهما: أنها زيدت لتساوي الآي , كما قال في موضع طور سيناء , وفي موضع آخر طور سينين , فعلى هذا يكون السلام على أهله دونه وتكون الإضافة إليه تشريفاً له. الثاني: أنها دخلت للجمع فيكون داخلاً في جملتهم ويكون السلام عليه وعليهم.(5/65)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
{وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين(5/65)
ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} {إلا عجوزاً في الغابرين} فيها أربعة أوجه: أحدها: الهالكين , قاله السّدي. الثاني: في الباقين من الهالكين , قاله ابن زيد. الثالث: في عذاب الله تعالى , قاله قتادة. الرابع: في الماضين في العذاب , حكاه مقاتل.(5/66)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
{وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين} قوله عز وجل: {وإن يونس لمن المرسلين} قال السدي: يونس بن متى نبي من أنبياء الله تعالى بعثه إلى قرية يقال لها نينوى على شاطىء دجلة: قال قتادة: وهي من أرض الموصل. {إذ أبق إلى الفُلك المشحون} والآبق الفارّ إلى حيث لا يعلم به , قال الحسن: فر من قومه وكان فيما عهد إليهم أنهم إن لم يؤمنوا أتاهم العذاب , وجعل علامة ذلك خروجاً من بين أظهرهم , فلما خرج عنه جاءتهم ريح سوداء فخافوها فدعوا الله بأطفالهم وبهائمهم فأجابهم وصرف العذاب عنهم فخرج مكايداً لقومه مغاضباً لدين ربه حتى أتى البحر فركب سفينة وقد استوقرت حملاً , فلما اشتطت بهم خافوا الغرق. وفيما خافوا الغرق به قولان: أحدهما: أمواج من ريح عصفت بهم قاله ابن عباس.(5/66)
الثاني: من الحوت الذي عارضهم , حكاه ابن عيسى , فقالوا عند ذلك: فينا مذنب لا ننجو إلا بإلقائه , فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فألقوه , وهو معنى قوله تعالى: {فساهَم} أي قارع بالسهام , قاله ابن عباس والسدي. {فكان من المدحضين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من المقروعين , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: من المغلوبين , قاله سعيد بن جبير , ومنه قول أبي قيس:
(قتلنا المدحضين بكل فج ... فقد قرت بقتلهم العيون)
الثالث: أنه الباطل الحجة , قاله السدي مأخوذ من دحض الحجة وهو بطلانها فلما ألقوه في البحر آمنوا. قوله عز وجل: {فالتقمه الحوت وهُو مليم} قال ابن عباس: أوحى الله تعالى إلى سمكة يقال لها اللخم من البحر الأخضر أن شقي البحار حتى تأخذي يونس , وليس يونس لك رزقاً , ولكن جعلت بطنك له سجناً , فلا تخدشي له جلداً ولا تكسري له عظماً , فالتقمه الحوت حين ألقي. وفي قوله: {وهو مليم} ثلاثة تأويلات: أحدها: أي مسيء مذنب , قاله ابن عباس. الثاني: يلوم نفسه على ما صنع , وهو معنى قول قتادة. الثالث: يلام على ما صنع , قاله الكلبي. والفرق بين الملوم والمليم أن المليم اذا أتى بما يلام عليه , والملوم إذا ليم عليه. {فلولا أنه كان مِن المسبحين} فيه أربعة أوجه: أحدها: من القائلين لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين , قاله الحسن. الثاني: من المصلين قاله ابن عباس. الثالث: من العابدين , قاله وهب بن منبه.(5/67)
الرابع: من التائبين , قاله قطرب. وقيل تاب في الرخاء فنجاه الله من البلاء. {للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} قال قتادة: إلى يوم القيامة حتى يَصير الحوت له قبراً , وفي مدة لبثه في بطن الحوت أربعة أقاويل: أحدها: بعض يوم , قال الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية. الثاني: ثلاثة أيام , قاله قتادة. الثالث: سبعة أيام , قاله جعفر. الرابع: أربعون يوماً , قاله أبو مالك , وقيل إنه سار بيونس حتى مر به إلى الإيلة ثم عاد في دجلة إلى نينوى. {فنبذناه بالعراء} فيه أربعة أوجه: أحدها: بالساحل , قاله ابن عباس. الثاني: بالأرض , قاله السدي , قال الضحاك: هي أرض يقال لها بلد. الثالث: موضع بأرض اليمن. الرابع: الفضاء الذي لا يواريه نبت ولا شجر , قال الشاعر:
(ورفعت رِجْلاً لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي)
{وهو سقيم} فيه وجهان: أحدهما: كهيئة الصبي , قاله السدي. الثاني: كهيئة الفرخ الذي ليس له ريش , قاله ابن مسعود لأنه ضعف بعد القوة , ورق جلده بعد الشدة. قوله عز وجل: {وأنبتنا عليه شجرة من يقطين} فيها خمسة أقاويل: أحدها: أنه القرع , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه كل شجرة ليس فيها ساق يبقى من الشتاء إلى الصيف , قاله سعيد بن جبير. الثالث: أنها كل شجرة لها ورق عريض، قاله ابن عباس.(5/68)
الرابع: أنه كل ما ينبسط على وجه الأرض من البطيخ والقثاء , رواه القاسم بن أبي أيوب. الخامس: أنها شجرة سماها الله تعالى يقطيناً أظلته رواه هلال بن حيان. وهو تفعيل من قطن بالمكان أي أقام إقامة زائل لا إقامة راسخ كالنخل والزيتون , فمكث يونس تحتها يصيب منها ويستظل بها حتى تراجعت نفسه إليه , ثم يبست الشجرة فبكى حزناً عليها , فأوحى الله تعالى إليه: أتبكي على هلاك شجرة ولا تبكي على هلاك مائة ألف أو يزيدون؟ حكاه ابن مسعود. وحكى سعيد بن جبير أنه لما تساقط ورق الشجر عنه أفضت إليه الشمس فشكاه فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس جزعت من حر الشمس ولم تجزع لمائة ألف أو يزيدون تابوا إليّ فتبت عليهم. قوله عز وجل: {وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون} فيهم قولان: أحدهما: أنه أرسل إليهم بعدما نبذه الحوت , قاله ابن عباس , فكان أرسل إلى قوم بعد قوم. الثاني: أنه أرسل إلى الأولين فآمنوا بشريعته , وهو معنى قول ابن مسعود. وفي قوله: {أو يزيدون} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه للإبهام كأنه قال أرسلناه إلى أحد العددين. الثاني: أنه على شك المخاطبين. الثالث: أن معناه: بل يزيدون , قاله ابن عباس وعدد من أهل التأويل , مثله قوله فكان قاب قوسين أو أدنى يعنى بل أدنى , قال جرير:
(أثعلبة الفوارس أو رباحاً ... عدلت بهم طهية والخشابا)
والمعنى أثعلبة بل رباحاً.(5/69)
واختلف من قال بهذا في قدر زيادتهم على مائة ألف على خمسة أقاويل: أحدها: يزيدون عشرين ألفاً , رواه أُبي بن كعب مرفوعاً. الثاني: يزيدون ثلاثين ألفاً , قاله ابن عباس. الثالث: يزيدون بضعة وثلاثين ألفاً , قاله الحكم. الرابع: بضعة وأربعين ألفاً رواه سفيان بن عبد الله البصري. الخامس: سبعين ألفاً , قاله سعيد بن جبير.(5/70)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
{فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين} قوله عز وجل: {أم لكم سلطان مبين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: عذر مبين , قاله قتادة. الثاني: حجة بينة , قاله ابن قتيبة. الثالث: كتاب بيّن , قاله الكلبي. قوله عز وجل: {وجعلوا بينه وبين الجِنة نسباً} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه إشراك الشيطان في عبادة الله تعالى فهو النسب الذي جعلوه , قاله الحسن. الثاني: هو قول يهود أصبهان أن الله تعالى صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم , قاله قتادة. الثالث: هو قول الزنادقة: إن الله تعالى وإبليس أخوان , وأن النور والخير(5/70)
والحيوان النافع من خلق الله , والظلمة والشر والحيوان الضار من خلق إبليس , قاله الكلبي وعطية العوفي. الرابع: هو قول المشركين , إن الملائكة بنات الله فقال لهم أبو بكر: فمن أمهاتهم؟ قالوا: بنات سروات الجن , قاله مجاهد. وفي تسمية الملائكة على هذا الوجه جنة ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة , قاله مجاهد. الثاني: لأنهم على الجنان , قاله أبو صالح. الثالث: لاستتارهم عن العيون كالجن المستخفين. قوله عز وجل: {ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون} وفي الجنة قولان: أحدهما: أنهم الملائكة , قاله السدي. الثاني: أنهم الجن , قاله مجاهد. وفيما علموه قولان: أحدهما: أنهم علموا أن قائل هذا القول محضرون , قاله علي بن عيسى. الثاني: علموا أنهم في أنفسهم محضرون , وهو قول من زعم أن الجنة هم الجن. وفي قوله محضرون تأويلان: أحدهما: للحساب , قال مجاهد. الثاني: محضرون في النار , قاله قتادة.(5/71)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)
{فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين}(5/71)
قوله عز وجل: {فإنكم وما تعبدون} يعني المشركين وما عبدوه من آلهتهم. {ما أنتم عليه بفاتنين} أي بمضلين , قال الشاعر:
(فرد بنعمته كيده ... عليه وكان لها فاتناً)
{إلا من هو صالِ الجحيم} فيه وجهان: أحدهما: إلا من سبق في علم الله تعالى أنه يصلى الجحيم , قاله ابن عباس. قوله عز وجل {وما مِنّا إلا له مقامٌ معلوم} فيه قولان: أحدهما: ما منا ملك إلا له في السماء مقام معلوم، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير. الثاني: ما حكاه قتادة قال: كان يصلي الرجال والنساء جميعاً حتى نزلت {وما منا إلا له مقام معلوم} قال فتقدم الرجال وتأخر النساء. ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل. ثالثاً: وما منا يوم القيامة إلا من له فيها مقام معلوم بين يدي الله عز وجل. قوله عز وجل: {وإنا لنحن الصّافون} فيه قولان: أحدهما: أنهم الملائكة يقفون صفوفاً في السماء , قيل حول العرش ينتظرون ما يؤمرون به , وقيل في الصلاة مصطفين. وحكى أبو نضرة أن عمر رضي الله كان إذا قام إلى الصلاة قال: يريد , الله بكم هدى الملائكة {وإنا لنحن الصافون} تأخر يا فلان , ثم يتقدم فيكبر. الثاني: ما حكاه أبو مالك قال كان الناس يصلون متبددين فأنزل الله عز وجل {وإنا لنحن الصافون} فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصطفوا. وقوله عز وجل: {وإنا لنحن المسبحون} فيه قولان:(5/72)
أحدهما: المصلّون , قاله قتادة. الثاني: المنزِّهون الله عما أضافه إليه المشركون أي فكيف لا تعبدونه ونحن نعبده.(5/73)
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
{فكفروا به فسوف يعلمون ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون} قوله عز وجل: {ولقد سبقت كلمتُنا لعبادنا المرسلين} فيه قولان: أحدهما: سبقت بالحجج , قاله السدي. الثاني: أنهم سينصرون , قال الحسن: لم يقتل من الرسل أصحاب الشرائع أحد قط. {إنهم لهم المنصرون} فيه قولان: أحدهما: بالحجج في الدنيا والعذاب في الآخرة , قاله السدي والكلبي. الثاني: بالظفر إما بالإيمان أو بالانتقام , وهو معنى قول قتادة. قوله عز وجل: {فتولَّ عنهم حتى حين} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يوم بدر , قاله السدي. الثاني: فتح مكة , حكاه النقاش. الثالث: الموت , قاله قتادة. الرابع: يوم القيامة , وهو قول زيد بن أسلم. وفي نسخ هذه الآية قولان: أحدهما: أنها منسوخة , قاله قتادة. الثاني: أنها ثابتة. قوله عز وجل: {وأبْصِر فسوف يبصرون} فيه أربعة أوجه: أحدها: أبصر ما ضيعوا من أمر الله فسوف يبصرون ما يحل بهم من عذاب الله وهو معنى قول ابن زيد.(5/73)
الثاني: أبصرهم في وقت النصرة عليهم فسوف يبصرون ما يحل لهم , حكاه ابن عيسى. الثالث: أبصر حالهم بقلبك فسوف يبصرون ذلك في القيامة. الرابع: أعلمهم الآن فسوف يعلمونه بالعيان وهو معنى قول ثعلب.(5/74)
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
{سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين} قوله عز وجل: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} روى الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سرَّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين} ) . قوله تعالى: {رب العزة} يحتمل وجهين: أحدهما: مالك العزة. الثاني: رب كل شيء متعزز من مالك أو متجبر. {وسلامٌ على المرسلين} يحتمل وجهين: أحدهما: سلامه عليهم إكرماً لهم. الثاني: قضاؤه بسلامتهم بعد إرسالهم فإنه ما أمر نبي بالقتال إلا حرس من القتل. {والحمد لله رب العالمين} يحتمل وجهين: أحدهما: على إرسال الأنبياء مبشرين ومنذرين. الثاني: على جميع ما أنعم به على الخلق أجمعين.(5/74)
سورة ص
مكية في قول جميعهم بسم الله الرحمن الرحيم(5/75)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
{ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص} قوله عز وجل: {ص} فيه تسعة تأويلات: أحدها: أنه فواتح الله تعالى بها القرآن , قاله مجاهد. الثاني: أنه اسم من أسماء القرآن , قاله قتادة. الثالث: أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم به , قاله ابن عباس. الرابع: أنه حرف هجاء من أسماء الله تعالى , قاله السدي. الخامس: أنه بمعنى صدق الله , قاله الضحاك. السادس: أنه من المصادة وهي المعارضة ومعناه عارض القرآن لعلمك , قاله الحسن. السابع: أنه من المصادة وهي الاتباع ومعناه اتبع القرآن بعلمك , قاله سفيان. {والقرآن ذي الذكر} فيه أربعة تأويلات: أحدها: ذي الشرف، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي. الثاني: بالبيان، قاله قتادة. الثالث: بالتذكير، قاله الضحاك. الرابع: ذكر ما قبله من الكتب، حكاه ابن قتيبة. قال قتادة: ها هنا وقع القسم.(5/75)
واختلف أهل التأويل في جوابه على قولين: أحدهما: أن جواب القسم محذوف وحذفه أفخم له لأن النفس تذهب فيه كل مذهب. ومن قال بحذفه اختلفوا فيه على قولين: أحدهما: أن تقدير المحذوف منه لقد جاء الحق. الثاني: تقديره ما الأمر كما قالوا. والقول الثاني: من الأصل أن جواب القسم مظهر , ومن قال بإظهاره اختلفوا فيه على قولين: أحدهما: قوله تعالى {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} قاله الفراء. الثاني: من قوله تعالى {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} وهو قول مقاتل. أحدها: يعني في حمية وفراق , قاله قتادة. الثاني: في تعزز واختلاف , قاله السدي. الثالث: في أنفة وعداوة. ويحتمل رابعاً: في امتناع ومباعدة. {كم أهلكنا مِن قَبْلِهم} يعني قبل كفار هذه الأمة. {من قرن} فيه قولان: أحدهما: يعني من أمة , قاله أبو مالك. الثاني: أن القرن زمان مقدور وفيه سبعة أقاويل: أحدها: أنه عشرون سنة , قاله الحسن. الثاني: أربعون سنة , قاله إبراهيم. الثالث: ستون سنة , رواه أبو عبيدة الناجي. الرابع: سبعون سنة , قاله قتادة. الخامس: ثمانون سنة , قاله الكلبي. السادس: مائة سنة , رواه عبد الله بن بشر عن النبي صلى الله عليه وسلم.(5/76)
السابع: عشرون ومائة سنة , قاله زرارة بن أوفى. قوله عز وجل: {فنادوا ولات حين مناص} يحتمل وجهين: أحدهما: استغاثوا. الثاني: دعوا. ولات حين مناص التاء من لات مفصولة من الحاء وهي كذلك في المصحف , ومن وصلها بالحاء فقد أخطأ. وفيها وجهان: أحدها: أنها بمعنى لا وهو قول أبي عبيدة. الثاني: أنها بمعنى ليس ولا تعمل إلا في الحين خاصة , قال الشاعر:
(تذكر حب ليلى لات حيناً ... وأضحى الشيب قد قطع القرينا)
وفي تأويل قوله تعالى {ولات حين مناص} خمسة أوجه: أحدها: وليس حين ملجأ , قاله زيد بن أسلم. الثاني: وليس حين مَغاث , رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس , ومنه قول علي رضي الله عنه في رجز له:
(لأصبحنّ العاصي بن العاصي ... سبعين ألفاً عاقِدي النواصي)
(قد جنبوا الخيل على الدلاصِ ... آساد غيل حين لا مناص)
الثالث: وليس حين زوال، وراه أبو قابوس عن ابن عباس، ومنه قول الشاعر:
(فهم خشوع لدية لا مناص لهم ... يضمهم مجلس يشفي من الصيد)
الرابع: وليس حين فرار، قاله عكرمة والضحاك وقتادة قال الفراء مصدر من ناص ينوص. والنوص بالنون التأخر، والبوص بالباء التقدم وأنشد قول امريء القيس:
(أمِن ذكر ليلى إن نأتك تنوص ... فتقصر عنها خطوة وتبوص)(5/77)
فجمع في هذا البيت بين البوص والنوص فهو بالنون التأخر وبالباء التقدم. الخامس: أن النوص بالنون التقدم، والبوص بالباء التأخر، وهو من الأضداد، وكانوا إذا أحسوا في الحرب بفشل قال بعضهم لبعض: مناص: أي حملة واحدة، فينجو فيها من نجا ويهلك فيها من هلك , حكاه الكلبي: فصار تأويله على هذا الوجه ما قاله السدي أنهم حين عاينوا الموت لم يستطيعوا فراراً من العذاب ولا رجوعاً إلى التوبة.(5/78)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
{وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} قوله عز وجل: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} أمرهم أن يقولوا لا إله إلا الله أيسع لحاجَاتنا جميعاً إله واحد إن هذا لشيء عجاب بمعنى عجيب كما يقال رجل طوال وطويل، وكان الخليل يفرق بينهما في المعنى فيقول العجيب هو الذي قد يكون مثله والعجاب هو الذي لا يكون مثله , وكذلك الطويل والطوال. قوله عز وجل: {وانطلق الملأ منهم} والانطلاق الذهاب بسهولة ومنه طلاقة الوجه وفي الملأ منهم قولان: أحدهما: أنه عقبة بن معيط , قاله مجاهد. الثاني: أنه أبو جهل بن هشام أتى أبا طالب في مرضه شاكياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انطلق من عنده حين يئس من كفه، قاله ابن عباس. {أَنِ امشوا واصبروا على آلهتكم} فيه وجهان:(5/78)
أحدهما: اتركوه واعبدوا آلهتكم. الثاني: امضوا على أمركم في المعاندة واصبروا على آلهتكم في العبادة , والعرب تقول: امش على هذا الأمر , أي امض عليه والزمه. {إن هذا لشيء يراد} فيه وجهان: أحدهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أسلم وقوي به الإسلام شق على قريش فقالوا إن الإسلام عمر فيه قوة للإسلام وشيء يراد , قاله مقاتل. الثاني: أن خلاف محمد لنا ومفارقته لديننا إنما يريد به الرياسة علينا والتملك لنا. قوله عز وجل: {ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة} فيه أربعة أقويل: أحدها: في النصرانية لأنها كانت آخر الملل , قاله ابن عباس وقتادة والسدي. الثاني: فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام , قاله الحكم. الثالث: في ملة قريش , قاله مجاهد. الرابع: معناه أننا ما سمعنا أنه يخرج ذلك في زماننا , قاله الحسن. {إن هذا إلا اختلاق} أي كذب اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم. قوله عز وجل: {أم عندهم خزائن رحمة ربك} قال السدي مفاتيح النبوة فيعطونها من شاؤوا ويمنعونها من شاءُوا. قوله عز وجل: {فليرتقوا في الأسباب} فيه أربعة تأويلات: أحدها: في السماء، قاله ابن عباس. الثاني: في الفضل والدين، قاله السدي. الثالث: في طرق السماء وأبوابها، قاله مجاهد. الرابع: معناه فليعلوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة , وهو معنى قول أبي عبيدة.(5/79)
قوله عز وجل: {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} قال سعيد بن جبير: هم مشركو مكة و {ما} صلة للتأكيد , تقول: جئتك لأمر ما. قال الأعشى:
(فاذهبي ما إليك ادركني الحلم ... عداني عن هيجكم أشغالي)
ومعنى قوله جند أي أتباع مقلِّدون ليس فيهم عالم مرشد. {مهزوم من الأحزاب} يعني مشركي قريش أنه أحزاب إبليس وأتباعه وقيل لأنهم تحازبوا على الجحود لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قال قتادة: فبشره بهزيمتهم وهو بمكة فكان تأويلها يوم بدر.(5/80)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
{كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} قوله عز وجل: {كذبت قبلهم قوم نوح} ذكر الله عز وجل القوم بلفظ التأنيث , واختلف أهل العربية في تأنيثه على قولين: أحدهما: أنه قد يجوز فيه التأنيث والتذكير. الثاني: أنه مذكر اللفظ لا يجوز تأنيثه إلا أن يقع المعنى على العشيرة فيغلب في اللفظ حكم المعنى المضمر تنبيهاً عليه كقوله تعالى {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره} ولم يقل ذكرها لأنه لما كان المضمر فيه مذكوراً ذكره وإن كان اللفظ مقتضياً للتأنيث. {وعادٌ} وهم قوم هود كانوا بالأحقاف من أرض اليمن , قال ابن اسحاق: كانوا أصحاب أصنام يعبدونها , وكانت ثلاثة يقال لأحدها هدر وللآخر صمور للآخر الهنا , فأمرهم هود أن يوحدوا الله سبحانه ولا يجعلوا معه إِلهاً غيره ويكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم إلا بذلك.(5/80)
{وفرعون ذُو الأوتاد} وفي تسميته بذي الأوتاد أربعة أقاويل: أحدها: أنه كان كثير البنيان , والبنيان يسمى أوتاداً , قاله الضحاك. الثاني: أنه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب عليها , قاله ابن عباس وقتادة. الثالث: لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد , قاله السدي. والرابع: أنه يريد ثابت الملك شديد القوة كثبوت ما يشج بالأوتاد كما قال الأسود بن يعفر:
(ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد)
{وثمود} وهم عرب وحكى مقاتل أن عاداً وثمود أبناء عم , وكانت منازل ثمود بالحجر بين الحجاز والشام منها وادي القرى , بعث الله إليهم صالحاً , واختلف في إيمانهم به , فذكر ابن عباس أنهم آمنوا ثم مات فرجعوا بعده عن الإيمان فأحياه الله تعالى وبعثه إليهم وأعلمهم أنه صالح فكذبوه وقالوا قد مات صالح فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين فأتاهم الله الناقة , فكفروا وعقروها , فأهلكهم الله. وقال ابن إسحاق: إن الله بعث صالحاً شاباً فدعاهم حتى صار شيخاً , فقروا الناقة ولم يؤمنوا حتى هلكوا. {وقوم لوط} لم يؤمنوا حتى أهلكهم الله تعالى. قال مجاهد: وكانوا أربعمائة ألف بيت في كل بيت عشرة. وقال عطاء ما من أحد من الأنبياء إلا يقوم معه يوم القيامة قوم من أمته إلا آل لوط فإنه يقوم القيامة وحده. {وأصحاب الأيكة} بعث الله إليهم شعيباً. وفي {الأيكة} قولان: أحدهما: أنها الغيضة , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الملتف من النبع والسدر قاله أبو عمرو بن العلاء. قال قتادة: بعث شعيب إلى أمتين من الناس إلى أصحاب الإيكة وإلى مدين , وعذبتا بعذابين. {أولئك الأحزاب} يحتمل وجهين: أحدهما: أحزاب على الأنبياء بالعداوة. الثاني: أحزاب الشياطين بالموالاة.(5/81)
قوله عز وجل: {وما ينظر هؤلاء} يعني كفار هذه الأمة. {إلا صيحة واحدة} يعني النفخة الأولى. {ما لها من فواق} قرأ حمزة والكسائي بضم الفاء , والباقون بفتحها , واختلف في الضم والفتح على قولين: أحدهما: أنه بالفتح من الإفاضة وبالضم فُواق الناقة وهو قدر ما بين الحلبتين تقديراً للمدة. الثاني: معناهما واحد، وفي تأويله سبعة أقاويل: أحدها: معناه ما لها من ترداد، قاله ابن عباس. الثاني: ما لها من حبس، قاله حمزة بن إسماعيل. الثالث: من رجوع إلى الدنيا، قاله الحسن وقتادة. الرابع: من رحمة. وروي عن ابن عباس أيضاً. الخامس: ما لها من راحة، حكاه أبان بن تغلب. السادس: ما لها من تأخير لسرعتها قال الكلبي، ومنه قول أبي ذؤيب:
(إذا ماتت عن الدنيا حياتي ... فيا ليت القيامة عن فواق)
السابع: ما لهم بعدها من إقامة، وهو بمعنى قول السدي. قوله عز وجل: {وقالوا ربنا عَجَّل لنا قِطنا ... } الآية. فيه خمسة تأويلات: أحدها: معنى ذلك عجل لنا حظنا من الجنة التي وعدتنا، قاله ابن جبير. الثاني: عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي وعدتنا استهزاء منهم بذلك، قاله ابن عباس. الثالث: عجل لنا رزقنا، قاله إسماعيل بن أبي خالد. الرابع: أرنا منازلنا، قاله السدي. الخامس: عجل لنا في الدنيا كتابنا في الآخرة وهو قوله {فأما من أوتي كتابه بيمينه ... وأما من أوتي كتابه بشماله} استهزاء منهم بذلك. وأصل القط القطع، ومنه قط القلم وقولهم ما رأيته قط أي قطع الدهر بيني وبينه وأطلق على النصيب.(5/82)
والكتاب والرزق لقطعه من غيره إلا أنه في الكتاب أكثر استعمالاً وأقوى حقيقة، قال أمية بن أبي الصلت:
(قوم لهم ساحة العراق وما ... يجبى إليه والقط والقلح)
وفيه لمن قال بهذا قولان: أحدهما أنه ينطلق على كل كتاب يتوثق به. الثاني: أنه مخص بالكتاب الذي فيه عطية وصلة , قاله ابن بحر.(5/83)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
{اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} قوله عز وجل: {اصبر على ما يقولون} يعني كما صبر أولو العزم من الرسل لا كمن لم يصبر مثل يونس. {واذكر عبدنا داود} أي فإنا نحسن إليك كما أحسنا إلى داود قبلك بالصبر. {ذا الأيد} فيه قولان: أحدهما: ذا النعم التي أنعم الله بها عليه لأنها جمع يد حذفت منه الياء , واليد النعمة. الثاني: ذا القوة , قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد , ومنه {والسماء بنيناها بأيد} أي بقوة. وفيما نسب داود إليه من القوة قولان: أحدهما: القوة في طاعة الله والنصر في الحرب , قاله مجاهد. الثاني: ذا القوة في العبادة والفقه في الدين قاله قتادة. وذكر أنه كان يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر.(5/83)
{إنه أواب} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه التواب , قاله مجاهد وابن زيد. الثاني: أنه الذي يؤوب إلى الطاعة ويرجع إليها , حكاه ابن زيد. الثالث: أنه المسبح , قاله الكلبي. الرابع: أنه الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها , قاله المنصور. قوله عز وجل: {وشَدَدنا ملكه} فيه وجهان: أحدهما: بالتأييد والنصر. الثاني: بالجنود والهيبة. قال قتادة: باثنين وثلاثين ألف حرس. {وآتيناه الحكمة} فيها خمسة تأويلات: أحدها: النبوة , قاله السدي. الثاني: السنّة , قاله قتادة. الثالث: العدل , قاله ابن نجيح. الرابع: العلم والفهم , قاله شريح. الخامس: الفضل والفطنة. {وفصل الخطاب} فيه خمسة تأويلات: أحدها: على القضاء والعدل فيه , قاله ابن عباس والحسن. الثاني: تكليف المدعي البينة والمدعَى عليه اليمين , قاله شريح وقتادة. الثالث: قوله أما بعد , وهو أول من تكلم بها , قاله أبو موسى الأشعري والشعبي. الرابع: أنه البيان الكافي في كل غرض مقصود. الخامس: أنه الفصل بين الكلام الأول والكلام الثاني.(5/84)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
{وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه(5/84)
وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} قوله عز وجل: {وهل أتاك نبأ الخَصْم} والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة لأن أصله المصدر. {إذ تسوروا المحراب} ومعنى تسوروا أنهم أتوه من أعلى سورة وفي المحراب أربعة أقاويل: أحدها: أنه صدر المجلس , ومنه محراب المسجد , قاله أبو عبيدة. الثاني: مجلس الأشراف الذي يتحارب عليه لشرف صاحبه , حكاه ابن عيسى. الثالث: أنه المسجد , قاله يحيى بن سلام. الرابع: أنه الغرفة لأنهم تسوروا عليه فيها. {إذ دخلوا على داود ففزع منهم} وسبب ذلك ما حكاه ابن عيسى: إن داود حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم , فقيل له إنك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك، فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير فجعل يدرج بين يديه، فهمّ أن يستدرجه بيده فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب فدنا منه ليأخذه فانتفض فاطلع لينظره فأشرف على امرأة تغتسل فلما رأته غطت جسدها بشعرها، قال السدي فوقعت(5/85)
في قلبه، قال ابن عباس وكان زوجها غازياً في سبيل الله، قال مقاتل وهو أوريا بن حنان , فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت , وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا , فقدمه فيهم فقتل , فلما انقضت عدتها خطبها داود فاشترطت عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة بعده , وكتبت عليه بذلك كتاباً وأشهدت عليه خمسين رجلاً من بني إسرائيل فلم يشعر بفتنتها حتى ولدت سليمان وشب وتسور عليه الملكان وكان من شأنهما ما قَصَّه الله في كتابه. وفي فزعه منهما قولان: أحدهما: لأنهم تسوروا عليه من غير باب. الثاني: لأنهم أتوه في غير وقت جلوسه للنظر. {قالوا لا تخف خصمان بَغَى بعضنا على بعض} وكانا ملكين ولم يكونا خصمين ولا باغيين , ولا يأتي منهما كذب , وتقدير كلامها: ما تقول إن أتاك خصمان وقالا بغى بعضنا على بعض. وثنى بعضهم هنا وجمعه في الأول حيث قال: {وهل أتاك نبأ الخصم} لأن جملتهم جمعت , وهم فريقان كل واحد منهما خصم. {فاحكم بيننا بالحق} أي بالعدل. {ولا تشطط} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا تملْ، قاله قتادة. الثاني: لا تَجُر، قاله السدي. الثالث: لا تسرف، قاله الأخفش. وفي أصل الشطط قولان: أحدهما: أن أصله البعد من قولهم شطط الدار إذا بعدت، قال الشاعر:
(تشطط غداً دار جيراننا ... والدار بعد غد أبعد)
الثاني: الإفراط. قال الشاعر:
(ألا يالقومي قد اشطّت عواذلي ... وزعمن أن أودى بحقّي باطلي)(5/86)
{واهدِنا إلى سواءِ الصراط} فيه وجهان: أحدهما: أرشدنا إلى قصد الحق , قاله يحيى. الثاني: إلى عدل القضاء , قاله السدي. {إن هذا أخي} فيه وجهان: أحدهما: يعني على ديني , قاله ابن مسعود. الثاني: يعني صاحبي , قاله السدي. {له تسع وتسعونَ نعجةً وليَ نعجةٌ واحدةٌ} فيها وجهان: أحدهما: أنه أراد تسعاً وتسعين امرأة , فكنى عنهن , بالنعاج , قاله ابن عيسى. قال قطرب: النعجة هي المرأة الجميلة اللينة. الثاني: أنه أراد النعاج ليضربها مثلاً لداود , قاله الحسن. {فقال أكفلنيها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ضمها إليَّ , قاله يحيى. الثاني: أعطنيها , قاله الحسن. الثالث: تحوّل لي عنها , قاله ابن عباس وابن مسعود. {وعزّني في الخطاب} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أي قهرني في الخصومة , قاله قتادة. الثاني: غلبني على حقي , من قولهم من عزيز أي من غلب سلب , قاله ابن عيسى. الثالث: معناه إن تكلم كان أبين , وإن بطش كان أشد مني , وإن دعا كان أكثر مني , قاله الضحاك. قوله عز وجل: {قال لقد ظَلَمَكَ بسؤال نعجتِك إلى نعِاجه} فإن قيل فكيف يحكم لأحد الخصمين على الآخر بدعواه؟ ففيه جوابان: أحدهما: أن الآخر قد كان أقر بذلك فحكم عليه داود عليه السلام بإقراره، فحذف اكتفاء بفهم السامع، قاله السدي.(5/87)
الثاني: إن كان الأمر كما تقول لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه. {وإنَّ كثيراً من الخُلَطاءِ} يحتمل وجهين: أحدهما: الأصحاب. الثاني: الشركاء. {لَيَبْغِي بعضهم على بعض} أي يتعدى. {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} تقديره فلا يبغي بعضهم على بعض , فحذف اكتفاء بفهم السامع. {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} فيه وجهان: أحدهما: وقليل ما فيه من يبغي بعضهم على بعض , قاله ابن عباس. الثاني: وقليل من لا يبغي بعضهم على بعض , قاله قتادة. وفي {ما} التي في قوله {وقليل ما هم} وجهان: أحدهما: انها فضلة زائدة تقديره: وقليل هم. الثاني: أنها بمعنى الذي: تقديره: وقليل الذي هم كذلك. {وظن داود أنما فتناه} قال قتادة أي علم داود أنما فتناه وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: اختبرناه، قاله ابن عباس. الثاني: ابتليناه، قاله السدي. الثالث: شددنا عليه في التعبد، قاله ابن عيسى. {فاستغفر ربَّه} من ذنبه. قال قتادة: قضى نبي الله على نفسه ولم يفطن لذلك , فلما تبين له الذنب استغفر ربه. واختلف في الذنب على أربعة أقاويل: أحدها: أنه سمع من أحد الخصمين وحكم له قبل سماعه من الآخر.(5/88)
الثاني: هو أن وقعت عينه على امرأة أوريا بن حنان واسمها اليشع وهي تغتسل فأشبع نظره منها حتى علقت بقلبه. الثالث: هو ما نواه إن قتل زوجها تزوج بها وأحسن الخلافة عليها , قاله الحسن. وحكى السدي عن علي كرم الله وجهه قال: لو سمعت رجلاً يذكر أن داود قارف من تلك المرأة محرَّماً لجلدته ستين ومائة لأن حد الناس ثمانون وحد الأنبياء ستون ومائة , حَدّان. {وخَرّ راكعاً وأناب} أي خرّ ساجداً وقد يعبر عن السجود بالركوع , قال الشاعر:
(فخر على وجهه راكعاً ... وتاب إلى الله من كل ذنب)
قال مجاهد: مكث أربعين يوماً ساجداً لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينه فغطى رأسه إلى أن قال الله تعالى: {فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} أي مرجع. في الزلفى وجهان: أحدهما: الكرامة , وهو المشهور. الثاني: الرحمة قاله الضحاك. فرفع رأسه وقد قرح جبينه. واختلف في هذه السجدة على قولين:(5/89)
أحدهما: أنها سجدة عزيمة تسجد عند تلاوتها في الصلاة وغير الصلاة , قاله أبو حنيفة. الثاني: أنها سجدة شكر لا يسجد عند تلاوتها لا في الصلاة , ولا في غير الصلاة وهو قول الشافعي. قال وهب بن منبه: فمكث داود حيناً لا يشرب ماء إلا مزجه بدموعه , ولا يأكل طعاماً إلا بلّه بدموعه , ولا ينام على فراش إلا غرقه بدموعه. وحكي عن داود أنه كان يدعو على الخطائين فلما أصاب الخطيئة كان لا يمر بواد إلا قال: اللهم اغفر للخاطئين لعلك تغفر لي معهم.(5/90)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
{يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} قوله عز وجل: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} فيه وجهان: أحدهما: خليفة لله تعالى وتكون الخلافة هي النبوة. الثاني: خليفة لمن تقدمك لأن الباقي خليفة الماضي وتكون الخلافة هي الملك. {فاحكم بين الناس بالحق} فيه وجهان: أحدهما: بالعدل. الثاني: بالحق الذي لزمك لنا. {ولا تتبع الهوى} فيه وجهان: أحدهما: أن تميل مع من تهواه فتجور. الثاني: أن تحكم بما تهواه فتزلّ.(5/90)
{فيضلك عن سبيل الله} فيه وجهان: أحدهما: عن دين الله. الثاني: عن طاعة الله. {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نَسُوا يوم الحساب} فيه وجهان: أحدهما: بما تركوا العمل ليوم الحساب , قاله السدي. الثاني: بما أعرضوا عن يوم الحساب , قاله الحسن.(5/91)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق} قوله عز وجل: {إذ عُرِض عليه بالعشي الصافنات الجياد} الخيل وفيه وجهان: أحدهما: أن صفونها قيامها ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يقوم الرجال له صفوفاً فليتبوأ مقعده من النار) أي يديمون له القيام حكاه قطرب وأنشد قول النابغة:
(لنا قبة مضروبة بفنائها ... عتاق المهاري والجياد الصوافن)(5/91)
الثاني: أن صفونها رفع احدى اليدين على طرف الحافر حتى تقوم على ثلاث كما قال الشاعر:
(ألف الصفون فما يزل كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا)
وفي {الجياد} وجهان: أحدهما: أنها الطوال العناق مأخوذ من الجيد وهو العنق لأن طول أعناق الخيل من صفات فراهتها. الثاني: أنها السريع , قاله مجاهد واحدها جواد سمي بذلك لأنه يجود بالركض. قوله عز وجل: {فَقَالَ إِني أحببت حُبَّ الخَيْرِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني حب المال , قاله ابن جبير والضحاك. الثاني: حب الخيل قاله قتادة والسدي. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة) وفي قراءة ابن مسعود: حب الخيل. الثالث: حب الدنيا , قاله أسباط. وفي {أحببت حب الخير} وجهان: أحدهما: أن فيه تقديماً وتأخيراً تقديره: أحببت الخير حباً فقدم , فقال: أحببت حب الخير ثم أضاف فقال أحب الخير , قاله بعض النحويين. الثاني: أن الكلام على الولاء في نظمه من غير تقديم ولا تأخير , وتأويله: آثرت حب الخير. {عَن ذِكر ربي} فيه وجهان: أحدهما: عن صلاة العصر، قاله علي رضي الله عنه. الثاني: عن ذكر الله تعالى، قاله ابن عباس.(5/92)
وروى الحارث عن علي كرم الله وجهه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة الوسطى فقال: (هي صلاة العصر التي فرط فيها نبي الله سليمان عليه السلام) . {حتى توارت بالحجاب} فيه قولان: أحدهما: حت توارت الشمس بالحجاب، والحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق، قاله قتادة وكعب. الثاني: توارت الخيل بالحجاب أي شغلت بذكر ربها إلى تلك الحال، حكاه ابن عيسى. والحجاب الليل يسمى حجاباً لأنه يستر ما فيه. قوله عز وجل: {رُدُّوها عليَّ} يعني الخيل لأنها عرضت عليه فكانت تجري بين يديه فلا يستبين منها شيء لسرعتها وهو اللهم أغضَّ بصري , حتى غابت الحجاب ثم قال ردوها عليّ. {فطفق مسحاً بالسوق والأعناق} فيه قولان: أحدهما: أنه من شدة حبه لها مسح عراقيبها وأعناقها , قاله ابن عباس. الثاني: أنه لما رآها قد شغلته عن الصلاة ضرب عراقيبها وأعناقها , قاله الحسن وقتادة. ولم يكن ما اشتغل عنه من الصلاة فرضاً بل كان نفلاً لأن ترك الفرض(5/93)
عمداً فسق، وفعل ذلك تأديباً لنفسه. والخيل مأكولة اللحم فلم يكن ذلك منه إتلافاً يأثم به. قال الكلبي: كانت ألف فرس فعرقب تسعمائة وبقي منها مائة. فما في أيدي الناس من الخيل العتاق من نسل تلك المائة.(5/94)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
{ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} قوله عز وجل: {ولقد فتنا سُليمان} فيه وجهان: أحدهما: يعني ابتليناه قاله السدي. الثاني: عاقبناه، حكاه النقاش. وفي فتنته التي عوقب بها ستة أقاويل: أحدهما: أنه كان قارب بعض نسائه في بعض الشيء من حيض أو غيره قاله الحسن. الثاني: ما حكاه ابن عباس قال كانت لسليمان امرأة تسمى جرادة وكان بين أهلها وبين قوم خصومة فاختصموا إلى سليمان ففصل بينهم بالحق ولكنه ود أن الحق(5/94)
كان لأهلها فقيل له إنه سيصيبك بلاء فجعل لا يدري أمن الأرض يأتيه البلاء أم من السماء. الثالث: ما حكاه سعيد بن المسيب أن سليمان احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد ولم ينصف مظلوماً من ظالم فأوحى الله تعالى إليه إني لم أستخلفك لتحجب عن عبادي ولكن لتقضي بينهم وتنصف مظلومهم. الرابع: ما حكاه شهر بن حوشب أن سليمان سبى بنت ملك غزان في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون , فألقيت عليه محبتها وهي معرضة عنه تذكر أمر أبيها لا تنظر إليه إلا شزراً ولا تكلمه إلا نزراً، ثم إنها سألته أن يضع لها تمثالاً على صورته فصنع لها فعظمته وسجدت له وسجد جواريها معها , وصار صنماً معبوداً في داره وهو لا يعلم به حتى مضت أربعون يوماً وفشا خبره في بني إسرائيل وعلم به سليمان فكسره وحرقه ثم ذراه في الريح. الخامس: ما حكاه مجاهد أن سليمان قال لآصف الشيطان كيف تضلون الناس؟ فقال له الشيطان أعطني خاتمك حتى أخبرك , فأعطاه خاتمه فألقاه في البحر حتى ذهب ملكه.(5/95)
السادس: ما حكاه أبان عن أنس أن سليمان قال ذات ليلة: والله لأطوفن على نسائي في هذه الليلة وهن ألف امرأة كلهن تشتمل بغلام , كلهم يقاتل في سبيل الله , ولم يستثن. قال أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفس محمد بيده لو استثنى لكان ما قال) فما حملت له تلك الليلة إلا امرأة واحدة فولدت له شق إنسان. {وألقينا على كُرْسيِّه جسداً} فيه قولان: أحدهما: معناه وجعلنا في ملكه جسداً , والكرسي هو الملك. الثاني: وألقينا على سرير ملكه جسداً. وفي هذا الجسد أربعة أقاويل: أحدها: أنه جسد سليمان مرض فكان جسده ملقى على كرسيه , قاله ابن بحر. الثاني: أنه ولد له ولد فخاف عليه فأودعه في السحاب يغذى في اليوم كالجمعة , وفي الجمعة كالشهر وفي الشهر كالسنة , فلم يشعر إلا وقد وقع على كرسيه ميتاً , قاله الشعبي. الثالث: أنه أكثر من وطء جواريه طلباً للولد , فولد له نصف إنسان , فهو كان الجسد الملقى على كرسيه , حكاه النقاش. الرابع: أن الله كان قد جعل ملك سليمان في خاتمه فكان إذا أجنب أو ذهب للغائط خلعه من يده ودفعه إلى أوثق نسائه حتى يعود فيأخذه , فدفعه مرة إلى بعض نسائه وذهب لحاجته فجاء شيطان فتصور لها في صورة سليمان فطلب الخاتم منها فأعطته إياه , وجاء سليمان بعده فطلبه , فقالت قد أخذته فأحس سليمان. واختلف في اسم امرأته هذه على قولين:(5/96)
أحدهما: جرادة , قاله ابن عباس وابن جبير. الثاني: الأمينة , قاله شهر بن حوشب. وقال سعيد بن المسيب: كان سليمان قد وضع خاتمه تحت فراشه فأخذه الشيطان من تحته. وقال مجاهد: بل أخذه الشيطان من يده لأن سليمان سأل الشيطان كيف تضل الناس؟ فقال الشيطان: أعطني خاتمك حتى أخبرك فأعطاه خاتمه , فلما أخذ الشيطان الخاتم جلس على كرسي سليمان متشبهاً بصورته داخلاً على نسائه , يقضي بغير الحق ويأمر بغير صواب. واختلف في إصابته النساء , فحكي عن ابن عباس: أنه كان يأتيهن في حيضهن. وقال مجاهد: منع من إتيانهن , وزال عن سليمان ملكه فخرج هارباً إلى ساحل البحر يتضيف الناس ويحمل سموك الصيادين بالأجرة , وإذا أخبر الناس أنه سليمان أكذبوه , فجلس الشيطان على سريره , وهو معنى قوله تعالى وألقينا على كرسيه جسداً. واختلف في اسم هذا الشيطان على أربعة أقاويل: أحدها: أن اسمه صخر , قاله ابن عباس. الثاني: آصف , قاله مجاهد. الثالث: حقيق , قاله السدي. الرابع: سيد , قاله قتادة. ثم إن سليمان بعد أن استنكر بنو إسرائيل حكم الشيطان أخذ حوته من صياد قيل إنه استطعمها , وقال ابن عباس أخذها أجراً في حمل حوت حمله , فلما شق بطنه وجد خاتمه فيها , وذكل بعد أربعين يوماً من زوال ملكه عنه , وهي عدة الأيام التي عُبد الصنم في داره. قاله مقاتل وملك أربعين سنة، عشرين سنة قبل الفتنة وعشرين بعدها. وكانت الأربعون يوماً التي خرج فيها عن ملكه ذا القعدة وعشراً من ذي الحجة، فسجد الناس له حين عاد الخاتم إليه وصار إلى ملكه.(5/97)
وحكى يحيى بن أبي عمرو الشيباني أن سليمان وجد خاتمه بعسقلان فمشى منها إلى بيت المقدس تواضعاً لله. قال ابن عباس: ثم إن سليمان ظفر بالشيطان فجعله في تخت من رخام وشده بالنحاس وألقاه في البحر. فهذا تفسير قوله تعالى {وألقينا على كرسيه جسداً} . {ثم أناب} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ثم رجع إلى ملكه , قاله الضحاك. الثاني: ثم أناب من ذنبه , قاله قتادة. الثالث: ثم برأ من مرضه , قاله ابن بحر. قوله عز وجل: {قال ربِّ اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ليكون ذلك معجزاً له يعلم به الرضا ويستدل به على قبول التوبة. الثاني: ليقوى به على من عصاه من الجن، فسخرت له الريح حينئذٍ. الثالث: لا ينبغي لأحد من بعدي في حياتي أن ينزعه مني كالجسد الذي جلس على كرسيه , قاله الحسن. {إنك أنت الوهاب} أي المعطي، قال مقاتل: سأل الله تعالى ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده بعد الفتنة فزاده الله تعالى الريح والشياطين بعدما ابتلى، وقال الكلبي حكم سليمان في الحرث وهو ابن إحدى عشرة سنة، وملك وهو ابن اثنتي عشرة سنة. قوله عز وجل: {فسخرنا له الريح} أي ذللناها لطاعته. {تجري بأمره} يحتمل وجهين: أحدهما: تحمل ما يأمرها. الثاني: تجري إلى حيث يأمرها.(5/98)
{رخاء} فيه خمسة تأويلات: أحدها: طيبة، قاله مجاهد. الثاني: سريعة، قاله قتادة. الثالث: مطيعة، قاله الضحاك. الرابع: لينة، قاله ابن زيد. الخامس: ليست بالعاصفة المؤذية ولا بالضعيفة المقصرة، قاله الحسن. {حيث أصاب} فيه وجهان: أحدهما: حيث أراد , قاله مجاهد وقال قتادة: هو بلسان هجر. قال الأصمعي: العرب تقول أصاب الصواب فأخطأ الجواب , أي أراد الصواب. الثاني: حيث ما قصد مأخوذ من إصابة السهم الغرض المقصود. قوله عز وجل: {والشياطين كلَّ بناءٍ وغواص} يعني سخرنا له الشياطين كل بناء يعني في البر , وغواص يعني في البحر على حليّه وجواهره. {وآخرين مقرنين في الأصفاد} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في السلاسل: قاله قتادة. الثاني: في الأغلال , قاله السدي. الثالث: في الوثاق , قاله ابن عيسى , قال الشاعر:
(فآبُوا بالنهابِ وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مُصَفّدينا)
قال يحيى بن سلام: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفرهم , فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم. ووجد على سور مدينة سليمان عليه السلام:
(لو أن حيّاً ينال الخُلد في مهل ... لنال ذاك سليمان بن داوِد)
(سالت له العين عين القطر فائضة ... فيه ومنه عطاءٌ غير موصود)
(لم يبق من بعدها في الملك مرتقياً ... حتى تضمن رمْساً بعد أخدود)
(هذا التعْلَم أنّ الملك منقطع ... إلاّ من الله ذي التقوى وذي الجود)(5/99)
قوله عز وجل: {هذا عطاؤنا ... } في المشار إليه بهذا ثلاثة أقاويل: أحدها: ما تقدم ذكره من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده بتسخير الريح والشياطين. فعلى هذا في قوله {فامنن أو أمسك بغير حساب} وجهان: أحدهما: امنن على من شئت من الجن بإطلاقه , أو امسك من شئت منهم في عمله من غير حرج عليك فيما فعلته بهم , قاله قتادة والسدي. الثاني: اعط من شئت من الناس وامنع من شئت منهم. {بغير حساب} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بغير تقدير فيما تعطي وتمنع حكاه ابن عيسى. الثاني: بغير حرج , قاله مجاهد. الثالث: بغير حساب تحاسب عليه يوم القيامة , قاله سعيد بن جبير. قال الحسن: ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه فيها تبعة إلا سليمان فإن الله تعالى يقول: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} وحكى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله {هذا عطاؤنا} الآية. قال سليمان عليه السلام: أوتينا ما أوتي الناس وما لم يؤتوا، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا فلم نر شيئاً هو أفضل من خشية الله في الغيب والشهادة، والقصد في الغنى والفقر , وكلمة الحق في الرضا والغضب. والقول الثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره هذا عطاؤنا بغير حساب فامنن أو أمسك، فعلى هذا في قوله فامنن أو أمسك وجهان: أحدهما: بغير جزاء. الثاني: بغير قلة. والقول الثالث: إن هذا إشارة إلى مضمر غير مذكور وهو ما حكي أن سليمان كان في ظهره ماء مائة رجل وكان له ثلاثمائة امرأته وسبعمائة سرية فقال الله تعالى(5/100)
{هذا عطاؤنا} يعني الذي أعطيناك من القوة على النكاح {فامنن} بجماع من تشاء من نسائِك {أو أمسك} عن جماع من تشاء من نسائِك. فعلى هذا في قوله بغير حساب وجهان: أحدهما: بغير مؤاخذة فيمن جامعت أو عزلت. الثاني: بغير عدد محصور فيمن استبحت أو نكحت. وهذا القول عدول من الظاهر إلى ادعاء مضمر بغير دليل لكن قيل فذكرته.(5/101)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
{واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} قوله عز وجل: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصبٍ وعذابٍ} قيل هو أيوب بن حوص بن روعويل وكان في زمن يعقوب بن إسحاق , وتزوج بنته إليا بنت يعقوب وكانت أمّه بنت لوط عليه السلام , وكان أبوه حوص ممن آمن بإبراهيم عليه السلام. وفي قوله {مسني الشيطان} وجهان: أحدهما: أن مس الشيطان وسوسته وتذكيره بما كان فيه من نعمة وما صار إليه من محنة، حكاه ابن عيسى. الثاني: الشيطان استأذن الله تعالى أن يسلطه على ماله فسلطه، ثم أهله وداره فسلطه، ثم جسده فسلطه، ثم على قلبه فلم يسلطه , قال ابن عباس فهو قوله: {مسني الشيطان} الآية. {بنصب وعذاب} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني بالنصب الألم وبالعذاب السقم، قاله مبشر بن عبيد. الثاني: النصب في جسده، والعذاب في ماله، قاله السدي. الثالث: أن النصب العناء، والعذاب البلاء.(5/101)
قوله عز وجل: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشرابٌ} قال قتادة هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية. وفيهما قولان: أحدهما: أنه اغتسل من إحداهما فأذهب الله تعالى ظاهر دائه وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه , قاله الحسن. الثاني: أنه اغتسل من إحداهما فبرىء , وشرب من الأخرى فروي , قاله قتادة. وفي المغتسل وجهان: أحدهما: أنه كان الموضع الذي يغتسل منه , قاله مقاتل. الثاني: أنه الماء الذي يغتسل به , قاله ابن قتيبة. وفي مدة مرضه قولان: أحدهما: سبع سنين وسبعة أشهر , قاله ابن عباس. الثاني: ثماني عشرة سنة رواه أنس مرفوعاً. قوله عز وجل: {ووهبنا له أهله ومثلهم معهم} وفيما أصابهم ثلاثة أقويل: أحدها: أنهم كانوا مرضى فشفاهم الله. الثاني: أنهم غابوا عنه فردهم الله عليه , وهذا القولان حكاهما ابن بحر. الثالث: وهو ما عليه الجمهور أنهم كانوا قد ماتوا. فعلى هذا في هبتهم له ومثلهم معهم خمسة أقاويل: أحدها: أن الله تعالى رد عليه أهله وولده ومواشيه بأعيانهم , لأنه تعالى أماتهم قبل آجالهم ابتلاء ووهب له من أولادهم مثلهم، قاله الحسن. الثاني: أن الله سبحانه ردهم عليه بأعيانهم ووهب له مثلهم من غيرهم قاله ابن عباس. الثالث: أنه رد عليه ثوابهم في الجنة ووهب له مثلهم في الدنيا، قاله السدي. الرابع: أنه رد عليه أهله في الجنة، وأصاب امرأته فجاءته بمثلهم في الدنيا. الخامس: أنه لم يرد عليه منهم بعد موتهم أحداً وكانوا ثلاثة عشرا ابناً فوهب الله(5/102)
تعالى له من زوجته التي هي أم من مات مثلهم فولدت ستة وعشرين ابناً، قاله الضحاك. {رحمة منا} أي نعمة منا. {وذكرَى لأولي الألباب} أي عبرة لذوي العقول. قوله عز وجل: {وخُذْ بيدك ضِغْثاً فاضرب له ولا تحنثْ} كان أيوب قد حلف في مرضه على زوجته أن يضربها مائة جلدة. وفي سبب ذلك ثلاثة أقاويل: أحدها: ما قاله ابن عباس أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب , فقال أداويه على أنه إذا برىء قال أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه قالت نعم , فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها. الثاني: ما حكاه سعيد بن المسيب أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربنها. الثالث: ما حكاه يحيى بن سلام أن الشيطان أغواها على أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة ليبرأ بها فحلف ليجلدنها فلما برىء أيوب وعلم الله تعالى بإيمان امرأته أمره رفقاً بها وبراً له يأخذ بيده ضغثاً. وفيه سبعة أقاويل: أحدها: أنه أشكال النخل الجامع لشماريخه، قاله ابن عباس. الثاني: الأثل، حكاه مجاهد وقاله مجاهد. الثالث: السنبل , حكاه يحيى بن سلام. الرابع: الثمام اليابس، قاله سعيد بن المسيب. الخامس: الشجر الرطب، قاله الأخفش. السادس: الحزمة من الحشيش، قاله قطرب وأنشد قول الكميت:
(تحيد شِماساً إذا ما العسيفُ ... بضِغثِ الخلاء إليها أشارا)
السابع: أنه ملء الكف من القش أو الحشيش أو الشماريخ، قاله أبوعبيدة.(5/103)
{فاضرب} فاضرب بعدد ما حلفت عليه وهو أن يجمع مائة من عدد الضغث فيضربها به في دفعة يعلم فيها وصول جميعها إلى بدنها فيقوم ذلك فيها مقام مائة جلدة مفردة. {ولا تحنث} يعني في اليمين وفيه قولان: أحدهما: أن ذلك لأيوب خاصة , قاله مجاهد. الثاني: عام في أيوب وغيره من هذه الأمة , قاله قتادة. والذي نقوله في ذلك مذهباً: إن كان هذا في حد الله تعالى جاز في المعذور بمرض أو زمانة ولم يجز في غيره , وإن كان في يمين جاز في المعذور وغيره إذا اقترن به ألم المضروب , فإن تجرد عن ألم ففي بره وجهان: أحدهما: يبر لوجود العدد المحلوف عليه. الثاني: لا يبر لعدم المقصود من الألم. {إنا وجدناه صابراً} يحتمل وجهين: أحدهما: على الطاعة. الثاني: على البلاء. {نِعم العبد} يعني نعم العبد في صبره. {إنه أوّاب} إلى ربه. وفي بلائه قولان: أحدهما: أنه بلوى اختبار ودرجة ثواب من غير ذنب عوقب عليه. الثاني: أنه بذنب عوقب عليه بهذه البلوى وفيه قولان: أحدهما: أنه دخل على بعض الجبابرة فرأى منكراً فسكت عنه. الثاني: أنه ذبح شاة فأكلها وجاره جائع لم يطعمه.(5/104)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
{واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار}(5/104)
قوله عز وجل: {واذكُرْ عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن الأيدي القوة على العبادة , والأبصار الفقه في الدين , قاله ابن عباس. الثاني: أن الأيدي القوة في أمر الله , والأبصار العلم بكتاب الله , قاله قتادة. الثالث: أن الأيدي النعمة رواه الضحاك , والأبصار العقول , قاله مجاهد. الرابع: الأيدي القوة في أبدانهم , والأبصار القوة في أديانهم , قاله عطية. الخامس: أن الأيدي العمل والأبصار العلم , قاله ابن بحر. قال مقاتل: ذكر الله إبراهيم واسحاق ويعقوب ولم يذكر معهم إسماعيل لأن إبراهيم صبر على إلقائه في النار , وصبر إسحاق على الذبح , وصبر يعقوب على ذهاب بصره ولم يبتل إسماعيل ببلوى. قوله عز وجل: {إنا أخلصناهم بخالصةٍ ذكرى الدار} فيه خمسة أوجه: أحدها: نزع الله ما في قلوبهم من الدنيا وذكرها , وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها , قاله مالك بن دينار. الثاني: اصطفيناهم لأفضل ما في الآخرة وأعطيناهم , قاله ابن زياد. الثالث: أخلصناهم بخالصة الكتب المنزلة التي فيها ذكرى الدار الآخرة , وهذا قول مأثور. الرابع: أخلصناهم بالنبوة وذكرى الدار الآخرة , قاله مقاتل. الخامس: أخلصناهم من العاهات والآفات وجعلناهم ذاكرين الدار الآخرة , حكاه النقاش.(5/105)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
{هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب جنات عدن مفتحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب وعندهم قاصرات الطرف أتراب هذا ما توعدون ليوم الحساب إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}(5/105)
قوله عز وجل: {وعندهم قاصرات الطرف أتراب} يعني قاصرات الطرف على أزواجهم. {أتراب} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أقران، قاله عطية. الثاني: أمثال، قاله مجاهد. الثالث: متآخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم. الرابع: مستويات الأسنان بنات ثلاث وثلاثين قاله يحيى بن سلام. الخامس: أتراب أزواجهن بأن خلقهن على مقاديرهم، وقال ابن عيسى: الترب اللدة وهو مأخوذ من اللعب بالتراب.(5/106)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
{هذا وإن للطاغين لشر مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} قوله عز وجل: {هذا فليذوقوه حميمٌ وغساق} أي منه حميم ومنه غساق والحميم الحار , وفي الغساق ستة أوجه: أحدها: أنه البارد الزمهرير , قاله ابن عباس فكأنهم عذبوا بحارّ التراب وبارده. الثاني: أنه القيح الذي يسيل من جلودهم، قاله عطية. الثالث: أنه دموعهم التي تسيل من أعينهم، قاله قتادة. الرابع: أنها عين في جهنم تسيل إليها حِمة كل ذي حِمة من حية أو عقرب، قاله كعب الأحبار.(5/106)
الخامس: أنه المنتن , رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً. السادس: أنه السواد والظلمة وهو ضد ما يراد من صفاء الشراب ورقته , قاله ابن بحر. وفي هذا الاسم وجهان: أحدهما: حكاه النقاش أنه بلغة الترك. الثاني: حكاه ابن بحر وابن عيسى أنه عربي مشتق واختلف في اشتقاقه على وجهين: أحدهما: من الغسق وهو الظمة , قاله ابن بحر. الثاني: من غسقت القرحة تغسق غسقاً. إذا جرت , وأنشد قطرب قول الشاعر:
(فالعين مطروقة لبينهم ... تغسق في غربة سرها)
وإليه ذهب ابن عيسى. وفي {غساق} قراءتان بالتخفيف والتشديد وفيها وجهان: أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد , قاله الأخفش. الثاني: معناهما مختلف والمراد بالتخفيف الاسم وبالتشديد الفعل وقيل إن في الكلام تقديماً وتأخيراً , وتقديره: هذا حميم وهذا غساق فليذوقوه. قوله عز وجل: {وآخر مِنْ شكله أزواج} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: وآخر من شكل العذاب أنواع , قاله السدي. الثاني: وآخر من شكل عذاب الدنيا أنواع في الآخرة لم تر في الدنيا , قاله الحسن. الثالث: أنه الزمهرير , قاله بن مسعود. وفي الأزواج هنا ثلاثة أوجه: أحدها: أنواع. الثاني: ألوان. الثالث: مجموعة.(5/107)
قوله عز وجل: {هذا فوج مقتحم معكم ... } فوج بعد فوج أي قوم بعد قوم , مقتحمون النار أي يدخلونها. وفي الفوج قولان: أحدهما: أنهم بنو إبليس. والثاني: بنو آدم , قاله الحسن. والقول الثاني: أن كلا الفوجين بنو آدم إلى أن الأول الرؤساء والثاني الأتباع. وحكىالنقاش أن الفوج الأول قادة المشركين ومطعموهم يوم بدر , والفوج الثاني أتباعهم ببدر. وفي القائل {هذا فوجٌ مقتحم معكم} قولان: أحدهما: الملائكة قالوا لبني إبليس لما تقدموا في النار هذا فوج مقتحم معكم إشارة لبني آدم حين دخلوها. قال بنو إبليس {لا مرحَباً بهم إنهم صالوا النار قالوا} أي بنو آدم: {بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار} . والقول الثاني: أن الله قال للفوج الأول حين أمر بدخول الفوج الثاني: {هذا فوج مقتحم معكم} فأجابوه {لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار} فأجابهم الفوج الثاني {بل أنتم مرحباً بكم أنتم قدمتموه لنا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أنتم شرعتموه لنا وجعلتم لنا إليه قدماً , قاله الكلبي. الثاني: قدمتم لنا هذا العذاب بما أضللتمونا عن الهدى {فبئس القرار} أي بئس الدار النار , قاله الضحاك. الثالث: أنتم قدمتم لنا الكفر الذي استوجبنا به هذا العذاب في النار , حكاه ابن زياد. {قالوا ربنا من قدم لنا هذا} الآية. يحتمل وجهين: أحدهما: أنه قاله الفوج الأول جواباً للفوج الثاني. الثاني: قاله الفوج تبعاً لكلامهم الأول تحقيقاً لقولهم عند التكذيب. وفي تأويل {من قدم لنا هذا} وجهان: أحدهما: من سنه وشرعه , قاله الكلبي. الثاني: من زينه , قاله مقاتل. والمرحب والرحب: السعة ومنه سميت الرحبة(5/108)
لسعتها ومعناه لا اتسعت لكم أماكنكم؛ وأنشد الأخفش قول أبي الأسود.
(اذا جئت بوّاباً له قال مرحباً ... ألا مَرْحباً واديك غير مضيق)
قوله عز وجل: {وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً ... } الآية. قال مجاهد هذا يقوله أبو جهل وأشياعه في النار: ما لنا لا نرى رجلاً كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار لا نرى عماراً وخباباً وصهيباً وبلالاً. {أتخذناهم سخرياً} قال مجاهد اتخذناهم سخرياً في الدنيا فأخطأنا. {أم زاغت عنهم الأبصار} فلم نعلم مكانهم. قال الحسن: كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم. وقال أبو عبيدة من كسر {سخرياً} جعله من الهزء , ومن ضمه جعله من التسخير {أم زاغت عنهم الأبصار} يعني أهم معنا في النار أم زاغت أبصارنا فلا نراهم وإن كانوا معنا.(5/109)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
{قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين} قوله عز وجل: {قُلْ هو نبأ عظيم} فيه قولان: أحدهما: أنه القيامة لأن الله تعالى قد أنبأنا بها في كتبه. والقول الثاني: هو القرآن , قاله مجاهد والضحاك والسدي. {أنتم عنه معرضون} قال الضحاك أنتم به مكذبون. قال السدي: يريد به المشركين. وفي تسميته نبأ وجهان: أحدهما: لأن الله أنبأ به فعرفناه. الثاني: لأن فيه أنباء الأولين. وفي وصفه بأنه عظيم وجهان: أحدهما: لعظم قدره وكثرة منفعته.(5/109)
الثاني: لعظيم ما تضمنه من الزواجر والأوامر. قوله عز وجل: {ما كان لي من عِلم بالملإِ الأعلى} قال ابن عباس يعني الملائكة. {إذ يختصمون} فيه وجهان: أحدهما: في قوله تعالى للملائكة: {إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها} الآية. فهذه الخصومة , قاله ابن عباس. الثاني: ما رواه أبو الأشهب عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سألني ربي فقال يا محمد فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قلت في الكفارات والدرجات , قال وما الكفارات؟ قلت المشي على الأقدام إلى الجماعات , وإسباغ الوضوء في السبرات , والتعقيب في المساجد انتظار الصلوات بعد الصلوات. قال وما الدرجات؟ قلت إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بليل والناس نيام) .(5/110)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
{إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني(5/110)
إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين} قوله عز وجل: {قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خَلَقْتُ بيديَّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بقوتي، قاله علي بن عاصم. الثاني: بقدرتي، ومنه قول الشاعر:
(تحملت من عفراء، ما ليس لي به ... ولا للجبال الراسيات يدان)
الثالث: لما توليت خلقه بنفسي , قاله ابن عيسى. {أستكبرت} أي عن الطاعة أم تعاليت عن السجود؟ قوله عز وجل: {قال فالحق والحق أقول} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنا الحق , وأقول الحق، قاله مجاهد. الثاني: الحق مني والحق قولي، رواه الحكم.(5/111)
الثالث: معناه حقاً لأملأن جهنم منك ومن تبعك منهم أجمعين , قاله الحسن. قوله عز وجل: {قل ما أسألكم عليه من أجْر} فيه وجهان: أحدهما: قل يا محمد للمشركين ما أسألكم على ما أدعوكم إليه من طاعة الله أجراً قاله ابن عباس. الثاني: ما أسألكم على ما جئتكم به من القرآن أجراً , قاله عطاء. {وما أنا من المتكلفين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وما أنا من المتكلفين لهذا القرآن من تلقاء نفسي. الثاني: وما أنا من المتكلفين لأن آمركم بما لم أؤمر به. الثالث: وما أنا بالذي أكلفكم الأجر وهو معنى قول مقاتل. قوله عز وجل: {ولتعلَمُنَّ نبأه بَعْد حين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: نبأ القرآن أنه حق. الثاني: نبأ محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول. الثالث: نبأ الوعيد أنه صدق. {بعد حين} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: بعد الموت , قاله قتادة. وقال الحسن: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين. الثاني: يوم بدر , قاله السدي. الثالث: يوم القيامة , قاله ابن زيد وعكرمة، والله أعلم.(5/112)
سورة الزمر
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس إلا آيتين نزلتا بالمدينة إحداهما {الله نزل أحسن الحديث} ، والأخرى {قل يا عبادي الذين أسرفوا} الآية وقال آخرون إلا سبع آيات من قوله تعالى {قل يا عبادي الذين أسرفوا} إلى آخر السبع. بسم الله الرحمن الرحيم(5/113)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
{تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار} قوله عز وجل: {تنزيل الكتاب} والكتاب هو القرآن سمي بذلك لأنه مكتوب. {من الله العزيز الحكيم} فيه وجهان: أحدهما: العزيز في ملكه الحكيم في أمره. الثاني: العزيز في نقمته الحكيم في عدله. قوله عز وجل: {فاعبد الله مخلصاً له الدين} فيه وجهان:(5/113)
أحدهما: أنه الإخلاص بالتوحيد , قاله السدي. الثاني: إخلاص النية لوجهه , وفي قوله {له الدين} وجهان: أحدهما: له الطاعة , قاله ابن بحر. الثاني: العبادة. {ألا لله الدين الخالص} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: شهادة أن لا إله إلا الله , قاله قتادة. الثاني: الإسلام , قاله الحسن. الثالث: ما لا رياء فيه من الطاعات. {والذين اتخذوا من دونه أولياء} يعني آلهة يعبدونها. {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} قال كفار قريش هذه لأوثانهم وقال من قبلهم ذلك لمن عبدوه من الملائكة وعزير وعيسى , أي عبادتنا لهم ليقربونا إلى الله زلفى , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الزلفى الشفاعة في هذا الموضع , قاله قتادة. الثاني: أنها المنزلة , قاله السدي. الثالث: أنها القرب , قاله ابن زيد.(5/114)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
{خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون} قوله عز وجل: {يكوِّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يحمل الليل على النهار، ويحمل النهار على الليل، قاله ابن عباس.(5/114)
الثاني: يغشى الليل على النهار فيذهب ضوءه، ويغشى النهارعلى الليل فيذهب ظلمته، قاله قتادة. الثالث: هو نقصان أحدهما عن الآخر، فيعود نقصان الليل في زيادة النهار ونقصان النهار في زيادة الليل، قاله الضحاك. ويحتمل رابعاً: يجمع الليل حتى ينتشر النهار، ويجمع النهار حتى ينتشر الليل. قوله عز وجل: {خلقكم من نفسٍ واحدة} يعني من آدم. {ثم جعل منها زوجها} يعني حواء. فيه وجهان: أحدهما: أنه خلقها من ضلع الخَلْف من آدم وهو أسفل الأضلاع , قاله الضحاك. الثاني: أنه خلقها من مثل ما خلق منه آدم , فيكون معنى قوله {جعل منها} أي من مثلها , قاله ابن بحر. {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} قال قتادة: من الإبل اثنين , ومن البقر اثنين , ومن الضأن اثنين , ومن المعز اثنين , كل واحد زوج. وفي قوله {أنزل} وجهان: أحدهما: يعني جعل , قاله الحسن. الثاني: أنزلها بعد أن خلقها في الجنة , حكاه ابن عيسى. {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق} فيه وجهان: أحدهما: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم لحماً , قاله قتادة والسدي. الثاني: خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهرآدم , قاله السدي. ويحتمل ثالثاً: خلقاً في ظهر الأب ثم خلقاً في بطن الأم ثم خلقاً بعد الوضع. {في ظلمات ثلاث} فيه وجهان: أحدهما: ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة. الثاني: ظلمة صلب الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم، حكاه ابن(5/115)
عيسى. ويحتمل ثالثاً: أنها ظلمة عتمة الليل التي تحيط بظلمة المشيمة مظلمة الأحشاء وظلمة البطن.(5/116)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
{إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار} قوله عز وجل: {وإذا مس الإنسان ضُرٌّ دعا ربَّهُ منيباً إليه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مخلصاً إليه , قاله الضحاك. الثاني: مستغيثاً به , قاله السدي. الثالث: مقبلاً عليه , قاله الكلبي وقطرب. {ثم إذا خوّله منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل} فيه وجهان: أحدهما: إذا أصابته نعمة ترك الدعاء , قاله الكلبي. الثاني: إذا أصابته نعمة ترك الدعاء , قاله الكلبي. الثاني: إذا أصابته عافية نَسي الضر. والتخويل العطية العظيمة من هبة أو منحة , قال أبو النجم:
(أعطى فلم يبخل ولم يبخلِ ... كوم الذّرى من خول المخوِّلِ)(5/116)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
{أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} قوله عز وجل: {أمَّن هو قانتٌ} في الألف التي في {أمّن} وجهان: أحدهما: أنها ألف استفهام. الثاني: ألف نداء.(5/116)
وفي قانت أربعة أوجه: أحدها: أنه المطيع , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه الخاشع في صلاته , قاله ابن شهاب. الثالث: القائم في صلاته , قاله يحيى بن سلام. الرابع: أنه الداعي لربه. {آناء الليل} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: طرف الليل , قاله ابن عباس. الثاني: ساعات الليل , قاله الحسن. الثالث: ما بين المغرب والعشاء , قاله منصور. {ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه} قال السدي: يحذر عذاب الآخرة ويرجوا نعيم الجنة. وفيمن أريد به هذا الكلام خمسة أقاويل: أحدها: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم , حكاه يحيى بن سلام. الثاني: أبو بكر , قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه. الثالث: عثمان بن عفان , قاله ابن عمر. الرابع: عمار بن ياسر وصهيب وأبو ذر وابن مسعود , قاله الكلبي. الخامس: أنه مرسل فيمن كان على هذه الحال قانتاً آناء الليل. فمن زعم أن الألف الأولى استفهام أضمر في الكلام جواباً محذوفاً تقديره: أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً كمن جعل لله أنداداً؟ قاله يحيى. وقال ابن عيسى: المحذوف من الجواب: كمن ليس كذلك. ومن زعم أن الألف للنداء لم يضمر جواباً محذوفاً , وجعل تقدير الكلام: أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هل يستوي الذين يعلمون هذا فيعملون به والذين لا يعلمون هذا فلا يعملون به , قاله قتادة. الثاني: أن الذين يعلمون هم المؤمنون يعلمون أنهم لاقو ربهم , والذين لا(5/117)
يعلمون هم المشركون الذين جعلوا لله أنداداً قاله يحيى. الثالث: ما قاله أبو جعفر محمد بن علي قال: الذين يعلمون نحن , والذين لا يعلمون عدونا. ويحتمل رابعاً: أن الذين يعلمون هم الموقنون , والذين لا يعلمون هم المرتابون.(5/118)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
{قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين} قوله عز وجل: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ} فيه وجهان: أحدهما: معناه , للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة في الآخرة , وهي الجنة. الثاني: للذين أحسنوا في الدنيا حسنة في الدنيا فيكون ذلك زائداً على ثواب الآخرة. وفيما أريد بالحسنة التي لهم في الدنيا أربعة أوجه:(5/118)
أحدها: العافية والصحة , قاله السدي. الثاني: ما رزقهم الله من خير الدنيا , قاله يحيى بن سلام. الثالث: ما أعطاهم من طاعته في الدنيا وجنته في الآخرة , قاله الحسن. الرابع: الظفر والغنائم , حكاه النقاش. ويحتمل خامساً: إن الحسنة في الدنيا الثناء وفي الآخرة الجزاء. {وأرض الله واسعة} فيها قولان: أحدهما: أرض الجنة رغبهم في سعتها , حكاه ابن عيسى. الثاني: هي أرض الهجرة , قاله عطاء. ويحتمل ثالثاً: أن يريد بسعة الأرض سعة الرزق لأنه يرزقهم من الأرض فيكون معناه. ورزق الله واسع , وهو أشبه لأنه أخرج سعتها مخرج الامتنان بها. {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني بغير مَنٍّ عليهم ولا متابعة , قاله السدي. الثاني: لا يحسب لهم ثواب عملهم فقط ولكن يزدادون على ذلك , قاله ابن جريج. الثالث: لا يعطونه مقدراً لكن جزافاً. الرابع: واسعاً بغير تضييق قال الراجز:
(يا هند سقاك بلا حسابه ... سقيا مليك حسن الربابة)
وحكي عن علي كرم الله وجهه قال: كل أجر يكال كيلاً ويوزن وزناً إلا أجر الصابرين فإنه يحثى حثواً.(5/119)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
{قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون} قوله عز وجل: {قل إن الخاسرين الَّذِينَ خَسِروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: خسروا أنفسهم بإهلاكها في النار , وخسروا أهليهم بأن لا يجدوا في النار أهلاً , وقد كان لهم في الدنيا أهل , قاله مجاهد وابن زيد. الثاني: خسروا أنفسهم بما حرموها من الجنة وأهليهم من الحور العين الذين أعدوا [لهم] في الجنة , قاله الحسن وقتادة. الثالث: خسروا أنفسهم وأهليهم بأن صاروا هم بالكفر إلى النار , وصار أهلوهم بالإيمان إلى الجنة وهو محتمل.(5/119)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
{والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين(5/119)
يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد} قوله عز وجل: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها} فيه قولان: أحدهما: أن الطاغوت الشيطان , قاله مجاهد وابن زيد. الثاني: الأوثان , قاله الضحاك والسدي. وفيه وجهان: أحدهما: أنه اسم أعجمي مثل هاروت وماروت. الثاني: عربي مشتق من الطغيان. {وأنابوا إلى الله} فيه وجهان: أحدهما: أقبلوا إلى الله , قاله قتادة. الثاني: استقاموا إلى الله , قاله الضحاك. ويحتمل ثالثاً: وأنابوا إلى الله من ذنوبهم. {لهم البشرى} فيه وجهان: أحدهما: أنها الجنة , قاله مقاتل ويحيى بن سلام. الثاني: بشرى الملائكة للمؤمنين , قاله الكلبي. ويحتمل ثالثاً: أنها البشرى عند المعاينة بما يشاهده من ثواب عمله. قوله عز وجل: {فبشر عبادِ الذين يستمعون القول} فيه قولان: أحدهما: أن القول كتاب الله , قاله مقاتل ويحيى بن سلام. الثاني: أنهم لم يأتهم كتاب من الله ولكن يستمعون أقاويل الأمم , قاله ابن زيد. {فيتبعون أحسنَه} فيه خمسة أوجه: أحدها: طاعة الله , قاله قتادة. الثاني: لا إله إلا الله، قاله ابن زيد.(5/120)
الثالث: أحسن ما أمروا به , قاله السدي. الرابع: أنهم إذا سمعوا قول المسلمين وقول المشركين اتبعوا أحسنه وهو الإسلام , حكاه النقاش. الخامس: هو الرجل يسمع الحديث من الرجل فيحدث بأحسن ما يسمع منه , ويمسك عن أسوإه فلا يتحدث به , قاله ابن عباس. ويحتمل سادساً: أنهم يستمعون عزماً وترخيصاً فيأخذون بالعزم دون الرخص. {أولئك الذين هداهم الله} الآية. قال عبد الرحمن بن زيد: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم , واتبعوا أحسن ما صار من العقول إليهم.(5/121)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
{ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} قوله عز وجل: {أفمن شرح الله صدره للإسلام} فيه وجهان: أحدهما: وسع صدره للإسلام حتى يثبت فيه , قاله ابن عباس والسدي. الثاني: وسع صدره بالإسلام بالفرح به والطمأنينة إليه , فعلى هذا لا يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام , وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام. {فهو على نور من ربه} فيه وجهان: أحدهما: على هدى من ربه , قاله السدي. الثاني: أنه كتاب الله الذي به يأخذ وإليه ينتهي , قاله قتادة. وروى عمرو بن مرّة عن عبد الله بن سدر قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية , فقالوا: يا رسول الله ما هذا الشرح؟ فقال: (نور يقذف به في القلب) قالوا: يا رسول الله هل لذلك من أمارة؟ قال: (نعم) قالوا: ما هي؟ قال: (الإنابة إلى دار(5/121)
الخلود , والتجافي عن دار الغرور , والاستعداد للموت قبل الموت.) وفي من نزلت فيه هذه الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: في رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله الكلبي. الثاني: في عمر بن الخطاب رضي الله عنه , حكاه النقاش. الثالث: في عمار بن ياسر , قاله مقاتل. {فويل للقاسية قلوبُهم من ذِكر الله} قيل أنه عنى أبا جهل وأتباعهُ من كفار قريش , وفي الكلام مضمر محذوف تقديره , فهو على نور من ربه كمن طبع الله على قلبه فويل للقاسية قلوبهم.(5/122)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
{الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} قوله عز وجل: {الله نزّل أحسن الحديث} يعني القرآن , ويحتمل تسميته حديثاً وجهين: أحدهما: لأنه كلام الله , والكلام يسمى حديثاً كما سمي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً. الثاني: لأنه حديث التنزيل بعدما تقدمه من الكتب المنزلة على من تقدم من الأنبياء. ويحتمل وصفه بأحسن الحديث وجهين: أحدهما: لفصاحته وإعجازه. الثاني: لأنه أكمل الكتب وأكثرها إحكاماً. {كِتاباً متشابها} فيه قولان: أحدهما: يشبه بعضه بعضاً من الآي والحروف، قاله قتادة. الثاني: يشبه بعضه بعضاً في نوره وصدقه وعدله، قاله يحيى بن سلام. ويحتمل ثالثاً: يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب، وإن كان أعم وأعجز. ثم وصفه فقال:(5/122)
{مثاني} وفيه سبعة تأويلات: أحدها: ثنى الله فيه القضاء , قاله الحسن وعكرمة. الثاني: ثنى الله فيه قصص الأنبياء , قاله ابن زيد. الثالث: ثنى الله فيه ذكر الجنة والنار , قاله سفيان. الرابع: لأن الآية تثنى بعد الآية , والسورة بعد السورة , قاله الكلبي. الخامس: يثنى في التلاوة فلا يمل لحسن مسموعه , قاله ابن عيسى. السادس: معناه يفسر بعضه بعضاً , قاله ابن عباس. السابع: أن المثاني اسم لأواخر الآي , فالقرآن اسم لجميعه , والسورة اسم لكل قطعة منه , والآية اسم لكل فصل من السورة , والمثاني اسم لآخر كل آية منه , قاله ابن بحر. {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تقشعر من وعيده وتلين من وعده , قال السدي. الثاني: أنها تقشعر من الخوف وتلين من الرجاء , قاله ابن عيسى. الثالث: تقشعر الجلود لإعظامه , وتلين عند تلاوته.(5/123)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
{أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} {أفمن يتقي بوجهه سوءَ العذَاب يومَ القيامة} فيه وجهان: أحدهما: أن الكافر يسحب على وجهه إلى النار يوم القيامة. الثاني: لأن النار تبدأ بوجهه إذا دخلها. قوله عز وجل: {فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} فيه وجهان: أحدهما: من مأمنهم , قاله السدي. الثاني: فجأة، قاله يحيى.(5/123)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
{ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} قوله عز وجل: {قرآناً عربياً غير ذي عوج} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: غير ذي لبس , قاله مجاهد. الثاني: غير مختلف , قاله الضحاك. الثالث: غير ذي شك , قاله السدي. قوله عز وجل: {ضرب الله مثلاً رجلاً} يعني الكافر. {فيه شركاء} أي يعبد أوثاناً شتى. {متشاكسون} فيه أربعة أوجه: أحدها: متنازعون , قاله قتادة. الثاني: مختلفون , قاله ابن زياد. الثالث: متعاسرون. الرابع: متظالمون مأخوذ من قولهم: شكسني مالي أي ظلمني. {ورَجُلاً سَلَماً لرجُلٍ} يعني المؤمن سلماً لرجل أي مخلصاً لرجل , يعني أنه بإيمانه يعبد إلهاً واحداً. {هل يستويان مثلاً} أي هل يستوي حال العابد لله وحده وحال من يعبد آلهة غيره؟ فضرب لهما مثلاً بالعبدين اللذين يكون أحدهما لشركاء متشاكسين , لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم حق خدمته , ويكون الآخر لسيد واحد يقدر أن يوفيه حق خدمته. {الحمد لله} يحتمل وجهين: أحدهما: على احتجاجه بالمثل الذي خَصم به المشركين. الثاني: على هدايته التي أعان بها المؤمنين.(5/124)
{بل أكثرهم لا يعلمون} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يعلمون المثل المضروب. الثاني: لا يعلمون بأن الله هو الإله المعبود. قوله عز وجل: {إنك ميت وإنهم ميتون} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بموته وموتهم , فاحتمل خسمة أوجه: أحدها: أن يذكر ذلك تحذيراً من الآخرة. الثاني: أن يذكره حثاً على العمل. الثالث: أن يذكره توطئة للموت. الرابع: لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره حتى إن عمر لما أنكر موته احتج أبو بكر بهذه الآية فأمسك. الخامس: ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره لتكثر فيه السلوى وتقل الحسرة. ومعنى إنك ميت أي ستموت , يقال ميت بالتشديد للذي سيموت , وميت بالتخفيف لمن قد مات. قوله عز وجل: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} فيه أربعة أوجه: أحدها: في الدماء , قاله عكرمة. الثاني: في المداينة , قاله الربيع بن أنس. الثالث: في الإيمان والكفر , قاله ابن زيد , فمخاصمة المؤمنين تقريع , ومخاصمة الكافرين ندم. الرابع: ما قاله ابن عباس يخاصم الصادق الكاذب , والمظلوم الظالم , والمهتدي الضال , والضعيف المستكبر. قال إبراهيم النخعي: لما نزلت هذه الآية جعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون ما خصومتنا بيننا. ويحتمل خامساً: أن تخاصمهم هو تحاكمهم إلى الله تعالى فيما تغالبوا عليه في الدنيا من حقوقهم خاصة دون حقوق الله ليستوفيها من حسنات من وجبت عليه في حسنات من وجبت له.(5/125)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
{فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} قوله عز وجل: {والذي جاء بالصدق} الآية. وفي الذي جاء بالصدق أربعة أقاويل: أحدها: أنه جبريل , قاله السدي. الثاني: محمد صلى الله عليه وسلم , قاله قتادة ومجاهد. الثالث: أنهم المؤمنون جاءوا بالصدق يوم القيامة , حكاه النقاش. الرابع: أنهم الأنبياء , قاله الربيع وكان يقرأ: والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به. وفي (الصدق) قولان: أحدهما: أنه لا إله إلا الله , قاله ابن عباس. الثاني: القرآن , قاله مجاهد وقتادة. ويحتمل ثالثاً: أنه البعث والجزاء. وفي الذي صدق به خمسة أقاويل: أحدها: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله ابن عباس. الثاني: المؤمنون من هذه الأمة , قاله الضحاك. الثالث: أتباع الأنبياء كلهم , قاله الربيع. الرابع: أنه أبو بكر , رضي الله عنه حكاه الطبري عن علي رضي الله عنه , وذكره النقاش عن عون بن عبد الله. الخامس: أنه علي كرم الله وجهه , حكاه ليث عن مجاهد.(5/126)
ويحتمل سادساً: أنهم المؤمنون قبل فرض الجهاد من غير رغبة في غنم ولا رهبة من سيف. {أولئك هم المتقون} إنما جاز الجمع في {هم المتقون} و {الذي} واحد في مخرج لفظه وجمع في معناه على طريق الجنس كقوله تعالى {إن الإنسان لفي خسر} قوله عز وجل: {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عَمِلوا} قبل الإيمان والتوبة , ووجه آخر: أسوأ الذي عملوا من الصغائر لأنهم يتقون الكبائر. {ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} أي يجزيهم بأجر أحسن الأعمال وهي الجنة.(5/127)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
{أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم} قوله عز وجل: {أليس الله بكافٍ عبده} في قراءة بعضهم , يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يكفيه الله المشركين , وقرأ الباقون {عباده} وهم الأنبياء. {ويخوفونك بالذين من دونه} فيه وجهان: أحدهما: أنهم كانوا يخوفونه بأوثانهم يقولون تفعل بك وتفعل , قاله الكلبي , والسدي. الثاني: يخوفونه من أنفسهم بالوعيد والتهديد. قوله عز وجل: {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم} فيه ثلاثة أوجه:(5/127)
أحدها: على ناحيتكم , قاله الضحاك ومجاهد. الثاني: على تمكنكم , قاله ابن عيسى. الثالث: على شرككم , قاله يحيى. {إني عامل} على ما أنا عليه من الهدى. {فسوف تعلمون} وهذا وعيد.(5/128)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
{إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} قوله عز وجل: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الله عند توفي الأنفس يقبض أرواحها من أجسادها والتي لم تمت وهي في منامها يقبضها عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها. {فيمسك التي قضى عليها الموت} أنى تعود الأرواح إلى أجسادها. {ويرسلُ الأخرى} وهي النائمة فيطلقها باليقظة للتصرف إلى أجل موتها , قاله ابن عيسى. الثاني: ما حكاه ابن جريج عن ابن عباس أن لكل جسد نفساً وروحاً فيتوفى الله الأنفس في منامها بقبض أنفسها دون أرواحها حتى تتقلب بها وتتنفس , فيمسك التي قضى عليها الموت أن تعود النفس إلى جسدها ويقبض الموت روحها , ويرسل الأخرى وهي نفس النائم إلى جسدها حتىتجتمع مع روحها إلى أجل موتها. الثالث: قاله سعيد بن جبير إن الله تعالى يقبض أرواح الموتى إذا ماتوا وأرواح(5/128)
الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت فلا يعيدها ويرسل الأخرى فيعيدها. قال علي رضي الله عنه: فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة , وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها تلقيها الشياطين وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة.(5/129)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
{أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} قوله عز وجل: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبُ ... } فيه ثلاثة أوجه: أحدها: انقبضت , قاله المبرد. الثاني: نفرت. الثالث: استكبرت.(5/129)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
{قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون}(5/129)
قوله عز وجل: {قل اللهم فاطر السموات والأرض} أي خالقهما. {عالمَ الغيب والشهادة} يحتمل وجهين: أحدهما: السر والعلانية. الثاني: الدنيا والآخرة. {أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون} من الهدى والضلالة. ويحتمل ثانياً: من التحاكم إليه في الحقوق والمظالم. قال ابن جبير , اني لأعرف موضع آية ما قرأها أحدٌ فسأل الله شيئاً إلا أعطاه , قوله {قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون} .(5/130)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
{فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} قوله عز وجل: {فإذا مسّ الإنسان ضرٌّ دعانا} قيل إنها نزلت في أبي حذيفة. ابن المعيرة. {ثم إذا خوّلناه نعمة منا قال إنما أوتيتُه على عِلمٍ} فيه خسمة أوجه: أحدها: على علم برضاه عني , قاله ابن عيسى. الثاني: بعلمي , قاله مجاهد. الثالث: بعلم علمني الله إياه , قاله الحسن. الرابع: علمت أني سوف أصيبه: حكاه النقاش. الخامس: على خبر عندي , قاله قتادة. {بل هي فتنة} فيه وجهان: أحدهما: النعمة لأنه يمتحن بها.(5/130)
الثاني: المقالة التي اعتقدها لأنه يعاقب عليها. {ولكن أكثرهم لا يعلمون} البلوى من النعمى.(5/131)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} قوله عز وجل: {قُلْ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} أي أسرفوا على أنفسهم في الشرك. ويحتمل ثانياً: أسرفوا على أنفسهم في ارتكاب الذنوب مع ثبوت الإيمان والتزامه {لا تقنطوا من رحمة الله} أي لا تيأسوا من رحمته. {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يغفرها بالتوبة منها , قاله الحسن. الثاني: يغفرها بالعفو عنها إلا الشرك. الثالث: يغفر الصغائر باجتناب الكبائر. {إنه هو الغفور الرحيم} قيل نزلت هذه الآية والتي بعدها في وحشي قاتل حمزة , قاله الحسن والكلبي , وقال علي عليه السلام: ما في القرآن آية أوسع منها.(5/131)
وروى ثوبان قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أحب أن لي الدنيا وما عليها بهذه الآية) . قوله عز وجل: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} فيه خمسة تأويلات: أحدها: هو ما أمرهم الله به في الكتاب , قاله السدي. الثاني: أن يأخذوا ما أمر وينتهوا عما نهوا عنه , قاله الحسن. الثالث: هو الناسخ دون المنسوخ , حكاه ابن عيسى. الرابع: هو طاعة الله تعالى في الحرام والحلال قاله ابن زياد. الخامس: تأدية الفرائض , قاله زيد بن علي , ومعاني أكثرها متقاربة. ويحتمل سادساً: أنه الأخذ بالعزيمة دون الرخصة. وجعله منزلاً عليهم لأنه منزل إليهم على نبيهم صلى الله عليه وسلم. قوله عز وجل: {أن تقول نفس يا حَسْرتَا} فيه وجهان: أحدهما: معناه لئلا تقول نفس. الثاني: أن لا تقول نفس , والألف التي في يا حسرتا بدل من ياء الإضافة ففعل ذلك في الاستغاثة لمدة الصوت بها. {على ما فرطت في جنب الله} فيه ستة تأويلات: أحدها: في مجانبة أمر الله، قاله مجاهد والسدي. الثاني: في ذات الله، قاله الحسن.(5/132)
الثالث: في ذكر الله، قاله السدي، وذكر الله هنا القرآن. الرابع: في ثواب الله من الجنة حكاه النقاش. الخامس: في الجانب المؤدي إلى رضا الله، والجنب والجانب سواء. السادس: في طلب القرب من الله ومنه قوله تعالى {والصاحب بالجنب} أي بالقرب. {وإن كنت لمن الساخرين} فيه وجهان: أحدهما: من المستهزئين في الدنيا بالقرآن , قاله النقاش. الثاني: بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين , قاله يحيى بن سلام.(5/133)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
{ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} قوله عز وجل: {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بنجاتهم من النار. الثاني: بما فازوا به من الطاعة. الثالث: بما ظفروا من الإدارة. ويحتمل رابعاً: بما سلكوا فيه مفاز , الطاعات الشاقة , مأخوذ من مفازة السفر.(5/133)
{لا يمسهم السُّوءُ} لبراءتهم منه. {ولا هم يحزنون} فيه وجهان: أحدهما: لا يحزنون , بألا يخافوا سوء العذاب. الثاني: لا يحزنون على ما فاتهم من ثواب الدنيا.(5/134)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} {وما قدروا الله حق قدرِه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وما عظموه حق عظمته إذ عبدوا الأوثان من دونه , قاله الحسن. الثاني: وما عظموه حق عظمته إذ دعوا إلى عبادة غيره , قاله السدي. الثالث: ما وصفوه حق صفته , قاله قطرب. {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} فيه وجهان: أحدهما: أن قبضه استبدالها بغيرها لقوله {يوم تبدل الأرض} [إبراهيم: 48] وهو محتمل. الثاني: أي هي في مقدوره كالذي يقبض عليه القابض في قبضته. {والسموات مطويات بيمينه} فيه وجهان: أحدهما: بقوته لأن اليمين القوة.(5/134)
الثاني: في ملكه كقوله {وماملكت أيمانكم} [النساء: 36] . ويحتمل طيها بيمينه وجهين: أحدهما: طيها يوم القيامة. لقوله يوم نطوي السماء. الثاني: أنها في قبضته مع بقاء الدنيا كالشيء المطوي لاستيلائه عليها. {سبحانه وتعالى عما يشركون} روى صفوان بن سليم أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا القاسم إن الله أنزل عليك {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} فأين يكون الخلق؟ قال (يكونون في الظلمة عند الجسر حتى ينجي الله من يشاء.) قال: والذي أنزل التوراة على موسى ما على الأرض أحد يعلم هذا غيرى وغيرك.(5/135)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
{ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون} قوله عز وجل: {ونفخ في الصُّور فصعق مَنْ في السموات ومن في الأرض} فيه وجهان: أحدهما: أن الصعق الغَشي , حكاه ابن عيسى. الثاني: وهو قول الجمهور أنه الموت وهذا عند النفخة الأولى. {إلا من شاء الله} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام. وملك الموت يقبض أرواحهم بعد ذلك، قاله السدي ورواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.(5/135)
الثاني: الشهداء , قاله سعيد بن جبير. الثالث: هو الله الواحد القهار , قاله الحسن. {ثم نفخ فيه أخرى} وهي النفخة الثانية للبعث. {فإذا هم قيام ينظرون} قيل قيام على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذي وعدوا به. ويحتمل وجهاً آخر ينظرون ما يؤمرون به. قوله عز وجل: {وأشرقتِ الأرض} إشراقها إضاءتها , يقال أشرقت الشمس إذا أضاءت , وشَرَقت إذا طلعت. وفي قوله {بِنُورِ رَبِّها} وجهان: أحدهما: بعدله، قاله الحسن. الثاني: بنوره وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه نور قدرته. الثاني: نور خلقه لإشراق أرضه. الثالث: أنه اليوم الذي يقضي فيه بين خلقه لأنه نهار لا ليل معه. {ووضع الكتاب} فيه وجهان: أحدهما: الحساب، قاله السدي. الثاني: كتاب أعمالهم، قاله قتادة. {وجيء بالنبين الشهداء} فيهم قولان:(5/136)
أحدهما: أنهم الشهداء الذين يشهدون على الأمم للأنبياء أنهم قد بلغوا , وأن الأمم قد كذبوا , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم الذين استشهدوا في طاعة الله , قاله السدي. {وقضي بينهم بالحق} قال السدي بالعدل {وهم لا يظلمون} قال سعيد بن جبير لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.(5/137)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
{وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} قوله عز وجل: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً} فيه أربعة أوجه: أحدها: أفواجاً , قاله الحسن. الثاني: أمماً , قاله الكلبي. الثالث: جماعات , قاله السدي. قال الأخفش جماعات متفرقة , بعضها إثر بعض واحدها زمرة. قال خفاف بن ندبة:
(كأن إخراجها في الصبح غادية ... من كل شائبةٍ في أنها زُمَر)
الرابع: دفعاً وزجراً بصوت كصوت المزمار , ومن قولهم مزامير داود.(5/137)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
{وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} قوله عز وجل: {سلام عليكم طبتم} فيه ثلاثة أوجه:(5/137)
أحدها: طبتم بطاعة الله قاله مجاهد. الثاني: طبتم بالعمل الصالح , قاله النقاش. الثالث: ما حكاه مقاتل أن على باب الجنة شجرة ينبع من ساقها عينان يشرب المؤمنون من إحداهما فتطهر أجوافهم فذلك قوله {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21] ثم يغتسلون من الأخرى فتطيب أبشارهم , فعندها يقول لهم خزنتها: {سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} فإذا دخلوها قالوا {الحمد لله الذي صدقنا وعده} . وفي معنى طبتم ثلاثة أوجه: أحدها: نعمتم , قاله الضحاك. الثاني: كرمتم , قاله ثعلب. الثالث: زكوتم , قاله الفراء وابن عيسى. {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده} وعده في الدنيا بما نزل به القرآن , وفيه وجهان: أحدهما: أنه وعده بالجنة في الآخرة ثواباً على الإيمان. الثاني: أنه وعده في الدنيا بظهور دينه على الأديان , وفي الآخرة بالجزاء على الإيمان. {وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاءُ} وفي هذه الأرض قولان: أحدهما: أرض الجنة , قاله أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وأكثر المفسرين. الثاني: أرض الدنيا. فإن قيل إنها أرض الجنة ففي تسميتها ميراثاً وجهان: أحدهما: لأنها صارت إليهم في آخر الأمر كالميراث. الثاني: لأنهم ورثوها من أهل النار , وتكون هذه الأرض من جملة الجزاء والثواب , والجنة في أرضها كالبلاد في أرض الدنيا لوقوع التشابه بينهما قضاء بالشاهد على الغائب. {نتبوأ من الجنة حيث نشآء} يعني منازلهم التي جوزوا بها , لأنهم مصروفون عن إرادة غيرها.(5/138)
وفي تأويل قوله {حيث نشاء} وجهان: أحدهما: حيث نشاء من منزلة وعلو. الثاني: حيث نشاء من منازل ومنازه , فإن قيل إنها أرض الدنيا فهي من النعم دون الجزاء. ويحتمل تأويله وجهين: أحدهما: أورثنا الأرض بجهادنا نتبوأ من الجنة حيث نشاء بثوابنا. الثاني: وأورثنا الأرض بطاعة أهلها لنا نتبوأ من الجنة حيث نشاء بطاعتنا له لأنهم أطاعوا فأطيعوا. {فنعم أجر العاملين} يحتمل وجهين: أحدهما: فنعم أجر العاملين في الدنيا الجنة في الآخرة. الثاني: فنعم أجر من أطاع أن يطاع. {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} . قوله عز وجل: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} قال قتادة: محدقين. {يسبحون بحمد ربهم} وتسبيحهم تلذذ لا تعبد. وفي قوله. {بحمد ربهم} وجهان: أحدهما: بمعرفة ربهم، قاله الحسن. الثاني: يذكرون بأمر ربهم، قاله مقاتل. {وقضى بينهم بالحق} أي بالعدل وفيه قولان: أحدهما: وقضي بينهم بعضهم لبعض. الثاني: بين الرسل والأمم، قاله الكلبي. {وقيل الحمد لله رب العالمين} وفي قائله قولان: أحدهما: أنه من قول الملائكة، فعلى هذا يكون حمدهم لله على عدله في قضائه.(5/139)
الثاني: أنه من قول المؤمنين. فعلى هذا يحتمل حمدهم وجهين: أحدهما: على أن نجاهم مما صار إليه أهل النار. الثاني: على ما صاروا إليه من نعيم الجنة، فختم قضاؤه في الآخرة بالحمد كما افتتح خلق السموات والأرض بالحمد في قوله {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض} [الأنعام: 1] فتلزم الاقتداء به والأخذ بهديه في ابتداء كل أمر بحمده وخاتمه بحمده وبالله التوفيق.(5/140)
سورة غافر
مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر، وقال ابن عباس وقتادة إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما {إن الذين يجادلون في آيات الله} [غافر: 56] والتي بعدها. بسم الله الرحمن الرحيم(5/141)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
{حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} قوله عز وجل: {حم} فيه خمسة أوجه: أحدهما: أنه اسم من أسماء الله أقسم به , قاله ابن عباس. الثاني: أنه اسم من أسماء القرآن , قاله قتادة. الثالث: أنها حروف مقطعة من اسم الله الذي هو الرحمن , قاله سعيد بن جبير وقال: الر وحم ون هو الرحمن. الرابع: هو محمد صلى الله عليه وسلم , قاله جعفر بن محمد. الخامس: فواتح السور , قاله مجاهد قال شريح بن أوفى العبسي:
(يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم)
ويحتمل سادساً: أن يكون معناه حُم أمر الله أي قرب , قال الشاعر:
(قد حُمّ يومي فسر قوم ... قومٌ بهم غفلة ونوم)(5/141)
ومنه سميت الحمى لأنها تقرب منه المنية. فعلى هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يريد به قرب قيام الساعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت في آخرها ألفاً) الثاني: أنه يريد به قرب نصره لأوليائه وانتقامة من أعدائه يوم بدر. قوله عز وجل: {غافر الذنب} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه غافره لمن استغفره , قاله النقاش. الثاني: ساتره على من يشاء , قاله سهل بن عبد الله. {وقابل التوب} يجوز أن يكون جمع توبة , ويجوز أن يكون مصدراً من تاب يتوب توباً , وقبوله للتوبة إسقاط الذنب بها مع إيجاب الثواب عليها. قوله عز وجل: {ذي الطول} فيه ستة تأويلات: أحدها: ذي النعم , قاله ابن عباس. الثاني: ذي القدرة , قاله ابن زيد. الثالث: ذي الغنى والسعة , قاله مجاهد. الرابع: ذي الخير , قاله زيد بن الأصم. الخامس: ذي المن , قاله عكرمة. السادس: ذي التفضيل , قاله محمد بن كعب. والفرق بين المن والفضل أن المن عفو عن ذنب , والفضل إحسان غير مستحق والطول مأخوذ من الطول كأنه إنعامه على غيره وقيل لأنه طالت مدة إنعامه.(5/142)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
{ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة(5/142)
برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} قوله عز وجل: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} فيه وجهان: أحدهما: ما يماري فيها , قاله السدي. الثاني: ما يجحد بها , قاله يحيى بن سلام. وفي الفرق بين المجادلة والمناظرة وجهان: أحدهما: ان المجادلة لا تكون إلا بين مبطلين أو مبطل ومحق , والمناظرة بين محقين. الثاني: أن المجادلة فتل الشخص عن مذهبه محقاً أو مبطلاً , والمناظرة التوصل إلى الحق في أي من الجهتين كان. وقيل إنه أراد بذلك الحارث بن قيس السهمي وكان أحد المستهزئين. {فلا يغررك تقلبهم في البلاد} قال قتادة: إقبالهم وإدبارهم وتقلبهم في أسفارهم , وفيه وجهان: أحدهما: لا يغررك تقلبهم في الدنيا بغير عذاب , قاله يحيى. الثاني: لا يغررك تقلبهم في السعة والنعمة قاله مقاتل وقيل إن المسلمين قالوا نحن في جهد والكفار في السعة , فنزل {فلا يغررك تقلبهم في البلاد} حكاه النقاش وفيه حذف تقديره: فلا يغررك تقلبهم في البلاد سالمين فسيؤخذون. قولة عز وجل: {وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه} فيه وجهان: أحدهما: ليحبسوه ويعذبوه، حكاه ابن قتيبة. الثاني: ليقتلوه، قاله قتادة والسدي. والعرب تقول: الأسير الأخيذ لأنه مأسور للقتل , وأنشد قطرب قول الشاعر:
(فإما تأخذوني تقتلوني ... ومن يأخذ فليس إلى خلود)(5/143)
وفي وقت أخذهم لرسولهم قولان: أحدهما: عند دعائه لهم. الثاني: عند نزول العذاب بهم. {وجادلوا بالباطل ليُدْحضوا به الحقَّ} قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان. {فأخذتهم} قال السدي: فعذبتهم. {فكيف كان عقاب} في هذا السؤال وجهان: أحدهما: أنه سؤال عن صدق العقاب , قال مقاتل وجدوه حقاً. الثاني: عن صفته , قال قتادة: شديد والله. قوله عز وجل: {وكذلك حقت كلمة ربِّك على الذين كفروا} أي كما حقت على أولئك حقت على هؤلاء. وفي تأويلها وجهان: أحدهما: وكذلك وجب عذاب ربك. الثاني: وكذلك صدق وعد ربك. {أنهم أصحاب النار} جعلهم أصحابها لأنهم يلزمونها وتلزمهم.(5/144)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
{الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم} قوله عز وجل: {ربنا وسعت كل شَيْءٍ رحمة وعلماً} فيه وجهان: أحدهما: ملأت كل شيء رحمة وعلماً , أو رحمة عليه وعلماً به , وهو معنى قول يحيى بن سلام. الثاني: معناه: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء.(5/144)
{فاغفر للذين تابوا} قال يحيى: من الشرك. {واتبعوا سبيلك} قال الإسلام لأنه سبيل إلى الجنة. {وقهم عذاب الجحيم} بالتوفيق لطاعتك.(5/145)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)
{إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون} قوله عز وجل: {إن الذين كفروا ينادَوْنَ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم ينادون يوم القيامة , قاله قتادة. الثاني: ينادون في النار , قاله السدي. {لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعوْن إلى الإيمان فتكفرون} فيه وجهان: أحدهما: لمقت الله بكم في الدنيا إذا دعيتم إلى الإيمان فكفرتم أكبر من مقتكم لأنفسكم في الآخرة حين عاينتم العذاب وعلمتم أنكم من أهل النار , قاله الحسن وقتادة. الثاني: معناه: إن مقت الله لكم إذ عصيتموه أكبر من مقت بعضكم لبعض حين علمتم أنهم أضلوكم , حكاه ابن عيسى. فإن قيل: كيف يصح على الوجه الأول أن يمقتوا أنفسهم؟ ففيه وجهان: أحدهما: أنهم أحلوها بالذنوب محل الممقوت.(5/145)
الثاني: أنهم لما صاروا إلى حال زال عنهم الهوى وعلموا أن نفوسهم هي التي أوبقتهم في المعاصي مقتوها. وفي اللام التي في {لمقت الله} وجهان: أحدهما: أنها لام الابتداء كقولهم لزيد أفضل من عمرو , قاله البصريون. الثاني: أنها لام اليمين تدخل على الحكاية وما ضارعها , قاله ثعلب. قوله عز وجل: {قالوا ربّنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه خلقهم أمواتاً في أصلاب آبائهم , ثم أحياهم بإخراجهم ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم , ثم أحياهم للبعث , فهما ميتتان إحداهما في أصلاب الرجال , الثانية في الدنيا , وحياتان: إحداهما في الدنيا والثانية في الآخرة , قاله ابن مسعود وقتادة. الثاني: أن الله أحياهم حين أخذ عليهم الميثاق في ظهر آدم قوله {وإذ أخذ رَبُكَ مِن ابني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذرِيتَهُمْ} [الأعراف: 171] الآية. ثم إن اللَّه أماتهم بعد أخذ الميثاق عليهم , ثم أحياهم حين أخرجهم , ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم , ثم أحياهم للبعث فتكون حياتان وموتتان في الدنيا وحياة في الآخرة , قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. الثالث: أن الله أحياهم حين خلقهم في الدنيا , ثم أماتهم فيها عند انقضاء أجالهم , ثم أحياهم في قبورهم للمساءلة , ثم أماتهم إلى وقت البعث. ثم أحياهم للعبث , قاله السدي. {فاعترفنا بذنوبنا} أنكروا البعث في الدنيا وأن يحيوا بعد الموت , ثم اعترفوا في الآخرة بحياتين بعد موتتين. {فهل إلى خروج مِن سبيل} فيه وجهان: أحدهما: فهل طريق نرجع فيها إلى الدنيا فنقر بالبعث , وهو معنى قول قتادة. الثاني: فهل عمل نخرج به من النار , ونتخلص به من العذاب؟ قاله الحسن.(5/146)
وفي الكلام مضمر تقديره: لا سبيل إلى الخروج. قوله عز وجل: {ذلكم بأنه إذا دُعي الله وحده كفرتم} أي كفرتم بتوحيد الله. {وإن يُشرك به تؤمنوا} فيه وجهان: أحدهما: معناه تصدقوا من أشرك به , قاله النقاش. الثاني: تؤمنوا بالأوثان , قاله يحيى بن سلام. {فالحكم لله} يعني في مجازاة الكفار وعقاب العصاة. {العلي الكبير} إنما جاز وصفه بأنه علي ولم تجز صفته بأنه رفيع لأنها صفة قد تنقل من علو المكان إلى علو الشأن والرفيع لا يستعمل إلا في ارتفاع المكان.(5/147)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
{رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب} قوله عز وجل: {رفيع الدرجات} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: رفع السموات السبع , قاله سعيد بن جبير والكلبي. الثاني: عظيم الصفات، قاله ابن زياد. الثالث: هو رفعه درجات أوليائه، قاله يحيى. {ذو العرش} فيه وجهان: أحدهما: أن عرشه فوق سماواته، قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنه رب العرش , قاله يحيى. {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} فيه ستة تأويلات: أحدها: أن الروح الوحي، قاله قتادة. الثاني: النبوة، قاله السدي. الثالث: القرآن، قاله ابن عباس.(5/147)
الرابع: الرحمة , حكاه إبراهيم الجوني. الخامس: أرواح عباده , لا ينزل ملك إلا ومعه منها روح , قاله مجاهد. السادس: جبريل يرسله الله بأمره , قاله الضحاك. {لينذر يوم التلاق} فيه قولان: أحدهما: لينذر الله به يوم القيامة , قاله الحسن. الثاني: لينذر أنبياؤه يوم التلاق وهو يوم القيامة وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض , قاله السدي وابن زيد. الثاني: لأنه يلتقي فيه الأولون والآخرون , وهو معنى قول ابن عباس. الثالث: يلتقي فيه الخلق والخالق , قاله قتادة. قوله عز وجل: {يومَ هم بارزون} يعني من قبورهم. {لا يخفى على الله منهم شَيْءٌ} فيه وجهان: أحدهما: أنه أبرزهم جميعاً لأنه لا يخفى على الله منهم شيء. الثاني: معناه يجازيهم من لا يخفى عليه من أعمالهم شيء. {لمن الملك اليوم} هذا قول الله , وفيه قولان: أحدهما: أنه قوله بين النفختين حين فني الخلائق وبقي الخالق فلا يرى - غير نفسه - مالكاً ولا مملوكاً: لمن الملك اليوم فلا يجيبه لأن الخلق أموات , فيجيب نفسه فيقول: {لله الواحد القهار} لأنه بقي وحده وقهر خلقه , قاله محمد بن كعب. الثاني: أن هذا من قول الله تعالى في القيامة حين لم يبق من يدَّعي ملكاً , أو يجعل له شريكاً. وفي المجيب عن هذا السؤال قولان: أحدهما: أن الله هو المجيب لنفسه وقد سكت الخلائق لقوله، فيقول: لله الواحد القهار، قاله عطاء. الثاني: ان الخلائق كلهم يجيبه من المؤمنين. والكافرين، فيقولون: لله الواحد القهار، قاله ابن جريج.(5/148)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
{وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير} قوله عز وجل: {وأنذرهم يوم الآزفة} فيه قولان: أحدهما: يوم حضور المنية , قاله قطرب. الثاني: يوم القيامة وسميت الآزفة لدنوها , وكل آزف دانٍ , ومنه قوله تعالى {أزفت الآزفة} [النجم: 57] أي دنت القيامة. {إذ القلوب لَدَى الحناجر} فيه قولان: أحدهما: أن القلوب هي النفوس بلغت الحناجر عند حضور المنية , وهذا قول من تأول يوم الآزفة بحضور المنية , قاله قتادة. ووقفت في الحناجر من الخوف فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها. {كاظمين} فيه أربعة أوجه: أحدها: مغمومون قاله الكلبي. الثاني: باكون , قاله ابن جريج. الثالث: ممسكون بحناجرهم , ماخوذ من كظم القربة وهو شد رأسها. الرابع: ساكتون , قاله قطرب , وأنشد قول الشماخ:
(فظلت كأن الطير فوق رؤوسها ... صيامٌ تنائي الشمس وهي كظوم)
{ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} في الحميم قولان: أحدهما: انه القريب , قاله الحسن. الثاني: الشفيق , قاله مجاهد , ومعنى الكلام: ما لهم من حميم ينفع ولا شفيع يطاع أي يجاب إلى الشفاعة , وسميت الإجابة طاعة لموافقتها إرادة المجاب. قوله عز وجل: {يعلم خائنة الأعين} فيه خمسة أوجه:(5/149)
أحدها: أنه الرمز بالعين , قاله السدي. الثاني: هي النظرة بعد النظرة , قاله سفيان. الثالث: مسارقة النظر , قاله ابن عباس. الرابع: النظر إلى ما نهى عنه , قاله مجاهد. الخامس: هو قول الإنسان ما رأيت وقد رأى , أو رأيت وما رأى , قاله الضحاك. وفي تسميتها خائنة الأعين وجهان: أحدهما: لأنها أخفى الإشارات فصارت بالاستخفاء كالخيانة. الثاني: لأنها باستراق النظر إلى المحظور خيانة. {وما تُخفي الصدور} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: الوسوسة , قاله السدي. الثاني: ما تضمره [عندما ترى امرأة] إذا أنت قدرت عليها أتزني بها أم لا , قاله ابن عباس. الثالث: ما يسره الإنسان من أمانة أو خيانة , وعبر عن القلوب بالصدور لأنها مواضع القلوب.(5/150)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
{أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب} قوله عز وجل: { ... كانوا هم أشدَّ منهم قوة} فيه وجهان: أحدهما: يعني بطشاً، قاله يحيى. الثاني: قدرة، قاله ابن عيسى. {وآثاراً في الأرض} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنها آثارهم من الملابس والأبنية، قاله يحيى.(5/150)
الثاني: خراب الأرضين وعمارتها، قاله مجاهد. الثالث: المشي فيها بأرجلهم، قاله ابن جريج. الرابع: بُعْد الغاية في الطلب , قاله الكلبي. الخامس: طول الأعمار , قاله مقاتل. ويحتمل سادساً: ما سنوا فيها من خير وشر.(5/151)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب} قوله عز وجل: {وقال فرعون ذروني أقتُل موسى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أشيروا عليّ بقتل موسى لأنهم قد كانوا أشاروا عليه بأن لا يقتله لأنه لو قتله منعوه , قاله ابن زياد. الثاني: ذروني أتولى قتله , لأنهم قالوا إن موسى ساحر إن قتلته هلكت لأنه لو أمر بقتله خالفوه. الثالث: أنه كان في قومه مؤمنون يمنعونه من قتله. فسألهم تمكينه من قتله. {وليدع ربه} فيه وجهان: أحدهما: وليسأل ربه فإنه لا يجاب. الثاني: وليستعن به فإنه لا يعان. {إني أخاف أن يبدِّل دينكم} فيها وجهان: أحدهما: يغير أمركم الذي أنتم عليه، قاله قتادة. الثاني: معناه هو أن يعمل بطاعة الله، رواه سعيد بن أبي عروبة. الثالث: محاربته لفرعون بمن آمن به، حكاه ابن عيسى.(5/151)
الرابع: هو أن يقتلوا أبناءكم ويستحيوا نساءكم إذا ظهروا عليكم كما كنتم تفعلون بهم , قاله ابن جريج. ويحتمل خامساً: أن يزول به ملككم لأنه ما تجدد دين إلا زال به ملك.(5/152)
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
{وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} قوله عز وجل: {وقال رجلٌ مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه} فيه قولان: أحدهما: أنه كان ابن عم فرعون , قاله السدي , قال وهو الذي نجا مع موسى. الثاني: أنه كان قبطياً من جنسه ولم يكن من أهله , قاله مقاتل. قال ابن إسحاق: وكان أسمه حبيب. وحكى الكلبي أن اسمه حزبيل , وكان مَلِكَا على نصف الناس وله الملك بعد فرعون , بمنزلة ولي العهد. وقال ابن عباس: لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وامرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر فقال {إن الملأ يأتمرون بك} [القصص: 20] . وفي إيمانه قولان: أحدهما: أنه آمن بمجيء موسى وتصديقه له وهو الظاهر. الثاني: أنه كان مؤمناً قبل مجيء موسى وكذلك امرأة فرعون قاله الحسن , فكتم إيمانه , قال الضحاك كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه.(5/152)
{أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللهُ} أي لقوله ربي الله. {وقد جاءَكم بالبينات من ربِّكم} فيها قولان: أحدهما: أنه الحلال والحرام , قاله السدي. الثاني: أنها الآيات التي جاءتهم: يده وعصاه والطوفان وغيرها , كما قال تعالى {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقصٍ من الثمرات} [الأعراف: 130] قاله يحيى. {وإن يك كَاذباً فعليه كَذِبُه} ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته وصدقه ولكن تلطفاً في الاستكفاف واستنزالاً عن الأذى. {وإن يَكُ صادقاً يصبكم بعض الذي يعدُكم} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه كان وعدهم بالنجاة إن آمنوا وبالهلاك إن كفروا , فقال {يصبكم بعض الذي يعدكم} لأنهم إذا كانوا على إحدى الحالتين نالهم أحد الأمرين فصار ذلك بعض الوعد لا كله. الثاني: لأنه قد كان أوعدهم على كفرهم بالهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة , فصار هلاكهم في الدنيا بعض وما وعدهم. الثالث: أن الذي يبدؤهم من العذاب هو أوله ثم يتوالى عليهم حالاً بعد حال حتى يستكمل فصار الذي يصيبهم هو بعض الذي وعدهم لأنه حذرهم ما شكوا فيه وهي الحالة الأولى وما بعدها يكونون على يقين منه. الرابع: أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفاً في الخطاب وتوسعاً في الكلام كما قال الشاعر:
(قد يُدْرِك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل)
{إن الله لا يهدي من هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: مسرف على نفسه كذاب على ربه إشارة إلى موسى , ويكون هذا من قول المؤمن. الثاني: مسرف في عناده كذاب في ادعائه إشارة إلى فرعون [ويكون] هذا من قوله تعالى.(5/153)
قوله عز وجل: {ويا قوم لكم الملك اليوم ظاهِرين في الأرض} قال السدي: غالبين على أرض مصر قاهرين لأهلها , وهذا قول المؤمن تذكيراً لهم بنعم اللَّه عليهم. {فمن ينصرنا من بأس الله إِن جاءَنا} أي من عذاب الله , تحذيراً لهم من نقمة , فذكر وحذر فعلم فرعون ظهور محبته. {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى} قال عبد الرحمن بن زيد: معناه ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي. {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} في تكذيب موسى والإيمان بي.(5/154)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
{وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} قوله عز وجل: {ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التنادِ} يعني يوم القيامة , قال أمية بن أبي الصلت:
(وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم سكانها حتى التّنَادِ)
سمي بذلك لمناداة بعضهم بعضاً , قاله الحسن. وفيما ينادي به بعضهم بعضاً قولان: أحدهما: يا حسرتا , يا ويلتا , يا ثبوراه , قاله ابن جريج. الثاني: ينادي أهلُ الجنة أهل النار أن {قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً} [الأعراف: 44] الآية.(5/154)
وينادي أهل النار الجنة {أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللَّه} [الأعراف: 50] قاله قتادة. وكان الكلبي يقرؤها: يوم التنادّ , مشدودة , أي يوم الفرار , قال يندّون كما يندّ البعير. وقد جاء في الحديث أن للناس جولة يوم القيامة يندون يطلبون أنهم يجدون مفراً ثم تلا هذه الآية. {يوم تولون مدبرين} فيه وجهان: أحدهما: مدبرين في انطلاقهم إلى النار , قاله قتادة. الثاني: مدبرين في فِرارهم من النار حتى يقذفوا فيها , قاله السدي.
{ما لكم من الله من عاصم} فيه وجهان: أحدهما: من ناصر , قاله قتادة. الثاني: من مانع , وأصل العصمة المنع , قاله ابن عيسى. {ومن يضلل الله فما له من هاد} وفي قائل هذا قولان: أحدهما: أن موسى هو القائل له. الثاني: أنه من قول مؤمن آلِ فرعون. قوله عز وجل: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات} فيه قولان: أحدهما: أن يوسف بن يعقوب , بعثه الله رسولاً إلى القبط بعد موت الملك من قبل موسى بالبينات. قال ابن جريج: هي الرؤيا. الثاني: ما حكاه النقاش عن الضحاك أن الله بعث اليهم رسولاً من الجن يقال له يوسف.(5/155)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
{وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب(5/155)
وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} قوله عز وجل: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني مجلساً، قاله الحسن. الثاني: قصراً، قاله السدي. الثالث: أنه الآجر ومعناه أوقد لي على الطين حتى يصير آجراً , قاله سعيد بن جبير. الرابع: أنه البناء المبني بالآجر، وكانوا يكرهون أن يبنوا بالآجر ويجعلوه في القبر , قاله إبراهيم. {لعلّي أبلغ الأسباب} يحتمل وجهين: أحدهما: ما يسبب إلى فعل مرادي. الثاني: ما أتوصل به إلى علم ما غاب عني , ثم بين مراده فقال: {أسباب السموات} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: طرق السموات , قاله أبو صالح. الثاني: أبواب السموات , قاله السدي والأخفش , وأنشد قول الشاعر:
(ومن هاب أسباب المنايا يَنَلنه ... ولو نال أسباب السماء بِسلَّمِ)
الثالث: ما بين السموات , حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم. {فأطَّلعَ إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً} فيه قولان: أحدهما: أنه غلبه الجهل على قول هذا أو تصوره. الثاني: أنه قاله تمويهاً على قومه مع علمه باستحالته , قاله الحسن.(5/156)
{وما كَيْدُ فرعون إلا في تبابٍ} فيه وجهان: أحدهما: في خسران قاله ابن عباس. الثاني: في ضلال , قاله قتادة. وفيه وجهان: أحدهما: في الدنيا لما أطلعه الله عليه من هلاكه. الثاني: في الآخرة لمصيره إلى النار , قاله الكلبي.(5/157)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
{ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} قوله عز وجل: {لا جَرَمَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه: لا بد، قاله المفضل.(5/157)
الثاني: معناه: لقد حق واستحق , قاله المبرد. الثالث: أنه لا يكون إلا جواباً كقول القائل: فعلوا كذا , فيقول المجيب: لا جرم انهم سيندمون , قاله الخليل. {أن ما تدعونني إليه} أي من عبادة ما تعبدون من دون الله. {ليس له دعوةٌ في الدنيا ولا في الآخرة} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة , قاله السدي. الثاني: لا ينفع ولا يضر في الدنيا ولا في الآخرة , قاله قتادة. الثالث: ليس له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة , قاله الكلبي. {وأن مردنا إلى الله} أي مرجعنا بعد الموت إلى الله ليجازينا على أفعالنا. {وأن المسرفين هم أصحاب النار} فيهم قولان: أحدهما: يعني المشركين , قاله قتادة. الثاني: يعني السفاكين للدماء بغير حق , قاله الشعبي , وقال مجاهد: سمى الله القتل سرفاً. قوله عز وجل: {فستذكرون ما أقول لكم} فيه قولان: أحدهما: يعني في الآخرة , قاله ابن زيد. الثاني: عند نزول العذاب بهم , قاله النقاش. {وأفوّض أمري إلى الله} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه: وأسلم أمري إلى الله , قاله ابن عيسى. الثاني: أشهد عليكم الله , قاله ابن بحر. الثالث: أتوكل على الله , قاله يحيى بن سلام. {إن الله بصير بالعباد} فيه وجهان: أحدهما: بأعمال العباد. الثاني: بمصير العباد. وفي قائل هذا قولان: أحدهما: أنه من قول موسى. الثاني: من قول مؤمن آل فرعون , فعلى هذا يصير بهذا القول مظهراً لإيمانه.(5/158)
قوله عز وجل: {فوقاه الله سيئات ما مكروا} فيه قولان: أحدهما: أن موسى وقاه الله سيئات ما مكروا , فعلى هذا فيه قولان: أحدهما: أن مؤمن آل فرعون نجاه الله مع موسى حتى عبر البحر واغرق الله فرعون , قاله قتادة , وقيل إن آل فرعون هو فرعون وحده ومنه قول أراكة الثقفي:
(لا تبك ميتاً بعد موت أحبةٍ ... عليّ وعباس وآل أبي بكر)
يريد أبا بكر. الثاني: أن مؤمن آل فرعون خرج من عنده هارباً إلى جبل يصلي فيه , فأرسل في طلبه , فجاء الرسل وهو في صلاته وقد ذبت عنه السباع والوحوش أن يصلوا إليه , فعادوا إلى فرعون فأخبروه فقتلهم فهو معنى قوله {فوقاه الله سيئات ما مكروا} . {وحاق بآل فرعون سوء العذاب} فيه وجهان: أحدهما: أنهم قومه , وسوء العذاب هو الغرق , قاله الضحاك. الثاني: رسله الذين قتلهم , وسوء العذاب هو القتل. قوله عز وجل: {النار يعرضون عليها غُدُوّاً وعشيّاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه يعرض عليهم مقاعدهم من النار غدوة وعشية , فيقال: لآلِ فرعون هذه منازلكم , توبيخاً، قاله قتادة. الثاني: أن أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح فذلك عرضها، قاله ابن مسعود. الثالث: أنهم يعذبون بالنار في قبرهم غدواً وعشياً، وهذا لآل فرعون خصوصاً. قال مجاهد: ما كانت الدنيا. {ويوم تقولم الساعةُ} وقيامها وجود صفتها على استقامة , ومنه قيام السوق وهو حضور أهلها على استقامة في وقت العادة. {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} لأن عذاب جهنم مُخْتَلِف. وجعل الفراء في الكلام تقديماً وتأخيراً وتقديره: ادخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً، وهو خلاف ما ذهب إليه غيره من انتظام الكلام على سياقه.(5/159)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
{إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير} قوله عز وجل: {إنا لننصُرُ رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} فيه قولان: أحدهما: بإفلاج حجتهم , قاله أبو العالية. الثاني: بالانتقام من أعدائهم قال السدي: ما قتل قوم قط نبياً أو قوماً من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله من ينتقم لهم فصاروا منصورين فيها وإن قُتلوا. {ويومَ يقَوم الأشْهاد} بمعنى يوم القيامة. وفي نصرهم قولان: أحدهما: بإعلاء كلمتهم وإجزال ثوابهم. الثاني: إنه بالانتقام من أعدائهم. وفي {الأشهاد} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الملائكة شهدوا للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب، قاله مجاهد والسدي. الثاني: انهم الملائكة والأنبياء، قاله قتادة.(5/160)
الثالث: أنهم أربعة: الملائكة والنبيون والمؤمنون والأجساد , قاله زيد بن أسلم ثم في {الأشهاد} أيضاً وجهان: أحدهما: جمع شهيد مثل شريف , وأشراف. الثاني: أنه جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب. قوله عز وجل: {فاصبر إنَّ وعد الله حق} فيه قولان: أحدهما: هو ما وعد الله رسوله في آيتين من القرآن أن يعذب كفار مكة , قاله مقاتل. الثاني: هو ما وعد الله رسوله أن يعطيه المؤمنين في الآخرة , قاله يحيى بن سلام. {واستغفر لذنبك} اي من ذنب إن كان منك. قال الفضيل: تفسير الاستغفار أقلني. {وسبح بحمد ربِّك} قال مجاهد: وصَلِّ بأمر ربك. {بالعشي والإبكار} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها صلاة العصر والغداة , قاله قتادة. الثاني: أن العشي ميل الشمس إلى أن تغيب , والإبكار أول الفجر , قاله مجاهد. الثالث: هي صلاة مكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ركعتان غدوة وركعتان عشية , قاله الحسن. قوله عز وجل: {إنّ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم} أي بغير حجة جاءتهم. {إن في صدورهم إلا كبرٌ ما هم ببالغيه} فيه قولان: أحدهما: أن اكبر العظمة التي في كفار قريش، ما هم ببالغيها، قاله مجاهد. الثاني: ما يستكبر من الإعتقاد وفيه قولان: أحدهما: هو ما أمله كفار قريش في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه أن يهلك ويهلكوا , قاله الحسن. الثاني: هو أن اليهود قالوا إن الدجال منا وعظموا أمره , واعتقدوا أنهم يملكون، وينتقمون، قاله أبو العالية.(5/161)
{فاستعذ بالله} من كبرهم. {إنه هو السميع} لما يقولونه {البصير} بما يضمرونه.(5/162)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
{لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} قوله عز وجل: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لخلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمت اليهود شأنه , قاله أبو العالية. الثاني: أكبر من إعادة خلق الناس حين أنكرت قريش البعث , قاله يحيى بن سلام. الثالث: أكبر من أفعال الناس حين أذل الكفار بالقوة وتباعدوا بالقهر.(5/162)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
{وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} قوله عز وجل: {وقال ربكم ادعوني استجبْ لكم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه وحدوني بالربوبية أغفر لكم ذنوبكم، قاله ابن عباس. الثاني: اعبدوني استجب لكم , قاله جرير بن عبد الله، أي اتبعكم على عبادتكم. الثالث: سلوني أعطكم , قاله السدي. وإجابة الداعي عند صدق الرغبة مقيد بشرط الحكمة. وحكى قتادة أن كعب قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم تعطهن(5/162)
أمّة قبلكم إلا نبي: كان إذا أرسل نبي قيل له: أنت شاهد على أمتك , وجعلكم شهداء على الناس , وكان يقال للنبي، ليس عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الأمة: وما جعل عليكم في الدين من حرج , وكان يقال للنبي: ادعني أستجب لك، وقال لهذه الأمة: ادعوني أستجب لكم.(5/163)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
{الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} قوله عز وجل: {الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لتستريحوا فيه من عمل النهار. الثاني: لتكفوا فيه عن طلب الأرزاق. الثالث: لتحاسبوا فيه أنفسكم على ما عملتم بالنهار.(5/163)
{والنهار مبصراً} فيه وجهان: أحدهما: مبصراً لقدرة الله في خلقه. الثاني: مبصراً لمطالب الأرزاق. قوله عز وجل: {كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: كذلك يصرف , قاله يحيى. الثاني: كذلك يكذب بالتوحيد , قاله مقاتل. الثالث: كذلك يعدل عن الحق , قاله ابن زيد.(5/164)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
{ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون}(5/164)
قوله عز وجل: {ذلكم بما كنتم تفرحون. .} الآية. في الفرح والمرح وجهان: أحدهما: أن الفرح: السرور والمرح: البطر , فسرّوا بالإمهال وبطروا بالنعم الثاني: الفرح والسرور , قاله الضحاك , والمرح العدوان. روى خالد عن ثور عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يبغض البذخين الفرحين المرحين , ويحب كل قلب حزين ويبغض أهل بيت لحمين , ويبغض كل حبر سمين) فأما أهل بيت لحمين فهم الذين يأكلون لحوم الناس بالغيبة , وأما الحبر السمين فالمتحبر بعلمه ولا يخبر به الناس , يعني المستكثر من علمه ولا ينفع به الناس.(5/165)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} قوله عز وجل: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العِلمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: بقولهم نحن أعلم منهم لن نبعث لن نعذب، قاله مجاهد. الثاني: بما كان عندهم أنه علم وهو جهل، قاله السدي. الثالث: فرحت الرسل بما عندهم من العلم بنجاتهم وهلاك أعدائهم، حكاه ابن عيسى.(5/165)
الرابع: رضوا بعلمهم واستهزأوا برسلهم، قاله ابن زيد. {وحاق بهم} فيه وجهان: أحدهما: أحاط بهم , قاله الكلبي. الثاني: عاد عليهم. {ما كانوا به يستهزئون} فيه وجهان: أحدهما: محمد صلى الله عليه وسلم أنه ساحر. الثاني: بالقرآن أنه شِعْر.(5/166)
سورة فصلت
بسم الله الرحمن الرحيم(5/167)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
{حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون} قوله عز وجل: {حم} قد مضى تأويله. {تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه على التقديم والتأخير فيكون تقديره حم تنزيل الكتاب من الرحمن الرحيم. الثاني: أن يكون فيه مضمر محذوف تقديره تنزيل القرآن من الرحمن الرحيم. ثم وصفه فقال {كتابٌ فصلت آياتُه} وفي تفصيل آياته خمسة تأويلات: أحدها: فسّرت , قاله مجاهد. الثاني: فصلت بالوعد والوعيد , قاله الحسن. الثالث: فصلت بالثواب والعقاب , قاله سفيان. الرابع: فصلت ببيان حلاله من حرامه وطاعته من معصيته، قاله قتادة.(5/167)
الخامس: فصلت من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم , فحكم فيما بينه وبين من خالفه , قال عبد الرحمن بن زيد. {قرآناً عربياً لقوم يعلمون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعلمون انه إله واحد في التوراة والإنجيل , قاله مجاهد. الثاني: أن القرآن من عند الله نزل , قاله الضحاك. الثالث: يعلمون العربية فيعجزون عن مثله. قوله عز وجل: {وقالوا قلوبنا في أكنّة ما تدعونا إليه} فيه وجهان: أحدهما: أغطية , قاله السدي. الثاني: كالجعبة للنبل , قاله مجاهد. {وفي آذاننا وقر} أي صمم وهما في اللغة يفترقان فالوقر ثقل السمع والصمم ذهاب جميعه. {ومن بيننا وبينك حجاب} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني ستراً مانعاً عن الإجابة , قاله ابن زياد. الثاني: فرقة في الأديان , قاله الفراء. الثالث: أنه تمثيل بالحجاب ليؤيسوه من الإجابة , قاله ابن عيسى. الرابع: أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوباً وقال: يا محمد بيننا وبينك حجاب , استهزاء منه , حكاه النقاش. {فاعمل إننا عامِلون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فاعمل بما تَعْلَم من دينك فإنا نعمل بما نعلم من ديننا , قاله الفراء. الثاني: فاعمل في هلاكنا فإنَّا نعمل في هلاكك , قاله الكلبي. الثالث: فاعمل لإلهك الذي أرسلك فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها , قاله مقاتل. ويحتمل رابعاً: فاعمل لآخرتك فإنا نعمل لدنيانا.(5/168)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة(5/168)
هم كافرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} قوله عز وجل: {وويل للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنه قرعهم بالشح الذي يأنف منه الفضلاء , وفيه دلالة على أن الكافر يعذب بكفره , مع وجوب الزكاة عليه , أكثر مما يعذب من لم تكن الزكاة واجبة عليه , قاله ابن عيسى. الثاني: معناه انهم لا يزكون أعمالهم , قاله ابن عمر. الثالث: معناه لا يأتون به أزكياء , قاله الحسن. الرابع: معناه لا يؤمنون بالزكاة , قاله قتادة. الخامس: معناه ليس هم من أهل الزكاة , قاله معاوية بن قرة. قوله تعالى: {لهم أجْرٌ غير ممنون} فيه أربعة تأويلات: أحدها: غير محسوب , قاله مجاهد. الثاني: غير منقوص , قاله ابن عباس وقطرب , وأنشد قول زهير:
(فَضْل الجياد على الخيل البطاء فما ... يعطي بذلك ممنوناً ولا نزقا)
الثالث: غير مقطوع , قاله ابن عيسى , مأخوذ من مننت الحبل إذا قطعته , قال ذو الأصبع العدواني:
(إني لعمرك ما بابي بذي غلق ... على الصديق ولا خيري بممنون)
الرابع: غير ممنون عليهم به , قاله السدي.(5/169)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
{قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين(5/169)
وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} قوله عز وجل: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} قال ابن عباس خلقها في يومي الأحد والاثنين , وخلقها في يومين أدل على القدرة والحكمة من خلقها دفعة واحدة في طرفة عين , لأنه أبعد من أن يظن به الاتفاق والطبع , وليرشد خلقه إلى الأناة في أمورهم. {وتجعلون له أنداداً} فيه أربعة أوجه: أحدها: أشباهاً , قاله ابن عباس. الثاني: شركاء , قاله أبو العالية. الثالث: كفواً من الرجال تطيعونهم في معاصي الله تعالى قاله السدي. الرابع: هو قول الرجل لولا كلبة فلان لأتي اللصوص , ولولا فلان لكان كذا , رواه عكرمة عن ابن عباس. قوله عز وجل: {وجعل فيها رواسي من فوقها} اي جبالاً , وفي تسميتها رواسي وجهان: أحدهما: لعلوّ رءوسها. الثاني: لأن الأرض بها راسية أو لأنها على الأرض ثابتة راسية. {وبارك فيها} فيه وجهان: أحدهما: أي أنبت شجرها من غير غرس وأخرج زرعها من غيره بذر , قال السدي. الثاني: أودعها منافع أهلها وهو معنى قول ابن جريج. {وقَدَّر فيه أقواتها} فيه أربعة تأويلات: أحدها: قدر أرزاق أهلها , قاله الحسن. الثاني: قدر فيها مصالحها من جبهالها وبحارها وأنهارها وشجرها ودوابها قاله قتادة.(5/170)
الثالث: قدر فيها أقواتها من المطر , قاله مجاهد. الرابع: قدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد , قاله عكرمة. {في أربعة أيام} يعني تتمة أربعة أيام , ومنه قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام , وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً , أي في تتمة خمسة عشريوماً. وقد جاء في الحديث المرفوع أن الله عز وجل خلق الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء , وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والخراب والعمران , فتلك أربعة أيام , وخلق يوم الخميس السماء , وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة وآدم. وفي خلقها شيئاً بعد شيء قولان: أحدهما: لتعتبر به الملائكة الذين أحضروا. والثاني: ليعتبر به العباد الذين أخبروا. {سواء للسائلين} فيه تأويلان: أحدهما: سواء للسائلين عن مبلغ الأجل في خلق الله الأرض , قاله قتادة. الثاني: سواء للسائلين في أقواتهم وأرزقاهم. قوله عز وجل: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} فيه وجهان:(5/171)
أحدهما: عمد إلى السماء , قاله ابن عيسى. الثاني: استوى أمره إلى السماء , قاله الحسن. {فقال لها واللأرض ائتيا طوْعاً أو كرهاً} فيه قولان: أحدهما: أنه قال ذلك قبل خلقها , ويكون معنى ائتيا اي كونا فكانتا كما قال تعالى {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كُن فيكون} قاله ابن بحر. الثاني: قول الجمهور أنه قال ذلك لهما بعد خلقهما. فعلى هذا يكون في معناها أربع تأويلات: أحدها: معناه أعطيا الطاعة في السير المقدر لكما طوعاً أو كرهاً أي اختياراً أو إجباراً قاله سعيد بن جبير. الثاني: ائتيا عبادتي ومعرفتي طوعاً أو كرهاً باختيار أو غير اختيار. الثالث: ائتيا بما فيكما طوعاً أو كرهاً , حكاه النقاش. الرابع: كونا كما أمرت من شدة ولين , وحزن وسهل ومنيع وممكن , قاله ابن بحر. وفي قوله {لَهَا} وجهان: أحدهما: أنه قول تكلم به. الثاني: أنها قدرة منه ظهرت لهما فقام مقام الكلام في بلوغ المراد {قالتا أتينا طائعين} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه أعطينا الطاعة , رواه طاووس. الثاني: أتينا بما فينا. قال ابن عباس: أتت السماء بما فيها من الشمس والقمر والنجوم , وأتت الأرض بما فيها من الأشجار والأنهار والثمار. الثالث: معناه كما أراد الله أن نكون , قاله ابن بحر. وفي قولهما وجهان: أحدهما: أنه ظهور الطاعة منهما قائم مقام قولهما.(5/172)
الثاني: أنهما تكلمتا بذلك. قال أبو النصر السكسكي: فنطق من الأرض موضع الكعبة ونطق من السماء ما بحيالها فوضع الله فيها حرمه. قوله عز وجل: {فقضاهن سبع سماوات في يومين} أي خلقهن سبع سماوات في يومين , قيل يوم الخميس والجمعة , قال السدي: سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات وخلق الأرضين. وقالت طائفة خلق السماوات قبل الأرضين في يوم الأحد والاثنين , وخلق الأرضين والجبال في يوم الثلاثاء والأربعاء , وخلق ما سواهما من العالم يوم الخميس والجمعة , وقالت طائفة ثالثة أنه خلق السماء دخاناً قبل الأرض ثم فتقها سبع سماوات بعد الأرضين والله أعلم بما فعل فقد اختلفت فيه الأقاويل وليس للاجتهاد فيه مدخل. {وأوحى في كلِّ سماءٍ أمرها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أسكن في كل سماء ملائكتها , قاله الكلبي. الثاني: خلق في كل سماء خلقها خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها , قاله قتادة. الثالث: أوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة , حكاه ابن عيسى. {وزينا السماءَ الدنيا بمصابيح وحِفْظاً} أي جعلناها زينة وحفظاً.(5/173)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
{فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا(5/173)
لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون} قوله عز وجل: {إذ جاءتهم الرسلُ مِن بين أيديهم ومِن خلفهم} فيه وجهان: أحدهما: أرسل من قبلهم ومن بعدهم , قاله ابن عباس والسدي. الثاني: ما بين أيديهم عذاب الدنيا , وما خلفهم عذاب الآخرة، قاله الحسن. قوله عز وجل: {فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الشديدة البرد , قاله عكرمة وسعيد بن جبير , وأنشد قطرب قول الحطيئة:
(المطعمون إذا هبت بصرصرة ... والحاملون إذا استودوا على الناس.)
استودوا أي سئلوا الدية. الثاني: الشديدة السموم , قاله مجاهد. الثالث: الشديدة الصوت , قاله السدي مأخوذ من الصرير , وقيل إنها الدبور. {في أيام نحسات} فيها أربعة أقاويل: أحدها: مشئومات , قاله مجاهد وقتادة , كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء وذلك {سبع ليال وثمانية أيام حسوماً} قال ابن عباس: ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء. الثاني: باردات، حكاه النقاش.(5/174)
الثالث: متتابعات، قاله ابن عباس وعطية. الرابع: ذات غبار , حكاه ابن عيسى ومنه قول الراجز:
(قد أغتدي قبل طلوع الشمس ... للصيد في يوم قليل النحس)
قوله عز وجل: {وأمّا ثمود فهديناهم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: دعوناهم , قاله سفيان. الثاني: بيّنا لهم سبيل الخير والشر , قاله قتادة. الثالث: أعلمناهم الهدى من الضلالة , قاله عبد الرحمن بن زيد. {فاستحبوا العَمى على الهدى} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: اختاروا العمى على البيان , قاله أبو العالية. الثاني: اختاروا الكفر على الإيمان. الثالث: اختاروا المعصية على الطاعة , قاله السدي. {فأخذتهم صاعقة العذاب الهون} وفي الصاعقة هنا أربعة أقاويل: أحدها: النار , قاله السدي. الثاني: الصيحة من السماء , قاله مروان بن الحكم. الثالث: الموت وكل شيء أمات , قاله ابن جريج. الرابع: أن كل عذاب صاعقة , وإنما سميت صاعقة لأن كل من سمعها يصعق لهولها. وفي {الهون} وجهان: أحدهما: الهوان , قاله السدي. الثاني: العطش , حكاه النقاش.(5/175)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
{ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم(5/175)
ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين} قوله عز وجل: {فهم يوزعُون} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يدفعون، قاله ابن عباس. الثاني: يساقون، قاله ابن زيد. الثالث: يمنعون من التصرف، حكاه ابن عيسى. الرابع: يحبس أولهم على آخرهم , قاله مجاهد , وهو مأخوذ من وزعته أي كففته. قوله عز وجل: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لفروجهم , قاله ابن زيد. الثاني: لجلودهم أنفسها وهو الظاهر. الثالث: أنه يراد بالجلود الأيدي والأرجل , قاله ابن عباس وقيل إن أول ما يتكلم منه فخذه الأيسر وكفه الأيمن. قوله عز وجل: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني وما كنتم تتقون , قاله مجاهد. الثاني: وما كنتم تظنون , قاله قتادة. الثالث: وما كنتم تستخفون منها , قاله السدي. قال الكلبي: لأنه لا يقدر على الاستتار من نفسه. {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون} حكى ابن مسعود أنها(5/176)
نزلت في ثلاثة نفر تسارّوا فقالوا أترى الله يسمع إسرارنا؟ قوله عز وجل: {وإن يستعتبوا فيما هم مِن المعتبين} فيه خمسة أوجه: أحدها: معناه وإن يطلبوا الرضا فما هم بمرضى عنهم , والمعتب: الذي قُبل عتابه وأُجيب إلى سؤاله , قاله ابن عيسى. الثاني: إن يستغيثوا فما هم من المغاثين. الثالث: وإن يستقيلوا فما هم من المقالين. الرابع: وإن يعتذروا فما هم من المعذورين. الخامس: وإن يجزعوا فما هم من الآمنين. قال ثعلب: يقال عتب إذا غضب , وأعتب إذا رضي.(5/177)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
{وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين} قوله عز وجل: {وقيضنا لهم قرناءَ} فيه قولان: أحدهما: هيأنا لهم شياطين , قاله النقاش. الثاني: خلينا بينهم وبين الشياطين , قاله ابن عيسى. {فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم} فيه أربعة تأويلات:(5/177)
أحدها ما بين أيديهم من أمر الدنيا , وما خلفهم من أمر الآخرة , قاله السدي ومجاهد. الثاني: ما بين أيديهم من أمر الآخرة فقالوا لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب , وما خلفهم من أمر الدنيا فزينوا لهم اللذات , قاله الكلبي. الثالث: ما بين أيديهم هو فعل الفساد في زمانهم , وما خلفهم هو ما كان قبلهم , حكاه ابن عيسى. الرابع: ما بين أيديهم ما فعلوه , وما خلفهم ما عزموا أن يفعلوه. ويحتمل خامساً: ما بين أيديهم من مستقبل الطاعات أن لا يفعلوها , وما خلفهم من سالف المعاصي أن لا يتوبوا منها. قوله عز وجل: {وقال الذين كفروا لا تسمعُوا لهذا القرآن} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا تتعرضوا لسماعه. الثاني: لا تقبلوه. الثالث: لا تطيعوه من قولهم السمع والطاعة. {والغوا فيه} وفيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني قعوا فيه وعيبوه , قاله ابن عباس. الثاني: جحدوه وأنكروه , قاله قتادة. الثالث: عادوه , رواه سعيد بن أبي عروبة. الرابع: الغوا فيه بالمكاء والتصدية , والتخليط في النطق حتى يصير لغواً , قاله مجاهد. قوله عز وجل: {وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضَلاّنا من الجن والإنس} فيهما قولان: أحدهما: دعاة الضلالة من الجن والإنس , حكاه بن عيسى. الثاني: أن الذي من الجن إبليس، يدعوه كل من دخل النار من المشركين، والذي من الإنس ابن آدم القاتل أخاه يدعوه كل عاص من الفاسقين، قاله السدي.(5/178)
وفي قوله: {أرنا اللذَين} وجهان: أحدهما: أعطنا اللذين أضلانا. الثاني: أبصرنا اللذين أضلانا. {نجعلهما تحت أقدامنا} يحتمل وجهين: أحدهما: انتقاماً منهم. الثاني: استذلالاً لهم. {ليكونا من الأسفلين} يعني في النار , قالوا ذلك حنقاً عليهما وعداوة لها. ويحتمل قوله {من الأسفلين} وجهين: أحدهما: من الأذلين. الثاني: من الأشدين عذاباً لأن من كان في أسفل النار كان أشد عذاباً.(5/179)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم} قوله عز وجل: {إن الذين قالوا ربنا اللهُ} قال ابن عباس: وحّدوا الله تعالى. {ثم استقاموا} فيه خمسة أوجه: أحدها: ثم استقاموا على أن الله ربهم وحده , وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومجاهد. الثاني: استقاموا على طاعته وأداء فرائضه , قاله ابن عباس والحسن وقتادة. الثالث: على إخلاص الدين والعلم إلى الموت , قاله أبو العالية والسدي. الرابع: ثم استقاموا في أفعالهم كما استقاموا في أقوالهم. الخامس: ثم استقاموا سراً كما استقاموا جهراً.(5/179)
ويحتمل سادساً: أن الاستقامة أن يجمع بين فعل الطاعات واجتناب المعاصي لأن التكليف يشتمل على أمر بطاعة تبعث على الرغبة ونهي عن معصية يدعو إلى الرهبة. {تتنزل عليهم الملائكة} فيه قولان: أحدهما: تتنزل عليهم عند الموت , قاله مجاهد وزيد بن أسلم. الثاني: عند خروجهم من قبورهم للبعث , قاله ثابت ومقاتل. {ألا تخافوا ولا تحزنوا} فيه تأويلان: أحدهما: لا تخافوا أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفكم , قاله عكرمة. الثاني: لا تخافوا ولا تحزنوا على أولادكم. وهذا قول مجاهد. {وأبشروا بالجنة} الآية. قيل إن بشرى المؤمن في ثلاثة مواطن: أحدها عند الموت , ثم في القبر , ثم بعد البعث. قوله عز وجل: {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} فيه وجهان: أحدهما: نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة , قاله السدي. الثاني: نحفظكم في الحياة الدنيا ولا نفارقكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة. ويحتمل ثالثاً: نحن أولياؤكم في الدنيا بالهداية وفي الآخرة بالكرامة. {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم} فيه وجهان: أحدهما: أنه الخلود لأنهم كانوا يشتهون البقاء في الدنيا , قاله ابن زيد. الثاني: ما يشتهونه من النعيم , قاله أبو أمامة. {ولكم فيها ما تدَّعون} فيه وجهان: أحدهما: ما تمنون , قاله مقاتل. الثاني: ما تدعي أنه لك فهو لك بحكم ربك , قاله ابن عيسى. {نزلاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني ثواباً. الثاني: يعني منزلة. الثالث: يعني منّاً، قاله الحسن.(5/180)
الرابع: عطاء , مأخوذ من نزل الضيف ووظائف الجند {من غفور رحيم}(5/181)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
{ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} قوله عز وجل: {ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} الآية. فيه قولان: أحدهما: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله الحسن والسدي. الثاني: أنهم المؤمنون دعوا إلى الله , قاله قيس بن أبي حازم ومجاهد. {وعمل صالحاً} فيه قولان: أحدهما: أنه أداء الفرائض، قاله الكلبي. الثاني: أنهم المصلون ركعتين بين الأذان والإقامة، قالته عائشة رضي الله عنها. وروى هشام بن عروة عن عائشة قالت: كان بلال إذا قام يؤذن قالت اليهود قام غراب - لا قام - فنادى بالصلاة، وإذا ركعوا في الصلاة قالوا قد جثوا - لا جثوا - فنزلت هذه الآية في بلال والمصلين. قوله عز وجل: {ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ} فيه ستة تأويلات:(5/181)
أحدها: أن الحسنة المداراة , والسيئة الغلظة , حكاه ابن عيسى. الثاني: الحسنة الصبر والسيئة النفور. الثالث: الحسنة الإيمان , والسيئة الشرك , قاله ابن عباس. الرابع: الحسنة العفو والسيئة الانتصار , حكاه ابن عمير. الخامس: الحسنة الحلم والسيئة الفحش , قاله الضحاك. السادس: الحسنة حب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم والسيئة بغضهم , قاله علي كرم الله وجهه. {ادفع بالتي هي أحسنُ} فيه وجهان: أحدهما: ادفع بحلمك جهل من يجهل , قاله ابن عباس. الثاني: ادفع بالسلامة إساءة المسيء , قاله عطاء. ويحتمل ثالثاً: ادفع بالتغافل إساءة المذنب , والذنب من الأدنى , والإساءة من الأعلى. {فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه ولي حميمٌ} قاله عكرمة: الولي الصديق , والحميم القريب. وقيل هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأمره بالصبر عليه والصفح عنه. قوله عز وجل: {وما يلقاها إلا الذين صبروا} فيه وجهان: أحدهما: ما يلقى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على الحلم. الثاني: ما يلقى الجنة إلا الذين صبروا على الطاعة. {وما يلقاها إلا ذو حَظٍ عظيمٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ذو جد عظيم , قاله السدي. الثاني: ذو نصيب [وافر] من الخير , قاله ابن عباس. الثالث: أن الحظ العظيم الجنة. قال الحسن: والله ما عظم حظ قط دون الجنة.(5/182)
ويحتمل رابعاً: أنه ذو الخلق الحسن. قوله عز وجل: {وإما ينزغنك مِن الشيطان نزغ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه النزغ الغضب , قاله ابن زيد. الثاني: أنه الوسوسة وحديث النفس , قاله السدي. الثالث: أنه النجس , قاله ابن عيسى. الرابع: أنه الفتنة , قاله ابن زياد. الخامس: أنه الهمزات , قاله ابن عباس. {فاستعذ بالله} أي اعتصم بالله. {إنه هو السميع} لاستعاذتك {العليم} بأذيتك.(5/183)
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} قوله عز وجل: {ومن آياته الليل والنهار} ووجه الآيات فيهما تقديرهما على حد مستقر , وتسييرهما على نظم مستمر , يتغايران لحكمة ويختلفان لمصلحة. {والشمس والقمر} ووجه الآية فيهما ما خصهما به من نور , وأظهره فيهما من تدبير وتقدير. {لا تسجُدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن} قال الزجاج: أي خلق هذه الآيات. وفي موضع السجود من هذه الآية قولان: أحدهما: عند قوله {إن كنتم إياه تعبدون} قاله ابن مسعود والحسن. الثاني: عند قوله {وهم لا يسأمون} قاله ابن عباس وقتادة. قوله عز وجل: {ومِن آياته أنك ترىالأرض خاشعةً} فيه وجهان:(5/183)
أحدهما: غبراء دراسة , قاله قتادة. الثاني: ميتة يابسة , قاله السدي. ويحتمل ثالثاً: ذليلة بالجدب لأنها مهجورة , وهي إذا أخصبت عزيزة لأنها معمورة. {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} فيه وجهان: أحدهما: اهتزت بالحركة للنبات , وربت بالارتفاع قبل أن تنبت , قاله مجاهد. الثاني: اهتزت بالنبات وربت بكثرة ريعها , قاله الكلبي. فيكون على قول مجاهد تقديم وتأخير تقديره: ربت واهتزت. {إن الذي أحياها لمحيي الموتى} الآية , جعل ذلك دليلاً لمنكري البعث على إحياء الخلق بعد الموت استدلالاً بالشاهد على الغائب.(5/184)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
{إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم} قوله عز وجل: {إن الذين يلحدون في آياتنا} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يكذبون بآياتنا، قاله قتادة. الثاني: يميلون عن آياتنا، قاله أبو مالك. الثالث: يكفرون بنا، قاله ابن زيد. الرابع: يعاندون رسلنا، قاله السدي. الخامس: هو المكاء والتصفيق عند تلاوة القرآن، قاله مجاهد. {لا يخفون علينا} وهذا وعيد. {أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة} فيه أربعة أقاويل:(5/184)
أحدها: أن الذي يلقى في النار أبو جهل , والذي يأتي آمناً عمار بن ياسر , قاله عكرمة. الثاني: أن الذي يلقى في النار أبو جهل , والذي يأتي آمنا يوم القيامة عمر بن الخطاب رضي الله عنه , قاله ابن زياد. الثالث: أن الذي يلقى في النار أبو جهل وأصحابه قال الكلبي , والذي يأتي آمناً رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله مقاتل. الرابع: أنهاعلى العموم فالذي يلقى في النار الكافر , والذي يأتي آمناً يوم القيامة المؤمن , قاله ابن بحر. {اعملوا ما شئتم} هذا تهديد. {إنه بما تعملون بصير} وعيد , فهدد وتوعد. قوله عز وجل: {إنّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} الذكر هنا القرآن في قول الجميع , وله جواب محذوف تقديره: هالكون أو معذبون. {وإنه لكتابٌ عزيز} فيه وجهان: أحدهما: عزيز من الشيطان أن يبدله , قاله السدي. الثاني: يمتنع على الناس أن يقولوا مثله , قاله ابن عباس. {لا يأتيه الباطل} في {الباطل} هنا أربعة أقاويل: أحدها: أنه إبليس , قاله قتادة. الثاني: أنه الشيطان , قاله ابن جريج. الثالث: التبديل , قاله مجاهد. الرابع: التعذيب , قاله سعيد. ويحتمل خامساً: أن الباطل التناقض والاختلاف. {من بين يديه ولا من خلفِه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يأتيه الباطل من كتاب قبله , ولا يأتيه من كتاب بعده، قاله قتادة. الثاني: لا يأتيه الباطل من أول التنزيل ولا من آخره.(5/185)
الثالث: لا يأتيه الباطل في إخباره عما تقدم ولا في إخباره عما تأخر , قاله ابن جريج. ويحتمل رابعاً: ما بين يديه: لفظه وما خلفه: تأويله , فلا يأتيه الباطل في لفظ ولا تأويل: {تنزيل من حكيم حميد} قال قتادة: حكيم في أمره حميد إلى خلقه. قوله عز وجل: {ما يُقالُ لك إلا ما قد قِيل للرسل من قبلك} فيه وجهان: أحدهما: ما يقول المشركون لك إلا ما قاله من قبلهم لأنبيائهم إنه ساحر أو مجنون , قاله قتادة. الثاني: ما تخبر إلا بما يخبر الأنبياء قبلك ب {إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم} حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي.(5/186)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
{ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب} قوله عز وجل: {ولو جعلناه قرآناً أعجمياً} فيه وجهان: أحدهما: يعني بالأعجمي غير المبين وإن كان عربيّاً , قاله المفضل. الثاني: بلسان أعجمي. {لقالوا لولا فصلت آياته} أي بينت آياته لنا بالعربية على الوجه الثاني , والفصح على الوجه الأول. {ءاعجميٌ} فيه وجهان: أحدهما: كيف يكون القرآن أعجمياً ومحمد صلى الله عليه وسلم عربي؟ قاله سعيد بن جبير. الثاني: كيف يكون القرآن أعجميّاً ونحن قوم عرب؟ قاله السدي. قال مجاهد أعجمي الكلام وعربي الرجل.(5/186)
{قل هو للذين آمنوا هُدىً وشفاءٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: هدى للأبصار وشفاء للقلوب. الثاني: هدى من الضلال وشفاء من البيان. {والذين لا يؤمنون في آذنهم وقرٌ} أي صمم. {وهو عليهم عَمىً} أي حيرة , وقال قتادة: عموا عن القرآن وصموا عنه. {أولئك ينادون من مكان بعيد} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من مكان بعيد من قلوبهم , قاله علي كرم الله وجهه ومجاهد. الثاني: من السماء , حكاه النقاش. الثالث: ينادون بأبشع أسمائهم , قاله الضحاك. ويحتمل رابعاً: من مكان بعيد من الإجابة.(5/187)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
{من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص} قوله عز وجل: {وَظَنُّواْ مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} فيه وجهان: أحدهما: علمواْ ما لهم من معدل. الثاني: استيقنوا أن ليس لهم ملجأ من العذاب , قاله السدي , وقد يعبر بالظن عن اليقين فيما طريقه الخبر دون العيان لأن الخبر محتمل والعيان غير محتمل.(5/187)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
{لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا(5/187)
ولنذيقنهم من عذاب غليظ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض} قوله عز وجل: {لاَّ يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ} أي لا يمل من دعائه بالخير , والخير هنا المال والصحة، قاله السُدي، والإنسان هنا يراد به الكافر. {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} يعني الفقر والمرض , ويحتمل وجهين: أحدهما: يؤوس من الخير قنوط من الرحمة. الثاني: يؤوس من إجابة الدعاء، قنوط بسوء الظن بربه. قوله عز وجل: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: رخاء بعد شدة. الثاني: غنى بعد فقر. {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} فيه وجهان: أحدهما: هذا باجتهادي. الثاني: هذا باستحقاقي. {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً} إنكاراً منه للبعث والجزاء مع ما حظ به من النعمة والرخاء ودفع عنه من الضر والبلاء. {وَلَئِنِ رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} الآية. إن كان كما زعمتم رجعة وجزاء فإن لي عنده آجلاً مثل ما أولانيه عاجلاً. وقيل إنها نزلت في النضر بن الحارث. قوله عز وجل: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَئَا بِجَانِبِه} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أعرض عن الإيمان وتباعد من الواجب. الثاني: أعرض عن الشكر وبعد من الرشد. الثالث: أعرض عن الطاعة وبعد من القبول. {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} فيه وجهان: أحدهما: تام لخلوص الرغبة فيه.(5/188)
الثاني: كثير لدوام المواصلة له , وهو معنى قول السدي , وإنما وصف التام والكثير بالعريض دون الطويل لأن العرض يجمع طولاً وعرضاً فكان أعم , قال ابن عباس: الكافر يعرف ربه في البلاء ولا يعرفه في الرخاء.(5/189)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
{قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط} قوله عز وجل: {سَنُرِيهِمْءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن في الآفاق فتح أقطار الأرض , وفي أنفسهم فتح مكة , قاله السدي. الثاني: في الآفاق ما أخبر به من حوادث الأمم , وفي أنفسهم ما أنذرتهم به من الوعيد. الثالث: أنها في الآفاق آيات السماء وفي أنفسهم حوادث الأرض. الرابع: أنها في الآفاق إمساك القطر عن الأرض كلها وفي أنفسهم البلاء الذي يكون في أجسادهم , قاله ابن جريج. الخامس: أنها في الآفاق انشقاق القمر , وفي أنفسهم كيف خلقناهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة , وكيف إدخال الطعام والشراب من موضع واحدٍ وإخراجه من موضعين آخرين , قاله الضحاك. {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} فيه وجهان: أحدهما: يتبين لهم أن القرآن حق. الثاني: أن ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إليه حق. {أَولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} يعني أولم يكفك من ربك. {أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} يحتمل وجهين:(5/189)
أحدهما: عليم. الثاني: حفيظ. قوله عز وجل: {أَلآ إِنَّهُمْ في مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ} قال السُّدي في شكٍ من البعث. {أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} فيه وجهان: أحدهما: أحاط علمه بكل شيء , قاله السدي. الثاني: أحاطت قدرته بكل شيء , قاله الكلبي.(5/190)
سورة الشورى
مكية في قول الحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر، وقاله ابن عباس، وقتادة، إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة} إلى آخرها. بسم الله الرحمن الرحيم(5/191)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
{حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل} قوله عز وجل: {حم عسق} فيه سبعة تأويلات. أحدها: أنه اسم من أسماء القرآن , قاله قتادة. الثاني: أنه اسم من أسماء الله أقسم به , قاله ابن عباس. الثالث: فواتح السور , قاله مجاهد. الرابع: أنه اسم الجبل المحيط بالدنيا , قاله عبد الله بن بريدة. الخامس: أنها حروف مقطعة من أسماء الله فالحاء والميم من الرحمن والعين من العليم , والسين من القدوس , والقاف من القاهر , قاله محمد بن كعب.(5/191)
السادس: أنها حروف مقطعة من حوادث آتية , فالحاء من حرب والميم من تحويل ملك، والعين من عدو مقهور، والسين من استئصال سنين كسني يوسف، والقاف من قدرة الله في ملوك الأرض، قاله عطاء. السابع: ما حُكي عن حذيفة بن اليمان أنها نزلت في رجلٍ يقال له عبد الإله كان في مدينة على نهر بالمشرق خسف الله بها، فذلك قوله حم يعني عزيمة من الله تعالى، عين يعني عدلاً منه: سين يعني سكون، قاف يعني واقعاً بهم. وكان ابن عباس يقرؤها: {حم سق} بغير عين , وهي في مصحف ابن مسعود كذلك حكاه الطبري. قوله عز وجل: {تَكَادُ السَّمَواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يتشققن فَرَقاً من عظمة الله , قاله الضحاك والسُّدي، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
(ليت السماء تفطرت أكنافها ... وتناثرت منها نجوم)
الثاني: من علم الله , قاله قتادة. الثالث: ممن فوقهن , قاله ابن عباس. الرابع: لنزول العذاب منهن. {وَالْمَلآئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: بأمر ربهم , قاله السدي. الثاني: بشكر ربهم. وفي تسبيحهم قولان: أحدهما: تعجباً مما يرون من تعرضهم لسخط الله , قاله علي رضي الله عنه. الثاني: خضوعاً لما يرون من عظمة الله , قاله ابن عباس. {وَيَسْتَغْفِرُونَ لَمَن فِي الأَرْضِ} فيه قولان:(5/192)
أحدهما: لمن في الأرض من المؤمنين، قاله الضحاك والسدي. الثاني: للحسين بن علي رضي الله عنهما، رواه الأصبغ بن نباتة عن علي كرم الله وجهه. وسبب استغفارهم لمن في الأرض ما حكاه الكلبي أن الملائكة لما رأت الملكين اللذين اختبرا وبعثا إلى الأرض ليحكما بينهم، فافتتنا بالزهرة وهربا إلى إدريس وهو جد أبي نوح عليه السلام , وسألاه أن يدعو لهما سبحت الملائكة بحمد ربهم واستغفرت لبني آدم. وفي استغفارهم قولان: أحدهما: من الذنوب والخطايا. وهو ظاهر قول مقاتل. الثاني: أنه طلب الرزق لهم والسعة عليهم، قاله الكلبي. وفي هؤلاء الملائكة قولان: أحدهما: أنهم جميع ملائكة السماء وهو الظاهر من قول الكلبي. الثاني: أنهم حملة العرش. قال مقاتل وقد بين الله ذلك من حم المؤمن فقال {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ} وقال مطرف: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة , ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين.(5/193)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
{وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير}(5/193)
قوله عز وجل: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال الضحاك أهل دين واحد أهل ضلالة أو أهل هدى. {وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فَِي رَحْمَتِهِ} قال أنس بن مالك: في الإسلام. {وَالْظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ} يمنع {وَلاَ نَصِيرٍ} يدفع.(5/194)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
{أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم} قوله عز وجل: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} يعني ذكوراً وإناثاً. {وَمِنَ الأَنْعَامِ أزْوَاجاً} يعني ذكوراً وإناثاً. {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} وفيه ستة تأويلات: أحدها: يخلقكم فيه , قاله السدي. الثاني: يكثر نسلكم فيه , قاله الفراء. الثالث: يعيشكم فيه , قاله قتادة. الرابع: يرزقكم فيه , قاله ابن زيد. الخامس: يبسطكم فيه , قاله قطرب. السادس: نسلاً من بعد نسل من الناس والأنعام , قاله مجاهد. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيه وجهان: أحدهما: ليس كمثل الرجل والمرأة شيء , قاله ابن عباس , والضحاك. الثاني: ليس كمثل الله شيء وفيه وجهان:(5/194)
أحدهما: ليس مثله شيء والكاف زائدة للتوكيد , قال الشاعر:
(سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ... ما إن كمثلهم في الناس من أحد)
الثاني: ليس شيء , والمثل زائد للتوكيد , قاله ثعلب. قوله عز وجل: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} فيه قولان: أحدهما: خزائن السموات والأرض , قاله السدي. الثاني: مفاتيح السموات والأرض , قاله ابن عباس , ومجاهد , وقتادة , والضحاك. ثم فيهما قولان: أحدهما: أنه المفاتيح بالفارسية , قاله مجاهد. الثاني: أنه عربي جمع واحده إقليد، قاله ابن عيسى. وفيما هو مفاتيح السموات والأرض خمسة أقاويل: أحدها: أن مفاتيح السماء المطر ومفاتيح الأرض النبات. الثاني: أنها مفاتيح الخير والشر. الثالث: أن مقاليد السماء الغيوب , ومقاليد الأرض الآفات. الرابع: أن مقاليد السماء حدوث المشيئة , ومقاليد الأرض ظهور القدرة. الخامس: أنها قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده , وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، بيده الخير يحيي ويميت وهوعلى كل شيء قدير، رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله وعلمه(5/195)
لعثمان بن عفان وقد سأله عن مقاليد السماء والأرض. {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} فيه وجهان: أحدهما: يوسع ويضيق. الثاني: يسهل ويعسر. {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} من البسط والقدرة.(5/196)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب} قوله عز وجل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} وفي {شَرَعَ لَكُم} أربعة أوجه: أحدها: سن لكم. الثاني: بيَّن لكم. الثالث: اختار لكم , قاله الكلبي. الرابع: أوجب عليكم. {مِنَ الدِّينِ} يعني الدين ومن زائدة في الكلام. وفي {مَا وَصَّى بِهِ نوحاً} وجهان: أحدهما: تحريم الأمهات والبنات والأخوات، لأنه أول نبي أتى أمته بتحريم. ذلك، قاله الحكم.(5/196)
الثاني: تحليل الحلال وتحريم الحرام , قاله قتادة. {وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ} فيه وجهان: أحدهما: اعملوا به , قاله السدي. الثاني: ادعوا إليه. قال مجاهد: دين الله في طاعته وتوحيده واحد. ويحتمل وجهاً ثالثاً: جاهدوا عليه من عانده. {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} وفيه وجهان: أحدهما: لا تتعادوا عليه , وكونوا عليه إخواناً , قاله أبو العالية. الثانية: لا تختلفوا فيه فإن كل نبي مصدق لمن قبله , قاله مقاتل. {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} قاله قتادة: من شهادة أن لا إله إلا الله. ويحتمل أن يكون من الاعتراف بنبوته , لأنه عليهم أشد وهم منه أنفر. {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ} الآية. فيه وجهان: أحدهما: يجتبي إليه من يشاء هو من يولد على الإسلام. {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} هو من يسلم من الشرك , قاله الكلبي. الثاني: يستخلص إليه من يشاء. قاله مجاهد ويهدي إليه من يقبل على طاعته , قاله السدي. قوله عز وجل: {وَمَا تَفَرَّقُواْ} فيه وجهان: أحدهما: عن محمد صلى الله عليه وسلم. الثاني: في القرآن. {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءهُمُ الْعِلْمُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إلا من بعد ما تبحروا في العلم , قاله الأعمش. الثاني: إلا من بعد ما علمواْ أن الفرقة ضلال , قاله ابن زياد. الثالث: إلا من بعد ما جاءهم القرآن , وسماه علماً لأنه يتعلم منه. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لابتغاء الدنيا وطلب ملكها , قاله أُبي بن كعب. الثاني: لبغي بعضهم على بعض , قاله سعيد بن جبير.(5/197)
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِكَّ} فيه وجهان: أحدهما: في رحمته للناس على ظلمهم. الثاني: في تأخير عذابهم , قال قتادة. {إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى قيام الساعة لأن الله تعالى يقول: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُم} الآية. ويحتمل إلى الأجل الذي قُضِيَ فيه بعذابهم. {لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لعجل هلاكهم. {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود والنصارى , قاله السدي. الثاني: أنهم نبئوا من بعد الأنبياء , قاله الربيع. {لفِي شَكٍ مِّنْهُ مُريبٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لفي شك من القرآن , قاله الربيع. الثاني: لفي شك من الإخلاص , قاله أبو العالية. الثالث: لفي شك من صدق الرسول , قاله السدي.(5/198)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
{فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير} قوله عز وجل: {فَلِذَالِكَ فَادْعُ} معناه فإلى ذلك فادع , وفي المراد بذلك وجهان: أحدهما: القرآن , قاله الكلبي. الثاني: التوحيد , قاله مقاتل. وفي قوله: {فَادْعُ} وجهان: أحدهما: فاعتمد. الثاني: فاستدع. {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ... } فيه ثلاثة أوجه:(5/198)
أحدها: واستقم على أمر الله , قاله قتادة. الثاني: على القرآن , قاله سفيان. الثالث: فاستقم على تبليغ الرسالة , قاله الضحاك. وفي قوله: { ... وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُم} وجهان: أحدهما: في الأحكام. الثاني: في التبليغ. وفي قوله: {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ثلاثة أوجه: أحدها: لا خصومة بيننا وبينكم , قاله مجاهد , قال السدي: وهذه قبل السيف , وقبل أن يؤمر بالجزية. الثاني: معناه فإنكم بإظهار العداوة قد عدلتم عن طلب الحجة , قاله ابن عيسى. الثالث: معناه إنا قد أعذرنا بإقامة الحجة عليكم فلا حجة بيننا وبينكم نحتاج إلى إقامتها عليكم. وقيل إن هذه الآية نزلت في الوليد ابن المغيرة وشيبة بن ربيعة وقد سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش على أن يعطيه الوليد نصف ماله ويزوجه شيبة بابنته.(5/199)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
{والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد} قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: في توحيد الله عز وجل.(5/199)
الثاني: أنهم اليهود قالوا: كتابنا قبل كتابكم , ونبينا قبل نبيكم , ونحن خير منكم , قاله قتادة. {مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من بعد ما أجابه الله إلى إظهاره من المعجزات. الثاني: من بعد ما أجاب الله الرسول من المحاجة. الثالث: من بعد ما استجاب المسلمون لربهم وآمنوا بكتابه ورسوله , قاله ابن زيد. {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} فيه وجهان: أحدهما: باطلة , قاله ابن عيسى. الثاني: خاسرة , قاله ابن زيد. قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} فيه وجهان: أحدهما: بالمعجز الدال على صحته. الثاني: بالصدق فيما أخبر به من ماض ومستقبل. {وَالْمِيزَانَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب. الثاني: أنه العدل فيما أمر به ونهى عنه , قاله قتادة. الثالث: أنه الميزان الذي يوزن به , أنزله الله من السماء وعلم عباده الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس , قال قتادة: الميزان العدل. {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} فلم يخبره بها , ولم يؤنث قريب لأن الساعة تأنيثها غير حقيقي لأنها كالوقت.(5/200)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
{الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما(5/200)
لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير} قوله عز وجل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} الآية. فيه وجهان: أحدهما: أن الله تعالى يعطي على نية الآخرة من شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا، قاله قتادة. الثاني: معناه من عمل للآخرة أعطاه الله بالحسنة عشر أمثالها، ومن عمل للدنيا لم يزد على من عمل لها. {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةَ مِن نَّصِيبٍ} في الجنة وهذا معنى قول ابن زيد وشبه العامل الطالب بالزارع لاجتماعهما في طلب النفع.(5/201)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
{ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور} قوله عز وجل: {قُل لاَّ أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فيه خمسة أوجه: أحدها: معناه ألا تؤذوني في نفسي لقرابتي منكم , وهذا لقريش خاصة لأنه(5/201)
لم يكن بطن من قريش إلا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وأبو مالك. الثاني: معناه إلا أن تؤدوا قرابتي , وهذا قول علي بن الحسين وعمرو بن شعيب والسدي. وروى مقسم عن ابن عباس قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيئاً فخطب فقال للأنصار (أَلَمْ تَكُونُواْ أَذِلاَّءَ فَأعِزَّكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا ضُلاَّلاً فَهَداَكُمْ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا خأَئِفِينَ فَأَمَّنَكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلاَ تَردُواْ عَلَيَّ) فقالواْ: بم نجيبك؟ فقال تَقُولُونَ: (أَلَمْ يَطْرُدْكَ قَوْمُكَ فَآوَيَنَاكَ؟ أَلَمْ يُكَذِّبْكَ قَومَكَ فَصَدَّقْنَاكَ؟) فعد عليهم , قال: فجثوا على ركبهم وقالواْ: أنفسنا وأموالنا لك (. فنزلت {قُل لاَّ أَسْأَلَكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . الثالث: معناه إلا أن توادوني وتؤازروني كما توادون وتؤازرون قرابتكم , قاله ابن زيد. الرابع: معناه إلا أن تتوددوا وتتقربوا إلى الله بالطاعة والعمل الصالح , قاله الحسن , وقتادة. الخامس: معناه إلا أن تودوا قرابتكم وتصلوا أرحامكم , قاله عبد الله بن القاسم. {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنةً} أي يكتسب , وأصل القرف الكسب. {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} أي نضاعف له بالحسنة عشراً. {إِنَّ اللَّه غَفُورٌ شَكُورٌ} فيه وجهان: أحدهما: غفور للذنوب , شكور للحسنات , قاله قتادة. الثاني: غفور لذنوب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم , شكور لحسناتهم , قاله السدي. قوله عز وجل: {فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أي ينسيك ما قد آتاك من القرآن، قاله قتادة.(5/202)
الثاني: معناه يربط على قلبك فلا يصل إليه الأذى بقولهم افترى على الله كذباً , قاله مقاتل. الثالث: معناه لو حدثت نفسك أن تفتري على الله كذباً لطبع الله على قلبك، قاله ابن عيسى. {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: ينصر دينه بوعده. الثاني: يصدق رسوله بوحيه.(5/203)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
{وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعدِ مَا قَنَطُواْ} والقنوط الإياس , قاله قتادة. قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: جدبت الأرض وقنط الناس فقال: مطروا إذن. والغيث ما كان نافعاً في وقته , والمطر قد يكون ضاراً ونافعاً في وقته وغير وقته. {ويَنشُرُ رَحْمَتَهُ} بالغيث فيما يعم ويخص. {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} فيه وجهان: أحدهما: الولي المالك , والحميد مستحق الحمد. الثاني: الولي المنعم والحميد المستحمد.(5/203)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
{ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم(5/203)
ويعفو عن كثير وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} قوله عز وجل: {وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه الحدود على المعاصي , قاله الحسن. الثاني: أنها البلوى في النفوس والأموال عقوبة على المعاصي والذنوب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا يُصِيبُ ابنَ آدَمَ خَدْشُ عُوْدٍ وَلاَ عَثْرَةُ قَدَمٍ وَلاَ اخْتِلاَجُ عِرْقٍ إِلاَّ بِذَنبٍ وَمَا يَعْفُو عَنهُ أَكْثَرَ) وقال ثابت البناني. كان يقال ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا. ثم فيها قولان: أحدهما: أنها خاصة في البالغين أن تكون عقوبة لهم؛ وفي الأطفال أن تكون مثوبة لهم. الثاني: عقوبة عامة للبالغين في أنفسهم وللأطفال في غيرهم من والدٍ أو والدة , قاله العلاء بن زيد. {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} فيه وجهان: أحدهما: عن كثير من المعاصي أن لا يكون عليها حدود , وهو مقتضى قول الحسن. الثاني: عن كثير من العصاة وأن لا يعجل عليهم بالعقوبة. قال علي رضي الله عنه: ما عاقب الله به في الدنيا فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة.(5/204)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
{ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} قوله عز وجل: {وَمِنءَايَاتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ} قال مجاهد هي السفن في البحر {كَالأَعْلاَمِ} أي كالجبال , ومنه قول الخنساء:
(وإنَّ صَخْراً لتأتَمُّ الهُدَاةُ به ... كأنَّه علمٌ في رأسِه نار)
{إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} أي وقوفاً على ظهر الماء , قال قتادة: لأن سفن هذا البحر تجري بالريح. فإذا أمسكت عنها ركدت. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} صبار على البلوى , شكور على النعماء. قال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعْطِي شكر , وإذا ابتُلِيَ صبر. قال عون بن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر , وكم من مبتلٍ غير صابر. {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ} معناه يغرقهن بذنوب أهلها. {ويَعْفُ عَن كَثِيرٍ} من أهلها فلا يغرقهم معها. {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} فيه وجهان: أحدهما: من فرار ومهرب , قاله قطرب. الثاني: ملجأ , قاله السُدي مأخوذ من قولهم حاص به البعير حيصة إذا مال به , ومنه قولهم فلان يحيص عن الحق أي يميل عنه.(5/205)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
{فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}(5/205)
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ} قال عبد الرحمن بن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم قبل الهجرة اثني عشر نقيباً منهم. {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} فيها وجهان: أحدهما: أنه المحافظة على مواقيتها، قاله قتادة. الثاني: إتمامها بشروطها، قاله سعيد بن جبير. {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فيه أربع أوجه: أحدها: أنهم كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملواْ عليه فمدحهم الله تعالى به، قاله النقاش. الثاني: يعني أنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون فمدحوا على اتفاق كلمتهم. قال الحسن: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم. الثالث: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وورود النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له , قاله الضحاك. الرابع: أنهم يتشاورون فيما يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم بخير دون بعض. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنفِقُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يريد به أداء الزكاة من أموالهم , قاله السدي. الثاني: إنفاق الحلال من أكسابهم , وهو محتمل. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُم الْبَغْيُ هُم يَنتَصِرُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أصابهم يعني المشركين على دينهم انتصروا بالسيف منهم. قاله ابن جريج. الثاني: أصابهم يعني باغ عليهم كره لهم أن يستذلوا , فإذا قدروا عفوا , قاله إبراهيم. الثالث: إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزايلوه عنهم ويدفعوه عنهم , قاله ابن بحر.(5/206)
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
{وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين(5/206)
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} قوله عز وجل: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} فيه قولان: أحدهما: أنه محمول على الجراح التي تتمثل في القصاص دون غيرها من سب أو شتم، قاله الشافعي، وأبو حنيفة، وسفيان. الثاني: أنه محمول على مقابلة الجراح، وإذا قال أخزاه الله أو لعنه الله أن يقول مثله، ولا يقابل القذف بقذف ولا الكذب بكذب، قاله ابن أبي نجيح والسدي. وسمي الجزاء سيئة لأنه في مقابلتها وأنها عند المعاقب بها سواء. {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فأذن في الجزاء وندب إلى العفو. وفي قوله: {وأَصْلَحَ} وجهان: أحدهما: أصلح العمل، قاله سعيد بن جبير. الثاني: أصلح بينه وبين أخيه، قاله ابن زياد، وهذا مندوب إليه في العفو عن التائب دون المصرّ. روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ. مَن كَانَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَلْيَدْخُلِ الجَنَّةَ، فَيُقَالُ مَن ذَا الَّذي أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَيَقُولُونَ العَافُونَ عَنِ النَّاسِ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ) . {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظّالِمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: الظالمين في الابتداء، قاله سعيد بن جبير.(5/207)
الثاني: المعتدي في الجزاء , قاله ابن عيسى. قوله عز وجل: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي استوفى حقه بنفسه. {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قصاصاً في بدن يستحقه آدمي فلا حرج عليه فيه إذا استوفاه من غير عدوان , وثبت حقه عند الحكام , لكن يزجره الإمام في تفرده بالقصاص لما فيه من الجرأة على سفك الدماء , وإن كان حقه غير ثابت عند الحكام فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج وهو في الظاهر مطالب وبفعله مؤاخذ. والقسم الثاني: أن يكون حداً لله لا حق فيه لآدمي كحد الزني وقطع السرقة. فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه , وإن ثبت عند حاكم نظر فإن كان قطعاً في سرقة سقط به الحد لزوال العضو المستحق قطعه , ولم يجب عليه في ذلك حق إلا التعزير أدباً , وإن كان جلداً لم يسقط به الحد لتعديه به مع بقاء محله وكان مأخوذاً بحكمه. القسم الثالث: أن يكون حقاً في مال فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه حتى يصل إليه إن كان من هو عليه عالماً به , وإن كان غير عالم نظر , فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه , وإن كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه مع عدم بينة تشهد به ففي جواز الاستسرار بأخذه مذهبان: أحدهما: جوازه , وهو قول مالك , والشافعي. الثاني: المنع , قاله أبو حنيفة. قوله عز وجل: {إِنَّما السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} فيه قولان: أحدهما: يظلمون الناس بعدوانهم عليهم وهو قول كثير منهم. الثاني: يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم، قاله ابن جريج. {وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه بغيهم في النفوس والأموال، وهو قول الأكثرين. الثاني: عملهم بالمعاصي، قاله مقاتل.(5/208)
الثالث: هو ما يرجوه كفار قريش أن يكون بمكة غير الإسلام ديناً , قاله أبو مالك. قوله عز وجل: {وَلَمِنَ صَبَرَ وَغَفَرَ} يحتمل وجهين: أحدهما: صبر على الأذى وغفر للمؤذي. الثاني: صبر عن المعاصي وستر المساوىء. ويحتمل قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وجهين: أحدهما: لمن عزائم الله التي أمر بها. الثاني: لمن عزائم الصواب التي وفق لها. وذكر الكلبي والفراء أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع ثلاث آيات قبلها وقد شتمه بعض الأنصار فرد عليه ثم أمسك , وهي المدنيات من هذه السورة.(5/209)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
{ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل} قوله عز وجل: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضَونَ عَلَيهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم المشركون جميعاً يعرضون على جهنم عند إطلاقهم إليها، قاله الأكثرون. الثاني: آل فرعون خصوصاً تحبس أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح، فهم عرضهم، قاله ابن مسعود. الثالث: أنهم عامة المشركين ويعرضون على العذاب في قبورهم , وهذا معنى قول أبي الحجاج.(5/209)
{خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} قال السدي: خاضعين من الذل. {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: ينظرون بأبصار قلوبهم دون عيونهم لأنهم يحشرون عمياً , قاله أبو سليمان. الثاني: يسارقون النظر إلى النار حذراً , قاله محمد بن كعب. الثالث: بطرفٍ ذليل , قاله ابن عباس.(5/210)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
{استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور} قوله عز وجل: {مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإِ يَوْمَئِذٍ} فيه وجهان: أحدهما: من منج. الثاني: من حرز , قاله مجاهد. {وَمَا لَكُم مِّن نِّكيرٍ} فيه وجهان: أحدهما: من ناصر ينصركم , قاله مجاهد. الثاني: من منكر يغير ما حل بكم , حكاه ابن أبي حاتم وقاله الكلبي. قوله عز وجل: {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحخَ بِهَا} فيها وجهان: أحدهما: أن الرحمة المطر , قاله مقاتل. الثاني: العافية , قاله الكلبي. {وَإِن تُصِبْهُمْ سِّيئةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} فيها وجهان: أحدهما: أنه السنة القحط , قاله مقاتل. الثاني: المرض , قاله الكلبي. {فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالنعمة.(5/210)
الثاني: بالله.(5/211)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
{لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير} قوله عز وجل: {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} قال عبيدة: يهب لمن يشاء إناثاً لا ذكور فيهن , ويهب لمن يشاء ذكوراً لا إناث فيهم. وأدخل الألف على الذكور دون الإناث لأنهم أشرف فميزهم بسمة التعريف. {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} فيه وجهان: أحدهما: هو أن تلد غلاماً ثم تلد جارية ثم تلد غلاماً ثم تلد جارية , قاله مجاهد. الثاني: هو أن تلد توأمين غلاماً وجارية , قاله محمد بن الحنفية , والتزويج هنا الجمع بين البنين والبنات. قال ابن قتيبة: تقول العرب زوجني إبلي إذا جمعت بين الصغار والكبار. {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} أي لا يولد له. يقال عقم فرجه عن الولادة أي منع. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في الأنبياء خصوصاً وإن عم حكمها , فوهب للوط البنات ليس فيهن ذكر , ووهب لإبراهيم الذكور ليس معهم أنثى , ووهب لإسماعيل وإسحاق الذكور والإناث , وجعل عيسى ويحيى عقيمين.(5/211)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}(5/211)
قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} الآية. سبب نزولها ما حكاه النقاش أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً صادقاً كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فنزلت هذه الآية. وفي قوله: {وَحْياً} وجهان: أحدهما: أنه نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاماً , قاله مجاهد. الثاني: رؤيا يراها في منامه , قاله زهير بن محمد. {أَوْ مِن وَرَآءِي حِجَابٍ} قال زهير: كما كلم موسى. {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} قال زهير: هو جبريل. {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} وهذا الوحي من الرسل خطاب منهم للأنبياء يسمعونه نطقاً ويرونه عياناً. وهكذا كانت حال جبريل إذا نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: نزل جبريل على كل نبي فلم يره منهم إلا محمد وعيسى وموسى وزكريا صلوات الله عليهم أجمعين , فأما غيرهم فكان وحياً إلهاماً في المنام. قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: رحمة من عندنا، قاله قتادة. الثاني: وحياً من أمرنا، قاله السدي. الثالث: قرآناً من أمرنا، قاله الضحاك. {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ} فيه وجهان: أحدهما: ما كنت تدري ما الكتاب لولا الرسالة، ولا الإيمان لولا البلوغ، قاله ابن عيسى. الثاني: ما كنت تدري ما الكتاب لولا إنعامنا عليك، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك وهو محتمل. وفي هذا الإيمان وجهان: أحدهما: أنه الإيمان بالله، وهذا يعرفه بعد بلوغه وقبل نبوته. الثاني: أنه دين الإٍسلام، وهذا لا يعرفه إلا بعد النبوة. {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً ... } فيه قولان أحدهما: جعلنا القرآن نوراً , قاله السدي.(5/212)
الثاني: جعلنا الإيمان نوراً. حكاه النقاش وقاله الضحاك. {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فيه قولان: أحدهما: معناه: وإنك لتدعو إلى دين مستقيم، قاله قتادة. الثاني: إلى كتاب مستقيم، قاله علي رضي الله عنه. وقرأ عاصم الجحدري: وإنك لتُهدى، بضم التاء أي لتُدْعَى. قوله عز وجل: {صِرَاطِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن صراط الله هو القرآن , قاله علي كرم الله وجهه. الثاني: الإٍسلام , رواه النواس بن سمعان الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم. {أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه وعيد بالبعث. الثاني: أنه وعيد بالجزاء , والله أعلم.(5/213)
سورة الزخرف
بسم الله الرحمن الرحيم(5/214)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
{حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤون فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين} قوله عز وجل: {حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} الكتاب هو القرآن: وفي تسميته مبيناً ثلاثة أوجه: أحدها: لأنه بيِّن الحروف، قاله أبو معاذ. الثاني: لأنه بين الهدى والرشد والبركة، قاله قتادة. الثالث: لأن الله تعالى قد بين فيه أحكامه وحلاله وحرامه، قاله مقاتل. وفي هذا موضع القسم، وفيه وجهان: أحدهما: معناه ورب الكتاب. الثاني: أنه القسم بالكتاب , ولله عز وجل أن يقسم بما شاء، وإن لم يكن ذلك لغيره من خلقه.(5/214)
وجواب القسم {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرءاناً عَرَبِيّاً} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: إنا أنزلناه عربياً، قاله السدي. الثاني: إنا قلناه قرآناً عربياً، قاله مجاهد. الثالث: إنا بيناه قرآناً عربياً، قاله سفيان الثوري. ومعنى العربي أنه بلسان عربي، وفيه قولان: أحدهما: أنه جعل عربياً لأن لسان أهل السماء عربي، قاله مقاتل. الثاني: لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه، قاله سفيان الثوري. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: تفهمون , فعلى هذا يكون هذا القول خاصاً بالعرب دون العجم، قاله ابن عيسى. الثاني: يتفكرون قاله ابن زيد , فعلى هذا يكون خطاباً عاماً للعرب والعجم. قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ فِي أَمِّ الْكِتَابِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: جملة الكتاب. الثاني: أصل الكتاب , قاله ابن سيرين. الثالث: أنها الحكمةالتي نبه الله عليها جميع خلقه , قاله ابن بحر. وفي {الْكِتَابِ} قولان: أحدهما أنه اللوح المحفوظ؛ قاله مجاهد. الثاني: أنه ذكر عند الله فيه ما سيكون من أفعال العباد مقابل يوم القيامة بما ترفعه الحفظة من أعمالهم , قاله ابن جريج. وفي المكنى عنه أنه في أمِّ الكتاب قولان: أحدهما: أنه القرآن , قاله الكلبي. الثاني: أنه ما يكون من الخلق من طاعة ومعصية وإيمان أو كفر , قاله ابن جريج. {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} فيه وجهان:(5/215)
أحدهما: رفيع عن أن ينال فيبدل. حكيم أي محفوظ من نقص أو تغيير، وهذا تأويل من قال أنه ما يكون من الطاعات والمعاصي. الثاني: أنه علي في نسخه ما تقدم من الكتب , وحكيم أي محكم الحكم فلا ينسخ، وهذا تأويل من قال أنه القرآن. قوله عز وجل: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أفحسبتم أن نصفح ولما تفعلون ما أمرتم به؟ قاله ابن عباس. الثاني: معناه أنكم تكذبون بالقرآن ولا نعاقبكم فيه , قاله مجاهد. الثالث: أي نهملكم فلا نعرفكم بما يجب عليكم , حكاه النقاش. الرابع: أن نقطع تذكيركم بالقرآن: وإن كذبتم به: قاله قتادة. ويحتمل خامساً: أن نوعد ولا نؤاخذ , ونقول فلا نفعل. {قَوْماً مُّسْرِفِينَ} فيه وجهان: أحدهما: مشركين , قاله قتادة. الثاني: مسرفين في الرد. ومعن صفحاً أي إعراضاً , يقال صفحت عن فلان أي أعرضت عنه. قال ابن قتيبة: والأصل فيه إنك توليه صفحة عنقك. قال كثير في صفة امرأة:
(صفحٌ فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن قَلّ منها ذلك الوصل قلّت)
أي تعرض عنه بوجهها. قوله عز وجل: {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: سنة الأولين , قاله مجاهد. الثاني: عقوبة الأولين , قاله قتادة. الثالث: عِبرة الأولين , قاله السدي. الرابع: خبر الأولين أنهم أهلكوا بالتكذيب , حكاه النقاش.(5/216)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم(5/216)
تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} قوله عز وجل: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً} أي فراشاً. {وجَعَلَ لَكُم فِيهَا سُبُلاً} أي طرقاً. ويحتمل ثانياً: أي معايش. {لَعَلَّكُم تَهْتَدُونَ} فيه وجهان: أحدهما: تهتدون في أسفاركم , قاله ابن عيسى. الثاني: تعرفون نعمة الله عليكم , قاله سعيد بن جبير. ويحتمل ثالثاً: تهتدون إلى معايشكم. قوله عز وجل: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: الأصناف كلها , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أزواج الحيوان من ذكر وأنثى , قاله ابن عيسى. الثالث: أن الأزواج الشتاء والصيف , والليل والنهار , والسموات والأرض , والشمس والقمر , والجنة والنار , قاله الحسن. ويحتمل رابعاً: أن الأزواج ما يتقلب فيه الناس من خيرٍ وشر , وإيمان وكفر , وغنى وفقر , وصحة وسقم. {وَجَعَلَ لَكُم مِّن الْفُلْكِ} يعني السفن. {والأنعام ما تركبون} في الأنعام هنا قولان: أحدهما: الإبل والبقر , قاله سعيد بن جبير. الثاني: الإبل وحدها: قاله معاذ. فذكرهم نعمه عليهم في تسييرهم في البر والبحر.(5/217)
ثم قال {لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهَا} وأضاف الظهور إلى واحد لأن المراد به الجنس فصار الواحد في معنى الجمع. {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} أي ركبتم. {وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} أي ذلل لنا هذا المركب. {وَمَا كَنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ضابطين , قاله الأخفش. الثاني: مماثلين في الأيد والقوة , قاله قتادة من قولهم هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة. الثالث: مطيقين , قاله ابن عباس والكلبي , وأنشد قطرب لعمرو بن معدي كرب.
(لقد علم القبائل ما عقيل ... لنا في النائبات بمقرنينا)
وفي أصله قولان: أحدهما: أن أصله مأخوذ من الإقران , يقال أقرن فلان إذا أطاق. الثاني: أن أصله مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في السير. وحكى سليمان بن يسار أن قوماً كانوا في سفر , فكانوا إذا ركبوا قالوا: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} وكان فيهم رجل على ناقة له رازم وهي لا تتحرك هزالاً فقال أما أنا فإني لهذه مقرن , قال فقصمت به فدقت عنقه.(5/218)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
{وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون وقالوا لو شاء الرحمن(5/218)
ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} قوله عز وجل: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: عدلاً أي مثلاً، قاله قتادة. الثاني: من الملائكة ولداً، قاله مجاهد. الثالث: نصيباً، قاله قطرب. الرابع: أنه البنات، والجزء عند أهل العربية البنات. يقال قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات. قال الشاعر:
(إن أجزأت مرة قوماً فلا عجب ... قد تجزىء الحرة المذكارُ أحيانا)
{إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} قال الحسن: يعد المصائب وينسى النعم. قوله عز وجل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} أي بما جعل للرحمن البنات ولنفسه البنين. {ظَلَّ وَجْههُه مُسْوَداً} يحتمل وجهين: أحدهما: ببطلان مثله الذي ضربه. الثاني: بما بشر به من الأنثى. {وَهُوَ كَظِيمٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: حزين , قاله قتادة. الثاني: مكروب , قاله عكرمة. الثالث: ساكت , حكاه ابن أبي حاتم. وذلك لفساد مثله وبطلان حجته. قوله عز وجل: {أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي الْحِلْيَةِ} النشوء التربية , والحلية الزينة. وفي المراد بها ثلاثة أوجه: أحدها: الجواري , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: البنات. قاله ابن قتيبة.(5/219)
الثالث: الأَصنام , قاله ابن زيد. وفي {الْخِصَامِ} وجهان: أحدهما: في الحجة. الثاني: في الجدل. {غَيْرُ مُبِينٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه عني قلة البلاغة , قاله السدي. الثاني: ضعف الحجة , قال قتادة: ما حاجت امرأة إلا أوشكت أن تتكلم بغير حجتها. الثالث: السكوت عن الجواب , قاله الضحاك وابن زيد ومن زعم أنها الأصنام. قوله عز وجل: {وَجَعَلُواْ الْمَلآئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً} في قوله {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} وجهان: أحدهما: أنه سماهم عباده على وجه التكريم كما قال {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الِّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} . الثاني: أنه جمع عابد. وفي قوله: {إِنَاثاً} وجهان: أحدهما: أي بنات الرحمن. الثاني: ناقصون نقص البنات. {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: مشاهدتم وقت خلقهم. الثاني: مشاهدتهم بعد خلقهم حتى علموا أنهم إناث. {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} أي ستكتب شهادتهم إن شهدوا ويسألون عنها إذا بعثوا.(5/220)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
{أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك(5/220)
في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين} قوله عز وجل: {بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَاءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} فيه خمسة أوجه: أحدها: على دين , قاله قتادة وعطية , ومنه قول قيس بن الخطيم:
(كنا على أمة آبائنا ... قد يقتدي الآخر بالأول)
الثاني: على ملة وهو قريب من معنى الأول , قاله مجاهد وقطرب وفي بعض المصاحف. {قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَاءَابَاءَنَا عَلَى مِلَّةٍ} . الثالث: على قبلة , حُكي ذلك عن الفراء. الرابع: على استقامة , قاله الأخفش , وأنشد النابغة:
(حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثَمَن ذو أمة وهو طائع)
الخامس: على طريقة , قاله عمر بن عبد العزيز , وكان يقرأ {عَلَى أُمَّةٍ} بكسر الألف والأمة الطريقة من قولهم أممت القوم. حكاه الفراء. {وَإِنَّا عَلَىءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} قال قتادة متبعون. وحكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة , وأبي سفيان , وأبي جهل , وعتبة , وشيبة ابني ربيعة من قريش.(5/221)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
{وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل(5/221)
متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ} البراء مصدر موضع الوصف، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث , فكأنه قال إنني بريء. {مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} وهذا استثناء منقطع وتقديره , لكن الذي فطرني أي خلقني: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} وقيل فيه محذوف تقديره إلا الذي فطرني لا أبرأ منه {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} قال ذلك ثقة بالله وتنبيهاً لقومه أن الهداية من ربه. قوله عز وجل: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيةً فِي عَقِبِهِ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: لا إله إلا الله، لم يزل في ذريته من يقولها، قاله مجاهد، وقتادة. الثاني: ألا تعبدوا إلا الله، قاله الضحاك. الثالث: الإسلام، لقوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} قاله عكرمة. وفي {عَقِبِهِ} ثلاثة أوجه: أحدها: ولده، قاله عكرمة. الثاني: في آل محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. الثالث: من خلفه، قاله ابن عباس.(5/222)
{لَعَلَّهُم يَرْجِعُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يرجعون إلى الحق , قاله إبراهيم. الثاني: يتوبون , قاله ابن عباس. الثالث: يذكرون , قاله قتادة. الرابع: يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم , قاله الفراء. قوله عز وجل: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَينِ عَظِيمٍ} أما القريتان فإحداهما مكة والأخرى الطائف. وأما عظيم مكة ففيه قولان: أحدهما: أنه الوليد بن المغيرة , قاله ابن عباس. الثاني: عتبة بن ربيعة , قاله مجاهد. وأما عظيم الطائف ففيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه حبيب بن عمر الثقفي , قاله ابن عباس. الثاني: [عمير] بن عبد ياليل , [الثقفي] قاله مجاهد. الثالث: عروة بن مسعود , قاله قتادة. الرابع: أنه كنانة [عبد] بن عمرو , قاله السدي. قوله عز وجل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} يعني النبوة فيضعوها حيث شاءوا. {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني أرزاقهم , قال قتادة: فتلقاه ضعيف القوة قليل الحيلة عيي اللسان وهو مبسوط له، وتلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه. {وَرَفَعَنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} فيه خمسة أوجه: أحدها: بالفضائل، فمنهم فاضل ومنهم مفضول، قاله مقاتل. الثاني: بالحرية والرق، فبعضهم مالك وبعضهم مملوك. الثالث: بالغنى والفقر، فبعضهم غني، وبعضهم فقير. الرابع: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(5/223)
الخامس: قاله السدي , التفضيل في الرزق إن الله تعالى قسم رحمته بالنبوة كما قسم الرزق بالمعيشة. {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} فيه وجهان: أحدهما: يعني خدماً , قاله السدي. الثاني: ملكاً , قاله قتادة. {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن النبوة خير من الغنى. الثاني: أن الجنة خير من الدنيا. الثالث: أن إتمام الفرائض خير من كثرة النوافل. الرابع: أن ما يتفضل به عليهم خير مما يجازيهم عليه من أعمالهم , قاله بعض أصحاب الخواطر. قوله عز وجل: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أَمَّةً وَاحِدَةً} فيه وجهان: أحدهما: على دين واحد كفاراً , قاله ابن عباس والسدي. الثاني: على اختيار الدنيا على الدين , قاله ابن زيد. {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِ سُقُفاً مَّن فِضَّةٍ} فيها قولان: أحدهما: أنها أعالي البيوت , قاله قتادة , ومجاهد. الثاني: الأبواب، قاله النقاش. {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} قال ابن عباس: المعارج الدرج , وهو قول الجمهور وأحدها معراج. {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي درج من فضة عليها يصعدون , والظهور الصعود. وأنشد: نابغة بني جعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:
(علونا السماء عفة وتكرما ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا)(5/224)
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إِلَى أَينَ) قال: إلى الجنة. قال: (أَجَل إِن شَاءَ اللَّهُ) قال الحسن: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك فكيف لو فعل؟ {وَزُخْرُفاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الذهب: قاله ابن عباس. وأنشد قطرب قول ذي الأصبع:
(زخآرف أشباهاً تخال بلوغها ... سواطع جمر من لظى يتلهب)
الثاني: الفرش ومتاع البيت , قاله ابن زيد. الثالث: أنه النقوش , قاله الحسن.(5/225)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
{ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} قوله عز وجل: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعرض، قاله قتادة. الثاني: يعمى، قاله ابن عباس. الثالث: أنه السير في الظلمة , مأخوذ من العشو وهو البصر الضعيف، ومنه قول الشاعر:
(لنعم الفتى تعشو إلى ضوءِ ناره ... إذا الريحُ هبّت والمكان جديب)(5/225)
وفي قوله: {عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} ثلاثة أوجه: أحدها: عن ذكر الله , قاله قتادة. الثاني: عما بيّنه الله من حلال وحرام وأمر ونهي , وهو معنى قول ابن عباس. الثالث: عن القرآن لأنه كلام الرحمن , قاله الكلبي. {نُقِيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} فيه وجهان: أحدهما: نلقيه شيطاناً. الثاني: نعوضه شيطاناً , مأخوذ من المقايضة وهي المعاوضة. {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فيه قولان: أحدهما: أنه شيطان يقيض له في الدنيا يمنعه من الحلال ويبعثه على الحرام , وينهاه عن الطاعة ويأمره بالمعصية , وهو معنى قول ابن عباس. الثاني: هو أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره شفع بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصير بهما الله إلى النار , قاله سعيد بن جبير. قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَآءَنا} قرأ على التوحيد أبو عمرو , وحمزة , والكسائي , وحفص , يعني ابن آدم , وقرأ الباقون {جَاءَانَا} على التثنية يعني ابن آدم وقرينه. {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَعُدَْ الْمَشْرِقَيْنِ} هذا قول ابن آدم لقرينه وفي المشرقين قولان: أحدهما: أنه المشرق والمغرب فغلب أحدهما على الآخر كما قيل: سنة العمرين , كقول الشاعر:
(أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع)
الثاني: أنه مشرق الشتاء ومشرق الصيف , كقوله تعالى {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} . قوله عز وجل: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قولان:(5/226)
أحدهما: إما نخرجنك من مكة من أذى قريش فإنا منهم منتقمون بالسيف يوم بدر. الثاني: فإما نقبض روحك إلينا فإنا منتقمون من أمتك فيما أحدثوا بعدك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِي ما لقيت أمته بعده فما زال منقبضاً ما انبسط ضاحكاً حتى لقي الله تعالى. قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني القرآن ذكر لك [ولقومك] . وفي {لَذِكْرٌ} قولان: أحدهما: الشرف , أي شرف لك ولقومك , قاله ابن عباس. الثاني: أنه لذكر لك ولقومك تذكرون به أمر الدين وتعملون به , حكاه ابن عيسى. {وَلِقَوْمِكَ} فيه قولان: أحدهما: من اتبعك من أمتك , قاله قتادة. الثاني: لقومك من قريش فيقال: ممن هذا الرجل؟ فيقال: من العرب , فيقال: من أي العرب؟ فيقال: من قريش , قاله مجاهد. {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: عن الشكر، قاله مقاتل. الثاني: أنت ومن معك عما أتاك، قاله ابن جريج. وحكى ابن أبي سلمة عن أبيه عن مالك بن أنس في قوله {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} أنه قول الرجل حدثني أبي عن جدي. قوله عز وجل: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} فيه ثلاثة أقاويل:(5/227)
أحدها: يعني الأنبياء الذين جمعوا له ليلة الإسراء , قاله ابن عباس , وابن زيد , وكانوا سبعين نبياً منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام , فلم يسألهم لأنه كان أعلم بالله منهم , قاله ابن عباس. الثاني: أهل الكتابين التوراة والإنجيل , قاله قتادة , والضحاك , ويكون تقديره سل أمم من أرسلنا من قبلك من رسلنا. الثالث: جبريل , ويكون تقديره. واسأل عما أرسلنا من قبلك من رسلنا , حكاه النقاش. {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِءَالِهَةً يُعْبَدُونَ} وسبب هذا الأمر بالسؤال أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك , فأمره الله بسؤالهم لا لأنه كان في شك منه. واختلف في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لهم على قولين: أحدهما: أنه سألهم , فقالت الرسل بعثنا بالتوحيد , قاله الواقدي. الثاني: أنه لم يسأل ليقينه بالله تعالى , حتى حكى ابن زيد أن ميكائيل قال لجبريل: هل سألك محمد ذلك؟ فقال جبريل: هو أشد إيماناً وأعظم يقيناً من أن يسألني عن ذلك.(5/228)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون}(5/228)
قوله عز وجل: {وَقَالُواْ يَأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنهم قالوا على وجه الاستهزاء , قاله الحسن. الثاني: أنه يجري على ألسنتهم ما ألفوه من اسمه , قاله الزجاج. الثالث: أنهم أرادوا بالساحر غالب السحرة , وهو معنى قول ابن بحر. الرابع: أن الساحر عندهم هو العالم , فعظموه بذلك ولم تكن صفة ذم , حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي. {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} قال مجاهد: لئن أمنا لتكشف العذاب عنا , قال الضحاك , وذلك أن الطوفان أخذهم ثمانية أيام لا يسكن ليلاً ولا نهاراً. {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي يغدرون وكان موسى دعا لقومه فأجيب فيهم فلم يفواْ.(5/229)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
{ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين} قوله عز وجل: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن معنى نادى أي قال , قاله أبو مالك. الثاني: أمر من نادى في قومه , قاله ابن جريج. {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} فيه قولان: أحدهما: أنها الإسكندرية , قاله مجاهد. الثاني: أنه ملك منها أربعين فرسخاً في مثلها , حكاه النقاش.(5/229)
{وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: كانت جنات وأنهاراً تجري من تحت قصره , قاله قتادة. وقيل من تحت سريره. الثاني: أنه أراد النيل يجري من تحتي أي أسفل مني. الثالث: أن معنى قوله: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} أي القواد والجبابرة يسيرون تحت لوائي , قاله الضحاك. ويحتمل رابعاً: أنه أراد بالأنهار الأموال , وعبر عنها بالأنهار لكثرتها وظهورها وقوله {تَجْرِي مِن تَحْتِي} أي أفرقها على من يتبعني لأن الترغيب والقدرة في الأموال في الأنهار. {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أفلا تبصرون إلى قوتي وضعف موسى؟ . الثاني: قدرتي على نفعكم وعجز موسى. ثم صرح بحاله فقال {أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ} قال السدي: بل أنا خير. {مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أي ضعيف , قاله قتادة. الثاني: حقير , قاله سفيان. الثالث: لأنه كان يمتهن نفسه في حوائجه , حكاه ابن عيسى. {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} أي يفهم , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أنه عيي اللسان , قاله قتادة. الثاني: أَلثغ قاله , الزجاج. الثالث: ثقيل اللسان لجمرة كان وضعها في فيه وهو صغير , قاله سفيان. قوله عز وجل: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} فيه وجهان: أحدهما: أنه قال ذلك لأنه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف. الثاني: ليكون ذلك دليلاً على صدقه , والأساورة جمع أسورة , والأسورة جمع سوار.(5/230)
{أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: متتابعين، قاله قتادة. الثاني: يقارن بعضهم بعضاً في المعونة , قاله السدي. الثالث: مقترنين أي يمشون معاً , قاله مجاهد. وفي مجيئهم معه قولان: أحدهما: ليكونوا معه أعواناً , قاله مقاتل. الثاني: ليكونوا دليلاً على صدقه , قاله الكلبي. وليس يلزم هذا لأن الإعجاز كاف , وقد كان في الجائز أن يكذب مع مجيء الملائكة كما يكذب مع ظهور الآيات. وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى لأنه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم. قوله عز وجل: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: استفزهم بالقول فأطاعوه على التكذيب، قاله ابن زياد. الثاني: حركهم بالرغبة فخفوا معه في الإجابة، وهو معنى قول الفراء. الثالث: استجهلهم فأظهروا طاعة جهلهم، وهو معنى قول الكلبي. الرابع: دعاهم إلى باطله فخفوا في إجابته , قاله ابن عيسى. قوله عز وجل: {فَلَمَّاءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أغضبونا، رواه الضحاك عن ابن عباس. الثاني: أسخطونا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. ومعناهما مختلف، والفرق بينهما أن السخط إظهار الكراهة، والغضب إرادة الانتقام. والأسف هو الأسى على فائت. وفيه وجهان: أحدهما: أنه لما جعل هنا في موضع الغضب صح أن يضاف إلى الله لأنه قد يغضب على من عصاه.(5/231)
الثاني: أن الأسف راجع إلى الأنبياء لأن الله تعالى لا يفوته شيء , ويكون تقديره: فلما آسفوا رسلنا انتقمنا منهم. قوله عز وجل: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} قرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام , وفيه تأويلان: أحدهما: أهواء مختلفة , قاله ابن عباس. الثاني: جمع سلف أي جميع من قد مضى من الناس , قاله ابن عيسى. وقرأ الباقون بفتح السين واللام , أي متقدمين , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها , سلفاً في النار , قاله قتادة. الثاني: سلفاً لكفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم , قاله مجاهد. الثالث: سلفاً لمثل من عمل مثل عملهم , قاله أبو مجلز. {وَمَثَلاً لِّلآخِرينَ} فيه وجهان: أحدهما: عظة لغيرهم , قاله قتادة. الثاني: عبرة لمن بعدهم , قاله مجاهد.(5/232)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
{ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه(5/232)
هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم} قوله عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} الآية. فيه أربعة أقاويل: أحدها: ما رواه ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ إِنَّهُ لَيسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِن دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ) فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً صالحاً؟ فقد كان يعبد من دون الله , فنزلت. الثاني: ما حكاه مجاهد أن قريشاَ قالت: إن محمداً يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى , فنزلت. الثالث: ما حكاه قتادة أن الله لما ذكر نزول عيسى في القرآن قالت قريش: يا محمد ما أردت إلى ذكر عيسى؟ فنزلت هذه الآية. الرابع: ما ذكره ابن عيسى أنه لما ذكر الله خلق عيسى من غير ذكر كآدم أكبرته قريش فنزلت هذه الآية. وضربه مثلاً أن خلقه من أنثى بغير ذكر كما خلق آدم من غير أنثى ولا ذكر ولذلك غلت فيه النصارى حين اتخذته إلهاً. { ... يَصِدُّونَ} فيه قراءتان: إحداهما: بكسر الصاد. والثانية: بضمها فاختلف أهل التفسير في اختلافهما على قولين: أحدهما: معناه واحد وإن اختلف لفظهما في الصيغة مثل يشد ويشُد وينِم وينُم , فعلى هذا في تأويل ذلك أربعة أوجه: أحدها: يضجون , قاله ابن عباس , وعكرمة , والضحاك. الثاني: يضحكون , قاله قتادة. الثالث: يجزعون , حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم.(5/233)
الرابع: يعرضون , قاله إبراهيم. والقول الثاني: معناهما مختلف , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها بالضم يعدلون , وبالكسر يتفرقون , قاله الحسن. الثاني: أنه بالضم يعتزلون , وبالكسر يضجون , قاله الأخفش. الثالث: أنه بالضم من الصدود , وبالكسر من الضجيج , قاله قطرب. {وَقَالُواْءَأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} وهذا قول قريش , قالواْ: أآلهتنا وهي أصنامهم التي يبعدونها خير {أَمْ هُوَ} فيه قولان: أحدهما: أم محمد صلى الله عليه وسلم , قاله قتادة. الثاني: أم عيسى , قاله السدي. {مَا ضَرَبُوه لَكَ إِلاَّ جَدَلاً} قال السدي: هو قول قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم تزعم كل شيء عبد من دون الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة هؤلاء قد عبدوا من دون الله. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أن الخصم الحاذق بالخصومة. الثاني: أنه المجادل بغير حجة. قوله عز وجل: {إِنْ هُوَ إِلاَّعَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} قال قتادة: يعني عيسى. {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالنبوة. الثاني: بخلقه من غير أب كآدم. وفيه وجه. الثالث: بسياسة نفسه وقمع شهوته. {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَآئِيلَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني أنه لبني إسرائيل , قاله قتادة. الثاني: لتمثيله بآدم , قاله ابن عيسى. قوله عز وجل: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكم مَّلاَئِكَةً} فيه وجهان:(5/234)
أحدهما: يعني لقلبنا بعضكم ملائكة من غير أب كما خلقنا عيسى من غير أب ليكونوا خلفاء من ذهب منكم. الثاني: جعلنا بدلاً منكم ملائكة. {فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: ملائكة يخلف بعضها بعضاً , قاله قتادة. الثاني: ملائكة يكونون خلفاً منكم , قاله السدي. الثالث: ملائكة يعمرون الأرض بدلاً منكم , قاله مجاهد. الرابع: ملائكة يكونون رسلاً إليكم بدلاً من الرسل منكم. قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن القرآن علم الساعة لما فيه من البعث والجزاء , قاله الحسن وسعيد بن جبير. الثاني: أن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى , قاله ابن إسحاق. الثالث: أن خروج عيسى علم الساعة لأنه من علامة القيامة وشروط الساعة , قاله ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والضحاك، والسدي. وروى خالد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأَنبِيَاءُ إِخْوَةٌ لَعِلاَّتُ أُمَّهَاتُهُم شَتَّى وَدِينُهُم وَاحِدٌ , أَنَا أَولَى النَّاسِ بِعيسَى ابنِ مَرْيَمَ , إِنَّهُ لَيسَ بَينِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ , وَإِنَّهُ أَوَّلُ نَازِلٍ , فَيَكْسَرُ الصَّلِيبَ , وَيَقْتُلُ الخنزيرَ , وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإِسْلاَمِ) . وحكى ابن عيسى عن قوم أنهم قالوا: إذا نزل عيسى رفع التكليف لئلا يكون(5/235)
رسولاً إلى أهل ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى وينهاهم , وهذا قول مردود لثلاثة أمور: للحديث الذي قدمناه , ولأن بقاء الدنيا يقتضي بقاء التكليف فيها , ولأنه ينزل آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر وليس يستنكر أن يكون أمر الله تعالى مقصوراً على تأييد الإسلام والأمر به والدعاء إليه. وحكى مقاتل أن عيسى ينزل من السماء على ثنية جبل بأرض الشام يقال له أفيف. {فَلاَ تَمْتَرُونَّ بِهَا} فيه وجهان: أحدهما: لا تشكون فيها يعني الساعة. قاله يحيى بن سلام. الثاني: فلا تكذبون بها , قاله السُدي. {وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّستَقِيمٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: القرآن صراط مستقيم إلى الجنة , قاله الحسن. الثاني: عيسى , قاله ابن عباس. الثالث: الإسلام , قاله يحيى. قوله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبِيِّنَاتِ} فيها وجهان: أحدهما: أنه الإنجيل , قاله قتادة. الثاني: أنه الآيات التي جاء بها من إحياء الموتى وإبراء الأسقام، والإخبار بكثير من الغيوب، قاله ابن عباس. {قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ} فيه قولان: أحدهما: بالنبوة، قاله السدي. الثاني: بعلم ما يؤدي إلى الجميل ويكف عن القبيح , قاله ابن عيسى. ويحتمل ثالثاً: أن الحكمة الإنجيل الذي أنزل عليه. {وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} وفيه قولان: أحدهما: تبديل التوراة، قاله مجاهد. الثاني: ما تختلفون فيه من أمر دينكم لا من أمر دنياكم , حكاه ابن عيسى. وفي قوله: {بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي كل الذي تختلفون فيه، فكان(5/236)
البعض هنا بمعنى الكل ما اقتصرعلى بيان بعض دون الكل , قاله الأخفش , وأنشد لبيد:
(ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها)
والموت لا يعتلق النفوس دون بعض. الثاني: أنه بين لهم بعضه دون جميعه , ويكون معناه أبين لكم بعض ذلك أيضاً وأكلكم في بعضه إلى الاجتهاد , وأضمر ذلك لدلالة الحال عليه. قوله عز وجل: {فَاخْتَلَفَ الأَحَْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} قال قتادة يعني {مِن بَيْنِهِم} فيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى خالف بعضهم بعضاً , قاله مجاهد والسدي. الثاني: فرق النصارى من النسطورية واليعاقبة والملكية اختلفوا في عيسى فقالت النسطورية: هو ابن الله. وقالت اليعاقبة هو الله. وقالت الملكية ثالث ثلاثة أحدهم الله , قاله الكلبي ومقاتل.(5/237)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
{هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون}(5/237)
قوله عز وجل: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} فيه قولان: أحدهما: أنهم أعداء في الدنيا، لأن كل واحد منهم زين للآخر ما يوبقه، وهو معنى قول مجاهد. الثاني: أنهم أعداء في الآخرة مع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا لما رأوا سوء العاقبة فيها بالمقارنة، وهو معنى قول قتادة. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي , وعقبة بن أبي معيط كانا خليلين. وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فقالت قريش قد صبأ عقبة بن أبي معيط وقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً ولم تتفل في وجهه ففعل عقبة ذلك فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله , فقتله يوم بدر صبراً , وقتل أمية في المعركة , وفيهما نزلت هذه الآية. قوله عز وجل: {أَنتُمْ وأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: هم وأزواجهم المؤمنات في الدنيا. الثاني: ومن يزوجون من الحور في الآخرة. الثالث: هم وقرناؤهم في الدنيا. وفي {تُحْبَرُونَ} ستة تأويلات: أحدها: تكرمون , قاله ابن عباس , والكرامة في المنزلة. الثاني: تفرحون , قاله الحسن , والفرح في القلب. الثالث: تتنعمون , قاله قتادة , والنعيم في البدن. الرابع: تسرّون , قاله مجاهد , والسرور في العين. الخامس: تعجبون , قاله ابن أبي نجيح , والعجب ها هنا درك ما يستطرف. السادس: أنه التلذذ بالسماع , قاله يحيى بن أبي كثير. قوله عز وجل: {. . وَأَكْوَابٍ} فيها خمسة أقاويل: أحدها: أنه الآنية المدورة الأفواه , قاله مجاهد. الثاني: أنها ليست لها آذن، قاله السدي.(5/238)
الثالث: أن الكوب: المدور القصير العنق القصير العروة، والإبريق: الطويل العنق الطويل العروة، قاله قتادة. الرابع: أنها الأباريق التي لا خراطيم لها، قاله الأخفش. الخامس: أنها الأباريق التي ليس لها عروة، قاله قطرب. قوله عز وجل: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُ الأَعْيُنُ} قرأ نافع، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص {تَشْتَهِيهِ} . ويحتمل وجهين: أحدهما: ما تشتهي الأنفس ما تتمناه , وما تلذ الأعين هو ما رآه فاشتهاه. الثاني: ما تشتهيه الأنفس هو ما كان طيب المخبر , وما تلذ الأعين ما كان حسن المنظر.(5/239)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
{إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} قوله عز وجل: {وَنَادَوْاْ يَا مَالِكُ} هذا نداء أهل النار لخزانها حين ذاقوا عذابها. {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي يميتنا، طلبوا الموت ليستريحوا به من عذاب النار. {قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} أي لابثون في عذابها أحياء , وفي مدة ما بين ندائهم وجوابه أربعة أقاويل. أحدها: أربعون سنة، قاله عبد الله بن عمرو. الثاني: ثمانون سنة، قاله السدي. الثالث: مائة سنة، قاله نوف.(5/239)
الرابع: ألف سنة , قاله ابن عباس , لأن بعد ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذل. قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أم أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث , قاله قتادة. الثاني: أن أحكموا كيداً فإنا محكمون لها كيداً , قاله ابن زيد. الثالث: قضوا أمراً فإنا قاضون عليهم بالعذاب , قاله الكلبي. وقيل إن هذه الآية نزلت في كفار قريش حين اجتمع وجوههم في دار الندوة يتشاورون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى استقر رأيهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه , فنزلت هذه الآية , وقتل الله جميعهم عليهم اللعنة يوم بدر.(5/240)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
{قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون} قوله عز وجل: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} فيه ستة أقاويل: أحدها: إن كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبد الله ليس له ولد، قاله ابن زيد. ومجاهد. الثاني: معناه فأنا أول العابدين , ولكن لم يكن ولا ينبغي أن يكون، قاله قتادة.(5/240)
الثالث: قل لم يكن للرحمن ولد وأنا أول الشاهدين بأن ليس له ولد. قاله ابن عباس. الرابع: قل ما كان للرحمن ولد , وهذا كلام تام ثم استأنف فقال: فأنا أول العابدين أي الموحدين من أهل مكة , قاله السدي. الخامس: قل إن قلتم إن للرحمن ولداً فأنا أول الجاحدين أن يكون له ولد , قاله سفيان. السادس: إن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين أن يكون له ولد , قاله الكسائي وابن قتيبة , ومنه قول الفرزدق:
(أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... وأعْبُدُ أن أهجو تميماً بدارم)
قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَآءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} وهذا إبطال أن يكون غير الله إلَهاً وأن الإلَه هو الذي يكون في السماء إلهاً وفي الأرض إلهاً وليست هذه صفة لغير الله , فوجب أن يكون هو الإله. وفي معنى الكلام وجهان: أحدهما: أنه الموحد في السماء والأرض , قاله مقاتل. الثاني: أنه المعبود في السماء والأرض , قاله الكلبي. {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يذكر ذلك صفة لتعظيمه. الثاني: أنه يذكره تعليلاً لإلاهيته لأنه حكيم عليم وليس في الأصنام حكيم عليم. قوله عز وجل: {وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دَونِهِ الشَّفَاعَةَ} فيها قولان: أحدهما: الشركة ومنه أخذت الشفعة في البيع لاستحقاق الشريك لها. ويكون معنى الكلام أن الذين يدعون من دون الله لا يملكون مع الله شركة يستحقون أن يكونوا بها آلهة إلا أن يشهدوا عند الله بالحق على من عليه حق أو له حق , وهذا معنى قول ابن بحر.(5/241)
الثاني: أن الشفاعة استعطاف المشفوع إليه فيما يرجى , واستصفاحه فيما يخشى وهو قول الجمهور. وقيل إن سبب نزولها ما حكي أن النضر بن الحارث ونفراً من قريش قالوا إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن نتولى الملائكة , وهم أحق بالشفاعة لنا منه فأنزل الله تعالى {وَلاَ يَمْلِكُ الِّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} معناه الذين يعبدونهم من دون الله وهم الملائكة الشفاعة لهم. وقال قتادة: هم الملائكة وعيسى وعزير لأنهم عبدوا من دون الله. {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني أن الشهادة بالحق إنما هي لمن شهد في الدنيا بالحق وهم يعلمون أنه الحق فتشفع لهم الملائكة , قاله الحسن. الثاني: أن الملائكة لا تشفع إلا لمن شهد أن لا إله إلا الله وهم يعلمون أن الله ربهم. قوله عز وجل: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يَؤْمِنُونَ} وهي تقرأ على ثلاثة أوجه بالنصب والجر والرفع. فأما الجر فهي على قراءة عاصم وحمزة , وهي في المعنى راجعة إلى قوله تعالى {وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وعلم قيلِه. وأما الرفع فهو قراءة الأعرج , ومعناها ابتداء , وقيله , قيل محمد , يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. والقيل هو القول. وأما النصب فهي قراءة الباقين من أئمة القراء , وفي تأويلها أربعة أوجه: أحدها: بمعنى إلا من شهد بالحق وقال قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، على وجه الإنكار عليهم، قاله ابن عيسى. الثاني: أنها بمعنى أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيلَه يا رب، قاله يحيى بن سلام.(5/242)
الثالث: بمعنى وشكا محمد إلى ربه قيله , ثم ابتداء فأخبر {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلآءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} , قاله الزجاج. قوله عز وجل: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} قال قتادة: أمره بالصفح عنهم , ثم أمره بقتالهم فصار الصفح منسوخاً بالسيف. ويحتمل الصفح عن سفههم أن يقابلهم عليه ندباً له إلى الحلم. {وَقُلْ سَلاَمٌ} فيه خمسة أوجه: أحدها: أي قل ما تسلم به من شرهم , قاله ابن عيسى. الثاني: قل خيراً بدلاً من شرهم؛ قاله السدي. الثالث: أي احلم عنهم؛ قاله الحسن. الرابع: أنه أمره بتوديعهم بالسلام ولم يجعله تحية لهم؛ حكاه النقاش. الخامس: أنه عرفه بذلك كيف السلام عليهم؛ رواه شعيب بن الحباب. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} يحتمل أمرين: أحدهما: فسوف يعلمون حلول العذاب بهم. الثاني: فسوف يعلمون صدقك في إنذارهم , والله أعلم.(5/243)
سورة الدخان
بسم الله الرحمن الرحيم(5/244)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
{حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك إنه هو السميع العليم رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين} قوله عز وجل: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} يعني والقرآن المبين، فأقسم به، وفي قسمه ب {حم} وجهان من اختلافهم في تأويله. {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ} يعني القرآن أنزله الله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا. {فِي لَيلَةِ مُّبَارَكَةٍ} فيها قولان: أحدهما: أنها ليلة النصف من شعبان؛ قاله عكرمة. الثاني: أنها ليلة القدر.(5/244)
روى قتادة عن وائلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ في أَوَّلِ لَيلَةٍ مِن رَمَضَانَ، وَأُنزِلَت التَّوْرَاةُ لِسِتٍ مَضَيْنَ مِن رَمَضَانَ وَأُنزِلَ الزَّبُورُ لاثْنَتَي عَشْرَةَ مَضَتْ مِن رَمَضَانَ، وَأُنزِلَ الإِنْجِيلُ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِن رَمَضَانَ. وَأُنزِلَ القْرآنُ لأَرْبعٍ وَعشرِينَ مِن رَمَضَانَ) وفي تسميتها مباركة وجهان: أحدهما: لما ينزل فيها من الرحمة. الثاني: لما يجاب فيها من الدعاء. {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} بالقرآن من النار. ويحتمل: ثالثاً: منذرين بالرسل من الضلال. {فِيهَا} في هذه الليلة المباركة. {يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وفي يفرق أربعة أوجه: أحدها: يقضى , قاله الضحاك. الثاني: يكتب , قاله ابن عباس. الثالث: ينزل , قاله ابن زيد. الرابع: يخرج , قاله ابن سنان. وفي تأويل {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أربعة أوجه: أحدها: الآجال والأرزاق والسعادة والشقاء من السنة إلى السنة , قاله ابن عباس. الثاني: كل ما يقضى من السنة إلى السنة , إلا الشقاوة والسعادة فإنه في أم الكتاب لا يغير ولا يبدل , قاله ابن عمر. الثالث: كل ما يقضى من السنة إلى السنة إلا الحياة والموت , قاله مجاهد. الرابع: بركات عمله من انطلاق الألسن بمدحه , وامتلاء القلوب من هيبته , قاله بعض أصحاب الخواطر. الحكيم هنا هو المحكم. وليلة القدر باقية ما بقي الدهر , وهي في شهر رمضان(5/245)
في العشر الأواخر منه. ولا وجه لقول من قال إنها رفعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم , ولا لقول من جوزها في جميع السنة لأن الخبر والأثر والعيان يدفعه. واختلف في محلها من العشر الأواخر من رمضان على أقاويل ذكرها في سورة القدر أولى. قوله عز وجل: {أَمْراً مِنْ عِندِنَا} فيه قولان: أحدهما: أن الأمر هو القرآن أنزله الله من عنده , حكاه النقاش. الثاني: أنه ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده، قاله ابن عيسى. ويحتمل: ثالثاً: أنه إرسال محمد صلى الله عليه وسلم نبياً. {إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مرسلين الرسل للإنذار. الثاني: منزلين ما قضيناه على العباد. الثالث: مرسلين رحمة من ربك. وفي {رَحْمَةً مِّن رِّبِّكَ} هنا وجهان: أحدهما: أنها نعمة الله ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنها رأفته بهداية من آمن به. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لقولهم {الْعَلِيمُ} بفعلهم.(5/246)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
{بل هم في شك يلعبون فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} قوله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} في ارتقب وجهان: أحدهما: معناه فانتظر يا محمد بهؤلاء يوم تأتي السماء بدخان مبين، قاله قتادة.(5/246)
الثاني: معناه فاحفظ يا محمد قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين , ولذلك سمي الحافظ رقيباً، قال الأعشى:
(عليّ رقيب له حافظٌ ... فقل في امرىءٍ غِلقٍ مرتهن)
وفي قوله تعالى {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} ثلاثة أقاويل: أحدها: ما أصاب أهل مكة من شدة الجوع حتى صار بينهم وبين السماء كهيئة الدخان لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبطائهم عن الإيمان وقصدهم له بالأذى , فقال: (اللَّهُمَّ اكفِنِيهِم بِسَبْعٍ كَسَبْع يُوسُفَ) قاله ابن مسعود. قال أبو عبيدة والدخان الجدب. وقال ابن قتيبة: سمي دخاناً ليبس الأرض منه حتى يرتفع منها الدخان. الثاني: أنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغيوم , قاله عبد الرحمن بن الأعرج. الثالث: أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة يأخذ المؤمن منه كالزكمة , وينفخ الكافر حتى يخرج من كل مسمع منه , رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً. قوله عز وجل: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الدخان، قاله قتادة. الثاني: الجوع: قاله النقاش. الثالث: أنه الثلج وهذا لا وجه له لأن هذا إما أن يكون في الآخرة أو في أهل مكة، ولم تكن مكة من بلاد الثلج غير أنه مقول فحكيناه. قوله عز وجل: {إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} فيه قولان: أحدهما: أي عائدون إلى نار جهنم. الثاني: إلى الشرك , قاله ابن مسعود. فلما كشف ذلك عنهم باستسقاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم عادوا إلى تكذيبه.(5/247)
قوله عز وجل: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} والبطشة الكبرى هي العقوبة الكبرى , وفيها قولان: أحدهما: القتل بالسيف يوم بدر , قاله ابن مسعود وأُبي بن كعب ومجاهد والضحاك. الثاني: عذاب جهنم يوم القيامة , قاله ابن عباس والحسن. ويحتمل: ثالثاً: أنها قيام الساعة لأنها خاتمة بطشاته في الدنيا. {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} أي من أعدائنا. وفي الفرق بين النقمة والعقوبة ثلاثة أوجه: أحدها: أن العقوبة بعد المعصية لأنها من العاقبة , والنقمة قد تكون قبلها , قاله ابن عيسى. الثاني: أن العقوبة قد تكون في المعاصي , والنقمة قد تكون في خلقه لأجله. الثالث: أن العقوبة ما تقدرت , والانتقام غير مقدر.(5/248)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
{ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين}(5/248)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أي ابتليناهم. {وَجَآءَهُمْ رَسُولُ كَرِيمٌ} وهو موسى بن عمران عليه السلام. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: كريم على ربه , قاله الفراء. الثاني: كريم في قومه. الثالث: كريم الأخلاق بالتجاوز والصفح. قوله عز وجل: {أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أي أرسلوا معي بني إسرائيل ولا تستعبدوهم , قاله مجاهد. الثاني: أجيبوا عباد الله خيراً , قاله أبو صالح. الثالث: أدوا إليَّ يا عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله , وهذا محتمل. {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أمين على أن أؤديه لكم فلا أتزيد فيه. الثاني: أمين على ما أستأديه منكم فلا أخون فيه. قوله عز وجل: {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: لا تبغوا على الله , قاله قتادة. الثاني: لا تفتروا على الله , قاله ابن عباس , والفرق بين البغي والافتراء أن البغي بالفعل , والافتراء بالقول. الثالث: لا تعظموا على الله , قاله ابن جريج. الرابع: لا تستكبروا على عباد الله , قاله يحيى. والفرق بين التعظيم والاستكبار أن التعظيم تطاول المقتدر , والاستكبار ترفع المحتقر. {إِنِّي ءاتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} فيه وجهان: أحدهما: بعذر مبين، قاله قتادة. الثالث: بحجة بينة، قاله يحيى. قوله عز وجل: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لجأت إلى ربي وربكم. الثاني: استغثت. والفرق بينهما أن الملتجىء مستدفع والمستغيث مستنصر.(5/249)
قوله: {بَرَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي ربي الذي هو ربكم. {أَن تَرْجُمُونِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالحجارة، قاله قتادة. الثاني: أن تقتلوني، قاله السدي. الثالث: أن تشتموني بأن تقولوا ساحر أو كاهن أو شاعر , قاله أبو صالح. {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ} أي إن لم تؤمنوا بي وتصدقوا قولي فخلوا سبيلي وكفوا عن أذاي. قوله عز وجل: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} فيه سبعة تأويلات: أحدها: سمتاً , قاله ابن عباس. الثاني: يابساً , قاله ابن أبي نجيح. الثالث: سهلاً , قاله الربيع. الرابع: طريقاً , قاله كعب والحسن. الخامس: منفرجاً , قاله مجاهد. السادس: غرقاً , قاله عكرمة. السابع: ساكناً , قاله الكلبي والأخفش وقطرب. قال القطامي:
(يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلةٌ ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل)
قال قتادة: لما نجا بنو إسرائيل من البحر وأراد آل فرعون أن يدخلوه خشي نبي الله موسى عليه السلام أن يدركوه فأراد أن يضرب البحر حتى يعود كما كان فقال الله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} أي طريقاً يابساً حتى يدخلوه. {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} قال مقاتل: هو النيل , وكان عرضه يومئذٍ فرسخين , قال الضحاك: كان غرقهم بالقلزم وهو بلد بين مصر والحجاز. فإن قيل فليست هذه الأحوال في البحر من فعل موسى ولا إليه. قيل يشبه أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه إنْ ضرب البحر بعصاه ثانية تغيرت أحواله، فأمره أن يكف عن ضربه حتى ينفذ الله قضاءه في فرعون وقومه.(5/250)
وتأويل سهل بن عبد الله {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ} أي اجعل القلب ساكناً في تدبيري {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُّغْرَقُونَ} أي إن المخالفين قد غرقوا في التدبير. قوله عز وجل: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} الجنات البساتين. وفي العيون قولان: أحدهما: عيون الماء , وهو قول الجمهور. الثاني: عيون الذهب , قاله ابن جبير. {وَزُرُوعٍ} قيل إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها , وكانت مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعاً لما دبروه وقدروه من قناطر وجسور. {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها المنابر , قاله ابن عباس والحسن ومجاهد. الثاني: المساكن , قاله أبو عمرو والسدي , لمقام أهلها فيها. الثالث: مجالس الملوك لقيام الناس فيها. ويحتمل رابعاً: أنه مرابط الخيل لأنها أكرم مذخور لعدة وزينة. وفي الكريم ثلاثة أوجه: أحدها: هو الحسن , قاله سعيد بن جبير. الثاني: هو المعطي لديه كما يعطي الرجل الكريم صلته , قاله ابن عيسى. الثالث: أنه كريم لكرم من فيه , قاله ابن بحر. قوله عز وجل: {وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ} في النعمة هنا أربعة أوجه: أحدها: نيل مصر , قاله ابن عمر. الثاني: الفيّوم , قاله ابن لهيعة. الثالث: أرض مصر لكثرة خيرها , قاله ابن زياد. الرابع: ما كانوا فيه من السعة والدعة. وقد يقال نعمة ونِعمة بفتح النون وكسرها , وفي الفرق بينهما وجهان:(5/251)
أحدهما: أنها بكسر النون في الملك , وبفتحها في البدن والدين؛ قاله النضر بن شميل. الثاني: أنها بالكسر من المنة وهو الإفضال والعطية , وبالفتح من التنعم وهو سعة العيش والراحة , قاله ابن زياد. وفي {فاكهين} ثلاثة أوجه: أحدها: فرحين , قاله السدي. الثاني: ناعمين , قاله قتادة. الثالث: أن الفاكه هو المتمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الآكل بأنواع الفاكهة , قاله ابن عيسى. وقرأ يزيد بن القعقاع {فَكِهِينَ} ومعناه معجبين. قوله عز وجل {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماًءَاخَرِينَ} يعني بني إسرائيل ملكهم الله أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين , فصروا لها وارثين لوصول ذلك إليهم كوصول الميراث. قوله عز وجل: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِم السَّمَآءُ وَالأَرْضُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني أهل السماء وأهل الأرض , قاله الحسن. الثاني: أن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحاً؛ قاله مجاهد. قال أبو يحيى: فعجبت من قوله , فقال أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل؟ الثالث: أنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء , قاله علي كرم الله وجهه. وتقديره فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض. وهو معنى قول سعيد بن جبير. الرابع: ما رواه يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك. قال: قال رسول(5/252)
الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلا وله في السماء بابان , باب ينزل منه رزقه , وباب يدخل منه كلامه وعمله , فإذا مات فقداه فبكيا عليه) ثم تلا هذه الآية. وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كالمعروف من بكاء الحيوان ويشبه أن يكون قول مجاهد. الثاني: أنه حمرة أطرافها , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعطاء. وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر , واحمرارها بكاؤها. الثالث: أنها أمارة تظهر منها تدل على حزن وأسف. كقول الشاعر:
(والشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا)
{وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: مؤخرين بالغرق , قاله الكلبي. الثاني: لم ينظروا بعد الآيات التسع حتى أغرقوا , قاله مقاتل.(5/253)
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ} معناه على علم منا بهم. وفي اختياره لهم ثلاثة أوجه: أحدها: باصطفائهم لرسالته , والدعاء إلى طاعته. الثاني: باختيارهم لدينه وتصديق رسله. الثالث: بإنجائهم من فرعون وقومه. وفي قوله: {عَلَى الْعَالَمِينَ} قولان: أحدهما: على عالمي زمانهم , لأن لكل زمان عالماً , قاله قتادة. الثاني: على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم , حكاه ابن عيسى. قوله عز وجل: {وءَاتَيْنَاهُمْ مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه أنجاهم من عدوهم وفلق البحر لهم وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى , قاله قتادة. ويكون هذا الخطاب متوجهاً إلى بني إسرائيل. الثاني: أنها العصا ويده البيضاء , ويشبه أن يكون قول الفراء. ويكون الخطاب متوجهاً إلى قوم فرعون. الثالث: أنه الشر الذي كفهم عنه والخير الذي أمرهم به , قاله عبد الرحمن بن زيد.(5/254)
ويكون الخطاب متوجهاً إلى الفريقين معاً من قوم فرعون وبني إسرائيل. وفي قوله {مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينٌ} ثلاثة تأويلات: أحدها: نعمة ظاهرة , قاله الحسن وقتادة كما قال تعالى {وَليُبْلَي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلآءً حَسَناً} وقال زهير:
89 (فأبلاه خير البلاء الذي يبلو.} 9
الثاني: عذاب شديد , قاله الفراء. الثالث: اختيار بيِّن يتميز به المؤمن من الكافر , قاله عبد الرحمن بن زيد.(5/255)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
{إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين} قوله عز وجل: {إِنَّ هَؤُلآءِ لَيَقُولُونَ} يعني كفار قريش. {إن هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} أي بمبعوثين قيل: إن قائل هذا أبو جهل قال: يا محمد إن كنت صادقاً في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما قصيّ بن كلاب فإنه كان رجلاً صادقاً , لنسأله عما يكون بعد الموت وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات , لأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف. فكأنه قال: إن كنت صادقاً في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف. وهو كقول قائل لو قال: إن كان ينشأ بعدنا قوم من الأبناء , فلم لا يرجع من مضى من الآباء. قوله عز وجل: {أَهُمْ خَيرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} فيه وجهان: أحدهما: أهم أظهر نعمة وأكثر أموالاً. الثاني: أهم أعز وأشد أم قوم تبع. وحكى قتادة أن تبعاً كان رجلاً من حِمير سار بالجيوش حتى عبر الحيرة وأتى سمرقند فهدمها. وحكي لنا أنه كان إذا كتب؛ كتب باسم الله الذي سما وملك براً وبحراً وضحاً وريحاً. وروي عن عمرو بن رجاء عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم. وحكى ابن قتيبة في المعارف شعراً ذكر أنه لتبع وهو:(5/255)
(منح البقاءَ تقلبُ الشمسِ ... وطلوعها من حيث لا تُمْسِي)
(وشروقها بيضاء صافية ... وغروبُها حمراءَ كالورْسِ)
(وتشتت الأهواءِ أزعجني ... سيراً لأبلغ مطلع الشمسِ)
(ولرب مطعمةٍ يعود لها ... رأي الحليم إلى شفا لبسِ)
وفي تسميته تبعاً قولان: أحدهما: لأنه تَبعَ من قبله من ملوك اليمن كما قيل خليفة لأنه خلف من قبله. الثاني: لأنه اسم لملوك اليمن. وذم الله قومه ولم يذمه , وضرب بهم مثلاً لقريش لقربهم من دارهم , وعظمهم في نفوسهم , فلما أهلكهم الله ومن قبلهم - لأنهم كانوا مجرمين - كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك.(5/256)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم} قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} فيه وجهان: أحدهما: غافلين، قاله مقاتل. الثاني: لاهين، قاله الكلبي. {وَمَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحِقِّ} فيه وجهان: أحدهما: للحق، قاله الكلبي. الثاني: بقول الحق، قاله مقاتل. قوله عز وجل: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصَلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} يعني يوم القيامة، وفي تسميته بيوم الفصل وجهان: أحدهما: [إن الله] يفصل فيه أمور عباده. الثاني: لأنه يفصل فيه بين المرء وعمله.(5/256)
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
{إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون} قوله عز وجل: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ طَعَامُ الأَثِيمِ} قد ذكرنا ما في الزقوم من الأَقاويل , وهو في اللغة ما أُكِلَ بكرْه شديد. ولهذا يقال قد تزقم هذا الطعام تزقماً أي هو في حكم من أكله بكره شديد لحشو فمه وشدة شره. وحكى النقاش عن مجاهد أن شجرة الزقوم أبو جهل. وفي الأثيم وجهان: أحدهما: أنه الآثم، قاله ابن عيسى. الثاني: المشرك المكتسب للإثم، قاله يحيى. قوله عز وجل: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} فيه خمسة أوجه: أحدها: فجروه، قاله الحسن. الثاني: فادفعوه , قاله مجاهد. الثالث: فسوقوه , حكاه الكلبي. الرابع: فاقصفوه كما يقصف الحطب , حكاه الأعمش: الخامس: فردوه بالعنف , قاله ابن قتيبة. قال الفرزدق:
(ليس الكرام بناحليك أباهم ... حتى ترد إلى عطية تعتل)
{إلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} فيه وجهان: أحدهما: وسط الجحيم , قاله ابن عباس والضحاك وقتادة. الثاني: معظم الجحيم يصيبه الحر من جوانبها , قاله الحسن.(5/257)
قوله عز وجل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} قال قتادة: نزلت في أبي جهل، وفيه أربعة أوجه: أحدها: معناه أنك لست بعزيز ولا كريم , لأنه قال توعدني محمد , والله إني لأعز من مشى حبليها , فرد الله عليه قوله , قاله قتادة. الثاني: أنك أنت العزيز الكريم عند نفسك , قاله قتادة أيضاً. الثالث: أنه قيل له ذلك استهزاء على جهة الإهانة , قاله سعيد بن جبير. الرابع: أنك أنت العزيز في قومك , الكريم على أهلك حكاه ابن عيسى.(5/258)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
{إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون فارتقب إنهم مرتقبون} قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أمين من الشيطان والأحزان , قاله قتادة. الثاني: أمين من العذاب , قاله الكلبي. الثالث: من الموت , قاله مقاتل. قوله عز وجل: {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} فيهما ثلاثة أوجه: أحدها: أن السندس الحرير الرقيق , والاستبرق الديباج الغليظ , قاله عكرمة. الثاني: السندس يعمل بسوق العراق وهو أفخر الرقم، قاله يحيى، والاستبرق الديباج سمي استبرقاً لشدة بريقه، قاله الزجاج. الثالث: أن السندس ما يلبسونه، والاستبرق ما يفترشونه. وفي {مُّتَقَابِلينَ} وجهان:(5/258)
أحدهما: متقابلين بالمحبة لا متدابرين بالبغضة , قاله علي بن عيسى. الثاني: متقابلين في المجالس لا ينظر بعضهم قفا بعض , قاله مجاهد. قوله عز وجل: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} يعني القرآن , وفيه وجهان: أحدهما: معناه جعلناه بلسانك عربياً. الثاني: أطلقنا به لسانك تيسيراً. {لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يرجعون. الثاني: يعتبرون. {فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ} فيه وجهان: أحدهما: فانتظر ما وعدتك من النصر عليهم. إنهم منتظرون بك الموت، حكاه النقاش. الثاني: وانتظر ما وعدتك من الثواب فإنهم من المنتظرين لما وعدتهم من العقاب، والله أعلم.(5/259)
سورة الجاثية
مكية كلها، في قول الحسن وعطاء وجابر وعكرمة، وقال ابن عباس وقتادة إلا آية، وهي {قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب رضي الله عنه. بسم الله الرحمن الرحيم(5/260)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
{حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون} قوله عز وجل: {حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ} يعني القرآن. {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وفي إضافة التنزيل إليه في هذا الموضع وفي أمثاله وجهان: أحدهما: افتتاح كتابه منه كما يفتتح الكاتب كتابه به. الثاني: تعظيماً لقدره وتضخيماً لشأنه عليه في الابتداء بإضافته إليه. قوله عز وجل: {وَاخْتِلاَفِ الليْلِ وَالنَّهَارِ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني اختلافهما بالطول والقصر.(5/260)
الثاني: اختلافهما بذهاب أحدهما ومجيء الآخر. {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: المطر الذي ينبت به الزرع وتحيا به الأرض. الثاني: ما قضاه في السماء من أرزاق العباد. {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تصريفها بإرسالها حيث يشاء. الثاني: ينقل الشمال جنوباً والجنوب شمالاً , قاله الحسن. الثالث: أن يجعلها تارة رحمة وتارة نقمة؛ قاله قتادة.(5/261)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
{تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم} قوله عز وجل: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الأفاك: الكذاب , قاله ابن جريج. الثاني: أنه المكذب بربه. الثالث: أنه الكاهن , قاله قتادة. {يَسْمَعُءَآيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيهِ} يعني القرآن. {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً} فيه تأويلان: أحدها: يقيم على شركه مستكبراً عن طاعة ربه، وهو معنى قول يحيى بن سلام. الثاني: أن الإصرار على الشيء العقد بالعزم عليه، وهو مأخوذ من صَرَّ الصُّرَّةَ إذا شدها، قاله ابن عيسى.(5/261)
{كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} في عدم الاتعاظ بها والقبول لها. {فَبِشَّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قال ابن جريج نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث.(5/262)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
{الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون} قوله عز وجل: {قُلْ لِّلَّذِينَءَامَنُوا يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا ينالون نعم الله , قاله مجاهد. الثاني: لا يخشون عذاب الله , قاله الكلبي ومقاتل. الثالث: لا يطمعون في نصر الله في الدنيا ولا في الآخرة، قاله ابن بحر. وفي المراد بأيام الله وجهان: أحدهما: أيام إنعامه وانتقامه في الدنيا , لأنه ليس في الآخرة، وتكون الأيام وقتاً وإن تكن أياماً على الحقيقة. وفي الكلام أمر محذوف فتقديره: قل للذين آمنوا إغفروا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله. الغفران ها هنا العفو وترك المجازاة على الأذى. وحكى الكلبي أن هذه الآية نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من المشركين فهمَّ أن يبطش به، فلما نزل ذلك فيه كف عنه. وفي نسخ هذه الآية قولان:(5/262)
أحدهما: أنها ثابتة في العفو عن الأذى في غير الدين. الثاني: أنها منسوخة وفيما نسخها قولان: أحدهما: بقوله سبحانه {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} قاله قتادة. الثاني: بقوله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُواْ} قاله أبو صالح.(5/263)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
{ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون} قوله عز وجل: {وَءَاتَينَاهُم بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ} فيه وجهان: أحدهما: ذكر الرسول وشواهد نبوته. الثاني: بيان الحلال والحرام , قاله السدي. {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} فيه قولان: أحدهما: من بعد يوشع بن نون فآمن بعضهم وكفر بعضهم , حكاه النقاش. الثاني: بعدما أعلمهم الله ما في التوراة. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: طلباً للرسالة وأنفة من الإذعان للصواب , حكاه ابن عيسى. الثاني: بغياً على رسول الله صلى عليه وسلم في جحود ما في كتابهم من نبوة وصفته، قاله الضحاك.(5/263)
الثاني: أنهم أرادوا الدنيا ورخاءها فغيروا كتابهم وأحلوا فيه ما شاؤوا وحرموا ما شاؤوا , قاله يحيى بن آدم. قوله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ} أي على طريقة من الدين كالشريعة التي هي طريق إلى الماء , ومنه الشارع لأنه طريق إلى القصد. وفي المراد بالشريعة أربعة أقاويل: احدها: أنها الدين , قاله ابن زيد , لأنه طريق للنجاة. الثاني: أنها الفرائض والحدود والأمر والنهي , قاله قتادة لأنها طريق إلى الدين. الثالث: أنها البينة , قاله مقاتل: لأنها طريق الحق. الرابع: السنة , حكاه الكلبي لأنه يستنّ بطريقة من قبله من الأنبياء.(5/264)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
{أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ} أي اكتسبوا الشرك. قال الكلبي: الذين أريد بهم هذه الآية عتبه وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. {أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} قال الكلبي أريد بهم علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم. قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أفرأيت من اتخذ دينه ما يهواه , فلا يهوى شيئاً إلا ركبه، قاله ابن عباس.(5/264)
الثاني: أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه ويستحسنه , فإذا استحسن شيئاً وهو به اتخذه إلهاً , قاله عكرمة , قاله سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر. فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر. الثالث: أفرأيت من ينقاد لهواه انقياده لإلهه ومعبوده تعجباً لذوي العقول من هذا الجهل. {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} فيه تأويلان: أحدهما: وجده ضالاً , حكاه ابن بحر. الثاني: معناه ضل عن الله. ومنه قول الشاعر:
(هبوني امرأً منكم اضلَّ بعيره ... له ذمة إن الذمام كثير)
أي ضل عنه بعيره. وفي قوله: {عَلَى عِلْمٍ} وجهان: أحدهما: على علم منه أنه ضال , قاله مقاتل. الثاني: قاله ابن عباس أي في سابق علمه أنه سيضل. {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى. {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غَشَاوَةً} حتى لا يبصرالرشد. ثم في هذا الكلام وجهان: أحدهما: أنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم. الثاني: أنه خارج مخرج الدعاء بذلك عليهم. وحكى ابن جريج أنها نزلت في الحارث بن قيس من الغياطلة , وحكى الضحاك أنها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف.(5/265)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
{وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا(5/265)
بآبائنا إن كنتم صادقين قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله عز وجل: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} وهذا القول منهم إنكار للآخرة وتكذيب بالبعث وإبطال للجزاء. {نَمُوتُ وَنَحْيَا} فيه وجهان: أحدهما: أنه مقدم ومؤخر , وتقديره: نحيا نموت. وهي كذلك في قراءة ابن مسعود. الثاني: أنه على تربيته , وفي تأويله وجهان: أحدهما: نموت نحن ويحيا أولادنا، قاله الكلبي. الثاني: يموت بعضنا. {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: وما يهلكنا إلا العمر , قاله قتادة. وأنشد قول الشاعر:
(لكل أمر أتى يوماً له سبب ... والدهر فيه وفي تصريفه عجب)
الثاني: وما يهلكنا إلا الزمان , قاله مجاهد. وروى أبو هريرة قال: كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار , والذي يهلكنا يميتنا ويحيينا , فنزلت هذه الآية. الثالث: وما يهلكنا إلا الموت , قاله قطرب , وأنشد لأبي ذؤيب:
(أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع)
الرابع: وما يهلكنا إلا الله , قاله عكرمة. وروى الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رجال يقولون: يا خيبة الدهر , يا(5/266)
بؤس الدهر , لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل هو الدهر , وإنه يقبض الأيام ويبسطها) .(5/267)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
{ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} قوله عز وجل: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} الأمة أهل كل ملة. وفي الجاثية خمسة تأويلات: أحدها: مستوفزة , قاله مجاهد. وقال سفيان: المستوفز الذي لا يصيب منه الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله. الثاني: مجتمعة , قاله ابن عباس. الثالث: متميزة , قاله عكرمة. الرابع: خاضعة بلغة قريش , قاله مؤرج. الخامس: باركة على الركب , قاله الحسن. وفي الجثاة قولان: أحدهما: أنه للكفار خاصة , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنه عام للمؤمن والكافر انتظاراً للحساب. وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبد الله بن باباه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كأني أراكم بالكوم جاثين دون جهنم. {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إلى حسابها، قاله يحيى بن سلام.(5/267)
الثاني: إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر , قاله الكلبي. الثالث: إلى كتابها الذي أنزل على رسولها , حكاه الجاحظ. قوله عز وجل: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه القرآن يدلكم على ما فيه من الحق , فكأنه شاهد عليكم , قاله ابن قتيبة. الثاني: أنه اللوح المحفوظ يشهد بما قضي فيه من سعادة وشقاء , خير وشر , قاله مقاتل , وهو معنى قول مجاهد. الثالث: أنه كتاب الأعمال الذي يكتب الحفظة فيه أعمال العباد ويشهد عليكم بما تضمنه من صدق أعمالكم , قاله الكلبي. {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُم تَعْمَلُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني يكتب الحفظة ما كنتم تعملون في الدنيا , قاله علي رضي الله عنه ومن زعم أنه كتاب الأعمال. الثاني: أنه الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدوَّن عندها من أحوال العباد , قاله ابن عباس ومن زعم أن الكتاب هو اللوح المحفوظ. الثالث: نستنسخ ما كتب عليكم الملائكة الحفظة , قاله الحسن لأن الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الأعمال.(5/268)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
{فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا(5/268)
يخرجون منها ولا هم يستعتبون فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} قوله عز وجل: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: اليوم نترككم في النار كما تركتم أمري , قاله الضحاك. الثاني: اليوم نترككم من الرحمة كما تركتم الطاعة , وهو محتمل الثالث: اليوم نترككم من الخير كما تركتمونا من العمل , قاله سعيد بن جبير. قوله عز وجل: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الكبرياء العظمة , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنه السلطان , قاله مجاهد. الثالث: الشرف , قاله ابن زياد. الرابع: البقاء والخلود. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في انتقامه {الْحَكِيمُ} في تدبيره.(5/269)
سورة الأحقاف
مكية في قول الجميع إلا رواية تشذ عن ابن عباس وقتادة أنها كذلك إلا آية منها مدنية وهي {قل أرأيتم إن كان من عند الله} وقال الكلبي: بل هي {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} . بسم الله الرحمن الرحيم(5/270)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
{حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} قوله عز وجل: {حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فيه وجهان: أحدهما: معناه قُضِي نزول الكتاب من الله العزيز الحكيم , قاله النقاش. الثاني: هذا الكتاب يعني القرآن تنزيل من الله العزيز الحكيم , قاله الحسن. قوله عز وجل: {مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} فيه أربعة أوجه:(5/270)
أحدها: إلا بالصدق , قاله ابن إسحاق. الثاني: إلا بالعدل , وهو مأثور. الثالث: إلا للحق , قاله الكلبي. الرابع: إلا للبعث , قاله يحيى. {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} فيه وجهان: أحدهما: أنه أجل القيامة، قاله ابن عباس. الثاني: أنه الأجل المقدور لكل مخلوق، وهو محتمل. قوله عز وجل: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قرأ الحسن وطائفة معه {أَوْ أَثَرَةٍ} وفي تأويل {أَوْ أَثَارَةٍ} وهي قراءة الجمهور ثلاثة أوجه: أحدها: رواية من علم , قاله يحيى. الثاني: بقية , قاله أبو بكر بن عياش , ومنه قول الشاعر:
(وذات أثارة أكلت عليها ... نباتاً في أكمته قفارا)
أي بقية من شحم. الثالث: أو علم تأثرونه عن غيركم , قاله مجاهد. ويحتمل رابعاً: أو اجتهاد بعلم , لأن أثارة العلم الاجتهاد. ويحتمل خامساً: أو مناظرة بعلم لأن المناظر في العلم مثير لمعانيه. ومن قرأ {أَوْ أَثَرَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} ففي تأويله خمسة أوجه: أحدها: أنه الخط , وقد رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: ميراث من علم , قاله عكرمة. الثالث: خاصة من علم، قاله قتادة. الرابع: أو بقية من علم، قاله عطية. الخامس: أثرة يستخرجه فيثيره، قاله الحسن.(5/271)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين} قوله عز وجل: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} قال ابن عباس: معناه لست بأول الرسل. والبدع الأول. والبديع من كل شيء المبتدع , وأنشد قطرب لعدي بن زيد:
(فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً غدت من بعد بؤسي بأسعد)
{وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا لا في الآخرة، فلا أدري ما يفعل بي أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي , أو أُقتل كما قتل الأنبياء من قبلي ولا أدري ما يفعل بكم، إنكم مصدقون أو مكذبون، أو معذبون أو مؤخرون، قاله الحسن: الثاني: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة. وهذا قبل نزول {لِيَغْفِر لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية. فلما نزل عليه ذلك عام الحديبية علم ما يفعل به في الآخرة وقال لأصحابه: (لَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ آيَةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعِهَا) فلما تلاها قال رجل من القوم: هنيئاً يا رسول الله , قد بين الله ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} الآية. قاله قتادة. الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل الهجرة (لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي أَرْضاً أَخْرُجُ إِلَيْهَا مِن مَكَّةَ) فلما اشتد البلاء على أصحابه بمكة قالوا: يا رسول الله حتى متى نلقى هذا(5/272)
البلاء؟ ومتى تخرج إلى الأرض التي رأيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُم , أَنَمُوتُ بِمَكَّةَ أَمْ نَخْرُجُ مِنهَا) قال الكلبي. الرابع: معناه قل لا أدري ما أؤمر به ولا ما تؤمرون به , قاله الضحاك.(5/273)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
{قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ} فيه قولان: أحدهما: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به , قاله يحيى. الثاني: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً من عند الله وكفرتم به , قاله الشعبي. {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَني إِسْرَآئِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه عبد الله بن سلام شهد على اليهود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكور في التوراة , قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، ومجاهد. الثاني: أنه آمين بن يامين، قال لما أسلم عبد الله بن سلام: أنا شاهد مثل شهادته ومؤمن كإيمانه، قاله السدي. الثالث: أن موسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم يشهد بنبوته، والتوراة مثل القرآن يشهد بصحته، قاله مسروق. ولم يكن في عبد الله بن سلام لأنه أسلم بالمدينة والآية مكية. الرابع: هو من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوراة، قاله الشعبي. الخامس: أنه موسى الذي هو مثل محمد صلى الله عليهما شهد على التوراة. التي هي مثل القرآن، حكاه ابن عيسى.(5/273)
{فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أنتم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله مسروق. وفي قولان: أحدهما: فآمن عبد الله بن سلام برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن واستكبر الباقون عن الإيمان , قاله ابن عباس. الثاني: فآمَن مَن آمن بموسى وبالتوراة واستكبرتم أنتم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن , قاله مسروق. وحكى النقاش أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره: قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن هو وكفرتم. وقال ابن عيسى: الكلام على سياقه ولكن حذف منه جواب إن كان من عند الله وفي المحذوف ثلاثة أوجه: أحدها: تقديره: وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن , أتؤمنون؟ قاله الزجاج. الثاني: تقدير المحذوف: فآمن واستكبرتم أفما تهلكون , قاله مذكور. الثالث: تقدير المحذوف من جوابه: فمن أضل منكم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. قوله عز وجل: {وَقَالَ الِّذِينَ كَفَرُواْ لِلِّذِينَءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} وفي سبب نزول هذه الآية أربعة أقاويل: أحدها: أن أبا ذر الغفاري دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بمكة فأجاب واستجاب به قومه فأتاه زعيمهم فأسلم , ثم دعاهم الزعيم فأسلموا فبلغ ذلك قريشاً فقالوا: غفار الخلفاء لو كان خيراً ما سبقونا إليه. فنزلت , قاله أبو المتوكل. الثاني: أن زنيرة أسلمت فأصيب بصرها , فقالوا لها: أصابك اللات والعزى , فرد الله عليها بصرها , فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خير ما سبقتنا إليه زنيرة فنزلت , قاله عروة بن الزبير. الثالث: أن الذين كفروا هم عامر وغطفان وأسد وحنظلة قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وغطفان وجهينة ومزينة وأشجع: لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا إليه رعاة البهم. فنزلت , قاله الكلبي. الرابع: أن الكفار قالوا: لو كان خيراً ما سبقتنا إليه اليهود فنزلت هذه الآية , قاله مسروق.(5/274)
وهذه المعارضة من الكفار في قولهم لو كان خيراً ما سبقونا إليه من أقبح المعارضات لانقلابها عليهم لكل من من خالفهم حتى يقال لهم: لو كان ما أنتم عليه خيراً ما عدنا عنه , ولو كان تكذيبكم للرسول خيراً ما سبقتمونا إليه. {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} يعني إلى الإيمان. وفيه وجهان: أحدهما: وإذا لم يهتدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم , قاله مقاتل. الثاني: بالقرآن. {فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: فسيقولون هذا القرآن كذب قديم , تشبيهاً بدين موسى القديم , تكذيباً بهما جيمعاً. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} فيه خمسة أوجه: أحدها: ثم استقاموا على أن الله ربهم , قاله أَبو بكر الصديق رضي الله عنه. الثاني: ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله , قاله ابن عباس. الثالث: على أداء فرائض الله , رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. الرابع: على أن أخلصوا له الدين والعمل , قاله أبو العالية. الخامس: ثم استقاموا عليه فلم يرجعوا عنه إلى موتهم , رواه أنس مرفوعاً. {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِم} يعني في الآخرة. {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يعني عند الموت , قاله سعيد بن جبير.(5/275)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
{ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم(5/275)
أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} قوله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْه إحْسَاناً} في قراءة أهل الكوفة وقرأ الباقون حسناً. قال السدي: يعني براً. {حَمَلْتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي حملته بمشقة ووضعته بمشقة. وقرىء كرهاً بالضم والفتح. قال الكسائي والفراء في الفرق بينهما أن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره. {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَ ثُونُ شَهْراً} الفصال مدة الرضاع , فقدر مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً، وكان في هذا التقدير قولان: أحدهما: أنها مدة قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع , فلما كان أكثر الرضاع أربعة وعشرين شهراً لقوله تعالى: {حَولَينِ كَامِلَينِ لِمَنْ أَرادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] دل ذلك على أن مدة أقل الحمل ما بقي وهو ستة أشهر , فإن ولدته لتسعة أشهر لم يوجب ذلك نقصان الحولين في الرضاع , قاله الشافعي وجمهور الفقهاء. الثاني: أنها مدة جمعت زمان الحمل ومدة الرضاع , فإن كانت حملته تسعة أشهر؛ أرضعته أحداً وعشرين شهراً , وإن كانت حملته عشرة أشهر أرضعته شهراً لئلا تزيد المدة فيهما عن ثلاثين شهراً، قاله ابن عباس. {حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} وفي الأشد تسعة أقاويل: أحدها: أنه البلوغ، قاله ابن مالك والشعبي وزيد بن أسلم. الثاني: خمسة عشر سنة، قاله محمد بن أويس. الثالث: ثماني عشرة سنة، قاله ابن جبير. الرابع: عشرون سنة، قاله سنان.(5/276)
الخامس: خمسة وعشرون سنة , قاله عكرمة. السادس: ثلاثون سنة , قاله السدي. السابع: ثلاثة وثلاثون سنة , قاله ابن عباس. الثامن: أربعة وثلاثون سنة , قاله سفيان الثوري. التاسع: أربعون سنة , وهو قول عائشة , والحسن. {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لأنها زمان الأشد , وهو قول من ذكرنا. الثاني: لأنها زمان الاستواء , قال زيد بن أسلم: لم يبعث الله نبياً حتى يبلغ الأربعين. وقال ابن زيد: وقوله تعالى لموسى {وَاسْتَوَى} قال بلغ أربعين سنة. وقال الشعبي: يثغر الغلام لسبع ويحتلم لأربع عشرة , وينتهي طوله لإحدى وعشرين سنة , وينتهي عقله لثمان وعشرين , فما زاد بعد ذلك فهو تجربة ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين. الثالث: لأنها أول عمر بعد تمام عمر , قال ابن قيس. {رَبِّ أَوْزِعْنِي} قال سفيان معناه ألهمني. قال ابن قتيبة: والأصل في الإيزاع هو الإغراء بالشيء , ويقال فلان موزع بكذا أي مولع به. {أَن أَشْكُر نِعْمَتَكَ الَّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنعمت علي بالبر والطاعة , وأنعمت على والدي بالتحنن والشفقة. الثاني: أنعمت عليَّ بالعافية والصحة , وعلى والديَّ بالغنى والثروة , وفي النعمة على كل واحد منهما نعمة على الآخر لما بينهما من الممازجة والحقوق الملتزمة. وحكى أبو زهير عن الأعمش قال: سمعتهم يقولون إن الولد يأتيه رزقه من أربع خلال: يأتيه رزقه وهو في بطن أمه , ثم يولد فيكون رزقه في ثدي أمه، فإذا تحرك كان رزقه على أبويه، فإذا اجتمع وبلغ أشده جلس يهتم للرزق ويقول من أين يأتيني رزقي، فاختصت الأم بخلتين من خلال رزقه , واشترك أبوه في الثالثة , وتفرد هو(5/277)
بالرابعة، فذهب عنه الهم لما كان موكلاً إلى غيره , واهتم لما صار موكلاً إلى نفسه ليتنبه بذلك على التوكل على خالقه ليكون نقى لهمته وأقل لحيرته وأدرّ لرزقه , وليعلم أن لأمه عليه حقاً يعجز عن أدائه لما عانت من موارد رزقه ما عجز الخلق عن معاناته. {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: في بر الوالدين. الثاني: في ديني. {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَتِي} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يدعو بإصلاحهم لبره وطاعته لإضافته ذلك إلى نفسه. الثاني: أن يدعو بإصلاحهم لطاعة الله وعبادته وهو الأشبه , لأن طاعتهم لله من بره , ولأنه قد دعا بصلاح ذرية قد تكون من بعده. وفيه لأصحاب الخواطر أربعة أوجه: أحدها: قاله سهل: اجعلهم لي خلف صدق ولك عبيد حق. الثاني: قاله أبو عثمان: اجعلهم أبراراً , أي مطيعين لك. الثالث: قاله ابن عطاء وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم. الرابع: قاله محمد الباقر رضي الله عنه: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلاً. {إنِّي تُبْتُ إِِلَيكَ} قال ابن عباس: رجعت عن الأمر الذي كنت عليه. وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه , قاله مقاتل والكلبي. الثاني: مرسلة نزلت على العموم , قاله الحسن. قوله عز وجل: {أُوْلَئكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} فيه ثلاثة أوجه:(5/278)
أحدها: أنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم , قاله زيد بن أسلم يحكيه مرفوعاً. الثاني: هو إعطاؤهم بالحسنة عشراً رواه أبو هلال. الثالث: هي الطاعات لأنها الأحسن من أعماله التي يثاب عليها وليس في المباح ثواب ولا عقاب , حكاه ابن عيسى. {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِم فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: نتجاوز عن سيئاتهم بالرحمة. الثاني: نتجاوز عن صغائرهم بالمغفرة. الثالث: نتجاوز عن كبائرهم بالتوبة. {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ} وعد الصدق الجنة , الذي كانوا يوعدون في الدنيا على ألسنة الرسل.(5/279)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
{والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون} قوله عز وجل: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لكُمَا أَتَعِدَانَنِي أَنْ أُخْرَجَ} : أي أبعث. {وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي} فلم يبعثوا. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وأمه أم رومان(5/279)
يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث فيرد عليهما بما حكاه الله عنه , وكان هذا منه قبل إسلامه، قاله السدي. قال السدي: فلقد رأيت عبد الرحمن بن أبي بكر بالمدينة , وما بالمدينة أَعْبَدُ منه , ولقد استجاب الله فيه دعوة أبي بكر رضي الله عنه , ولما أسلم وحسن إسلامه , نزلت توبته في هذه الآية {وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُواْ} . الثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر , وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله تعالى , قاله مجاهد. الثالث: أنها نزلت في جماعة من الكفار قالوا ذلك لآبائهم ولذلك قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيهِم الْقَوْلُ} والعرب قد تذكر الواحد وتريد به الجمع وهذا معنى قول الحسن. فأما ال {أُفٍّ} فهي كلمة تبرم يقصد بها إظهار السخط وقبح الرد. قال الشاعر:
(ما يذكر الدهر إلا قلت أف له ... إذا لقيتك لولا قال لي لاقي)
وفي أصل الأف والتف ثلاثة أوجه: أحدها: أن الأف وسخ الأذن , والتف وسخ الأنف. الثاني: الأف وسخ الأظفار , والتف الذي يكون في أصول الأظافر. الثالث: أن الأف العليل الأنف , والتف الإبعاد. {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّه} أي يدعوان الله: اللهم اهده , اللهم اقبل بقلبه، اللهم اغفر له. {وَيْلَكَءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} في الثواب على الإيمان، والعقاب على الكفر. قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} يحتمل أربعة أوجه: أحدها: معناه أذهبتم طيباتكم في الآخرة بمعاصيكم في الدنيا. الثاني: ألهتكم الشهوات عن الأعمال الصالحة.(5/280)
الثالث: أذهبتم لذة طيباتكم في الدنيا بما استوجبتموه من عقاب معاصيكم في الآخرة. الرابع: معناه اقتنعتم بعاجل الطيبات في الدنيا بدلاً من آجل الطيبات في الآخرة. وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: لأنا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكباداً وأسنمة وصلاء وصناباً وسلائق , ولكن أستبقي حسناتي، فإن الله تعالى وصف قوماً فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} والصلاء , والشواء , والصناب الأصبغة والسلائق الرقاق العريض. وقال ابن بحر فيه تأويل خامس: أن الطيبات: الشباب والقوة , مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه أي شبابه وقوته. ووجدت الضحاك قاله أيضاً. {وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} يحتمل وجهين: أحدهما: بالدنيا. الثاني: بالطيبات. {فَالْيَوْمَ تُجْزَونَ عَذَابَ الْهُونِ} قال مجاهد: الهون الهوان. قال قتادة بلغة قريش. {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: تستعلون على أهلها بغير استحقاق. الثاني: تتغلبون على أهلها بغير دين. الثالث: تعصون الله فيها بغير طاعة. {وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: تفسقون في أعمالكم بغياً وظلماً. الثاني: في اعتقادكم كفراً وشركاً.(5/281)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
{واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين} قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ} وهو هود بعث إلى عاد , وكان أخاهم في النسب لا في الدين لأنه مناسب وإن لم يكن أخا أحد منهم. {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ} وهي جمع حقف , وهو ما استطال واعوج من الرمل العظيم , ولا يبلغ أن يكون جبلاً. ومنه قول العجاج:
(بات إلى أرطاة حقف أحقفا ... ... ... ... ... ... ... . .)
أي رمل مستطيل مشرق. وفيما أريد بالأحقاف هنا خمسة أقاويل: أحدها: أن الأحقاف رمال مشرقة كالجبال , قاله ابن زيد , وشاهده ما تقدم , وقال هي رمال مشرقة على البحر بالسحر في اليمن. الثاني: أن الأحقاف أرض من حسمي تسمى الأحقاف , قاله مجاهد. الثالث: أنه جبل بالشام يسمى الأحقاف , قاله الضحاك. الرابع: هو ما بين عمان وحضرموت , قاله ابن إسحاق. الخامس: هو واد بين عُمان ومهرة , قاله ابن عباس. وروى أبو الطفيل عن علي كرم الله وجهه أنه قال: خير واد بين في الناس واد بمكة , وواد نزل به آدم بأرض الهند , وشر واديين في الناس وادي الأحقاف , ووادٍ(5/282)
بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار , وخير بئر في الناس بئر زمزم , وشر بئر في الناس بئر برهوت وهي ذلك الوادي حضرموت. {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي قد بعث الرسل من قبل هود ومن بعده , قال الفراء , من بين يديه من قبله , ومن خلفه من بعده وهي في قراءة ابن مسعود: {مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ بَعدِهِ} . قوله عز وجل: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأفِكَنَا عَنْءَالِهَتِنَا} فيه وجهان: أحدهما: لتزيلنا عن عبادتها بالإفك. الثاني: لتصدنا عن آلهتنا بالمنع , قاله الضحاك. قوله عز وجل: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتهِمْ} يعني السحاب. وأنشد الأخفش لأبي كبير الهذلي:
(وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المنهال)
وفي تسميته عارضاً ثلاثة أقاويل: أحدها: لأنه أخذ في عرض السماء , قال ابن عيسى. الثاني: لأنه يملأ آفاق السماء , قال النقاش. الثالث: لأنه مار من السماء. والعارض هو المار الذي لا يلبث وهذا أشبه. {قَاُلواْ هَذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} حسبوه سحاباً يمطرهم، وكان المطر قد أبطأ عليهم. {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذابٌ أَلِيمٌ} كانوا حين أوعدهم هود استعجلوه استهزاء منهم بوعيده، فلما رأوا السحاب بعد طول الجدب أكذبوا هوداً وقالوا: هذا عارض ممطرنا. ذكر أن القائل ذلك من قوم عاد، بكر بن معاوية. فلما نظر هود إلى السحاب قال: بل هو ما استعجلتم به , أي الذي طلبتم تعجيله ريح فيها عذاب أليم وهي الدبور.(5/283)
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نُصِرْتُ بِالصبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ) فنظر بكر بن معاوية إلى السحاب فقال: إني لأرى سحاباً مُرْمِداً , لا يدع من عَادٍ أحداً. فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم. قال ابن اسحاق: واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو ومن معه فيها إلا ما يلين على الجلود وتلتذ الأنفس به , وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض. وحكى الكلبي أن شاعرهم قال في ذلك:
(فدعا هود عليهم ... دعوة أضحوا همودا)
(عصفت ريح عليهم ... تركت عاداً خمودا)
(سخرت سبع ليال ... لم تدع في الأرض عودا)
وعمَّر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة.(5/284)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
{ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ مََّكنَّاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكنَّاكُمْ فِيهِ} فيه وجهان: أحدهما: فيما لم نمكنكم فيه , قاله ابن عباس. الثاني: فيما مكناكم فيه وإن هنا صلة زائدة.(5/284)
ويحتمل ثالثاً: وهو أن تكون ثابتة غير زائدة ويكون جوابها مضمراً محذوفاً ويكون تقديره: ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد. ثم ابتدأ فقال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} الآية. يحتمل وجهين: أحدهما: أننا جعلنا لهم من حواس الهداية ما لم يهتدوا به. الثاني: معناه جعلنا لهم أسباب الدفع ما لم يدفعوا به عن أنفسهم.(5/285)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
{وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين} قوله عز وجل: {وَإذ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْءانَ} فيه قولان: أحدهما: أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب ولم يكونوا بعد عيسى صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم , فقالوا: ما هذا الذي حدث في الأرض؟ فضربوا في الأَرض حتى وقفوا على النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة عائداً إلى عكاظ وهو يصلي الفجر , فاستمعوا القرآن ونظروا كيف يصلي ويقتدي به أصحابه، فرجعوا إلى قومهم فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً، قاله ابن عباس. وحكى عكرم أن السورة التي كان يقرأها ببطن نخلة {اقرأْ بِاسِمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] وحكى ابن عباس كان يقرأ في العشاء {كَادوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} .(5/285)
الثاني: أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله لهم حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة. وفيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنهم جن من أهل نصيبين , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم من أهل نينوى , قاله قتادة. الثالث: أنهم من جزيرة الموصل , قاله عكرمة. الرابع: من أهل نجران , قاله مجاهد. واختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل , قاله عكرمة. الثاني: أنهم كانوا تسعة أحدهم زوبعة , قاله زر بن حبيش. الثالث: أنهم كانوا سبعة: ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين , وكانت أسماؤهم حسى ومسى وشاصر وناصر والأردن وأنيان الأحقم , قاله مجاهد. واختلف في علم النبي صلى الله عليه وسلم على قولين: أحدهما: أنه ما شعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه فيهم وأخبره عنهم , قاله ابن عباس , والحسن. الثاني: أن الله قد كان أعلمه بهم قبل مجيئهم. روى شعبة عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنِّي أمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى الْجِنِّ فَأَيُّكُمْ يَتْبَعُنِي) فأطرقوا فاتبعه ابن مسعود فدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون وخط عليه وخط على ابن مسعود ليثبته بذلك , قال عكرمة: وقال لابن مسعود: (لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيكَ) فلما خشيهم ابن مسعود كاد أن يذهب فذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبرح , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لَوْ ذَهَبْتَ مَا التَقَيْنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم تلا عليهم القرآن وقضى بينهم في قتيل منهم.(5/286)
وروى قتادة عن ابن مسعود أنهم سألوه الزاد فقال: (كُلُّ عَظْمٍ لَكُم عِرْقٌ , وَكُلٌّ رَوَثَةٍ لَكُم خَضِرَةٌ) فقالوا يا رسول الله يقذرها الناس علينا , فنهى سول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بأحدهما. روى عبد الله بن عمرو بن غيلان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ وَفْدَ الجِنَّ سَأَلُونِي المَتَاع , - وَالمَتَاعُ: الزَّادُ - فَمَتَّعْتُهُم بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ وَبَعْرَةٍ أَوْ رَوَثَةٍ) فقلت: يا رسول الله وما يغني عن ذلك عنهم؟ فقال: (إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل , ولا روثة ولا بعرة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت , فلا يستنجين أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة) . {فَلَمَّا حَضَرُوه قَالُواْ أنصِتُواْ} يحتمل وجهين: أحدهما: فلما حضروا قراءة القرآن قال بعضهم لبعض أنصتوا لسماع القرآن. الثاني: لما حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا أنصتوا لسماع قوله. {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: فلما فرغ من الصلاة ولوا إلى قومهم منذرين برسول الله صلى الله عليه وسلم , قال الكلبي: مخوفين: قاله الضحاك. الثاني: فلما فرغ من قرءاة القرآن ولوا إلى قومهم منذرين , حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم. قوله عز وجل: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ} أي نبي الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ} أي نبي الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. {فَليسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} أي سابق لله فيفوته هرباً.(5/287)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
{أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون(5/287)
فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} قوله عز وجل: {فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِن الرُّسُلِ} فيهم ستة أوجه: أحدها: أن أولي العزم من الرسل الذين أمروا بالقتال من الأنبياء , قاله السدي والكلبي. الثاني: أنهم العرب من الأنبياء , قاله مجاهد والشعبي. الثالث: من لم تصبه فتنة من الأنبياء , قاله الحسن. الرابع: من أصابه منهم بلاء بغير ذنب , قاله ابن جريج. الخامس: أنهم أولوا العزم , حكاه يحيى. السادس: أنهم أولوا الصبر الذين صبروا على أذى قومهم فلم يجزعوا. وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل لم يرض عن أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر على مخبوئها) . وفي أولي العزم منهم ستة أقاويل: أحدها: أن جميع الأنبياء أولوا العزم , ولم يبعث الله رسولاً إلا كان من أولي العزم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا , قاله ابن زيد. الثاني: أن أولي العزم منهم نوح وهود وإبراهيم , فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم , قاله أبو العالية. الثالث: أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى , قاله ابن عباس. الرابع: أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى , قاله عبد العزيز. الخامس: أنهم إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم , قاله السدي.(5/288)
السادس: أن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب , وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم , قاله ابن جريج. {وَلاَ تَسْتَعْجِلَ لَّهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: بالدعاء عليهم , قاله مقاتل. الثاني: بالعذاب وهذا وعيد. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} فيه وجهان: أحدهما: من العذاب , قاله يحيى. الثاني: من الآخرة , قاله النقاش. {لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِن نَّهَارٍ} فيه وجهان: أحدهما: في الدنيا حتى جاءهم العذاب , وهو مقتضى قول يحيى. الثاني: في قبورهم حتى بعثوا للحساب , وهو مقتضى قول النقاش. {بَلاَغٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن ذلك اللبث بلاغ , قاله ابن عيسى. الثاني: أن هذا القرآن بلاغ , قاله الحسن. الثالث: أن هذا الذي وصفه الله بلاغ، وهو حلول ما وعده إما من الهلاك في الدنيا أو العذاب في الآخرة على ما تقدم من الوجهين: {فَهَلْ يُهْلَكُ} يعني بعد هذا البلاغ. {إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} قال يحيى: المشركون. وذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأمره الله أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولوا العزم من الرسل تسهيلاً عليه وتثبيتاً له، والله أعلم.(5/289)
سورة محمد
مدنية في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت بعد حجة حين خرج (عليه السلام) من مكة جعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزناً عليه: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك} الآية. بسم الله الرحمن الرحيم(5/290)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
{الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم} قوله عز وجل: {الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني كفروا بتوحيد الله. {وَصَدُّواْ عَن سَبيلِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: عن الله وهو الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه , قاله السدي. الثاني: عن بيت الله يمنع قاصديه إذا عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم - عليهم الإسلام أن يدخلوا فيه , قاله الضحاك. {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أحبط ما فعلوه من الخير بما أقاموا عليه من الكفر.(5/290)
الثاني: أبطل ما أنفقوا ببدر لما نالهم من القتل. الثالث: أضلهم عن الهدى بما صرفهم عن التوفيق. وحكى مقاتل بن حيان أن هذه الآية نزلت في اثني عشر رجلاً من كفار مكة , ذكر النقاش أنهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عقبة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج وأبو البختري وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام والحارث بن عامر بن نوفل. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَءَامَنواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم الأنصار , قاله ابن عباس. الثاني: أنها نزلت خاصة في ناس من قريش , قاله مقاتل. وفي قوله: {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فيه قولان: أحدهما: المواساة بمساكنهم وأموالهم , وهذا قول من زعم أنهم الأنصار. الثاني: الهجرة وهذا قول من زعم أنهم قريش. {وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} أي آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه من القرآن. {وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن إيمانهم هو الحق من ربهم. الثاني: أن القرآن هو الحق من ربهم. {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: سترها عليهم. الثاني: غفرها بإيمانهم. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أصلح شأنهم , قاله مجاهد. الثاني: أصلح حالهم، قاله قتادة. الثالث: أصلح أمرهم، قاله ابن عباس، والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم.(5/291)
الرابع: أصلح نياتهم. حكاه النقاش، ومنه قول الشاعر:
(فإن تقبلي بالود أقبل بمثله ... وإن تدبري أذهب إلى حال باليا)
وهو على هذا التأويل محمول على إصلاح دينهم، والبال لا يجمع لأنه أبهم إخوانه من الشأن والحال والأمر. قوله عز وجل: {ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ} فيه قولان: أحدهما: أن الباطل الشيطان، قاله مجاهد. الثاني: إبليس، قاله قتادة، وسُمِّي بالباطل لأنه يدعو إلى الباطل. ويحتمل ثالثاً: أنه الهوى. {وَأَنَّ الَّذِينَءَامَنُوا اتَّبعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: اتبعوا الرسول , لأنه دعاهم إلى الحق وهو الإسلام. الثاني: يعني القرآن سمي حقاً لمجيئه بالحق. {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} قال يحيى: صفات أعمالهم , وفي الناس هنا قولان: أحدهما: أنه محمد صلى الله عليه وسلم , قاله الكلبي. الثاني: جميع الناس , قاله مقاتل.(5/292)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
{فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} قوله عز وجل: {فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فيهم هنا قولان:(5/292)
أحدهما: أنهم عبدة الأوثان , قاله ابن عباس. الثاني: كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة. وفي قوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وجهان: أحدهما: ضرب أعناقهم صبراً عند القدرة عليهم. الثاني: أنه قتلهم بالسلاح واليدين , قاله السدي. {حَتَّى إِذَآ أَثخَنُتُموهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ} يعني بالإثخان الظفر , وبشد الوثاق الأسر. {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} في المَنِّ هنا قولان: أحدهما: أنه العفو والإطلاق كما من رسول الله صلى الله عليه على ثمامة بن أثال بعد أسره. الثاني: أنه العتق , قاله مقاتل. فأما الفداء ففيه وجهان: أحدهما: أنه المفاداة على مال يؤخذ من أسير يطلق , كما فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر كل أسير بأربعة آلاف درهم , وفادى في بعض المواطن رجلاً برجلين. الثاني: أنه البيع , قاله مقاتل. {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن أوزار الحرب أثقالها , والوزر الثقل ومنه وزير الملك لأنه يتحمل عنه الأثقال , وأثقالها السلاح. الثاني: هو [وضع] سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة , قال الشاعر:
(وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالاً وخيلاً ذكوراً)
الثالث: حتى تضع الحرب أوزار كفرهم بالإسلام , قاله الفراء. الرابع: حتى يظهر الإسلام على الدين كله , وهو قول الكلبي.(5/293)
الخامس: حتى ينزل عيسى ابن مريم , قاله مجاهد. ثم في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها منسوخة بقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِم لَعَلَّهُمْ يَذَّكُرُونَ} [الأنفال: 57] قاله قتادة. الثاني: أنها ثابتة الحكم , وأن الإمام مخير في من أسره منهم بين أربعة أمور: أن يقتل لقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} , أو يسترق لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استرق العقيلي , أو يَمُنُّ كما مَنَّ على ثمامة , أو يفادي بمال أو أَسرى , فإذا أسلموا أسقط القتل عنهم وكان في الثلاثة الباقية , على خياره , وهذا قول الشافعي. {ذلِك وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لا نَتصَرَ مِنهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: بالملائكة , قاله الكلبي. الثاني: بغير قتال , قاله الفراء. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قراءة أبي عمرو وحفص , قال قتادة: هم قتلى أحد. وقرأ الباقون {قَاتَلُواْ} . صلى الله عليه وسلم ; صلى الله عليه وسلم ; {سَيَهْدِيهِمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يحق لهم الهداية، قاله الحسن. الثاني: يهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر , قاله زياد. الثالث: يهديهم إلى طريق الجنة، قاله ابن عيسى. قوله عز وجل: {وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: عرفها بوصفها على ما يشوق إليها، حكاه ابن عيسى. الثاني: عرفهم ما لهم فيها من الكرامة، قاله مقاتل. الثالث: معنى عرفها أي طيبها بأنواع الملاذ , مأخوذ من العرف وهي الرائحة الطيبة , قاله بعض أهل اللغة. الرابع: عرفهم مساكنهم فيها حتى لا يسألون عنها , قاله مجاهد. قال الحسن:(5/294)
وصف الجنة لهم في الدنيا فلما دخلوها عرفوها بصفتها. ويحتمل خامساً: أنه عرف أهل السماء انها لهم إظهاراً لكرامتهم فيها. قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِن تَنصُرواْ اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: إن تنصروا دين الله ينصركم الله. الثاني: إن تنصروا نبي الله ينصركم الله , قاله قطرب. {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: ويثبت أقدامكم في نصره. الثاني: عند لقاء عدوه. ثم فيه وجهان: أحدهما: يعني تثبيت الأقدام بالنصر. الثاني: يريد تثبيت القلوب بالأمن. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} فيه تسعة تأويلات: أحدها: خزياً لهم , قاله السدي. الثاني: شقاء لهم , قاله ابن زيد. الثالث: شتماً لهم من الله , قاله الحسن. الرابع: هلاكاً لهم , قال ثعلب. الخامس: خيبة لهم , قاله ابن زياد. السادس: قبحاً لهم , حكاه النقاش. السابع: بعدائهم , قاله ابن جريج. الثامن: رغماً لهم , قاله الضحاك. التاسع: أن التعس الانحطاط والعثار , حكاه ابن عيسى.(5/295)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم وكأين من قرية هي(5/295)
أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم} قوله عز وجل: {وَكَأيّن مِّن قَرْيَةٍ} أي وكم من قرية , وأنشد الأخفش للبيد:
(وكائن رأينا من ملوك وسوقة ... ومفتاح قيد للأسير المكبل)
فيكون معناه: وكم من أهل قرية. {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً} أي أهلها أشد قوة. {مِّن قَرْيَتِكَ} يعني مكة. {الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} أي أخرجك أهلها عند هجرتك منها. {أَهْلكْنَاهُمْ} يعني بالعذاب. {فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ} يعني فلا مانع لهم منا , وهذا وعيد.(5/296)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
{أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم} قوله عز وجل: {أَفَمَن كَان عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبّهِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه القرآن، قاله ابن زيد. الثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم , قاله أبو العالية , والبينة الوحي. الثالث: أنهم المؤمنون , قاله الحسن , والبينة معجزة الرسول. الرابع: أنه الدين , قاله الكلبي. {كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} فيه قولان: أحدهما: عبادتهم الأوثان , قاله الضحاك. الثاني: شركهم، قاله قتادة، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم كافة المشركين.(5/296)
الثاني: أنهم الإثنا عشر رجلاً من قريش. وفيمن زينه لهم قولان: أحدهما: الشيطان. الثاني: أنفسهم. {وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُم} فيه قولان: أحدهما: أنه نعت لمن زين له سوء عمله. الثاني: أنهم المنافقون , قاله ابن زيد.(5/297)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
{ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم} قوله عز وجل: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} هم المنافقون: عبد الله بن أُبيّ بن سلول , ورفاعة بن التابوت، وزيد بن الصليت , والحارث بن عمرو، ومالك بن الدخشم. وفيما يستمعونه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه، فإذا خرجوا سألوا عنه , قاله الكلبي ومقاتل. الثاني: أنهم كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين , فيسمعون منه ما يقول , فيعيه المؤمن ولا يعيه المنافق. {حَتَّى إِذا خَرَجُواْ مِن عِندِكَ} أي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. {قَالُواْ لِلَّذِينَ أوتُواْ الْعِلْمَ} فيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنه عبد الله بن عباس، قاله عكرمة.(5/297)
الثاني: عبد الله بن مسعود , قاله عبد الله بن بريدة. الثالث: أبو الدرداء , قاله القاسم بن عبد الرحمن. الرابع: أنهم الصحابة , قاله ابن زيد. {مَاذَا قَالَءَانِفاً} هذا سؤال المنافقين للذين أُوتوا العلم إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه وجهان: أحدهما: يعني قريباً. الثاني: مبتدئاً. وفي مقصودهم بهذا السؤال وجهان: أحدهما: الإستهزاء بما سمعوه. الثاني: البحث عما جهلوه. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الإستهزاء زاد المؤمنين هدى , قاله الفراء. الثاني: أن القرآن زادهم هدى , قاله ابن جريج. الثالث: أن الناسخ والمنسوخ زادهم هدى , قاله عطية. وفي الهدى الذي زادهم أربعة أقاويل: أحدها: زادهم علماً , قاله الربيع بن أنس. الثاني: علموا ما سمعوا , وعلموا بما عملوا , قاله الضحاك. الثالث: زادهم بصيرة في دينهم وتصديقاً لنبيهم، قاله الكلبي. الرابع: شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان. ويحتمل خامساً: والذين اهتدوا بالحق زادهم هدى للحق. {وَءاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} فيه خمسة أوجه: أحدها: آتاهم الخشية، قاله الربيع. الثاني: ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي. الثالث: وفقهم للعمل الذي فرض عليهم، قاله مقاتل. الرابع: بين لهم ما يتقون , قاله ابن زياد.(5/298)
الخامس: أنه ترك المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية. قوله عز وجل: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأتِيَهُم بَغْتَةً} أي فجأة. {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أشراطها آياتها , قاله ابن زيد. الثاني: أوائلها , قاله ابن عباس. الثالث: أنه انشقاق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله الحسن. الرابع: ظهور النبي , قاله الضحاك. قال الضحاك لأنه آخر الرسل وأمته آخر الأمم , وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بُعِثْتُ وَالسَّاعَة كَهَاتِينِ) وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى. {فَأَنَّى لَهُمْ} قال السدي: معناه فكيف لهم النجاة. {إذَا جَآءَتْهُمْ ذِكرَاهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: إذا جاءتهم الساعة , قاله قتادة. الثاني: إذا جاءتهم الذكرى عند مجيء الساعة , قاله ابن زيد. وفي الذكرى وجهان: أحدهما: تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر. الثاني: هو دعاؤهم بأسمائهم تبشيراً أو تخويفاً. روى أبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَحْسِنُواْ أَسْمَآءَكُم فَإِنَّكُم تُدْعَوْنَ(5/299)
بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ , يَا فُلاَنُ قُمْ إِلَى نُورِكَ , يَا فُلاَنُ قُمْ فَلاَ نُورَ لَكَ) . قوله عز وجل: {فَاعلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ} وفي - وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم عالماً به - ثلاثة أوجه: أحدها: يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله. الثاني: ما علمته استدلالاً فاعلمه خبراً يقيناً. الثالث: يعني فاذكر أن لا إله إلا الله , فعبر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه. {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب. الثاني: استغفر الله ليعصمك من الذنوب. {وَلِلْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي استغفر لهم ذنوبهم. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: متقلبكم في أسفاركم , ومثواكم في أوطانكم. الثاني: متقلبكم في أعمالكم نهاراً ومثواكم في ليلكم نياماً.(5/300)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
{ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} قوله عز وجل: {وَيَقُولُ الَّذِينَءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزَّلِتْ سُورَةٌ} كان المؤمنون إذا تأخر نزول القرآن اشتاقوا إليه وتمنوه ليعلموا أوامر الله وتعبده لهم. {فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} وفي قراءة ابن مسعود: فإذا أنزلت سورة محدثة {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} . في السورة المحكمة قولان: أحدهما: أنها التي يذكر فيها الحلال والحرام، قاله ابن زياد النقاش.(5/300)
الثاني: أنها التي يذكر فيها القتال: وهي أشد القرآن على المنافقين , قاله قتادة. ويحتمل: ثالثاً: أنها التي تضمنت نصوصاً لم يتعقبها ناسخ ولم يختلف فيها تأويل: {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} هم المنافقون , لأن قلوبهم كالمريضة بالشك. فإذا أنزلت السورة المحكمة سر بها المؤمنون وسارعوا إلى العمل بما فيها , واغتم المنافقون ونظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. {نَظَرَ الْمَغْشِّيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوتِ} غماً بها وفزعاً منها. {فَأَوْلَى لَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أنه وعيد , كأنه قال: العقاب أولى لهم , قاله قتادة. الثاني: أولى لهم , {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} من أن يجزعوا من فرض الجهاد عليهم , قاله الحسن. وفيه وجه ثالث: أن قوله {طَاعَةٌ وَقُوْلٌ مَعْرُوفٌ} حكاية من الله عنهم قبل فرض الجهاد عليهم , ذكره ابن عيسى. والطاعة هي الطاعة لله ورسوله في الأوامر والنواهي. وفي القول المعروف وجهان: أحدهما: هو الصدق والقبول. الثاني: الإجابة بالسمع والطاعة. {فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ} أي جد الأمر في القتال. {فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّه} بأعمالهم {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} من نفاقهم. قوله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: فهل عسيتم إن توليتم أمور الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم، قاله الكلبي.(5/301)
الثاني: فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاماً أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا، قاله أبو العالية. الثالث: فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام. {وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} , قاله قتادة. الرابع: فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام , قاله ابن جريج. وفي هذه الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عنى بها المنافقين وهو الظاهر. الثاني: قريشاً , قاله أبو حيان. الثالث: أنها نزلت في الخوارج , قاله بكر بن عبد الله المزني.(5/302)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
{أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعدما علموا في التوراة أنه نبي , قاله قتادة وابن جريج. الثاني: المنافقون قعدوا عن القتال من بعدما علموه في القرآن , قاله السدي. {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} فيه وجهان:(5/302)
أحدهما: أعطاهم سؤالهم , قاله ابن بحر. الثاني: زين لهم خطاياهم , قاله الحسن. {وَأَمْلَى لَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أمهلهم , قاله الكلبي ومقاتل فعلى هذا يكون الله تعالى هو الذي أملى لهم بالإمهال في عذابهم. والوجه الثاني: أن معنى أملى لهم أي مد لهم في الأمل فعلى هذا فيه وجهان: أحدهما: أن الله تعالى هو الذي أملى لهم في الأمل , قاله الفراء والمفضل. الثاني: أن الشيطان هو الذي أملى لهم في مد الأمل بالتسويف , قاله الحسن. {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ} وفي قائل ذلك قولان: أحدهما: أنهم اليهود قالوا للمنافقين سنطيعكم في بعض الأمر. وفيما أرادوا بذلك وجهان: أحدهما: سنطيعكم في ألا نصدق بشيء , من مقالته , قاله الضحاك. الثاني: سنطيعكم في كتم ما علمنا من نبوته , قاله ابن جريج. القول الثاني: أنهم المنافقون قالوا لليهود سنطيعكم في بعض الأمر , وفيما أرادوه بذلك ثلاثة أوجه: أحدهما: سنطيعكم في غير القتال من بغض محمد صلى الله عليه وسلم والقعود عن نصرته , قال السدي. الثاني: سنطيعكم في الميل إليكم والمظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثالث: سنطيعكم في الارتداد بعد الإيمان. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما اسر بعضهم إلى بعض من هذا القول. الثاني: ما أسروه في أنفسهم من هذا الإعتقاد. قوله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالقتال نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: بقبض الأرواح عند الموت.(5/303)
{يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارُهُمْ} يكون على احتمال وجهين: أحدهما: يضربون وجوههم في القتال عند الطلب وأدبارهم عند الهرب. الثاني: يضربون وجوههم عند الموت بصحائف كفرهم , وأدبارهم في القيامة عند سوقهم إلى النار.(5/304)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
{أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فيه وجهان: أحدهما: شك , قاله مقاتل. الثاني: نفاق , قاله الكلبي. {أَن لن يُخْرِجَ أَضْغَانَهُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: غشهم، قاله السدي. الثاني: حسدهم، قاله ابن عباس. الثالث: حقدهم، قاله ابن عيسى. الرابع: عدوانهم، قاله قطرب وأنشد:
(قل لابن هند ما أردت بمنطق ... ساء الصديق وسر ذا الأضغان)
قوله عز وجل: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فيه وجهان: أحدهما: في كذب القول، قاله الكلبي. الثاني: في فحوى كلامهم، واللحن هو الذهاب بالكلام في غير جهته، مأخوذ من اللحن في الإعراب وهو الذهاب عن الصواب ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكُم(5/304)
لَتَحْتَكِمُونَ إِلي، أَحَدَكُمْ أَن يَكُونَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ) أي أذهب بها في الجهات لقوته على تصريف الكلام. قال مرار الأسدي:
(ولحنت لحناً فيه غش ورابني ... صدودك ترصين الوشاة الأعاديا)
قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالُكُم} فيه وجهان: أحدهما: المجاهدين في سبيل الله. الثاني: الزاهدين في الدنيا. {وَالصَّابِرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: على الجهاد. الثاني: عن الدنيا. {وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: نختبر أسراركم. الثاني: ما تستقبلونه من أفعالكم.(5/305)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
{إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} فيه وجهان: أحدهما: أطيعوا الله بتوحيده , وأطيعوا الرسول بتصديقه.(5/305)
الثاني: أطيعوا الله في حرمة الرسول، وأطيعوا الرسول في تعظيم الله. {وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي، قاله الحسن. الثاني: لا تبطلوها بالكبائر، قاله الزهري. الثالث: لا تبطلوها بالرياء والسمعة , وأخلصوها لله , قاله ابن جريج والكلبي. قوله عز وجل: {وَلَن يَتِرَكُم أَعمَالَكْم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لن ينقصكم أعمالكم , قاله مجاهد وقطرب. وأنشد قول الشاعر:
(إن تترني من الإجارة شيئاً ... لا يفتني على الصراط بحقي)
الثاني: لن يظلمكم , قاله قتادة , يعني أجور أعمالكم. الثالث: ولا يستلبكم أعمالكم , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) .(5/306)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
{إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} قوله عز وجل: {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يسألكم أموالكم لنفسه. الثاني: لا يسألكم جميع أموالكم في الزكاة ولكن بعضها.(5/306)
الثالث: لا يسألكم أموالكم وإنما يسألكم أمواله , لأنه أملك بها وهو المنعم بإعطائها. {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الإخفاء أخذ الجميع، قاله ابن زيد وقطرب. الثاني: أنه الإلحاح وإكثار السؤال، مأخوذ من الحفاء وهو المشي بغير حذاء، قاله ابن عيسى. الثالث: أن معنى فيحفكم أي فيجدكم تبخلوا، قاله ابن عيينة. {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: يظهر بامتناعكم ما أضمرتموه من عدوانكم. الثاني: تظهرون عند مسألتكم ما أضمرتموه من عداوتكم. قوله عز وجل: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَستَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: وإن تتولوا عن كتابي، قاله قتادة. الثاني: عن طاعتي , حكاه ابن أبي حاتم. الثالث: عن الصدقة التي أُمرتم بها، قاله الكلبي. الرابع: عن هذا الأمر فلا تقبلونه، قاله ابن زيد. {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم أهل اليمن وهم الأنصار , قاله شريح بن عبيد. الثاني: أنهم الفرس. روى أبو هريرة قال: لما نزل {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُم ثُمَّ لاَ يَكُونُوآ(5/307)
أمْثَالَكُم} كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا يستبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان وقال: (هذا وَقَومُهُ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ الدِّينَ مُعَلَّقٌ بِالثُّرَيَّا لَنالَهُ رَِجَالٌ مِن أَبْنَاءِ فَارِس) . الثالث: أنهم من شاء من سائر الناس، قاله مجاهد. {ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} فيه وجهان: أحدهما: يعني في البخل بالإنفاق في سبيل الله، قاله الطبري. الثاني: في المعصية وترك الطاعة. وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن الدُّنْيَا) .(5/308)
سورة الفتح
بسم الله الرحمن الرحيم(5/309)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
{إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا} قوله عز وجل: {إِنَّا فَتحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} فيه قولان: أحدهما: إنا أعلمناك علماً مبيناً فيما أنزلناه عليك من القرآن وأمرناك به من الدين. وقد يعبر عن العلم بالفتح كقوله {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59] أي علم الغيب , قاله ابن بحر. وكقوله {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19] أي إن أردتم العلم فقد جاءكم العلم. الثاني: إنا قضينا لك قضاء بيناً فيما فتحناه عليك من البلاد. وفي المراد بهذا الفتح قولان: أحدهما: فتح مكة، وعده الله عام الحديبية عند انكفائه منها. الثاني: هو ما كان من أمره بالحديبية. قال الشعبي: نزلت {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] في وقت الحديبية أصاب فيها ما لم يصب في غيرها. بويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وظهرت الروم على فارس تصديقاً لخبره، وبلغ(5/309)
الهدي محله، فعلى هذا في الذي أراده بالفتح يوم الحديبية، قال جابر: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية. الثاني: أنه بيعة الرضوان. قال البراء بن عازب: أنتم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. الثالث: أنه نحره وحلقه يوم الحديبية حتى بلغ الهدي محله بالنحر. والحديبية بئر , وفيها تمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقد غارت فجاشت بالرواء. {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فيه وجهان: أحدهما: ليغفر لك الله استكمالاً لنعمه عندك. الثاني: يصبرك على أذى قومك. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما تقدم قبل الفتح وما تأخر بعد الفتح. الثاني: ما تقدم قبل النبوة وما تأخر بعد النبوة. الثالث: ما وقع وما لم يقع على طريق الوعد بأنه مغفور إذا كان. ويحتمل رابعاً: ما تقدم قبل نزول هذه الآية وما تأخر بعدها. {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} فيه قولان: أحدهما: بفتح مكة والطائف وخيبر. الثاني: بخضوع من استكبر. وطاعة من تجبر. {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه الأسر والغنيمة كما كان يوم بدر. الثاني: أنه الظفر والإسلام وفتح مكة. وسبب نزول هذه الآية، ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أنه لما نزل قوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} قال أهل مكة: يا محمد كيف ندخل في دينك وأنت لا تدري ما يفعل بك ولا بمن اتبعك فهلا أخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك كما(5/310)
أخبر عيسى ابن مريم؟ فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه حتى قدم المدينة , فقال عبد الله بن أبي بن سلول - رأس المنافقين - للأنصار: كيف تدخلون في دين رجل لا يدري ما يفعل به ولا بمن اتبعه؟ هذا والله الضلال المبين. فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، يا رسول الله ألا تسأل ربك يخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك؟ فقال: إن له أجلاً فأبشرا بما يقر الله به أعينكما. إلى أن نزلت عليه هذه الآي وهو في دار أبي الدحداح على طعام مع أبي بكر وعمر فخرج وقرأها على أصحابه , قال قائل منهم: هنيئاً مريئاً يا رسول الله قد بين الله لنا ما يفعل بك , فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} الآية.(5/311)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
{هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما} قوله عز وجل: {هُوَا الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الصبر على أمر الله. الثاني: أنها الثقة بوعد الله. الثالث: أنها الرحمة لعباد الله. {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: ليزدادوا عملاً مع تصديقهم. الثاني: ليزدادوا صبراً مع اجتهادهم.(5/311)
الثالث: ليزدادوا ثقة بالنصر مع إيمانهم بالجزاء. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه: ولله ملك السموات والأرض ترغيباً للمؤمنين في خير الدنيا وثواب الآخرة. الثاني: معناه: ولله جنود السموات والأرض إشعاراً للمؤمنين أن لهم في جهادهم أعواناً على طاعة ربهم. قوله عز وجل: {الظَّآنِّينَ باللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: هو ظنهم أن لله شريكاً. الثاني: هو ظنهم أنه لن يبعث الله أحداً. الثالث: هو ظنهم أن يجعلهم الله كرسوله. الرابع: أن سينصرهم على رسوله. قال الضحاك: ظنت أسد وغطفان في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الحديبية أنه سيقتل أو ينهزم ولا يعود إلى المدينة سالماً , فعاد ظافراً. {عَلَيْهِمْ دَآئرَهُ السَّوْءِ} يحتمل وجهين: أحدهما: عليهم يدور سوء اعتقادهم. الثاني: عليهم يدور جزاء ما اعتقدوه في نبيهم.(5/312)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
{إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} قوله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: شاهداًعلى أمتك بالبلاغ , قاله قتادة. الثاني: شاهداًعلى أمتك بأعمالهم من طاعة أو معصية. الثالث: مبيناً ما أرسلناك به إليهم.(5/312)
{وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} فيه وجهان: أحدهما: مبشراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين. الثاني: مبشراً بالجنة لمن أطاع ونذيراً بالنار لمن عصى، قاله قتادة , والبشارة والإنذار معاً خير لأن المخبر بالأمر السار مبشر والمحذر من الأمر المكروه منذر. قال النابغة الذبياني:
(تناذرها الراقون من سوء سعيها ... تطلقها طوراً وطوراً تراجع)
قوله عز وجل: {وَتُعَزِّرُوهُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تطيعوه , قاله بعض أهل اللغة. الثاني: تعظموه , قاله الحسن والكلبي. الثالث: تنصروه وتمنعوا منه , ومنه التعزير في الحدود لأنه مانع , قاله القطامي:
(ألا بكرت مي بغير سفاهة ... تعاتب والمودود ينفعه العزر)
وفي {وَتُوَقِّرُوهُ} وجهان: أحدهما: تسودوه , قاله السدي. الثاني: أن تأويله مختلف بحسب اختلافهم فيمن أشير إليه بهذا الذكر: فمنهم من قال أن المراد بقوله: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتَوَقِّرُوهُ} أي تعزروا الله وتوقروه لأن قوله: {وَتُسَبِّحُوهُ} راجع إلى الله وكذلك ما تقدمه , فعلى هذا يكون تأويل قوله: {وَتُوَقِّرُوهُ} أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك. ومنهم من قال: المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزروه ويوقروه لأنه قد تقدم ذكرها , فجاز أن يكون بعض الكلام راجعاً إلى الله وبعضه راجعاً إلى رسوله , قاله الضحاك. فعلى هذا يكون تأويل {تُوَقِّرُوهُ} أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية. {وتُسَبِّحُوهُ} فيه وجهان: أحدهما: تسبيحه بالتنزيه له من كل قبيح. الثاني: هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح.(5/313)
{بُكْرَةً وَأصِيلاً} أي غدوة وعشياً. قال الشاعر:
(لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأجلس في أفيائه بالأصائل)(5/314)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
{سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما} قوله عز وجل: {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: فاسدين قاله قتادة. الثاني: هالكين , قاله مجاهد. قال عبد الله بن الزبعرى:
(يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور)
الثالث: أشرار , قاله ابن بحر. وقال حسان بن ثابت:
(لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد ... يهدي الإله سبيل المعشر البور)(5/314)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
{سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا} قوله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ} فيه وجهان:(5/314)
أحدهما: ما وعد الله نبيّه من النصرة والفتح حين ظنوا ظن السوء بأنه يهلك أو لا يظفر، قاله مجاهد وقتادة. الثاني: قوله: {لَن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} حين سألوه الخروج معه لأجل المغانم بعد امتناعهم منه وظن السوء , قاله ابن زيد.(5/315)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
{قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما} قوله عز وجل: {قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ} وهؤلاء المخلفون هم أحد أصناف المنافقين , لأن الله تعالى صنف المنافقين من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ثلاثة أصناف , منهم من أعلم أنه لا يؤمن وأوعدهم العذاب في الدنيا مرتين ثم العذاب العظيم في الآخرة وذلك قوله {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعَرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101] الآية. ومنهم من اعترف بذنبه وتاب , وهم من قال الله فيهم: {وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُبِهِم خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيِّئاً} [التوبة: 102] الآية. ومنهم من وقفوا بين الرجاء لهم والخوف عليهم بقوله تعالى: {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمِرْ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإمَّا يَتَوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] فهؤلاء المخاطبون بقوله: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} دون الصنفين المتقدمين لترددهم بين أمرين. قوله عز وجل: {سَتُدْعُوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ... } الآية. فيهم خمسة أوجه: أحدها: أنهم أهل فارس، قاله ابن عباس. الثاني: الروم , قاله الحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى.(5/315)
الثالث: هوازن وغطفان بحنين , قاله سعيد بن جبير وقتادة. الرابع: بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب , قاله الزهري. الخامس: أنهم قوم لم يأتوا بعد , قاله أبو هريرة.(5/316)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
{لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما} قوله عز وجل: {لَقَدْ رِضِي اللَّهُ عَنِ الْمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجرَةِ} كانت سبب هذه البيعة وهي بيعة الرضوان تأخر عثمان رضي الله عنه بمكة حين أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية رسولاً إلى الإسلام فأبطأ وأرجف بقتله , فبايع أصحابه وبايعوه على الصبر والجهاد , وكانوا فيما رواه ابن عباس ألفاً وخمسمائة , وقال جابر: كانوا ألفاً وأربعمائة وقال عبد الله بن أبي أوفى: ألفاً وثلاثمائةً. وكانت البيعة تحت الشجرة بالحديبية والشجرة سمرة. وسميت بيعة الرضوان , لقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} . صلى الله عليه وسلم ; صلى الله عليه وسلم ; {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: من صدق النية , قاله الفراء. الثاني: من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت , قاله مقاتل. {فَأَنزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: فتح خيبر لقربها من الحديبية , قاله قتادة. الثاني: فتح مكة.(5/316)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
{وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما وأخرى لم(5/316)
تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا} قوله عز وجل: {وََعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} فيه قولان: أحدهما: هي مغانم خيبر، قاله ابن زيد. الثاني: هو كل مغنم غنمه المسلمون , قاله مجاهد. {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} فيه قولان: أحدهما: مغانم خيبر , قاله مجاهد. الثاني: صلح الحديبية , قاله ابن عباس. {وَكَفَّ أيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: اليهود كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية. الثاني: قريش كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية. الثالث: أسد وغطفان الحليفان عليهم عيينة بن حصن ومالك بن عوف جاءوا لينصروا أهل خيبر , فألقى الله في قلوبهم الرعب فانهزموا. {وَلِتَكُونَءَايَةً لِّلْمُؤمِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: ليكون كف أيديهم عنكم آية للمؤمنين. الثاني: ليكون فتح خيبر آية أي علامة لصدق الله تعالى في وعده وصدق رسوله في خبره. قيل لتكون البيعة آية لهم. قوله عز وجل: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أحَاطَ اللَّهُ بِهَا} فيها ثلاثة أقاويل:(5/317)
أحدها: هي أرض فارس والروم وجميع ما فتحه المسلمون، قاله ابن عباس. الثاني: هي مكة، قاله قتادة. الثالث: هي أرض خيبر , قاله الضحاك. في قوله: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} وجهان: أحدهما: قدر الله عليها , قاله ابن بحر. الثاني: حفظها عليكم ليكون فتحها لكم. قوله عز وجل: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر رسله وأوليائه على أعدائه. وفي قوله: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} وجهان: أحدهما: ولن تتغير سنة الله وعادته في نصرك على أعدائك وأعدائه. الثاني: لن تجد لعادة الله في نصر رسله مانعاً من الظفر بأعدائه وهو محتمل. قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كف أيديهم عنكم بالرعب وأيديكم عنهم بالنهي. الثاني: كف أيديهم عنكم بالخذلان , وأيديكم عنهم بالاستبقاء لعلمه بحال من يسلم منهم. الثالث: كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم بالصلح عام الحديبية. {بِبَطْنِ مَكَّةَ} فيه قولان: أحدهما: يريد به مكة. الثاني: يريد به الحديبية لأن بعضها مضاف إلى الحرام. وفي قوله: {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيهِمْ} ثلاثة أقاويل: أحدها: أظفركم عليهم بفتح مكة وتكون هذه نزلت بعد فتح مكة , وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحاً لقوله {كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنهُم} . الثاني: أظفركم عليهم بقضاء العمرة التي صدوكم عنها. الثالث: أظفركم عليهم بما روي ثابت عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل(5/318)
مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من قبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوا من ظفروا به , فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم , فأنزل الله هذه الآية , فكان هذا هو الظفر.(5/319)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
{هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما} قوله عز وجل: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني قريشاً. {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني منعوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله علي وسلم مع أصحابه بعمرة. {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: محبوساً. الثاني: واقفاً. الثالث: مجموعاً , قاله أبو عمرو بن العلاء. {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} فيه قولان: أحدهما: منحره , قاله الفراء. الثاني: الحرم، قال الشافعي , والمحِل بكسر الحاء هو غاية الشيء، وبالفتح هو الموضع الذي يحله الناس، وكان الهدي سبعين بدنة.(5/319)
{وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمْوهُمْ} أي لم تعلموا إيمانهم. {أَن تَطَئُوهُمْ} فيه قولان: أحدهما: أن تطئوهم بخيلكم وأرجلكم فتقتلوهم , قاله ابن عباس. الثاني: لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم يعلموهم أن يطئوا آباءهم فيهلك أبناؤهم , قاله الضحاك. {فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ} فيها ستة أقاويل: أحدها: الإثم , قاله ابن زيد. الثاني: غرم الدية , قاله ابن إسحاق. الثالث: كفارة قتل الخطأ , قاله الكلبي. الرابع: الشدة , قاله قطرب. الخامس: العيب. السادس: الغم. قوله عز وجل: {لَوْ تَزَيَّلُواْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لو تميزوا , قاله ابن قتيبة. الثاني: لو تفرقوا , قاله الكلبي. الثالث: لو أزيلوا , قاله الضحاك حتى لا يختلط بمشركي مكة مسلم. {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً ألِيماً} وهو القتل بالسيف لكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار. قوله عز وجل: {إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} يعني قريشاً. وفي حمية الجاهلية قولان: أحدهما: العصبية لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله , والأنفة من أن يعبدوا غيرها , قاله ابن بحر. الثاني: أنفتهم من الإقرار له بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم على عادته في الفاتحة , ومنعهم له من دخول مكة , قال الزهري. ويحتمل ثالثاً: هو الاقتداء بآبائهم , وألا يخالفوا لهم عادة , ولا يلتزموا لغيرهم طاعة كما(5/320)
أخبر الله عنهم {إِنَّا وَجَدْنَا أَبَاءنا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] . {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤمِنِينَ} يعني الصبر الذي صبروا والإجابة إلى ما سألوا , والصلح الذي عقدوه حتى عاد إليهم في مثل ذلك الشهر من السنة الثانية قاضياً لعمرته ظافراً بطلبته. {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} فيها أربعة أوجه: أحدها: قول لا إله إلا الله , قاله ابن عباس , وهو يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: الإخلاص , قاله مجاهد. الثالث: قول بسم الله الرحمن الرحيم , قاله الزهري. الرابع: قولهم سمعنا وأطعنا بعد خوضهم. وسميت كلمة التقوى لأنهم يتقون بها غضب الله. {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} يحتمل وجهين: أحدهما: وكانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها. الثاني: وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها. وفي من كان أحق بكلمة التقوى قولان: أحدهما: أهل مكة كانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها لتقدم إنذارهم لولا ما سلبوه من التوفيق. الثاني: أهل المدينة أحق بكلمة التقوى حين قالوها , لتقدم إيمانهم حين صحبهم التوفيق.(5/321)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
{ {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله(5/321)
آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا} قوله عز وجل: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ ءامِنينَ مُحَلِّقينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} قال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم , رأى في المنام , أنه يدخل مكة على هذه الصفة , فلما صالح قريشاً بالحديبية , ارتاب المنافقون , حتى قال صلى الله عليه وسلم: (فَمَا رَأَيْتُ فِي هذَا العَامِ) ثم قال: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} فيه قولان: أحدهما: علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم , قاله الكلبي. الثاني: علم أن بمكة رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم؛ الآية. ثُمَّ قَالَ: {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} فيه قولان: أحدهما: أنه الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش بالحديبية , قاله مجاهد. الثاني: فتح مكة , قاله ابن زيد والضحاك. وفي قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خارج مخرج الشرط والاستثناء. الثاني: أنه ليس بشرط وإنما خرج مخرج الحكاية على عادة أهل الدين , ومعناه لتدخلونه بمشيئة الله. الثالث: إن شاء الله في دخول جميعكم أو بعضكم , ولأنه علم أن بعضهم يموت. {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا(5/322)
وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} قوله عز وجل: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} . فيه ستة تأويلات: أحدها: أنه ثرى الأرض وندى الطهور، قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنها صلاتهم تبدو في وجوههم، قاله ابن عباس. الثالث: أنه السمت، قاله الحسن. الرابع: الخشوع، قاله مجاهد. الخامس: هو أن يسهر الليل فيصبح مصفراً، قاله الضحاك. السادس: هو نور يظهر على وجوههم يوم القيامة، قاله عطية العوفي. {وذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، كزرع أخرج شطاء} فيه قولان: أحدهما: أن مثلهم في التوراة بأن سيماهم في وجوههم. ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه. الثاني: أن كلا الأمرين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل. وقوله: {كرزع أخرج شطاه} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الشطأ شوك السنبل، والعرب أيضاً تسميه السفا والبهمي، قاله قطرب. الثاني: أنه السنبل، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، قاله الكلبي والفراء. الثالث: أنه فراخه التي تخرج من جوانبه، ومنه شاطئ النهر جانبه، قاله الأخفش. {فآزره} فيه قولان: أحدهما: فساواه فصار مثل الأم، قاله السدي. الثاني: فعاونه فشد فراخ الزرع أصول النبت وقواها. {فاستغلظ) يعني اجتماع الفراخ مع الأصول. {فاستوى على سوقه} أي على عودة الذي يقوم عليه فيكون ساقاً له. {يعجب الزارع ليغيظ بهم الكفار} يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله(5/323)
عنهم، لأن ما أعجب المؤمنين من قوتهم كإعجاب من قوتهم كإعجاب الزارع بقوة زرعهم هو الذي غاظ الكفار منهم. ووجه ضرب المثل بهذا الزرع الذي أخرج شطأه، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه كان ضعيفاً، فأجابه الواحد حتى كثر جمعه وقوي أمره كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ ساقه وأفراخه فكان هذا من أصح مثل وأوضح بيان. والله أعلم.(5/324)
سورة الحجرات
بسم الله الرحمن الرحيم(5/325)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
{يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن ناساً كانوا يقولون: لو أنزل فيَّ كذا , لو أنزل فيَّ كذا , فنزلت هذه الآية , قاله قتادة. الثاني: أنهم نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه , قاله ابن عباس. الثالث: معناه ألا يقتاتوا على الله ورسوله , حتى يقضي الله على لسان رسوله , قاله مجاهد. الرابع: أنها نزلت في قوم ضحوا قبل أن يصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأمرهم أن يعيدوا الذبح , قاله الحسن.(5/325)
الخامس: لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر به الله تعالى ورسوله , قال الزجاج. وسبب نزولها ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلاً من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفئوا إلى المدينة فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا: من بني عامر فقتلوهما , فجاء بنو سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن بيننا وبينك عهداً وقد قتل منا رجلان فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة بعير ونزلت عليه هذه الآية في قتلة الرجلين. {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} يعني في التقدم المنهي عنه. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لقولكم {عَلِيمٌ} بفعلكم. قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوتِ النَّبِّيِ} قيل إن رجلين من الصحابة تماريا عنده فارتفعت أصوتهما , فنزلت هذه الآية , فقال أبو بكر رضي الله عنه عند ذلك: والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار. {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} فيه وجهان: أحدهما: أنه الجهر بالصوت. روي أن ثابت بن قيس بن شماس قال: يا نبي الله والله لقد خشيت أن أكون قد هلكت , نهانا الله عن الجهر بالقول وأنا امرؤ جهير الصوت , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا ثَابِتَ أَمَأ تَرْضَى أَن تَعِيشَ حَمِيداً وتُقْتَلَ شَهِيداً وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ) فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة. الثاني: أن النهي عن هذا الجهر هو المنع من دعائه باسمه أو كنيته كما يدعو(5/326)
بعضهم بعضاً بالاسم والكنية , وهو معنى قوله {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ، ولكنْ دعاؤه بالنبوة والرسالة كما قال تعالى {لاَ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} [النور: 63] . {أن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن معناه فتحبط أعمالكم. الثاني: لئلا تحبط أعمالكم. {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} بحبط أعمالكم. قوله عز وجل: { ... أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} فيه تأويلان: أحدهما: معناه أخلصها للتقوى , قاله الفراء. الثاني: معناه اختصها للتقوى , قاله الأخفش.(5/327)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ} الآية. اختلف في سبب نزولها , فروى معمر عن قتادة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناداه من وراء الحجرة: يا محمد , إن مدحي زين وشتمي شين , فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وَيْلُكَ ذَاكَ اللَّهُ , ذَاكَ اللَّهُ) فأنزل الله هذه الآية , فهذا قول. وروى زيد بن أرقم قال: أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل , فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس باتباعه وإن يكن ملكاً نعش في جنابه , فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه , وهو في(5/327)
حجرته يا محمد , فأنزل الله هذه الآية. قيل: إنهم كانوا من بني تميم. قال مقاتل: كانوا تسعة نفر: قيس بن عاصم , والزبرقان بن بدر , والأقرع بن حابس , وسويد بن هشام , وخالد بن مالك , وعطاء بن حابس , والقعقاع بن معبد , ووكيع بن وكيع , وعيينة بن حصن. وفي قوله: {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} وجهان: أحدهما: لا يعلمون , فعبر عن العلم بالعقل لأنه من نتائجه , قاله ابن بحر. الثاني: لا يعقلون أفعال العقلاء لتهورهم وقلة أناتهم , وهو محتمل. والحجرات جمع حجر؛ والحجر جمع حجرة. {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لكان أحسن لأدبهم في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. الثاني: لأطلقت أسراهم بغير فداء , لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سبى قوماً من بني العنبر , فجاءوا في فداء سبيهم وأسراهم.(5/328)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِق بِنَبَإِ فَتَبَيَّنُواْ} الآية. نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة بن أبي معيط , وسبب نزولها ما رواه سعيد عن قتادة(5/328)
أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد ابن عقبة مصدقاً لبني المصطلق , فلما أبصروه أقبلوا نحوه , فهابهم فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام , فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يثبت ولا يعجل , فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه , فلما جاءوا أخبروا خالداً أنهم متمسكون بالإسلام , وسمعوا أذانهم وصلاتهم , فلما أصبحوا , أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه , فعادوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه , فنزلت هذه الآية. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (التأني من الله والعجلة من الشيطان) . وفي هذه الآية دليل على أن خبر الواحد مقبول إذا كان عدلاً. قوله عز وجل: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتَّمُ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: لأثمتم , قاله مقاتل. الثاني: لاتهمتم , قاله الكلبي. الثالث: لغويتم. الرابع: لهلكتم. الخامس: لنالتكم شدة ومشقة. قال قتادة: هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا , فأنتم والله أسخف رأياً وأطيش عقولا. {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ} فيه وجهان: أحدهما: حسنه عندكم , قاله ابن زيد. الثاني: قاله الحسن. بما وصف من الثواب عليه. {وَزَيَّنَةُ فِي قُلُوبِكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: بما وعد عليه في الدنيا من النصر وفي الآخرة من الثواب , قاله ابن بحر. الثاني: بالدلالات على صحته. {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه الكذب خاصة، قاله ابن زيد. الثاني: كل ما خرج عن الطاعة.(5/329)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} قوله عز وجل: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} اختلف في سبب نزولها على أربعة أقاويل: أحدها: ما رواه عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال بالسعف والنعال ونحوه فنزلت هذه الآية فيهم. الثاني: ما رواه سعيد عن قتادة أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حق بينهما , فقال أحدهما للآخر: لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته , وأن الآخر دعاه ليحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه , فلم يزل بهما الأمر حتى تواقعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال , فنزلت فيهم. الثالث: ما رواه أسباط عن السدي أن رجلاً من الأنصار كانت له امرأة تدعى أم زيد وأن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها , وأن المرأة بعثت إلى أهلها , فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها , فخرج الرجل فاستعان أهله , فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال , فنزلت هذه الآية فيهم. الرابع: ما حكاه الكلبي ومقاتل والفراء أنها نزلت في رهط عبد الله بن أبي بن سلول من الخزرج ورهط عبد الله بن رواحة من الأوس، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمار له على عبد الله بن أبي , وهو في مجلس قومه، فراث حمار النبي صلى الله عليه وسلم، فأمسك عبد الله أنفه وقال: إليك حمارك , فغضب عبد الله بن رواحة، وقال: أتقول هذا لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم , فوالله هو أطيب ريحاً منك ومن أبيك، فغضب(5/330)
قومه، وأعان ابن رواحة قومه حتى اقتتلوا بالأيدي والنعال فنزلت هذه الآية فيهم , فأصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} البغي التعدي بالقوة إلى طلب ما ليس بمستحق. {فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي} فيه وجهان: أحدهما: تبغي في التعدي في القتال. الثاني: في العدول عن الصلح , قاله الفراء. {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: ترجع إلى الصلح الذي أمر الله به , قاله سعيد بن جبير. الثاني: ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله فيما لهم وعليهم , قاله قتادة. {فَإِن فَآءَتْ} أي رجعت. {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} فيه وجهان: أحدهما: يعني بالحق. الثاني: بكتاب الله , قاله سعيد بن جبير. {وَأَقْسِطُواْ} معناه واعدلوا. ويحتمل وجهين: أحدهما: اعدلوا في ترك الهوى والممايلة. الثاني: في ترك العقوبة والمؤاخذة. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي العادلين قال أبو مالك: في القول والفعل.(5/331)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
{يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مَِّن قَوْمٍ} الآية. أما القوم فهم الرجال خاصة , لذلك ذكر بعدهم النساء. ويسمى الرجال قوماً لقيام بعضهم مع(5/331)
بعض في الأمور , ولأنهم يقومون بالأمور دون النساء , ومنه قول الشاعر:
(وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء)
وفي هذه السخرية المنهي عنها قولان: أحدهما: أنه استهزاء الغني بالفقير إذا سأله، قاله مجاهد. الثاني: أنه استهزاء المسلم بمن أعلن فسقه، قاله ابن زيد. ويحتمل ثالثاً: أنه استهزاء الدهاة بأهل السلامة. {عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ} عند الله تعالى. ويحتمل: خيراً منهم معتقداً وأسلم باطناً. {وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرُا مِّنْهُنَّ} . {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: ولا تلمزوا أهل دينكم. الثاني: لا تلمزوا بعضكم بعضاً: واللمز: العيب. وفي المراد به هنا ثلاثة أوجه: أحدها: لا يطعن بعضكم على بعض , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد ابن جبير. الثاني: لا تختالوا فيخون بعضكم بعضاً , قاله الحسن. الثالث: لا يلعن بعضكم بعضاً , قاله الضحاك. {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} في النبز وجهان: أحدهما: أنه اللقب الثابت، قاله المبرد. الثاني: أن النبز القول القبيح، وفيه هنا أربعة أوجه: أحدها: أنه وضع اللقب المكروه على الرجل ودعاؤه به. قال الشعبي: روي أن وفد بني سليم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وللرجل منهم اسمان وثلاثة فكان يدعوا الرجل بالاسم فيقال إنه يكره هذا، فنزلت هذه الآية.(5/332)
الثاني: أنه تسمية الرجل بالأعمال السيئة بعد الإسلام ... يا فاسق ... يا سارق , يا زاني , قاله ابن زيد. الثالث: أنه يعيره بعد الإسلام بما سلف من شركه , قاله عكرمة. الرابع: أن يسميه بعد الإسلام باسم دينه قبل الإسلام , لمن أسلم من اليهود ... يا يهودي , ومن النصارى ... يا نصراني , قاله ابن عباس , والحسن. فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره , وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم عدداً من أصحابه بأوصاف فصارت لهم من أجمل الألقاب. واختلف في من نزلت فيه هذه الآية على أربعة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمسان وكان في أذنه ثقل فكان يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يسمع حديثه , فجاء ذات يوم وقد أخذ الناس مجالسهم فقال: (تَفَسَّحُواْ) ففعلوا إلا رجلاً كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يفسح وقال: (قَدْ أَصَبْتَ مَوْضِعاً) فنبذه ثابت , بلقب كان لأمه مكروهاً , فنزلت , قاله الكلبي والفراء. الثاني: أنا نزلت في كعب بن مالك الأنصاري , وكان على المغنم فقال لعبد الله بن أبي حدرد: يا أعرابي , فقال له عبد الله: يا يهودي , فتشاكيا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنزلت فيهما , حكاه مقاتل. الثالث: أنها نزلت في الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات عند استهزائهم بمن مع رسول الله من الفقراء والموالي فنزل ذلك فيهم. الرابع: أنا نزلت في عائشة وقد عابت أم سلمة. واختلفوا في الذي عابتها به فقال مقاتل: عابتها بالقصر , وقال غيره: عابتها بلباس تشهرت به.(5/333)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
{يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم}(5/333)
قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ} يعني ظن السوء. بالمسلم توهماً من غير تعلمه يقيناً. {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} فيه وجهان: أحدهما: يعني ظن السوء. الثاني: أن يتكلم بما ظنه فيكون إثما، فإن لم يتكلم به لم يكن إثماً، قاله مقاتل بن حيان. {وَلاَ تَجَسَّسُوا} فيه وجهان: أحدهما: هو أن يتبع عثرات المؤمن , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. الثاني: هو البحث عم خفي حتى يظهر، قاله الأوزاعي. وفي التجسس والتحسس وجهان: أحدهما: أن معناهما واحد , قاله ابن عباس وقرأ الحسن بالحاء. وقال الشاعر:
(تجنبت سعدى أن تشيد بذكرها ... إذا زرت سعدى الكاشح المتحسس)
وقال أبو عمرو الشيباني: الجاسوس: صاحب سر الشر , والناموس صاحب سر الخير. والوجه الثاني: أنهما مختلفان. وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أن التجسس بالجيم هو البحث , ومنه قيل رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور وبالحاء هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. الثاني: أنه بالحاء أن يطلبه لنفسه وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره. والتجسس أن يجس الأخبار لنفسه ولغيره. {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} والغيبة: ذكر العيب بظهر الغيب , قال الحسن: الغيبة ثلاثة كلها في كتاب الله: الغيبة والإفك والبهتان , فأما الغيبة , فأن تقول في(5/334)
أخيك ما هو فيه. وإما الإفك , فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه. وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة قال: (هُوَ أَن تَقُولَ لأَخِيكَ مَا فِيهِ فَإِن كُنتَ صَادِقَاً فَقَدِ اغْتَبْتَهُ , وَإِن كُنتَ كَاذِباً فَقَدْ بَهَّتَّهُ) . {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} فيه وجهان: أحدهما: أي كما يحرم أكل لحمه ميتاً يحرم غيبته حياً. الثاني: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً كذلك يجب أن يمتنع عن غيبته حياً , قاله قتادة. واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية قال الشاعر:
(فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا)
{فَكَرِهْتُمُوهُ} فيه وجهان: أحدهما: فكرهتم أكل الميتة , كذلك فاكرهوا الغيبة. الثاني: فكرهتم أن يعلم بكم الناس فاكرهوا غيبة الناس.(5/335)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} قصد بهذه الآية. النهي عن التفاخر بالأنساب , وبين التساوي فيها بأن خلقهم من ذكر وأنثى يعني آدم وحواء. ثم قال: {وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَرَفُواْ} فبين أن الشعوب والقبائل للتعارف لا للافتخار، وفيها ثلاثة أوجه:(5/335)
أحدها: أن الشعوب النسب الأبعد والقبائل النسب الأقرب , قاله مجاهد , وقتادة. وقال الشاعر:
(قبائل من شعوب ليس فيهم ... كريم قد يعد ولا نجيب)
وسموا شعوباً لأن القبائل تشعبت منها. الثاني: أن الشعوب عرب اليمن من قحطان، والقبيلة ربيعة ومضر وسائر عدنان. الثالث: أن الشعوب بطون العجم , والقبائل بطون العرب. ويحتمل رابعاً: أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب , والقبائل هم المشتركون في الأنساب , قال الشاعر:
(وتفرقوا شعباً فكل جزيرة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر)
والشعوب جمع شَعب بفتح الشين , والشِّعب بكسر الشين هو الطريق وجمعه شعاب , فكان اختلاف الجمعين مع اتفاق اللفظين تنبيهاً على اختلاف المعنيين. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} إن أفضلكم , والكرم بالعمل والتقوى لا بالنسب.(5/336)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
{قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين إن الله يعلم غيب السماوات(5/336)
والأرض والله بصير بما تعملون} قوله عز وجل: {قَالَتِ الأَعْرَابُءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ... } فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم أقروا ولم يعملوا , فالإسلام قول والإيمان عمل , قاله الزهري. الثاني: أنهم أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلمهم أن اسمهم أعراب , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم مَنُّوا على رسول الله صلى الله بإسلامهم فقالوا أسلمنا , لم نقاتلك , فقال الله تعالى لنبيه: قل لهم: لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا خوف السيف , قاله قتادة. لأناهم آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم , فلم يكونوا مؤمنين , وتركوا القتال فصاروا مستسلمين لا مسلمين , فيكون مأخوذاً من الاستسلام لا من الإسلام كما قال الشاعر:
(طال النهار على من لا لقاح له ... إلا الهدية أو ترك بإسلام)
ويكون الإسلام والإيمان في حكم الدين على هذا التأويل واحداً وهو مذهب الفقهاء , لأن كل واحد منهما تصديق وعمل. وإنما يختلفان من وجهين: أحدهما: من أصل الاسمين لأن الإيمان مشتق من الأمن , والإسلام مشتق من السلم. الثاني: أن الإسلام علم لدين محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان لجميع الأديان , ولذلك امتنع اليهود والنصارى أن يتسموا بالمسلمين , ولم يمتنعوا أن يتسموا بالمؤمنين. قال الفراء: ونزلت هذه الآية في أعراب بني أسد. قوله عز وجل: { ... لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيئاً} فيه وجهان: أحدهما: لا يمنعكم من ثواب عملكم شيئاً , قال رؤبة:(5/337)
(وليلة ذات سرى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت)
أي لم يمنعني عن سراها. الثاني: ولا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً , قال الحطيئة:
(أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذباً)
أي لا نقصاً ولا كذباً. وفيه قراءتان: {يَلِتْكم} و {يألتكم} وفيها وجهان: أحدها: [أنهما] لغتان معناهما واحد. الثاني: يألتكم أكثر وأبلغ من يلتكم. قوله عز وجل: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُم} الآية. هؤلاء أعراب حول المدينة أظهروا الإسلام خوفاً , وأبطنوا الشرك اعتقاداً فأظهر الله ما أبطنوه وكشف ما كتموه، ودلهم بعلمه بما في السموات والأرض علم علمه بما اعتقدوه , وكانوا قد منوا بإسلامهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقالوا فضلنا على غيرنا بإسلامنا طوعاً. فقال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُونُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} وهذا صحيح لأنه إن كان إسلامهم حقاً فهو لخلاص أنفسهم فلا مِنَّةَ فيه لهم , وإن كان نفاقاً فهو للدفع عنهم , فالمنة فيه عليهم. ثم قال: {بِلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أن هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الله أحق أن يمن عليكم أن هداكم للإيمان حتى آمنتم. وتكون المنة هي التحمد بالنعمة. الثاني: أن الله تعالى ينعم عليكم بهدايته لكم , وتكون المنة هي النعمة. وقد يعبر بالمنة عن النعمة تارة وعن التحمد بها أخرى. {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعني فيما قلتم من الإيمان.(5/338)
سورة ق
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية وهي قوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما} الآية. بسم الله الرحمن الرحيم(5/339)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
{ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} قوله عز وجل: {ق} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم بها , قاله ابن عباس. الثاني: أنه اسم من أسماء القرآن , قاله قتادة. الثالث: أن معناه قضى والله , كما قيل في حم: حم والله , وهذا معنى قول مجاهد. الرابع: أنه اسم الجبل المحيط بالدنيا , قاله الضحاك. قال مقاتل: وعروق الجبال كلها منه. ويحتمل خامساً: أن يكون معناه قف؛ كما قال الشاعر:(5/339)
(قلت لها قفي فقالت قاف ... ... ... ...)
أي وقفت. ويحتمل ما أريد بوقفه عليه وجهين: أحدهما: قف على إبلاغ الرسالة لئلا تضجر بالتكذيب. الثاني: قف على العمل بما يوحى إليك لئلا تعجل على ما لم تؤمر به. {وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الكريم , قاله الحسن. الثاني: أنه مأخوذ من كثرة القدرة والمنزلة , لا من كثرة العدد من قولهم فلان كثير في النفوس , ومنه قول العرب في المثل السائر: لها في كل الشجر نار , واستجمد المرخ والعفار , أي استكثر هذان النوعان من النار وزاد على سائر الشجر , قاله ابن بحر. الثالث: أنه العظيم , مأخوذ من قولهم قد مجدت الإبل إذا أعظمت بطونها من كلأ الربيع. {والْقُرْءَانِ المَجِيدِ} قسم أقسم الله به تشريفاً له وتعظيماً لخطره لأن عادة جارية في القسم ألا يكون إلا بالمعظم. وجواب القسم محذوف ويحتمل وجهين: أحدهما: هو أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ} . الثاني: أنكم مبعوثون بدليل قوله: {إِئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} . قوله عز وجل: {بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيءٌ عَجِيبٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم عجبوا أن دعوا إلى إله واحد، قاله قتادة. الثاني: عجبوا أن جاءهم منذر منهم , من قبل الله تعالى. الثالث: أنهم عجبوا من إنذارهم بالبعث والنشور. قوله عز وجل: {قَدْ عَلمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُم} فيه وجهان: أحدهما: من يموت منهم، قاله قتادة.(5/340)
الثاني: يعني ما تأكله الأرض من لحومهم وتبليه من عظامهم , قاله الضحاك. {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} يعني اللوح المحفوظ. وفي حفيظ وجهان: أحدهما: حفيظ لأعمالهم. الثاني: لما يأكله التراب من لحومهم وأبدانهم وهو الذي تنقصه الأرض منهم. قوله عز وجل: {بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ ... } الآية. الحق يعني القرآن في قول الجميع. {مَرِيجٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن المريج المختلط. قاله الضحاك. الثاني: المختلف , قاله قتادة. الثالث: الملتبس , قاله الحسن. الرابع: الفاسد , قاله أبو هريرة. ومنه قول أبي دؤاد:
(مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد)(5/341)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
{أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} قوله عز وجل: {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} فيه وجهان: أحدهما: من شقوق. الثاني: من فتوق , قاله ابن عيسى إلا أن الملك تفتح له أبواب السماء عند العروج. قوله عز وجل: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أي بسطناها.(5/341)
{وَألْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} يعني الجبال الرواسي الثوابت , واحدها راسية قال الشاعر:
(رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل)
{مِن كُلِّ زَوْجٍ} أي من كل نوع. {بَهِيجٍ} فيه وجهان: أحدهما: حسن، مأخوذ من البهجة وهي الحسن. الثاني: سارّ مأخوذ من قولهم قد أبهجني هذا الأمر أي سرني , لأن السرور يحدث في الوجه من الإسفار والحمرة ما يصير به حسناً. قال الشعبي: الناس نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم , ومن دخل النار فهو لئيم. قوله عز وجل: {تَبْصِرَةً} فيها ثلاثة أوجه: أحدها: يعني بصيرة للإنسان , قاله مجاهد. الثاني: نعماً بصر الله بها عباده , قاله قتادة. الثالث: يعني دلالة وبرهاناً. {وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن المنيب المخلص , قاله السدي. الثاني: أنه التائب إلى ربه , قاله قتادة. الثالث: أنه الراجع المتذكر , قاله ابن بحر. وقد عم الله بهذه التبصرة والذكرى وإن خص بالخطاب كل عبد منيب لانتفاعه بها واهتدائه إليها. قوله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مََآءً مُّبَارَكاً} يعني المطر , لأنه به يحيا النبات والحيوان. {فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} فيها هنا وجهان: أحدهما: أنها البساتين، قاله الجمهور. الثاني: الشجر، قاله ابن بحر. {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} يعني البر والشعير، وكل ما يحصد من الحبوب، إذا تكامل واستحصد سمي حصيداً، قال الأعشى:(5/342)
(لسنا كما إياد دارها ... تكريث ينظر حبه أن يحصدا)
قوله عز وجل: {وَالنَّخْلَ بِاسَقَاتٍ} فيها وجهان: أحدهما: أنها الطوال , قاله ابن عباس ومجاهد. قاله الشاعر:
(يا ابن الذين بفضلهم ... بسقت على قيس فزاره)
أي طالت عليهم. (الثاني) أنها التي قد ثقلت من الحمل , قاله عكرمة. وقال الشاعر:
(فلما تركنا الدار ظلت منيفة ... بقران فيه الباسقات المواقر)
{نَضِيدٌ} أي منضود , فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن النضيد المتراكم المتراكب , قاله ابن عباس في رواية عكرمة عنه. الثاني: أنه المنظوم , وهذا يروى عن ابن عباس أيضاً. الثالث: أنه القائم المعتدل , قاله ابن الهاد. قوله عز وجل: {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} يعني ما أنزله من السماء من ماء مبارك , وما أخرجه من الأرض بالماء من نبات وحب الحصيد وطلع نضيد. {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مِّيتاً كَذِلكَ الْخُرُوجُ} جعل هذا كله دليلاً على البعث والنشور من وجهين: أحدهما: أن النشأة الأولى إذا خلقها من غير أصل كانت النشأة الثانية بإعادة ما له أصل أهون. الثاني: أنه لما شوهد من قدرته , إعادة ما مات من زرع ونبات كان إعادة من مات من العباد أولى للتكليف الموجب للجزاء.(5/343)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
{كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد}(5/343)
قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} في الرس وجهان: أحدهما: أنه كل حفرة في الأرض من بئر وقبر. الثاني: أنها البئر التي لم تطو بحجر ولا غيره. وأما أصحاب الرس ففيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنها بئر قتل فيها صاحب ياسين ورسوه، قاله الضحاك. الثاني: أنهم أهل بئر بأذربيجان , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم قوم باليمامة كان لهم آبار، قاله قتادة. قال الزهير:
(بكرن بكوراً واستحرن بسحرة ... فهن ووادي الرس كاليد في الفم)
الرابع: أنهم أصحاب الأخدود. {وَثَمُودُ} وهم قوم صالح , وكانوا عرباً بوادي القرى وما حولها. وثمود مأخوذ من الثمد وهو الماء القليل الكدر , قال النابغة:
(واحكم بحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثمد)
{وَعَادٌ} وهو اسم رجل كان من العماليق كثر ولده , فصاروا قبائل وكانوا باليمن بالأحقاف , والأحقاف الرمال , وهم قوم هود. {فِرْعَوْنَ} وقد اختلف في أصله فحكي عن مجاهد أنه كان فارسياً من أهل إصطخر. وقال ابن لهيعة: كان من أهل مصر وحكي عن ابن عباس أنه عاش ثلاثمائة سنة منها مائتان وعشرون سنة لا يرى ما يقذي عينه , فدعاه موسى ثمانين سنة. وحكى غيره أنه عاش أربعمائة سنة. واختلف في نسبه فقال بعضهم هو من لخم , وقال آخرون هو من تبَّع. {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} يعني قومه وأتباعه , قال مجاهد: كانوا أربعمائة ألف بيت، في كل بيت عشرة مردة، فكانوا أربعة آلاف ألف.(5/344)
وقال عطاء: ما من أحد من الأنبياء إلا وقد يقوم معه قوم إلا لوط فإنه يقوم وحده. {وَأَصَحَابُ الأَيْكَةِ} والأيكة الغيضة ذات الشجر الملتف كما قال أبو داود الإيادي:
(كأن عرين أيكته تلاقى ... بها جمعان من نبط وروم)
قال قتادة: وكان عامة شجرها الدوم , وكان رسولهم شعيباً , وأرسل إليهم , وإلى أهل مدين , أرسل إلى أمتين من الناس , وعذبتا بعذابين , أما أهل مدين فأخذتهم الصيحة , وأما أصحاب الأيكة فكانوا أهل شجر متكاوس. {وَقَوْمُ تُبَّعٍ} وتبع كان رجلاً من ملوك العرب من حِمير , سُمّي تبعاً لكثرة من تبعه. قال وهب: إن تبعاً أسلم وكفر قومه , فلذلك ذكر قومه , ولم يذكر تبع. قال قتادة وهو الذي حير الحيرة وفتح سمرقند حتى أخربها , وكان يكتب إذا كتب: بسم الله الذي تَسمَّى وملك براً وبحراً وضحى وريحاً. {كُلٌّ كَذَّبَ الرَّسَلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} يعني أن كل هؤلاء كذبوا من أرسل إليهم , فحق عليهم وعيد الله وعذابه. فذكر الله قصص هؤلاء لهذه الأمة , ليعلم المكذبون منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم أنهم كغيرهم من مكذبي الرسل إن أقاموا على التكذيب فلم يأمنوا , حتى أرشد الله منهم من أرشد وتبعهم رغباً ورهباً من تبع. قوله عز وجل: {أَفَعِيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هَمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} أما اللبس فهو اكتساب الشك , ومنه قول الخنساء:
(صدق مقالته واحذر عداوته ... والبس عليه بشك مثل ما لبسا)
والخلق الجديد هو إعادة خلق ثان بعد الخلق الأول. وفي معنى الكلام تأويلان: أحدهما: أفعجزنا عن إهلاك الخلق الأول , يعني من تقدم ذكره حين كذبوا رسلي مع قوتهم , حتى تشكوا في إهلاكنا لكم مع ضعفكم إن كذبتم , فيكون هذا خارجاً منه مخرج الوعيد.(5/345)
الثاني: معناه أننا لم نعجز عن إنشاء الخلق الأول , فكيف تشكون في إنشاء خلق جديد , يعني بالبعث بعد الموت , فيكون هذا خارجاً مخرج البرهان والدليل.(5/346)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
{ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} الوسوسة كثرة حديث النفس بما لا يتحصل في حفاء وإسرار , ومنه قول رؤبة:
(وسوس يدعو مخلصاً رب الفلق ... ... ... ... ... )
{وَنَحْنُ أَقْرَبٌ إِلَيهِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه حبل معلق به القلب , قاله الحسن. والأصم وهو الوتين. الثاني: أنه عرق في الحلق , قاله أبو عبيدة. الثالث: ما قاله ابن عباس , عرق العنق ويسمى حبل العاتق , وهما وريدان عن يمين وشمال , وسمي وريداً , لأنه العرق الذي ينصب إليه ما يرد من الرأس. وفي قوله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ} تأويلان: أحدهما: ونحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه.(5/346)
الثاني: ونحن أملك به من حبل وريده , مع استيلائه عليه. ويحتمل ثالثاً: ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده , الذي هو من نفسه , لأنه عرق يخالط القلب , فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب. قوله عز وجل: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ. .} الآية. قال الحسن ومجاهد وقتادة: المتلقيان ملكان يتلقيان عملك , أحدهما عن يمينك , يكتب حسناتك , والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. قال الحسن: حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. وفي {قَعِيدٌ} وجهان: أحدهما: أنه القاعدة , قاله المفضل. الثاني: المرصد الحافظ , قاله مجاهد. وهو مأخوذ من القعود. قال الحسن: الحفظة أربعة: ملكان بالنهار وملكان بالليل. قوله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} أي ما يتكلم بشيء , مأخوذ من لفظ الطعام , وهو إخراجه من الفم. {إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه المتتبع للأمور. الثاني: أنه الحافظ , قاله السدي. الثالث: أنه الشاهد , قاله الضحاك. وفي {عَتِيدٌ} وجهان: أحدهما: أنه الحاضر الذي لا يغيب. الثاني: أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة. قوله عز وجل: {وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله قد أوعده.(5/347)
الثاني: أن يكون الحق هو الموت , سمي حقاً , إما لاسحقاقه , وإما لانتقاله إلى دار الحق. فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير. وتقديره: وجاءت سكرة الحق بالموت , ووجدتها في قراءة ابن مسعود كذلك. {ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه كان يحيد من الموت , فجاءه الموت. الثاني: أنه يحيد من الحق , فجاءه الحق عند المعاينة. وفي معنى التحيد وجهان: أحدهما: أنه الفرار , قاله الضحاك. (الثاني) : العدول , قاله السدي. ومنه قول الشاعر:
(ولقد قلت حين لم يك عنه ... لي ولا للرجال عنه محيد.)
فروى عاصم بن أبي بهدلة , عن أبي وائل , أن عائشة قالت عند أبيها وهو يقضي:
(لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً , وضاق بها الصدر)
فقال أبو بكر: (هلا قلت كما قال الله] : وَجَآءَتْ سَكْرَتُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . قوله عز وجل: {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} أما السائق ففيه قولان: أحدهما: أنه ملك يسوقه إلى المحشر , قاله أبو هريرة وابن زيد. الثاني: أنه أمر من الله يسوقه إلى موضع الحساب , قاله الضحاك. وأما الشهيد ففيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه ملك يشهد عليه بعمله , وهذا قول عثمان بن عفان والحسن. الثاني: أنه الإنسان , يشهد على نفسه بعمله، رواه أبو صالح.(5/348)
الثالث: أنها الأيدي والأرجل تشهد عليه بعمله بنفسه , قاله أبو هريرة. ثم في الآية قولان: أحدهما: أنها عامة في المسلم والكافر , وهو قول الجمهور. الثاني: أنها خاصة في الكافر , قاله الضحاك. قوله عز وجل: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّن هَذَا} فيه وجهان: أحدهما أنه الكافر , كان في غفلة من عواقب كفره , قاله ابن عباس. الثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم , كان في غفلة عن الرسالة مع قريش في جاهليتهم , قاله عبد الرحمن بن زيد. ويحتمل ثالثاً: لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية. {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه إذا كان في بطن أمه فولد , قاله السدي. الثاني: إذا كان في القبر فنشر , وهذا معنى قول ابن عباس. الثالث: أنه وقت العرض في القيامة , قاله مجاهد. الرابع: أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة , وهذا معنى قول ابن زيد. {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} وفي المراد بالبصر هنا وجهان: أحدهما: بصيرة القلب لأنه يبصر بها من شواهد الأفكار , ونتائج الاعتبار ما تبصر العين ما قابلها من قبلها من الأشخاص والأجسام , فعلى هذا في قوله: {حَدِيدٌ} تأويلان: أحدهما: سريع كسرعة مور الحديد. الثاني: صحيح كصحة قطع الحديد. الوجه الثاني: أن المراد به بصر العين وهو الظاهر , فعلى هذا في قوله: {حَدِيدٌ} تأويلان: أحدهما: شديد، قاله الضحاك. الثاني: بصير، قاله ابن عباس.(5/349)
وماذا يدرك البصر؟ فيه خمسة أوجه: أحدها: يعاين الآخرة , قاله قتادة. الثاني: لسان الميزان , قاله الضحاك. الثالث: ما يصير إليه من ثواب أو عقاب , وهو معنى قول ابن عباس. الرابع: ما أمر به من طاعة وحذره من معصية , وهو معنى قول ابن زيد. الخامس: العمل الذي كان يعمله في الدنيا , قاله الحسن.(5/350)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
{وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} قوله عز وجل: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أما قرينه ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الملك الشهيد عليه , قاله الحسن وقتادة. الثاني: أنه قرينه الذي قيض له من الشياطين , قاله مجاهد. الثالث: أنه قرينه من الإنس , قاله ابن زيد في رواية ابن وهب عنه. وفي قوله: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} وجهان: أحدهما: هذا الذي وكلت به أحضرته , قاله مجاهد. الثاني: هذا الذي كنت أحبه ويحبني قد حضر , قاله ابن زيد. قوله عز وجل: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارِ عَنِيدٍ} في ألقيا ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المأمور بألقيا كل كافر في النار ملكان. الثاني: يجوز أن يكون واحد ويؤمر بلفظ الاثنين كقول الشاعر:
(فإن تزجراني يابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعاً)
الثالث: أنه خارج مخرج تثنية القول على معنى قولك ألق ألق، قف قف،(5/350)
تأكيداً للأمر. والكفار [بفتح الكاف] أشد مبالغة من الكافر. ويحتمل وجهين: أحدهما: أنه الكافر الذي كفر بالله ولم يطعه , وكفر بنعمه ولم يشكره. الثاني: أنه الذي كفر بنفسه وكفر غيره بإغوائه. وأما العنيد ففيه خمسة أوجه: أحدها: أنه المعاند للحق , قاله بعض المتأخرين. الثاني: أنه المنحرف عن الطاعة , قاله قتادة. الثالث: أنه الجاحد المتمرد , قاله الحسن. الرابع: أنه المشاق , قاله السدي. الخامس: أنه المعجب بما عنده المقيم على العمل به , قاله ابن بحر. فأما العاند ففيه وجهان: أحدهما: أنه الذي يعرف بالحق ثم يجحده. الثاني: أنه الذي يدعى إلى الحق فيأباه. قوله عز وجل: {مَنَّاعٍ لِّلْخير} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منع الزكاة المفروضة , قاله قتادة. الثاني: أن الخير المال كله , ومنعه حبسه عن النفقه في طاعة الله , قاله بعض المتأخرين. الثالث: محمول على عموم الخير من قول وعمل. {مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} في المريب ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الشاك في الله , قاله السدي. الثاني: أنه الشاك في البعث , قاله قتادة. الثالث: أنه المتهم. قال الشاعر:
(بثينة قالت يا جميل أربتنا ... فقلت كلانا يا بثين مريب)(5/351)
(وأريبنا من لا يؤدي أمانة ... ولا يحفظ الأسرار حين يغيب)
قال الضحاك: هذه الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي حين استشاره بنو أخيه في الدخول في الإسلام فمنعهم. قوله عز وجل: {قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ} فيه وجهان: أحدهما: أن اختصامهم هو اعتذار كل واحد منهم فيما قدم من معاصيه , قاله ابن عباس. الثاني: أنه تخاصم كل واحد مع قرينه الذي أغواه في الكفر , قاله أبو العالية. فأما اختصامهم في مظالم الدنيا , فلا يجوز أن يضاع لأنه يوم التناصف. أحدها: أن الوعيد الرسول , قاله ابن عباس. الثاني: أنه القرآن , قاله جعفر بن سليمان. الثالث: أنه الأمر والنهي , قاله ابن زيد. ويحتمل رابعاً: أنه الوعد بالثواب والعقاب. قوله عز وجل: {مَا يُبَدَّلُ الْقَولُ لَدَيَّ} فيه أربعة أوجه: أحدها: فيما أوجه من أمر ونهي , وهذا معنى قول ابن زيد. الثاني: فيما وعد به من طاعة ومعصية , وهو محتمل. الرابع: في أن بالحسنة عشر أمثالها وبخمس الصلوات خمسين صلاة , قاله قتادة. {وَمَآ أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} فيه وجهان: أحدهما: ما أنا بمعذب من لم يجرم , قاله ابن عباس. الثاني: ما أزيد في عقاب مسيء ولا أنقص من ثواب محسن , وهو محتمل.(5/352)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
{يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد}(5/352)
قوله عز وجل: {يَوْمَ نُقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنَ مَّزِيدٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هل يزاد إلى من ألقي غيرهم؟ فالاستخبار عمن بقي , قاله زيد بن أسلم. الثاني: معناه إني قد امتلأت , ممن ألقي في , فهل أسع غيرهم؟ قاله مقاتل. الثالث: معناه هل يزاد في سعتي؟ لإلقاء غير من ألقي في , قاله معاذ. وفي قوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} وجهان: أحدهما: أن زبانية جهنم قالوا هذا. الثاني: أن حالها كالمناطقة بهذا القول , كما قال الشاعر:
(امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني)
قوله عز وجل: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} في الأواب الحفيظ ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الذاكر ذنبه في الخلاء , قاله الحكم. الثاني: أنه الذي إذا ذكر ذنباً تاب واستغفر الله منه، قاله ابن مسعود ومجاهد والشعبي. الثالث: أنه الذي لا يجلس مجلساً فيقوم حتى يستغفر الله فيه، قاله عبيد بن عمير. وأما الحفيظ هنا ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه المطيع فيما أمر، وهو معنى قول السدي. الثاني: الحافظ لوصية الله بالقبول، وهو معنى قول الضحاك. الثالث: أنه الحافظ لحق الله بالاعتراف ولنعمه بالشكر، وهو معنى قول(5/353)
مجاهد. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ كَانَ أَوَّاباً حَفِيظاً) . قوله عز وجل: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه الذي يحفظ نفسه من الذنوب في السر كما يحفظها في الجهر. الثاني: أنه التائب في السر من ذنوبه إذا ذكرها , كما فعلها سراً. ويحتمل ثالثاً: أنه الذي يستتر بطاعته لئلا يداخلها في الظاهر رياء. ووجدت فيه لبعض المتكلمين. رابعاً: أنه الذي أطاع الله بالأدلة ولم يره. {وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه المنيب المخلص , قاله السدي. الثاني: أنه المقبل على الله , قاله سفيان. الثالث: أنه التائب , قاله قتادة. {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ} يعني ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم. {وَلَدَينَا مَزِيدٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن المزيد من يزوج بهن من الحور العين , رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً. الثاني: أنها الزيادة التي ضاعفها الله من ثوابه بالحسنة عشر أمثالها. وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل أخبره: أن يوم الجمعة يدعى في الآخرة يوم المزيد. وفيه وجهان: أحدهما: لزيادة ثواب العمل فيه.(5/354)
الثاني: لما روي أن الله تعالى يقضي فيه بين خلقه يوم القيامة.(5/355)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
{وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} قوله عز وجل: {فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ} فيه أربعة أوجه: احدها: أثروا في البلاد , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم ملكوا في البلاد , قاله الحسن. الثالث: ساروا في البلاد وطافوا , قاله قتادة , ومنه قول امرىء القيس:
(وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب)
الرابع: أنهم اتخذوا فيها طرقاً ومسالك , قاله ابن جريج. ويحتمل خامساً: أنه اتخاذ الحصون والقلاع. {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هل من منجٍ من الموت , قاله ابن زيد. الثاني: هل من مهرب , قال معمر عن قتادة: حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله تعالى لهم مدركاً. الثالث: هل من مانع؟ قال سعيد عن قتادة: حاص الفجرة , فوجدوا أمر الله منيعاً. قوله عز وجل: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} فيه وجهان: أحدهما: لمن كان له عقل , قاله مجاهد , لأن القلب محل العقل.(5/355)
الثاني: لمن كانت له حياة ونفس مميزة , فعبر عن النفس الحية بالقلب لأنه وطنها ومعدن حياتها. كما قال امرؤ القيس:
(أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل)
{أوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ألقى السمع فيما غاب عنه بالأخبار , وهو شهيد فيما عاينه بالحضور. الثاني: معناه سمع ما أنزل الله من الكتب وهو شهيد بصحته. الثالث: سمع ما أنذر به من ثواب وعقاب , وهو شهيد على نفسه بما عمل من طاعة أو معصية. وفي الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها في جميع أهل الكتب , قاله قتادة. الثاني: أنها في اليهود والنصارى خاصة , قاله الحسن. الثالث: أنها في أهل القرآن خاصة , قاله محمد بن كعب وأبو صالح. قوله عز وجل: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} واللغوب التعب والنصب. قال الراجز:
(إذا رقى الحادي المطي اللغبا ... وانتعل الظل فصار جوربا)
قال قتادة والكلبي: نزلت هذه الآية في يهود المدينة , زعموا أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام أولها يوم الأحد , وآخرها يوم الجمعة , واستراح في يوم السبت , ولذلك جعلوه يوم راحة , فأكذبهم الله في ذلك. قوله عز وجل: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم , أمر فيه بالصبر على ما يقوله المشركون , إما من تكذيب أو وعيد. {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} الآية. وهذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم , فهو عام له ولأمته. وفي هذا التسبيح وجهان: أحدهما: أنه تسبيحه بالقول تنزيهاً قبل طلوع الشمس وقبل الغروب , قاله أبو الأحوص.(5/356)
الثاني: أنها الصلاة ومعناه فصلِّ بأمر ربك قبل طلوع الشمس , يعني صلاة الصبح , وقبل الغروب , يعني صلاة العصر , قاله أبو صالح ورواه جرير بن عبد الله مرفوعاً. قوله عز وجل: {وَمِنَ اللَّيلِ فَسَبِّحْهُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه تسبيح الله تعالى قولاً في الليل , قاله أبو الأحوص. الثاني: أنها صلاة الليل , قاله مجاهد. الثالث: أنها ركعتا الفجر , قاله ابن عباس. الرابع: أنها صلاة العشاء الآخرة , قاله ابن زيد. ثم قال {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه التسبيح في أدبار الصلوات , قاله أبو الأحوص. الثاني: أنها النوافل بعد المفروضات , قاله ابن زيد. الثالث: أنها ركعتان بعد المغرب , قاله علي رضي الله عنه وأبو هريرة. وروى ابن عباس قال: بت ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم , فصلى ركعتين قبل الفجر , ثم خرج إلى الصلاة فقال: (يا ابن عباس رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ أَدْبَارَ النُّجُومِ , وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمِغْرِبِ أَدْبَارَ السُّجُودِ) .(5/357)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
{واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار(5/357)
فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} قوله عز وجل: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنَادِ} هذه الصيحة التي ينادي بها المنادي من مكان قريب هي النفخة الثانية التي للبعث إلى أرض المحشر. ويحتمل وجهاً آخر , أنه نداؤه في المحشر للعرض والحساب. وفي قوله: {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} وجهان: أحدهما: أنه يسمعها كل قريب وبعيد , قاله ابن جريج. الثاني: أن الصيحة من مكان قريب. قال قتادة: كنا نحدث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة وهي أوسط الأرض: يا أيتها العظام البالية , قومي لفصل القضاء وما أعد من الجزاء. وحدثنا , أن كعباً قال: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً. قوله عز وجل: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} فيه وجهان: أحدهما: يعني بقول الحق. الثاني: بالبعث الذي هو حق. {ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} فيه وجهان: أحدهما: الخروج من القبور. الثاني: أن الخروج من أسماء القيامة. قال العجاج:
(وليس يوم سمي الخروجا ... أعظم يوم رجه رجوجا)
قوله عز وجل: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: نحن أعلم بما يجيبونك من تصديق أو تكذيب. الثاني: بما يسرونه من إيمان أو نفاق. {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني برب، قاله الضحاك، لأن الجبار هو الله تعالى سلطانه.(5/358)
الثاني: متجبر عليهم متسلط، قاله مجاهد. ولذلك قيل لكل متسلط جبار. قال الشاعر:
(وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من صعره فتقوما)
وهو من صفات المخلوقين ذم. الثالث: أنك لا تجبرهم على الإسلام من قولهم قد جبرته على الأمر إذا قهرته على أمر , قاله الكلبي. {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} الوعيد العذاب , والوعد الثواب. قال الشاعر:
(وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي)
قال قتادة: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك. وروي أنه قيل: يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت {فَذَكِّرْ بِالْقُرءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} .(5/359)
سورة الذاريات
بسم الله الرحمن الرحيم(5/360)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
{والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسألون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} الذاريات: الرياح , واحدتها ذارية لأنها تذرو التراب والتبن أي تفرقه في الهواء , كما قال تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} وفي قوله {ذَرْواً} وجهان: أحدهما: مصدر. الثاني: أنه بمعنى ما ذرت , قاله الكلبي. فكأنما أقسم بالرياح وما ذرت الرياح. ويحتمل قولاً ثالثاً: أن الذاريات النساء الولودات لأن في ترائبهن ذرو الخلق , لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات , وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده(5/360)
الصالحين , وخص النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذارياً لأمرين. أحدهما: لأنهن اوعية دون الرجال فلاجتماع الذروين خصصن بالذكر. الثاني: أن الذرو فيهن أطول زماناً وهن بالمباشرة أقرب عهداً. {فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً} فيها قولان: أحدهما: أنها السحب [يحملن] وِقْراً بالمطر. الثاني أنها الرياح [يحملن] وِقْراً بالسحاب , فتكون الريح الأولى مقدمة السحاب لأن أمام كل سحابة ريحاً , والريح الثانية حاملة السحاب. لأن السحاب لا يستقل ولا يسير إلا بريح. وتكون الريح الثانية تابعة للريح الأولى من غير توسط , قاله ابن بحر. ويجري فيه احتمال قول: ثالث: أنهن الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل , والوقر ثقل الحمل على ظهر أو في بطن , وبالفتح ثقل الأذن. {فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} فيها قولان: أحدهما: السفن تجري بالريح يسراً إلى حيث سيرت. الثاني: أنه السحاب , وفي جريها يسراً على هذا القول وجهان: أحدهما: إلى حيث يسيرها الله تعالى من البقاع والبلاد. الثاني: هو سهولة تسييرها , وذلك معروف عند العرب كما قال الأعشى:
(كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة ولا ريث لا عجل)
{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} فيه قولان: أحدهما: أنه السحاب يقسم الله به الحظوظ بين الناس. الثاني: الملائكة التي تقسم أمر الله في خلقه , قاله الكلبي. وهم: جبريل وهو صاحب الوحي والغلظة , وميكائيل وهو صاحب الرزق والرحمة , وإسرافيل وهو صاحب الصور واللوح , وعزرائيل وهو ملك الموت وقابض الأرواح , عليهم السلام.(5/361)
والواو التي فيها واو القسم , أقسم الله بها لما فيها من الآيات والمنافع. {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} فيه وجهان: أحدهما: إن يوم القيامة لكائن , قاله مجاهد. الثاني: ما توعدون من الجزاء بالثواب والعقاب حق , وهذا جواب القسم. {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} فيه وجهان: أحدهما: إن الحساب لواجب , قاله مجاهد. الثاني: [أن] الدين الجزاء ومعناه أن جزاء أعمالكم بالثواب والعقاب لكائن , وهو معنى قول قتادة , ومنه قول لبيد.
(قوم يدينون بالنوعين مثلهما ... بالسوء سوء وبالإحسان إحسانا)
{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} في السماء ها هنا وجهان: أحدهما: أنها السحاب الذي يظل الأرض. الثاني: وهو المشهور أنها السماء المرفوعة , قال عبد الله بن عمر: هي السماء السابعة. وفي {الْحُبُكِ} سبعة أقاويل: أحدها: أن الحبك الاستواء , وهو مروي عن ابن عباس على اختلاف. الثاني: أنها الشدة , وهو قول أبي صالح. الثالث: الصفاقة , قاله خصيف. الرابع: أنها الطرق , مأخوذ من حبك الحمام طرائق على جناحه، قاله الأخفش، وأبو عبيدة. الخامس: أنه الحسن والزينة، قاله علي وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير ومنه قول الراجز:
(كأنما جللها الحواك ... كنقشة في وشيها حباك)(5/362)
السادس: أنه مثل حبك الماء إذا ضربته الريح , قاله الضحاك. قال زهير:
(مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح الشمال لضاحي مائة حبك)
السابع: لأنها حبكت بالنجوم , قاله الحسن. وهذا قسم ثان. {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني في أمر مختلف , فمطيع وعاص , ومؤمن وكافر , قاله السدي. الثاني: أنه القرآن فمصدق له ومكذب به , قاله قتادة. الثالث: انهم أهل الشرك مختلف عليهم بالباطل , قاله ابن جريج. ويحتمل رابعاً: أنهم عبدة الأوثان والأصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره. وهذا جواب القسم الثاني. {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} فيه ستة تأويلات: أحدها: يضل عنه من ضل , قاله ابن عباس. الثاني: يصرف عنه من صرف , قاله الحسن. الثالث: يؤفن عنه من أفن , قاله مجاهد , والأفن فساد العقل. الرابع: يخدع عنه من خدع , قاله قطرب. الخامس: يكذب فيه من كذب , قاله مقاتل. السادس: يدفع عنه من دفع , قاله اليزيدي. {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: لعن المرتابون، قاله ابن عباس. الثاني: لعن الكذابون، قاله الحسن. الثالث: أنهم أهل الظنون والفرية، قاله قتادة. الرابع: أنهم المنهمكون , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. وقوله: {قُتِلَ} ها هنا، بمعنى لعن، والقتل اللعن. وأما الخراصون فهو جمع خارص. وفي الخرص ها هنا وجهان:(5/363)
أحدهما: أنه تعمد الكذب , قاله الأصم. الثاني: ظن الكذب , لأن الخرص حزر وظن , ومنه أخذ خرص الثمار. وفيما يخرصونه وجهان: أحدهما: تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم. الثاني: التكذيب بالبعث. وفي معنى الأربع تأويلات وقد تقدم ذكرها في أولها {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في غفلة لاهون , قاله ابن عباس. الثاني: في ضلالاتهم متمادون , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: في عمى وشبهة يترددون , قاله قتادة. ويحتمل رابعاً: الذين هم في مأثم المعاصي ساهون عن أداء الفرائض. {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أي متى يوم الجزاء. وقيل: إن أيان كلمة مركبة من أي وآن. {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} في {يُفْتَنُونَ} ثلاثة أوجه: أحدها: أي يعذبون , قاله ابن عباس , ومنه قول الشاعر:
(كل امرىء من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور مفتون)
الثاني: يطبخون ويحرقون , كما يفتن الذهب بالنار , وهو معنى قول عكرمة والضحاك. الثالث: يكذبون توبيخاً وتقريعاً زيادة في عذابهم. {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} الآية. فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معنى فتنتكم أي عذابكم , قاله ابن زيد. الثاني: حريقكم , قاله مجاهد. الثالث: تكذبيكم , قاله ابن عباس.(5/364)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
{إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم(5/364)
حق للسائل والمحروم وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} {ءَآخِذِينَ مَآ َاتَاهُمْ رَبُّهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: من الفرائض , قاله ابن عباس. الثاني: من الثواب , قاله الضحاك. {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذلِكَ مُحسِنِينَ} أي قبل الفرائض محسنين بالإجابة، قاله ابن عباس. الثاني: قبل يوم القيامة محسنين بالفرائض، قاله الضحاك. {كَانُواْ قَلْيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} فيه وجهان: أحدهما: راجع على ما تقدم من قوله {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً} بمعنى أن المحسنين كانوا قليلاً , ثم استأنف: من الليل ما يهجعون , قاله الضحاك. الثاني: أنه خطاب مستأنف بعد تمام ما تقدمه , ابتداؤه كانوا قليلاً , الآية. والهجوع: النوم , قال الشاعر:
(أزالكم الوسمي أحدث روضه ... بليل وأحداق الأنام هجوع)
وفي تأويل ذلك أربعة أوجه: أحدها {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} أي يستيقظون فيه فيصلون ولا ينامون إلا قليلاً , قاله الحسن. الثاني: أن منهم قليلاً ما يهجعون للصلاة في الليل وإن كان أكثرهم هجوعاً , قاله الضحاك. الثالث: أنهم كانوا في قليل من الليل ما يهجعون حتى يصلوا صلاة المغرب وعشاء الآخرة , قاله أبو مالك. الرابع: أنهم كانوا قليلاً يهجعون , وما: صلة زائدة , وهذا لما كان قيام الليل(5/365)
فرضاً. وكان أبو ذر يحتجن يأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} . {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: وبالأسحار هم يصلون , قاله الضحاك. الثاني: أنهم كانوا يؤخرون الاستغفار من ذنوبهم إلى السحر ليستغفروا فيه , قاله الحسن. قال ابن زيد: وهو الوقت الذي أخر يعقوب الاستغفار لبنيه حتى استغفر لهم فيه حين قال لهم {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98] . قال ابن زيد: والسحر السدس الأخير من الليل. وقيل إنما سمي سحراً لاشتباهه بين النور والظلمة. {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} فيه وجهان: أحدهما: أنها الزكاة , قاله ابن سيرين وقتادة وابن أبي مريم. الثاني: أنه حق سوى الزكاة تصل له رحماً أو تقري به ضيفاً أو تحمل به كلاًّ أو تغني به محروماً , قاله ابن عباس. {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أما السائل فهو مَن يسأل الناس لفاقته , وأما المحروم , ففيه ثمانية أقوال: أحدها: المتعفف الذي يسأل الناس شيئاً ولا يعلم بحاجته , قاله قتادة. الثاني: أنه الذي يجيء بعد الغنيمة وليس له فيها سهم , قاله الحسن ومحمد بن الحنفية. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا وغنموا , فجاء قوم بعدما فرغوا فنزلت الآية. الثالث: أنه من ليس له سهم في الإسلام , قاله ابن عباس. الرابع: المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه , وهذا قول عائشة. الخامس: أنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. السادس: أنه المصاب بثمره وزرعه يعينه من لم يصب , قاله ابن زيد: السابع: أنه المملوك , قاله عبد الرحمن بن حميد.(5/366)
الثامن: أنه الكلب , روي أن عمر بن عبد العزيز كان في طريق مكة فجاء كلب فاحتز عمر كتف شاة فرمى بها إليه وقال: يقولون إنه المحروم. ويحتمل تاسعاً: أنه من وجبت نفقته من ذوي الأنساب لأنه قد حرم كسب نفسه , حتى وجبت نفقته في مال غيره. {وَفِي الأَرْضِءَآيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} يعني عظات للمعتبرين من أهل اليقين وفيها وجهان: أحدهما: ما فيها من الجبال والبحار والأنهار , قاله مقاتل. الثاني: من أهلك من الأمم السالفة وأباد من القرون الخالية , قاله الكلبي. {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه سبيل الغائط والبول , قاله ابن الزبير ومجاهد. الثاني: تسوية مفاصل أيديكم وأرجلكم وجوارحكم دليل على أنكم خلقتم لعبادته , قاله قتادة. الثالث: في خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون , قاله ابن زيد. الرابع: في حياتكم وموتكم وفيما يدخل ويخرج من طعامكم , قاله السدي. الخامس: في الكبر بعد الشباب , والضعف بعد القوة , والشيب بعد السواد , قاله الحسن. ويحتمل سادساً: أنه نجح العاجز وحرمان الحازم. {وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} : {وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق فهو رزق لهم من السماء , قاله سعيد بن جبير والضحاك. الثاني: يعني أن من عند الله الذي في السماء رزقكم.(5/367)
ويحتمل وجهاً ثالثاً: وفي السماء تقدير رزقكم وما قسمه لكم مكتوب في أم الكتاب. وأما قوله {وَمَا تُوعَدُونَ} ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: من خير وشر , قاله مجاهد. الثاني: من جنة ونار , قاله الضحاك. الثالث: من أمر الساعة , قاله الربيع. {فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} فيه وجهان: أحدهما: ما جاء به الرسول من دين وبلغه من رسالة. الثاني: ما عد الله عليهم في هذه السورة من آياته وذكره من عظاته. قال الحسن: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قَاتَلَ اللَّهُ أَقْوَاماً أَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [بِنَفْسِهِ] ثُمَّ لَمْ يُصَدِّقُوهُ) . وقد كان قس بن ساعدة في جاهليته ينبه بعقله على هذه العبر فاتعظ واعتبر , فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رَأَيتُهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ بِعُكَاظَ وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُواْ وَعُوا , مِنْ عَاشَ مَاتَ , وَمَن مَّاتَ فَاتَ , وَكُلُّ مَا هُوَاءَآتٍ ءآتٍ , مَا لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلاَ يَرْجِعُونَ؟ أَرَضُواْ بِالإِقَامَةِ فَأَقَامُواْ؟ أَمْ تُرِكُوا فَنَاموا؟ إِنَّ فِي السَّمَآءِ لَخَبَراً , وَإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَراً , سَقْفٌ مَرْفُوعٌ , وَلَيلٌ مَوضُوعٌ , وَبِحَارٌ تَثُورٌ , وَنُجُومٌ تَحُورُ ثُمَّ تَغُورُ , أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً مَاءَاثَمُ فِيهِ , إِنَّ للهِ دِيناً هُوَ أَرْضَى مِن دِينٍ أَنتُم عَلَيهِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ بِأَبْيَاتِ شِعْرٍ مَأ أَدْرِي مَا هِيَ) فقال أبو بكر: كنت حاضراً إذ ذاك والأبيات عندي وأنشد:
(في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر)
(لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر)
(ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابر والأصاغر)
(لا يرجع الماضي إليَّ ... ولا من الباقين غابر)
(أيقنت أني لامحا ... له حيث صار القوم صائر)(5/368)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ) . ونحن نسأل الله تعالى مع زاجر العقل ورادع السمع أن يصرف نوازع الهوى ومواقع البلوى. فلا عذر مع الإنذار , ولا دالة مع الاعتبار , وأن تفقهن الرشد تدرك فوزاً منه وتكرمة.(5/369)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
{هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم} {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} قال عثمان بن محسن: كانوا أربعة من الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل ورفائيل. وفي قوله {الْمُكْرَمِينَ} وجهان: أحدهما: أنهم عند الله المعظمون. الثاني: مكرمون لإكرام إبراهيم لهم حين خدمهم بنفسه , قاله مجاهد. قال عطاء: وكان إبراهيم إذا أراد أن يتغذى , أو يتعشى خرج الميل والميلين والثلاثة , فيطلب من يأكل معه. قال عكرمة: وكان إبراهيم يكنى أبا الضيفان , وكان لقصره أربعة أبواب لكي لا يفوته أحد. وسمي الضيف ضيفاً , لإضافته إليك وإنزاله عليك. {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيهِ فَقَالُواْ سَلاَماً} فيه وجهان: أحدهما: قاله الأخفش , أي مسالمين غير محاربين لتسكن نفسه.(5/369)
الثاني: أنه دعا لهم بالسلامة , وهو قول الجمهور , لأن التحية بالسلام تقتضي السكون والأمان , قال الشاعر:
(أظلوم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم)
فأجابهم إبراهيم عن سلامتهم بمثله: {قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مَنكَرُونَ} لأنه رآهم على غير صورة البشر وعلى غير صورة الملائكة الذين كان يعرفهم , فنكرهم وقال {قَوْمٌ مَنكَرُونَ} وفيه وجهان: أحدهما: أي قوم لا يعرفون. الثاني: أي قوم يخافون , يقال أنكرته إذا خفته , قال الشاعر:
(فأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا)
{فَرَاغَ إِلى أَهْلِهِ} فيه وجهان: أحدهما: فعدل إلى أهله , قاله الزجاج. الثاني: أنه أخفى ميله إلى أهله. {فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} أما العجل ففي تسميته بذلك وجهان: أحدهما: لأن بني إسرائيل عجلوا بعبادته. الثاني: لأنه عجل في اتباع أمه. قال قتادة: جاءهم بعجل لأن كان عامة مال إبراهيم البقر , واختاره لهم سميناً زيادة في إكرامهم , وجاء به مشوياً , وهو محذوف من الكلام لما فيه من الدليل عليه. فروى عون ابن أبي شداد أن جبريل مسح العجل بجناحه فقام يدرج , حتى لحق بأمه , وأم العجل في الدار. {فَقَرَّبَهُ إِلَيهِم قَالَ أَلاَ تَأَْكُلُونَ} لأنهم امتنعوا من الأكل لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون , فروى مكحول أنهم قالوا لا نأكله إلا بثمن , قال كلوا فإن له ثمناً , قالوا وما ثمنه؟ قال: إذا وضعتم أيديكم أن تقولوا: بسم الله , وإذا فرغتم أن تقولوا: الحمد لله , قالوا: بهذا اختارك الله يا إبراهيم.(5/370)
{فَأوْجَسَ مِنهُمْ خِيفَةً} لأنهم لم يأكلوا , خاف أن يكون مجيئهم إليه لشر يريدونه به. {قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ} فيه قولان: أحدهما: أنه إسحاق من سارة , استشهاداً بقوله تعالى في آية أخرى {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات: 112] . الثاني: أنه إسماعيل من هاجر , قاله مجاهد. {عَلِيمٍ} أي يرزقه الله علماً إذا كبر. {فَأَقْبَلَتِ امْرَأتُهُ فِي صَرَّةٍ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: الرنة والتأوه , قاله قتادة , ومنه قول الشاعر:
(وشربة من شراب غير ذي نفس ... في صرة من تخوم الصيف وهاج)
الثاني: أنها الصيحة , قاله ابن عباس ومجاهد , ومنه أخذ صرير الباب , ومنه قول امرىء القيس:
(فألحقه بالهاديات ودونه ... جواحرها في صرة لم تزيل)
الثالث: أنها الجماعة , قاله ابن بحر , ومنه المصراة من الغنم لجمع اللبن في ضرعها. وسميت صرة الدراهم فيها , قال الشاعر:
(رب غلام قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان سنبته)
وأما قوله {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} ففيه قولان: أحدهما: معناه لطخت وجهها , قاله ابن عباس. الثاني: أنها ضربت جبينها تعجباً. {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي , أتلد عجوز عقيم؟ قاله مجاهد والسدي.(5/371)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
{قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل(5/371)
عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين} {فَتَوَلَّى} يعني فرعون , وفي توليه وجهان: أحدهما: أدبر. الثاني: أقبل , وهو من الأضداد. {بِرُكْنِهِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: بجموعه وأجناده , قاله ابن زيد. الثاني: بقوته , قاله ابن عباس , ومنه قول عنترة:
(فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني.)
الثالث: بجانبه , قاله الأخفش. الرابع: بميله عن الحق وعناده بالكفر , قاله مقاتل. ويحتمل خامساً بماله لأنه يركن إليه ويتقوى به. {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن العقيم هي الريح التي لا تلقح , قاله ابن عباس. الثاني: هي التي لا تنبث , قاله قتادة. الثالث: هي التي ليس فيها رحمة , قاله مجاهد.(5/372)
الرابع: هي التي ليس فيها منفعة , قاله ابن عباس. وفي الريح التي هي عقيم ثلاثة أقاويل: أحدها: الجنوب , روى ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الريح العقيم الجنوب) . الثاني الدبور , قاله مقاتل. قال عليه السلام: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور) الثالث: هي ريح الصبا , رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. {إِلاَّ جَعَلْتْهُ كَالرَّمِيمِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الرميم التراب , قاله السدي. الثاني: أنه الذي ديس من يابس النبات , وهذا معنى قول قتادة. الثالث أن الرميم: الرماد , قاله قطرب. الرابع: أنه الشيء البالي الهالك , قاله مجاهد , ومنه قول الشاعر:
(تركتني حين كف الدهر من بصري ... وإذ بقيت كعظم الرمة البالي)(5/373)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
{والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين} {وَالسَّمَآءِ بَنَيْنَاهَا بِأيْدٍ} أي بقوة. {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} فيه خمسة أوجه: أحدها: لموسعون في الرزق بالمطر , قاله الحسن. الثاني: لموسعون السماء , قاله ابن زيد. الثالث: لقادرون على الاتساع بأكثر من اتساع السماء.(5/373)
الرابع: لموسعون بخلق سماء ملثها , قاله مجاهد. الخامس: لذوو سعة لا يضيق علينا شيء نريده. {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه خلق كل جنس نوعين. الثاني: أنه قضى أمر خلقه ضدين صحة وسقم , وغنى وفقر , وموت وحياة , وفرح وحزن , وضحك وبكاء. وإنما جعل بينكم ما خلق وقضى زوجين ليكون بالوحدانية متفرداً. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: تعلمون بأنه واحد. الثاني: تعلمون أنه خالق. {فَفِرُّوْا إِلّى اللَّهِ} أي فتوبوا إلى الله.(5/374)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
{كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتول عنهم فما أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون} {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: فذكر بالقرآن , قاله قتادة. الثاني: فذكر بالعظة فإن الوعظ ينفع المؤمنين , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: وذكر بالثواب والعقاب فإن الرغبة والرهبة تنفع المؤمنين. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِ وَالإِنسَ إلاَّ لَيَعْبُدُونِ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: إلا ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً , قاله ابن عباس. الثاني: إلا لآمرهم وأنهاهم , قاله مجاهد.(5/374)
الثالث: إلا لأجبلهم على الشقاء والسعادة , قاله زيد بن أسلم. الرابع: إلا ليعرفوني , قاله الضحاك. الخامس: إلا للعبادة , وهو الظاهر , وبه قال الربيع بن انس. {مَآ أُرِيدُ مِنْهُمْ مَّنْ رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم. الثاني: ما أنفسهم , قاله أبو الجوزاء. الثالث: ما أريد منهم معونة ولا فضلاً. {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: عذاباً مثل عذاب أصحابهم , قاله عطاء. الثاني: يعني سبيلاً , قاله مجاهد. الثالث: يعني بالذنوب الدلو , قاله ابن عباس , قال الشاعر:
(لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب)
ولا يسمى الذنوب دلواً حتى يكون فيه ماء. الرابع: يعني بالذنوب النصيب , قال الشاعر:
(وفي كل يوم قد خبطت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب)
ويعني بأصحابهم من كذب بالرسل من الأمم السالفة ليعتبروا بهلاكهم. {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} أي فلا يستعجلوا نزول العذاب بهم لأنهم قالوا: {يا مُحَمَّدُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} الآية , فنزل بهم يوم بدر , ما حقق الله وعده , وعجل به انتقامه.(5/375)
سورة الطور
بسم الله الرحمن الرحيم(5/376)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
{والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون} قوله تعالى {وَالطُّورِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه اسم للجبل بالسريانية , قاله مجاهد. قال مقاتل: يسمى هذا الطور زبير. الثاني: أن الطور ما أنبت , وما لا ينبت فليس بطور , قاله ابن عباس , وقال الشاعر:
(لو مر بالطور بعض ناعقة ... ما أنبت الطور فوقه ورقة)(5/376)
ثم في هذا الطور الذي أقسم الله به ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه طور سيناء , قاله السدي. الثاني: أنه الطور الذي كلم الله عليه موسى , قاله ابن قتيبة. الثالث: أنه جبل مبهم , قاله الكلبي. وأقسم الله به تذكيراً بما فيه من الدلائل. وقال بعض المتعمقة: إن الطور ما يطوى على قلوب الخائفين. {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} أي مكتوب , وفي أربعة أقاويل: أحدها: أنه الكتاب الذي كتب الله لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون. الثاني: أنه القرآن مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ. الثالث: هي صحائف الأعمال فمن أخذ كتابه بيمينه , ومن آخذ كتابه بشماله , قاله الفراء. الرابع: التوراة قاله ابن بحر. {فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: الصحيفة المبسوطة وهي التي تخرج للناس أعمالهم , وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها , قال المتلمس:
(فكأنما هي من تقادم عهدها ... رق أتيح كتابها مسطور)
الثاني: هو ورق مكتوب , قاله أبو عبيدة. الثالث: هو ما بين المشرق والمغرب , قاله ابن عباس.(5/377)
{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: ما روى قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُتِيَ بِيَ إِلَى السَّمَاءِ فَرُفِعَ لَنَا الْبَيتُ المَعْمُورُ , فَإِذَا هُوَ حِيالُ الكَعْبَةِ , لَوْ خَرَّ خَرَّ عَلَيهَا , يَدْخُلُهُ كُلَّ يَومٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ , إِذَا خَرَجُوا مِنهُ لَمْ يَعُودُوا إِلَيهِ) قاله علي وابن عباس. الثاني: ما قاله السدي: أن البيت المعمور , هو بيت فوق ست سموات , ودون السابعة , يدعى الضراح , يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك من قبيلة إبليس لا يرجعون إليه أبداً , وهو بحذاء البيت العتيق. الثالث: ما قاله الربيع بن أنس , أن البيت المعمور كان في الأرض في موضع الكعبة في زمان آدم , حتى إذا كان زمان نوح أمرهم أن يحجوا , فأبوا عليه وعصوه , فما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا , فيعمره , فبوأ الله لإبراهيم الكعبة البيت الحرام حيث كان , قاله الله تعالى: {وَإِِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيْمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الآية. الرابع: ما قاله الحسن أن البيت المعمور هو البيت الحرام. وفي {الْمَعْمُورِ} وجهان: أحدهما: أنه معمور بالقصد إليه. الثاني: بالمقام عليه , قال الشاعر:
(عمر البيت عامر ... إذ أتته جآذر)
(من ظباء روائح ... وظباء تباكر)
وتأول سهل أنه القلب , عمارته إخلاصه , وهو بعيد. {وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه السماء , قاله علي. الثاني: أنه العرش، قاله الربيع. {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه جهنم , رواه صفوان بن يعلى عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: هو بحر تحت العرش، رواه أبو صالح عن علي رضي الله عنه. الثالث: هو بحر الأرض، وهو الظاهر.(5/378)
وفي قوله: {الْمَسْجُورِ} سبعة تأويلات: أحدها: المحبوس، قاله ابن عباس والسدي. الثاني: أنه المرسل، قاله سعيد بن جبير. الثالث: الموقد ناراً، قاله مجاهد. الرابع: أنه الممتلىء، قاله قتادة. الخامس: أنه المختلط، قاله ابن بحر. السادس: أنه الذي قد ذهب ماؤه ويبس، رواه ابن أبي وحشية عن سعيد بن جبير. السابع: هو الذي لا يشرب من مائه ولا يسقى به زرع، قاله العلاء بن زيد. هذا آخر القسم، وجوابه: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لوَاقِعٌ} روى الكلبي: أن جبير بن مطعم قدم المدينة ليفدي حريفاً له يقال له مالك أسر يوم بدر، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة [المغرب] يقرأ {وَالطُّورِ} فجلس مستمعاً، حتى بلغ قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} فأسلم جبير خوفاً من العذاب، وجعل يقول: ما كنت أظن أن أقوم من مقامي، حتى يقع بي العذاب. {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً} فيه سبعة تأويلات أحدها: معناه تدور دوراً , قاله مجاهد , قال طرفة بن العبد:
(صهابية العثنون موجدة القرا ... بعيدة وخد الرجل موارة اليد.)
الثاني: تموج موجاً , قاله الضحاك. الثالث: تشقق السماء , قاله ابن عباس لقوله تعالى {فَإِذَا بُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} الآية. الرابع: تجري السماء جرياً , ومنه قول جرير:
(وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل)
الخامس: تتكفأ بأهلها , قاله أبو عبيدة وأنشد بيت الأعشى:(5/379)
(كأن مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة لا ريث ولا عجل)
السادس: تنقلب انقلاباً. السابع: أن السماء ها هنا الفلك , وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره , قاله ابن بحر. {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} فيه تأويلان: أحدهما: يدفعون دفعاً عنيفاً ومنه قول الراجز:
(يدعه بصفحتي حيزومه ... دع الوصي جانبي يتيمه)
قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وابن زيد. الثاني: يزعجون إزعاجاً , قاله قتادة. ويحتمل ثالثاً: أن يدعهم زبانيتها بالدعاء عليهم.(5/380)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
{إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين} {فَاكِهِينَ بِمَآ ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ} فيه خمسة أوجه: أحدها: معجبين، قاله ابن عباس. الثاني: ناعمين، قاله قتادة. الثالث: فرحين، قاله السدي. الرابع: المتقابلين بالحديث الذي يسر ويؤنس , مأخوذ من الفكاهة , قاله ابن بحر. الخامس: ذوي فاكهة كما قيل: لابن وتامر , أي ذو لبن وتمر , قاله عبيدة , ومعنى ذلك، أنهم ذوو بساتين فيها فواكه. {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} والسرر الوسائد , وفي المصفوفة ثلاثة أوجه: أحدها: المصفوفة بين العرش , قاله عكرمة.(5/380)
الثاني: هي الموصولة بالذهب. الثالث: أنها الموصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفاً، قاله ابن بحر. {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} والعين الواسعة الأعين في صفائها , وهو جمع عيناء , ومنه قول الشاعر:
(فحُور قد لهون وهن عين ... نواعم في المروط وفي الرياط)
وفي تسميتهن حوراً وجهان: أحدهما: لأنه يحار فيهن الطرف، قاله مجاهد. الثاني: لبياضهن، قاله الضحاك، ومنه قيل للخبز حوار لبياضه.(5/381)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
{والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم} {وَالَّذِينَءَآمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن الله يدخل الذرية بإيمان الأباء الجنة , قاله ابن عباس. الثاني: أن الله تعالى يعطي الذرية مثل أجور الآباء من غير أن ينقص الآباء من أجورهم شيئاً , قاله إبراهيم. الثالث: أنهم البالغون عملوا بطاعة الله مع آبائهم فألحقهم الله بآبائهم , قاله قتادة. الرابع: أنه لما أدرك أبناؤهم الأعمال التي عملوها تبعوهم عليها فصاروا مثلهم فيها، قاله ابن زيد.(5/381)
{وَمآ أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِمِ مِّن شَيْءٍ} فيه تأويلان: أحدهما: ما نقصناهم , قاله ابن عباس , قال رؤبة:
(وليلة ذات سرى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت)
أي لم ينقصني , ومعنى الكلام: ولم ينقص الآباء بما أعطينا الأبناء. الثاني: معناه وما ظلمناهم , قاله ابن جبير , قال الحطيئة:
(أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذباً)
أي لا ظلماً , ولا كذباً. ومعنى الكلام: لم نظلم الآباء بما أعطينا الأبناء , وإنما فعل تعالى ذلك بالأبناء كرمة للآباء. {كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} فيه وجهان: أحدهما: مؤاخذة كما تؤخذ الحقوق من الرهون. الثاني: أنه يحبس , ومنه الرهن لاحتباسه بالحق قال الشاعر:
(وما كنت أخشى أن يكون رهينة ... لأحمر قبطي من القوم معتق)
{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أي , يتعاطون ويتساقون بأن يناول بضعهم بعضاً , وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة. والكأس إناء مملوء من شراب وغيره فهو كأس , فإذا فرغ لم يسم كاساً , وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل:
(وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحضور ولا فيها بسوار)
(نازعته طيب الراح السمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعه الساري.)
{لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} فيها أربعة أوجه: أحدها: لا باطل في الخمر ولا مأثم , قاله ابن عباس وقتادة , وإنما ذلك في الدنيا من الشيطان. الثاني: لا كذب فيها ولا خلف , قاله الضحاك. الثالث: لا يتسابون عليها ولا يؤثم بعضهم بعضاً , قاله مجاهد.(5/382)
الرابع: لا لغو في الجنة ولا كذب , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. واللغو ها هنا فحش الكلام كما قال ذو الرمة:
(فلا الفحش فيه يرهبون ولا الخنا ... عليهم ولكن هيبة هي ما هيا)
(بمستحكم جزل المروءة مؤمن ... من القوم لا يهوى الكلام اللواغيا)
{وَيَطُوفُ عَلَيْهُمْ غِلُمَانٌ لَّهُمْ} ذكر ابن بحر فيه وجهين: أحدهما: ان يكون الأطفال من أولادهم الذين سبقوهم , فأقَرَّ الله بهم أعينهم. الثاني: أنهم من أخدمهم الله إياهم من أولاد غيرهم. {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} أي مصون بالكن والغطاء , ومنه قول الشاعر:
(قد كنت أعطيهم مالاً وأمنعهم ... عرضي , وودهم في الصدر مكنون)
قال قتادة: بلغني أنه قيل يا رسول الله هذا الخدم مثل اللؤلؤ المكنون فكيف المخدوم؟ قال: (والذي نفسي بيده لفضل ما بينهم , كفضل القمر ليلة البدر على النجوم) . {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} يحتمل وجهين: أحدهما: بالجنة والنعيم. الثاني: بالتوفيق والهداية. {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه عذاب النار , قاله ابن زيد. وقال الأصم: السموم اسم من أسماء جهنم. الثاني: أنه وهج جهنم , وهو معنى قول ابن جريج. الثالث: لفح الشمس والحر , وقد يستعمل في لفح البرد , كما قال الراجز:
(اليوم يوم بارد سمومه ... من جزع اليوم فلا نلومه)
{إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن البر الصادق، قاله ابن جريج. الثاني: اللطيف، قاله ابن عباس.(5/383)
الثالث: أنه فاعل البر المعروف به , قاله ابن بحر.(5/384)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)
{فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} {فَذَكِّرْ} يعني بالقرآن. {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} يعني برسالة ربك. {بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} تكذيباً لعتبة بن ربيعة حيث قال إنه ساحر , وتكذيباً لعقبة بن معيط , حيث قال: إنه مجنون. {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} قال قتادة: قال ناس من الكفار: تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه , كما كفاكم شاعر بني فلان , وشاعر بني فلان , قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار , نسبوه إلا أنه شاعر. وفي {ريب المنون} وجهان: أحدهما: الموت , قاله ابن عباس. الثاني: حوادث الدهر , قاله مجاهد. المنون: الدهر , قال أبو ذؤيب:
(أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع)(5/384)
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
{أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين أم له البنات ولكم البنون أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم(5/384)
عندهم الغيب فهم يكتبون أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون} {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ} فيه وجهان: أحدهما: مفاتيح الرحمة. الثاني: خزائن الرزق. {أَمْ هُمْ الْمُصَيْطِرُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: المسلطون , قاله ابن عباس والضحاك. الثاني: أنهم الأرباب , قاله الحسن وأبو عبيد. الثالث: معناه: أم هم المتولون , وهذا قد روي عن ابن عباس أيضاً. الرابع: أنهم الحفظة , مأخوذ من تسطير الكتاب , الذي يحفظ ما كتب فيه فصار المسيطر هنا حافظاً ما كتبه الله في اللوح المحفوظ , قاله ابن بحر. {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن السلم المرتقى إلى السماء , ومنه قول ابن مقبل:
(لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا ... يبنى له في السموات السلاليم)
الثاني: أنه السبب الذي يتوصل به إلى عوالي الأشياء , قال الشاعر:
(تجنيت لي ذنباً وما إن جنيته ... لتتخذي عذراً إلى الهجر سلماً)
وقوله {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: يستمعون من السماء ما يقضيه الله على خلقه. الثاني: يستمعون منها ما ينزل الله على رسله من وحيه. {فلْيَأْتِ مْسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} فيه وجهان: أحدهما: فليأت صاحبهم بحجة ظاهرة تدل على صدقه. الثاني: فليأت بقوة تتسلط على الأسماع وتدل على قدرته.(5/385)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
{وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم فذرهم حتى يلاقوا(5/385)
يومهم الذي فيه يصعقون يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم} {وَإِن يَرَواْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني قطعاً من السماء، قاله قتادة. الثاني: جانباً من السماء. الثالث: عذاباً من السماء، قاله المفضل. وسمي كسفاً لتغطيته، والكسف: التغطية , ومنه أخذ كسوف الشمس والقمر. {يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} في مركوم وجهان: أحدهما: أنه الغليظ , قاله ابن بحر. الثاني: أنه الكثير المتراكب , قاله الضحاك. ومعنى الآية: أنهم لو رأو سقوط كسف من السماء عليهم عقاباً لهم لم يؤمنوا ولقالوا إنه سحاب مركوم بعضه على بعضه. {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يوم يموتون , قاله قتادة. الثاني: النفخة الأولى , حكاه ابن عيسى. الثالث: يوم القيامة يغشى عليهم من هول ما يشاهدونه , ومنه قوله تعالى: {وَخَرَّ مُوْسَى صَعِقاً} أي مغشياً عليه. {وَإِنَّ لِلَّذِينَ صَعِقاً} أي مغشياً عليه. {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: عذاب القبر , قاله علي. الثاني: الجوع , قاله مجاهد. الثالث: مصابهم في الدنيا , قاله الحسن. وفي المراد بالذين ظلموا ها هنا قولان: أحدهما: أنهم أهل الصغائر من المسلمين. الثاني: أنهم مرتكبو الحدود منهم.(5/386)
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فيه وجهان: أحدهما: لقضائه فيما حملك من رسالته. الثاني: لبلائه فيما ابتلاك به من قومك. {فَإِنَّكَ بأَعْيُنِنَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بعلمنا، قاله السدي. الثاني: بمرأى منا، حكاه ابن عيسى. الثالث: بحفظنا وحراستنا، ومنه قوله تعالى لموسى: {وَلتُصنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] بحفظي وحراستي، قاله الضحاك. {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن يسبح الله إذا قام من مجلسه , قاله أبو الأحوص , ليكون تكفيراً لما أجرى في يومه. الثاني: حين تقوم من منامك , ليكون مفتتحاً لعمله بذكر الله , قاله حسان بن عطية. الثالث: حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر , قاله زيد بن أسلم. الرابع: أنه التسبيح في الصلاة , إذا قام إليها. وفي هذا التسبيح قولان: أحدهما: هو قول: سبحان ربي العظيم , في الركوع , وسبحان ربي الأعلى , في السجود. الثاني: التوجه في الصلاة بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك [وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك] , قاله الضحاك. {وَمِنَ الِّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها صلاة الليل. الثاني: التسبيح فيها. الثالث: أنه التسبيح في صلاة وغير صلاة.(5/387)
وأما {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها ركعتان قبل الفجر , رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ , إِدْبَارُ النُّجومِ , وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ المَغْرِبِ إِدْبَارُ السُّجُودِ) . الثاني: أنها ركعتا الفجر قبل الغداة. الثالث: أنه التسبيح بعد الصلاة , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً , وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر.(5/388)
سورة النَجم
مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية، وهي: {الذين يحتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} . بسم الله الرحمن الرحيم(5/389)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
{والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فيه خمسة أقاويل: أحدها: نجوم القرآن إذا نزلت لأنه كان ينزل نجوماً , قاله مجاهد. الثاني: أنها الثريا، رواه ابن أبي نجيح، لأنهم كانوا يخافون الأمراض عند طلوعها. الثالث: أنها الزهرة، قاله السدي، لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها. الرابع: أنها جماعة النجوم، قاله الحسن، وليس بممتنع أن يعبر عنها بلفظ الواحد كما قال عمر بن أبي ربيعة:
(أحسن النجم في السماء الثريا ... والثريا في الأرض زين النساء)
الخامس: أنها النجوم المنقضة , وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم(5/389)
رسولاً، كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذعر أكثر العرب منها، وفزعوا إلى كاهن لهم ضرير كان يخبرهم بالحوادث، فسألوه عنها، فقال انظروا البروج الاثني عشر، فإن انقض منها شيء , فهو ذهاب الدنيا , وإن لم ينقض منها شيء , فسيحدث في الدنيا أمر عظيم , فاستشعروا ذلك , فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم , كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه , فأنزل الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} أي ذلك النجم الذي هوى , هو لهذه النبوة التي حدثت. وفي قوله تعالى {إِذَا هَوى} ستة أقاويل: أحدها: النجوم إذا رقي إليها الشياطين , قاله الضحاك. الثاني: إذا سقط. الثالث: إذا غاب. الرابع: إذا ارتفع. الخامس: إذا نزل. السادس: إذا جرى، ومهواها جريها، لأنها لا تفتر في جريها في طلوعها وغروبها، وهذا قول أكثر المفسرين. وهذا قسم , وعلى القول الخامس في انقضاض النجوم خبر. {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم , وفيه وجهان: أحدهما: ما ضل عن قصد الحق ولا غوى في اتباع الباطل. الثاني: ما ضل بارتكاب الضلال , وما غوى بأن خاب سعيه , وألفى الخيبة كما قال الشاعر:
(فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً)
أي: من خاب في طلبه لامه الناس , وهذا جواب القسم على قول الأكثرين , قال مقاتل: وهي أول سورة أعلنها رسول الله بمكة. {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} فيه وجهان:(5/390)
: أحدهما: وما ينطق عن هواه , وهو ينطق عن أمر الله , قاله قتادة. الثاني: ما ينطق بالهوى والشهوة , إن هو إلا وحي يوحى بأمر ونهي من الله تعالى له. {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} أي يوحيه الله إلى جبريل ويوحيه جبريل إليه.(5/391)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
{علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى} {عَلَّمَهُ شَدِيدٌ الْقُوَى} يعني: جبريل في قول الجميع. {ذو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} فيه خمسة أوجه:(5/391)
أحدها: ذو منظر حسن , قاله ابن عباس. الثاني: ذو غناء، قاله الحسن. الثالث: ذو قوة، قاله مجاهد وقتادة، ومن قول خفاف بن ندبة:
(إني امرؤ ذو مرة فاستبقني ... فيما ينوب من الخطوب صليب)
الرابع: ذو صحة في الجسم وسلامة من الآفات، ومن قول امرىء القيس:
(كنت فيهم أبداً ذا حيلة ... محكم المرة مأمون العقد)
الخامس: ذو عقل , قاله ابن الأنباري، قال الشاعر:
(قد كنت عند لقاكم ذا مرة ... عندي لكل مخاصم ميزانه)
وفي قوله {فَاسْتَوَى} خمسة أوجه: أحدها: فاستوى جبريل في مكانه، قاله سعيد بن جبير. الثاني: قام جبريل على صورته التي خلق عليها لأنه كان يظهر له قبل ذلك في صورة لا رجل. حكى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل على صورته إلا مرتين: أما واحدة، فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية، فإنه كان معه حين صعد , وذلك قوله {وَهُوَ بِاْلأُفُقِ الأَعْلَى} . الثالث: فاستوى القرآن في صدره، وفيه على هذا وجهان: أحدهما: فاعتدل في قوته. الثاني: في رسالته. الرابع: يعني: فارتفع , وفيه على هذا وجهان: أحدهما: أنه جبريل ارتفع إلى مكانه. الثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم , ارتفع بالمعراج. {وَهُوَ بِلأُفُقِ الأَعْلَى} فيه قولان: أحدهما: أنه جبريل حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى , قاله السدي. الثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق الأعلى , قاله عكرمة. وفي الأفق الأعلى ثلاثة أقاويل: أحدها: هو مطلع الشمس , قاله مجاهد. الثاني: هو الأفق الذي يأتي منه النهار , قاله قتادة , يعني طلوع الفجر. الثالث: هو أفق السماء وهو جانب من جوانبها , قاله ابن زيد , ومنه قول الشاعر:
(أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم والطوالع)
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} فيه قولان: أحدهما: أنه جبريل، قاله قتادة.(5/392)
الثاني: أنه الرب، قاله ابن عباس. وقوله {فَتَدَلَّى} فيه وجهان: أحدهما: تعلق فيما بين والسفل لأنه رآه منتصباً مرتفعاً ثم رآه متدلياً , قاله ابن بحر. الثاني: معناه قرب , ومنه قوله تعالى: {وَتُدلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي تقربوها إليهم , وقال الشاعر:
(أتيتك لا أدلي بقربى قريبة ... إليك ولكني بجودك واثق)
وقيل فيه تقديم وتأخير , وتقديره: ثم تدلى فدنا , قاله ابن الأنباري. {فَكَانَ قَابَ قَوْسَينِ أَوْ أَدْنَى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: قيد قوسين , قاله قتادة والحسن. الثاني: أنه بحيث الوتر من القوس , قاله مجاهد. الثالث: من مقبضها إلى طرفها , قاله عبد الحارث. الرابع: قدر ذراعين , قاله السدي , فيكون القاب عبارة عن القدر , والقوس عبارة عن الذراع. ثم اختلفوا في المعنى بهذا الداني على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جبريل من ربه , قاله مجاهد وهو قول ابن عباس. الثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم من ربه , قاله محمد بن كعب. الثالث: أنه جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم. {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى} في عبده الموحى إليه قولان: أحدهما: أنه جبريل عليه السلام أوحى إليه ما يوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالته عائشة، والحسن، وقتادة. الثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم أوحي إليه على لسان جبريل، قاله ابن عباس والسدي. {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} في الفؤاد قولان:(5/393)
أحدهما: أنه أراد صاحب الفؤاد فعبر عنه بالفؤاد لأنه قطب الجسد وقوام الحياة. الثاني: أنه أرد نفس الفؤاد لأنه محل الإعتقاد وفيه قولان: أحدهما: معناه ما أوهمه فؤداه ما هو بخلافه كتوهم السراب ماء , فيصير فؤاده بتوهم المحال كالكاذب له، وهو تأويل من قرأ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} بالتخفيف. الثاني: معناه ما أنكر قلبه ما رأته عينه، وهو تأويل من قرأ {كَذَّبَ} بالتشديد. وفي الذي رأى خمسة أقاويل: أحدها: رأى ربه بعينه , قاله ابن عباس. الثاني: في المنام , قاله السدي. الثالث: أنه بقلبه روى محمد بن كعب قال: قلنا يا رسول الله [هل رأيت ربك] ؟ قال: (رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي مَرَّتَيْنِ) ثم قرأ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} . الرابع: أنه رأى جلاله , قاله الحسن، وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رَأَيتُ نَهْرَاً وَرَأَيتُ وَرَاءَ النَّهْرِ حَجَاباً ورَأَيتُ وَرَاءَ الحِجَابِ نُوراً لَمْ أَرَ غَيَرَ ذَلِكَ) . الخامس: أنه رأى جبريل على صورته مرتين، قاله ابن مسعود. {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أفتجادلونه على ما يرى، قاله إبراهيم. الثاني: أفتجادلونه على ما يرى، وهو مأثور.(5/394)
الثالث: أفتشككونه على ما يرى , قاله مقاتل. {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى} يعني أنه رأى ما رآه ثانية بعد أُولى، قال كعب: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى عليهما السلام، فرآه محمد مرتين، وكلمه موسى مرتين. {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} روي فيها خبران. أحدهما: ما روى طلحة بن مصرف عن مرة عن ابن مسعود قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرواح فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها الخبر. الثاني: ما رواه معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رُفِعَتْ لِيَ سِدْرَةُ الْمُنتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، ثَمَرُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجْرٍ، وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الفِيَلَة، يَخْرُجُ مِن سَاقِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهْرَانِ بِاطِنَانِ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ البَاطِنَانِ فَفِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا النَّهْرانِ الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالفُرَاتُ) . وفي سبب تسميتها سدرة المنتهى خمسة أوجه: أحدها: لانه ينتهي علم الأنبياء إليها , ويعزب علمهم عما وراءها، قاله ابن عباس. الثاني: لأن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها، قاله الضحاك. الثالث: لانتهاء الملائكة والنبيين إليها ووقوفهم عندها، قاله كعب. الرابع: لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهاجه، قاله الربيع بن أنس.(5/395)
الخامس: لأنه ينتهي إليها كل ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها , قاله ابن مسعود. {عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} فيه قولان: أحدهما: جنة المبيت والإقامة , قاله علي , وأبو هريرة. الثاني: أنها منزل الشهداء , قاله ابن عباس , وهي عن يمين العرش وفي ذكر جنة المأوى وجهان على ما قدمناه في سدرة المنتهى: أحدهما: أن المقصود بذكرها تعريف موضعها بأنه عند سدرة المنتهى , قاله الجمهور. {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الذي يغشاها فراش من ذهب , قاله ابن مسعود ورواه مرفوعاً. الثاني: أنهم الملائكة , قاله ابن عباس. الثالث: أنه نور رب العزة , قاله الضحاك. فإن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل: لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولاً وعملاً ونية، فظلها بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} في زيغ البصر ثلاثة أوجه؛ أحدها: انحرافه. الثاني: ذهابه، قاله ابن عباس. الثالث: نقصانه، قاله ابن بحر. وفي طغيانه ثلاثة أوجه: أحدها: ارتفاعه عن الحق. الثاني: تجاوزه للحق، قاله ابن عباس.(5/396)
الثالث: زيادته , ويكون معنى الكلام أنه رأى ذلك على حقه وصدقه من غير نقصان عجز عن إدراكه , ولا زيادة توهمها في تخليه , قاله ابن بحر. {لَقَدْ رَأَى مِنْءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما غشي السدرة من فراش الذهب , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه قد رأى جبريل وقد سد الأفق بأجنحته , قاله ابن مسعود أيضاً. الثالث: ما رأه حين نامت عيناه ونظر بفؤاده , قاله الضحاك.(5/397)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
{أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} {أَفَرَءيْتُمُ اللاَّت وَالْعُزَّى} أما اللات فقد كان الأعمش يشددها , وسائر القراء على تخفيفها , فمن خففها فلهم فيها قولان: أحدهما: أنه كان صنماً بالطائف زعموا أن صاحبه كان يلت عليه السويق لأصحابه، قاله السدي. الثاني: أنه صخرة يلت عليها السويق بين مكة والطائف، قاله عكرمة. وأما من شددها فلهم فيها قولان: أحدهما: أنه كان رجلاً يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن معبوده، ثم مات فقلبوه على قبره، قاله ابن عباس، ومجاهد. الثاني: أنه كان رجلاً يقوم على آلهتهم ويلت لهم السويق بالطائف قاله(5/397)
السدي، وقيل إنه عامر بن ظرب العدواني ثم اتخذوا قبره وثناً معبوداً، قال الشاعر:
(لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... وكيف ينصركم من ليس ينتصر.)
وأما {الْعُزَّى} ففيه قولان: أحدهما: أنه صنم كانوا يعبدونه، قاله الجمهور. الثاني: أنها شجرة كان يعلق عليها ألوان العهن تعبدها سليم، وغطفان، وجشم، قال مقاتل: وهي سمرة، قاله الكلبي: هي التي بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حتى قطعها، وقال أبو صالح: بل كانت نخلة يعلق عليها الستور والعهن. وقيل في اللات والعزى قول ثالث: أنهما كانا بيتين يعبدهما المشركون في الجاهلية، فاللات بيت كان بنخلة يعبده كفار قريش، والعزى بيت كان بالطائف يعبده أهل مكة والطائف. {وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الأَخْرَى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه كان صنماً بقديد بين مكة والمدينة، قاله أبو صالح. الثاني: أنه بيت كان بالمسلك يعبده بنو كعب. الثالث: أنها أصنام من حجارة كانت في الكعبة يعبدونها. الرابع: أنه وثن كانوا يريقون عنده الدماء يتقربون بذلك إليه، وبذلك سميت منى لكثرة ما يراق بها من الدماء. وإنما قال: مناة الثالثة الأخرى , لأنها كانت مرتبة عند المشركين في التعظيم بعد اللات والعزى، وروى سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم {أَفََرأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} الآية. ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهم ترتجى، وفي رواية أبي العالية: وشفاعتهم ترتضى ومثلهم لا ينسى , ففرح المشركون وقالوا: قد ذكر آلهتنا، فنزل جبريل فقال: أعرض(5/398)
عليّ ما جئتك به فعرض عليه , فقال: لم آتك أنا بهذا وهذا من الشيطان، فأنزل الله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُوْلٍ وَلاَ نَبِّيٍ إلاَّ إذا تََمَنَّى ألْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} . {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} حيث جعلوا الملائكة بنات الله. {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: قسمة عوجاء , قاله مجاهد. الثاني: قسمة جائرة , قاله قتادة. الثالث: قسمة منقوصة , قاله سفيان وأكثر أهل اللغة , قال الشاعر:
(فإن تنأى عنا ننتقصك وإن تقم ... فقسمك مضئوز وأنفك راغم)
ومعنى مضئوز أي منقوص. الرابع: قسمة مخالفة , قاله ابن زيد. {أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} فيه وجهان: أحدهما: من البنين أن يكونوا له دون البنات. الثاني: من النبوة أن تكون فيه دون غيره. {فَلِلَّهِ الأخِرَةُ وَالأُولَى} فيه وجهان: أحدهما: يعني أنه أقدر من خلقه , فلو جاز أن يكون له ولد - كما نسبه إليه المشركون حين جعلوا له البنات دون البنين وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - لكان بالبنين أحق منهم. الثاني: أنه لا يعطي النبوة من تمناها , وإنما يعطيها من اختاره لها لأنه مالك السموات والأرض.(5/399)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
{إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ولله ما في السماوات وما في الأرض(5/399)
ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَآئِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ الَّلمَمَ} أما كبائر الإثم ففيها. خمسة أقاويل؛ أحدها: أنه الشرك بالله , حكاه الطبري. الثاني: أنه ما زجر عنه بالحد , حكاه بعض الفقهاء. الثالث: ما لا يكفر إلا بالتوبة , حكاه ابن عيسى. الرابع: ما حكاه شرحبيل عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: (أن تدعو لله نداً وهو خلقك وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك وأن تزاني حليلة جارك) الخامس: ما روى سعيد بن جبير أن رجلاً سأل ابن عباس عن الكبائر أسبع هي؟ قال: إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبعة، لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار، فكأنه يذكر أن كبائر الإثم ما لم يستغفر منه. وأما الفواحش ففيها قولان: أحدهما: أنها جميع المعاصي. الثاني: أنها الزنى. وأما اللمم المستثنى ففيه ثمانية أقاويل: أحدها: إلا اللمم الذي ألموا به في الجاهلية من الإثم والفواحش فإنه معفو عنه في الإسلام، قاله ابن زيد بن ثابت. الثاني: هو أن يلم بها ويفعلها ثم يتوب منها، قاله الحسن ومجاهد.(5/400)
الثالث: هو أن يعزم على المواقعة ثم يرجع عنها مقلعاً وقد روى عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمْ تغفر جَمَّاً ... وَأَي عَبْدٍ لَّكَ لاَ أَلَمَّا)
الرابع: أن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة , قاله ابن مسعود , روى طاووس عن ابن عباس قال: ما رأيت أشبه باللمم من قول أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كَتَبَ اللَّهُ عَلَى كلِّ نَفْسٍ خَطَّهَا مِن الزّنَى أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ , فَزِنَى الْعَيْنَينِ النَّظَرُ وَزِنَى الِلَّسَانِ المَنطِقُ وَهِيَ النَّفْسُ تُمَنّي وَتَشْتَهِى , وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوُ يُكَذِّبُه) الخامس: أن اللمم الصغائر من الذنوب. السادس: أن اللمم ما لم يجب عليه حد في الدنيا ولم يستحق عليه في الآخرة عذاب , قاله ابن عباس , وقتادة. السابع: أن اللمم النظرة الأولى فإن عاد فليس بلمم , قاله بعض التابعين , فجعله ما لم يتكرر من الذنوب , واستشهد بقول الشاعر:
(وما يستوي من لا يرى غير لمة ... ومن هو ناو غيرها لا يريمها)
والثامن: أن اللمم النكاح , وهذا قول أبي هريرة. وذكر مقاتل بن سليمان أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار كان له حانوت يبيع فيه تمراً , فجاءته امرأة تشتري منه تمراً , فقال لها: إن بداخل الدكان ما هو خير من هذا , فلما دخلت راودها عن نفسها , فأبت وانصرفت , فندم نبهان وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع , فقال: (لَعَلَّ زَوْجَهَا غَازٍ) فنزلت هذه الآية. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ} يعني أنشأ آدم. {وَإذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} قال مكحول: في بطون أمهاتنا فسقط منا من(5/401)
سقط، وكنا فيمن بقي , ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك , وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شباباً فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شيوخاً لا أبالك فما بعد هذا تنتظر؟ {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني لا تمادحوا، قاله ابن شوذب. الثاني: لا تعملوا بالمعاصي وتقولوا نعمل بالطاعة، قاله ابن جريج. الثالث: إذا عملت خيراً فلا تقل عملت كذا وكذا. ويحتمل رابعاً: لا تبادلوا قبحكم حسناً ومنكركم معروفاً. ويحتمل خامساً: لا تراؤوا بعملكم المخلوقين لتكونوا عندهم أزكياء. {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} قال الحسن: قد علم الله كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما هي صائرة.(5/402)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
{أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى} {أَفَرَءَيْتَ الَّذِي تَولَّى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه العاص بن وائل السهمي، قاله السدي. الثاني: أنه الوليد بن المغيرة المخزومي، قاله مجاهد، كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه يسمع ما يقولان ثم يتولى عنهما. الثالث: أنه النضر بن الحارث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حين ارتد عن دينه وضمن له أن يتحمل مأثم رجوعه، قاله الضحاك. {وَأعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه أعطى قليلاً من نفسه بالاستمتاع ثم أكدى بالانقطاع، قاله مجاهد. الثاني: أطاع قليلاً ثم عصى، قاله ابن عباس.(5/402)
الثالث: أعطى قليلاً من ماله ثم منع، قاله الضحاك. الرابع: أعطى بلسانه وأكدى بقلبه، قاله مقاتل. وفي {أَكْدَى} وجهان: أحدهما: قطع , قاله الأخفش. الثاني: منع , قاله قطرب. {أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيبِ فَهُوَ يَرَى} فيه وجهان: أحدهما: معناه أعلم الغيب فرأى أن ما سمعه باطل. الثاني: أنزل عليه القرآن فرأى ما صنعه حقاً , قاله الكلبي. ويحتمل ثالثاً: أعلم أن لا بعث , فهو يرى أن لا جزاء. {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} فيه سبعة أقاويل: أحدها: وفّى عمل كل يوم بأربع ركعات في أول النهار , رواه الهيثم عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن يقول كلما أصبح وأمسى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِيْنَ تُمْسُونَ وَحِيْنَ تُصْبِحُونَ} الآية. رواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثالث: وفيما أمر به من طاعة ربه , قاله ابن عباس. الخامس: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لأنه كان بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة ابنه وأبيه فأول من خالفهم إبراهيم , قاله الهذيل. السادس: أنه ما أُمر بأمر إلا أداه ولا نذر إلا وفاه , وهذا معنى قول الحسن. السابع: وفَّى ما امتحن به من ذبح ابنه وإلقائة في النار وتكذيبه.(5/403)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
{وأن إلى ربك المنتهى وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى وأنه هو أغنى وأقنى وأنه هو رب الشعرى وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى فبأي آلاء ربك تتمارى} {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمنتَهَى} يحتمل وجهين: أحدهما: إلى إعادتكم لربكم بعد موتكم يكون منتهاكم. {وَأَنَّهُ هُوَ أضْحَكَ وَأَبْكَى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: قضى أسباب الضحك والبكاء. الثاني: أنه أراد بالضحك السرور , وبالبكاء الحزن. والثالث: أنى خلق قوتي الضحك والبكاء , فإن الله ميز الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان , فليس في سائر الحيوان ما ضحك ويبكي غير الإنسان , وقيل إن القرد وحده يضحك ولا يبكي , وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. ويحتمل وجهاً رابعاً: أن يريد بالضحك والبكاء النعم والنقم. {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} فيه خمسة أوجه: أحدها: قضى أسباب الموت والحياة. الثاني: خلق الموت والحياة كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَوتَ وَالْحَيَاةَ} قاله ابن بحر. الثالث: أن يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب. الرابع: أمات بالمعصية وأحيا بالطاعة. الخامس: أمات الآباء وأحيا الأبناء. ويحتمل سادساً: أن يريد به أنام وأيقظ.(5/404)
{مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} وجهان: أحدهما: إذا تخلق وتقدر , قاله الأخفش. الثاني: إذا نزلت في الرحم , قاله الكلبي. {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} فيه ثمانية تأويلات: أحدها: أغنى بالكفاية وأقنى بالزيادة , وهو معنى قول ابن عباس. الثاني: أغنى بالمعيشة وأقنى بالمال , قاله الضحاك. الثالث: أغنى بالمال وأقنى بأن جعل لهم قنية , وهي أصول الأموال , قاله أبو صالح. الرابع: أغنى بأن مَوّل وأقنى بأن حرم , قاله مجاهد. الخامس: أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه , قاله سليمان التيمي. السادس: أغنى من شاء وأفقر من شاء , قاله ابن زيد. السابع: أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا , قاله سفيان. الثامن: أغنى عن أن يخدم وأقنى أن يستخدم , وهذا معنى قول السدي. ويحتمل تاسعاً: أغنى بما كسبه [الإنسان] في الحياة وأقنى بما خلفه بعد الوفاة مأخوذ من اقتناء المال وهو استبقاؤه. {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} والشعرى نجم يضيء وراء الجوزاء , قال مجاهد: تسمى هوزم الجوزاء , ويقال إنه الوقاد , وإنما ذكر أنه رب الشعرى وإن كان رباً لغيره لأن العرب كانت تعبده فأعلموا أن الشعرى مربوب وليس برب. واختلف فيمن كان يعبده فقال السدي: كانت تعبده حمير وخزاعة وقال غيره: أول من عبده أبو كبشة , وقد كان من لا يعبدها من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم , قال الشاعر:
(مضى أيلول وارتفع الحرور ... وأخبت نارها الشعرى العبور)
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى} فيهم قولان: أحدهما: أن عاد الأولى عاد بن إرم , وهم الذين أهلكوا بريح صرصر عاتية , وعاداً الآخرة قوم هود. الثاني: أن عاداً الأولى قوم هود والآخرة قوم كانوا بحضرموت , قاله قتادة.(5/405)
{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} والمؤتفكة المنقلبة بالخسف , قاله محمد بن كعب: هي مدائن قوم لوط وهي خمسة: صبغة وصغيرة وعمرة ودوماً وسدوم وهي العظمى , فبعث الله عليهم جبريل فاحتملها بجناحه ثم صعد بها حتى أن أهل السماء يسمعون نباح كلابهم وأصوات دجاجهم ثم كفأها على وجهها ثم أتبعها بالحجارة كما قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حَجَارةً مِن سِجِّيْلٍ} قال قتادة: كانوا أربعة آلاف ألف. {أَهْوَى} يحتمل وجهين: أحدهما: أن جبريل أهوى بها حين احتملها حتى جعل عاليها سافلها. الثاني: أنهم أكثر ارتكاباً للهوى حتى حل بهم ما حل من البلاء. {فَعَشَّاهَا مَا غَشَّى} يعني المؤتفكة , وفيما غشاها قولان: أحدهما: جبريل حين قلبها. الثاني: الحجارة حتى أهلكها. {فَبِأَيِّءَالآءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} وهذا خطاب للمكذب أي فبأي نعم ربك تشك فيما أولاك وفيما كفاك. وفي قوله: {فَغَشَّاهَا} وجهان: أحدهما: ألقاها. الثاني: غطاها.(5/406)
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
{هذا نذير من النذر الأولى أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا} {هَذا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى} فيه قولان: أحدهما: أن محمداً نذير الحق أنذر به الأنبياء قبله , قاله ابن جريج. الثاني: أن القرآن نذير بما أنذرت به الكتب الأولى , قاله قتادة. ويحتمل قولاً ثالثاً: أن هلاك من تقدم ذكره من الأمم الأولى نذير لكم. {أَزِفَتِ الأزِفَةُ} أي اقتربت الساعة ودنت القيامة , وسماها آزفة لقرب قيامها عنده.(5/406)
{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي من يكشف ضررها. {أَفَمِنَ هَذا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} فيه وجهان: أحدهما: من القرآن في نزوله من عند الله. الثاني: من البعث والجزاء وهو محتمل. {وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ} فيها وجهان: أحدهما: تضحكون استهزاء ولا تبكون انزجاراً. الثاني: تفرحون ولا تحزنون , وهو محتمل. {وَأَنْتُم سَامِدُونَ} فيه تسعة تأويلات: أحدها: شامخون كما يخطر البعير شامخاً، قاله ابن عباس. الثاني: غافلون , قاله قتادة. الثالث: معرضون، قاله مجاهد. الرابع: مستكبرون، قاله السدي. الخامس: لاهون لاعبون، قاله عكرمة. السادس: هو الغناء، كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا، وهي لغة حمير، قاله أبو عبيدة. السابع: أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين قاله علي رضي الله عنه. الثامن: واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام، قاله الحسن، وفيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج والناس ينتظرونه قياماً فقال: ما لي أراكم سامدين. التاسع؛ خامدون قاله المبرد، قال الشاعر:
(رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقد سمدن له سموداً)
{فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَأعْبُدُواْ} فيه وجهان: أحدهما: أنه سجود تلاوة القرآن , قال ابن مسعود , وفيه دليل على أن في المفصل سجوداً. الثاني: أنه سجود الفرض في الصلاة.(5/407)
سورة القمر
مكية في قول الجمهور، وقال مقاتل إلا ثلاث آيات من قوله: {أم يقولون نحن جميع منتصر} إلى قوله؛ {والساعة أدهى وأمر} . بسم الله الرحمن الرحيم(5/408)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
{اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر} قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} أي دنت وقربت , قال الشاعر:
(قد اقتربت لو كان في قرب دارها ... جداء ولكن قد تضر وتنفع)
والمراد بالساعة القيامة , وفي تسميتها بالساعة وجهان: أحدهما: لسرعة الأمر فيها. الثاني: لمجيئها في ساعة من يومها. وروى طارق بن شهاب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقْتَرَبَتِ(5/408)
السَّاعَةُ وَلاَ يَزْدَادُ النَّاسُ عَلَى الدُّنْيَا إلاَّ حِرْصاً وَلاَ تَزْدَادُ مِنْهُمْ إِلاَّ بُعْداً) . {وَانشَقَّ الْقَمَرُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه وضح الأمر وظهر والعرب تضرب مثلاً فيما وضح أمره , قال الشاعر:
(أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل)
(فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت لطيات مطايا وأرحل)
والثاني: أن انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فلقاً لانفلاق الظلمة عنه , وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه , كما قال النابغة الجعدي:
(فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داعي)
الثالث: أنه انشقاق القمر على حقيقة انشقاقه. وفيه على هذا التأويل قولان: أحدهما: أنه ينشق بعد مجيء الساعة وهي النفخة الثانية , قاله الحسن , قال: لأنه لو انشق ما بقي أحد إلا رأه لأنها آية والناس في الآيات سواء. الثاني: وهو قول الجمهور وظاهر التنزيل أن القمر انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سأله عمه حمزة بن عبد المطلب حين أسلم غضباً لسب أبي جهل لرسول الله , أن يريه آية يزداد بها يقيناً في إيمانه , وروى مجاهد عن أبي معمر عن أبي مسعود قال: رأيت القمر منشقاً شقتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة , شقة على أبي قبيس , وشقة على السويدا فقالوا: سحر القمر , فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَ الْقَمَرُ} . {وَإِن يَرَوْاْءَايَةً يُعْرِضُواْ} فيه وجهان:(5/409)
أحدهما: أنه أراد أي آية روأها أعرضوا عنها ولم يعتبروا بها , وكذلك ذكرها بلفظ التنكير دون التعريف، قاله ابن بحر. الثاني: أنه عنى بالآية انشقاق القمر حين رأوه. {وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن معنى مستمر ذاهب , قاله أنس وأبو عبيدة. الثاني: شديد، مأخوذ من إمرار الحبل، وهو شدة فتله، قاله الأخفش والفراء. الثالث: أنه يشبه بعضه بعضاً. الرابع: أن المستمر الدائم , قال امرؤ القيس:
(ألا إنما الدنيا ليال وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر)
أي بدائم. الخامس: أي قد استمر من الأرض إلى السماء , قاله مجاهد. {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يوم القيامة. الثاني: كل أمر مستقر في أن الخير لأهل الخير , والشر لأهل الشر , قاله قتادة. الثالث: أن كل أمر مستقر حقه من باطله. الرابع: أن لكل شيء غاية ونهاية في وقوعه وحلوله , قاله السدي. ويحتمل خامساً، أن يريد به دوام ثواب المؤمن وعقاب الكافر. {وَلَقْدْ جَآءَهُم مِّنَ الأَنْبَآءِ} فيه وجهان: أحدهما: أحاديث الأمم الخالية , قاله الضحاك. الثاني: القرآن. {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي مانع من المعاصي. ويحتمل وجهين: أحدهما: أنه النهي. الثاني: أنه الوعيد. {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} قاله السدي: هي الرسالة والكتاب.(5/410)
ويحتمل أن يكون الوعد والوعيد. ويحتمل قوله: {بَالِغَةٌ} وجهين: أحدهما: بالغة في زجركم. الثاني: بالغة من الله إليكم , فيكون على الوجه الأول من المُبَالَغَةِ , وعلى الوجه الثاني من الإبْلاَغ. {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} أي فما يمنعهم التحذير من التكذيب.(5/411)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
{فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر} {مّهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِ} فيه ستة تأويلات: أحدها: معناه: مسرعين , قاله أبو عبيدة , ومنه قول الشاعر:
(بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع)
الثاني: معناه: مقبلين , قاله الضحاك. الثالث: عامدين , قاله قتادة. الرابع: ناظرين , قاله ابن عباس. الخامس: فاتحين آذانهم إلى الصوت , قاله عكرمة. السادس: قابضين ما بين أعينهم , قاله تميم. {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} يعني يوم القيامة , لما ينالهم فيه من الشدة.(5/411)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
{كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان(5/411)
عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن المنهمر الكثير , قاله السدي، قال الشاعر:
(أعيني جودا بالدموع الهوامر ... على خير باد من معد وحاضر)
الثاني: أنه المنصب المتدفق , قاله المبرد، ومنه قول امرىء القيس:
(راح تمرية الصبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر)
وفي فتح أبواب السماء قولان: أحدهما: أنه فتح رتاجها وسعة مسالكها. الثاني: أنها المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر , قاله علي. {فَالْتَقَى الْمَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} فيه وجهان: أحدهما: فالتقى ماء السماء وماء الأرض على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر , حكاه , ابن قتيبة. الثاني: قدر بمعنى قضي عليهم , قاله قتادة , وقدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا. {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحِ وَدُسُرٍ} أي السفينة , وفي الدسر أربعة أقاويل: أحدها: المعاريض التي يشد بها عرض السفينة، قاله مجاهد. الثاني: أنها المسامير دسرت بها السفينة، أي شدت، قاله ابن جبير وابن زيد. الثالث: صدر السفينة الذي يضرب الموج , قاله عكرمة، لأنها تدسر الماء بصدرها، أي تدفعه. الرابع: أنها طرفاها، وأصلها، قاله الضحاك. {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} فيه أربعة أوجه: أحدها: بمرأى منا.(5/412)
الثاني: بأمرنا، قاله الضحاك. الثالث: بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها. الرابع: بأعين الماء التي أتبعناها في قوله: {وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً} ، وقيل: إنها تجري بين ماء الأرض والسماء، وقد كان غطاها عن أمر الله سبحانه. {جَزَآءً لِمَن كَانَ كُفِرَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لكفرهم بالله، قاله مجاهد، وابن زيد. والثاني: جزاء لتكذيبهم، قاله السدي. الثالث: مكافأة لنوح حين كفره قومه أن حمل ذات ألواح ودسر. {وَلَقَدْ تّرَكْنَاهَآءَايَةً} فيها وجهان: أحدها: الغرق. الثاني: السفينة روى سعيد عن قتادة أن الله أبقاها بباقردي من أرض الجزيرة عبرة وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة. وفي قوله: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني فهل من متذكر، قاله ابن زيد. الثاني: فهل من طالب خير فيعان عليه , قاله قتادة. الثالث: فهل من مزدجر عن معاصي الله , قاله محمد بن كعب. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه سهلنا تلاوته على إهل كل لسان، وهذا أحد معجزاته، لأن الأعجمي قد يقرأه ويتلوه كالعربي. الثاني: سهلنا علم ما فيه واستنباط معانيه، قاله مقاتل. الثالث: هونا حفظه فأيسر كتاب يحفظ هو كتاب الله، قاله الفراء.(5/413)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
{كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر(5/413)
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: باردة، قاله قتادة، والضحاك. الثاني: شديدة الهبوب، قاله ابن زيد. الثالث: التي يسمع لهبوبها كالصوت , ومنه قول الشاعر:
( ... ... ... ... ... ... باز يصرصر فوق المرقب العالي)
{فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِّرٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يوم عذاب وهلاك. الثاني: لأنه كان يوم الأربعاء. الثالث: لأنه كان يوماً بارداً، قال الشنفرى:
(وليلة نحس يصطلي القوس ربها ... وأقطعه اللاتي بها ينبل)
يعني أنه لشدة بردها يصطلي بقوسه وسهامه التي يدفع بها عن نفسه. وفي {مُسْتَمِرٍ} وجهان: أحدهما: الذاهب. الثاني: الدائم.(5/414)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
{كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر سيعلمون غدا من الكذاب الأشر إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}(5/414)
{إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أن السعر الجنون، قاله ابن كامل. الثاني: العناء، قاله قتادة. الثالث: الافتراق، قاله السدي. الرابع: التيه، قاله الضحاك. الخامس: أنه جمع سعر وهو وقود النار، قاله ابن بحر وابن عيسى. وعلى هذا التأويل في قولهم ذلك وجهان: أحدهما: أنهم قالوه لعظم ما نالهم أن يتبعوا رجلاً واحداً منهم , كما يقول الرجل إذا ناله خطب عظيم: أنا في النار. الثاني: أنهم لما أوعدوا على تكذيبه ومخالفته بالنار ردوا مثل ما قيل لهم إنّا لو اتبعنا رجلاً مثلنا واحداً كنا إذاً في النار. {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الأشر هو العظيم الكذب , قاله السدي. الثاني: أنه البطر , ومنه قول الشاعر:
(أشرتم بلبس الخز لما لبستم ... ومن قبل لا تدرون من فتح القرى)
الثالث: أنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها. {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَة فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} أما الاصطبار فهو الافتعال من الصبر وأصل الطاء تاء أبدلت بطاء ليكون اللفظ أسهل مخرجاً ويعذب مسمعاً. وروى أبو الزبير عن جابر قال: لما نزلنا الحجر فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك , قال: (أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَسْأَلُوا عَن هَذِهِ الآياتِ [هؤلاء] قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيَّهُم أَن يَبْعَثَ اللَّهُ لَهُم آيَة، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُم نَاقَةً فَكَانَتْ تَرِدُ مِن ذَلَكِ الفَجَ فَتَشْرَبُ مَاءَهُم يَوْمَ وُرُودِهَا وَيَحْلِبُونَ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْهَا يَوْمَ غِبِّهَا وَيَصْدِرُونَ عَن ذَلِكَ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَبِئّهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُم} ) الآية.(5/415)
وفيه وجهان: أحدهما: أن الناقة تحضر الماء يوم ورودهم , وتغيب عنهم يوم ورودها , قاله مقاتل. الثاني: أن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون , ويحضرون اللبن يوم وردها فيحلبون. {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} فيه قولان: أحدهما: انه أحمر إرم وشقيها , قاله قتادة , وقد ذكره زهير في شعره فقال:
(فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم)
الثاني: أنه قدار بن سالف , قاله محمد بن إسحاق , وقد ذكره الأفوه في شعره:
(أو بعده كقدار حين تابعه ... على الغاوية أقوام فقد بادوا)
{فَتَعَاطَى} فيه وجهان: أحدهما: أن معناه بطش بيده , قاله ابن عباس. الثاني: معناه تناولها وأخذها , ومنه قول حسان بن ثابت:
(كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل)
{فَعَقَرَ} قال محمد بن إسحاق: كَمَنَ لها قدار في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها , ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاءة واحدة تحدر سقبها [من بطنها وانطلق سقبها] حتى اتى صخرة في رأس الجبل فرغا ثم لاذ بها , فأتاهم صالح , فلما رأى الناقة قد عقروها بكى ثم قال: انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله. قال ابن عباس: وكان الذي عقرها رجل أحمر أزرق أشقر أكشف أقفى. {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} فيه خمسة أقاويل: أحدهما: يعني العظام المحترقة , قاله ابن عباس.(5/416)
الثاني: أنه التراب الذي يتناثر من الحائط وتصيبه الريح، فيحتظر مستديراً، قاله سعيد بن جبير. الثالث: أنها الحظار البالية من الخشب إذا صار هشيماً , ومنه قول الشاعر:
(أثرت عجاجة كدخان نار ... تشب بغرقد بال هشيم)
قاله الضحاك. الرابع: أنه حشيش قد حظرته الغنم فأكلته، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً الخامس: أن الهشيم اليابس من الشجر الذي فيه شوك والمحتظر الذي تحظر به العرب حول ماشيتها من السباع , قاله ابن زيد , وقال الشاعر:
(ترى جيف المطي بجانبيه ... كان عظامها خشب الهشيم.)(5/417)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
{كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن الحصب الحجارة التي رموا بها من السماء , والحصباء هي الحصى وصغار الأحجار. الثاني: أن الحاصب الرمي بالأحجار وغيرها , ولذلك تقول العرب لما تسفيه الريح حاصباً , قال الفرزدق:
(مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور)
الثالث: أن الحاصب السحاب الذي حصبهم.(5/417)
الرابع: أن الحاصب الملائكة الذين حصبوهم. الخامس: أن الحاصب الريح التي حملت عليهم الحصباء. {إِلاَّءَالَ لُوطٍ} يعني ولده ومن آمن به. {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} والسحر هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر , وهو في كلام العرب اختلاط سواد آخر الليل ببياض أول النهار لأن هذا الوقت يكون مخاييل الليل ومخاييل النهار. {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} يعني ضيف لوط وهم الملائكة الذين نزلوا عليه في صورة الرجال , وكانوا على أحسن صورهم , فراودوا لوطاً عليهم طلباً للفاحشة. {فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} والطمس محو الأثر ومنه طمس الكتاب إذا محي، وفي طمس أعينهم وجهان: أحدهما: أنهم اختفوا عن أبصارهم حتى لم يروهم، مع بقاء أعينهم، قاله الضحاك. الثاني: أعينهم طمست حتى ذهبت أبصارهم وعموا فلم يروهم، قاله الحسن، وقتادة. {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه وعيد بالعذاب الأدنى، قاله الضحاك. الثاني: أنه تقريع بما نالهم من عذاب العمى الحال، وهو معنى قول الحسن، وقتادة.(5/418)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
{ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}(5/418)
{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} يعني أكفاركم خير من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم. {أَمْ لَكُم بَرَآءةٌ فِي الزُّبُرِ} يعني في الكتب السالفة براءة من الله تعالى أنكم ليس تهلكون كما أهلكوا، ومنه قول الشاعر:
(وترى منها رسوماً قد عفت ... مثل خط اللام في وحي الزبر)
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} يعني بالعدد والعدة , وقد كان من هلك قبلهم أكثر عدداً وأقوى يداً، ويحتمل انتصارهم وجهين: أحدهما: [لأنفسهم بالظهور] . الثاني: لآلهتهم بالعبادة. فرد الله عليهم فقال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيْوَلُّونَ الدُّبُرَ} يعني كفار قريش وذلك يوم بدر , وهذه معجزة أوعدهم الله بها فحققها , وفي ذلك يقول حسان:
(ولقد وليتم الدبر لنا ... حين سال الموت من رأس الجبل)
{بَلِ الْسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} يعني القيامة. {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن موقف الساعة أدهى وأمر من موقف الدنيا في الحرب التي تولون فيها الدبر. الثاني: أن عذاب الساعة أدهى وأمر من عذاب السيف في الدنيا. وفي قوله {أدْهَى} وجهان: أحدهما: أخبث. الثاني: أعظم. {وَأَمَرُّ} فيه وجهان: أحدهما: معناه أشد لأن المرارة أشد الطعوم. الثاني: معناه أنفذ , مأخوذ من نفوذ المرارة فيما خالطته.(5/419)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
{إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس(5/419)
سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر} {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} روى إسماعيل بن زياد عن محمد بن عباد عن أبي هريرة أن مشركي قريش أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت. {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فيه وجهان: أحدهما: على قدر ما أردنا من غير زيادة ولا نقصان، قاله ابن بحر. الثاني: بحكم سابق وقضاء محتوم، ومنه قول الراجز:
89 (وقدر المقدر الأقدارا.} 9
) {وَمَآ أَمْرُنْآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بَالْبَصَرِ} يعني أن ما أردناه من شيء أمرنا به مرة واحدة ولم نحتج فيه إلى ثانية , فيكون ذلك الشيء مع أمرنا به كلمح البصر في سرعته من غير إبطاء ولا تأخير. {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن المستطر المكتوب , قاله الحسن وعكرمة وابن زيد , لأنه مسطور. الثاني: أنه المحفوظ , قاله قتادة. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن النهر أنهار الماء، والخمر، والعسل، واللبن، قاله ابن جريج. الثاني: أن النهر الضياء والنور , ومنه النهار , قاله محمد بن إسحاق , ومنه قول الراجز:
(لولا الثريدان هلكنا بالضمر ... ثريد ليل وثريد بالنهر)
الثالث: أنه سعة العيش وكثرة النعيم، ومنه اسم نهر الماء، قاله قطرب.(5/420)
{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِند مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ} فيه وجهان: أحدهما: مقعد حق لا لغو فيه ولا تأثيم. الثاني: مقعد صدق لله وعد أولياءه به، والمليك والملك واحد , وهو الله كما قال ابن الزبعري:
(يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذا أنابوا)
ويحتمل ثالثاً: أن المليك مستحق الملك , والملك القائم بالملك والمقتدر بمعنى القادر. ويحتمل وصف نفسه بالاقتدار ها هنا وجهين: أحدهما: لتعظيم شأن من عنده من المتقين لأنهم عند المقتدر أعظم قدراً , وأعلى مجزاً. الثاني: ليعلموا أنه قادر على حفظ ما أنعم به عليهم ودوامه لهم، والله أعلم.(5/421)
سورة الرحمن
مكية كلها في قول الحسن، وعكرمة، وجابر، وقال ابن عباس: إلا آية، وهي قوله تعالى: {يسأله من في السموات والأرض} الآية. وقال ابن مسعود، ومقاتل: هي مدنية كلها. بسم الله الرحمن الرحيم(5/422)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
{الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان} قوله تعالى {الرَّحْمَنُ} فيه قولان: أحدهما: أنه اسم ممنوع لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، قاله الحسن، وقطرب.(5/422)
الثاني: أنه فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى: {الر} و {حم} و {ن} فيكون مجموع هذه {الرَّحْمَنُ} ، قاله سعيد بن جبير، وابن عباس. {عَلَّمَ الْقُرْءانَ} فيه وجهان: أحدهما: علمه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس. الثاني: سهل تعلمه على جميع الناس. {خَلَقَ الإِنسَانَ} فيه قولان: أحدهما: يعني آدم، قاله الحسن وقتادة. الثاني: أنه أراد جميع الناس وإن كان بلفظ واحد، وهو قول الأكثرين. {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} لأنه بالبيان فُضِّل على جميع الحيوان، وفيه ستة تأويلات: أحدها: أن البيان الحلال والحرام , قاله قتادة. الثاني: الخير والشر , قاله الضحاك , والربيع بن أنس. الثالث: المنطق والكلام، قاله الحسن. الرابع: الخط، وهو مأثور. الخامس: الهداية، قاله ابن جريج. السادس: العقل لأن بيان اللسان مترجم عنه. ويحتمل سابعاً: أن يكون البيان ما اشتمل على أمرين: إبانة ما في نفسه ومعرفة ما بين له. وقول ثامن لبعض أصحاب الخواطر: خلق الإنسان جاهلاً به، فعلمه السبيل إليه. {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} فيه خمسة أوجه: أحدها: يعني بحساب، قاله ابن عباس، والحسبان مصدر الحساب، وقيل: جمعه. الثاني: معنى الحسبان هذه آجالها، فإذا انقضى الأجل كانت القيامة، قاله السدي. الثالث: أنه يقدر بهما الزمان لامتياز النهار بالشمس والليل بالقمر(5/423)
ولو استمر أحدهما فكان الزمان ليلاً كله أو نهاراً كله لما عرف قدر الزمان، قاله ابن زيد. الرابع: يدوران، وقيل إنهما يدوران في مثل قطب الرحى، قاله مجاهد. الخامس: معناه يجريان بقدر. {وَالنَّجْمُ وَالْشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} في النجم قولان: أحدهما: نجم السماء , وهو موحد والمراد به جميع النجوم , قاله مجاهد. الثاني: أن النجم النبات الذي قد نجم في الأرض وانبسط فيها , ليس له ساق , والشجر ما كان على ساق , قاله ابن عباس. وفي سجودهما خمسة أقاويل: أحدها: هو سجود ظلهما , قاله الضحاك. الثاني: هو ما فيهما من الصنعة والقدرة التي توجب السجود والخضوع , قاله ابن بحر. الثالث: أن سجودهما دوران الظل معهما، كما قال تعالى: {يتفيأ ظلاله} ، قاله الزجاج. الرابع: أن سجود النجم أفوله، وسجود الشجر إمكان الإجتناء لثمارها. الخامس: أن سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا أشرقت ثم يميلان معها إذا انكسر الفيء , قاله الفراء. {وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا} يعني على الأرض. {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الميزان ذو اللسان ليتناصف به الناس في الحقوق، قاله الضحاك. الثاني: أن الميزان الحكم. الثالث: قاله قتادة , ومجاهد، والسدي: أنه العدل، ومنه قول حسان:
(ويثرب تعلم أنا بها ... إذا التبس الأمر ميزانها)(5/424)
{أَلاَّ تَطْغُواْ فِي الْمِيزَانِ} وفي الميزان ما ذكرناه من الأقاويل: أحدها: أنه العدل وطغيانه الجور , قاله مجاهد. الثاني: أنه ميزان الأشياء الموزونات وطغيانه البخس , قاله مقاتل , وقال ابن عباس: يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم: المكيال والميزان. الثالث: أنه الحكم , وطغيانه التحريف. {وَأقِيمُواْ الْوَزْنَ بَالْقِسْطِ} أي بالعدل , قال مجاهد: القسط: العدل. {وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ} أي لا تنقصوه بالبخس قيل: إنه المقدار: فالجور إن قيل: إنه العدل , والتحريف إن قيل: الحكم. وفي وجه رابع: أنه ميزان حسناتكم يوم القيامة. {وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} أي بسطها ووطأها للأنام ليستقروا عليها ويقتاتوا منها. وفي الأنام ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الناس , قاله ابن عباس , وفيه قول بعض الشعراء في رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(مبارك الوجه يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر)
الثاني: أن الأنام الإنس والجن , قاله الحسن. الثالث: أن الأنام جميع الخلق من كل ذي روح , قاله مجاهد , وقتادة والسدي , سمي بذلك لأنه ينام , قال الشاعر:
(جاد الإله أبا الوليد ورهطه ... رب الأنام وخصه بسلام)
{فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكمَامِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن ذات الأكمام النخل، وأكمامها ليفها الذي في أعناقها , قاله الحسن. الثاني: أنه رقبة النخل التي تكمم فيه طلعاً، ومنه قول الشاعر:
(وذات أثارة أكلت عليها ... نباتاً في أكمتة قفار)
الثالث: أنه الطلع المكمم الذي هو كمام الثمرة، قاله ابن زيد.(5/425)
الرابع: أن معنى ذات الأكمام أي ذوات فضول على كل شيء، قاله ابن عباس. {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالْرَّيْحَانُ} أما الحب فهو كل حب خرج من أكمامها كالبر والشعير. وأما العصف ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الريح، قاله ابن عباس. الثاني: أنه الزرع إذا اصفر ويبس. الثالث: أنه حب المأكول منه , قاله الضحاك , كما قال تعالى: {كَعَصْفٍ مَأكُولٍ} . وأما الريحان ففيه خمسة أوجه: أحدها: أنه الرزق , قاله مجاهد , وسعيد بن جبير , والسدي , والعرب تقول: خرجنا نطلب ريحان الله أي رزقه , ويقال سبحانك وريحانك أي رزقك , وقال النمر بن تولب:
(سلام الإله وريحانه ... ورخيته وسماء درر)
قاله الضحاك , ورخيته هي لغة حِمْيَر. الثاني: أن الريحان الزرع الأخضر الذي لم يسنبل، قاله ابن عباس. الثالث: أنه الريحان الذي يشم، قاله الحسن، والضحاك، وابن زيد. الرابع: أن العصف الورق الذي لا يؤكل والريحان هو الحب المأكول، قاله الكلبي. {فَبِأَيِّءَالآءِ رَبِّكُمْا تُكّذِّبَانِ} في الآلاء قولان: أحدهما: أنها النعم، وتقديره فبأي نعم ربكما تكذبان، قاله ابن عباس، ومنه قول طرفة:
(كامل يجمع الآلاء الفتى ... بيديه سيد السادات خصم)
الثاني: أنها القدرة، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان، قاله ابن زيد، والكلبي.(5/426)
وفي قوله ربكما إشارة إلى الثقلين الإنس والجن في قول الجميع. وقد روى محمد بن المنكدر عن جابر قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: (مِا لِي أَرَاكُم سُكُوتاً؟ ! الجِنُّ أَحْسَنُ مِنكُم رَداً، كُنتُ كُلَّمَا قَرأَتُ عَلَيهِم الأَيةَ {فَبَأَيِّ ءالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قَالُوا: وَلاَ بِشَيءٍ مِن نِّعَمِكَ رَبَّنَا نُكّذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ) . وتكرارها في هذه االسورة لتقرير النعم التي عددها , فقررهم عند كل نعمة منها , كما تقول للرجل أما أحسنت إليك حين وهبت إليك مالاً؟ أما أحسنت إليك حين بنيت لك داراً، ومنه قول مهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليباً:
(على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير)
(على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا خرجت مخبأة الخدور)(5/427)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
{خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان}(5/427)
{خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَاْلْفَخَّارِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه الطين المختلط برمل، قاله ابن عباس. الثاني: انه الطين الرطب الذي إذا عصرته بيدك خرج الماء من بين أصابعك، وهذا مروي عن عكرمة. الثالث: أنه الطين اليابس الذي تسمع له صلصلة، قاله قتادة. الرابع: انه الطين الأجوف الذي إذا ضرب بشيء صلّ وسُمِع له صوت. الخامس: أنه الطين المنتن، قاله الضحاك، مأخوذ من قولهم صلَّ اللحم إذا أنتن. والمخلوق من صلصال كالفخار هو آدم عليه السلام. قال عبد الله بن سلام: خلق الله آدم من تراب من طين لازب، فتركه كذلك أربعين سنة، ثم صلصله كالفخار أربعين سنة، ثم صوره فتركه جسداً لا روح فيه أربعين سنة، فذلك مائة وعشرون سنة، كل ذلك والملائكة تقول سبحان الذي خلقك، لأمر ما خلقك. {وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه لهب النار، قاله ابن عباس. الثاني: خلط النار، قاله أبو عبيدة. الثالث: أنه [اللهب] الأخضر والأصفر [والأحمر] الذي يعلو النار إذا أوقدت ويكون بينها وبين الدخان، قاله مجاهد. الرابع: أنها النار المرسلة التي لا تمتنع، قاله المبرد. الخامس: أنها النار المضطربة التي تذهب وتجيء، وسمي مارجاً لاضطرابه وسرعة حركته. وفي الجان المخلوق من مارج من نار قولان:(5/428)
أحدهما: أنه أبوالجن , قاله أبو فروة يعقوب عن مجاهد. الثاني: أنه إبليس , وهو قول مأثور. وفي النار التي خلق من مارجها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها من النار الظاهرة بين الخلق , قاله الأكثرون. الثاني: من نار تكون بين الجبال من دون السماء وهي كالكلة الرقيقة , قاله الكلبي. الثالث: من نار دون الحجاب ومنها هذه الصواعق وترى خلق السماء منها , قاله الفراء. {رَبُّ الْمَشْرِقْينِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المشرقين مشرق المشس في الشتاء والصيف، والمغربين مغرب الشمس في الشتاء والصيف , قاله ابن عباس. الثاني: أن المشرقين مشرق الشمس والقمر، والمغربين مغربهما. الثالث: أن المشرقين الفجر والشمس، والمغربين الشمس والغسق وأغمض سهل بن عبد الله بقول رابع: ان المشرقين مشرق القلب واللسان , والمغربين مغرب القلب واللسان. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أما البحران ففيهما خمسة أوجه: أحدهما: أنه بحر السماء وبحر الأرض، قاله ابن عباس. الثاني: بحر فارس والروم، قاله الحسن، وقتادة. الثالث: أنه البحر المالح والأنهار العذبة، قاله ابن جريج.(5/429)
الرابع: أنه بحر المشرق وبحر المغرب يلتقي طرفاهما. الخامس: انه بحر اللؤلؤ وبحر المرجان. وأما {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تفريق البحرين , قاله ابن صخر. الثاني: إسالة البحرين , قاله ابن عباس. الثالث: استواء البحرين , قاله مجاهد. وأصل المرج , الإهمال كما تمرج الدابة في المرج. {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبغِيَانِ} في البزخ الذي بينهما أربعة أقاويل: أحدها: أنه حاجز , قاله ابن عباس. الثاني: أنه عرض الأرض , قاله مجاهد. الثالث: أنه ما بين السماء والأرض , قاله عطية , والضحاك. الرابع: أنه الجزيرة التي نحن عليها وهي جزيرة العرب , قاله الحسن , وقتادة. وفي قوله: {لاَّ يَبْغِيَانِ} ثلاثة أقاويل: أحدها: لا يختلطان لا يسيل العذب على المالح ولا المالح على العذب، قاله الضحاك. الثاني: لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه، قاله مجاهد، وقتادة. الثالث: لا يبغيان أن يلتقيا، قاله ابن زيد، وتقدير الكلام، مرج البحرين يلتقيان لولا البرزخ الذي بينهما أن يلتقيا. وقال سهل: البحران طريق الخير وطريق الشر , والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة. {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الَّلؤلُؤ وَالْمَرْجَانُ} وفي المرجان أربعة أقاويل: أحدها: عظام اللؤلؤ وكباره، وقاله علي وابن عباس، ومنه قول الأعشى:
(من كل مرجانة في البحر أخرجها ... تيارها ووقاها طينة الصدف)(5/430)
الثاني: أنه صغار اللؤلؤ , قاله الضحاك وأبو رزين الثالث: أنه الخرز الأحمر كالقضبان , قاله ابن مسعود. الرابع: أنه الجوهر المختلط، مأخوذ من مرجت الشيء إذا خلطته وفي قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} وجهان: أحدهما: ان المراد أحدهما وإن عطف بالكلام عليهما. الثاني: أنه خارج منهما على قول ابن عباس أنهما بحر السماء وبحر الأرض، لأن ماء السماء إذا وقع على صدف البحر انعقد لؤلؤاً، فصار خرجاً منهما. وفيه وجه ثالث: أن العذب والمالح قد يلتقيان فيكون العذب كاللقاح للمالح فنسب إليهما كما نسب الولد إلى الذكر والأنثى وإن ولدته الأنثى , ولذلك قيل إنه لا يخرج اللؤلؤ إلا من موضع يلتقي فيه العذب والمالح. {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ} أما الجواري فهي السفن واحدتها جارية سميت بذلك لأنها تجري في الماء بإذن الله تعالى , والجارية هي المرأة الشابة أيضاً سميت بذلك لأنه يجري فيها ماء الشباب. وأما المنشآت ففيها خمسة أوجه: أحدها: أنها المخلوقات , قاله قتادة مأخوذ من الإنشاء. الثاني: أنها المحملات، قاله مجاهد. الثالث: أنها المرسلات، ذكره ابن كامل. الرابع: المجريات، قاله الأخفش. الخامس: أنها ما رفع قلعه منها وهي الشرع فهي منشأة، وما لم يرفع ليست بمنشأة، قاله الكلبي. وقرأ حمزة {الْمُنشَئَاتُ} بكسر الشين، وفي معناه على هذه القراءة وجهان: أحدهما: البادئات , قاله ابن إسحاق والجارود بن أبي سبرة. الثاني: أنها يكثر نشأً بجريها وسيرها في البحر كالأعلام، قاله ابن بحر. وفي قوله: {كَالأَعْلاَمِ} وجهان:(5/431)
أحدهما: يعني الجبال سميت بذلك لارتفاعها كارتفاع الأعلام، قاله السدي. قالت الخنساء:
(وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار)
الثاني: أن الأعلام القصور، قاله الضحاك. {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} فيه قولان: أحدهما: يسألونه الرزق لأهل الأرض فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء وأهل الأرض، لأهل الأرض، قاله ابن جريج وروته عائشة مرفوعاً. الثاني: أنهم يسألونه القوة على العبادة، قاله ابن عطاء، وقيل إنهم يسألونه لأنفسهم الرحمة، قاله أبو صالح. قال قتادة: لا استغنى عنه أهل السماء ولا أهل الأرض، قال الكلبي: وأهل السماء يسألونه المغفرة خاصة لأنفسهم ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونه المغفرة والرزق.(5/432)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
{كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فبأي آلاء ربكما تكذبان يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن فبأي آلاء ربكما تكذبان} {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فيه قولان: أحدهما: أنه أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة، قال ابن بحر: الدهر كله يومان: أحدهما: مدة أيام الدنيا، والآخر يوم القيامة، فشأنه سبحانه في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر، والنهي، والإحياء، والأمانة، والإعطاء، والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء، والحساب، والثواب، والعقاب. والقول الثاني: أن المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا.(5/432)
وفي هذا الشأن الذي أراده في أيام الدنيا قولان: أحدهما: من بعث من الأنبياء في كل زمان بما شرعه لأمته من شرائع الدين وكان الشأن في هذا الموضع هو الشريعة التي شرعها كل نبي في زمانه ويكون اليوم عبارة عن المدة. القول الثاني: ما يحدثه الله في خلقه من تبدل الأحوال وإختلاف الأمور , ويكون اليوم عبارة عن الوقت. روى مجاهد عن عبيد بن عمير قال: كل يوم هو في شأن , يجيب داعياً , ويعطي سائلاً , ويفك عانياً , ويتوب على قوم , ويغفر لقوم. وقال سويد بن غفلة: كل يوم هو في شأن , هو يعتق رقاباً , ويعطي رغاباً , ويحرم عقاباً. وقد روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} مِن شَأَنِهِ أَن يَغْفِرَ ذَنباً , وَيَفْرِجَ كَرْباً , وَيَرَفَعَ قَوماً , وَيَضَعَ آخَرِينَ)(5/433)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
{سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان}(5/433)
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ} فيه وجهان: أحدهما: أي لنقومن عليكم على وجه التهديد. الثاني: سنقصد إلى حسابكم ومجازاتكم على أعمالكم وهذا وعيد لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن , وقال جرير:
(الآن وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لها عذاباً)
أي قصدت لهم , والثقلان الإنس والجن سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض. {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقطَارِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} فيه وجهان: أحدهما: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا، لن تعلموه إلا بسلطان، قاله عطية العوفي. الثاني: إن استطعتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هرباً من الموت فانفذوا، قاله الضحاك. {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني إلا بحجة، قاله مجاهد، قاله ابن بحر: والحجة الإيمان. الثاني: لا تنفذون إلا بمُلْك وليس لكم مُلْك، قاله قتادة. الثالث: معناه لا تنفذون إلا في سلطانه وملكه، لأنه مالك السموات والأرض وما بينهما، قاله ابن عباس. {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن الشواظ لهب النار، قاله ابن عباس , ومنه قول أمية بن أبي الصلت يهجو حسان بن ثابت:
(يمانياً يظل يشد كيراً ... وينفخ دائباً لهب الشواظ)(5/434)
[فأجابه حسان فقال] :
(همزتك فاختضعت بذل نفسٍ ... بقافية تأجج كالشواظ)
الثاني: أنه قطعة من النار فيها خضرة، قاله مجاهد. الثالث: أنه الدخان، رواه سعيد بن جبير، قال رؤبة بن العجاج:
(إن لهم من وقعنا أقياظا ... ونار حرب تسعر الشواظا)
الرابع: أنها طائفة من العذاب , قاله الحسن. وأما النحاس ففيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه الصفر المذاب على رؤوسهم , قاله مجاهد , وقتادة. الثاني: أنه دخان النار , قاله ابن عباس , قال النابغة الجعدي:
(كضوء سراج السلي ... ط لم يجعل الله فيه نحاساً.)
الثالث: أنه القتل , قاله عبد الله بن أبي بكرة. الرابع: أنه نحس لأعمالهم , قاله الحسن.(5/435)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
{فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام فبأي آلاء ربكما تكذبان هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن فبأي آلاء ربكما تكذبان} {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ} يعني يوم القيامة. {فَكَانَتْ وَرْدَةً} فيه وجهان: أحدهما: وردة البستان , وهي حمراء , وقد تختلف ألوانها لكن الأغلب من ألوانها(5/435)
الحمرة، وبها يضرب المثل في لون الحمرة، قال عبد بني الحسحاس:
(فلو كنت ورداً لونه لعشقتني ... ولكن ربي شانني بسواديا)
كذلك تصير السماء يوم القيامة حمراء كالورد، قاله ابن بحر. الثاني: أنه أراد بالوردة الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي الشتاء أغبر , فشبه السماء يوم القيامة في اختلاف ألوانها بالفرس الورد , لاختلاف ألوانه , قاله الكلبي والفراء. وفي قوله: {كَالدِّهَانِ} خمسة أوجه: أحدها: يعني خالصة , قاله الضحاك. الثاني: صافية , قاله الأخفش. الثالث: ذات ألوان , قاله الحسن. الرابع: صفراء كلون الدهن , وهذا قول عطاء الخراساني , وأبي الجوزاء. الخامس: الدهان أديم الأرض الأحمر , قاله ابن عباس , قال الأعشى:
(وأجرد من فحول الخيل طرف ... كأن على شواكله دهانا)
وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة , وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق , وشبهوا ذلك بعروق البدن هي حمراء كحمرة الدم وترى بالحائل زرقاء , فإن كان هذا صحيحاً فإن السماء لقربها من النواظر يوم القيامة وارتفاع الحواجز ترى حمراء لأنه أصل لونها. {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: كانت المسألة قبل , ثم ختم على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون , قاله قتادة. الثاني: أنه لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا , قاله ابن عباس. الثالث: لا يسأل الملائكة عنهم لأنهم قد رفعوا أعمالهم في الدنيا , قاله مجاهد. الرابع: أنه لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله لشغل كل واحد منهم بنفسه , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.(5/436)
الخامس: أنهم في يوم تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه فهم معروفون بألوانهم فلم يسأل عنهم، قاله الفراء. {يَطُوفَونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ} قال قتادة: يطوفون مرة بين الحميم، ومرة بين الجحيم، والجحيم النار، والحميم الشراب. وفي قوله تعالى: {ءانٍ} ثلاثة أوجه: أحدها: هو الذي انتهى حره وحميمه، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي، ومنه قول النابغة الذبياني:
(وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن)
أي حار. الثاني: أنه الحاضر، قاله محمد بن كعب. الثالث: أنه الذي قد آن شربه وبلغ غايته، قاله مجاهد.(5/437)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)
{ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان فبأي آلاء ربكما تكذبان} {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وفي الخائف مقام ربه ثلاثة أقاويل: أحدها: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض، قاله ابن عباس. الثاني: أنه يهم بذنب فيذكر مقام ربه فيدعه، قاله مجاهد. الثالث: أن ذلك نزل في أبي بكر رضي الله عنه خاصة حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت، والنار حين برزت، قاله عطاء وابن شوذب. قال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ فأعجبه، فسأل عنه فأُخْبِر أنه من غير حل، فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقال: (رَحِمَكَ اللَّهُ لَقَدْ أُنزِلَتْ فِيكَ آيَةٌ) وتلا عليه هذه الآية. وفي مقام ربه قولان: أحدهما: هو مقام بين يدي العرض والحساب.(5/437)
الثاني: هو قيام الله تعالى بإحصاء ما اكتسب من خير وشر. وفي هاتين الجنتين أربعة أوجه: أحدها: جنة الإنس وجنة الجان، قاله مجاهد. الثاني: جنة عدن، وجنة النعيم، قاله مقاتل. الثالث: أنهما بستانان من بساتين الجنة , وروي ذلك مرفوعاً لأن البستان يسمى جنة. الرابع: أن إحدى الجنتين منزله , والأخرى منزل أزواجه وخدامه كما يفعله رؤساء الدنيا. ويحتمل خامساً: أن إحدى الجنتين مسكنه , والأخرى بستانه. ويحتمل سادساً: أن إحدى الجنتين أسافل القصور , والأخرى أعاليها. {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: ذواتا ألوان , قاله ابن عباس. الثاني: ذواتا أنواع من الفاكهة، قاله الضحاك. الثالث: ذواتا أتا وسَعَةٍ، قاله الربيع بن أنس. الرابع: ذواتا أغصان، قاله الأخفش وابن بحر. والأفنان جمع واحده فنن كما قال الشاعر:
(ما هاج سوقك من هديل حمامة ... تدعوا على فنن الغصون حماما)
(تدعو أبا فرخين صادف ضارياً ... ذا مخلبين من الصقور قطاما)(5/438)
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
{متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي(5/438)
آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فبأي آلاء ربكما تكذبان} {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن بطائنها يريد به ظواهرها، قاله قتادة. والعرب تجعل البطن ظهراً فيقولون هذا بطن السماء وظهر السماء. الثاني: أنه أراد البطانة دون الظهارة، لأن البطانة إذا كانت من إستبرق وهي أدون من الظاهرة دل على أن الظهارة فوق الإستبرق، قاله الكلبي. وسئل عباس فما الظواهر؟ قال: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله. {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} فأما الجنا فهو الثمر , ومنه قول الشاعر:
(هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه)
وفي قوله: {دَانٍ} وجهان: أحدهما: داني لا يبعد على قائم ولا على قاعد، قاله مجاهد. الثاني: أنه لا يرد أيديهم عنها بُعد ولا شوك، قاله قتادة. {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} قال قتادة: قصر طرفهن على أزواجهن , لا يسددن النظر إلى غيرهم , ولا يبغين بهم بدلاً. {لَمْ يَطْمَثهنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لم يمسسهن , قال أبو عمرو: الطمث المس , وذلك في كل شيء يمس. الثاني: لم يذللهن إنس قبلهم ولا جان، والطمث: التذليل، قاله المبرد. الثالث: لم يُدْمِهُنَّ يعني إنس ولا جان، وذلك قيل للحيض طمث، قال الفرزدق:(5/439)
(دفعن إليَّ لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام)
وفي الآية دليل على أن الجن تغشى كالإنس. {هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: هل جزاء الطاعة إلا الثواب. الثاني: هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان في الآخرة , قاله ابن زيد. الثالث: هل جزاء من شهد أن لا إله إلا الله إلا الجنة , قاله ابن عباس. الرابع: هل جزاء التوبة إلا المغفرة , قاله جعفر بن محمد الصادق. ويحتمل خامساً: هل جزاء إحسان الله عليكم إلا طاعتكم له.(5/440)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
{ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} فيه وجهان: أحدهما: أي أقرب منهما جنتان. الثاني: أي دون صفتهما جنتان. وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الجنات الأربع لمن خاف مقام ربه , قال ابن عباس: فيكون في الأوليين النخل والشجر , وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط.(5/440)
الثاني: أن الأوليين من ذهب للمقربين , والأخريين من وَرِقٍ لأصحاب اليمين , قاله ابن زيد. الثالث: أن الأوليين للسابقين , والأخريين للتابعين , قاله الحسن. قال مقاتل: الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى , وفي الجنات الأربع جنان كثيرة. ويحتمل رابعاً: أن يكون من دونهما جنتان لأتباعه , لقصور منزلتهم عن منزلته , إحدهما للحور العين , والأخرى للولدان المخلدين , لتميز بهما الذكور عن الإناث. {مُدْهَآمَّتَانِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أي خضراوان , قاله ابن عباس. الثاني: مسودتان , قاله مجاهد , مأخوذ من الدهمة وهي السواد , ومنه سمي سود الخيل دهماً. الثالث: [خضروان من الرّي] ناعمتان , قاله قتادة. {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدهما: ممتلئتان لا تنقطعان , قاله الضحاك. الثاني: جاريتان , قاله الفراء. الثالث: فوّارتان , وذكر في الجنتين الأوليين عينين تجريان , وذكر في الأخريين عينين نضاختين , والجري أكثر من النضخ. وبماذا هما نضاختان؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: بالماء , قاله ابن عباس. الثاني: بالمسك والعنبر , قاله أنس. الثالث: بالخير والبركة، قاله الحسن، والكلبي. الرابع: بأنواع الفاكهة , قاله سعيد بن جبير. {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} يعني الجنات الأربع، وفي الخيرات قراءتان إحداهما بالتخفيف، وفي المراد بها قولان:(5/441)
أحدهما: الخير والنعم المستحسنة. الثاني: خيرات الفواكه والثمار، وحسان في المناظر والألوان. والقرءة الثانية بالتشديد، وفي المراد بها قولان: أحدهما: مختارات. الثاني: ذوات الخير وفيهن قولان: أحدهما: أنهن الحور المنشآت في الآخرة. الثاني: أنهن النساء المؤمنات الفاضلات من أهل الدنيا. وفي تسميتهن خيرات أربعة أوجه: أحدها: لأنهن خيرات الأخلاق حسان الوجوه , قاله قتادة وروته أم سلمة مرفوعاً: الثاني: لأنهن عذارى أبكاراً , قاله أبو صالح. الثالث: لأنهن مختارات. الرابع: لأنهن خيرات صالحات، قاله أبو عبيدة. {حُوْرٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: مقصورات الطرف على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلاً، ولا يرفعن طرفاً إلى غيرهم من الرجال، قاله مجاهد. الثاني: المحبوسات في الحجال لَسْنَ بالطوافات في الطرق، قاله ابن عباس. الثالث: المخدرات المصونات , ولا متعطلات ولا متشوِّفات، قاله زيد بن الحارث، وأبو عبيدة. الرابع: أنهن المسكنات في القصور، قاله الحسن. ويحتمل خامساً: أن يريد بالمقصورات البيض، مأخوذ من قصارة الثوب الأبيض، لأن وقوع الفرق بين المقصورات والقاصرات يقتضي وقوع الفرق بينهما في التأويل:(5/442)
وفي الخيام ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الخيام هي البيوت , قاله ابن بحر. الثاني: أنها خيام تضرب لأهل الجنة خارج الجنة كهيئة البداوة، قاله سعيد بن جبير. الثالث: أنها خيام في الجنة تضاف إلى القصور. روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخِيَامُ الدُّرُّ المُجَوَّفُ) . روي عن أسماء بنت يزيد الأشهلية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إننا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم، فهل نشارككم في الأجر؟ فقال عليه السلام (نَعَم إِذَا أَحْسَنْتُنَّ تَبَعُّلَ أَزَوَاجِكُنَّ وَطَلَبْتُنَّ مَرْضاتُهُم) . {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} فيه ستة تأويلات: أحدها: أن الرفرف المحبس المطيف ببسطه، قاله ابن كامل. الثاني: فضول الفرش والبسط , قاله ابن عباس. الثالث: أنها الوسائد، قاله الحسن وعاصم الجحدري. الرابع: أنها الفرش المرتفعة، مأخوذ من الرف. الخامس: أنها المجالس يتكئون على فضولها. السادس: رياض الجنة، قاله ابن جبير. {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها الطنافس المخملية، قاله الحسن. الثاني: الديباج، قاله مجاهد.(5/443)
الثالث: أنها ثياب في الجنة لا يعرفها أحد , قاله مجاهد [أيضاً] . الرابع: أنها ثياب الدنيا تنسب إلى عبقر. وفي عبقري قولان: أحدهما: أنه سيد القوم , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه: (فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِياً مِنَ النَّاسِ يَفْري فَرِيَّةُ) فنسبه إلى أرفع الثياب لاختصاصه. الثاني: أرض عبقر. وفي تسميتها بذلك قولان: أحدهما: لكثرة الجن فيها. الثاني: لكثرة رملها ويكون المراد بذلك أنها تكون مثل العبقري لأن ما ينسج بعبقر لا يكون في الجنة إذا قيل إن عبقر اسم أرض. {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} فيه وجهان: أحدهما: معناه ثبت اسم ربك ودام. الثاني: أن ذكر اسمه يمن وبركة , ترغيباً في مداومة ذكره. {ذِي الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ} في {ذِي الْجَلاَلِ} وجهان: أحدهما: أنه الجليل. الثاني: أنه المستحق للإجلال والإعظام. وفي {الإكْرَامِ} وجهان: أحدهما: الكريم. الثاني: ذو الإكرام لمن يطيعه.(5/444)
سورة الواقعة
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} . بسم الله الرحمن الرحيم(5/445)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
{إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم} قوله تعالى {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: الصيحة، قاله الضحاك. الثاني: الساعة وقعت بحق فلم تكذب، قاله السدي. الثالث: أنها القيامة، قاله ابن عباس، والحسن. وسميت الواقعة لكثرة ما يقع فيها من الشدائد. {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذَِبَةٌ} فيها أربعة أوجه: أحدها: ليس لها مردود , قاله ابن عباس.(5/445)
الثاني: لا رجعة فيها ولا مشورة , قاله قتادة. الثالث: ليس لها مكذب من مؤمن ولا من كافر , قاله ابن كامل. الرابع: ليس الخبر عن وقوعها كذباً. {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تخفض رجالاً كانوا في الدنيا مرتفعين , وترفع رجالاً كانوا في الدنيا مخفوضين , قاله محمد بن كعب. الثاني: خفضت أعداء الله في النار , ورفعت أولياء الله في الجنة , قاله عمر بن الخطاب. الثالث: خفضت الصوت فأسمعت الأدنى , ورفعت فأسمعت الأقصى , قاله عكرمة. ويحتمل رابعاً: أنها خفضت بالنفخة الأولى من أماتت , ورفعت بالنفخة الثانية من أحيت. {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً} فيه قولان: أحدهما: رجفت وزلزلت، قاله ابن عباس، قاله رؤبة بن العجاج:
(أليس يوم سمي الخروجا ... أعظم يوم رجه رجوجاً)
89 (يوماً يرى مرضعة خلوجاً} 9
الثاني: أنها ترج بما فيها كما يرج الغربال بما فيه , قاله الربيع بن أنس فيكون تأويلها على القول الأول أنها ترج بإماتة ما على ظهرها من الأحياء، وتأويلها على القول الثاني أنها ترج لإخراج من في بطنها من الموتى. {وَبُسَّتِ الْجِبَالَ بَسّاً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: سالت سيلاً، قاله مجاهد. الثاني: هدت هداً، قاله عكرمة، الثالث: سيرت سيرا، قاله محمد بن كعب، ومنه قول الأغلب العجلي:
(نحن بسسنا بأثر أطاراً ... أضاء خمساً ثمت سارا)(5/446)
)
الرابع: قطعت قطعاً , قاله الحسن. . الخامس: إنها بست كما يبس السويق أي بلت , البسيسة هي الدقيق يلت ويتخذ زاداً , قال لص من غطفان:
(لا تخبزا خبزاً وبسا بسا ... ولا تطيلا بمناخ حبسا)
{فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه رهج الغبار يسطع ثم يذهب , فجعل الله أعمالهم كذلك , قاله علي. الثاني: أنها شعاع الشمس الذي من الكوة , قاله مجاهد. الثالث: أنه الهباء الذي يطير من النار إذا اضطربت , فإذا وقع لم يكن شيئاً , قاله ابن عباس. الرابع: أنه ما يبس من ورق الشجر تذروه الريح , قاله قتادة. وفي المنبث ثلاثة أوجه: أحدها: المتفرق، قاله السدي. الثاني: المنتشر. الثالث: المنثور. {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} يعني أصنافاً ثلاثة، قال عمر بن الخطاب: اثنان في الجنة وواحد في النار. وفيهما وجهان: أحدهما: ما قاله ابن عباس أنها التي في سورة الملائكة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} . الثاني: ما رواه النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكنتم أزوجاً ثلاثة) الآية.(5/447)
ويحتمل جعلهم أزواجاً وجهين: أحدهما: أن ذلك الصنف منهم مستكثر ومقصر، فصار زوجاً. الثاني: أن في كل صنف منهم رجالاً ونساء، فكان زوجاً. {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} فيهم خمسة تأويلات: أحدها: أن أصحاب الميمنة الذين أخذوا من شق آدم الأيمن، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر، قاله زيد بن أسلم. الثاني: أن أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه , وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بيساره، قاله محمد بن كعب. الثالث: أن أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات , وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات , قاله ابن جريج. الرابع: أن أصحاب الميمنة الميامين على أنفسهم , وأصحاب المشأمة المشائيم على أنفسهم , قاله الحسن. الخامس: أن أصحاب الميمنة أهل الجنة , وأصحاب المشأمة أهل النار , قاله السدي. وقوله: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} لتكثير ما لهم من العقاب. {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلِئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} فيهم خمسة أقاويل: أحدها: أنهم الأنبياء، قاله محمد بن كعب. الثاني: أنهم الاسبقون إلى الإيمان من كل أمة، قاله الحسن، وقتادة. الثالث: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين , قاله ابن سيرين. الرابع: هم أول الناس رواحاً إلى المساجد وأسرعهم خفوفاً في سبيل الله , قاله عثمان بن أبي سوادة. الخامس: أنهم أربعة: منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن آل فرعون , وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما: أبو بكر وعمر، قاله ابن عباس. ويحتمل سادساً: أنهم الذي أسلموا بمكة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبالمدينة قبل(5/448)
هجرته إليهم لأنهم سبقوا بالإسلام قبل زمان الرغبة والرهبة. وفي تكرار قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قولان: أحدهما: السابقون في الدنيا إلى الإيمان، السابقون في الآخرة إلى الجنة هم المقربون، قاله الكلبي. الثاني: يحتمل أنهم المؤمنون بالأنبياء في زمانهم , وسابقوهم بالايمان هم المقربون المقدمون منهم.(5/449)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
{ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما} {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم الجماعة , ومنه قول الشاعر:
(ولست ذليلاً في العشيرة كلها ... تحاول منها ثلة لا يسودها)
الثاني: الشطر وهو النصف , قاله الضحاك. الثالث: أنها الفئة , قاله أبو عبيدة، ومنه قول دريد بن الصمة:
(ذريني أسير في البلاد لعلني ... ألاقي لبشر ثلة من محارب)
وفي قوله تعالى: {مِّنَ الأَوََّلِينَ} قولان: أحدهما: أنهم أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو بكرة. الثاني: أنهم قوم نوح، قاله الحسن. {وَقَلِيلٌ مِّنَ الأَخرِينَ} فيه قولان: أحدهما: أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , قاله الحسن. الثاني: أنهم الذين تقدم إسلامهم قبل أن يتكاملوا , روى أبو هريرة أنه لما(5/449)
نزلت {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الأخِرِينَ} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {ثلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مَّنَ الأخِرِينَ} فقال عليه السلام: (إِنِّي لأرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بَلْ ثُلُتَ أَهْلِ الجَنَّةِ بَلْ أَنتُم نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَتُقَاسِمُونَهُم فِي النِّصْفِ الثَّانِي) . {عَلَى سُرُرٍ مَّوضُونَةٍ} يعني الأسرة، واحدها سرير، سميت بذلك لأنها مجلس السرور. وفي الموضونة أربعة أوجه: أحدها: أنها الموصولة بالذهب، قاله ابن عباس. الثاني: أنها المشبكة النسج، قاله الضحاك، ومنه قول لبيد:
(إن يفزعوا فسرا مع موضونة ... والبيض تبرق كالكواكب لامها)
الثالث: أنها المضفورة، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد، ومنه وضين الناقة وهو البطان العريض المضفور من السيور. الرابع: أنها المسندة بعضها إلى بعض. {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} الولدان: جمع وليد وهم الوصفاء. وفي قوله تعالى: {مُّخَلَّدُونَ} قولان: أحدهما: [مسورون] بالأسورة , [مقرطون] بالأقراط , قاله الفراء , قال الشاعر:
(ومخلدات باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز الكثبان)
الثاني: أنهم الباقون على صغرهم لا يموتون ولا يتغيرون، قاله الحسن، ومنه قول امرىء القيس:
(وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال)(5/450)
ويحتمل ثالثاً: أنهم الباقون معهم لا يبصرون عليهم ولا ينصرفون عنهم بخلافهم في الدنيا. {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} فيهما قولان: أحدهما: أن الأكواب: التي ليس لها عُرى , قاله الضحاك. الثاني: أن الأكواب: مدورة الأفواه , والأباريق: التي يغترف بها، قاله قتادة، قال الشاعر:
(فعدوا عليّ بقرقف ... ينصب من أكوابها)
{وَكَأَسٍ مِّن مَّعِينٍ} والكأس اسم للإناء إذا كان فيه شراب , والمعين الجاري من ماء أو خمر , غير أن المراد به في هذا الموضوع الخمر , وصف الخمر بأنه الجاري من عينه بغير عصر كالماء المعين. {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه لا يمنعون منها، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد. الثاني: لا يفرّقون عنها , حكاه ابن قتيبة , واستشهد عليه بقول الراجز:
89 (صد عنه فانصدع.} 9
الثالث: لا ينالهم من شربها وجع الرأس وهو الصداع , قاله ابن جبير، وقتادة , ومجاهد , والسدي. وفي قوله تعالى: {وَلاَ يُنزِفُونَ} أربعة أوجه: أحدها: لا تنزف عقولهم فيسكرون , قاله ابن زيد، وقتادة. الثاني: لا يملون، قاله عكرمة. الثالث: لا يتقيئون، قاله يحيى بن وثاب. الرابع: وهو تأويل من قرأ بكسر الزاي لا يفنى خمرهم , ومنه قول الأبيرد:
(لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى أنتم آل أبجرا)
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال: السكر،(5/451)
والصداع، والقيء، والبول، وقد ذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال. {وَحُورٌ عِينٌ} والحور البيض سمين لبياضهن , وفي العين وجهان: أحدهما: أنهن كبار الأعين , كما قال الشاعر:
(إذا كبرت عيون من النساء ... ومن غير النساء فهن عين)
)
الثاني: أنهن اللاتي سواد أعينهن حالك , وبياض أعينهن نقي , كما قال الشاعر:
(إذا ما العين كان بها احورار ... علامتها البياض على السواد)
{كَأَمْثَالِ اللؤْلُؤِ الْمَكْنُُونِ} فيه وجهان: أحدهما: في نضارتها وصفاء ألوانها. الثاني: أنهن كأمثال اللؤلؤ في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن , كما قال الشاعر:
(كأنما خلقت في قشر لؤلؤة ... فكل أكنافها وجه لمرصاد)
{لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا يسمعون في الجنة باطلاً ولا كذباً , قاله ابن عباس. الثاني: لا يسمعون فيها خُلفاً , أي لا يتخالفون عليها كما يتخالفون في الدنيا , ولا يأثمون بشربها , كما يأثمون في الدنيا , قاله الضحاك. الثالث: لا يسمعون فيها شتماً ولا مأثماً , قاله مجاهد. يحتمل رابعاً: لا يسمعون مانعاً لهم منها , ولا مشنعاً لهم على شربها. {إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لكن يسمعون قولاً ساراً وكلاماً حسناً. الثاني: لكن يتداعون بالسلام على حسن الأدب وكريم الأخلاق. الثالث: يعني قولاً يؤدي إلى السلامة. ويحتمل رابعاً: أن يقال لهم هنيئاً.(5/452)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
{وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل(5/452)
ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ} فيه ستة أقاويل: أحدها: أنهم أصحاب الحق، قاله السدي. الثاني: أنهم دون منزلة المقربين، قاله ميمون بن مهران. الثالث: أنهم من أعطي كتابه بيمينه، قاله يعقوب بن مجاهد. الرابع: أنهم التابعون بإحسان ممن لم يدرك الأنبياء من الأمم، قاله الحسن. الخامس: ما رواه أسباط عن السدي: أن الله تعالى مسح ظهر آدم فمسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج ذرية كهيئة الذر بيضاء فقال لهم ادخلوا الجنة ولا أبالي , ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج ذرية كهيئة الذر سوداء , فقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي , فذلك هو قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} , وقوله: {وَأصْحَابُ الْشِّمَالِ} . السادس: ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصحاب اليمين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ثم تابوا بعد ذلك وأصلحوا.) {فِي سِدْرٍ مَّخضُودٍ} والسدر النبق , وفي مخضود ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه اللين الذي لا شوك فيه، قاله عكرمة، وقال غيره لا عجم لنبقه، يقال خضدت الشجرة إذا حذقت شوكها. الثاني: أنه الموقر حملاً، قاله مجاهد. الثالث: المدلاة الأغصان , وخص السدر بالذكر لأن ثمره أشهى الثمر إلى النفوس طمعاً وألذه ريحاً. {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} فيه ثلاثة أقاويل:(5/453)
أحدها: أن الطلح الموز، قاله ابن عباس، وابو سعيد الخدري، وأبو هريرة، والحسن، وعكرمة. الثاني: أنها شجرة تكون باليمن وبالحجاز كثيراً تسمى طلحة , قاله عبد الله بن حميد , وقيل إنها من أحسن الشجر منظراً , ليكون بعض شجرهم مأكولاً وبعضه منظوراً , قال الحادي:
(بشرها دليلها وقالا ... غداً ترين الطلح والأحبالا)
الثالث: أنه الطلع , قاله علي , وحكى أنه كان يقرأ: {وَطَلْعٍ مَّنضُودٍ} , وفي المنضود قولان: أحدهما: المصفوف، قاله السدي. الثاني: المتراكم، قاله مجاهد. {وَظِلٍ مَّمْدُودٍ} أي دائم. ويحتمل ثانياً: أنه التام. {وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} أي منصب في غير أخدود. ويحتمل آخر: أنه الذي ينسكب عليهم من الصعود والهبوط بخلاف الدنيا، قال الضحاك: من جنة عدن إلى أهل الخيام. {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا مقطوعة بالفناء ولا ممنوعة من اليد بشوك أو بعد. وفيه وجه ثالث: لا مقطوعة بالزمان ولا ممنوعة بالأشجار. {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} فيها قولان: أحدهما: أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم، مرفوعة بكثرة حشوها زيادة في الاستمتاع بها. الثاني: أنهم الزوجات لأن الزوجة تسمى فراشا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(5/454)
(الوَلَدُ لِلْفرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ) قاله ابن بحر. فعلى هذا يحتمل وجهين: أحدهما: مرفوعات في القلوب لشدة الميل إليهن. الثاني: مرفوعات عن الفواحش والأدناس. {إِنَّآ أَنشَأناهُنَّ إِنشَآءً} يعني نساء أهل الدنيا , وفي إنشائهن في الجنة قولان: أحدهما: يعني إنشاءهن في القبور , قاله ابن عباس. الثاني: إعادتهن بعد الشمط والكبر صغاراً أبكاراً , قاله الضحاك , وروته أم سلمة مرفوعاً: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} فيه قولان: أحدهما: عذارى بعد أن كن غير عذارى , قاله يعقوب بن مجاهد. الثاني: لا يأتيها إلا وجدها بكراً , قاله ابن عباس. ويحتمل ثالثاً: أبكاراً من الزوجات , وهن الأوائل لأنهن في النفوس أحلى والميل إليهن أقوى , كما قال الشاعر:
(أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً فارغاً فتمكنا)
قوله تعالى {عُرُباً أَتْرَاباً} فيه سبعة تأويلات: أحدها: أن العرب المنحبسات على أزواجهن المتحببات إليهم , قاله سعيد بن جبير , والكلبي. الثاني: أنهن المتحببات من الضرائر ليقفن على طاعته ويتساعدن على إشاعته , قاله عكرمة. الثالث: الشكلة بلغة أهل مكة , والغنجة بلغة أهل المدينة , قاله ابن زيد , ومنه قول لبيد:
(وفي الخباء عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى دونها البصر)
الرابع: هن الحسنات الكلام , قاله ابن زيد. [أيضاً] .(5/455)
الخامس: أنها العاشقة لزوجها لأن عشقها له يزيده ميلاً إليها وشغفاً بها. السادس: أنها الحسنة التبعُّل , لتكون ألذ استمتاعاً. السابع: ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عُرُباً كَلاَمُهُنَّ عَرَبِّي) {أَتْراباً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني أقران , قاله عطية. وقال الكلبي: على سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة , يقال في النساء أتراب , وفي الرجال أقران , وأمثال , وأشكال , قاله مجاهد. الثالث: أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد , قاله السدي.(5/456)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
{وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم الدين} {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} فيه قولان: أحدهما الدخان , قاله أبو مالك. الثاني: أنها نار سوداء , قاله ابن عباس. {لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} فيه وجهان: أحدهما: لا بارد المدخل , ولا كريم المخرج , قاله ابن جريج. الثاني: لا كرامة فيه لأهله.(5/456)
ويحتمل ثالثاً: أن يريد لا طيب ولا نافع. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرفِينَ} فيه وجهان: أحدهما: منعمين , قاله ابن عباس. الثاني: مشركين , قاله السدي. ويحتمل وصفهم بالترف وجهين: أحدهما: التهاؤهم عن الإعتبار وشغلهم عن الإزدجار. الثاني: لأن عذاب المترف أشد ألماً. {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الشرك بالله , قاله الحسن , والضحاك , وابن زيد. الثاني: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه , قاله قتادة , ومجاهد. الثالث: هو اليمين الموس , قاله الشعبي. ويحتمل رابعاً: أن يكون الحنث العظيم نقض العهد المحصن بالكفر. {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها الأرض الرملة التي لا تروى بالماء , وهي هيام الأرض , قاله ابن عباس. الثاني: أنها الإبل التي يواصلها الهيام وهو داء يحدث عطشاً فلا تزال الإبل تشرب الماء حتى تموت , قاله عكرمة , والسدي , ومنه قول قيس بن الملوح:
(يقال به داء الهيام أصابه ... وقد علمت نفسي مكان شفائياً)
الثالث: أن الهيم الإبل الضوال لأنها تهيم في الأرض لا تجد ماءً فإذا وجدته فلا شيء أعظم منها شرباً. الرابع: أن شرب الهيم هو أن تمد الشرب مرة واحدة إلى أن تتنفس ثلاث مرات , قاله خالد بن معدان , فوصف شربهم الحميم بأنه كشرب الهيم لأنه أكثر شرباً فكان أزيد عذاباً. {هَذَا نُزْلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي طعامهم وشرابهم يوم الجزاء , يعني في جهنم.(5/457)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
{نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن(5/457)
الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون} {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: نحن خلقنا رزقكم أفلا تصدقون أن هذا طعامكم. الثاني: نحن خلقناكم فلولا تصدقون أننا بالجزاء: بالثواب والعقاب اردناكم. {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} يعني نطفة المني، قال الفراء، يقال أمنى يمني ومنى يمني بمعنى واحد. ويحتمل عندي أن يختلف معناهما فيكون أمنى إذا أنزل عن جماع , ومني إذا عن احتلام. وفي تسمية المني منياً وجهان: أحدهما: لإمنائه وهو إراقته. الثاني: لتقديره ومنه المناء الذي يوزن به فإنه مقدار لذلك فكذلك المني مقدار صحيح لتصوير الخلقة. {ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أي نحن خلقنا من المني المهين بشراً سوياً، فيكون ذلك خارجاً مخرج الإمتنان. الثاني: أننا خلقنا مما شاهدتموه من المني بشراً فنحن على خلق ما غاب من إعادتكم أقدر، فيكون ذلك خارجاً مخرج البرهان، لأنهم على الوجه الأول معترفون، وعلى الوجه الثاني منكرون. {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: قضينا عليكم بالموت. الثاني: كتبنا عليكم الموت. الثالث: سوينا بينكم الموت. فإذا قيل بالوجه الأول بمعنى قضى ففيه وجهان:(5/458)
أحدهما قضى بالفناء ثم الجزاء. الثاني: ليخلف الأبناء الآباء. وإذا قيل بالوجه الثاني أنه بمعنى كتبنا ففيه وجهان: أحدهما: كتبنا مقداره فلا يزيد ولا ينقص , قاله ابن عيسى. الثاني: كتبنا وقته فلا يتقدم عليه ولا يتأخر , قاله مجاهد. وإذا قيل بالوجه الثالث أنه بمعنى سوينا ففيه وجهان: أحدهما: سوينا بين المطيع والعاصي. الثاني: سوينا بين أهل السماء وأهل الأرض , قاله الضحاك. {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} فيه وجهان: أحدهما: وما نحن بمسبوقين على ما قدرنا بينكم الموت حتى لا تموتوا. الثاني: وما نحن بمسبوقين على أن تزيدوا في مقداره وتؤخروه عن وقته. والوجه الثاني: أنه ابتداء كلام يتصل به ما بعده من قوله تعالى: {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئِكُم فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فعلىهذا في تأويله وجهان: أحدهما: لما لم نسبق إلى خلق غيركم كذلك لا نعجز عن تغيير أحوالكم بعد موتكم. الثاني: كما لم نعجز عن خلق غيركم كذلك لا نعجز عن تغيير أحوالكم بعد موتكم كما لم نعجز عن تغييرها في حياتكم. فعلى هذا التأويل يكون في الكلام مضمر محذوف , وعلى التأويل الأول يكون جميعه مظهراً.(5/459)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
{أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم(5/459)
شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم} {أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ} الآية. فأضاف الحرث إليهم والزرع إليه تعالى لأن الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم، والزرع من فعل الله وينبت على إختياره لا على إختيارهم، وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُم زَرَعْتُ وَلَكِن لِيَقُلْ حَرَثْتُ) . وتتضمن هذه الآية أمرين: أحدهما: الإمتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم. الثاني: البرهان الموجب للإعتبار بأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذوره وإنتقاله إلى إستواء حاله، [من العفن إلى الترتيب] حتى صار زرعاً أخضر، ثم جعله قوياً مشتداً أضعاف ما كان علي، فهو بإعادة من مات أحق وعليه أقدر، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السليمة. ثم قول تعالى {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} يعني الزرع، والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به، فنبه بذلك على أمرين: أحدهما: ما أولاهم من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاماً ليشكروه. الثاني: ليعتبروا بذلك في أنفسهم , كما أنه يجعل الرزع حطاماً إذا شاء كذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا. {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} بعد مصير الزرع حطاماً، وفيه أربعة أوجه: أحدها: تندمون، وهو قول الحسن وقتادة، ويقال إنها لغة عكل وتميم. الثاني: تحزنون، قاله ابن كيسان. الثالث: تلاومون، قاله عكرمة.(5/460)
الرابع: تعجبون , قاله ابن عباس. وإذا نالكم هذا في هلاك زرعكم كان ما ينالكم في هلاك أنفسكم أعظم. {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لمعذبون , قاله قتادة , ومنه قول ابن المحلم:
(وثقت بأن الحفظ مني سجية ... وأن فؤادي مبتلى بك مغرم)
الثاني: مولع بنا , قاله عكرمة , ومنه قول النمر بن تولب:
(سلا عن تذكره تكتما ... وكان رهيناً بها مغرماً)
أي مولع. الثالث: محرومون من الحظ , قاله مجاهد , ومنه قول الشاعر:
(يوم النسار ويوم الجفا ... ركانا عذاباً وكانا غراماً)
{أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أي تستخرجون بزنادكم من شجر أو حديد أو حجر، ومنه قول الشاعر:
(فإن النار بالزندين تورى ... وإن الشر يقدمه الكلام)
{ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ} أي أخذتم أصلها. {أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} يعني المحدثون. {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} فيه وجهان: أحدهما: تذكرة لنار [الآخرة] الكبرى، قاله قتادة. الثاني: تبصرة للناس من الظلام، قاله مجاهد. {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوينَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: منفعة للمسافرين قاله الضحاك، قال الفراء: إنما يقال للمسافرين إذا نزلوا القِيّ وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها. الثاني: المستمتعين من حاضر ومسافر، قاله مجاهد. الثالث: للجائعين في إصلاح طعامهم، قاله ابن زيد.(5/461)
الرابع: الضعفاء والمساكين , مأخوذ من قولهم قد أقوت الدار إذا خلت من أهلها , حكاه ابن عيسى. والعرب تقول قد أقوى الرجل إذا ذهب ماله , قال النابغة:
(يقوى بها الركب حتى ما يكون لهم ... إلا الزناد وقدح القوم مقتبس)
الخامس: أن المقوي الكثير المال , مأخوذ من القوة فيستمتع بها الغني والفقير.(5/462)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
{فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ الْنُّجُومِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه إنكار أن يقسم الله بشيء من مخلوقاته، قال الضحاك: إن الله لا يقسم بشىء من خلقه ولكنه استفتاح يفتتح به كلامه. الثاني: أنه يجوز أن يقسم الخالق بالمخلوقات تعظيماً من الخالق لما أقسم به من مخلوقاته. فعلى هذا في قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ} وجهان: أحدهما: أن (لا) صلة زائدة، ومعناه أقسم. الثاني: أن قوله: {فَلاَ} راجع إلى ما تقدم ذكره، ومعناه فلا تكذبوا ولا تجحدوا ما ذكرته من نعمة وأظهرته من حجة، ثم استأنف كلامه فقال: {أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} . وفيها ستة أقاويل: أحدها: أنها مطالعها ومساقطها، قاله مجاهد.(5/462)
الثاني: إنتشارها يوم القيامة وإنكدارها , قاله الحسن. الثالث: أن مواقع النجوم السماء , قاله ابن جريج. الرابع: أن مواقع النجوم الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا , قاله الضحاك , ويكون قوله: {فلا أقسم} مستعملاً على حقيقته في نفي القسم بها. الخامس: أنها نجوم القرآن أنزلها الله من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا , فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة , ونجمه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة , فهو ينزله على الأحداث في أمته , قاله ابن عباس والسدي. السادس: أن مواقع النجوم هو محكم القرآن , حكاه الفراء عن ابن مسعود. {وَإِنَّهُ قَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} فيه قولان: أحدهما: أن القرآن قسم عظيم , قاله ابن عباس. الثاني: أن الشرك بآياته جرم عظيم , قاله ابن عباس , والضحاك. ويحتمل ثالثاً: أن ما أقسم الله به عظيم. {إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ} يعني أن هذا القرآن كريم , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: كريم عند الله. الثاني: عظيم النفع للناس. الثالث: كريم بما فيه من كرائم الأخلاق ومعالي الأمور. ويحتمل أيضاً رابعاً: لأنه يكرم حافظه ويعظم قارئه. {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} وفيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه كتاب في السماء وهو اللوح المحفوظ , قاله ابن عباس، وجابر بن زيد. الثاني: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن وذكر من ينزل عليه، قاله عكرمة. الثالث: أنه الزبور. الرابع: أنه المصحف الذي في أيدينا، قاله مجاهد، وقتادة.(5/463)
وفي {مَّكْنُونٍ} وجهان: أحدهما: مصون , وهو معنى قول مجاهد. الثاني: محفوظ عن الباطل , قاله يعقوب بن مجاهد. ويحتمل ثالثاً: أن معانيه مكنونة فيه. {لاَّ يَمَسَّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} تأويله يختلف بإختلاف الكتاب، فإن قيل: إنه كتاب في السماء ففي تأويله قولان: أحدهما: لا يمسه في السماء إلا الملائكة المطهرون , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير. الثاني: لا ينزله إلا الرسل من الملائكة إلى الرسل من الأنبياء , قاله زيد بن أسلم. وإن قيل إنه المصحف الذي في أيدينا ففي تأويله ستة أقاويل: أحدها: لا يمسه بيده إلا المطهرون من الشرك , قاله الكلبي. الثاني: إلا المطهرون من الذنوب والخطايا قاله الربيع بن أنس. الثالث: إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس , قاله قتادة. الرابع: لا يجد طعم نفعه إلا المطهرون أي المؤمنون بالقرآن، حكاه الفراء. الخامس: لا يمس ثوابه إلا المؤمنون، رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم. السادس: لا يلتمسه إلا المؤمنون، قاله ابن بحر. {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ} يعني بهذا الحديث القرآن الذي لا يمسه إلا المطهرون. وفي قوله مدهنون أربعة تأويلات: أحدها: مكذبون، قاله ابن عباس. الثاني: معرضون، قاله الضحاك.(5/464)
الثالث: ممالئون الكفار على الكفر به، قاله مجاهد. الرابع: منافقون في التصديق به حكاه ابن عيسى، ومنه قول الشاعر:
(لبعض الغشم أبلغ في أمور ... تنوبك من مداهنة العدو)
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُم إِنَّكُم تُكَذِّبُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الإستسقاء بالأنواء وهو قول العرب مطرنا بنوء كذا , قاله ابن عباس ورواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: الاكتساب بالسحر , قاله عكرمة. الثالث: هو أن يجعلوا شكر الله على ما رزقهم تكذيب رسله والكفر به , فيكون الرزق الشكر , وقد روي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُم أَنَّكُم تُكَذِّبُونَ} . ويحتمل رابعاً: أنه ما يأخذه الأتباع من الرؤساء على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والصد عنه.(5/465)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
{فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين} {فَلَوْلاَ إِن كُنْتُم غَيْرَ مَدِينِينَ} فيه سبعة تأويلات: أحدها: غير محاسبين، قاله ابن عباس. الثاني: غير مبعوثين، قاله الحسن. الثالث: غير مصدقين، قاله سعيد بن جبير. الرابع: غير مقهورين، قاله ميمون بن مهران.(5/465)
الخامس: غير موقنين، قاله مجاهد. السادس: غير مجزيين بأعمالكم , حكاه الطبري. السابع: غير مملوكين، قاله الفراء. {تَرْجِعُونَهَآ} أي ترجع النفس بعد الموت إلى الجسد إن كنتم صادقين أنكم غير مذنبين.(5/466)
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
{فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم} {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} فيهم وجهان: أحدهما: أنهم أهل الجنة , قاله يعقوب بن مجاهد. الثاني: أنهم السابقون , قاله أبو العالية. {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} في الرَّوْح ثمانية تأويلات: أحدها: الراحة , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الفرح , قاله ابن جبير. الثالث: أنه الرحمة , قاله قتادة. الرابع: أنه الرخاء , قاله مجاهد. الخامس: أنه الرَوح من الغم والراحة من العمل , لأنه ليس في الجنة غم ولا عمل , قاله محمد بن كعب. السادس: أنه المغفرة , قاله الضحاك. السابع: التسليم , حكاه ابن كامل. الثامن: ما روى عبد الله بن شقيق عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ {فَرُوُحٌ} بضم الراء , وفي تأويله وجهان:(5/466)
أحدهما: بقاء روحه بعد موت جسده. الثاني: ما قاله الفراء أن تأويله حياة لا موت بعدها في الجنة. وأما الريحان ففيه ستة تأويلات: أحدها: أنه الإستراحة عند الموت , قاله ابن عباس. الثاني: الرحمة , قاله الضحاك. الثالث: أنه الرزق , قاله ابن جبير. الرابع: أنه الخير , قاله قتادة. الخامس: أنه الريحان المشموم يُتَلَقَّى به العبد عند الموت , رواه عبد الوهاب. السادس: هو أن تخرج روحه ريحانة , قال الحسن. واختلف في محل الرَوْح على خمسة أقوال. أحدها: عند الموت. الثاني: قبره ما بين موته وبعثه. الثالث: الجنة زيادة على الثواب والجزاء , لأنه قرنه بذكر الجنة فاقتضى أن يكون فيها. الرابع: أن الروح في القبر , والريحان في الجنة. الخامس: أن الروح لقلوبهم , والريحان لنفوسهم , والجنة لأبدانهم. {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه سلامته من الخوف وتبشيره بالسلامة. الثاني: أنه يحيا بالسلام إكراماً , فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل: أحدها: عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت , قاله الضحاك. الثاني: عند مساءلته في القبر , يسلم عليه منكر ونكير. الثالث: عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها.(5/467)
سورة الحديد
مدنية في قول الجمهور، قال الكلبي هي مكية. بسم الله الرحمن الرحيم(5/468)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
{سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} قوله تعالى {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} في هذا التسبيح ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أن خلق ما في السموات والأرض يوجب تنزيهه عن الأمثال والأشباه. الثاني: تنزيه الله قولاً مما أضاف إليه الملحدون , وهو قول الجمهور. الثالث: أنه الصلاة , سميت تسبيحاً لما تتضمنه من التسبيح , قاله سفيان , والضحاك. فقوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ} يعني الملائكة وما فيهن من غيرهم وما في الأرض يعني في الحيوان والجماد , وقد ذكرنا في تسبيح الجماد وسجوده ما أغنى عن الإعادة. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في انتصاره , {الْحَكِيمُ} في تدبيره.(5/468)
{هُوَ الأَوَّلُ وِالأخِرُ} يريد بالأول أنه قبل كل شيء لقدمه , وبالآخر لأنه بعد كل شيء لبقائه. {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: الظاهر فوق كل شيء لعلوه , والباطن إحاطته بكل شيء لقربه , قاله ابن حيان. الثاني: أنه القاهر لما ظهر وبطن كما قال تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِم فََأصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} . الثالث: العالم بما ظهر وما بطن. {وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٍ} يعني بالأول والآخر والظاهر والباطن. ولأصحاب الخواطر في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: الأول في ابتدائه بالنعم , والآخر في ختامه بالإحسان , والظاهر في إظهار حججه للعقول , والباطن في علمه ببواطن الامور. الثاني: الأول بكشف أحوال الآخرة حين ترغبون فيها , والآخر بكشف أحوال الدنيا حين تزهدون فيها , والظاهر على قلوب أوليائه حين يعرفونه , والباطن على قلوب أعدائه حين ينكرونه. الثالث: الأول قبل كل معلوم , والآخر بعد كل مختوم , والظاهر فوق كل مرسوم , والباطن محيط بكل مكتوم.(5/469)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور}(5/469)
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} قال مقاتل: من مطر , وقال غيره: من مطر وغير مطر. {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} قال مقاتل: من نبات وغير نبات. {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} قال مقاتل: من الملائكة , وقال غيره: من ملائكة وغير ملائكة. ويحتمل وجهاً آخر: ما يلج في الأرض من بذر، وما يخرج منها من زرع، وما ينزل من السماء من قضاء، وما يعرج فيها من عمل، ليعلموا إحاطة علمه بهم فيما أظهروه أو ستروه، ونفوذ قضائه فيهم بما أرادوه أو كرهوه. {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} فيه وجهان: أحدهما: علمه معكم أينما كنتم حيث لا يخفى عليه شيء من أعمالكم , قاله مقاتل. والثاني: قدرته معكم أينما كنتم حيث لا يعجزه شيء من أموركم.(5/470)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
{آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين(5/470)
أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم} {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} تحتمل هذه النفقة وجهين: أحدهما: أن تكون الزكاة المفروضة. والثاني: أن يكون غيرها من وجوه الطاعات. وفي {ما جَعَلَكْم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} قولان: أحدهما: يعني مما جعلكم معمرين فيه بالرزق , قاله مجاهد. الثاني: مما جعلكم مستخلفين فيه بوراثتكم له عمن قبلكم , قاله الحسن. ويحتمل ثالثاً: مما جعلكم مستخلفين على القيام بأداء حقوقه. {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} يحتمل وجهين: أحدهما: معناه ولله ملك السموات والأرض. الثاني: أنهما راجعان إليه بانقباض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق. {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} فيه قولان: أحدهما: لا يستوي من أسلم من قبل فتح مكة وقاتل ومن أسلم بعد فتحها وقاتل , قاله ابن عباس , ومجاهد. الثاني: يعني من أنفق ماله في الجهاد وقاتل , قاله قتادة. وفي هذا الفتح قولان: أحدهما: فتح مكة , قاله زيد بن أسلم. الثاني: فتح الحديبية , قاله الشعبي , قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الأخر , وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى , كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك. {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فيه قولان: أحدهما: أن الحسنى الحسنة , قاله مقاتل. الثاني: الجنة , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: أن الحسنى القبول والجزاء.(5/471)
{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرضُ اللَّه قَرْضاً حَسَناً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن القرض الحسن هو أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أكبر، رواه سفيان عن ابن حيان. الثاني: أنه النفقة على الأهل , قاله زيد بن أسلم. الثالث: أنه التطوع بالعبادات , قاله الحسن. الرابع: أنه عمل الخير , والعرب تقول لي عند فلان قرض صدق أو قرض سوء , إذا فعل به خيراً أو شراً , ومنه قول الشاعر:
(وتجزي سلاماً من مقدم قرضها ... بما قدمت أيديهم وأزلت)
الخامس: أنه النفقة في سبيل الله , قاله مقاتل بن حيان. وفي قوله: {حَسَناً} وجهان: أحدهما: طيبة بها نفسه , قاله مقاتل. الثاني: محتسباً لها عند الله , قاله الكلبي , وسمي قرضاً لاستحقاق ثوابه , قاله لبيد:
(وإذا جوزيت قرضاً فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل)
وفي تسميته {حَسَناً} وجهان: أحدهما: لصرفه في وجوه حسنة. الثاني: لأنه لا مَنَّ فيه ولا أذى. {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} فيه وجهان: أحدهما: فيضاعف القرض لأن جزاء الحسنة عشر أمثالها. الثاني: فيضاعف الثواب تفضلاً بما لا نهاية له. {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} فيه أربعة أوجه: أحدها: لم يتذلل في طلبه. الثاني: لأنه كريم الخطر. الثالث: أن صاحبه كريم. فلما سمعها أبو الدحداح تصدق بحديقة فكان أول من تصدق بعد هذه الآية.(5/472)
وروى سعيد بن جبير أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية، فقالوا يا محمد، أفقير ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} الآية. {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} وفي نورهم ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ضياء يعطيهم الله إياه ثواباً وتكرمة , وهذا معنى قول قتادة. الثاني: أنه هداهم الذي قضاه لهم , قاله الضحاك. الثالث: أنه نور أعمالهم وطاعتهم. قال ابن مسعود: ونورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم مَن نوره مثل النخلة , وأدناهم نوراً مَن نوره على إبهام رجله يوقد تارة ويطفأ أخرى. وقال الضحاك: ليس أحد يعطى يوم القيامة نوراً , فإذا انتهوا إلى الصراط أطفىء نور المنافقين , فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن ينطفىء نورهم كما طفىء نور المنافقين , فقالوا: {رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} . وفي قوله: {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} وجهان: أحدهما: ليستضيئوا به على الصراط , قاله الحسن. والثاني: ليكون لهم دليلاً إلى الجنة , قاله مقاتل. وفي قوله: {بِأَيْمَانَهِم} في الصدقات والزكوات وسبل الخير. الرابع: بإيمانهم في الدنيا وتصديقهم بالجزاء , قاله مقاتل. قوله تعالى {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} فيه وجهان:(5/473)
أحدهما: أن نورهم هو بشراهم بالجنات. الثاني: هي بشرى من الملائكة يتلقونهم بها في القيامة , قاله الضحاك.(5/474)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
{يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير} {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} الآية. قال ابن عباس وأبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة أظنها بعد فصل القضاء , ثم يعطون نوراً يمشون فيه. وفي النور قولان: أحدهما: يعطاه المؤمن بعد إيمانه دون الكافر. الثاني: يعطاه المؤمن والمنافق , ثم يسلب نور المنافق لنفاقه , قاله ابن عباس. فيقول المنافقون والمنافقات حين غشيتهم الظلمة. {لِلَّذِينَءَامَنُواْ} حين أعطوا النور الذي يمشون فيه: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي انتظروا , ومنه قول عمرو بن كلثوم:
(أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا)
{قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً} فيه قولان: أحدهما: ارجعوا إلى الموضع الي أخذنا منه النور فالتمسوا منه نوراً. الثاني: ارجعو فاعملوا عملاً يجعل الله بين أيديكم نوراً. ويحتمل في قائل هذا القول وجهان:(5/474)
أحدهما: أن يقوله المؤمنون لهم. الثاني: أن تقوله الملائكة لهم. {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه حائط بين الجنة والنار , قاله قتادة. الثاني: أنه حجاب في الأعراف , قاله مجاهد. الثالث: أنه سور المسجد الشرقي , [بيت المقدس] قاله عبد الله بن عمرو بن العاص. {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبلِهِ الْعَذَابُ} فيه قولان: أحدهما: أن الرحمة التي في باطنه الجنة , والعذاب الذي في ظاهره جهنم , قاله الحسن. الثاني: أن الرحمة التي في باطنه: المسجد وما يليه , والعذاب الذي في ظاهره: وادي جهنم يعني بيت المقدس , قاله عبد الله بن عمرو بن العاص. ويحتمل ثالثاً: أن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين , والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين. وفيمن ضرب بينهم وبينه بهذا السور قولان: أحدهما: أنه ضرب بينهم وبين المؤمنين الذي التمسوا منهم نوراً , قاله الكلبي ومقاتل. الثاني: أنه ضرب بينهم وبين النور بهذا السور حتى لا يقدروا على التماس النور.(5/475)
{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} يعني نصلي مثلما تصلون , ونغزو مثلما تغزون , ونفعل مثلما تفعلون. {قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَكُم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالنفاق، قاله مجاهد. الثاني: بالمعاصي، قاله أبو سنان. الثالث: بالشهوات، رواه أبو نمير الهمداني. {وَتَرَبَّصْتُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: بالحق وأهله، قاله قتادة. الثاني: وتربصتم بالتوبة، قاله أبو سنان. {وَارْتَبْتُمْ} يعني شككتم في أمر الله. {وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ} فيه أربعة أوجه: أحدها: خدع الشيطان , قاله قتادة. الثاني: الدنيا , قاله ابن عباس. الثالث: سيغفر لنا , قاله أبو سنان. الرابع: قولهم اليوم وغداً. {حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: الموت , قاله أبو سنان. الثاني: إلقاؤهم في النار , قاله قتادة. {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُوْرُ} فيه وجهان: أحدهما: الشيطان , قاله عكرمة. الثاني: الدنيا , قاله الضحاك.(5/476)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
{ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون}(5/476)
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها نزلت في قوم موسى عليه السلام قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم , قاله ابن حيان. الثاني: في المنافقين آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، قاله الكلبي. الثالث: أنها في المؤمنين من أمتنا، قاله ابن عباس وابن مسعود، والقاسم بن محمد. ثم اختلف فيها على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما رواه أبو حازم عن عون بن عبد الله عن ابن مسعود قال: ما كان بين أن أسلمنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين , فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول ما أحدثنا. قال الحسن: يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه. الثاني: ما رواه قتادة عن ابن عباس أن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاثة عشرة سنة , فقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَءَامَنُواْ} الآية. الثالث: ما رواه المسعودي عن القاسم قال: مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقالوا يا رسول الله حدثنا , فأنزل الله تعالى: {نَحنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسنَ الْقَصَصِ} ثم ملوا مرة فقالوا: حدثنا يا رسول الله , فأنزل الله {أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} . قال شداد بن أوس: كان يروى لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الخُشُوعُ) .(5/477)
ومعنى قوله: {أَلَمْ يَأْنِ} ألم يحن , قال الشاعر:
(ألم يأن لي يا قلب أن اترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا)
وفي {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكْر اللَّهِ} ثلاثة تأويلات: أحدها: أن تلين قلوبهم لذكر الله. الثاني: أن تذل قلوبهم من خشية الله. الثالث: أن تجزع قلوبهم من خوف الله. وفي ذكر الله ها هنا وجهان: أحدهما: أنه القرآن , قاله مقاتل. الثاني: أنه حقوق الله , وهو محتمل. {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: القرآن , قاله مقاتل. الثاني: الحلال والحرام , قاله الكلبي. الثالث: يحتمل أن يكون ما أنزل من البينات والهدى. {اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يلين القلوب بعد قسوتها , قاله صالح المري. الثاني: يحتمل أنه يصلح الفساد. الثالث: أنه مثل ضربه لإحياء الموتى. روى وكيع عن أبي رزين قال: قلت يا رسول الله كيف يحيى الله الأرض بعد موتها؟ فقال: (يَا أَبَا رُزَينَ أَمَا مَرَرْتَ بِوَادٍ مُمْحَلٍ ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضْرَةً؟ قال: بلى , قَالَ كَذَلِكَ يُحْيي اللَّهُ المَوتَى) .(5/478)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
{إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم(5/478)
أجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} فيه وجهان: أحدهما: المصدقين لله ورسوله. الثاني: المتصدقين بأموالهم في طاعة الله. {وَالَّذِينَءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} أي المؤمنون بتصديق الله ورسله. {وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} فيه قولان: أحدهما: أن الذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون وهم الشهداء عند ربهم , قاله زيد بن أسلم. الثاني: أن قوله: {أَوْلئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} كلام تام. وقوله: {وَالشُّهَدَآءُ عِنَدَ رَبِّهِمْ} كلام مبتدأ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب , قاله الكلبي. الثاني: أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة. وفيما يشهدون به قولان: أحدهما يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة ومعصية، وهذا معنى قول مجاهد. الثاني: يشهدون لأنبيائهم بتبليغ الرسالة إلى أممهم، قاله الكلبي. وقال مقاتل قولاً ثالثاً: أنهم القتلى في سبيل الله لهم أجرهم عند ربهم يعني ثواب أعمالهم. {وَنُورُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: نورهم على الصراط. الثاني: إيمانهم في الدنيا , حكاه الكلبي.(5/479)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
{اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} فيه وجهان: أحدهما: أكل وشرب , قاله قتادة. الثاني: أنه على المعهود من اسمه , قال مجاهد: كل لعب لهو. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن اللعب ما رغَّب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة. ويحتمل رابعاً: أن اللعب الاقتناء، واللهو النساء. {وَزِينَةٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الدنيا زينة فانية. الثاني: أنه كل ما بوشر فيها لغير طاعة. {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالخلقة والقوة. الثاني: بالأنساب على عادة العرب في التنافس بالآباء. {وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ} لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأموال والأولاد , وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعات. ثم ضرب لهم مثلاً بالزرع {كَمَثَلٍ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمََّ يَهِيْجُ} بعد خضرة. {فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ حُطَاماً} بالرياح الحطمة , فيذهب بعد حسنه , كذلك دنيا الكافر. {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَبِّكُمْ} فيه أربعة أوجه:(5/480)
أحدها: النبي صلى الله عليه وسلم , قاله أبو سعيد. الثاني: الصف الأول , قاله رباح بن عبيد. الثالث: إلى التكبيرة الأولى مع الإمام , قاله مكحول. الرابع: إلى التوبة: قاله الكلبي. {وَجَنَةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ} ترغيباً في سعتها , واقتصر على ذكر العرض دون الطول لما في العرض من الدلالة على الطول , ولأن من عادة العرب أن تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله , قال الشاعر:
(كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب حلقة خاتم.)
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مِن يَشَآءُ} فيه وجهان: أحدهما: الجنة , قاله الضحاك. الثاني: الدين، قاله ابن عباس. وفي {مَن يَشَآءُ} قولان: أحدهما: من المؤمنين , إن قيل إن الفضل الجنة. الثاني: من جيمع الخلق , إن قيل إنه الدين.(5/481)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد} {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: الجوائح في الزرع والثمار. الثاني: القحط والغلاء. {وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: في الدين , قاله ابن عباس.(5/481)
الثاني: الأمراض والأوصاب، قاله قتادة. الثالث: إقامة الحدود، قاله ابن حبان. الرابع: ضيق المعاش , وهذا معنى رواية ابن جريج. {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} يعني اللوح المحفوظ. {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} قال سعيد بن جبير: من قبل أن نخلق المصائب ونقضيها. {لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: من الرزق الذي لم يقدر لكم , قاله ابن عباس , والضحاك. الثاني: من العافية والخصب الذي لم يقض لكم , قاله ابن جبير. {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآءَاتَاكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: من الدنيا , قاله ابن عباس. الثاني: من العافية والخصب , وهذا مقتضى قول ابن جبير. وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: {لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآءَاتَاكُمْ} قال: ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح , ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً، والخير شكراً. {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: الذين يبخلون يعني بالعلم، ويأمرون الناس بالبخل بألا يعلموا الناس شيئاً، قاله ابن جبير. الثاني: أنهم اليهود بخلوا بما في التوارة من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم , قاله الكلبي , والسدي. الثالث: أنه البخل بأداء حق الله من أموالهم , قاله زيد بن أسلم. الرابع: أنه البخل بالصدقة والحقوق , قاله عامر بن عبد الله الأشعري. الخامس: أنه البخل بما في يديه، قال طاووس. وفرق أصحاب الخواطر بين البخيل والسخي بفرقين: أحدهما: أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك , والسخي الذي يلتذ بالعطاء.(5/482)
الثاني: أن البخيل الذي يعطي عند السؤال , والسخي الذي يعطي بغير سؤال.(5/483)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} {وَأنزَلْنَا الْحَدِيدَ} فيه قولان: أحدهما: أن الله أنزله مع آدم. روى عكرمة عن ابن عباس قال: ثلاث أشياء نزلت مع آدم: الحجر الأسود , كان أشد بياضاً من الثلج , وعصا موسى وكانت من آس الجنة , طولها عشرة أذرع مثل طول موسى , والحديد , أنزل معه ثلاثة أشياء: السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة. الثاني: أنه من الأرض غير منزل من السماء , فيكون معنى قوله: {وَأَنزَلْنَا} محمولاً على أحد وجهين: أحدهما: أي أظهرناه. الثاني: لأن أصله من الماء المنزل من السماء فينعقد في الأرض جوهره حتى يصير بالسبك حديداً. {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} فيه وجهان: أحدهما: لأن بسلاحه وآلته تكون الحرب التي هي بأس شديد. الثاني: لأن فيه من خشية القتل خوفاً شديداً. {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما تدفعه عنهم دروع الحديد من الأذى وتوصلهم إلى الحرب والنصر. الثاني: ما يكف عنهم من المكروه بالخوف عنه. وقال قطرب: البأس السلاح , والمنفعة الآلة.(5/483)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
{ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا(5/483)
وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون} {. . وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رأْفَةً وَرَحْمَةً} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الرأفة اللين، والرحمة الشفقة. الثاني: أن الرأفة تخفيف الكل , والرحمة تحمل الثقل. {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} فيه قراءتان: إحداهما: بفتح الراء وهي الخوف من الرهب. الثانية: بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان ومعناه أنهم ابتدعوا رهبانية ابتدؤوها. وسبب ذلك ما حكاه الضحاك: [أنهم] بعد عيسى ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان على منهاج عيسى فقتلوهم , فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا , فليس يسعنا المقام بينهم , فاعتزلوا النساء واتخذوا الصوامع , فكان هذا ما ابتدعوه من الرهبانية التي لم يفعلها من تقدمهم وإن كانوا فيها محسنين. {مَا كتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي لم تكتب عليهم وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها رفض النساء واتخاذ الصوامع , قاله قتادة. الثاني: أنها لحوقهم بالجبال ولزومهم البراري , وروي فيه خبر مرفوع. الثالث: أنها الانقطاع عن الناس والانفراد بالعبادة.(5/484)
وفي الرأفة والرحمة التي جعلها في قلوبهم وجهان: [الأول] : أنه جعلها في قلوبهم بالأمر بها والترغيب فيها. الثاني: جعلها بأن خلقها فيهم وقد مدحوا بالتعريض بها. {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رَضْوَانِ اللَّهِ} أي لم تكتب عليهم قبل ابتداعها ولا كتبت بعد ذلك عليهم. الثاني: أنهم تطوعوا بها بابتداعها , ثم كتبت بعد ذلك عليهم , قاله الحسن. {فَمَا رَعَوْهَا حِقَّ رِعَايَتِهَا} فيه وجهان: أحدهما: أنهم ما رعوها لتكذيبهم بمحمد. الثاني: بتبديل دينهم وتغييرهم فيه قبل مبعث الرسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله عطية العوفي.(5/485)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ} معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد. {يُؤْتِكُم كِفْلَينِ مِن رَّحْمَتِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن أحد الأجرين لإيمانهم بمن تقدم من الأنبياء , والآخر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس. الثاني: أن أحدهما: أجر الدنيا , والآخر أجر الآخرة، قاله ابن زيد. ويحتمل ثالثاً: أن أحدهما أجر اجتناب المعاصي، والثاني أجر فعل الطاعات.(5/485)
ويحتمل رابعاً: أن أحدهما أجر القيام بحقوق الله والثاني أجر القيام بحقوق العباد. {وَيَجْعَلَ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} فيه قولان: أحدهما: أنه القرآن , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الهدى , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: أنه الدين المتبوع في مصالح الدنيا وثواب الآخرة. وقد روى أبو بريدة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَينِ: رَجُلٌ آمَنَ بِالكِتَابِ الأَوَّلِ وَالْكِتَابِ الآخِرِ , وَرَجُلٌ كَانَتْ لَه أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا وَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا , وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لَسَيِّدِهِ) . {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} قال الأخفش: معناه ليعلم أهل الكتاب وأن (لا) صلة زائدة وقال الفراء: لأنْ لا يعلم أهل الكتاب و (لا) صلة زائدة في كلام دخل عليه جحد. {أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: من دين الله وهو الإسلام قاله مقاتل. الثاني: من رزق الله , قاله الكلبي. وفيه ثالث: أن الفضل نعم الله التي لا تحصى.(5/486)
سورة المجادلة
مدنية في قول الجميع إلا رواية عن عطاء أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي. وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى: {وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} نزلت بمكة. بسم الله الرحمن الرحيم(5/487)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} قوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} وهي خولة بنت ثعلبة , وقيل بنت خويلد , وليس هذا بمختلف لأن أحدهما أبوها والآخر جدها , فنسبت إلى كل واحد منهما. وزوجها أوس بن الصامت. قال عروة: وكان امرأً به لمم فأصابه بعض لممه فظاهر من امرأته , فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في ذلك. {وتشتكي إلى الله} فيه وجهان: أحدهما: تستغيث بالله. والثاني: تسترحم الله. وروى الحسن أنها قالت: يا رسول الله قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي(5/487)
ظاهر مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أوحي إليّ في هذا شيء) فقالت: يا رسول الله أوحي إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟ فقال: (هو ما قلت لك) فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله , فأنزل الله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك} الآية. وقرأ ابن مسعود: {قَد سَّمِعَ} . قالت عائشة: تبارك الله الذي أوعى سمعه كل شيء , سمع كلام خولة بنت ثعلبة وأنا في ناحية البيت ما أسمع بعض ما تقول , وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي وانقطع ولدي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك , فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية. {والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} والمحاورة مراجعة الكلام , قال عنترة:
(لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي.)
{الذين يظاهرون منكم من نسائهم} الظهار قول الرجل لامرأته. أنت عليّ كظهر أمي , سمي ظهاراً لأنه قصد تحريم ظهرها عليه , وقيل: لأنه قد جعلها عليه كظهر أمه , وقد كان في الجاهلية طلاقاً ثلاثاً لا رجعة فيه ولا إباحة بعده فنسخه الله إلى ما استقر عليه الشرع من وجوب الكفارة فيه بالعود.(5/488)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
{الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك(5/488)
لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم} ثم قال: {. . ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} تكذيباً من الله تعالى لقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} يعني بمنكر القول الظاهر , وبالزور كذبهم في جعل الزوجات أمهات.(5/489)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
{إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} {إن الذين يحادُّون الله ورسوله} فيه وجهان: أحدهما: يعادون الله ورسوله , قاله مجاهد. الثاني: يخالفون الله ورسوله , قاله الكلبي. وفي أصل المحادة وجهان: أحدهما: أن تكون في حد يخالف حد صاحبك , قاله الزجاج. الثاني: أنه مأخوذ من الحديد المعد للمحادة. {كبتوا كما كبت الذين من قبلهم} فيه أربعة أوجه: أحدها: [أخزوا] كما أخزي الذين من قبلهم , قاله قتادة. الثاني: معناه أهلكوا كما أهلك الذين من قبلهم , قاله الأخفش وأبو عبيدة. الثالث: لعنوا كما لعن الذين من قبلهم , قاله السدي , وقيل هي بلغة مذحج.(5/489)
الرابع: ردوا مقهورين.(5/490)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
{ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون} {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} النجوى السرار , ومن ذلك قول جرير:
(من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرت بنجواهم لؤي بن غالب)
والنجوى مأخوذة من النجوة وهي ما له ارتفاع وبعد , لبعد الحاضرين عنه، وفيها وجهان: أحدهما: أن كل سرار نجوى , قاله ابن عيسى. الثاني: أن السرار ما كان بن اثنين , والنجوى ما كان بين ثلاثة، حكاه سراقة. وفي المنهي عنه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم اليهود، كانوا يتناجون بما بين المسلمين، فنهوا عن ذلك، قاله مجاهد. الثاني: أنهم المنافقون، قاله الكلبي. الثالث: أنهم المسلمون. روى أبو سعيد الخدري قال: كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله(5/490)
صلى الله عليه وسلم فقال: (ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى) . فقلنا تبنا إلى الله يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح يعني الدَّجال فرَقاً منه , فقال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟ قالوا: بلى يا رسول الله , قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان الرجل) . {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله} كانت اليهود إذا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: السام عليك , وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول: {وعليكم} ويروى أن عائشة حين سمعت ذلك منهم قالت: وعليكم السام والذام , فقال عليه السلام: (إن الله لا يحب الفحش والتفحش) . وفي السام الذي أرادوه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الموت، قاله ابن زيد. الثاني: أنه السيف. الثالث: أنهم أرادوا بذلك أنكم ستسأمون دينكم , قاله الحسن , وكذا من قال هو الموت لأنه يسأم الحياة. وحكى الكلبي أن اليهود كانوا إذا رد النبي صلى الله عليه وسلم جواب سلامهم قالوا: لو كان هذا نبياً لاستجيب له فينا قوله وعليكم , يعني السام وهو الموت وليس بنا سامة وليس في أجسادنا فترة، فنزلت فيهم {ويقولون في أنفسهم ولولا يعذبنا الله بما نقول} الآية. وفي قوله تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين ءامنوا} وجهان: أحدهما: ما كان يتناجى به اليهود والمنافقون من الأراجيف بالمسلمين. الثاني: أنها الأحلام التي يراها الإنسان في منامه فتحزنه.(5/491)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
{يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير} {يَأيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس. .} فيه أربعة أوجه: أحدها: مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خاصة إذا جلس فيه قوم تشاحوا بأمكنتهم على من يدخل عليهم أن يؤثروه بها أو يفسحوا له فيها , فأمروا بذلك قاله مجاهد. الثاني: أنه في مجالس صلاة الجمعة , قاله مقاتل. الثالث: أنها في مجالس الذكر كلها , قاله قتادة. الرابع: أن ذلك في الحرب والقتال , قاله الحسن. { ... وإذا قيل انشزوا فانشزوا} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه وإذا قيل لكم انهضوا إلى القتال فانهضوا , قاله الحسن. الثاني: إذا دعيتم إلى الخير فأجيبوا , قاله قتادة. الثالث: إذا نودي للصلاة فاسعوا إليها , قاله مقاتل بن حيان. الرابع: أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم هو الآخر عهداً به , فأمرهم الله أن ينشزوا إذا قيل لهم انشزوا , قاله ابن زيد. ومعنى {تفسحوا} توسعوا. وفي {انشزوا} وجهان: أحدهما: معناه قوموا , قاله ابن قتيبة. الثاني: ارتفعوا , مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها. وفيما أمروا أن ينشزوا إليه ثلاثة أوجه: أحدها: إلى الصلاة , قاله الضحاك. الثاني: إلى الغزو , قاله مجاهد. الثالث: إلى كل خير , قاله قتادة. {يرفع الله الذين ءامنوا منكم} يعني بإيمانه على من ليس بمنزلته في الإيمان. {والذين أوتوا العلم درجات} على من ليس بعالم.(5/492)
ويحتمل هذا وجهين: أحدهما: أن يكون إخباراً عن حالهم عند الله في الآخرة. الثاني: أن يكون أمراً يرفعهم في المجالس التي تقدم ذكرها لترتيب الناس فيها بحسب فضائلهم في الدين والعلم.(5/493)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
{يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون} {يأيها الذين ءامنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} اختلف في سببها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المنافقين كانا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم بما لا حاجة لهم به , فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن النجوى , قاله ابن زيد. الثاني: أنه كان قوم من المسلمين يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم ويناجونه فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك، فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه، قاله الحسن. الثالث: قاله ابن عباس وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه , فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فلما قال ذلك كف كثير من الناس عن المسألة. وقال مجاهد: لم يناجه إلا عليٌّ قدّم ديناراً فتصدق به , فسأله عن عشر خصال , ثم نزلت الرخصة. {ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} قال علي: ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت , وأحسبه [قال] وما كانت إلا ساعة , وقال ابن حبان: كان ذلك ليالي عشراً. وقال ابن سليمان: ناجاه عليّ بدينار باعه بعشرة دراهم في عشر كلمات كل(5/493)
كلمة بدرهم. وناجاه آخر من الأنصار بآصع وكلمه كلمات , ثم نسخت بما بعدها.(5/494)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
{ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} {ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم} يعني المنافقين تولوا قوماً غضب الله عليهم هم اليهود. {ما هم منكم} لأجل نفاقهم. {ولا منهم} لخروجهم بيهوديتهم. {ويحلفون على الكذب} أنهم لم ينافقوا. {وهم يعلمون} أنهم منافقون. {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين} فيه قولان: أحدهما: قاله السدي. الثاني: عن سبيل الله في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق. ويحتمل ثالثاً: صدوا عن الجهاد ممايلة لليهود. {استحوذ عليهم الشيطان} فيه قولان: أحدهما: قوي عليهم. الثاني: أحاط بهم , قاله المفضل. وفيه ثالث: أنه غلب واستولى عليهم في الدنيا.(5/494)
{فأنساهم ذكر الله} يحتمل ذكر الله ها هنا وجهين: أحدهما: أوامره في العمل بطاعته. الثاني: زواجره في النهي عن معصيته. ويحتمل ما أنساهم من ذكره وجهين: أحدهما: بالغفلة عنها. الثاني: بالشرك بها.(5/495)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
{إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من حارب الله ورسوله , قاله قتادة والفراء. الثاني: من خالف الله ورسوله , قاله الكلبي. الثالث: من عادى الله ورسوله , قاله مقاتل. {ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} اختلف فيمن نزلت هذه الآية فيه على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما قاله ابن شوذب: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه الجراح يوم بدر , جعل يتصدى له , وجعل أبو عبيدة يحيد عنه , فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله.(5/495)
وروى سعيد بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخاره , قال سعيد: وفيه نزلت هذه الآية. وفيه وجهان: أحدهما: أنه خارج مخرج النهي للذين آمنوا أن يوادوا من حادّ الله ورسوله. الثاني: أنه خارج مخرج الصفة لهم والمدح بأنهم لا يوادون من حادّ الله ورسوله , وكان هذا مدحاً. {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} فيه أربعة أوجه: أحدها: معناه جعل في قلوبهم الإيمان وأثبته , قال السدي , فصار كالمكتوب. الثاني: كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان. الثالث: حكم لقلوبهم بالإيمان. الرابع: أنه جعل في قلوبهم سمة للإيمان على أنهم من أهل الإيمان , حكاه ابن عيسى. {وأيدهم بروح منه} فيه خمسة أوجه: أحدها: أعانهم برحمته , قاله السدي. الثاني: أيدهم بنصره حتى ظفروا. الثالث: رغبهم في القرآن حتى ءامنوا. الرابع: قواهم بنور الهدى حتى صبروا. الخامس: قواهم بجبريل يوم بدر. {رضي الله عنهم} يعني في الدنيا بطاعتهم. {ورضوا عنه} فيه وجهان: أحدهما: رضوا عنه في الآخرة بالثواب. الثاني: رضوا عنه في الدنيا بما قضاه عليهم فلم يكرهوه. {أولئك حزب الله} فيهم وجهان:(5/496)
أحدهما: انهم من عصبة الله فلا تأخذهم لومة لائم. الثاني: أنهم أنصار حقه ورعاة خلقه وهو محتمل. القول الثاني: ما روى ابن جريج أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق وقد سمع أباه أبا قحافة يسب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط على وجهه , فقال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم , فقال: (أو فعلته؟ لا تعد إليه يا أبا بكر) . فقال والله لو كان السيف قريباً مني لضربته به، فنزلت هذه الآية. القول الثالث: ما حكى الكلبي ومقاتل أن هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وقد كتب إلى أهل مكة ينذرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم عام الفتح.(5/497)
سورة الحشر
بسم الله الرحمن الرحيم(5/498)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
{سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} قوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب} يعني يهود بني النضير. {من ديارهم} يعني من منازلهم. {لأول الحشر} أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من أُحد إلى أذرعات(5/498)
الشام، وأعطى كل ثلاثة بعيراً يحملون عليه ما استقل إلا السلاح، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم حين هاجر إلى المدينة أن لا يقاتلوا معه ولا عليه , فكفوا يوم بدر لظهور المسلمين , وأعانوا المشركين يوم أحد حين رأوا ظهورهم على المسلمين , فقتل رئيسهم كعب بن الأشرف , قتله محمد بن مسلمة غيلة. ثم سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم ثلاثاً وعشرين ليلة محارباً حتى أجلاهم عن المدينة. في قوله: {لأول الحشر} ثلاثة أوجه: أحدها: لأنهم أول من أجلاه النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود , قاله ابن حبان. الثاني: لأنه اول حشرهم , لأنهم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر في القيامة , قاله الحسن. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أجلى بني النضير قال لهم (امضوا فهذا أول الحشر وأنا على الأثر.) الثالث: أنه أول حشرهم لما ذكره قتادة أنه يأتي عليهم بعد ذلك من مشرق الشمس نار تحشرهم إلى مغربها تبيت معهم إذ باتوا [وتقيل معهم حيث قالوا] وتأكل منهم من تخلف. {ما ظننتم أن يخرجوا} يعني من ديارهم لقوتهم وامتناعهم. {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} أي من أمر الله. {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} فيه وجهان: أحدهما: لم يحتسبوا بأمر الله. الثاني: قاله ابن جبير والسدي: من حيث لم يحتسبوا بقتل ابن الأشرف. {وقذف في قلوبهم الرعب} فيه وجهان: أحدهما: لخوفهم من رسول الله. الثاني: بقتل كعب بن الأشرف. {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} فيه خمسة أوجه: أحدها: بأيديهم بنقض الموادعة، وأيدي المؤمنين بالمقاتلة، قاله الزهري.(5/499)
الثاني: بأيديهم في تركها، وأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها، قاله أبو عمرو ابن العلاء. الثالث: بأيديهم في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذها المسلمون , وبأيدي المؤمنين في إخراب ظواهرها ليصلوا بذلك إليهم. قال عكرمة: كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها فخربوها من داخل , وخربها المسلمون من خارج. الرابع: معناه: أنهم كانوا كلما هدم المسلمون عليهم من حصونهم شيئاً نقضوا من بيوتهم ما يبنون به من حصونهم , قاله الضحاك. الخامس: أن تخريبهم بيوتهم أنهم لما صولحوا على حمل ما أقلته إبلهم جعلوا ينقضون ما أعجبهم من بيوتهم حتى الأوتار ليحملوها على إبلهم , قاله عروة بن الزبير , وابن زيد. وفي قوله: {يخربون} قراءتان: بالتخفيف , وبالتشديد , وفيهما وجهان: أحدهما: أن معناهما واحد وليس بينهما فرق. الثاني: أن معناهما مختلف. وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بأفعالهم , ومن قرأ بالتخفيف أراد إخرابها بفعل غيرهم قاله أبو عمرو. الثاني: أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بهدمهم لها. وبالتخفيف أراد فراغها بخروجهم عنها , قاله الفراء. ولمن تعمق بغوامض المعاني في تأويل ذلك وجهان: أحدهما: يخربون بيوتهم أي يبطلون أعمالهم بأيديهم , يعني باتباع البدع , وأيدي المؤمنين في مخالفتهم. {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء} فيه وجهان: أحدهما: يعني بالجلاء الفناء {لعذبهم في الدنيا} بالسبي.(5/500)
والثاني: يعني بالجلاء الإخراج عن منازلهم {لعذبهم في الدنيا} يعني بالقتل , قاله عروة. والفرق بين الجلاء والإخراج - وإن كان معناهما في الإبعاد واحد - من وجهين: أحدهما: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد , والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد. الثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة , والإخراج يكون لجماعة ولواحد. {ما قطعتم من لينة أو تكرتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير وهي البويرة حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد قطع المسلمون من نخلهم وأحرقوا ست نخلات , وحكى محمد بن إسحاق أنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة , وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره , إما لإضعافهم بها أو لسعة المكان بقطعها , فشق ذلك عليهم فقالوا وهم يهود أهل كتاب: يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الإصلاح؟ أفمن الصلاح حرق الشجر وقطع النخل؟ وقال شاعرهم سماك اليهودي:
(ألسنا ورثنا كتاب الحكيم ... على عهد موسى ولم نصدف)
(وأنتم رعاء لشاء عجاف ... بسهل تهامة والأخيف)
(ترون الرعاية مجداً لكم ... لدي كل دهر لكم مجحف)
(فيا أيها الشاهدون انتهوا ... عن الظلم والمنطق المؤنف)
(لعل الليالي وصرف الدهور ... يدلن عن العادل المنصف)
(بقتل النضير وإجلائها ... وعقر النخيل ولم تقطف)
فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه:
(هم أوتوا الكتاب فضيعوه ... وهم عمي عن التوارة يور)
(كفرتم بالقرآن وقد أتيتم ... بتصديق الذي قال النذير)
(وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير)(5/501)
ثم إن المسلمين جل في صدورهم ما فعلوه , فقال بعضهم: هذا فساد , وقال آخرون منهم عمر بن الخطاب: هذا مما يجزي الله به أعداءه وينصر أولياءه فقالوا يا رسول الله هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله تعالى: {وما قطعتم من لينة} الآية. وفيه دليل على أن كل مجتهد مصيب. وفي اللينة خمسة أقاويل: أحدها: النخلة من أي الأصناف كانت , قاله ابن حبان. الثاني: أنها كرام النخل , قاله سفيان. الثالث: أنها العجوة خاصة , قاله جعفر بن محمد وذكر أن العتيق والعجوة كانا مع نوح في السفينة، والعتيق الفحل، وكانت العجوة أصل الإناث كلها ولذلك شق على اليهود قطعها. الرابع: أن اللينة الفسيلة لأنها ألين من النخلة , ومنه قول الشاعر:
(غرسوا لينها بمجرى معين ... ثم حفوا النخيل بالآجام)
الخامس: أن اللينة جميع الأشجار للينها بالحياة , ومنه قول ذي الرمة:
(طراق الخوافي واقع فوق لينة ... ندى ليلة في ريشه يترقرق)
قال الأخفش: سميت لينة اشتقاقاً من اللون لا من اللين.(5/502)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
{وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب}(5/502)
{وما أفاء الله على رسوله منهم} يعني ما رده اللَّه على رسوله من أموال بني النضير. {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} والإيجاف الإيضاع في السير وهو الإسراع , والركاب: الإبل , وفيهما يقول نصيب:
(ألارب ركب قد قطعت وجيفهم ... إليك ولولا أنت لم توجف الركب)
{ولكن الله يسلط رسله على من يشاء} ذلك أن مال الفيء هو المأخوذ من المشركين بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب , فجعل الله لرسوله أن يضعه حيث يشاء لأنه واصل بتسليط الرسول عليهم لا بمحاربتهم وقهرهم. فجعل الله ذلك طعمة لرسوله خالصاً دون الناس , فقسمه في المهاجرين إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة فإنهما ذكرا فقراً فأعطاهما. {كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم} يقال دولة بالضم وبالفتح وقرىء بهما , وفيهما قولان: أحدهما: أنهما واحد , قاله يونس , والأصمعي. الثاني: أن بينهما فرقاً , وفيه أربعة أوجه:(5/503)
أحدها: أنه بالفتح الظفر في الحرب , وبالضم الغنى عن فقر , قاله أبو عمرو ابن العلاء. الثاني: أنه بالفتح في الأيام , وبالضم في الأموال , قاله عبيدة. الثالث: أن بالفتح ما كان كالمستقر , وبالضم ما كان كالمستعار , حكاه ابن كامل. الرابع: أنه بالفتح الطعن في الحرب , وبالضم أيام الملك وأيام السنين التي تتغير , قاله الفراء , قال حسان:
(ولقد نلتم ونلنا منكم ... وكذاك الحرب أحياناً دول)
{وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه , وما منعكم منه فلا تطلبوه , قاله السدي. الثاني: ما آتاكم الله من مال الغنيمة فخذوه , وما نهاكم عنه من الغلو فلا تفعلوه , قاله الحسن. الثالث: وما آتاكم من طاعتي فافعلوه , وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه , قاله ابن جريج. الرابع: أنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه لأنه لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد. وحكى الكلبي أنها نزلت في رؤساء المسلمين قالوا فيما ظهر عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أموال المشركين , يا رسول الله صفيك والربع ودعنا والباقي فهكذا كنا نفعل في الجاهلية وأنشدوه:
(لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول.)
فأنزل الله هذه الآية.(5/504)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
{للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}(5/504)
{للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} يعني بالمهاجرين من هاجر عن وطنه من المسليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار هجرته وهي المدينة خوفاً من أذى قومه ورغبة في نصرة نبيّه فهم المقدمون في الإسلام على جميع أهله. {يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} يعني فضلاً من عطاء الله في الدنيا , ورضواناً من ثوابه في الآخرة. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن الفضل الكفاية , والرضوان القناعة. وروى علي بن رباح اللخمي أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية فقال: من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت , ومن أراد أن يسأل عن الفقة فليأت معاذ بن جبل , ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإن الله تعالى جعلني خازناً وقاسماً , إني بادىء بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهن , ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا. قال قتادة: لأنهم اختاروا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما كانت من شدة , حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب على بطنه الحجر ليقيم صلبه من الجوع , وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها. {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم} ويكون على التقديم والتأخير ومعناه تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان. الثاني: أن الكلام على ظاهره ومعناه أنهم تبوءوا الدار والإيمان قبل الهجرة إليهم يعني بقبولهم ومواساتهم بأموالهم ومساكنهم. {يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} فيه وجهان: أحدهما: غيرة وحسداً على ما قدموا به من تفضيل وتقريب , وهو محتمل. الثاني: يعني حسداً على ما خصوا به من مال الفيء وغيره فلا يحسدونهم عليه , قاله الحسن. {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} يعني يفضلونهم ويقدمونهم(5/505)
على أنفسهم ولو كان بهم فاقة وحاجة , ومنه قول الشاعر:
(أما الربيع إذا تكون خصاصة ... عاش السقيم به وأثرى المقتر)
وفي إيثارهم وجهان: أحدهما: أنهم آثروا على أنفسهم بما حصل من فيىء وغنيمة حتى قسمت في المهاجرين دونهم , قاله مجاهد , وابن حيان. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم على المهاجرين ما أفاء الله من النضير ونفل من قريظة على أن يرد المهاجرون على الأنصار ما كانوا أعطوهم من أموالهم فقالت الأنصار بل نقيم لهم من أموالنا ونؤثرهم بالفيء , فأنزل الله هذه الآية. الثاني: أنهم آثروا المهاجرين بأموالهم وواسوهم بها. روى ابن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (إن إخوانكم تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم) فقالوا: أموالنا بينهم قطائع , فقال: (أو غير ذلك) فقالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: (هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر) يعني مما صار إليهم من نخيل بني النضير , قالوا نعم يا رسول الله. {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} فيه ثماينة أقاويل: أحدها: أن هذا الشح هو أن يشح بما في أيدي الناس يحب أن يكون له ولا يقنع , قاله ابن جريج وطاووس. الثاني: أنه منع الزكاة، قاله ابن جبير. الثالث: يعني هوى نفسه، قاله ابن عباس. الرابع: أنه اكتساب الحرام، روى الأسود عن ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت , قال وما ذاك؟ قال سمعت الله عز وجل يقول: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً فقال ابن مسعود: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن،(5/506)
إنما الشح الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذلك البخل , وبئس الشيء البخل. الخامس: أنه الإمساك عن النفقة , قاله عطاء. السادس: أنه الظلم , قاله ابن عيينة. السابع: أنه أراد العمل بمعاصي الله , قاله الحسن. الثامن: أنه أراد ترك الفرائض وانتهاك المحارم , قاله الليث. وفي الشح والبخل قولان: أحدهما: أن معناهما واحد. الثاني: أنهما يفترقان وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أن الشح أخذ المال بغير حق , والبخل أن يمنع من المال المستحق , قاله ابن مسعود. الثاني: أن الشح بما في يدي غيره , والبخل بما في يديه , قاله طاووس. {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا} فيهم قولان: أحدهما: أنهم الذين هاجروا بعد ذلك , قاله السدي والكلبي. الثاني: أنهم التابعون الذين جاءوا بعد الصحابة ثم من بعدهم إلى قيام الدنيا هم الذين جاءوا من بعدهم، قاله مقاتل. وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل , فمضت منزلتان وبقيت الثالثة: فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وفي قولهم: {اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} وجهان: أحدهما: أنهم أمروا أن يستغفروا لمن سبق من هذه الأمة ومن مؤمني أهل الكتاب. قالت عائشة: فأمروا أن يستغفروا لهم فسبّوهم. الثاني: أنهم أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. {ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا} الآية. في الغل وجهان: أحدهما: الغش , قاله مقاتل. الثاني: العداوة , قاله الأعمش.(5/507)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
{ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين} {بأسهم بينهم شديد} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد , قاله السدي. الثاني: أنه وعيدهم للمسلمين لنفعلن كذا وكذا , قاله مجاهد. {تحسبهم جيمعاً} فيه قولان: أحدهما: أنهم اليهود. الثاني: أنهم المنافقون واليهود , قاله مجاهد. {وقلوبهم شتى} يعني مختلفة متفرقة , قال الشاعر:
(إلى الله أشكو نية شقت العصا ... هي اليوم شتى وهي بالأمس جمع)
وفي قراءة ابن مسعود (وَقُلُوبُهُمْ أَشَتُّ) بمعنى أشد تشتيتاً , أي أشد اختلافاً. وفي اختلاف قلوبهم وجهان:(5/508)
أحدهما: لأنهم على باطل , والباطل مختلف , والحق متفق. الثاني: أنهم على نفاق , والنفاق اختلاف. وقوله تعالى: {كمثل الذين من قبلهم قريباً} الآية. فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنهم كفار قريش يوم بدر , قاله مجاهد. الثاني: أنهم قتلى بدر , قاله السدي , ومقاتل. الثالث: أنهم بنو النضير الذين أجلوا من الحجاز إلى الشام , قاله قتادة. الرابع: أنهم بنو قريظة , كان قبلهم إجلاء بني النضير. {ذاقوا وبال أمرهم} بأن نزلوا على حكم سعد [بن معاذ] فحكم فيهم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم , قاله الضحاك. وفيه وجهان: أحدهما: في تجارتهم. الثاني: في نزول العذاب بهم. {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر} فيه قولان: أحدهما: أنه مثل ضربه الله الكافر في طاعته للشيطان , وهو عام في الناس كلهم , قاله مجاهد. الثاني: أنها خاصة في سبب خاص صار به المثل عاماً , وذلك ما رواه عطية العوفي عن ابن عباس أن راهباً كان في بني إسرائيل يعبد الله فيحسن عبادته , وكان يؤتى من كل أرض يسأل عن الفقه وكان عالماً، وأن ثلاثة إخوة كانت لهم أخت من أحسن النساء مريضة , وأنهم أرادوا سفراً فكبر عليهم أن يذروها ضائعة , فجعلوا يأتمرون فيما يفعلون، فقال أحدهم: ألا أدلكم على من تتركونها عنده؟ فقال له من؟ فقال: راهب بني إسرائيل، وإن مات قام عليها , وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليه، فعمدوا إليه وقالوا: إنا نريد السفر وإنا لا نجد أحداً أوثق في أنفسنا منك ولا آمن علينا(5/509)
غيرك، فاجعل أختنا عندك فإنها ضائعة مريضة، فإن ماتت فقم عليها , وإن عاشت فاحفظها حتى نرجع , فقال: أكفيكم إن شاء الله , وإنهم انطلقوا , فقام عليها وداواها حتى برئت فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها وحبلت , ثم تقدم منه الشيطان فزين له قتلها وقال: إن لم تفعل افتضحت , فقتلها. فلما عاد إخوتها سألوه عنها فقال: ماتت فدفنتها , قالوا أحسنت , فجعلوا يرون في المنام أن الراهب قتلها وأنها تحت شجرة كذا , فعمدوا إلى الشجرة فوجدوها قد قتلت , فأخذوه , فقال له الشيطان: أنا الذي زينت لك قتلها بعد الزنى فهل لك أن أنجيك وتطيعني؟ قال: نعم , قال فاسجد لي سجدة واحدة , فسجد ثم قتل , فذلك قوله تعالى: {كمثل الشيطان} فكذا المنافقون وبنو النضير مصيرهم إلى النار.(5/510)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} {يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله} روى معن أو عون ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال: اعهد لي، فقال: إذا سمعت الله يقول: {يأيها الين ءامنوا} فأرعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه. وفي هذه التقوى وجهان: أحدهما: اجتناب المنافقين. الثاني: هو اتقاء الشبهات. {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} قال ابن زيد: ما قدمت من خير أو شر. {لغد} يعني يوم القيامة والأمس: الدنيا. قال قتادة: إن ربكم قدم الساعة حتى جعلها لغد. {واتقوا الله} في هذه التقوى وجهان: أحدهما: أنها تأكيد للأولى.(5/510)
والثاني: أن المقصود بها مختلف وفيه وجهان: أحدهما: أن الأولى التوبة مما مضى من الذنوب , والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل. الثاني: أن الأولى فيما تقدم لغد , الثانية فيما يكون منكم. {إن الله خبير بما تعملون} فيه وجهان: أحدهما: أن الله خبير بعملكم. الثاني: خبير بكم عليم بما يكون منكم , وهو معنى قول سعيد بن جبير. {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} فيه أربعة أوجه: أحدها: نسوا الله أي تركوا أمر الله , فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيراً , قاله ابن حبان. الثاني: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم , قاله سفيان. الثالث: نسوا الله بترك شكره وتعظيمه فأنساهم أنفسهم بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً , حكاه ابن عيسى. الرابع: نسوا الله عند الذنوب فأنساهم أنفسهم عند التوبة , قاله سهل. ويحتمل خامساً: نسوا الله في الرخاء فأنساهم أنفسهم في الشدائد. {أولئك هم الفاسقون} فيه تأويلان: أحدهما: العاصون: قاله ابن جبير. الثاني: الكاذبون , قاله ابن زيد. {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يستوون في أحوالهم , لأن أهل الجنة في نعيم , وأهل النار في عذاب. الثاني: لا يستوون عند الله , لأن أهل الجنة من أوليائه , وأهل النار من أعدائه. {أصحاب الجنة هم الفائزون} فيه وجهان: أحدهما: المقربون المكرمون. الثاني: الناجون من النار , قاله ابن حبان.(5/511)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله(5/511)
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} {لو أنزلنا هذا القرءآن على جبل} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إننا لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لما ثبت له بل انصدع من نزوله عليه , وقد أنزلناه عليك وثبتناك له , فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال. الثاني: أنه خطاب للأمة , وأن الله لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً , فهو يقوم بحقه إن أطاع , ويقدرعلى رده إن عصى , لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب. وفيه قول ثالث: إن الله تعالى ضربه مثلاً للكفار أنه إذا نزل هذا القرآن على جبل خشع لوعده وتصدع لوعيده , وأنتم أيها المقهروون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده. {هو الله الذي لا إله إلا هو} كان جابر بن زيد يرى أن اسم الله الأعظم هو الله , لمكان هذه الآية. {عالم الغيب والشهادة} فيه أربعة أقاويل: أحدها: عالم السر والعلانية , قاله ابن عباس. الثاني: عالم ما كان وما يكون. الثالث: عالم ما يدرك وما لا يدرك من الحياة والموت والأجل والرزق. الرابع: عالم بالآخرة والدنيا , قاله سهل. {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس} في {القدوس} أربعة أوجه:(5/512)
أحدها: أنه المبارك , قاله قتادة , ومنه قول رؤبة:
(دعوت رب العزة القدوسا ... دعاء من لا يقرع الناقوسا)
الثاني: أنه الطاهر , قاله وهب , ومنه قول الراجز:
89 (قد علم القدوس مولى القدوس.} 9
الثالث: أنه اسم مشتق من تقديس الملائكة , قاله ابن جريج , وقد روي أن من تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح. الرابع: معناه المنزه عن القبائح لاشتقاقه من تقديس الملائكة بالتسبيح فصار معناهما واحد. وأما {السلام} فهو من أسمائه تعالى كالقدوس , وفيه وجهان: أحدهما: أنه مأخوذ من سلامته وبقائه , فإذا وصف المخلوق بمثله قيل سالم وهو في صفة الله سلام , ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
(سلامك ربنا في كل فجر ... بريئاً ما تعنتك الذموم)
الثاني: أنه مأخوذ من سلامة عباده من ظلمه , قاله ابن عباس. [وفي {المؤمن} ثلاثة أوجه: أحدها: الذي يؤمن أولياءه من عذابه] الثاني: أنه مصدق خلقه في وعده , وهو معنى قول ابن زيد. الثالث: أنه الداعي إلى الإيمان , قاله ابن بحر. وأما {المهيمن} فهو من أسمائه أيضاً , وفيه خمسة أوجه: أحدها: معناه الشاهد على خلقه بأعمالهم , وعلى نفسه بثوابهم , قاله قتادة , والمفضل , وأنشد قول الشاعر:
(شهيد عليَّ الله أني أحبها ... كفى شاهداً رب العباد المهيمن)
والثاني: معناه الأمين، قاله الضحاك. الثالث: المصدق، قاله ابن زيد. الرابع: أنه الحافظ، حكاه ابن كامل، وروي أن عمر بن الخطاب قال: إني داع فهيمنوا، أي قولوا آمين حفظنا الدعاء، لما يرجى من الإجابة.(5/513)
الخامس: الرحيم، حكاه ابن تغلب واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت:
(مليك على عرش السمآء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد)
{العزيز} هو القاهر , وفيه وجهان: أحدهما: العزيز في امتناعه. الثاني: في انتقامه. {الجبار} فيه أربعة أوجه: أحدها: معناه العالي العظيم الشأن في القدرة والسلطان. الثاني: الذي جبر خلقه على ما شاء , قاله أبو هريرة , والحسن , وقتادة. الثالث: أنه الذي يجبر فاقة عباده , قاله واصل بن عطاء. الرابع: أنه الذي يذل له من دونه. {المتكبر} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: المتكبر عن السيئات , قاله قتادة. الثاني: المستحق لصفات الكبر , والتعظيم , والتكبر في صفات الله مدح , وفي صفات المخلوقين ذم. الثالث: المتكبر عن ظلم عباده. {هو الله الخالق} فيه وجهان: أحدهما: أنه المحدِث للأشياء على إرادته. الثاني: أنه المقدر لها بحكمته. {الْبَارِىءُ} فيه وجهان: أحدهما: المميز للخلق , ومنه قوله: برئت منه , إذا تميزت منه. الثاني: المنشىء للخلق , ومنه قول الشاعر:
(براك الله حين براه غيثاً ... ويجري منك أنهاراً عذاباً)
{المصور} فيه وجهان: أحدهما: لتصوير الخلق على مشيئته. الثاني: لتصوير كل جنس على صورته. فيكون على الوجه الأول محمولاً على ابتداء الخلق بتصوير كل خلق على ما شاء من الصور. وعلى الوجه الثاني يكون(5/514)
محمولاً على ما استقر من صور الخلق , فيحدث خلق كل جنس على صورته وفيه على كلا الوجهين دليل على قدرته. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يكون لنقله خلق الإنسان وكل حيوان من صورة إلى صورة , فيكون نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يصير شيخاً هرماً , كما قال النابغة:
(الخالق البارىء المصور في ال ... أرحام ماء حتى يصير دماً)
{له الأسماء الحسنى} فيه وجهان: أحدهما: أن جميع أسمائه حسنى لاشتقاقه من صفاته الحسنى. الثاني: أن له الأمثال العليا , قاله الكلبي.(5/515)
سورة الممتحنة
مدنية في قول الجميع بسم الله الرحمن الرحيم(5/516)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير} قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرد التوجه إلى مكة أظهر أنه يريد خيبر , وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إليهم وأرسل مع امرأة ذكر(5/516)
أنها سارة مولاة لبني عبد المطلب , فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك , فأنفذ علياً وأبا مرثد , وقيل عمر بن الخطاب , وقيل الزبير رضي الله عنهم , وقال لهما , اذهبا إلى روضة خاخ فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب فخذاه وعودا , فأتيا الموضع فوجداها والكتاب معها , فأخذاه وعادا , فإذا هو كتاب حاطب فقال عمر: ائذن لي يا رسول الله أضرب عنقه فقد خان الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم قد شهد بدراً , فقالوا: بلى ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم إني بما تعملون خبير. ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم [ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب] ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله كنت امرأ مصلقاً من قريش وكان لي بها مال فكتبت إليهم بذلك , والله يا رسول الله إني لمؤمن بالله ورسوله , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حاطب فلا تقولوا له إلآ خيراً. فنزلت هذه الآية والتي بعدها. وفي قوله تعالى: {تسرون إليهم بالمودة} وجهان: أحدهما: تعلمونهم سراً أن بينكم وبينهم مودة. الثاني: تعلمونهم سراً بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم بمودة بينكم وبينهم.(5/517)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد} {قد كانت لكم أسوة حسنة} ذكر الكلبي والفراء أنه أراد حاطب بن أبي بلتعة، وفيها وجهان:(5/517)
أحدهما: سنة حسنة، قاله الكلبي. الثاني: عبرة حسنة، قاله ابن قتيبة. {في إبراهيم والذين معه} من المؤمنين. {إذ قالوا لقومهم} يعني من الكفار. {إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله} فتبرؤوا منهم فهلا تبرأت أنت يا حاطب من كفار أهل مكة ولم تفعل ما فعلته من مكاتبتهم وإعلامهم. ثم قال: {كفرنا بكم} يحتمل وجهين: أحدهما: كفرنا بما آمنتم به من الأوثان. الثاني: بأفعالكم وكذبنا بها. {وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ... } فيه وجهان: أحدهما: تأسوا بإبراهيم في فعله واقتدوا به إلا في الاستغفار لأبيه فلا تقتدوا به فيه , قاله قتادة. الثاني: معناه إلا إبراهيم فإنه استثنى أباه من قومه في الاستغفار له , حكاه الكلبي. {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} فيه تأويلان: أحدهما: معناه لا تسلطهم علينا فيفتنونا , قاله ابن عباس. الثاني: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فنصير فتنة لهم فيقولوا لو كانوا على حق ما عذبوا , قاله مجاهد , وهذا من دعاء إبراهيم عليه السلام.(5/518)
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
{عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين(5/518)
قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} فيهم قولان: أحدهما: أهل مكة حين أسلموا عام الفتح فكانت هي المودة التي صارت بينهم وبين المسلمين , قاله ابن زيد. الثاني: أنه إسلام أبي سفيان. وفي مودته التي صارت منه قولان: أحدهما: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان فكانت هذه مودة بينه وبين أبي سفيان , قاله مقاتل. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان على بعض اليمن فلما قبض رسول الله أقبل فلقي ذا الخمار مرتداً , فقاتله فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين , فكانت هذه المودة , قاله الزهيري. {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} الآية. فيهم أربعة أوجه: أحدها: أن هذا في أول الأمر عند موادعة المشركين , ثم نسخ بالقتال , قاله ابن زيد. الثاني: أنهم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف كان لهم عهد فأمر الله أن يبروهم بالوفاء , قاله مقاتل. الثالث: أنهم النساء والصبيان لأنهم ممن لم يقاتل , فأذن الله تعالى ببرهم , حكاه بعض المفسرين. الرابع: ما رواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية وهي أم أسماء بنت أبي بكر , فقدمت عليهم في(5/519)
المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش , فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء , فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له , فأنزل الله هذه الآية. {وتقسطوا إليهم} فيه وجهان: أحدهما: يعني وتعدلوا فيهم , قاله ابن حبان فلا تغلوا في مقاربتهم , ولا تسرفوا في مباعدتهم. الثاني: معناه أن تعطوهم قسطاً من أموالكم , حكاه ابن عيسى. ويحتمل ثالثاً: أنه الإنفاق على من وجبت نفقته منهم , ولا يكون اختلاف الدين مانعاً من استحقاقها.(5/520)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
{يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} {يأيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} لأنه يعلم بالامتحان ظاهر إيمانهن والله يعلم باطن إيمانهن , ليكون الحكم عليهن معتبراً بالظاهر وإن كان معتبراً بالظاهر والباطن. والسبب في نزوله هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشاً عام الحديبة فقالت قريش على أن ترد علينا من جاءك منا , ونرد عليك من جاءنا منك , فقال على أن أرد عليكم من جاءنا منكم ولاتردوا علينا من جاءكم منا ممن اختار الكفر على الإيمان،(5/520)
فقعد الهدنة بينه وبينهم على هذا إلى أن جاءت منهم امرأة مسلمة وجاؤوا في طلبها , واختلف فيها على أربعة أقاويل: أحدها: أنها أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الدحداحة , ففرت منه وهو يومئذ كافر , فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبد الله , قاله يزيد بن أبي حبيب. الثاني: أنها سعيدة زوج صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة , قاله مقاتل. الثالث: أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط , وهذا قول كثير من أهل العلم. الرابع: أنها سبيعة بنت الحارث الأسلمية جاءت مسلمة بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الهدنة في الحديبية , فجاء زوجها واسمه مسافر وهو من قومها في طلبها , فقال يا محمد شرطت لنا رد النساء , وطين الكتاب لم يجف , وهذه امرأتي فارددها عليّ , حكاه الكلبي. فلما طلب المشركون رد من أسلم من النساء منع الله من ردهن بعد امتحان إيمانهن بقوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً: فقالت طائفة منهم قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظاً صريحاً , فنسخ الله ردهن من العقد ومنع منه , وأبقاه في الرجال على ما كان , وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد برأيه في الأحكام ولكن لا يقره الله تعالى على خطأ. وقالت طائفة من أهل العلم: لم يشترط ردهن في العقد لفظاً وإنما أطلق العقد في رد من أسلم , فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال , فبين الله خروجهن عن العموم , وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم. الثاني: أنهن أرأف قلوباً وأسرع تقلباً منهم. فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم , وقد كانت من أرادت منهن إضرار زوجها قالت سأهاجر إلى محمد فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامتحانهن. واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاثة أقويل: أحدها: ما رواه ابن عباس أنه كان يمتحنها بأن تحلف بالله أنها ما خرجت(5/521)
من بغض زوجها ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا التماس دينا ولا عشقاً لرجل منا , وما خرجت إلا حباً لله ولرسوله. والثاني: بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله , قاله عطية العوفي. الثالث: بما بينه الله في السورة من قوله تعالى: {يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات} فهذا معنى قوله: {فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} يعني بما في قلوبهن بعد امتحانهن. {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنّ حل لهم ولا هم يحلون لهن} يعني أن المؤمنات محرمات على المشركين من عبدة الأوثان , والمرتدات محرمات على المسلمين. ثم قال تعالى: {وءاتوهم ما أنفقوا} يعني بما أنفقوا مهور من أسلم منهن إذا سأل ذلك أزواجهن , وفي دفع ذلك إلى أهلهن من غير أزواجهن قولان: ثم قال تعالى: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن} يعني المؤمنات اللاتي أسلمن غير أزواج مشركين , أباح الله نكاحهن للمسلمين إذا انقضت عدتهن أو كن غير مدخول بهن. {إذا ءاتيتموهن أجورهن} يعني مهورهن. {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} فيه وجهان: أحدهما: أن العصمة الجمال قاله ابن قتيبة. الثاني: العقد , قاله الكلبي. فإذا أسلم الكافر عن وثنية لم يمسك بعصمتها ولم يقم نكاحها رغبة فيها أو في قومها , فإن الله قد حرم نكاحها عليه والمقام عليها ما لم تسلم في عدتها. فروى موسى بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه أنه قال: لما نزلت هذه الآية(5/522)
طلقت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب , وطلق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها بعده معاوية بن سفيان في الشرك , وطلق أم كلثوم بنت أبي جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر فتزوجها بعده خالد ابن سعيد بن العاص في الإسلام. {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} يعني أن للمسلم إذا ارتدت زوجته إلى المشركين من ذوي العهد المذكور أن يرجع عليه بمهر زوجته كما ذكرنا وأن للمشرك أن يرجع بمهر زوجته إذا أسلمت فإن لم يكن بيننا وبينهم عهد شرط فيه الرد فلا يرجع. ولا يجوز لمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأئمة أن يشرط في عقد الهدنة رد من أسلم لأن الرسول كان على وعد من الله بفتح بلادهم ودخولهم في الإسلام طوعاً وكرهاً فجاز له ما لم يجز لغيره. {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار} الآية. والمعنى أن من فاتته زوجته بارتدادها إلى أهل العهد المذكور ولم يصل إلى مهرها منهم ثم غنمهم المسلمون ردوا عليه مهرها. وفي المال الذي يرد منه هذا المهر ثلاثة أقاويل: أحدها: من أموال غنائمهم لاستحقاقها عليهم , قاله ابن عباس. الثاني: من مال الفيء , قاله الزهري. الثالث: من صداق من أسلمن منهن عن زوج كافر , وهو مروي عن الزهري أيضاً. وفي قوله تعالى: {فعاقبتم} ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه غنمتم لأخذه من معاقبة الغزو , قاله مجاهد والضحاك. الثاني: معناه فأصبتم من عاقبة من قتل أو سبي , قاله سفيان. الثالث: عاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرهامن غنائم المسلمين , قاله ابن بحر. وهذا منسوخ لنسخ الشرط الذي شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالحديبية , وقال عطاء بل حكمها ثابت.(5/523)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
{يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن(5/523)
ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} {يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح وبايعة الرجال جاءت النساء بعدهم للبيعة فبايعهن. واختلف في بيعته لهن على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه جلس على الصفا [ومعه عمر أسفل منه] فأمره أن يبايع النساء , قاله مقاتل. الثاني: أنه أمر أميمة أخت خديجة خالة فاطمة بنت رسول الله بعد أن بايعته , أن تبايع النساء عنه، قاله محمد بن المنكدر عن أميمة. الثالث: أنه بايعهن بنفسه وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه , قاله عامر الشعبي. وقيل بل وضع قعباً فيه ماء وغمس فيه يده وأمرهن فغمسن أيديهن , فكانت هذه بيعة النساء. فإن قيل فما معنى بيعتهن ولسن من أهل الجهاد فتؤخذ عليهن البيعة كالرجال؟ قيل: كانت بيعته لهن تعريفاً لهن بما عليهن من حقوق الله تعالى وحقوق أزواجهن لأنهن دخلن في الشرع ولم يعرفن حكمه فبينه لهن , وكان أول ما أخذه عليهن أن لا يشركن بالله شيئاً توحيداً له ومنعاً لعبادة غيره. {ولا يسرقن} فروى أن هند بنت عتبة كانت متنكرة عند أخذ البيعة على(5/524)
النساء خيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صنعته بحمزة وأكلها كبده , فقالت حين سمعته في أخذ البيعة عليهن يقول: {لا يسرقن} والله إني لا أصيب من أبي سفيان إلا قوتنا ما أدري أيحل لي أم لا , فقال أبو سفيان: ما أصبت مما مضى أو قد بقي فهو لك حلال , فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال: (أنت هند) ؟ فقالت عفا اللَّه عما سلف. ثم قال: {ولا يزنين} فقالت هند يا رسول الله أو تزني الحرة؟ ثم قال: {ولا يقتلن أولادهن} لأن العرب كانت تئد البنات , فقالت هند: أنت قتلتهم يوم بدر , وأنت وهم أبصر. وروى مقاتل أنها قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتوهم كباراً فأنتم وهم أعلم , فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه السحر , قاله ابن بحر. الثاني: المشي بالنميمة والسعي في الفساد. والثالث: وهو قول الجمهور ألا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن لأن الزوجة كانت تلتقط ولداً وتلحقه بزوجها ولداً , ومعنى {يفترينه بين أيديهن} ما أخذته لقيطاً , {وأرجلهن} ما ولدته من زنى , وروي أن هنداً لما سمعت ذلك قالت: والله إن البهتان لأمر قبيح , وما تأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق. ثم قال: {ولا يعصينك في معروف} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن المعروف ها هنا الطاعة لله ولرسوله , قاله ميمون بن مهران. الثاني: ما رواه شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعصينك في معروف قال: هو النوح. الثالث: أن من المعروف ألا تخمش وجهها ولا تنشر شعرها ولا تشق جيباً ولا تدعو ويلاً، قاله أسيد بن أبي أسيد.(5/525)
الرابع: أنه عام في كل معروف أمر الله ورسوله به , قاله الكلبي. فروي أن هنداً قالت عند ذلك: ما جلسنا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعطيك من شيء وهذا دليل على أن طاعة الولاة إنما تلزم في المعروف المباح دون المنكر المحظور. {يأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الأخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} {يأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم اليهود، قاله مقاتل. الثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن مسعود. الثالث: جميع الكفار، قاله مجاهد. {قد يئسوا من الأخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} فيه أربعة أوجه: أحدها: يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار من بعث من في القبور، قاله ابن عباس. الثاني: قد يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس أصحاب القبور بعد المعاينة من ثواب الآخرة لأنهم تيقنوا العذاب، قاله مجاهد. الثالث: قد يئسوا من البعث والرجعة كما يئس منها من مات منهم وقبر. الرابع: يئسوا أن يكون لهم في الآخرة خير كما يئسوا أن ينالهم من أصحاب القبور خير.(5/526)
سورة الصف
مدنية في قول الجميع بسم الله الرحمن الرحيم(5/527)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
{سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في قوم قالوا: لو عملنا أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليه , فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا عنه , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: أنها نزلت في قوم كان يقول الرجال منهم: قاتلت ولم يقاتل , وطعنت , ولم يطعن , وضربت , ولم يضرب وصبرت , ولم يصبر , وهذا مروي عن عكرمة. الثالث: أنها نزلت في المنافقين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا. وهذه الآية وإن كان ظاهرها الإنكار لمن قال ما لا يفعل فالمراد بها الإنكار لمن لم يفعل ما قال , لأن المقصود بها القيام بحقوق الالتيام دون إسقاطه.(5/527)
{إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً} مصطفين صفوفاً كالصلاة , لأنهم إذا اصطفوا مثلاً صفين كان أثبت لهم وأمنع من عدوهم. قال سعيد بن جبير: هذا تعليم من الله للمؤمنين. {كأنهم بنيان مرصوص} فيه وجهان: أحدهما: أن المرصوص الملتصق بعضه إلى بعض لا ترى فيه كوة ولا ثقباً لأن ذلك أحكم في البناء من تفرقه وكذلك الصفوف , قاله ابن جبير , قال الشاعر:
(وأشجر مرصوص بطين وجندل ... له شرفات فوقهن نصائب)
والثاني: أن المرصوص المبني بالرصاص , قاله الفراء , ومنه قول الراجز:
(ما لقي البيض من الحرقوص ... يفتح باب المغلق المرصوص)(5/528)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
{وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وفي الزيغ وجهان: أحدهما: أنه العدول , قاله السدي. الثاني: أنه الميل , إلا أنه لا يستعمل إلا في الزيغ عن الحق دون الباطل. ويحتمل تأويله وجهين: أحدهما: فلما زاغوا عن الطاعة أزاغ الله قلوبهم عن الهداية. الثاني: فلما زاغوا عن الإيمان أزاغ قلوبهم عن الكلام.(5/528)
وفي المعِنيّ بهذا الكلام ثلاثة أقاويل: أحدها: المنافقون. الثاني: الخوارج , قاله مصعب بن سعيد عن أبيه. الثالث: أنه عام. {ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} وهذه البشرى من عيسى تتضمن أمرين: أحدهما: تبليغ ذلك إلى قومه ليؤمنوا به عند مجيئه , وذلك لا يكون منه بعد إعلام الله له بذلك إلا عن أمر بتبليغ ذلك إلى أمته. الثاني: ليكون ذلك من معجزات عيسى عند ظهور محمد صلى الله عليه وسلم , وهذا يجوز أن يقتصر عيسى فيه على إعلام الله له بذلك دون أمره بالبلاغ. وفي تسمية الله له بأحمد وجهان: أحدهما: لأنه من أسمائه فكان يسمى أحمد ومحمداً قال حسان:
(صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد)
الثاني: أنه مشتق من اسمه محمود , فصار الاشتقاق اسماً , كما قال حسان:
(وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار , واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبادة الأصنام , واسمي في الإنجيل أحمد , واسمي في القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض.)(5/529)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
{ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي(5/529)
أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام} فيهم قولان: أحدهما: أنهم الكفار والمنافقون , قاله ابن جريج. الثاني: أنه النضر وهو من بني عبد الدار قال إذا كان يوم القيامة شفعت لي العزى واللات , فأنزل الله هذه الآية , قاله عكرمة. {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم} الآية. والإطفاء هو الإخماد , ويستعملان في النار , ويستعاران فيما يجري مجراها من الضياء والنور. والفرق بين الإطفاء والإخماد من وجه وهو أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير , والإخماد يستعمل في الكثير دون القليل , فيقال أطفأت السراج ولا يقال أخمدت السراج. وفي {نور الله} ها هنا خمسة أقاويل: أحدها: القرآن , يريدون إبطاله بالقول , قاله ابن زيد. الثاني: أنه الإسلام , يريدون دفعه بالكلام , قاله السدي. الثالث: أنه محمد صلى الله عليه وسلم يريدون هلاكه بالأراجيف , قاله الضحاك. الرابع: أنه حجج الله ودلائله , يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذبيهم , قاله ابن بحر. الخامس: أنه مثل مضروب , أي من أرد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلاً ممتنعاً فكذلك من أراد إبطال الحق , حكاه ابن عيسى. وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً , فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود ابشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه , وما كان الله ليتم أمره , فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك , فأنزل الله هذه الآية , ثم اتصل الوحي بعدها. {ليظهره على الدين كله} الآية. وفي الإظهار ثلاثة أقاويل: أحدها: الغلبة على أهل الأديان.(5/530)
الثاني: العلو على الأديان. الثالث: العلم بالأديان من قولهم قد ظهرت على سره أي علمت به.(5/531)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
{يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب} وهذا من الله لزيادة الترغيب , لأنه لما وعدهم بالجنة على طاعته وطاعة رسوله علم أن منهم من يريد عاجل النصر لقاء رغبة في الدنيا ولقاء تأييد الدين فوعدهم بما يقوي به الرغبة فقال: {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب} يعني فتح البلاد عليه وعليهم , وقد أنجز الله وعده في كلا الأمرين من النصر والفتح. وفي قوله: {قريب} وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى ما يحبونه أنه نصر من الله وفتح قريب. الثاني: أنه إخبار من الله بأن ما يحبونه من ذلك سيكون قريباً , فكان كما أخبر لأنه عجل لهم الفتح والنصر.(5/531)
سورة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم(6/5)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم} {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} . {بعث في الأميين رسولاً منهم} يعني في العرب , وفي تسميتهم أميين قولان: أحدهما: لأنه لم ينزل عليهم كتاب , قاله ابن زيد. الثاني: لأنهم لم يكونوا يكتبون ولا كان فيهم كاتب , قاله قتادة. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنهم قريش خاصة لأنها لم تكن تكتب حتى تعلم بعضها في آخر الجاهلية من أهل الحيرة.(6/5)
الثاني: أنهم جميع العرب لأنه لم يكن لهم كتاب ولا كتب منهم إلا قليل , قاله المفضل. فلو قيل: فما وجه الامتنان بأن بعث نبياً أمياً؟ فالجواب عنه ثلاثة أوجه: احدها: لموافقته ما تقدمت بشارة الأنبياء به. الثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم , فيكون أقرب إلى موافقتهم. الثالث: لينتفي عنه سوء الظن في تعلمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها. {يتلوا عليهم ءاياته} يعني القرآن. {ويزكيهم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان , وهو معنى قول ابن عباس. الثاني: يطهرهم من الكفر والذنوب، قاله ابن جريج ومقاتل. الثالث: يأخذ زكاة أعمالهم، قاله السدي. {ويعلمهم الكتاب} فيه ثلاثة تلأويلات: أحدها: أنه القرآن، قاله الحسن. الثاني: أنه الخط بالقلم، قاله ابن عباس، لأن الخط إنما فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط. الثالث: معرفة الخير والشر كما يعرفونه بالكتاب ليفعلوا الخير ويكفوا عن الشر , وهذا معنى قول محمد بن إسحاق. {والحكمة} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن الحكمة السنة، قاله الحسن.(6/6)
الثاني: أنه الفقه في الدين , وهو قول مالك بن أنس. الثالث: أنه الفهم والاتعاظ , قاله الأعمش. {وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم} أي ويعلم آخرين ويزكيهم , وفيه أربعة أقاويل: أحدها: أنهم المسلمون بعد الصحابة , قاله ابن زيد. الثاني: أنهم العجم بعد العرب , قاله الضحاك وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت في منامي غنماً سوداً تتبعها غنم عفر) فقال أبو بكر: يا رسول الله تلك العرب يتبعها العجم , فقال: (كذلك عبرها لي الملك) . الثالث: أنهم الملوك أبناء الأعاجم , قاله مجاهد. الرابع: أنهم الأطفال بعد الرجال. ويحتمل خامساً: أنهم النساء بعد الرجال. {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها النبوة التي خص الله بها رسوله هي فضل الله يؤتيه من يشاء , قاله مقاتل. الثاني: الإسلام الذي آتاه الله من شاء من عباده , قاله الكلبي. الثالث: ما روي أنه قيل يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، فأمر(6/7)
ذوي الفاقة بالتسبيح والتحميد والتكبير بدلاً من التصدق بالأموال , ففعل الأغنياء مثل ذلك , فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهَ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) قاله أبو صالح. ويحتمل خامساً: أنه انقياد الناس إلى تصديقه صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته.(6/8)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} يحتمل أربعة أوجه: أحدها: معناه تفرون من الداء بالدواء فإنه ملاقيكم بانقضاء الأجل. الثاني: تفرون من الجهاد بالقعود فإنه ملاقيكم بالوعيد. الثالث: تفرون منه بالطيرة من ذكره حذراً من حلوله فإنه ملاقيكم بالكره والرضا. الرابع: إنه الموت الذي تفرون أن تتمنوه حين قال تعالى: {فتمنوا الموت} .(6/8)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين} {يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} في السعي إليها أربعة أقاويل: أحدها: النية بالقلوب، قاله الحسن.(6/8)
الثاني: أنه العمل لها، كما قال تعالى: {إن سعيكم لشتى} قاله ابن زيد. الثالث: أنه إجابة الداعي، قاله السدي. الرابع: المشي على القدم من غير إسراع، وذكر أن عمر وابن مسعود كانا يقرآن {فامضوا إلى ذكر الله} . وفي ذكر الله ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها موعظة الإمام في الخطبة , قاله سعيد بن المسيب. الثاني: أنها الوقت , حكاه السدي. الثالث: أنه الصلاة , وهو قول الجمهور. وكان اسم يوم الجمعة في الجاهلية العروبة , لأن أسماء الأيام في الجاهلية كانت غير هذه الأسماء , فكانوا يسمون يوم الأحد أوّل , والأثنين أهون , والثلاثاء جبار , والأربعاء دبار , والخميس مؤنس , والجمعة عروبة , والسبت شيار , وأنشدني بعض أهل الأدب:
(أؤمل أن أعيش وإن يومي ... بأوّل أو أهون أو جبار)
(أو التالي دبار أو فيومي ... يمؤنس أو عروبة أو شيار)
وأول من سماه يوم الجمعة كعب بن لؤي بن غالب لاجتماع قريش فيه إلى كعب , وقيل بل سمي في الإسلام لاجتماع الناس فيه للصلاة. {وذروا البيع} منع الله منه عند صلاة الجمعة وحرمه في وقتها على ما كان مخاطباً بفرضها. وفي وقت التحريم قولان: أحدهما: أنه بعد الزوال [إلى ما] بعد الفراغ منها، قاله الضحاك. الثاني: من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ من الصلاة، قاله الشافعي رحمه الله فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس به لحضور(6/9)
الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها , وقد كان عمر أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم , فإذا اجتمعوا أذن في المسجد , فجعله [عثمان] آذانين في المسجد , وليس يحرم البيع بعده وقبل الخطبة , فإن عقد في هذا الوقت المحرم بيع لم يبطل البيع وإن كان قد عصى الله , لأن النهي مختص بسبب يعود إلى العاقدين دون العقد , وأبطله ابن حنبل تمسكاً بظاهر النهي. {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} يعني أن الصلاة خير لكم من البيع والشراء لأن الصلاة تفوت بخروج وقتها , والبيع لا يفوت. {فإذا قضيت الصلاة} يعني أُدّيتْ. {فانتشروا في الأرض} حكي عن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فرضيتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. {وابتغوا من فضل الله} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: الرزق من البيع والشراء , قاله مقاتل والضحاك. الثاني: العمل في يوم السبت , قاله جعفر بن محمد. الثالث: ما رواه أبو خلف عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا قضيت(6/10)
الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله , قال: ليس بطلب الدنيا لكن من عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله.) {وإذا رأوا تجارة أولهو أنفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين} . {وإذا رأو تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} روى سالم عن جابر قال: أقبلت عير ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في الخطبة فانفتل الناس إليها وما بقي غير اثني عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية. وذكر الكلبي أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عند مجاعة وغلاء سعر، وكان معه جميع ما يحتاج إليه نم برودقيق وغيره فنزل عند أحجار الزيت وضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه، وكانوا في خطبة الجمعة، فانفضوا إليها، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال، فقال تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} . والتجارة من أموال التجارات. وفي اللهوها هنا أربعة أوجه: أحدها: يعني لعباً، قاله ابن عباس. الثاني: أنه الطبل، قاله مجاهد. الثالث: أنه المزمار، قاله جابر. الرابع: الغناء. {وتركوك قائماً} يعني في خطبته، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والذي(6/11)
نفسي بيده لو ابتدرتموها حتى لا يبقى معي أحد لسال الوادي بكم ناراً، وإنما قال تعالى: {انفضوا إليها} ولم يقل إليهما، لأن غالب انفضاضهم كان للتجارة دون اللهو. وقال الأخفش: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً، وكذلك قرأ ابن مسعود. وفي {انفضوا} وجهان: أحدهما: ذهبوا. الثاني: تفرقوا. فمن جعل معناه ذهبوا أراد التجارة، ومن جعل معناه تفرقوا أراد عن الخطبة وهذا أفصح الوجهين، قاله قطرب، ومنه قول الشاعر:
(انفض جمعهم عن كل نائرة ... تبقى وتدنس عرض الواجم الشبم)
{قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة} يحتمل وجهين: أحدهما: ما عند الله من ثواب صلاتكم من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم. الثاني: ما عند الله من رزقكم الذي قسمت لكم خير مما أصبتموه بانفضاضكم من لهوكم وتجارتكم. {والله خير الرازقين} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الله سبحانه خير من رزق وأعطى. الثاني: ورزق الله خير الأرزاق.(6/12)
سورة المنافقون
بسم الله الرحمن الرحيم(6/13)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله} سئل حذيفة ابن اليمان عن المنافق فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به , وهم اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه. {قالوا نشهد إنك لرسول الله} يعني نحلف , فعبر عن الحلف بالشهادة لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب , ومنه قول قيس بن ذريح:
(وأشهد عند الله أني أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا)
ويحتمل ثانياً: أن يكون ذلك محمولاً على ظاهره أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله اعترافاً بالإيمان ونفياً للنفاق عن أنفسهم، وهو الأشبه.(6/13)
وسبب نزول هذه الآية ما روى أسباط عن السدي أن عبد الله بن أبي بن سلول كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة وفيها أعراب يتبعون الناس , وكان ابن أبي يصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل يوم طعاماً , فاستقى أعرابي ماء في حوض عمله من أحجار , فجاء رجل من أصحاب ابن أبي بناقة ليسقيها من ذلك الماء فمنعه الأعرابي واقتتلا فشجه الاعرابي , فأتى الرجل إلى عبد الله [بن أبي] ودمه يسيل على وجهه , فحزنه , فنافق عبد الله وقال: ما لهم رد الله أمرهم إلى تبال , وقال لأصحابه: لا تأتوا محمداً بالطعام حتى يتفرق عنه الأعراب , فسمع ذلك زيد بن أرقم وكان حدثاً , فأخبر عمه , فأتى عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه , فبعث إلى ابن أبيّ وكان من أوسم الناس وأحسنهم منطقاً , فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف: والذي بعثك بالحق ما قلت من هذا شيئاً , فصدقه فأنزل الله هذه الآية. {والله يعلم إنك لرسوله} أي إن نافق من نافقك من علم الله بأنك رسوله فلا يضرك. ثم قال: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} يحتمل وجهين: أحدهما: والله يقسم إن المنافقين لكاذبون في أيمانهم. الثاني: معناه والله يعلم أن المنافقين لكاذبون فيها. {اتخذوا أيمانهم جنة} والجنة: الغطاء المانع من الأذى , ومنه قول الأعشى ميمون.
(إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة ... من المال سار الذم كل مسير)
وفيه وجهان: أحدهما: من السبي والقتل ليعصموا بها دماءهم وأموالهم , قاله قتادة. الثاني: من الموت ألاَّ يُصلَّى عليهم , فيظهر على جميع المسلمين نفاقهم , وهذا معنى قول السدي. ويحتمل ثالثاً: جنة تدفع عنهم فضيحة النفاق.(6/14)
{فصدوا عن سبيل الله} فيه وجهان: أحدهما: عن الإسلام بتنفير المسلمين عنه. الثاني: عن الجهاد بتثبيطهم المسلمين وإرجافهم به وتميزهم عنهم , قال عمر بن الخطاب: ما أخاف عليكم رجلين: مؤمناً قد استبان إيمانه وكافر قد استبان كفره , ولكن أخاف عليكم منافقاً يتعوذ بالإيمان ويعمل بغيره. {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} يعني حسن منظرهم وتمام خلقهم. {وإن يقولوا تسمع لقولهم} يعني لحسن منطقهم وفصاحة كلامهم. ويحتمل ثانياً: لإظهار الإسلام وذكر موافقتهم. {كأنهم خشب مسندة} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه شبههم بالنخل القيام لحسن منظرهم. الثاني: [شبههم] بالخشب النخرة لسوء مخبرهم. الثالث: أنه شبههم بالخشب المسندة لأنهم لا يسمعون الهدى ولا يقبلونه , كما لا تسمعه الخشب المسندة , قاله الكلبي , وقوله: {مسندة} لأنهم يستندون إلى الإيمان لحقن دمائهم. {يحسبون كل صيحة عليهم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم لِوَجَلهم وخبثهم يحسبون كل صيحة يسمعونها - حتى لو دعا رجل صاحبه أو صاح بناقته - أن العدو قد اصطلم وأن القتل قد حَلَّ بهم , قاله السدي. الثاني: {يحسبون كل صيحة عليهم} كلام ضميره فيه ولا يفتقر إلى ما بعده , وتقديره: يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم فقال: {هم العدو فاحذرهم} وهذا معنى قول الضحاك. الثالث: يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم , وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم , فهم أبداً وجلون ثم وصفهم الله بأن قال: {هم العدو فاحذرهم} حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم. وفي قوله: {فاحذرهم} وجهان: أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم وتميل إلى كلامهم. الثاني: فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك.(6/15)
{قاتلهم الله} فيه وجهان: أحدهما: معناه لعنهم الله , قاله ابن عباس وأبو مالك. والثاني: أي أحلهم الله محل من قاتله عدو قاهر , لأن الله تعالى قاهر لكل معاند , حكاه ابن عيسى. وفي قوله: {أني يؤفكون} أربعة أوجه: أحدها: معناه يكذبون , قاله ابن عباس. الثاني: معناه يعدلون عن الحق , قاله قتادة. الثالث: معناه يصرفون عن الرشد , قاله الحسن. الرابع: معناه كيف يضل عقولهم عن هذا , قاله السدي.(6/16)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
{وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله} الآية. روى سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلاً لم يرتحل منه حتى يصلي فيه , فلما كانت غزوة تبوك بلغة أن ابن أُبَيّ قال: لئن رجعنا إلى المدينة لِيُخرجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ , فارتحل قبل أن ينزل آخرُ الناس , وقيل لعبد الله بن(6/16)
أُبيّ: ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك , فلوى رأسه , وهذا معنى قوله: {لوَّوْا رؤوسَهم} إشارة إليه وإلى أصحابه , أي حركوها , وأعرضوا يمنة ويسرة إلى غير جهة المخاطب ينظرون شزراً. ويحتمل قولاً ثانيا: أن معنى قوله {يستغفر لكم رسول الله} يستتيبكم من النفاق لأن التوبة استغفار. وفيما فعله عبد الله بن أبيّ حين لوى رأسه وجهان: أحدهما: أنه فعل ذلك استهزاء وامتناعاً من فعل ما دعي إليه من إتيان الرسول للاستغار له , قاله قتادة. الثاني: أنه لوى رأسه بمعنى ماذا قلت , قاله مجاهد. {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} فيه وجهان: أحدهما: يمتنعون , قال الشاعر:
(صدَدْتِ الكاسَ عنا أُمَّ عمرو ... وكان الكأسُ مجراها اليمينا)
الثاني: يعرضون , قال الأعشى:
(صَدَّقَ هُرَيْرةُ عنّا ما تُكَلِّمنا ... جَهْلاً بأُمّ خُلَيْدٍ حبل من تصل)
وفيما يصدون عنه وجهان: أحدهما: عما دُعوا إليه من استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم. الثاني: عن الإخلاص للإيمان. {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: متكبرون. الثاني: ممتنعون. {هم الذين يقولون لا تُنفِقوا على مَنْ عِندَ رسولِ الله} الآية يعني عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد انكفائه من غزاة بني المصطلق في شعبان سنة ست نزل على ماء المريسيع , فتنازع عليه جهجاه، وكان مسلماً وهو رجل من غفار،(6/17)
ورجل يقال له سنان، وكان من أصحاب عبد الله بن أُبي، فلطمه جهجاه، فغضب له عبد الله بن أُبيّ وقال: يا معاشر الأوس والخزرج ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، أوطأنا هذا الرجلَ ديارنا وقاسمْناهم أموالَنا ولولانا لانفضوا عنه، ما لهم، رد الله أمرهم إلى جهجاه، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل، فسمعه زيد بن أرقم وكان غلاما، فأعاده على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر له قومه، فأنزل الله هذه الآية والتي بعدها. {ولله خزائن السموات والأرض} فيه وجهان: أحدهما: خزائن السموات: المطر , وخزائن الأرضين: النبات. الثاني: خزائن السموات: ما قضاه , وخزائن الأرضين: ما أعطاه. وفيه لأصحاب الخواطر (ثالث) : أن خزائن السموات: الغيوب , وخزائن الأرض القلوب.(6/18)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه عنى بذكر الله [الصلاة] المكتوبة، قاله عطاء. الثاني: أنه أراد فرائض الله التي فرضها من صلاة وغيرها، قاله الضحاك. الثالث: أنه طاعة اللَّه في الجهاد، قاله الكلبي.(6/18)
الرابع: أنه أراد الخوف من اللَّه عند ذكره. {وَأَنفِقُوا مما رَزَقْناكُم} فيه وجهان: أحدهما: أنها الزكاة المفروضة من المال، قاله الضحاك. الثاني: أنها صدقة التطوع ورفد المحتاج ومعونة المضطر. {ولَن يُؤخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إذا جاءَ أَجَلُها} يحتمل وجهين: أحدهما: لن يؤخرها عن الموت بعد انقضاء الأجل , وهو أظهرهما. الثاني: لن يؤخرها بعد الموت وإنما يعجل لها في القبر.(6/19)
سورة التغابن(6/20)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور} قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فْمِنكُمْ كَافِرٌ} بأنه خلقه {وَمِنْكُم مُّؤمنٌ} بأنه خلقه , قاله الزجاج. الثاني: فمنكم كافر به وإن أقرّ به، ومنكم مؤمن به.(6/20)
قال الحسن: وفي الكلام محذوف وتقديره: فمنكم كافر ومنكم مؤمن ومنكم فاسق، فحذفه لما في الكلام من الدليل عليه. وقال غيره: لا حذف فيه لأن المقصود به ذكر الطرفين. {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون بالقول. الثاني: بإحكام الصنعة وصحة التقدير. وذكر الكلبي ثالثاً: أن معناه خلق السموات والأرض للحق. {وَصَوَّرَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: يعني آدم خلقه بيده كرامة له , قاله مقاتل. الثاني: جميع الخلق لأنهم مخلوقون بأمره وقضائه. {فأحْسَنَ صُوَرَكم} أي فأحكمها.(6/21)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
{ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد} { ... . فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدونَنا} يعني أن الكفار قالوا ذلك استصغاراً للبشر أن يكونوا رسلاً من اللَّه إلى أمثالهم , والبشر والإنسان واحد في المعنى , وإنما يختلفان في اشتقاق الاسم , فالبشر مأخوذ من ظهور البشرة , وفي الإنسان وجهان: أحدهما: مأخوذ من الإنس. والثاني: من النسيان. {فَكَفَروا} يعني بالرسل {وَتَوَلَّوْا} يعني عن البرهان. {واستغنى اللَّه} فيه وجهان: أحدهما: بسلطانه عن طاعة عباده , قاله مقاتل. الثاني: واستغنى اللَّه بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان من زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية. {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} في قوله {غَنِيٌّ} وجهان:(6/21)
أحدهما: غني عن صدقاتكم , قاله البراء بن عازب. الثاني: عن عملكم , قاله مقاتل. وفي {حميد} وجهان: أحدهما: يعني مستحمداً إلى خلقه بما ينعم به عليهم , وهو معنى قول عليّ. الثاني: إنه مستحق لحمدهم. وحكي عن ابن عباس فيه ثالث: معناه يحب من عباده أن يحمدوه.(6/22)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
{زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير} {زَعَمَ الذين كَفَروا} قال شريح زعموا كُنْيةُ الكذب. {يومَ يَجْمَعُكم ليومِ الجمْعِ} يعني يوم القيامة , ومن تسميته بذلك وجهان: أحدهما: لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته. الثاني: لأنه يجمع فيه بين الظالمين والمظلومين. ويحتمل ثالثاً: لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعاصي.(6/22)
{ذلك يومُ التغابُنِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه من أسماء يوم القيامة , ومنه قول الشاعر:
(وما أَرْتجي بالعيش من دارِ فُرْقةٍ ... ألا إنما الراحاتُ يوم التغابنِ)
الثاني: لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار , قال الشاعر:
(لعمرك ما شيءٌ يفوتُك نيلُه ... بغبْنٍ ولكنْ في العقول التغابنُ)
الثالث: لأنه يوم غَبَنَ فيه المظلومُ الظالمَ , لأن المظلوم كان في الدنيا مغبوناً فصار في الآخرة غابناً. ويحتمل رابعاً: لأنه اليوم الذي أخفاه اللهُ عن خَلْقه , والغبن الإخفاء ومنه الغبن في البيع لاستخفائه , ولذلك قيل مَغابِن الجسد لما خفي منه.(6/23)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
{ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون} {ما أصابَ مِنْ مُّصيبةٍ} من نفس أو مالٍ أو قول أو فعل يقتضي همّاً أو يوجب عقاباً عاجلاً أو آجلاً. {إلا بإذْنِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: إلا بأمر اللَّه. الثاني: إلا بحكم اللَّه تسليماً لأمره وانقياداً لحكمه. {ومَن يُؤْمِن باللَّه يَهْدِ قلبَهُ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه يهدي قلبه اللَّه تعالى. الثاني: أنه يعلم أنه من عند اللَّه ويرضى ويسلّم , قاله بشر. الثالث: أن يسترجع فيقول: إنّا للَّه وإنا إليه راجعون. الرابع: هو إذا ابتلي صبر , وإذا أنعم عليه شكر وإذا ظُلم غفر , قاله الكلبي.(6/23)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم} {يا أيها الذين آمنوا إنّ مِنْ أزْواجِكم وأَوْلادِكم عَدوّاً لكم} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه أراد قوماً أسلموا بمكة فأرادوا الهجرة فمنعهم أزواجهم وأولادهم منها وثبطوهم عنها , فنزل ذلك فيهم؛ قاله ابن عباس. الثاني: من أزواجكم وأولادكم من لا يأمر بطاعة اللَّه ولا ينهى عن معصيته , قاله قتادة. الثالث: أن منهم من يأمر بقطيعة الرحم ومعصية الرب , ولا يستطيع مع حبه ألاّ يطيعه , وهذا من العداوة؛ قاله مجاهد. وقال مقاتل بن سليمان: نبئت أن عيسى عليه السلام قال: من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان للدنيا عبداً. الرابع: أن منهم من هو مخالف للدين , فصار بمخالفة الدين عدواً , قاله ابن زيد.(6/24)
الخامس: أن من حملك منهم على طلب الدنيا والاستكثار منها كان عدواً لك , قاله سهل. وفي قوله {فاحذروهم} وجهان: أحدهما: فاحذروهم على دينكم؛ قاله ابن زيد. الثاني: على أنفسكم , وهو محتمل. {وإن تعْفُوا وتَصْفَحُوا وتَغْفِرُوا} الآية. يريد بالعفو عن الظالم , وبالصفح عن الجاهل , وبالغفران للمسيء. {فإنّ اللَّه غفورٌ} للذنب {رحيم} بالعباد , وذلك أن من أسلم بمكة ومنعه أهله من الهجرة فهاجر ولم يمتنع قال: لئن رجعت لأفعلنّ بأهلي ولأفعلنّ , ومنهم من قال: لا ينالون مني خيراً أبداً , فلما كان عام الفتح أُمِروا بالعفو والصفح عن أهاليهم , ونزلت هذه الآية فيهم. {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} فيه وجهان: أحدهما: بلاء , قاله قتادة. الثاني: محنة , ومنه قول الشاعر:
(لقد فتن الناس في دينهم ... وخلّىّ ابنُ عفان شرّاً طويلاً)
وفي سبب افتتانه بهما وجهان: أحدهما: لأنه يلهو بهما عن آخرته ويتوفر لأجلهما على دنياه. الثاني: لأنه يشح لأجل أولاده فيمنع حق اللَّه من ماله , لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد مبخلة محزنة مجبنة) .(6/25)
{والله عنده أجْرٌ عظيمٌ} قال أبو هريرة والحسن وقتادة وابن جبير: هي الجنة. ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يكون أجرهم في الآخرة أعظم من منفعتهم بأموالهم وأولادهم في الدنيا، فلذلك كان أجره عظيماً. {فاتّقوا الله ما اسْتطعتم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني جهدكم، قاله أبو العالية. الثاني: أن يطاع فلا يعصى، قاله مجاهد. الثالث: أنه مستعمل فيما يرجونه به من نافلة أو صدقة , فإنه لما نزل قوله تعالى: {اتّقوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم , فأنزل الله تعالى ذلك تخفيفاً {فاتقوا الله ما استطعتم} فنسخت الأولى , قاله ابن جبير. ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكْرَه على المعصية غير مؤاخذ بها لأنه لا يستطيع اتقاءها. {واسْمَعوا} قال مقاتل: كتاب الله إذا نزل عليكم. {وأطيعوا} الرسول فيما أمركم أو نهاكم , قال قتادة: عليها بويع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة. {وأنفِقوا خيْراً لأنفُسِكم} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: هي نفقة المؤمن لنفسه، قاله الحسن. الثاني: في الجهاد، قاله الضحاك. الثالث: الصدقة، قاله ابن عباس. {ومَن يُوقَ شُحَّ نفسِهِ فأولئك هم المفلِحونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: هوى نفسه، قاله ابن أبي طلحة.(6/26)
الثاني: الظلم , قاله ابن عيينة. الثالث: هو منع الزكاة , قال ابن عباس: من أعطى زكاة ماله فقد وقاه الله شح نفسه. {إن تُقْرِضوا اللَّهَ قرْضاً حَسَناً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: النفقة في سبيل اللَّه , قاله عمر رضي اللَّه عنه. الثاني: النفقة على الأهل , قاله زيد بن أسلم. الثالث: أنه قول سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر , رواه ابن حبان. وفي قوله {حَسَناً} وجهان محتملان: أحدهما: أن تطيب بها النفس. الثاني: أن لا يكون بها ممتناً. {يُضاعفْه لكم} فيه وجهان: أحدهما: بالحسنة عشر أمثالها , كما قال تعالى في التنزيل. الثاني: إلى ما لا يحد من تفضله , قاله السدي. {ويَغْفِرْ لكم} يعني ذنوبكم. {واللَّهُ شكورٌ حليمٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن يشكر لنا القليل من أعمالنا وحليم لنا في عدم تعجيل المؤاخذة بذنوبنا. الثاني: شكور على الصدقة حين يضاعفها، حليم في أن لا يعجل بالعقوبة من [تحريف] الزكاة عن موضعها، قاله مقاتل. {عالِمُ الغَيْبِ والشهَادةِ} يحتمل وجهين: أحدهما: السر والعلانية. الثاني: الدنيا والآخرة.(6/27)
سورة الطلاق
بسم الله الرحمن الرحيم(6/28)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} قوله تعالى {يا أيها النبي إذا طَلّقْتُمُ النّساءَ} الآية. هذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم [فهو شامل لأمته فروى قتادة عن أنس قال: (طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها فأنزل الله تعالى عليه: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساءَ فطلِّقوهُنَّ لعدَّتهنَّ} وقيل له راجعها فإنها قوّأمة صوّامة , وهي من أزواجك في الجنة) .] {لعدتهن} يعني في طهر من غير جماع , وهو طلاق السنة. وفي اعتبار العدد في طلاق السنة قولان: أحدهما: أنه معتبر وأن من السنة أن يطلق في كل قرء واحدة , فإن طلقها ثلاثاً معاً في قرء كان طلاق بدعة , وهذا قول أبي حنيفة ومالك رحمهما الله.(6/28)
الثاني: أنه غير معتبر , وأن السنة في زمان الطلاق لا في عدده , فإن طلقها ثلاثاً في قرء كان غير بدعة , قاله الشافعي رحمه الله , وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: فطلّقوهن لقُبُلِ عدّتهن. وإن طلقها حائضاً أو طهر جماع كان بدعة , وهو واقع , وزعم طائفة أنه غير واقع لخلاف المأذون فيه فأما طلاق الحامل وغير المدخول بها والصغيرة واليائسة والمختلعة فلا سنة فيه ولا بدعة. ثم قال تعالى: {وأَحْصُوا العِدَّةَ} يعني في المدخول بها , لأن غير المدخول بها لا عدة عليها وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة , ويكون بعدها كأحد الخطاب , ولا تحل له في الثلاث إلا بعد زوج. {واتَّقوا اللَّهَ ربَّكم} يعني في نساءكم المطلقات. {لا تُخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن} يعني في زمان عدّتهن , لوجود السكنى لهن. {إلاَّ أنْ يأتِينَ بفاحشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن الفاحشة يعني الزنا , والإخراج هو إخراجها لإقامة الحد , قاله ابن عمر والحسن ومجاهد. والثاني: أنه البذاء على أحمائها , وهذا قول عبد الله بن عباس والشافعي. الثالث: كل معصية للَّه , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الرابع: أن الفاحشة خروجهن , ويكون تقدير الآية: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن , قاله السدي. {وتلك حُدودُ اللَّهِ} يعني وهذه حدود اللَّه , وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: يعني طاعة اللَّه، قاله ابن عباس. الثاني: سنَّة اللَّه وأمره، قاله ابن جبير.(6/29)
الثالث: شروط اللَّه، قاله السدّي. {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدودَ اللَّهِ} فيه تأويلان: أحدهما: من لم يرض بها، قاله ابن عباس. الثاني: من خالفها، قاله ابن جبير. {فقدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فيه وجهان: أحدهما: فقد ظلم نفسه في عدم الرضا , باكتساب المأثم. الثاني: في وقوع الطلاق في غير الطهر للشهور لتطويل هذه العدة والإضرار بالزوجة. {لا تدري لعلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْد ذلك أَمْراً} يعني رجعة , في قول جميع المفسرين إن طلق دون الثلاث.(6/30)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
{فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} {فإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} يعني قاربْن انقضاء عدتهن. {فأمْسِكُوهُنَّ بمعروفٍ} يعني بالإمساك الرجعة. وفي قوله {بمعروف} وجهان: أحدهما: بطاعة اللَّه في الشهادة , قاله مقاتل. الثاني: أن لا يقصد الإضرار بها في المراجعة تطويلاً لعدتها. {أو فارِقوهنَّ بمعروفٍ} وهذا بأن لا يراجعها في العدة حتى تنقضي في منزلها. {وأشْهِدوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم} يعني على الرجعة في العدة , فإن راجع من غير شهادة ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء.(6/30)
{ومن يتّقِ اللَّهَ يَجْعَل له مَخْرَجاً} فيه سبعة أقاويل: أحدها: أي ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة , قاله ابن عباس. الثاني: أن المخرج علمه بأنه من قبل اللَّه , فإن اللَّه هو الذي يعطي ويمنع , قاله مسروق. الثالث: أن المخرج هو أن يقنعه اللَّه بما رزقه , قاله عليّ بن صالح. الرابع: مخرجاً من الباطل إلى الحق , ومن الضيق إلى السعة , قاله ابن جريج. الخامس: ومن يتق اللَّه بالطلاق يكن له مخرج في الرجعة في العدة , وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة , قاله الضحاك. والسادس: ومن يتق اللَّه بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة , قاله الكلبي. السابع: أن عوف بن مالك الأشجعي أُسِر ابنُه عوف , فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ذلك مع ضر أصابه , فأمره أن يكثر من قول لا حول ولا قوة إلا باللَّه , فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه , ثم قدم عوف فوقف على أبيه يناديه وقد ملأ الأقبال إبلاً , فلما رآه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره وسأله عن الإبل فقال: اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعاً بمالك , فنزلت هذه الآية {وَمَن يتق الّلَّه يجعل له مخرجاً} الآية , فروى الحسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من انقطع إلى اللَّه كفاه اللَّه كل مؤونة ورزقه اللَّه من حيث لا يحتسب , ومن انقطع إلى الدنيا وكله اللَّه إليها) . {إنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ} قال مسروق: إن اللَّه قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن(6/31)
لم يتوكل عليه، إلا أنَّ مَنْ توكّل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً. {قد جَعَل اللَّه لكل شيء قدْراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: - يعني وقتاً وأجلاً , قاله مسروق. الثاني: منتهى وغاية , قاله قطرب والأخفش. الثالث: مقداراً واحداً , فإن كان من أفعال العباد كان مقدراً بأوامر الله , وإن كان من أفعال اللَّه ففيه وجهان: أحدهما: بمشيئته. الثاني: أنه مقدر بمصلحة عباده.(6/32)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} {واللائي يَئِسْنَ مِن المحيْض مِن نِسائِكُمْ إن ارْتَبْتُمْ فعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أَشْهُرٍ} في الريبة ها هنا قولان: أحدهما: إن ارتبتم فيهن بالدم الذي يظهر منهن لكبرهن فلم تعرفوا أحيض هو أم استحاضة , فعدتهن ثلاثة أشهر , قاله مجاهد والزهري. الثاني: إن ارتبتم بحكم عِددهن فلم تعلموا بماذا يعتددن , فعدتهن ثلاثة أشهر. روى عمر بن سالم عن أبيّ بن كعب قال: قلت: يا رسول اللَّه إنّ ناساً من أهل المدينة لما نزلت الآيات التي في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكرن في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات(6/32)
الحمل، فأنزل اللَّه: {اللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} . {واللائي لم يَحِضْنَ} يعني كذلك عدتهن ثلاثة أشهر , فجعل لكل قرء شهراً , لأنها تجمع في الأغلب حيضاً وطهراً. {وأُولاتُ الأحْمالِ أَجلُهنَّ أَن يَضَعْنَ حَملَهُنَّ} فكانت عدة الحامل وضع حملها في الطلاق والوفاة. {ومَن يتّقِ اللَّهَ يَجْعَل له مِنْ أمْرِه يُسْراً} فيه وجهان: أحدهما: من يتقه في طلاق السنة يجعل له من أمره يسراً في الرجعة , قاله الضحاك. الثاني: من يتق اللَّه في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه للطاعة , وهذا معنى قول مقاتل.(6/33)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
{أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا} {أسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِن وُجْدِكم} يعني سكن الزوجة مستحق على زوجها مدة نكاحها وفي عدة طلاقها بائناً كان أو رجعياً. وفي قوله: {من وجدكم} أربعة أوجه: أحدهما: من قوتكم، قاله الأعمش. الثاني: من سعيكم، قاله الأخفش. الثالث: من طاقتكم، قاله قطرب. الرابع: مما تجدون، قاله الفراء، ومعانيها متقاربة. {ولا تُضارُّوهُنّ لِتُضَيِّقُوا عليهنّ} فيه قولان:(6/33)
أحدهما: في المساكن، قاله مجاهد. الثاني: لتضيقوا عليهن في النفقة , قاله مقاتل. مقاتل , فعلى قول مجاهد أنه التضييق في المسكن فهو عام في حال الزوجية وفي كل عدة , لأن السكنى للمعتدة واجبة في كل عدة في طلاق يملك فيه الرجعة أو لا يملك. وفي وجوبه في عدة الوفاة قولان؛ وعلى قول مقاتل أنه التضييق في النفقة فهو خاص في الزوجة وفي المعتدة من طلاق رجعي. وفي استحقاقها للمطلقة البائن قولان: أحدهما: لا نفقة للبائن في العدة , وهو مذهب مالك والشافعي رحمهما اللَّه. الثاني: لها النفقة , وهو مذهب أبي حنيفة رحمه اللَّه. {وإن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنفِقوا عليهنّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وهذا في نفقة المطلقة الحامل لأنها واجبة لها مدة حملها في قول الجميع سواء كان طلاقاً بائناً أم رجعياً , وإنما اختلفوا في وجوب النفقة لها هل استحقته بنفسها إن كانت بائناً أو بحملها على قولين. {فإن أَرْضَعْنَ لكم فآتوهُن أُجورَهُنّ} وهذا في المطلقة إذا أرضعت فلها على المطلق أجرة رضيعها لأن نفقته ورضاعه واجب على أبيه دونها , ولا أجرة لها إن كانت على نكاحه. {وائْتَمِروا بَيْنكم بمعْروف} فيه وجهان: أحدهما: قاله السدي. الثاني: تراضوا يعني أبوي الولد يتراضيان بينهما إذا وقعت الفرقة بينهما بمعروف في أجرتها على الأب ورضاعها للولد. {وإن تعاسرتم} فيه وجهان: أحدهما: تضايقتم وتشاكستم، قاله ابن قتيبة.(6/34)
الثاني: اختلفتم. {فسترضعُ له أخرى} واختلافهما نوعان: أحدهما: في الرضاع. الثاني: في الأجر. فإن اختلفا في الرضاع فإن دعت إلى إرضاعه فامتنع الأب مكِّنت منه جبراً , وإن دعاها الأب إلى إرضاعه فامتنعت , فإن كان يقبل ثدي غيرها لم تجبر على إرضاعه ويسترضع له غيرها , وإن كان لا يقبل ثدي غيرها أجبرت على إراضاعه بأجر مثلها. وإن اختلفا في الأجر فإن دعت إلى أجر مثلها وامتنع الأب إلا تبرعاً فالأم أَوْلى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعاً. وإن دعا الأب إلى أجر المثل وامتنعت الأم شططاً فالأب أولى به , فإذا أعسر الأب بأجرتها أخذت جبراً برضاع ولدها. { ... لا يُكلِّفُ اللَّه نفساً إلا ما آتاها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يكلف اللَّه الأب نفقة المرضع إلا بحسب المكنة , قاله ابن جبير. الثاني: لا يكلفه اللَّه أن يتصدق ويزكي وليس عنده مال مصدق ولا مزكى , قاله ابن زيد. الثالث: أنه لا يكلفه فريضة إلا بحسب ما أعطاه اللَّه من قدرته , وهذا معنى قول مقاتل. {سيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسراً} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني بعد ضيق سعة. الثاني: بعد عجز قدرة.(6/35)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
{وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى(6/35)
النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} {قد أنزلَ اللَّهُ إليكم ذِكْراً رَسولاً} الذكر القرآن , وفي الرسول قولان: أحدهما: جبريل , فيكونان جميعاً , منزلين , قاله الكلبي. الثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم , فيكون تقدير الكلام: قد أنزل اللَّه إليكم ذكراً وبعث إليكم رسولاً. {يتلوا عليكم آيات اللَّه} يعني القرآن , قال الفراء: نزلت في مؤمني أهل الكتاب. {مُبَيِّناتٍ ليُخْرِجَ الذين آمَنوا وَعمِلوا الصالِحَاتِ مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من ظلمة الجهل إلى نور العلم. الثاني: من ظلمة المنسوخ إلى ضياء الناسخ. الثالث: من ظلمة الباطل إلى ضياء الحق. {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله أحاط بكل شيء علماً} {الله الذي خلق سبع سموات} لا اختلاف بينهم في السموات السبع أنها سماء فوق سماء. ثم قال: {ومن الأرض مثلهن} يعني سبعاً، واختلف فيهن على قولين: أحدهما: وهو قول الجمهور أنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض، وجعل في كل أرض من خلقه من شاء، غير أنهم تقلّهم أرض وتظلهم أخرى، وليس تظل السماء إلا أهل الأرض العليا التي عليها عالمنا هذا، فعلى هذا تختص دعوة الإسلام(6/36)
بأهل الأرض العليا ولا تلزم من في غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز. وفي مشاهدتهم السماء واستمداد الضوء منها قولان: أحدهما: أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. والقول الثاني: أنهم لا يشاهدون السماء وإن الله خلق لهم ضياء يستمدونه، وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. القول الثاني: حكاه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض، تفرق بعض، تفرق بينهن البحار وتظل جميعهن السماء، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل هذه الأرض وصول للأخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام عند إمكان الوصول إليهم لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتل ألا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمت لكان النص بها وارداً ولكان الرسول بها مأموراً، والله أعلم بصحة ما استأثر بعلمه وصواب ما اشتبه على خلقه. ثم قال تعالى: {يتنزل الأمر بينهن} فيه وجهان: أحدهما: الوحي، قاله مقاتل، فعلى هذا يكون قوله {بينهن} إشارة إلى ما بين هذه الأرض العليا التي هي أدناها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. الوجه الثاني: أن المراد بالأمر قضاء الله وقدره، وهو قول الأكثرين، فعلى هذا يكون المراد بقوله " بينهن " الإشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. ثم قال {ليعلموا أن الله على كل شيء قدير} لأن من قدر على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر، ومن العفو والانتقام أمكنْ، وإن استوى كل ذلك في مقدوره ومكنته. {وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} أوجب التسليم بما تفرد به من العلم كما أوجب التسليم بما تفرد به من القدرة، ونحن نستغفر الله من خوض فيما اشتبه وفيما التبس وهو حسب من استعانه ولجأ إليه.(6/37)
سورة التحريم
مدينة في قول الجميع بسم الله الرحمن الرحيم(6/38)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا} قوله تعالى: {يا أيها النبيُّ لم تُحرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدهاه: أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها , قاله ابن عباس. والثاني: أنه عسل شربه النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه , واختلف فيها فروى عروة(6/38)
عن عائشة أنه شربه عند حفصة وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة. وروى أسباط عن السدي أنه شربه عند أم سلمة , فقال يعني نساؤه عدا من شرب ذلك عندها: إنا لنجد منك ريح المغافير , وكان يكره أن يوجد منه الريح , وقلن له: جَرَسَتْ نحلة العُرفُط , فحرّم ذلك على نفسه , وهذا قول من ذكرنا. الثالث: أنها مارية أم إبراهيم خلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة بنت عمر وقد خرجت لزيارة أبيها , فلما عادت وعلمت عتبت على النبي صلى الله عليه وسلم فحرمها على نفسه أرضاء لحفصة , وأمرها أن لا تخبر أحداً من نسائه , فأخبرت به عائشة لمصافاة كانت بينهما وكانت تتظاهران على نساء النبي صلى الله عليه وسلم أي تتعاونان , فحرّم مارية وطلق حفصة واعتزل سائر نسائه تسعة وعشرين يوماً , وكان جعل على نفسه أن يُحرّمهن شهراً , فأنزل اللَّه هذه الآية , فراجع حفصة واستحل مارية وعاد إلى سائر نسائه , قاله الحسن وقتادة والشعبي ومسروق والكلبي وهو ناقل السيرة. واختلف من قال بهذا , هل حرّمها على نفسه بيمين آلى بها أم لا , على قولين: أحدهما: أنه حلف يميناً حرّمها بها , فعوتب في التحريم وأُمر بالكفارة في اليمين، قاله الحسن وقتادة والشعبي. الثاني: أنه حرّمها على نفسه من غير يمين , فكان التحريم موجباً لكفارة اليمين، قاله ابن عباس. {قد فَرَضَ اللَّهُ لكم تَحِلَّةَ أيْمانِكم} فيه وجهان: أحدهما: قد بيّن الله لكم المخرج من أيمانكم.(6/39)
الثاني: قد قدر الله لكم الكفارة في الحنث في أيمانكم. {وإذْ أسَرًّ النبيُّ إلى بَعْضِ أزْاجِهِ حَديثاً} فيه قولان: أحدهما: أنه أسَرَّ إلى حفصة تحريم ما حرمه على نفسه، فلما ذكرته لعائشة وأطلع اللَّه نبيه على ذلك عرّفها بعض ما ذكرت , وأعرض عن بعضه، قاله السدي. الثاني: أسرّ إليها تحريم مارية , وقال لها: اكتميه عن عائشة وكان يومها منه , وأُسِرّك أن أبا بكر الخليفة من بعدي , وعمر الخليفة من بعده , فذكرتها لعائشة , فلما أطلع اللَّه نبيه {عرّف بعضه وأعرض عن بعض} فكان الذي عرف ما ذكره من التحريم , وكان الذي أعرض عنه ما ذكره من الخلافة لئلا ينتشر , قاله الضحاك. وقرأ الحسن: (عَرَف بعضه) بالتخفف , وقال الفراء: وتأويل قوله: عرف بعضه بالتخفيف أي غضب منه وجازى عليه , {إن تَتوبا إلى اللَّهِ فَقدْ صَغَتْ قلوبُكما} يعني بالتوبة اللتين تظاهرتا وتعاونتا من نساء النبي صلى الله عليه وسلم على سائرهن وهما عائشة وحفصة. وفي (صغت) ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني زاغت , قاله الضحاك. الثاني: مالت , قاله قتادة , قال الشاعر:
(تُصْغِي القلوبُ إلى أَغَرَّ مُبارَكٍ ... مِن نَسْلِ عباس بن عبد المطلب)
والثالث: أثمت , حكاه ابن كامل. وفيما أوخذتا بالتوبة منه وجهان: أحدهما: من الإذاعة والمظاهرة. الثاني: من سرورهما بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من التحريم , قاله ابن زيد. {وإن تَظَاهَرا عليه} عين تعاونا على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. {فإن الله هو مولاه} يعني وليه {وجبريل} يعني وليه أيضاً.(6/40)
{وصالحُ المؤمنين} فيهم خمسة أقاويل: أحدها: أنهم الأنبياء، قاله قتادة وسفيان. الثاني: أبو بكر وعمر، قال الضحاك وعكرمة: لأنهما كانا أبوي عائشة وحفصة وقد كانا عونا له عليهما. الثالث: أنه عليّ. الرابع: أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. الخامس: أنهم الملائكة، قاله ابن زيد. ويحتمل سادساً: أن صالح المؤمنين من وقى دينه بدنياه. {والملائكةُ بعَدَ ذلك ظهيرٌ} يعني أعواناً للنبي صلى الله عليه وسلم , ويحتمل تحقيق تأويله وجهاً ثانياً: أنهم المستظهر بهم عند الحاجة اليهم. {عَسى ربُّه إن طَلّقكُنّ أَن يُبدِلَه أَزْواجاً خيراً مِنكُنَّ} أما نساؤه فخير نساء الأمَّة. وفي قوله {خَيْراً مِّنكُنَّ} ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أطوع منكن. والثاني: أحب إليه منكن. والثالث: خيراً منكن في الدنيا , قاله السدي. {مَسْلِماتٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني مخلصات , قاله ابن جبير ونرى ألا يستبيح الرسول إلا مسلمة. الثاني: يقمن الصلاة ويؤتين الزكاة كثيراً , قاله السدي. الثالث: معناه مسلمات لأمر اللَّه وأمر رسوله , حكاه ابن كامل. {مؤمناتٍ} يعني مصدقات بما أُمرْن به ونُهين عنه. {قانتاتٍ} فيه وجهان: أحدهما: مطيعات. الثاني: راجعات عما يكرهه اللَّه إلى ما يحبه.(6/41)
{تائباتٍ} فيه وجهان: أحدهما: من الذنوب , قاله السدي. الثاني: راجعات لأمر الرسول تاركات لمحاب أنفسهن. {عابداتٍ} فيه وجهان: أحدهما: عابدات للَّه , قاله السدي. الثاني: متذللات للرسول بالطاعة , ومنه أخذ اسم العبد لتذلله , قاله ابن بحر. {سائحاتٍ} فيه وجهان: أحدهما: صائمات , قاله ابن عباس والحسن وابن جبير. قال ابن قتيبة: سمي الصائم سائحاً لأنه كالسائح في السفر بغير زاد. وقال الزهري: قيل للصائم سائح لأن الذي كان يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه كان ممسكاً عن الأكل , والصائم يمسك عن الأكل , فلهذه المشابهة سمي الصائم سائحاً , وإن أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح , والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المشتهى , وهو الأكل والشرب والوقاع. وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان إذا امتنع عن الأكل والشرب والوقاع وسد على نفسه أبواب الشهوات انفتحت عليه أبواب الحكم وتجلت له أنوار المتنقلين من مقام إلى مقام ومن درجة إلى درجة فتحصل له سياحة في عالم الروحانيات. الثاني: مهاجرات لأنهن بسفر الهجرة سائحات , قاله زيد بن أسلم. {ثَيّباتٍ وأبْكاراً} أما الثيب فإنما سميت بذلك لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها , أو إلى غيره إن فارقها , وقيل لأنها ثابَتْ إلى بيت أبويها , وهذا أصح لأنه ليس كل ثيّب تعود إلى زوج. وأما البكر فهي العذراء سميت بكراً لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. قال الكلبي: أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون , والبكر مثل مريم بنت عمران. روى خداش عن حميد عن أنس قال عمر بن الخطاب: وافقت ربي في(6/42)
ثلاث، قلت: يا رسول اللَّه لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى، وقلت: يا رسول اللَّه إنك يدخل إليك البرُّ والفاجر فلو حجبت أمهات المؤمنين، فأنزل اللَّه آية الحجاب، وبلغني عن أمهات المؤمنين شىء [فدخلت عليهن فقلت] : لتَكُفُّنّ عن رسول اللَّه أو ليبدلنه اللًَّه أزوجاً خيراً منكن حتى دخلت على إحدى أمهات المؤمنين فقالت: يا عمر أما في رسول اللَّه ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت , فأمسكت فأنزل اللَّه تعالى: {عسى ربُّه إن طلّقكنّ} الآية.(6/43)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير} {يا أيها الذين آمَنوا قُوا أَنفُسَكم وأهْليكم ناراً} قال خيثمة: كل شيء في القرآن يا أيها الذين آمنوا ففي التوراة يا أيها المساكين. وقال ابن مسعود: إذا قال اللَّه يا أيها الذين آمنوا فارعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه. وقال الزهري: إذا قال اللَّه تعالى: يا أيها الذين آمنوا افعلوا , فالنبي منهم. ومعنى قوله: {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} أي اصرفوا عنها النار , ومنه قول الراجز:
(ولو توقى لوقاه الواقي ... وكيف يوقى ما الموت لاقي)(6/43)
وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه قوا أنفسكم , وأهلوكم فليقوا أنفسهم ناراً , قاله الضحاك. الثاني: قوا أنفسكم ومروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيكم اللَّه بهم , رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. الثالث: قوا أنفسكم بأفعالكم , وقوا أهليكم بوصيتكم , قاله علي وقتادة ومجاهد. وفي الوصية التي تقيهم النار ثلاثة أقاويل: أحدها: يأمرهم بطاعة اللَّه وينهاهم عن معصيته , قاله قتادة. الثاني: يعلمهم فروضهم ويؤدبهم في دنياهم , قاله علي. الثالث: يعلمهم الخير ويأمرهم به , ويبين لهم الشر , وينهاهم عنه. قال مقاتل: حق ذلك عليه في نفسه وولده وعبيده وإمائه. {وَقودها الناسُ والحجارةُ} في ذكر الحجارة مع الناس ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الحجارة التي عبدوها , حتى يشاهدوا ما أوجب مصيرهم إلى النار , وقد بين الله ذلك في قوله {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّم} . الثاني: أنها حجارة من كبريت وهي تزيد في وقودها النار وكان ذكرها زيادة في الوعيد والعذاب , قاله ابن مسعود ومجاهد. الثالث: أنه ذكر الحجارة ليعلموا أن ما أحرق الحجارة فهو أبلغ في إحراق الناس. روى ابن أبي زائدة قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم} الآية , وعنده بعض أصحابه , ومنهم شيخ فقال الشيخ: يا رسول الله حجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ فقال والذي نفسي بيده لصخرة من جهنم أعظم من جبال الدنيا كلها , فوقع الشيخ مغشياً عليه , فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو حي , فقال: يا شيخ قل لا إله إلا اللَّه , فقال بها , فبشره بالجنة , فقال أصحابه: يا رسول اللَّه أمِن بيننا؟ قال: نعم لقول اللَّه تعالى: {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} .(6/44)
{عليها ملائكة غِلاظٌ شدادٌ} يعني غلاظ القلوب , شداد الأفعال وهم الزبانية. {لا يعْصُون الله ما أمرهم} أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان. {ويَفْعلون ما يُؤْمَرونَ} يعني في وقته فلا يؤخرونه ولا يقدمونه. {يا أيها الذين آمنوا تُوبوا إلى اللَّه تَوْبةً نَصوحاً} فيه خمسة تأويلات: أحدهها: أن التوبة النصوح هي الصادقة الناصحة , قاله قتادة. الثاني: أن النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره , قاله الحسن. الثالث: أن لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها. الرابع: أن النصوح هي التي لا يحتاج معها إلى توبة. الخامس: أن يتوب من الذنب ولا يعود إليه أبداً , قاله عمر بن الخطاب. وهي على هذه التأويلات مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة. وفي أخذها منها وجهان: أحدهما: لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما يحكم الخياط الثوب بخياطته وتوثيقه. الثاني: لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء اللَّه وألصقته بهم كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه ببعض. ومنهم من قرأ نُصوحاً بضم النون , وتأويلها على هذه القراءة توبةَ نُصْح لأنفسكم , ويروي نعيم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم بضالَّته يجدها بأرض فلاة عليها زاده وسقاؤه) .(6/45)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
{يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم(6/45)
وبئس المصير ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين} {يا أيها النبيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمنافقين واغْلُظْ عليهم} أما جهاد الكفار فبالسيف , وأما جهاد المنافقين ففيه أربعة أوجه: أحدها: أنه باللسان والقول , قاله ابن عباس والضحاك. الثاني: بالغلظة عليهم كما ذكر اللَّه , قاله الربيع بن أنس. الثالث: بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه , وليقابلهم بوجه مكفهر , قاله ابن مسعود. الرابع: بإقامة الحدود عليهم , قاله الحسن. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثلاً للذين كَفَروا امرأةَ نُوحٍ وامرأةَ لُوطٍ كانتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادنا صالحْينِ فخانتاهما} في خيانتهما أربعة أوجه: أحدها: أنهما كانتا كافرتين , فصارتا خائنتين بالكفر , قاله السدي. الثاني: منافقتين تظهران الإيمان وتستران الكفر , وهذه خيانتهما قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط , إنما كانت خيانتهما في الدين. الثالث: أن خيانتهما النميمة , إذا أوحى اللَّه تعالى إليهما [شيئاً] أفشتاه إلى المشركين , قاله الضحاك. الرابع: أن خيانة امرأة نوح أنها كانت تخبر الناس أنه مجنون , وإذا آمن أحد به(6/46)
أخبرت الجبابرة به , وخيانة امرأة لوط أنه كان إذا نزل به ضيف دخّنت لِتُعْلِم قومها أنه قد نزل به ضيف , لما كانوا عليه من إتيان الرجال. قال مقاتل: وكان اسم امرأة نوح والهة , واسم امرأة لوط والعة. وقال الضحاك عن عائشة أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واعلة , واسم امراة لوط والهة. {فلم يُغْنِيا عنهما مِنَ اللَّهِ شيئاً} أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله عن زوجتيهما لما عصتا شيئاً من عذاب اللَّه , تنبيهاً بذلك على أن العذاب يُدفع بالطاعة دون الوسيلة. قال يحيى بن سلام: وهذا مثل ضربه اللَّه ليحذر به حفصة وعائشة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم ضرب لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيباً في التمسك بالطاعة فقال:(6/47)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
{وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} {وضَربَ اللَّهُ مَثلاً للذينَ آمنوا امرأةَ فِرْعونَ} قيل اسمها آسية بنت مزاحم. {إذْ قالت رَبِّ ابْنِ لي عندك بيتاً في الجنة} قال أبو العالية: اطّلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملأ فقال لهم: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها , فقال لهم: فإنها تعبد ربّاً غيري , فقالوا له: اقتلْها , فأوتد لها أوتاداً فشد يديها ورجليها , فدعت آسية ربها فقالت: (رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة) الآية،(6/47)
فكشف لها الغطاء فنظرت إلى بيتها في الجنة , فوافق ذلك حضور فرعون , فضحكت حين رأت بيتها في الجنة , فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها , فعذبها وهي تضحك وقُبض روحها. وقولها: {وَنَجِّني مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِه} فيه قولان: أحدهما: الشرك. الثاني: الجماع , قاله ابن عباس. {وَنجِّني من القوم الظالمين} فيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل مصر , قاله الكلبي. الثاني: القبط , قاله مقاتل. {ومريمَ ابنَةَ عِمرانَ التي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا} قال المفسرون: إنه أراد بالفرج الجيب لأنه قال {فنفخنا فيه مِن رُوحنا} وجبريل إنما نفخ في جيبها , ويحتمل أن تكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها. {وصَدَّقَتْ بكلماتِ رَبِّها وكُتُبِه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن (كلمات ربها) الإنجيل , و (كتبه) التوراة والزبور. الثاني: أن (كلمات ربها) قول جبريل حين نزل عليها {إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً} , {وكتبه} الإنجيل الذي أنزله من السماء , قاله الكلبي. الثالث: أن (كلمات ربها) عيسى , و (كتبه) الإنجيل , قاله مقاتل. {وكانت من القانتين} أي من المطيعين في التصديق. الثاني: من المطيعين في العبادة.(6/48)
سورة الملك
مكية عند الكل بسم الله الرحمن الرحيم(6/49)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
{تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير} قوله عز وجل: {تباركَ الذي بيدِهِ المُلْكُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن التبارُك تفاعُل من البركة , قاله ابن عباس. وهو أبلغ من المبارك لاختصاص اللَّه بالتبارك واشتراك المخلوقين في المبارك. الثاني: أي تبارك في الخلق بما جعل فيهم من البركة , قاله ابن عطاء. الثالث: معناه علا وارتفع , قاله يحيى بن سلام. وفي قوله (الذي بيده الملك) وجهان: أحدهما: ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة. الثاني: ملك النبوة التي أعزّ بها من اتبعه وأذل بها من خالفه , قاله محمد بن إسحاق. {وهو عَلى كُلِّ شَىْءٍ قَديرٌ} من إنعام وانتقام.(6/49)
{ْالذي خَلَقَ الموتَ والحياةَ} يعني الموت في الدنيا , والحياة في الآخرة. قال قتادة: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: إن اللَّه أذل بني آدم بالموت , وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت , وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء (. الثاني: أنه خلق الموت والحياة جسمين , فخلق الموت في صورة كبش أملح , وخلق الحياة في صورة فرس [أنثى بلقاء] , وهذا مأثور حكاه الكلبي ومقاتل. {ْلِيَبْلُوكم أيُّكم أَحْسَنُ عَمَلاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أيكم أتم عقلاً , قاله قتادة. الثاني: أيكم أزهد في الدنيا , قاله سفيان. الثالث: أيكم أورع عن محارم اللَّه وأسرع إلى طاعة اللَّه , وهذا قول مأثور. الرابع: أيكم للموت أكثر ذِكْراً وله أحسن استعداداً ومنه أشد خوفاً وحذراً , قاله السدي. الخامس: أيكم أعرف بعيوب نفسه. ويحتمل سادساً: أيكم أرضى بقضائه وأصبر على بلائه. {ْالذي خَلَقَ سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً} فيه وجهان:(6/50)
أحدهما: أي متفق متشابه , مأخوذ من قولهم هذا مطابق لهذا أي شبيه له , قاله ابن بحر. الثاني: يعني بعضهن فوق بعض , قال الحسن: وسبع أرضين بعضهن فوق بعض , بين كل سماء وأرض خلق وأمر. {ْما تَرَة في خَلْق الرحمنِ من تفاوُتٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: من اختلاَف , قاله قتادة , ومنه قول الشاعر:
(متفاوتات من الأعنة قطّباً ... حتى وفي عشية أثقالها.)
الثاني: من عيب , قاله السدي. الثالث: من تفرق , قاله ابن عباس. الرابع: لا يفوت بعضه بعضاً , قاله عطاء بن أبي مسلم. قال الشاعر:
(فلستُ بمُدْركٍ ما فاتَ مِنِّي ... بِلَهْفَ وَلاَ بِليْتَ ولا لَو أنِّي)
{ْفارْجِع البَصَرَ} قال قتادة: معناه فانظر إلى السماء. {ْهل تَرَى من فُطور} فيه أربعة أوجه: أحدها: من شقوق , قاله مجاهد والضحاك. الثاني: من خلل , قاله قتادة. الثالث: من خروق قاله السدي. الرابع: من وهن , قاله ابن عباس. {ْثم ارْجع البَصَرَ كَرّتَيْنِ} أي انظر إلى السماء مرة بعد أخرى. ويحتمل أمره بالنظر مرتين وجهين: أحدهما: لأنه في الثانية أقوى نظراً وأحدّ بصراً. الثاني: لأنه يرى في الثانية من سير كواكبها واختلاف بروجها ما لا يراه من الأولى فيتحقق أنه لا فطور فيها. وتأول قوم بوجه ثالث: أنه عنى بالمرتين قلباً وبصراً.(6/51)
{ْينْقَلِبْ إليك البَصَرُ خَاسئاً وهو حَسيرٌ} أي يرجع إليك البصر لأنه لا يرى فطوراً فيرتد. وفي (خاسئاً) أربعة أوجه: أحدها: ذليلاً , قاله ابن عباس. الثاني: منقطعاً , قاله السدي. الثالث: كليلاً , قاله يحيى بن سلام. الرابع: مبعداً , قاله الأخفش مأخوذ من خسأت الكلب إذا أبعدته. وفي (حسير) ثلاثة أوجه: أحدها: أنه النادم , ومنه قول الشاعر:
(ما أنا اليوم على شيء خلا ... يا ابنة القَيْنِ تَولّى بحَسيرْ.)
الثاني: أنه الكليل الذي قد ضعف عن إدراك مرآه , قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر:
(مَنْ مدّ طرْفاً إلى ما فوق غايته ... ارتدَّ خَسْآنَ مِنه الطّرْفُ قد حَسِرا.)
والثالث: أنه المنقطع من الإعياء , قاله السدي , ومنه قول الشاعر:
(والخيلُ شُعثٌ ما تزال جيادها ... حَسْرى تغادرُ بالطريق سخالها.)(6/52)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
{وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} {ْإذا أُلقُوا فيها} يعني الكفار ألقوا في جهنم.(6/52)
{ْسمعوا لها شهيقاً} فيه قولان: أحدهما: أن الشهيق من الكفار عند إلقائهم في النار. الثاني: أن الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها , قال ابن عباس: تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وفي الشهيق ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشهيق في الصدور , قاله الربيع بن أنس. الثاني: أنه الصياح , قاله ابن جريج. الثالث: أن الشهيق هو آخر نهيق الحمار , والزفير مثل أول نهيق الحمار , وقيل إن الزفير من الحلق , والشهيق من الصدر. {ْوهي تفورُ} أي تغلي , ومنه قول الشاعر:
(تركتم قِدْرَكم لا شيىءَ فيها ... وقِدْرُ القوم حاميةٌ تفورُ)
{ْتكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ ... } فيه وجهان: أحدهما: تنقطع , قاله سعيد بن جبير. الثاني: تتفرق , قاله ابن عباس والضحاك. وقوله (من الغيط) فيه ها هنا وجهان: أحدهما: أنه الغليان , قال الشاعر:
(فيا قلب مهلاً وهو غضبان قد غلا ... من الغيظ وسط القوم ألا يثبكا)
الثاني: أنه الغضب , يعني غضباً على أهل المعاصي وانتقاماً للَّه منهم. {ْألمْ يأتِكم نَذيرٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن النذر من الجن , والرسل من الإنس , قاله مجاهد. الثاني: أنهم الرسل والأنبياء , واحدهم نذير , قاله السدي. {ْفسُحْقاً لأصحاب السّعيرٍ} فيه وجهان: أحدهما: فبعداً لأصحاب السعير يعني جهنم , قاله ابن عباس. الثاني: أنه وادٍ من جهنم يسمى سحقاً , قاله ابن جبير وأبو صالح , وفي هذا الدعاء إثبات لاستحقاق الوعيد.(6/53)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
{إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} {ْإنّ الذين يَخْشَوْنَ ربَهم بالغَيْبِ} فيه ستة أوجه: أحدها: أن الغيب اللَّه تعالى وملائكته , قاله أبو العالية. الثاني: الجنة والنار , قاله السدي. الثالث: أنه القرآن , قاله زر بن حبيش. الرابع: أنه الإسلام لأنه يغيب , قاله إسماعيل بن أبي خالد. الخامس: أنه القلب , قاله ابن بحر. السادس: أنه الخلوة إذا خلا بنفسه فذكر ذنبه استغفر ربه , قاله يحيى بن سلام. {ْلهم مغْفرةٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالتوبة والاستغفار. الثاني: بخشية ربهم بالغيب. الثالث: لأنهم حلّوا باجتناب الذنوب محل المغفور له. {وأجرٌ كبيرٌ} يعني الجنة. ويحتمل وجهاً آخر: أنه العفو عن العقاب ومضاعفة الثواب. {هو الذي جَعَلَ لكم الأرْضَ ذَلولاً} يعني مذللة سهلة. حكى قتادة عن أبي الجلد: أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ , فللسودان اثنا عشر [ألفاً] , وللروم [ثمانية آلاف] , وللفرس ثلاثة آلاف وللعرب ألف. {ْفامْشُوا في مَنَاكِبِها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في جبالها، قاله ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب. الثاني: في أطرفاها وفجاجها، قاله مجاهد والسدي.(6/54)
الثالث: في طرفها. ويحتمل رابعاً: في منابت زرعها وأشجارها , قاله الحسن. {وكُلوا مِن رِزْقِهِ} فيه وجهان: أحدهما: مما أحله لكم , قاله الحسن. الثاني: مما أنبته لكم , قاله ابن كامل. {وإليه النشور} أي البعث.(6/55)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
{أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير} {أأمِنتُم مَنْ في السماءِ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم الملائكة , قاله ابن بحر. الثاني: يعني أنه اللَّه تعالى , قاله ابن عباس. {ْأنْ يَخْسِفَ بكم الأرضَ فإذا هي تمورُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تتحرك , قاله يحيى. الثاني: تدور , قاله قطرب وابن شجرة. الثالث: تسيل ويجري بعضها في بعض , قاله مجاهد , ومنه قول الشاعر:
(رَمَيْن فأقصدْن القلوب ولن ترى ... دماً مائراً إلا جرى في الخيازم.)(6/55)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
{أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون} {أفمن يْمشيِ مُكِبّاً على وَجْهِه أهْدَى} هذا مثل ضربه اللَّه تعالى للهدى والضلالة , ومعناه ليس من يمشي مُكباً على وجهه ولا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله. كمن يمشي سوياً معتدلاً ناظراً ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله , وفيه وجهان: أحدهما: أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر , فالمكب على وجهه الكافر يهوي بكفره , والذي يمشي سوّياً المؤمن يهتدي بإيمانه , ومعناه: أمَّن يمشي في الضلالة أهدى أم من يمشي مهتدياً , قاله ابن عباس. الثاني: أن المكب على وجهه أبو جهل بن هشام , ومن يمشي سوياً عمار بن ياسر , قاله عكرمة. {ْعلى صراطٍ مستقيم} فيه وجهان: أحدهما: أن الطريق الواضح الذي لا يضل سالكه , فيكون نعتاً للمثل المضروب. الثاني: هو الحق المستقيم , قاله مجاهد , فيكون جزاء العاقبة الاستقامة وخاتمة الهداية. {ْقُلْ هو الذي ذَرَأَكُمْ في الأرضِ} فيه وجهان: أحدهما: خلقكم في الأرض , قاله ابن عباس. الثاني: نشركم فيها وفرّقكم على ظهرها , قاله ابن شجرة. ويحتمل ثالثاً: أنشأكم فيها إلى تكامل خلقكم وانقضاء أجلكم.(6/56)
{ْوإليهِ تُحْشَرون} أي تُبْعثون بعد الموت. {ْفلما رأَوْه زُلْفَةً سِيئَتْ وُجوهُ الذين كَفروا} فيه وجهان: أحدهما: ظهرت المساءة على وجوههم كراهة لما شاهدوا , وهو معنى قول مقاتل. الثاني: ظهر السوء في وجهوههم ليدل على كفرهم , كقوله تعالى: {يوم تبيضُّ وجوه وتسْوَدُّ وجوه} [آل عمران: 106] . {وقيل هذا الذي كُنْتُمْ به تَدَّعُونَ} وهذا قول خزنة جهنم لهم , وفي قوله {ْكنتم به تدّعون} أربعة أوجه: أحدها: تمترون فيه وتختلفون , قاله مقاتل. الثاني: تشكّون في الدنيا وتزعمون أنه لا يكون , قاله الكلبي. الثالث: تستعجلون من العذاب , قاله زيد بن أسلم. الرابع: أنه دعاؤهم بذلك على أنفسهم , وهو افتعال من الدعاء , قاله ابن قتيبة.(6/57)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين} {ْقُلْ أرَأَيْتُمْ إنْ أصْبَحَ ماؤكم غُوْراً} فيه وجهان: أحدهما: ذاهباً , قاله قتادة. الثاني: لا تناله الدِّلاء , قاله ابن جبير , وكان ماؤهم من بئر زمزم وبئر ميمون. {ْفَمَنْ يأتيكم بماءٍ مَعِينٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن معناه العذب , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الطاهر , قاله الحسن وابن جبير ومجاهد. الثالث: أنه الذي تمده العيون فلا ينقطع.(6/57)
الرابع: أنه الجاري , قاله قتادة , ومنه قول جرير:
(إنّ الذين غدوا بُلبِّك غادَروا ... وشَلاً بعيْنِك لا يزال مَعِيناً)
روى عاصم عن رُزين عن ابن مسعود قال: سورة الملك هي المانعة من عذاب القبر , وهي في التوراة تسمى المانعة , وفي الإنجيل تسمى الواقية , ومن قرأها من كل ليلة فقد أكثر وأطاب.(6/58)
سورة القلم
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس: من أولها إلى قوله سبحانه " سنسمه على الخرطوم " مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} مدني، ومن بعد ذلك إلى قوله {يكتبون} مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله: {من الصالحين} مدني، وباقي السورة مكي. بسم الله الرحمن الرحيم(6/59)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
{ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} قوله تعالى {ن} فيه ثمانية أقوال: أحدها: أن النون الحوت الذي عليه الأرض , قاله ابن عباس من رواية أبي الضحى عنه , وقد رفعه.(6/59)
الثاني: أن النون الدواة , رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثالث: أنه حرف من حروف الرحمن , قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه. الرابع: هو لوح من نور , رواه معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. الخامس: أنه اسم من أسماء السورة , وهو مأثور. السادس: أنه قسم أقسم اللَّه به , وللَّه تعالى أن يقسم بما يشاء , قاله قتادة. السابع: أنه حرف من حروف المعجم. الثامن: أن نون بالفارسية أيذون كن , قاله الضحاك. ويحتمل تاسعاً: إن لم يثبت به نقل أن يكون معناه: تكوين الأفعال والقلم وما يسطرون , فنزل الأقوال جميعاً في قسمه بين أفعاله وأقواله , وهذا أعم قسمة. ويحتمل عاشراً: أن يريد بالنون النفْس لأن الخطاب متوجه إليها بغيرعينها بأول حروفها , والمراد بالقلم ما قدره اللَّه لها وعليها من سعادة وشقاء , لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ. أما {والقلم} ففيه وجهان: أحدهما: أنه القلم الذي يكتبون به لأنه نعمة عليهم ومنفعة لهم , فأقسم بما أنعم , قاله ابن بحر. الثاني: أنه القلم الذي يكتب به الذكر على اللوح المحفوظ , قال ابن جريج: هو من نور , طوله كما بين السماء والأرض. وفي قوله {وما يَسْطرون} ثلاثة أقاويل: أحدها: وما يعلمون , قاله ابن عباس. الثاني: وما يكتبون , يعني من الذكر , قاله مجاهد والسدي.(6/60)
الثالث: أنهم الملائكة الكاتبون يكتبون أعمال الناس من خير وشر. {ما أنت بنعمةِ ربّك بمجنونٍ} كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أنه مجنون به شيطان , وهو قولهم: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الحجر: 6] فأنزل اللَّه تعالى رداً عليها وتكذيباً لقولهم: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} أي برحمة ربك , والنعمة ها هنا الرحمة. ويحتمل ثانياً: أن النعمة ها هنا قسم , وتقديره: ما أنت ونعمة ربك بمجنون , لأن الواو والباء من حروف القسم. وتأوله الكلبي على غير ظاهره , فقال: معناه ما أنت بنعمة ربك بمخفق. {وإنّ لك لأجْراً غيْرَ مَمْنُونٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: غير محسوب , قاله مجاهد. الثاني: أجراً بغير عمل , قاله الضحاك. الثالث: غير ممنون عليك من الأذى , قاله الحسن. الرابع: غير منقطع , ومنه قول الشاعر:
(ألا تكون كإسماعيلَ إنَّ له ... رأياً أصيلاً وأجْراً غيرَ ممنون)
ويحتمل خامساً: غير مقدّر وهو الفضل , لأن الجزاء مقدر , والفضل غير مقدر. {وإنك لعلى خُلُقٍ عظيمٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أدب القرآن , قاله عطية. الثاني: دين الإسلام , قاله ابن عباس وأبو مالك. الثالث: على طبع كريم , وهو الظاهر. وحقيقة الخلُق في اللغة هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب سمي خلقاً لأنه يصير كالخلقة فيه , فأما ما طبع عليه من الآداب فهو الخيم فيكون الخلق الطبع المتكلف , والخيم هو الطبع الغريزي , وقد أوضح ذلك الأعشى في شعره فقال:(6/61)
(وإذا ذو الفضول ضنّ على المو ... لى وعادت لِخيمها الأخلاقُ)
أي رجعت الأخلاق إلى طباعها. {فَسَتبْصِرُ ويُبْصرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: فسترى ويرون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل. الثاني: قاله ابن عباس معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة. {بأَيِّكم المْفتونُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني المجنون , قاله الضحاك. الثاني: الضال , قاله الحسن. الثالث: الشيطان , قاله مجاهد. الرابع: المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته , ومنه قوله تعالى: {يوم هم على النار يُفْتنون} [الذاريات: 13] أي يعذبون.(6/62)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
{فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم} {وَدُّوا لو تُدْهِنُ فَيدْهِنونَ} فيه ستة تأويلات: أحدها: معناه ودوا لو تكفر فيكفرون , قاله السدي والضحاك. الثاني: ودوا لو تضعُف فيضعُفون , قاله أبو جعفر. الثالث: لو تلين فيلينون , قاله الفراء. الرابع: لو تكذب فيكذبون , قاله الربيع بن أنس. الخامس: لو ترخص لهم فيرخصون لك , قاله ابن عباس. السادس: أن تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك , قاله قتادة. وفي أصل المداهنة وجهان:(6/62)
أحدهما: مجاملة العدو وممايلته , قال الشاعر:
(لبَعْضُ الغَشْم أحزْم أمورٍ ... تَنوبُك مِن مداهنةِ العدُوِّ.)
الثاني: أنها النفاق وترك المناصحة , قاله المفضل , فهي على هذا الوجه مذمومة , وعلى الوجه الأول غير مذمومة. {ولا تُطِعْ كلَّ حَلاَّفٍ مَهينٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه الكذاب , قاله ابن عباس. الثاني: الضعيف القلب , قاله مجاهد. الثالث: أنه المكثار من الشر , قاله قتادة. الرابع: أنه الذليل بالباطل , قاله ابن شجرة. ويحتمل خامساً: أنه الذي يهون عليه الحنث. وفي من نزل ذلك فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق , قاله السدي. الثاني: الأسود بن عبد يغوث , قاله مجاهد. الثالث: الوليد بن المغيرة , عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالاً وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه , قاله مقاتل. {هَمَّازٍ مَشّاءٍ بِنميمٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الفتّان الطعان , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: أنه الذي يلوي شدقيه من وراء الناس , قاله الحسن. الثالث: أنه الذي يهمزهم بيده ويضربهم دون لسانه , قاله ابن زيد , والأول أشبه لقول الشاعر:
(تُدْلي بِوُدٍّ إذا لاقيتني كذباً ... وإن أغيبُ فأنت الهامز اللُّمَزة.)
{مشّاءٍ بنميم} فيه وجهان: أحدهما: الذي ينقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض , قاله قتادة.(6/63)
الثاني: هو الذي يسعى بالكذب , ومنه قول الشاعر:
(ومَوْلى كبيْتِ النمل لا خير عنده ... لمولاه إلا سعية بنميم.)
وفي النميم والنميمة وجهان: أحدهما: أنهما لغتان , قاله الفراء. الثاني: أن النميم جمع نميمة. {منّاعٍ للخيْرِ} فيه وجهان: أحدهما: للحقوق من ظلم. الثاني: الإسلام يمنع الناس منه. {عُتُلٍّ بَعْد ذلك زنيمٍ} يعني بعد كونه (منّاعٍ للخيرٍ) معتدٍ أثيم , هو عتل زنيم , وفيه تسعة أوجه: أحدها: أن العُتُلّ الفاحش , وهو مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: الثاني: أنه القوي في كفره , قاله عكرمة. الثالث: أنه الوفير الجسم , قاله الحسن وأبو رزين. الرابع: أنه الجافي الشديد الخصومة بالباطل , قاله الكلبي. الخامس: أنه الشديد الأسر , قاله مجاهد. السادس: أنه الباغي , قاله ابن عباس. السابع: أنه الذي يعتِل الناس , أي يجرهم إلى الحبس أو العذاب , مأخوذ من العتل وهو الجر , ومنه قوله تعالى: {خذوه فاعتِلوه} [الحاقة: 30] . الثامن: هو الفاحش اللئيم , قاله معمر , قال الشاعر:
(يعتل من الرجال زنيم ... غير ذي نجدةٍ وغير كريم.)
التاسع: ما رواه شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غَنْم , ورواه ابن(6/64)
مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنةَ جواظٌ ولا جعظري ولا العتلّ الزنيم) فقال رجل: ما الجواظ وما الجعظري وما العتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجواظ الذي جمع ومنع , والجعظري الغليظ , والعتل الزنيم الشديد الخلق الرحيب الجوف , المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام , الظلوم للناس) . وأما الزنيم ففيه ثماني تأويلات: أحدها: أنه اللين , رواه موسى بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنه الظلوم , قاله ابن عباس في رواية ابن طلحة عنه. الثالث: أنه الفاحش , قاله إبراهيم. الرابع: أنه الذي له زنمة كزنمة الشاة , قال الضحاك: لأن الوليد بن المغيرة كان له أسفل من أذنه زنمة مثل زنمة الشاة , وفيه نزلت هذه الآية , قال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخنس بن شريق لأنه حليف ملحق ولذلك سمي زنيماً. الخامس: أنه ولد الزنى , قاله عكرمة. السادس: أنه الدعيّ , قال الشاعر:
(زنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادةً ... كما زِيدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكارعُ)
السابع: أنه الذي يعرف بالأُبنة , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. الثامن: أنه علامة الكفر كما قال تعالى: {سنسمه على الخرطوم} , قاله أبو رزين. {أنْ كان ذا مالٍ وبنينَ} قيل إنه الوليد بن المغيرة , كانت له حديقة بالطائف , وكان له اثنا عشر ابناً , حكاه الضحاك.(6/65)
وقال عليّ بن أبي طالب: المال والبنون حرث الدنيا , والعمل الصالح حرث الآخرة. {إذا تتْلى عليه آياتُنا} يعني القرآن. {قال أساطيرُ الأوّلين} يعني أحاديث الأولين وأباطيلهم. {سَنَسِمُهُ على الخُرطومِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها سمة سوداء تكون على أنفه يوم القيامة يتميز بها الكافر , كما قال تعالى: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} [الرحمن: 41] . الثاني: أنه يضرب في النار على أنفه يوم القيامة , قاله الكلبي. الثالث: أنه إشهار ذكره بالقبائح , فيصير موسوماً بالذكر لا بالأثر. الرابع: هو ما يبتليه اللَّه به في الدنيا في نفسه وماله وولده من سوء وذل وصَغار , قاله ابن بحر واستشهد بقول الأعشى.
(فدَعْها وما يَغنيك واعمد لغيرها ... بشِعرك واغلب أنف من أنت واسم.)
وقال المبرد: الخرطوم هو من الناس الأنف , ومن البهائم الشفة.(6/66)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
{إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} {إنا بَلَوناهم كما بَلَوْنا أَصْحابَ الجَنَّةِ} فيهم قولان:(6/66)
أحدهما: إن الذين بلوناهم أهل مكة بلوناهم بالجوع كرتين , كما بلونا أصحاب الجنة حتى عادت رماداً. الثاني: أنهم قريش ببدر. حكى ابن جريج أن أبا جهل قال يوم بدر خذوهم أخذاً واربطوهم في الحبال , ولا تقتلوا منهم أحداً , فضرب اللَّه بهم عند العدو مثلاً بأصحاب الجنة. {إذ أَقْسموا لَيَصرِمُنّها مُصْبِحينَ} قيل إن هذه الجنة حديقة كانت باليمن بقرية يقال لها ضَروان , بينها وبين صنعاء اليمن اثنا عشر ميلاً , وفيها قولان: أحدهما: أنها كانت لقوم من الحبشة. الثاني: قاله قتادة أنها كانت لشيخ من بني إسرائيل له بنون , فكان يمسك منها قدر كفايته وكفاية أهله , ويتصدق بالباقي , فجعل بنوه يلومونه ويقولون: لئن ولينا لنفعلن , وهو لا يطيعهم حتى مات فورثوها , فقالوا: نحن أحوج بكثرة عيالنا من الفقراء والمساكين (فأقسموا ليصرُمنّها مصبحين) أي حلفوا أن يقطعوا ثمرها حين يصبحون. {ولا يَسْتَثْنونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يستثنون من المساكين , قاله عكرمة. الثاني: استثناؤهم قول سبحان ربنا , قاله أبو صالح. الثالث: قول إن شاء اللَّه. {فطاف عليها طائفٌ مِن ربِّك وهم نائمونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أمر من ربك , قاله ابن عباس. الثاني: عذاب من ربك , قاله قتادة. الثالث: أنه عنق من النار خرج من وادي جنتهم , قاله ابن جريج. {وهم نائمون} أي ليلاً وقت النوم , قال الفراء: الطائف لا يكون إلا ليلاً. {فأصبحت كالصَريم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كالرماد الأسود , قاله ابن عباس.(6/67)
الثاني: كالليل المظلم , قاله الفراء , قال الشاعر:
(تطاولَ ليلُكَ الجَوْنُ البهيمُ ... فما ينجاب عن صبحٍ , صَريمُ.)
الثالث: كالمصروم الذي لم يبق فيه ثمر. روى أسباط عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (أياكم والمعاصي , إن العبد ليذنب فيحرم به رزقاً قد كان هيىء له) ثم تلا: {فطاف عليها طائف من ربك ... } الآيتين قد حرموا خير جنتهم بذنبهم. {فتنادَوْا مُصبِحينَ} أي دعا بعضعهم بعضاً عند الصبح. {أنِ اغْدُوا على حَرْثِكم} قال مجاهد: كان الحرث عنباً. {إن كنتم صارمين} أي عازمين على صرم حرثكم في هذا اليوم. {فانْطَلَقُوا وهم يتخافتونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يتكلمون , قاله عكرمة. الثاني: يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد , قاله عطاء وقتادة. الثالث: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم. الرابع: لا يتشاورون بينهم. {أن لا يدخُلَنّها اليومَ عليكم مِسكين} قاله يحيى بن سلام. {وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادرين} فيه تسعة أوجه: أحدها: على غيظ , قاله عكرمة. الثاني: على جَدٍّ , قاله مجاهد. الثالث: على منع , قاله أبو عبيدة. الرابع: على قصد , ومنه قول الشاعر:
(أقْبَلَ سيلٌ جاء من عندِ الله ... يحْرِدُ حَرْدَ الجَنّة المُغِلّة)(6/68)
اُي يقصد قصد الجنة المغلة. الخامس: على فقر , قاله الحسن. السادس: على حرص , قاله سفيان. السابع: على قدرة , قاله ابن عباس. الثامن: على غضب , قاله السدي. التاسع: أن القرية تسمى حرداً , قاله السدي. وفي قوله: (قادرين) ثلاثة أوجه: أحدها: يعني قادرين على المساكين , قاله الشعبي. الثاني: قادرين على جنتهم عند أنفسهم , قاله قتادة. الثالث: أن موافاتهم إلى جنتهم في الوقت الذي قدروه , قاله ابن بحر. ويحتمل رابعاً: أن القادر المطاع بالمال والأعوان , فإذا ذهب ماله تفرق أعوانه فعُصيَ وعجز. {فلمّا رأوْها قالوا إنا لَضالُّون} أي أنهم لما رأوا أرض الجنة لا ثمرة فيها ولا شجر قالوا إنا ضالون الطريق وأخطأنا مكان جنتنا , ثم استرجعوا فقالوا: {بل نحن محرومون} أي حُرمنا خير جنتنا , قال قتادة: معناه جوزينا فحُرمنا. {قال أَوْسَطُهم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أعدلهم , قاله ابن عباس. الثاني: خيرهم , قاله قتادة. الثالث: أعقلهم , قاله ابن بحر. {أَلَمْ أقُل لكم لولا تُسَبَّحونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لولا تستثنون عند قولهم (ليصرمنها مصبحين) , قاله ابن جريج. الثاني: أن التسبيح هو الاستثناء , لأن المراد بالاستثناء ذكر اللَّه , وهو موجود من التسبيح. الثالث: أن تذكروا نعمة اللَّه عليكم فتؤدوا حقه من أموالكم.(6/69)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
{إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون أم لكم أيمان(6/69)
علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين} {أم لكم أيْمانٌ علينا بالغةٌ} والبالغة المؤكدة باللَه. {إنّ لكم لما تحْكُمُون} فيه وجهان: أحدهما: أم لكم أيمان عيلنا بالغة أننا لا نعذبكم في الدنيا إلى يوم القيامة. {سَلْهم أيُّهم بذلك زعيمٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن الزعيم الكفيل , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الرسول , قاله الحسن. ويحتمل ثالثاً: أنه القيم بالأمر لتقدمه ورئاسته.(6/70)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
{يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم عندهم الغيب فهم يكتبون} {يومَ يُكْشَفُ عن ساقٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: عن ساق الآخرة , قاله الحسن. الثاني: الساق الغطاء , قاله الربيع بن أنس , ومنه قول الراجز:
(في سَنَةٍ قد كشفتْ عن ساقها ... حمراءَ تبري اللحم عن عراقها)
الثالث: أنه الكرب والشدة , قاله ابن عباس , ومنه قول الشاعر:
(كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصُّراح)(6/70)
الرابع: هو إقبال الآخرة وذهاب الدنيا , قال الضحاك: لأنه أول الشدائد , كما قال الراجز:
(قد كشفت عن ساقها فشُدُّوا ... وجدّت الحربُ بكم فجدوا)
فأما ما روي أن اللَّه تعالى يكشف عن ساقه فإن اللَّه تعالى منزه عن التبعيض والأعضاء وأن ينكشف أو يتغطى , ومعناه أنه يكشف عن العظيم من أمره , وقيل يكشف عن نوره. وفي هذا اليوم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه يوم الكبر والهرم والعجز عن العمل. الثاني: أنه يوم حضور المنية والمعاينة.(6/71)
الثالث: أنه يوم القيامة. {ويُدْعَون إلى السجودِ فلا يستطيعون} فمن قال في هذا اليوم إنه يوم القيامة جعل الأمر بهذا السجود على وجه التكليف. ومن جعله في الدنيا فلهم في الأمر بهذا السجود قولان: أحدهما: أنه تكليف. الثاني: تندم وتوبيخ للعجز عنه , وكان ابن بحر يذهب إلى أن هذا الدعاء إلى السجود إنما كان في وقت الاستطاعة , فلم يستطيعوا بعد العجز أن يستدركوا ما تركوا. {فذرْنِي ومَن يُكذّبُ بهذا الحديث} قال السدي: يعني القرآن. ويحتمل آخر أي بيوم القيامة. {سنستدرجهم مِن حيثُ لا يَعْلمون} فيه خمسة أوجه: أحدها: سنأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون , قاله السدي. الثاني: نتبع النعمة السيئة وننسيهم التوبة , قاله الحسن. الثالث: نأخذهم من حيث درجوا ودبوا , قاله ابن بحر. الرابع: هو تدريجهم إلى العذاب بإدنائهم منه قليلاً بعد قليل حتى يلاقيهم من حيث لا يعلمون , لأنهم لو علموا وقت أخذهم بالعذاب ما ارتكبوا المعاصي وأيقنوا بآمالهم. الخامس: ما رواه إبراهيم بن حماد , قال الحسن: كم من مستدرج بالإحسان إليه , وكم من مغبون بالثناء عيه , وكم من مغرور بالستر عليه. والاستدراج: النقل من حال إلى حال كالتدرج , ومنه قيل درجة وهي منزلة بعد منزلة.(6/72)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
{فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين}(6/72)
{فاصْبِرْ لحُكمِ ربّك} فيه وجهان: أحدهما: لقضاء ربك. الثاني: لنصر ربك , قاله ابن بحر. {ولا تكُن كصاحِبِ الحُوتِ} قال قتادة: إن اللَّه تعالى يعزي نبيّه ويأمره بالصبر , وأن لا يعجل كما عجل صاحب الحوت وهو يونس بن متى. {إذ نادى وهو مكظوم} أما نداؤه فقوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. وفي مكظوم أربعة أوجه: أحدها: مغموم , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: مكروب , قاله عطاء وأبو مالك , والفرق بينهما أن الغم في القلب , والكرب في الأنفاس. الثالث: محبوس , والكظم الحبس , ومنه قولهم: فلان كظم غيظه أي حبس غضبه , قاله ابن بحر. الرابع: أنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس , قاله المبرد. {لولا أن تَدارَكه نِعْمةٌ مِن ربِّه} فيه أربعة أوجه: أحدها: النبوة , قاله الضحاك. الثاني: عبادته التي سلفت , قاله ابن جبير. الثالث: نداؤه لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين , قاله ابن زيد. الرابع: أن نعمة اللَّه عليه إخراجه من بطن الحوت , قاله ابن بحر. {لنُبِذَ بالعراء} فيه وجهان: أحدهما: لألقي بالأرض الفضاء , قاله السدي , قال قتادة: بأرض اليمن. الثاني: أنه عراء يوم القيامة وأرض المحشر , قاله ابن جرير. {وهو مذموم} فيه وجهان: أحدهما: بمعنى مليم.(6/73)
الثاني: مذنب , قاله بكر بن عبد الله , ومعناه أن ندعه مذموماً. {وإن يكادُ الذين كَفَروا ليُزْلِقونك بأَبَصارهم} الآية. فيه ستة أوجه: أحدها: معناه ليصرعونك , قاله الكلبي. الثاني: ليرمقونك , قاله قتادة. الثالث: ليزهقونك , قاله ابن عباس , وكان يقرؤها كذلك. الرابع: لينفذونك , قاله مجاهد. الخامس: ليمسونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك , قاله السدي. السادس: ليعتانونك , أي لينظرونك بأعينهم , قاله الفراء. وحكي أنهم قالوا: ما رأينا مثل حجمه ونظروا إليه ليعينوه , أي ليصيبوه بالعين , وقد كانت العرب إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً بعين في نفسه أو ماله تجوّع ثلاثاً ثم يتعرض لنفسه أو ماله فيقول: تاللَّه ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكثر مالاً منه ولا أحسن , فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله , فأنزل اللَّه هذه الآية. {لّما سَمِعوا الذكْرَ} فيه وجهان: أحدهما: محمد. الثاني: القرآن. {وما هو إلا ذِكْرٌ للعالمين} فيه وجهان: أحدهما: شرف للعالمين , كما قال تعالى {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44] . الثاني: يذكرهم وعد الجنة ووعيد النار. وفي العالمين وجهان: أحدهما: الجن والإنس , قاله ابن عباس. الثاني: كل أمة من أمم الخلق ممن يُعرف ولا يُعرف.(6/74)
سورة الحاقة
بسم الله الرحمن الرحيم(6/75)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
{الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} قوله تعالى {الحاقّةُ ما الحاقّةُ} فيه قولان: أحدهما: أنه ما حقّ من الوعد والوعيد بحلوله , وهو معنى قول ابن بحر. الثاني: أنه القيامة التي يستحق فيها الوعد والوعيد , قاله الجمهور وفي تسميتها بالحاقة ثلاثة أقاويل: أحدها: ما ذكرنا من استحقاق الوعد والوعيد بالجزاء على الطاعات والمعاصي , وهو معنى قول قتادة ويحيى بن سلام. الثاني: لأن فيها حقائق الأمور , قاله الكلبي. الثالث: لأن حقاً على المؤمن أن يخافها.(6/75)
وقوله (ما الحاقة) تفخيماً لأمرها وتعظيماً لشأنها. {وما أدْراكَ ما الحاقّة} قال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شىء في القرآن فيه (وما أدراك) فقد أدراه إياه وعلّمه إياه , وكل شيء قال فيه (وما يدريك) فهو ما لم يعلمه إياه. وفيه وجهان: أحدهما: وما أدراك ما هذا الاسم , لأنه لم يكن في كلامه ولا كلام قومه , قاله الأصم. الثاني: وما أدراك ما يكون في الحاقة. {كذّبَتْ ثمودُ وعادٌ بالقارعةِ} أما ثمود فقوم صالح كانت منازلهم في الحجر فيما بين الشام والحجاز , قاله محمد بن إسحاق: وهو وادي القرى , وكانوا عرباً. وأما عاد فقوم هود , وكانت منازلهم بالأحقاف , والأحقاف الرمل بين عُمان إلى حضرموت واليمن كله , وكانوا عرباً ذوي خَلق وبَسطة , ذكره محمد بن إسحاق. وأما (القارعة) ففيها قولان: أحدهما: أنها قرعت بصوت كالصيحة , وبضرب كالعذاب , ويجوز أن يكون في الدنيا , ويجوز أن يكون في الآخرة. الثاني: أن القارعة هي القيامة كالحاقة , وهما اسمان لما كذبت بها ثمود وعاد. وفي تسميتها بالقارعة قولان: أحدهما: لأنها تقرع بهولها وشدائدها. الثاني: أنها مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين , قاله المبرد. {فأمّا ثمودُ فأهلِكوا بالطاغية} فيها خمسة أقاويل: أحدها: بالصيحة , قاله قتادة. الثاني: بالصاعقة , قاله الكلبي. الثالث: بالذنوب , قاله مجاهد. الرابع: بطغيانهم , قاله الحسن. الخامس: أن الطاغية عاقر الناقة , قاله ابن زيد. {وأمّا عادٌ فأهْلِكوا بريحٍ صَرْصَرٍ عاتيةٍ} روى مجاهد عن ابن عباس قال:(6/76)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نُصِرْتُ بالصَّبا وأُهلِكتْ عاد بالدَّبور) . فأما صرصر ففيها قولان: أحدهما: أنها الريح الباردة , قاله الضحاك والحسن , مأخوذ من الصر وهو البرد. الثاني: أنها الشديدة الصوت , قاله مجاهد. وأما العاتية ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: القاهرة , قاله ابن زيد. الثاني: المجاوزة لحدها. الثالث: التي لا تبقى ولا ترقب. وفي تسميتها عاتية وجهان: أحدهما: لأنها عتت على القوم بلا رحمة ولا رأفة , قاله ابن عباس. الثاني: لأنها عتت على خزانها بإذن اللَّه. {سَخّرها عليهم سَبْعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام حُسوماً} اختلف في أولها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنّ أولها غداة يوم الأحد , قاله السدي. الثاني: غداة يوم الأربعاء , قاله يحيى بن سلام. الثالث: غداة يوم الجمعة , قاله الربيع بن أنس. وفي قوله {حُسُوماً} أربعة تأويلات: أحدها: متتابعات , قاله ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والفراء , ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
(وكم يحيى بها من فرط عام ... وهذا الدهر مقتبل حسوم.)
الثاني: مشائيم , قاله عكرمة والربيع. الثالث: أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوفتها , لأنها بدأت طلوع الشمس من أول يوم , وانقطعت مع غروب الشمس من آخر يوم , قاله الضحاك.(6/77)
الرابع: لأنها حسمتهم ولم تبق منهم أحداً , قاله ابن زيد , وفي ذلك يقول الشاعر:
(ومن مؤمن قوم هود ... فأرسل ريحاً دَبوراً عقيماً)
89 (توالتْ عليهم فكانت حُسوماً} 9
{فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: البالية , قاله أبو الطفيل. الثاني: الخالية الأجواف , قاله ابن كامل. الثالث: ساقطة الأبدان , خاوية الأصول , قاله السدي. وفي تشبيههم بالنخل الخاوية ثلاثة أوجه: أحدها: أن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أن الريح كانت تدخل في أجوافهم من الخيشوم , وتخرج من أدبارهم , فصاروا كالنخل الخاوية , حكاه ابن شجرة. الثالث: لأن الريح قطعت رؤوسهم عن أجسادهم , فصاروا بقطعها كالنخل الخاوية. {وجاءَ فرعونُ ومَن قَبْلَهُ} فيه وجهان: أحدهما: ومن معه من قومه وهو تأويل من قرأ (ومن قِبلَهُ) بكسر القاف وفتح الباء. والثاني: ومن تقدمه , وهو تأويل من قرأ (ومن قَبْلَهُ) بفتح القاف وتسكين الباء. {والمؤتفِكاتُ بالخاطئة} في المؤتفكات قولان: أحدهما: أنها المقلوبات بالخسف. الثاني: أنها الأفكات وهي الاسم من الآفكة , أي الكاذبة. والخاطئة: هي ذات الذنوب والخطايا , وفيهم قولان: أحدهما: أنهم قوم لوط. الثاني: قارون وقومه , لأن اللَّه خسف بهم.(6/78)
{فعصَوْا رسولَ ربِّهم} فيه وجهان: أحدهما: فعصوا رسول الله إليهم بالتكذيب. الثاني: فعصوا رسالة اللَّه إليهم بالمخالفة , وقد يعبر عن الرسالة بالرسول , قال الشاعر:
(لقد كذَبَ الواشون ما بُحْت عندهم ... بسرٍّ ولا أرسلتهم برسول.)
{فَأَخَذَهُمْ أَخذةً رابيةً} فيه خمسة أوجه: أحدها: شديدة , قاله مجاهد. الثاني: مُهلكة , قاله السدي. الثالث: تربوبهم في عذاب اللَّه أبداً , قاله أبو عمران الجوني. الرابع: مرتفعة , قاله الضحاك. الخامس: رابية للشر , قاله ابن زيد. {إنا لما طَغَى الماءُ حَمَلْناكم في الجاريةِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ظَهَر , رواه ابن أبي نجيح. الثاني: زادَ وكثر , قاله عطاء. الثالث: أنه طغى على خزانه من الملائكة , غضباً لربه فلم يقدروا على حبسه , قاله عليّ رضي الله عنه. قال قتادة: زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما أرسل من ريح قط إلا بمكيال. وما أنزل الله من قطرة قط إلا بمثقال , إلا يوم نوح وعاد , فإن الماء يوم نوح طغى على خزانه فلم يكن لهم عيله سبيل , ثم قرأ: (إنا لما طغى الماء) الآية. وإن الريح طغت على خزانها يوم عاد فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ. (بريح صرصر عاتية سخرها عليهم) الآية. {حملناكم في الجارية} يعني سفينة نوح , سميت بذلك لأنها جارية على الماء. وفي قوله حملناكم وجهان:(6/79)
أحدهما: حملنا آباءكم الذين أنتم من ذريتهم. الثاني: أنهم في ظهور آبائهم المحمولين , فصاروا معهم , وقد قال العباس بن عبد المطلب ما يدل على هذا الوجه وهو قوله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
(من قبلها طِبتَ في الظلال وفي ... مُستودع حيث يُخْصَفُ الورقُ.)
(ثم هبطتَ البلادَ لا بشرٌ ... أنت ولا مُضْغةٌ ولا عَلَقُ.)
(بل نطفةٌ تركب السَّفينَ وقد ... ألجَمَ نَسراً وأهلَه الغرقُ.)
{لنجْعلهَا لكم تذكِرةً} يعني سفينة نوح جعلها اللَّه لكم تذكرة وعظة لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم في قول قتادة , وقال ابن جريج: كانت ألواحها على الجودي. {وتَعِيَها أُذُنٌ واعِيةٌ} فيه أربعة أوجه: أحدها: سامعة , قاله ابن عباس. الثاني: مؤمنة , قاله ابن جريج. الثالث: حافظة , وهذا قول ابن عباس أيضاً. قال الزجاج: يقال وعيت لما حفظته في نفسك , وأوعيت لما حفظته في غيرك. وروى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: (سألت ربي أن يجلعها أُذُنَ عليٍّ) قال مكحول: فكان عليٌّ رضي اللَّه عنه يقول: ما سمعت من رسول الله شيئاً قط نسيته إلا وحفظته. الرابع: [أنالأذن الواعية] أُذن عقلت عن اللَّه وانتفعت بما سمعت من كتاب اللَّه , قاله قتادة.(6/80)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
{فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}(6/80)
{فيومئذٍ وقَعَتِ الواقعةُ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: القيامة. الثاني: الصيحة. الثالث: أنها الساعة التي يفنى فيها الخلق. {وانْشَقّت السماءُ فهِي يومئذٍ واهيةٌ} في انشقاقها وجهان: أحدهما: أنها فتحت أبوابها , قاله ابن جريج. الثاني: أنها تنشق من المجرة , قاله عليّ رضي الله عنه. وفي قوله (واهية) وجهان: أحدهما: متخرقة , قاله ابن شجرة , مأخوذ من قولهم وَهَى السقاءُ إذا انخرق , ومن أمثالهم:
(خَلِّ سبيلَ مَنْ وَهَى سِقاؤه ... ومَن هُريق بالفلاةِ ماؤهُ)
أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه. الثاني: ضعيفه , قاله يحيى بن سلام. {والملَكُ على أَرجائها} فيه وجهان: أحدهما: على أرجاء السماء , ولعله قول مجاهد وقتادة. الثاني: على أرجاء الدنيا , قاله سعيد بن جبير. وفي (أرجائها) أربعة أوجه: أحدها: على جوانبها , قاله سعيد بن جبير. الثاني: على نواحيها , قاله الضحاك. الثالث: أبوابها , قاله الحسن. الرابع: ما استدق منها , قاله الربيع بن أنس. ووقوف الملائكة على أرجائها لما يؤمرون به فيهم من جنة أو نار. {ويَحْمِلُ عَرْشَ ربِّك فوقهم يَومئذٍ ثمانيةُ} يعني أن العرش فوق الثمانية وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: ثمانية أملاك من الملائكة , قاله العباس بن عبد المطلب.(6/81)
الثاني: ثمانية صفوف من الملائكة , قاله ابن جبير. الثالث: ثمانية أجزاء من تسعة , وهم الكروبيون , قاله ابن عباس , وروى أبو هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (يحمله اليوم أربعة , وهم يوم القيامة ثمانية) . وفي قوله {فوقهم} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم يحملون العرش فوق رؤوسهم. الثاني: أن حملة العرش فوق الملائكة الذين على أرجائها. الثالث: أنهم فوق أهل القيامة. {يومئذٍ تُعْرَضونَ} يعني يوم القيامة , روى الحسن عن أبي موسى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات , أما عرضتان فجدال ومعاذير , وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف من الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله) {لا تَخْفَى منكم خافيةٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا يخفى المؤمن من الكافر , ولا البر من الفاجر , قاله عبد اللَّه بن عمرو بن العاص. الثاني: لا تستتر منكم عورة , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس حفاة عراة) الثالث: أن خافية بمعنى خفيّة كانوا يخفونها من أعمالهم حكاه ابن شجرة.(6/82)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
{فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه إني ظننت أني ملاق(6/82)
حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية} {فأمّا مَنْ أُوتي كتابَه بيمينه} لأن إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة. {فيقول هاؤم اقْرَؤوا كِتابيهْ} ثقة بسلامته وسروراً بنجاته , لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرج , والشمال من دلائل الغم , قال الشاعر:
(أبيني أفي يُمْنَى يديكِ جَعَلْتِني ... فأفرح أم صيرتني من شِمالِك)
وفي قوله (هاؤمُ) ثلاثة أوجه: أحدها: بمعنى هاكم اقرؤوا كتابيه فأبدلت الهمزة من الكاف , قاله ابن قتيبة. الثاني: أنه بمعنى هلموا اقرؤوا كتابيه , قال الكسائي: العرب تقول للواحد هاءَ وللاثنين هاؤما وللثلاثة هاؤم. الثالث: أنها كلمة وضعت لإجابة الداعي عند النشاط والفرح روي أن أعرابياً نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت عالٍ فأجابه هاؤم بطول صوته. والهاء من (كتابيه) ونظائرها موضوعة للمبالغة , وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد. {إني ظننتُ أني مُلاقٍ حِسابِيَهْ} فيه وجهان: أحدهما: أي علمت , قال الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين , ومن الكافر فهو شك , وقال مجاهد: ظن الآخرة يقين , وظن الدنيا شك. الثاني: ما قاله الحسن في هذه الآية , أن المؤمن أحْسن بربه الظن , فأحسن العمل , وأن المنافق أساء بربه الظن فأساء العمل. وفي الحساب ها هنا وجهان: أحدهما: في البعث. الثاني: في الجزاء. {فهو في عِيشَةٍ راضيةٍ} بمعنى مَرْضيّة , قال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري(6/83)
يرفعانه: إنهم يعيشون فلا يموتون أبداً , ويصحّون فلا يمرضون أبداً , ويتنعمون فلا يرون بؤساً أبداً , ويشبّون فلا يهرمون أبداً. {في جنة عالية} يحتمل وجهين: أحدهما: رفيعة المكان. الثاني: عظيمة في النفوس. {قطوفها دانيةٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: دانية من الأيدي يتناولها القائم والقاعد. الثاني: دانية الإدراك لا يتأخر حملها ولا نضجها.(6/84)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
{وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون} {وأمّا من أُوتي كتابه بشماله} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه كان يقول ذلك راجياً. الثاني: أنه كان مستوراً فافتضح , ومن عادة العرب أن تفرق بين القبول والرد وبين الكرامة والهوان , باليمين والشمال , فتجعل اليمين بشيراً بالقبول والكرامة , وتجعل الشمال نذيراً بالرد والهوان. {ولم أَدْرِ ما حِسابِيَهْ} يحتمل وجهين: أحدهما: لما شاهد من كثرة سيئاته وكان يظنها قليلة , لأنه أحصاه اللَّه ونسوه. الثاني: لما رأى فيه من عظيم عذابه وأليم عقابه. {يَا لَيْتَها كانت القاضيةَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني موتاً لا حياة فيه بعدها , قاله الضحاك.(6/84)
الثاني: أنه تمنى أن يموت في الحال , ولم يكن في الدنيا أكره إليه من الموت , قاله قتادة. {ما أغْنَى عَنيِّ مالِيَهْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن كثرة ماله في الدنيا لم يمنع عنه في الآخرة. الثاني: لأن رغبته في زينة الدنيا وكثرة المال هو الذي ألهاه عن الآخرة. {هَلَكَ عني سُلْطانِيَهْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه ضللت عن حُجّتي , قاله مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك. الثاني: سلطانه الذي تسلط به على بدنه حتى أقدم به على معصيته , وهذا معنى قول قتادة. الثالث: أنه كان في الدنيا مطاعاً في أتباعه , عزيزاً في امتناعه , وهذا معنى قول الربيع بن أنس. وحكي أن هذا في أبي جهل بن هشام , وذكر الضحاك أنها نزلت في الأسود ابن عبد الأسد. {فليس له اليومَ ها هنا حَميمٌ} الحميم: القريب , ومعناه ليس له قريب ينفعه ويدفع عنه كما كان يفعل معه في الدنيا. {ولا طعامٌ إلا مِنْ غِسْلين} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه غسالة أطرافهم , قاله يحيى بن سلام , قال الأخفش: هو فعلين من الغسل. الثاني: أنه صديد أهل النار , قاله ابن عباس. الثالث: أنه شجرة في النار هي أخبث طعامهم , قاله الربيع بن أنس. الرابع: أنه الحار الذي قد اشتد نضجه , بلغة أزد شنوءة.(6/85)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
{فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين} {فلا أُقْسِمُ بما تُبصِرون} قال مقاتل: سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمداً ساحر , وقال أبو جهل: إنه شاعر , وقال عقبة بن معيط: إنه كاهن فقال(6/85)
اللَّه تعالى قسماً على كذبهم (فلا أُقْسِم) أي أقسم , و (لا) صلة زائدة. {وَما لا تُبْصِرونَ} فيه وجهان: أحدهما: بما تبصرون من الخلق وما لا تبصرون من الخلق , قاله مقاتل. الثاني: أنه رد لكلام سبق أي ليس الأمر كما يقوله المشركون. ويحتمل ثالثاً: بما تعلمون وما لا تعلمون , مبالغة في عموم القسم. {إنه لَقْولُ رسولٍ كريمٍ} فيه قولان: أحدهما: جبريل , قاله الكلبي ومقاتل. الثاني: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم , قال ابن قتيبة: وليس القرآن من قول الرسول , إنما هو من قول اللَّه وإبلاغ الرسول , فاكتفى بفحوى الكلام عن ذكره.(6/86)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
{ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم} {ولو تَقوَّل علينا بَعْضَ الأقاويل} أي تكلّف علينا بعض الأكاذيب , حكاه عن كفار قريش أنهم قالوا ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم. {لأخْذنا منه باليمين} فيه خمسة تأويلات: أحدها: لأخذنا منه قوّته كلها , قاله الربيع. الثاني: لأخذنا منه بالحق , قاله السدي والحكم , ومنه قول الشاعر:
(إذا ما رايةٌ رُفِعَتْ لمجدٍ ... تَلَقّاها عَرابةُ باليَمينِ)
أي بالاستحقاق. الثالث: لأخذنا منه بالقدرة , قاله مجاهد. الرابع: لقطعنا يده اليمنى , قاله الحسن.(6/86)
الخامس: معناه لأخذنا بيمينه إذلالاً له واستخفافاً به , كما يقال لما يراد به الهوان , خذوا بيده , حكاه أبو جعفر الطبري. {ثم لَقَطَعْنا مِنه الوَتينَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه نياط القلب ويسمى حبل القلب , وهو الذي القلب معلق به , قاله ابن عباس. الثاني: أنه القلب ومراقّه وما يليه , قاله محمد بن كعب. الثالث: أنه الحبل الذي في الظهر , قاله مجاهد. الرابع: أنه عرق بين العلباء والحلقوم , قاله الكلبي. وفي الإشارة إلى قطع ذلك وجهان: أحدهما: إرادة لقتله وتلفه , كما قال الشاعر:
(إذا بَلَّغْتِني وَحَمَلْتِ رحْلي ... عرابة فاشربي بدَمِ الوَتينِ)
الثاني: ما قاله عكرمة أن الوَتين إذا قطع لا إن جاع عَرَق , ولا إن شبع عَرَقَ. {وإنه لتَذْكرةٌ للمُتّقِينَ} يعني القرآن , وفي التذكرة أربعة أوجه: أحدها: رحمة. الثاني: ثَبات. الثالث: موعظة. الرابع: نجاة. {وإنّا لَنَعْلَمُ أنَّ منكم مُكذِّبينَ} قال الربيع: يعني بالقرآن. {وإنّه} يعني القرآن. {لَحسْرةٌ على الكافرين} يعني ندامة يوم القيامة. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن يزيد حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحدّيهم أن يأتوا بمثله.(6/87)
{وإنّه لَحقُّ اليقينِ} فيه وجهان: أحدهما: أي حقاً ويقيناً ليكونن الكفر حسرة على الكافرين يوم القيامة , قاله الكلبي. الثاني: يعني القرآن عند جميع الخلق أنه حق , قال قتادة: إلا أن المؤمن أيقن به في الدنيا فنفعه , والكافر أيقن به في الآخرة فلم ينفعه. {فَسَبِّحْ باسْمِ ربِّكَ العظيم} فيه وجهان: أحدهما: فصلِّ لربك , قاله ابن عباس. الثاني: فنزهه بلسانك عن كل قبيح.(6/88)
سورة المعارج
بسم الله الرحمن الرحيم(6/89)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
{سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا} قوله تعالى: {سأَل سائلٌ} قرأه الجمهور بهذين الحرفين في سأل سائل , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه استخبر مستخبر عن العذاب متى يقع , على التكذيب. الثاني: دعا داع أن يقع البلاء بهم على وجه الاستهزاء , قاله مجاهد. الثالث: طلب طالب. {بعذابٍ واقعٍ} وفي هذا الطالب ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهالنضر بن الحارث , وكان صاحب لواء المشركين يوم بدر , وقد سأل ذلك في قوله {اللهم إن كان هذا هو الحقَ من عندك فأمطِرْ علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] قاله ابن عباس ومجاهد.(6/89)
الثاني: أنه أبو جهل: وهو القائل لذلك , قاله ربيع بن أبي حمزة. الثالث: أنه قول جماعة من قريش. وفي هذا العذاب قولان: أحدهما: أنه العذاب في الآخرة , قاله مجاهد. الثاني: أنها نزلت بمكة وعذابه يوم بدر بالقتل والأسر , قاله السدي. وقرأ نافع وزيد بن أسلم وابنه (سأل سايل) غير مهموز , وسايل واد في جهنم , وسمي بذلك لأنه يسيل بالعذاب. {مِن اللَّهِ ذي المعارج} فيه خمسة تأويلات: أحدها: ذي الدرجات , قاله ابن عباس. الثاني: ذي الفواضل والنعم , قاله قتادة. الثالث: ذي العظمة والعلاء. الرابع: ذي الملائكة , لأنهم كانوا يعرجون إليه , قاله قتيبة. الخامس: أنها معارج السماء , قاله مجاهد. {تَعْرُجُ الملائكةُ والروحُ إليه} أي تصعد , وفي الروح ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه روح الميت حين يقبض , قاله قَبيصة بن ذؤيب , يرفعه. الثاني: أنه جبريل , كما قال تعالى: (نزل به الروح الأمين) . الثالث: أنه خلق من خلق اللَّه كهيئة الناس وليس بالناس , قاله أبو صالح. {في يوم كان مِقدارُه خمسينَ ألْفَ سنةٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه يوم القيامة , قاله محمد بن كعب والحسن. الثاني: أنها مدة الدنيا , مقدار خمسين ألف سنة , لا يدري أحد كم مضى وكم بقي إلا اللَّه , قاله عكرمة. الثالث: أنه مقدار مدة الحساب في عرف الخلق أنه لو تولى بعضهم محاسبة بعض لكان مدة حسابهم خمسين ألف سنة , إلا أن اللَّه تعالى يتولاه في أسرع مدة.(6/90)
وروى معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحاسبهم اللَّه بمقدار ما بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب , وأسرع الحاسبين) . {فاصْبِرْ صَبْراً جَميلاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه الصبر الذي ليس فيه جزع , قاله مجاهد. الثاني: أنه الصبر الذي لا بث فيه ولا شكوى. الثالث: أنه الانتظار من غير استعجال , قاله ابن بحر. الرابع: أنه المجاملة في الظاهر , قاله الحسن. وفيما أُمر بالصبر عليه قولان: أحدهما: أُمر بالصبر على ما قذفه المشركون من أنه مجنون وأنه ساحر وأنه شاعر , قاله الحسن. الثاني: أنه أُمر بالصبر على كفرهم , وذلك قبل أن يفرض جهادهم , قاله ابن زيد. {إنهم يَرَوْنه بعيداً} فيه قولان: أحدهما: أنه البعث في القيامة. الثاني: عذاب النار. وفي المراد بالبعيد وجهان: أحدهما: مستحيل غير كائن. الثاني: استبعاد منهم للآخرة. {ونراه قريباً} أي كائناً , لأن ما هو كائن قريب.(6/91)
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
{يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما(6/91)
يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى} {يومَ تكونُ السّماءُ كالمُهْلِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كدرديّ الزيت , قاله ابن عباس. الثاني: كمذاب الرصاص والنحاس والفضلة , قاله ابن مسعود. الثالث: كقيح من دم , قاله مجاهد. {وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ} يعني كالصوف المصبوغ , والمعنى أنها تلين بعد الشدة , وتتفرق بعد الاجتماع. {يُبْصّرُونَهم} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه يبصر بعضهم بعضاً فيتعارفون , قاله قتادة. الثاني: أن المؤمنين يبصرون الكافرين , قاله مجاهد. الثالث: أن الكافرين يبصرون الذين أضلوهم في النار , قاله ابن زيد. الرابع: أنه يبصر المظلوم ظالمه , والمقتول قاتله. {يَوَدّ المجْرِمُ} فيه وجهان: أحدهما: يحب. الثاني: يتمنى , والمجرم هو الكافر. {لو يَفْتَدِي مِن عَذابِ يومِئذ} يعني يفتدي من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه , فلا يقدر. ثم ذكرهم فقال: {ببنيه} . {وصاحبته} يعني زوجته: {وأخيه} . {وفصيلته} فيه وجهان: أحدهما: عشيرته التي تنصره , قاله ابن زيد. الثاني: أنها أمه التي تربيه , قاله مالك , وقال أبو عبيدة: الفصيلة دون القبيلة. {التي تؤويه} فيه وجهان:(6/92)
أحدهما: التي يأوي إليها في نسبه , قاله الضحاك. الثاني: يأوي إليها في خوفه. {كلا إنها لَظَى} فيه وجهان: أحدهما: أنها اسم من أسماء جهنم , سميت بذلك لأنها التي تتلظى , وهو اشتداد حرها. الثاني: أنه اسم الدرك الثامن في جهنم , قاله الضحاك. {نَزّاعة للشّوَى} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنها أطراف اليدين والرجلين , قاله أبو صالح , قال الشاعر:
(إذا نَظَرْتَ عَرَفْت الفخر منها ... وعَيْنيها ولم تعْرِفْ شَواها.)
الثاني: قال الضحاك: هي جهنم تفري اللحم والجلد عن العظم , وقال مجاهد: جلدة الرأس ومنه قول الأعشى:
(قالت قُتَيْلَةُ ما لَه ... قد جُلِّلَتْ شيْباً شَواتهُ.)
الثالث: أنه العصب والعقب , قاله ابن جبير. الرابع: أنه مكارم وجهه , قاله الحسن. الخامس: أنه اللحم والجلد الذي على العظم , لأن النار تشويه , قاله الضحاك. {تَدْعو مَنْ أَدْبَرَ وتَوَلّى} وفي دعائها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تدعوهم بأسمائهم فتقول للكافر: يا كافر إليّ , وللمنافق: يا منافق إليّ , قاله الفراء. الثاني: أن مصير من أدبر وتولى إليها , فكأنها الداعية لهم , ومثله قول الشاعر:
(ولقد هَبَطْنا الوادِيَيْن فوادياً ... يَدْعو الأنيسَ به العَضيضُ الأبكمُ.)
العضيض الأبكم: الذباب , وهو لا يدعو وإنما طنينه ينبه عليه , فدعا إليه.(6/93)
الثالث: الداعي خزنة جهنم أضيف دعاؤهم إليها , لأنهم يدعون إليها. وفي ما {أدبر وتولى} عنه أربعة أوجه: أحدها: أدبر عن الطاعة وتولى عن الحق , قاله مجاهد. الثاني: أدبر عن الإيمان وتولى إلى الكفر , قاله مقاتل. الثالث: أدبر عن أمر اللَّه وتولى عن كتاب اللَّه , قاله قتادة. الرابع: أدبر عن القبول وتولى عن العمل. {وجَمَع فأوْعَى} يعني الذي أدبر وتولى جمع المال فأوعى , بأن جعله في وعاء حفظاً له ومنعاً لحق اللَّه منه , قال قتادة: فكان جموعاً منوعاً.(6/94)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
{إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون} {إنّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعاً} قال الضحاك والكلبي: يعني الكافر. وفي الهلوع ستة أوجه: أحدها: أنه البخيل , قاله الحسن. الثاني: الحريص , قاله عكرمة. الثالث: الضجور , قاله قتادة. الرابع: الضعيف , رواه أبو الغياث. الخامس: أنه الشديد الجزع , قاله مجاهد. السادس: أنه الذي قاله الله تعالى فيه: {إذا مسّه الشرُّ ... } الآية , قاله ابن ابن عباس.(6/94)
وفيه وجهان: أحدهما: إذا مسه الخير لم يشكر , وإذا مسه الشر لم يصبر , وهو معنى قول عطية. الثاني: إذا استغنى منع حق اللَّه وشح , وإذا افتقر سأل وألح , وهو معنى قول يحيى بن سلام. {الذين هُمْ على صَلاتِهم دائمونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يحافظون على مواقيت الفرض منها , قاله ابن مسعود. الثاني: يكثرون فعل التطوع منها , قاله ابن جريج. الثالث: لا يلتفتون فيها , قاله عقبة بن عامر. {والذين هم لأماناتِهم وعَهْدِهم راعُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أن الأمانة ما ائتمنه الناس عليه أن يؤديه إليهم , والعهد: ما عاهد الناس عليه أن يَفيَ لهم به , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أن الأمانة الزكاة أن يؤديها , والعهد: الجنابة أن يغتسل منها وهو معنى قول الكلبي. ويحتمل ثالثاً: أن الأمانة ما نهي عنه من المحظورات , والعهد ما أمر به من المفروضات. {والذين هُم بشهاداتِهم قائمونَ} فيه وجهان: أحدهما: أنها شهادتهم على أنبيائهم بالبلاغ , وعلى أممهم بالقبول أو الامتناع. الثاني: أنها الشهادات في حفظ الحقوق بالدخول فيها عند التحمل , والقيام بها عند الأداء. ويحتمل ثالثاً: أنهم إذا شاهدوا أمراً أقاموا الحق للَّه تعالى فيه , من معروف يفعلونه ويأمرون به , ومنكر يجتنبونه وينهون عنه.(6/95)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
{فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين أيطمع كل امرئ(6/95)
منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون} {فما للذين كَفَروا قِبلَكَ مُهْطِعينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مسرعين , قاله الأخفش , قال الشاعر:
(بمكةَ دارُهم ولقد أراهم ... بمكةَ مُهطِعين إلى السماع)
الثاني: معرضين , قاله عطية العوفي. الثالث: ناظرين إليك تعجباً , قاله الكلبي. {عن اليمين وعن الشِّمال عِزِينَ} فيه خمسة أوجه: أحدها: متفرقين , قاله الحسن , قال الراعي:
(أخليفةَ الرحمنِ إن عشيرتي ... أمسى سَراتُهُمُ إليك عِزينا.)
الثاني: محتبين , قال مجاهد. الثالث: أنهم الرفقاء والخلطاء , قاله الضحاك. الرابع: أنهم الجماعة القليلة , قاله ابن أسلم. الخامس: أن يكونوا حِلقاً وفرقاً. روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حِلَق فقال: (ما لي أراكم عزين) قال الشاعر:(6/96)
(ترانا عنده والليل داج ... على أبوابه حِلقاً عِزينا.)
{يوم يَخْرجون من الأجداثِ سِراعاً} يعني من القبور. {كأنهم إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} في (نصب) قراءتان: إحداهما بتسكين الصاد , والأخرى بضمها. وفي اختلافهما وجهان: أحدهما: معناهما واحد , قاله المفضل وطائفة , فعلى هذا في تأويله أربعة أوجه: أحدها: معناه إلى علم يستبقون , قاله قتادة. الثاني: إلى غايات يستبقون , قاله أبو العالية. الثالث: إلى أصنامهم يسرعون , قاله ابن زيد , وقيل إنها حجارة طوال كانوا يعبدونها. الرابع: إلى صخرة بيت المقدس يسرعون. والوجه الثاني من الأصل أن معنى القراءتين مختلف , فعلى هذا في اختلافهما وجهان: أحدهما: أن النُّصْب بالتسكين الغاية التي تنصب إليها بصرك , والنُّصُب بالضم واحد الأنصاب , وهي الأصنام , قاله أبو عبيدة ومعنى (يوفضون) يسرعون , والإيفاض الإسراع , ومنه قول رؤبة:
(يمشين بنا الجد على الإيفاض ... بقطع أجواز الفلا انفضاض.)(6/97)
سورة نوح
مكية بسم الله الرحمن الرحيم(6/98)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
{إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون} قوله عز وجل: {إنا أَرْسَلْنا نُوحاً إلى قَوْمِه} روى قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول نبي أُرسل نوح) قال قتادة: بعث من الجزيرة. واختلف في سنه حين بعث: قال ابن عباس: بعث وهو ابن أربعين سنة. وقال عبد اللَّه بن شداد: بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. وقال إبراهيم بن زيد: إنما سمي نوحاً لأنه كان ينوح على نفسه في الدنيا. {أنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أن يأتيَهم عَذابٌ أَليمٌ} فيه وجهان: أحدهما: يعني عذاب النار في الآخرة , قاله ابن عباس. الثاني: عذاب الدنيا , وهو ما ينزل عليهم بعد ذلك من الطوفان , قاله الكلبي،(6/98)
وكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى منهم مجيباً , وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه , فيقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. {يَغْفِرْ لكم مِن ذُنوبكم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن (من) صلة زائدة , ومعنى الكلام يغفر ذنوبكم , قاله السدي. الثاني: أنها ليست صلة , ومعناه يخرجكم من ذنوبكم , قاله زيد بن أسلم. الثالث: معناه يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها , قاله ابن شجرة. {ويُؤَخِّرْكم إلى أجَلٍ مُسمى} يعني إلى موتكم وأجلكم الذي خط لكم , فيكون موتكم بغير عذاب إن آمنتم. {إنّ أَجَلَ اللَّه إذا جاءَ لا يُؤخَّرُ لو كنتم تَعْلَمونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني بأجل اللَّه الذي لا يؤخر يوم القيامة , جعله اللَّه أجلاً للبعث , قاله الحسن. الثاني: يعني أجل الموت إذا جاء لم يؤخر , قاله مجاهد. الثالث: يعني أجل العذاب إذا جاء لا يؤخر , قاله السدي. وفي قوله: (لو كنتم تعلمون) وجهان: أحدهما: أن ذلك بمعنى إن كنتم تعلمون. الثاني: لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل اللَّه إذا جاء لا يؤخر , قاله الحسن.(6/99)
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
{قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا(6/99)
والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا} {قال رَبِّ إنّي دَعَوْتُ قَوْمي ليلاً ونهاراً} فيه وجهان: أحدهما: دعوتهم ليعبدوك ليلاً ونهاراً. الثاني: دعوتهم ليلاً ونهاراً إلى عبادتك. {فلم يَزدْهم دُعائي إلاّ فِراراً} يحتمل وجهين: أحدهما: إلا فراراً من طاعتك. الثاني: فراراً من إجابتي إلى عبادتك. قال قتادة: بلغنى أنه كان يذهب الرجل بابنه إلى نوح , فيقول لابنه: احذر هذا لا يغرنك فإن أبي قد ذهب بي غليه وأنا مثلك , فحذرني كما حذرتك. {وإنِّي كلما دَعَوْتُهم لِتَغَفِرَ لهم} يعني كلما دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم ما تقدم من الشرك. {جعلوا أصابعهم في آذانهم} لئلا يسمعوا دعاءه ليؤيسوه من إجابة ما لم يسمعوه , قال محمد بن إسحاق: كان حليماً صبوراً. {واستغْشَوا ثيابَهم} أي عطوا رؤسهم وتنكروا لئلا يعرفهم. {وأَصَرُّوا} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه إقامتهم على الكفر , قال قتادة: قدماً قدماً في معاصي اللَّه لالتهائهم عن مخافة اللَّه حتى جاءهم أمر اللَّه. الثاني: الإصرار: أن يأتي الذنب عمداً , قاله الحسن. الثالث: معناه أنهم سكتوا على ذنوبهم فلم يستغفروا قاله السدي. {واستكْبَروا استكباراً} فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك كفرهم باللَّه وتكذيبهم لنوح , قاله الضحاك. الثاني: أن ذلك تركهم التوبة , قاله ابن عباس , وقوله (استبكارا) تفخيم.(6/100)
{ثم إنّي دَعْوتُهم جِهاراً} أي مجاهرة يرى بعضهم بعضاً. {ثم إني أعْلَنْتُ لهم} يعني الدعاء , قال مجاهد: معناه صِحْتُ. {وأسَرَرْتُ لهم إسْراراً} الدعاء عن بعضهم من بعض , وفيه وجهان: أحدهما: أنه دعاهم في وقت سراً , وفي وقت جهراً. الثاني: دعا بعضهم سراً وبعضهم جهراً , وكل هذا من نوح مبالغة في الدعاء وتلطفاً في الاستدعاء. {فقلتُ استغْفِروا ربّكم إنّه كان غَفّاراً} وهذا فيه ترغيب في التوبة , وقد روى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الاستغفار ممحاة للذنوب) . وقال: الفضيل: يقول العبد استغفر اللَّه , قال: وتفسيرها أقلني. {يُرْسِلِ السماءَ عليكم مِدْراراً} يعني غيثاً متتابعاً , وقيل إنهم كانوا قد أجدبوا أربعين سنة , حتى أذهب الجدب أموالهم وانقطع الولد عن نسائهم , فقال ترغيباً في الإيمان. {ويُمْدِدْكم بأموالٍ وبنينَ ويَجْعَل لكم جَنّاتٍ ويَجْعَل لكم أنهاراً} قال قتادة: علم نبي اللَّه نوح أنهم أهل حرص على الدنيا , فقال هلموا إلى طاعة اللَّه فإن من طاعته درك الدنيا والآخرة. {ما لكم لا ترجون للَّه وقاراً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: ما لكم لا تعرفون للَّه عظمة , قاله مجاهد , وعكرمة. الثاني: لا تخشون للَّه عقاباً وترجون منه ثواباً , قاله ابن عباس في رواية ابن جبير. الثالث: لا تعرفون للَّه حقه ولا تشكرون له نعمه , قاله الحسن. الرابع: لا تؤدون للَّه طاعة , قاله ابن زيد. الخامس: أن الوقار الثبات , ومنه قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن} [الأحزاب: 33] أي اثبتن , ومعناه لا تثبتون وحدانية اللَّه وأنه إلهكم الذي لا إله لكم سواه , قال(6/101)
ابن بحر: دلهم على ذلك فقال: {وقد خلقكم أطواراً} في وجهان: أحدهما: يعني طوراً نطفة , ثم طوراً علقة , ثم طوراً مضغة , ثم طوراً عظماً , ثم كسونا العظام لحماً , ثم أنشأناه خلقاً آخر أنبتنا له الشعر وكملت له الصورة , قاله قتادة. الثاني: أن الأطوار اختلافهم في الطول والقصر , والقوة والضعف والهم والتصرف , والغنى والفقر. ويحتمل ثالثاً: أن الأطوار اختلافهم في الأخلاق والأفعال. {ألمْ تَروْا كيف خَلَق اللَّهُ سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً} فيها قولان: أحدهما: أنهن سبع سموات على سبع أرضين , بين كل سماء وأرض خلق , وهذا قول الحسن. والثاني: أنهن سبع سموات طباقاً بعضهن فوق بعض , كالقباب , وهذا قول السدي. {وجَعَل القَمَرَ فيهنّ نُوراً} فيه قولان: أحدهما: معناه وجعل القمر فيهن نوراً لأهل الأرض , قاله السدي. الثاني: أنه جعل القمر فيهن نوراً لأهل السماء والأرض , قاله عطاء. وقال ابن عباس: وجهه يضيء لأهل الأرض , وظهره يضيء لأهل السماء. {وجَعَل الشّمْسَ سِراجاً} يعني مصباحاً لأهل الأرض , وفي إضافته لأهل السماء القولان الأولان. {واللَّه أَنْبَتكُم مِنَ الأرضِ نَباتاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني آدم خلقه من أديم الأرض كلها , قاله ابن جريج , وقال خالد بن معدان: خلق الإنسان من طين , فإنما تلين القلوب في الشتاء. الثاني: أنبتهم من الأرض بالكبر بعد الصغر , وبالطول بعد القصر , قاله ابن بحر. الثالث: أن جميع الخلق أنشأهم باغتذاء ما تنبته الأرض وبما فيها , وهو محتمل. {ثم يُعيدُكم فيها} يعني أمواتاً في القبور.(6/102)
{ويُخْرِجُكم إخراجاً} لنشور بالبعث. {واللَّهُ جَعَل لكم الأرضَ بِساطاً} أي مبسوطة , وفيه دليل على أنها مبسوطة. {لِتَسْلُكوا منها سُبُلاً فجاجاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: طرقاً مختلفة , قاله ابن عباس. الثاني: طرقاً واسعة , قاله ابن كامل. الثالث: طرقاًً أعلاماً , قاله قتادة.(6/103)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
{قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} {قال نوحٌ ربِّ إنهم عَصَوْني} قال أهل التفسير: لبث فيهم ما أخبر الله به ألف سنة إلا خمسين عاماً داعياً لهم , وهم على كفرهم وعصيانهم , قال ابن عباس: رجا نوح الأبناء بعد الآباء , فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبعة قرون , ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم , وعاش بعد الطوفان ستين سنة , حتى كثر الناس وفشوا. قال الحسن: كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين. {واتّبَعوا مَنْ لم يَزِدْه مالُه ووَلدُه إلاّ خَساراً} قرىء ولده بفتح الواو وضمها , وفيهما قولان: أحدهما: أن الولد بالضم الجماعة من الأولاد , والولد بالفتح واحد منهم , قاله الأعمش , قال الربيع بن زياد:
(وإن تكَ حَرْبُكم أمست عواناً ... فإني لم أكُنْ مّمن جَناها)
(ولكن وُلْدُ سَوْدةَ أرَّثوها ... وحَشّوا نارها لمن اصطلاها)
{ومَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} أي عظيماً , والكبّار أشد مبالغة من كبير. وفيه وجهان , أحدهما: ما جعلوه للَّه من الصاحبة والولد , قاله الكلبي.(6/103)
الثاني: هو قول كبرائهم لأتباعهم: {وقالوا لا تَذَرُنَّ آلِهتكم ولا تَذَرُنَّ وَدّاً ولا سُواعاً} الآية، قاله مقاتل. وفي هذه الأصنام قولان: أحدهما: أنها كانت للعرب لم يعبدها غيرهم ويكون معنى الكلام: كما قال قوم نوح لأتباعهم لا تذرن آلهتكم , قالت العرب مثلهم لأولادهم وقومهم لا تذرنّ وداً ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً , ثم عاد الذكر بعد ذلك إلى قوم نوح. واختلف في هذه الأسماء , فقال عروة بن الزبير: اشتكى آدم وعنده بنوه ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر , وكان ود أكبرهم وأبرهم به , وقال غيره: إن هذه الأسماء كانت لرجال قبل قوم نوح , فماتوا فحزن عليهم أبناؤهم حزناً شديداً , فزين لهم الشيطان أن يصورهم لينظروا إليهم ففعلوا , ثم عبدها أبناؤهم من بعدهم. وقال محمد بن كعب: كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح فحدث بعدهم من أخذ في العبادة مأخذهم , فزين لهم إبليس أن يتصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم , ثم عبدها من بعدهم قوم نوح , ثم انتقلت بعدهم إلى العرب فعبدها ولد إسماعيل. فأما ود فهو أول صنم معبود , سمي بذلك لودهم له , وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل من قول ابن عباس وعطاء ومقاتل , وفيه يقول شاعرهم:
(حيّاك ودٌّ فإنا لا يحل لنا ... لهْوُ النساءِ وإنّ الدينَ قد عزمَا.)
وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر , في قولهم , وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ , في قول قتادة , وقال مقاتل: حي من نجران. قال أبو عثمان النهدي: رأيت يغوث وكان من رصاص وكانوا يحملونه على جمل أجرد , ويسيرون معه لا يهيجونه , حتى يكون هو الذي يبرك فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل , فيضربون عليه بناء وينزلون حوله. وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع , في قول قتادة وعكرمة وعطاء.(6/104)
وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول عطاء ونحوه عن مقاتل. {وقد أَضَلّوُا كثيراً} فيه وجهان: أحدهما: يريد أن هذه الأصنام قد ضل بها كثير من قومه. الثاني: أن أكابر قومه قد أضلوا كثيراً من أصاغرهم وأتباعهم. {ولا تَزِدِ الظّالمينّ إلاَّ ضَلالاً} فيه وجهان: أحدهما: إلا عذاباً , قاله ابن بحر واستشهد بقوله تعالى: {إن المجرمين في ضَلالٍ وسُعُرٍ} [القمر: 47] . الثاني: إلا فتنة بالمال والولد , وهو محتمل.(6/105)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
{مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا} {وقال نوحٌ ربِّ لا تَذَرْ على الأرضِ مِنَ الكافرين دَيّارا} اختلفوا في سبب دعاء نوح على قومه بهذا على قولين: أحدهما: أنه لما نزلت عليه قوله تعالى: {لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} [هود: 36] دعا عليهم بهذا الدعاء , قاله قتادة. الثاني: أن رجلاً من قومه حمل ولده صغيراً على كتفه , فمر بنوح , فقال لابنه: إحذر هذا فإنه يضلك فقال: يا أبت أنزلني فأنزله فرماه فشجّهُ , فحينئذٍ غضب نوح ودعا عليهم. وفي قوله {ديّاراً} وجهان: أحدهما: أحداً , قاله الضحاك. الثاني: من يسكن الديار , قاله السدي. {ربِّ اغْفِرْ لي ولوالدّيّ} فيه قولان:(6/105)
أحدهما: أنه أراد أباه , واسمه لمك , وأمه واسمها منجل , وكانا مؤمنين , قاله الحسن. الثاني: أنه أراد أباه وجده , قاله سعيد بن جبير. {ولمن دَخَل بَيْتِيِ مُؤْمِناً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني صديقي الداخل إلى منزلي , قاله ابن عباس. الثاني: من دخل مسجدي , قاله الضحاك. الثالث: من دخل في ديني , قاله جويبر. {وللمؤمنين والمؤمنات} فيه قولان: أحدهما: أنه أراد من قومه. الثاني: من جميع الخلق إلى قيام الساعة , قاله الضحاك. {ولا تَزِدِ الظالمينَ} يعني الكافرين. {إلا تباراً} فيه وجهان: أحدهما: هلاكاً. الثاني: خساراً , حكاهما السدي.(6/106)
سورة الجن
بسم الله الرحمن الرحيم(6/107)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
{قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا} قوله تعالى {قل أُوحِيَ إليَّ أنّه إسْتَمَعَ نَفَرٌ مِن الجنَّ} اختلف أهل التفسير في سبب حضور النفر من الجن إلى رسوله اللَّه صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن على قولين: أحدهما: أن الله تعالى صرفهم إليه بقوله: {وإذا صَرَفْنا إليك نفراً من الجن} [الأحقاف: 29] , قاله ابن مسعود والضحاك وطائفة. الثاني: أنه كان للجن مقاعد في السماء الدنيا يستمعون منها ما يحدث فيها من أمور الدنيا , فلما بعث اللًّه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم حرست السماء الدنيا من الجن ورجموا بالشهب , قال السدي: ولم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو أثر له ظاهر , قال: فلما رأى أهل الطائف اختلاف الشهب في السماء قالوا: هلك أهل السماء فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويسيبون مواشيهم , فقال لهم عبد يا ليل بن عمرو:(6/107)
ويحكم أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم , فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها لم يهلك أهل السماء , وإنما هذا من أجل ابن أبي كبشة يعني محمداً فلما رأوها مستقرة كفّواً. وفزعت الجن والشياطين , ففي رواية السدي أنهم أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم , فقال: ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوها فشمها فقال: صاحبكم بمكة فبعث نفراً من الجن. . وفي رواية ابن عباس: أنهم رجعوا إلى قومهم فقالوا: ما حال بيننا وبين السماء إلا أمر حدث في الأرض , فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها , ففعلوا حتى أتوا تهامة , فوجدوا محمداً صلى الله عليه وسلم يقرأ. ثم اختلفوا لاختلافهم في السبب , هل شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن أم لا؟ فمن قال إنهم صرفوا إليه قال إنه رآهم وقرأ عليهم ودعاهم , روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (قد أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي؟ فسكتوا , ثم الثانية فسكتوا , ثم الثالثة , فقال ابن مسعود أنا أذهب معك , فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دُب , فخط عليَّ خطاً ثم قال: لا تجاوزه , ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل حتى غشوة فلم أره) قال عكرمة: وكانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل. ومن قال إنهم صرفوا في مشارق الأرض ومغاربها لاستعلام ما حدث فيها , قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم علىالجن ولا رآهم , وإنما انطلق في نفر من أصحابه إلى سوق عكاظ , فأتوه وهو بنخلة عامداً , إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. قال عكرمة: السورة التي كان يقرؤها {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} واختلف قائلوا هذا(6/108)
القول في عددهم , فروى عاصم عن زر بن حبيش أنهم كانوا تسعة , أحدهم زوبعة , أتوه في بطن نخلة. وروى ابن جريج عن مجاهد: أنهم كانوا سبعة , ثلاثة من أهل حران , وأربعة من أهل نصيبين , وكانت أسماؤهم: حسى ومسى وماصر وشاصر والأرد وأتيان والأحقم. وحكى جويبر عن الضحاك أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير التي بالعراق , وهم سليط وشاصر وماصر وحسا ومنشا ولحقم والأرقم والأرد وأتيان , وهم الذين قالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً , وكانوا قد أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة في صلاة الصبح فصلّوا معه: {فلما قضى ولّوْا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا أجيبوا داعي اللَّه وآمِنوا به} . وقيل إن الجن تعرف الإنس كلها فلذلك توسوس إلى كلامهم. واختلف في أصل الجن , فروى إسماعيل عن الحسن البصري أن الجن ولد إبليس , والإنس ولد آدم , ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون وهم شركاء في الثواب والعقاب فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمناً فهو ولي اللَّه , ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس: أن الجن هم ولد الجان وليسوا شياطين وهم يموتون , ومنهم المؤمن والكافر , والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. أصلهم , فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال يدخلون الجنة بإيمانهم , ومن قال هم من ذرية إبليس فلهم فيها قولان: أحدهما: يدخلونها وهو قول الحسن. الثاني: وهو رواية مجاهد , لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار. وفي قوله تعالى: {إنا سَمِعْنا قُرآنا عَجَباً} ثلاثة أوجه: أحدها: عجباً في فصاحة كلامه. الثاني: عجباً في بلاغة مواعظة.(6/109)
الثالث: عجباً في عظم بركته. {يَهْدِي إلى الرُّشْدِ} فيه وجهان: أحدهما: مراشد الأمور. الثاني: إلى معرفة اللَّه. {وأنّه تَعالى جَدُّ ربّنا} فيه عشرة تأويلات: أحدها: أمر ربنا , قاله السدي. الثاني: فعل ربنا , قاله ابن عباس. الثالث: ذكر ربنا , وهو قول مجاهد. الرابع: غنى ربنا , قاله عكرمة. الخامس: بلاء ربنا , قاله الحسن. السادس: مُلك ربنا وسلطانه , قاله أبو عبيدة. السابع: جلال ربنا وعظمته , قاله قتادة. الثامن: نعم ربنا على خلقه , رواه الضحاك. التاسع: تعالى جد ربنا أي تعالى ربُّنا , قاله سعيد بن جبير. العاشر: أنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب , ويكون هذا من قول الجن عن [جهالة] . {وأنه كان يقولُ سَفيهُنا على اللَّهِ شَطَطاً} فيه قولان: أحدهما: جاهلنا وهم العصاة منا , قال قتادة: عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس. الثاني: أنه إبليس , قاله مجاهد وقتادة ورواه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن قوله: (شططاً) وجهان: أحدهما: جوراً , وهو قول أبي مالك. الثاني: كذباً , قاله الكلبي، وأصل الشطط البعد , فعبر به عن الجور لبعده من العدل , وعن الكذب لبعده عن الصدق.(6/110)
{وأنّه كانَ رجالٌ من الإنسِ يَعُوذون برجالٍ من الجنِّ} قال ابن زيد: إنه كان الرجل في الجاهلية قبل الإسلام إذا نزل بواد قال: إني أعوذ بكبير هذا الوادي - يعني من الجن - من سفهاء قومه , فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم , وهو معنى قوله: (وأنه كان رجال) . وفي قوله: {فَزَادُوهم رَهقاً} ثمانية تأويلات: أحدها: طغياناً , قاله مجاهد. الثاني: إثماً , قاله ابن عباس وقتادة , قال الأعشى:
(لا شىءَ ينفعني مِن دُون رؤيتها ... هل يَشْتفي عاشقٌ ما لم يُصبْ رهَقاً.)
يعني إثماً. الثالث: خوفاً , قاله أبو العالية والربيع وابن زيد. الرابع: كفراً , قاله سعيد بن جبير. الخامس: أذى , قاله السدي. السادس: غيّاً , قاله مقاتل. السابع: عظمة , قاله الكلبي. الثامن: سفهاً , حكاه ابن عيسى.(6/111)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
{وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} {وأنا لَمسْنا السّماءَ} فيه وجهان: أحدهما: طلبنا السماءَ , والعرب تعبر عن الطلب باللمس تقول جئت ألمس الرزق وألتمس الرزق. الثاني: قاربنا السماء , فإن الملموس مقارَب. {فوَجدْناها} أي طرقها.(6/111)
{مُلئتْ حَرَساً شديداً} هم الملائكة الغلاظ الشداد. {وشُهُباً} جمع شهاب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عند استراق السمع , واختلف في انقضاضها في الجاهلية قبل مبعث الرسول الله صلى الله عليه وسلم على قولين: أحدهما: أنها كانت تنقض في الجاهلية , وإنما زادت بمبعث الرسول إنذاراً بحاله , قال أوس بن حجر , وهو جاهلي:
(فانقضّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعهُ ... نقعٌ يثورُ تخالُهُ طُنُباً)
وهذا قول الأكثرين. الثاني: أن الانقضاض لم يكن قبل المبعث وإنما أحدثه الله بعده , قال الجاحظ: وكل شعر روي فيه فهو مصنوع. {وأنّا كُنّا نَقْعُدُ منها مَقَاعِدَ للسّمْعِ} يعني أن مردة الجن كانوا يقعدون من السماء الدنيا مقاعد للسمع يستمعون من الملائكة أخبار السماء حتى يُلقوها إلى الكهنة فتجري على ألسنتهم , فحرسها اللَّه حين بعث رسوله بالشهب المحرقة , فقالت الجن حينئذٍ: {فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رَصَداً} يعني بالشهاب الكوكب المحرق , والرصد من الملائكة. أما الوحي فلم تكن الجن تقدر على سماعه , لأنهم كانوا مصروفين عنه من قبل. {وأنّا لا نَدْرِي أشَرٌ أُريدَ بمن في الأرضِ أمْ أرادَ بهم ربُّهم رَشَداً} فيه وجهان: أحدهما: أنهم لا يدرون هل بعث الله محمداً ليؤمنوا به ويكون ذلك منهم رشداً ولهم ثواباً , أم يكفروا به فيكون ذلك منهم شراً وعليهم عقاباً , وهذا معنى قول السدي وابن جريج. الثاني: أنهم لا يدرون حراسة السماء بالشهب هل شر وعذاب أم رشد وثواب، قاله ابن زيد.(6/112)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
{وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا} {وأنّا مِنّا الصّالحونَ} يعني المؤمنين. {ومنّا دون ذلك} يعني المشركين. ويحتمل أن يريد بالصالحين أهل الخير , وب (دون ذلك) أهل الشر ومن بين الطرفين على تدريج , وهو أشبه في حمله على الإيمان والشرك لأنه إخبار منهم عن تقدم حالهم قبل إيمانهم. {كُنّا طَرائقِ قِدَداً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني فِرقاً شتى , قاله السدي. الثاني: أدياناً مختلفة , قاله الضحاك. الثالث: أهواء متباينة , ومنه قول الراعي:
(القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قِدَدُ)
{وأنّا لّما سَمِعْنا الهُدَى آمَنّا به} يعني القرآن سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوه على رسالته , وقد كان رسول الله مبعوثاً إلى الجن والإنس. قال الحسن: بعث اللَّه محمداً إلى الإنس والجن ولم يبعث الله تعالى رسولاً من الجن ولا من أهل البادية ولا من النساء , وذلك قوله تعالى: {وما أرسَلْنا مِن قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} . {فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخساً ولا رَهقاً} قال ابن عباس:(6/113)
لا يخاف نقصاً في حسناته , ولا زيادة في سيئاته , لأن البخس النقصان , والرهق: العدوان , وهذا قول حكاه الله عن الجن لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم , وقد روى عمار بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال: بينما عمر بن الخطاب جالساً ذات يوم إذ مرّ به رجل , فقيل له: أتعرف المارّ يا أمير المؤمنين؟ قال: ومن هو؟ قالوا: سواد بن قارب رجل من أهل اليمن له شرف , وكان له رئيّ من الجن , فأرسل إليه عمر فقال له: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين , قال: وأنت الذي أتاك رئيّ من الجن يظهر لك؟ قال: نعم بينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئي من الجن فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي واعقل إن كنت تعقل , إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته , ثم أنشأ يقول:
(عجبْتُ للجنّ وتطلابها ... وشدِّها العِيسَ بأذْنابها.)
(تهوي إلى مكة تبغي الهُدَى ... ما صادقُ الجن ككذّابها.)
(فارْحَلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ ... فليس قد أتاها كاذباً بها.)(6/114)
فقلت دعني أنام فإني أمسيت ناعساً , ولم أرفع بما قاله رأساً , فلما كان الليلة الثانية أتاني فضربني برجله , وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته , ثم أنشأ يقول:
(عجبْتُ للجنّ وتخيارها ... وشدِّها العيس بأكوارها.)
(تهوي إلى مكة تبغي الهدي ... ما مؤمن الجن ككفّارِها)
(فارحلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ ... ما بين رابيها وأحجارها.)
فقلت له دعني فإني أمسيت ناعساً , ولم أرفع بما قال رأساً , فلما كان الليلة الثالثة أتاني وضربني برجله , وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل , إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته , ثم أنشأ يقول:
(عجبت للجن وتحساسها ... وشدِّها العيسَ بأحْلاسها.)
(تهوي إلى مكة تبغي الهُدي ... ما خَيِّرُ الجنّ كأنجاسها.)
(فارحلْ إلى الصفوة من هاشم ... واسم بيديْك إلى رأسها.)
قال: فأصبحت قد امتحن الله قلبي بالإسلام , فرحلتُ ناقتي فأتيت المدينة , فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه , فقلت اسمع مقالتي يا رسول اللَّه , قال: هات , فأنشأت أقول:
(أتاني نجيّ بين هدءٍ ورقْدةٍ ... ولم يك فيما قد تلوْتُ بكاذبِ)
(ثلاث ليال قوله كل ليلةٍ ... أتاك رسولٌ من لؤيّ بن غالب)(6/115)
(فشمّرتُ من ذيلي الإزار ووسطت ... بي الذملُ الوجناء بين السباسِب)
(فأشهَدُ أن اللَّه لا شيءَ غيرهُ ... وأنك مأمولٌ على كل غالبِ.)
(وأنك أدني المرسلين وسيلةً ... إلى اللَّه يا بن الأكرمين الأطايب.)
(فمُرنْا بما يأتيك يا خيرَ من مشى ... وإن كانَ فيما جاءَ شيبُ الذوائب.)
(وكن لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ ... سِواك بمغنٍ عن سوادِ بن قارب.)
)
ففرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرحاً شديداً , حتى رئي الفرح في وجوههم , قال: فوثب عمر فالتزمه وقال: قد كنت أشتهي أن أسمع منك هذا الحديث , فهل يأتيك رئيك من الجن اليوم؟ قال: [أما] وقد قرأت القرآن فلا , ونعم العوض كتاب اللَّه عن الجن. {وأنّا مِنّا المسْلِمونَ ومِنّا القاسِطونَ} وهذا إخبار عن قول الجن بحال من فيهم من مؤمن وكافر , والقاسط: الجائر , لأنه عادل عن الحق , ونظيره الترِب والمُتْرِب , فالترِب الفقير , لأن ذهاب ماله أقعده على التراب , والمترب الغني لأن كثرة ماله قد صار كالتراب. وفي المراد بالقاسطين ثلاثة أوجه: أحدها: الخاسرون , قاله قتادة. الثاني: الفاجرون , قاله ابن زيد. الثالث: الناكثون , قاله الضحاك. {وأن لو استقاموا على الطريقة} ذكر ابن بحر أن كل ما في هذه السورة من (إن) المكسورة المثقلة فهو حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن فرجعوا إلى قومهم منذرين , وكل ما فيها من (أن) المفتوحة المخففة أو المثقلة فهو من وحي الرسول. وفي هذه الاستقامة قولان: أحدهما: أنها الإقامة على طريق الكفر والضلالة , قاله محمد بن كعب وأبو مجلز وغيرهما. الثاني: الاستقامة على الهدى والطاعة , قاله ابن عباس والسدي وقتادة ومجاهد فمن ذهب إلى أن المراد الإقامة على الكفر والضلال فلهم في قوله {لأَسْقَيْناهم ماءً غَدَقاً} وجهان:(6/116)
أحدهما: بلوناهم بكثرة الماء الغدق حتى يهلكوا كما هلك قوم نوح بالغرق , وهذا قول محمد بن كعب. الثاني: لأسقيناهم ماء غدق ينبت به زرعهم ويكثر مالهم. {لِنَفْتِنَهم فيه} فيكون زيادة في البلوى , حكى السدي عن عمر في قوله (لأسقيناهم ماء غدقاً) أنه قال: حيثما كان الماء كان المال , وحيثما كان المال كانت الفتنة , فاحتملت الفتنة ها هنا وجهين: أحدهما: افتننان أنفسهم. الثاني: وقوع الفتنة والشر من أجله. وأما من ذهب إلى أن المراد الاستقامة على الهدى والطاعة فلهم في تأويل قوله (لأسقيناهم ماءً غدقاً) أربعة أوجه: أحدها: معناه لهديناهم الصراط المستقيم , قاله ابن عباس. الثاني: لأوسعنا عليهم في الدنيا , قاله قتادة. الثالث: لأعطيناهم عيشاً رغداً , قاله أبو العالية. الرابع: أنه المال الواسع , لما فيه من النعم عليهم بحياة النفوس وخصب الزروع , قاله أبو مالك والضحاك وابن زيد. وفي الغدق وجهان: أحدهما: أنه العذب المعين , قاله ابن عباس , قاله أمية بن أبي الصلت:
(مِزاجُها سلسبيلٌ ماؤها غَدَقٌ ... عَذْبُ المذاقةِ لا مِلْحٌ ولا كدرٌ)
الثاني: أنه الواسع الكثير , قاله مجاهد , ومنه قول كثير:
(وهبتُ لسُعْدَى ماءه ونباته ... فما كل ذي وُدٍّ لمن وَدَّ واهبُ.)
(لتروى به سُعدى ويروى محلّها ... وتغْدقَ أعداد به ومشارب)(6/117)
فعلى هذا فيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار عن حالهم في الدنيا. الثاني: أنه إخبار عن حالهم في الآخرة لنفتنهم فيه. فإن قيل إن هذا وارد في أهل الكفر والضلال كان في تأويله ثلاثة أوجه: أحدها: افتتان أنفسهم بزينة الدنيا. الثاني: وقوع الفتنة والاختلاف بينهم بكثرة المال. الثالث: وقوع العذاب بهم كما قال تعالى: {يوم هم على النار يُفْتًنون} [الذاريات: 13] أي يعذبون. وإن قيل إنه وارد في أهل الهدى والطاعة فهو على ما قدمنا من الوجهين. وهل هو اختبارهم في الدنيا ففي تأويله ثلاثة أوجه: أحدها: لنختبرهم به , قاله ابن زيد. الثاني: لنطهرهم من دنس الكفر. الثالث: لنخرجهم به من الشدة والجدب إلى السعة والخصب. فإن قيل إنه إخبار عمّا لهم في الآخرة ففي تأويله وجهان: أحدهما: لنخلصهم وننجيهم , مأخوذ من فَتَن الذهب إذا خلّصه مِن غشه بالنار كما قال تعالى لموسى عليه السلام: {وفَتَنّاك فُتوناً} [طه: 40] أي خلصناك من فرعون. الثاني: معناه لنصرفنهم عن النار , كما قال تعالى {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أَوْحَينْا إليك لتفْتري علينا غيره} [الإسراء: 73] أي ليصرفونك {ومَنْ يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربِّه} قال ابن زيد: يعني القرآن وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما: عن القبول , إن قيل إنها من أهل الكفر. الثاني: عن العمل , إن قيل إنها من المؤمنين. {يَسْلُكْهُ عذاباً صَعَداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جب في النار , قاله أبو سعيد. الثاني: جبل في النار إذا وضع يده عليه ذابت , وإذا رفعها عادت , وهو مأثور , وهذان الوجهان من عذاب أهل الضلال.(6/118)
والوجه الثالث: أنه مشقة من العذاب يتصعد , قاله مجاهد.(6/119)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
{وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا} {وأنَّ المساجدَ للَّهِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني الصلوات للَّه , قاله ابن شجرة. الثاني: أنها الأعضاء التي يسجد عليها للَّه , قاله الربيع. الثالث: أنها المساجد التي هي بيوت اللَّه للصلوات , قاله ابن عباس. الرابع: أنه كل موضع صلى فيه الإنسان , فإنه لأجل السجود فيه يسمى مسجداً. {فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحَداً} أي فلا تعبدوا معه غيره , وفي سببه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما حكاه الأعمش أن الجن قالت: يا رسول الله ائذن لنا نشهد معك الصلاة في مسجدك , فنزلت هذه الآية. الثاني: ما حكاه أبو جعفر محمد بن علّي أن الحمس من مشركي أهل مكة وهم كنانة وعامر وقريش كانوا يُلبّون حول البيت: لبيّك اللهم لبيّك , لبيّك لا شريك(6/119)
لك , إلا شريكاً هو لك , تملكه وما ملك , فأنزل اللَّه هذه الآية نهياً أن يجعل للَّه شريكاً , وروى الضحاك عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى وقال: (وأن المساجد للَّه فلا تدعوا مع اللَّه أحداً) اللهم أنا عبدك وزائرك , وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار (وإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال:) اللهم صُبَّ الخير صبّاً ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كدّاً واجعل لي في الخير جداً (. {وأنه لما قام عبدُ اللَّهِ يدعوه} يعني محمداً , وفيه وجهان: أحدهما: أنه قام إلى الصلاة يدعو ربه فيها , وقام أصحابه خلفه مؤتمين , فعجبت الجن من طواعية أصحابه له , قاله ابن عباس. الثاني: أنه قام إلى اليهود داعياً لهم إلى اللَّه , رواه ابن جريج. {كادوا يكونون عليه لِبَداً} فيه وجهان: أحدهما: يعني أعواناً , قاله ابن عباس. الثاني: جماعات بعضها فوق بعض , وهو معنى قول مجاهد , ومنه اللبد لاجتماع الصوف بعضه على بعض , وقال ذو الرمة:
(ومنهلٍ آجنٍ قفرٍ مواردهُ ... خُضْرٍ كواكبُه مِن عَرْمَصٍ لَبِدِ.)
وفي كونهم عليه لبداً ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم المسلمون في اجتماعهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن جبير. الثاني: أنهم الجن حين استمعوا من رسول اللَّه قراءته , قاله الزبير بن العوام. الثالث: أنهم الجن والإنس في تعاونهم على رسول اللَّه في الشرك , قاله قتادة. {قلْ إني لا أَمْلِكُ لكم ضَرّاً ولا رَشَداً} يعني ضراً لمن آمن ولا رشداً لمن كفر , وفيه ثلاثة أوجه:(6/120)
أحدها: عذاباً ولا نعيماً. الثاني: موتاً ولا حياة. الثالث: ضلالاً ولا هدى. {قل إني لن يُجيرَني مِنَ اللَّهِ أَحدٌ} روى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال: انطلقتُ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط خطاً ثم تقدم عليهم فازدحموا عليه , فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أزجلهم عنك , فقال: (إني لن يجيرني من اللَّه أحد) ويحتمل وجهين: أحدهما: لن يجيرني مع إجارة اللَّه لي أحد. الثاني: لن يجيرني مما قدره الله علي أحد. {ولن أجدَ مِن دُونهِ مَلْتَحداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني ملجأ ولا حرزاً , قاله قتادة. الثاني: ولياً ولا مولى , رواه أبو سعيد. الثالث: مذهباً ولا مسلكاً , حكاه ابن شَجرة , ومنه قول الشاعر:
(يا لهفَ نفْسي ولهفي غيرُ مُجْديةٍ ... عني وما مِن قضاءِ اللَّهِ مُلْتَحَدُ.)
{إلا بلاغاً مِن اللَّه ورسالاتِه} فيه وجهان: أحدهما: لا أملك ضراً ولا رشداً إلا أن أبلغكم رسالات اللَّه , قاله الكلبي. الثاني: لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالات اللَّه , قاله مقاتل. روى مكحول عن ابن مسعود: أن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة , وكانوا سبعين ألفاً , وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر.(6/121)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
{قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين(6/121)
يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} {عالِمُ الغيْب} فيه أربعة أوجه: أحدها: عالم السر , قاله ابن عباس. الثاني: ما لم تروه مما غاب عنكم , قاله الحسن. الثالث: أن الغيب القرآن , قاله ابن زيد. الرابع: أن الغيب القيامة وما يكون فيها , حكاه ابن أبي حاتم. {فلا يُظْهِرُ على غيْبه أَحَداً , إلا من ارتضى من رسول} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إلا من ارتضى من رسول الله هو جبريل , قاله ابن جبير. الثاني: إلا من ارتضى من نبي فيما يطلعه عليه من غيب , قاله قتادة. {فإنه يَسْلُكُ مِن بَيْن يَدَيْه ومِنْ خَلْفه رَصَداً} فيه قولان: أحدهما: الطريق , ويكون معناه فإنه يجعل له إلى علم بعض ما كان قبله وما يكون بعده طريقاً , قاله ابن بحر. الثاني: أن الرصد الملائكة , وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من الجن والشياطين من أمامه وورائه , قاله ابن عباس وابن زيد , قال قتادة: هم أربعة. الثاني: أنهم يحفظون الوحي فما جاء من الله قالوا إنه من عند الله , وما ألقاه الشيطان قالوا إنه من الشيطان , قاله السدي. الثالث: يحفظون جبريل إذا نزل بالوحي من السماء أن يسمعه الجن إذا(6/122)
استرقوا السمع ليلقوه إلى كهنتهم قبل أن يبلغه الرسول إلى أمته , قاله الفراء. {ليعْلَمَ أنْ قد أبْلَغوا رسالاتِ ربِّهم} فيه خمسة أوجه: أحدها: ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل إليه رسالات ربه , قاله ابن جبير , وقال: ما نزل جبريل بشيء من الوحي إلا ومعه أربعة من الملائكة. الثاني: ليعلم محمد أن الرسل قبله قد بلغت رسالات الله وحفظت , قاله قتادة. الثالث: ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد بلغت عن ربها ما أمرت به , قاله مجاهد. الرابع: ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل الله عليهم , ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم , قاله ابن قتيبة. الخامس: ليعلم الله أن رسله قد بلغوا عنه رسالاته , لأنبيائه , قاله الزجاج. {وأحاط بما لديهم} قال ابن جريج: أحاط علماً. {وأحْصى كُلَّ شيءٍ عَدَداً} يعني من خلقه الذي يعزب إحصاؤه عن غيره.(6/123)
سورة المزمل
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة إلا آيتين منها: قوله {واصبر على ما يقولون} والتي بعدها. بسم الله الرحمن الرحيم(6/124)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
{يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} قوله تعالى: {يا أيها المزمِّلُ} قال الأخفش: أصله المتزمل فأدغم التاء في الزاي , وكذا المدثر. وفي أصل المزمل: قولان: أحدهما: المحتمل , يقال زمل الشيء إذا حمله , ومنه الزاملة التي تحمل القماش. الثاني: المزمل هو المتلفف , قال امرؤ القيس:(6/124)
(كأن ثبيراً في عرائين وبْله ... كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مُزَمّلِ.)
وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يا أيها المزمل بالنبوة , قاله عكرمة. الثاني: بالقرآن , قاله ابن عباس. الثالث: بثيابه , قاله قتادة. قال إبراهيم: نزلت عليه وهو في قطيفة. {قُمِ الليلَ إلا قليلاً} يعني صلِّ الليل إلا قليلاً , وفيه وجهان: أحدهما: إلا قليلاً من أعداد الليالي لا تقمها. الثاني: إلا قليلاً من زمان كل ليلة لا تقمه وقد كان فرضاً عليه. وفي فرضه على مَنْ سواه من أُمّته قولان: أحدهما: فرض عليه دونهم لتوجه الخطاب إليه , ويشبه أن يكون قول سعيد ابن جبير. الثاني: أنه فرض عيله وعليهم فقاموا حتى ورمت أقدامهم , قاله ابن عباس وعائشة. وقال ابن عباس: كانوا يقومون نحو قيامه في شهر رمضان ثم نسخ فرض قيامه على الأمة , واختلف بماذا نسخ عنهم على قولين: أحدهما: بالصلوات الخمس وهو قول عائشة. الثاني: بآخر السورة , قاله ابن عباس. واختلفوا من مدة فرضه إلى أن نسخ على قولين: أحدهما: سنة , قال ابن عباس: كان بين أول المزمل وآخرها سنة. الثاني: ستة عشر شهراً , قالته عائشة , فهذا حكم قيامه في فرضه ونسخه على الأمة. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضاً عليه , وفي نسخه عنه قولان: أحدهما: المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين. الثاني: أنها عشر سنين إلى أن خفف عنها بالنسخ زيادة في التكليف لتميزه بفضل الرسالة , قاله سعيد بن جبير.(6/125)
قوله (قم الليلَ إلاّ قليلاً) لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن فاستثنى منه القليل لراحة الجسد , والقليل من الشيء ما دون النصف. حكي عن وهب بن منبه أنه قال: القليل ما دون المعشار والسدس. وقال الكلبي ومقاتل: القليل الثلث. وَحدُّ الليل ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر الثاني. ثم قال تعالى: {نِصْفَهُ أو انقُصْ مِنْهُ قليلاً} فكان ذلك تخفيفاً إذا لم يكن زمان القيام محدوداً , فقام الناس حتى ورمت أقدامهم , فروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الليل فقال: أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون , فإن اللَّه لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل , وخير الأعمال ما ديم عليه. ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (عَلِم أنْ لن تُحْصوه فتابَ عليكم فاقْرَؤوا ما تيسّر من القرآن) . {أوزِدْ عليه ورَتِّل القرآنَ تَرْتيلاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بيّن القرآن تبياناً , قاله ابن عباس وزيد بن أسلم. الثاني: فسّرْه تفسيراً , قاله ابن جبير. الثالث: أن تقرأه على نظمه وتواليه , لا تغير لفظاً ولا تقدم مؤخراً مأخوذ من ترتيل الأسنان إذا استوى نبتها وحسن انتظامها , قاله ابن بحر. {إنّا سنُلْقي عليكَ قوْلاً ثَقيلاً} وهو القرآن , وفي كونه ثقيلاً أربعة تأويلات: أحدها: أنه إذا أوحي إليه كان ثقيلاً عليه لا يقدر على الحركة حتى ينجلي عنه , وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير. الثاني: العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه وحلاله وحرامه , قاله الحسن وقتادة. الثالث: أنه في المزان يوم القيامة ثقيل , قاله ابن زبير.(6/126)
الرابع: ثقل بمعنى كريم , مأخوذ من قولهم: فلان ثقيل عليّ أي كريم عليّ , قاله السدي. ويحتمل تأويلً خامساً: أن يكون ثقيل بمعنى ثابت , لثبوت الثقيل في محله , ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً. {إنّ ناشئةَ الليل هي أَشدُّ وطْئاً} فيها ستة تأويلات: أحدها: أنه قيام الليل , بالحبشية , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه ما بين المغرب والعشاء , قاله أنس بن مالك. الثالث: ما بعد العشاء الآخرة , قاله الحسن ومجاهد. الرابع: أنها ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة , قاله ابن قتيبة. الخامس: أنه بدء الليل , قاله عطاء وعكرمة. السادس: أن الليل كل ناشئة , قال ابن عباس: لأنه ينشأ بعد النهار. وفي (أشد وطْئاً) خمسة تأويلات: أحدها: مواطأة قلبك وسمعك وبصرك , قاله مجاهد. الثاني: مواطأة قولك لعملك , وهو مأثور. الثالث: مواطأة عملك لفراغك , وهو محتمل. الرابع: أشد نشاطاً , قاله الكلبي , لأنه زمان راحتك. الخامس: قاله عبادة: أشد وأثبت وأحفظ للقراءة. وفي قوله: {وأَقْوَمُ قِيلاً} ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه أبلغ في الخير وأمعن في العدل , قاله الحسن. الثاني: أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم , قاله مجاهد وقتادة , وقرأ أنس بن مالك (وأهيأ قيلاً) وقال أهيأ وأقوم سواء. الثالث: أنه أعجل إجابة للدعاء , حكاه ابن شجرة. {إن لك في النهارِ سَبْحاً طويلاً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني فراغاً طوياً لنَومك وراحتك , فاجعل ناشئة الليل لعبادتك , قاله ابن عباس وعطاء.(6/127)
الثاني: دعاء كثيراً , قاله السدي وابن زيد والسبح بكلامهم هو الذهاب , ومنه سبح السابح في الماء. {واذكر اسم ربك} فيه وجهان: أحدهما: اقصد بعملك وجه ربك. الثاني: أنه إذا أردت القراءة فابدأ بسم الله الرحمن الرحيم , قاله ابن بحر. ويحتمل وجهاً ثالثاً: واذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته. {وتَبتَّلْ إليه تَبْتِيلاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أخلص إليه إخلاصاً , قاله مجاهد. الثاني: تعبد له تعبداً , قاله ابن زيد. الثالث: انقطع إليه انقطاعاً , قاله أبو جعفر الطبري , ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى , وجاء في الحديث النهي عن التبتل الذي هو الانقطاع عن الناس والجماعات. الرابع: وتضرّع إليه تضرّعاً. {ربُّ المشْرِقِ والمْغرِبِ} فيه قولان: أحدهما: رب العالَمِ بما فيه لأنهم بين المشرق والمغرب , قاله ابن بحر. الثاني: يعني مشرق الشمس ومغربها. وفي المراد بالمشرق والمغرب ثلاثة أوجه: أحدها: أنه استواء الليل والنهار , قاله وهب بن منبه. الثاني: أنه دجنة الليل ووجه النهار , قاله عكرمة. الثالث: أنه أول النهار وآخره , لأن نصف النهار أوله فأضيف إلى المشرق , ونصفه آخره فأضيف إلى المغرب.(6/128)
{فاتّخِذْهُ وَكيلاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مُعيناً. الثاني: كفيلاً. الثالث: حافظاً.(6/129)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
{واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا} {واهْجُرهم هَجْراً جَميلاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: اصفح عنهم وقل سلام , قاله ابن جريج. الثاني: أن يعرض عن سفههم ويريهم صغر عداوتهم. الثالث: أنه الهجر الخالي من ذم وإساءة. وهذا الهجر الجميل قبل الإذن في السيف. {وذَرْني والمُكَذِّبينَ أُولي النّعْمةِ} قال يحيى بن سلام: بلغني أنهم بنو المغيرة , وقال سعيد بن جبير: أُخبرت أنهم اثنا عشر رجلاً من قريش. ويحتمل قوله تعالى: (أولي النّعْمةِ) ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قال تعريفاً لهم إن المبالغين في التكذيب هم أولي النعمة. الثاني: أنه قال ذلك تعليلاً , أي الذين أطغى هم أولوا النعمة. الثالث: أنه قال توبيخاًً أنهم كذبوا ولم يشكروا من أولاهم النعمة. {ومهِّلْهم قليلاً} قال ابن جريج: إلى السيف.(6/129)
{إنّ لدينا أنْكالاً وجَحيماً} في (أنكالاً) ثلاثة أوجه: أحدها: أغلالاً , قاله الكلبي. الثاني: أنها القيود , قاله الأخفش وقطرب , قالت الخنساء:
(دَعاك فَقَطّعْتَ أنكاله ... وقد كُنّ قبْلك لا تقطع.)
الثالث: أنها أنواع العذاب الشديد , قاله مقاتل , وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يحب النكل على النكل , قيل: وما النكل؟ قال: الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب) ومن ذلك سمي القيد نكلاً لقوته , وكذلك الغل , وكل عذاب قوي واشتد. {وطعاماً ذا غُصَّةٍ} فيه وجهان: أحدهما: أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولايخرج , قاله ابن عباس. الثاني: أنها شجرة الزقوم , قاله مجاهد. {وكانت الجبالُ كَثيباً مَهيلاً} فيه وجهان: أحدهما: رملاً سائلاً , قاله ابن عباس. الثاني: أن المهيل الذي إذا وطئه القدم زل من تحتها وإذا أخذت أسفله انهال أعلاه , قاله الضحاك والكلبي. {فأخَذْناه أَخْذاً وبيلاً} فيه أربعة تأويلات: أحدهما: شديداً , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: متتابعاً , قاله ابن زيد. الثالث: ثقيلاً غليظاً , ومنه قيل للمطر العظيم وابل , قاله الزجاج. الرابع: مهلكاً , ومنه قول الشاعر:
(أكْلتِ بَنيكِ أَكْلَ الضّبِّ حتى ... وَجْدتِ مرارةَ [الكلإ الوبيل] .)
{فكيف تتّقونَ} يعني يوم القيامة.(6/130)
{إن كفَرتم يوماً يجْعَل الولدان شيباً} الشيب: جمع أشيب , والأشيب والأشمط الذي اختلط سواد شعره ببياضه , وهو الحين الذي يقلع فيه ذو التصابي عن لهوه , قال الشاعر:
(طرْبتَ وما بك ما يُطرِب ... وهل يلعب الرجلُ الأَشْيَبُ)
وإنما شاب الولدان في يوم القيامة من هوْله. {السماءُ مُنفطرٌ به} فيه أربعة أوجه: أحدها: ممتلئة به , قاله ابن عباس. الثاني: مثقلة , قاله مجاهد. الثالث: مخزونة به , قاله الحسن. الرابع: منشقة من عظمته وشدته , قاله ابن زيد. {وكانَ وعْدُه مَفْعولاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وعده بأن السماء منفطر به , وكون الجبال كثيباً مهيلاً , وأن يجعل الولدان شيباً , قاله يحيى بن سلام. الثاني: وعده بأن يظهر دينه على الدين كله , قاله مقاتل. الثالث: وعده بما بشّر وأنذر من ثوابه وعقابه. وفي المعنى المكنى عنه في قوله (به) وجهان: أحدهما: أن السماء منفطرة باليوم الذي يجعل الولدان شيباً , فيكون اليوم قد جعل الولدان شيباً , وجعل السماء منفطرة ويكون انفطارها للفناء. الثاني: معناه أن السماء منفطرة بما ينزل منها بأن يوم القيامة يجعل الولدان شيباً , ويكون انفطارها بانفتاحها لنزول هذا القضاء منها.(6/131)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
{إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم(6/131)
مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} { ... . واللَّهُ يُقدِّرُ الليلَ والنهارَ} يعني يقدر ساعتهما , فاحتمل ذلك وجهين: أحدهما: تقديرهما لأعمال عباده. الثاني: لقضائه في خلْقه. {عَلِمَ أن لن تُحْصُوهُ} فيه وجهان: أحدهما: لن تطيقوا قيام الليل , قاله الحسن. الثاني: يريد تقدير نصف الليل وثلثه وربعه , قاله الضحاك. {فتابَ عليكم} يحتمل وجهين: أحدهما: فتاب عليكم من تقصيركم فيما مضى , فاقرؤوا في المستبقل ما تيسر. الثاني: فخفف عنكم. {فاقْرءُوا ما تيسّر مِنَ القُرآنِ} فيه وجهان: أحدهما: فصلّوا ما تيسّر من الصلاة , فعبر عن الصلاة بالقرآن لما يتضمنها من القرآن. فعلى هذا يحتمل في المراد بما تيسر من الصلاة وجهان: أحدهما: ما يتطوع به من نوافله لأن الفرض المقدر لا يؤمر فيه بما تيسر. الثاني: أنه محمول على فروض الصلوات الخمس لانتقال الناس من قيام الليل إليها , ويكون قوله (ما تيسر) محمولاً على صفة الأداء في القوة والضعف , والصحة والمرض , ولا يكون محمولاً على العدد المقدر شرعاً. الثاني: أن المراد بذلك قراءة ما تيسر من القرآن حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ. فعلى هذا فيه وجهان:(6/132)
أحدهما: أن المراد به قراءة القرآن في الصلاة فيكون الأمر به واجباً لوجوب القراءة في الصلاة. واختلف في قدر ما يلزمه أن يقرأ به من الصلاة , فقدره مالك والشافعي بفاتحة الكتاب , لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها , وقدرها أبو حنيفة بآية واحدة من أيّ القرآن كانت. والوجه الثاني: أن المراد به قراءة القرآن من غير الصلاة , فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولاً على الوجوب أو على الاستحباب؟ على وجهين: أحدهما: أنه محمول على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه , ودلائل التوحيد فيه وبعث الرسل , ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه , لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة. الثاني: أنه محمول على الاستحباب دون الوجوب , وهذا قول الأكثرين لأنه لو وجب عليه أن يقرأه وجب عليه أن يحفظه. وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقاويل: أحدها: جميع القرآن , لأن اللَّه تعالى قد يسره على عباده , قاله الضحاك. الثاني: ثلث القرآن , حكاه جويبر. الثالث: مائتا آية , قاله السدي. الرابع: مائة آية , قاله ابن عباس. الخامس: ثلاث آيات كأقصر سورة , قاله أبو خالد الكناني. {عَلِم أنْ سيكونُ منكم مَّرْضَى} ذكر الله أسباب التخفيف , فذكر منها المرض لأنه يُعجز. ثم قال: {وآخرون يَضْرِبون في الأرض} فيه وجهان: أحدهما: أنهم المسافرون , كما قال عز وجلّ: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} . الثاني: أنه التقلُّب للتجارة لقوله تعالى: {يبتغونَ من فضلِ اللَّه} , قاله ابن مسعود يرفعه , وهو قول السدي.(6/133)
{وآخَرونَ يُقاتِلون في سبيل اللَّهِ} يعني في طاعته , وهم المجاهدون. {فاقْرؤوا ما تيسّر منه} نسخ ما فرضه في أول السورة من قيام الليل وجعل ما تيسر منه تطوعاً ونفلاً , لأن الفرض لا يؤمر فيه بفعل ما تيسر منه. وقد ذكرنا في أول السورة الأقاويل في مدة الفرض. {وأقيموا الصلاة} يعني المفروضة , وهي الخمس لوقتها. {وآتُوا الزكاةَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها ها هنا طاعة اللَّه والإخلاص له , قاله ابن عباس. الثاني: أنها صدقة الفطر , قاله الحارث العكلي. الثالث: أنها زكاة الأموال كلها , قاله قتادة وعكرمة. {وأقْرِضوا اللَّه قَرْضاً حَسَناً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه النوافل بعد الفروض , قاله ابن زيد. الثاني: قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر , قاله ابن حبان. الثالث: النفقة على الأهل , قاله زيد بن أسلم. الرابع: النفقة من سبيل الله , وهذا قول عمر رضي الله عنه. الخامس: أنه أمر بفعل جميع الطاعات التي يستحق عليها الثواب. {تجدُوه عِندَ اللهِ} يعني تجدوا ثوابه عند الله {هو خيراً} يعني مما أعطيتم وفعلتم. {وأعظم أجرا} قال أبو هريرة: الجنة. ويحتمل أن يكون (أعظم أجرا) الإعطاء بالحسنة عشراً. {واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} يعني من ذنوبكم. {إنّ اللَّه غَفورٌ} لما كان قبل التوبة. {رحيمُ} بكم بعدها , قاله سعيد بن جبير.(6/134)
سورة المدثر
بسم الله الرحمن الرحيم(6/135)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
{يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير} قوله تعالى: {يا أيها المدَّثِّر} فيه قولان: أحدهما: يا أيها المدثر بثيابه , قاله قتادة. الثاني: بالنبوة وأثقالها , قاله عكرمة. {قم} من نومك {فأنذر} قومك عذاب ربك. ويحتمل وجهاً ثالثاً: يا أيها الكاتم لنبوته اجهر بإنذارك. ويحتمل هذا الإنذار وجهين: أحدهما: إعلامهم بنبوته لأنه مقدمة الرسالة. الثاني: دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود بها. قال ابن عباس وجابر هي أول سورة نزلت. {وثيابَك فَطِّهرْ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن المراد بالثياب العمل. الثاني: القلب.(6/135)
الثالث: النفْس. الرابع: النساء والزوجات. الخامس: الثياب الملبوسات على الظاهر. فمن ذهب على أن المراد بها العمل قال تأويل الآية: وعملك فأصلح , قاله مجاهد , ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات فيها) يعني عمله الصالح والطالح. ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب القلب فالشاهد عليه قول امرىء القيس:
(وإن تك قد ساءتك مني خليقةٌ ... فسلّي ثيابي من ثيابكِ تنسلِ)
ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: وقلبك فطهر من الغدر وهذا مروي عن ابن عباس , واستشهد بقول الشاعر:
(فإني بحْمدِ الله لا ثوْبَ فاجر ... لبست ولا مِن غَدْرةٍ أَتَقَنّع.)
ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب النفس فلأنها لابسة الثياب , فكنى عنها بالثياب , ولهم في تأويل الآية ثلاثة أوجه: أحدها: معناه ونفسك فطهر مما نسبك إليه المشركون من شعر أو سحر أو كهانة أو جنون , رواه ابن أبي نجيح وأبو يحيى عن مجاهد. الثاني: ونفسك فطهرها مما كنت تشكو منه وتحذر , من قول الوليد بن المغيرة , قاله عطاء. الثالث: ونفسك فطهرها من الخطايا , قاله عامر. ومن ذهب إلى أن المراد النساء والزوجات فلقوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم(6/136)
لباس لهن} [البقرة: 187] ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف. الثاني: الاستمتاع بهن من القبل دون الدبر , وفي الطهر دون الحيض , حكاهما ابن بحر. ومن ذهب إلى أن المراد بها الثياب الملبوسة على الظاهر , فلهم في تأويله أربعة أوجه: أحدها: معناه وثيابك فأنْقِ , رواه عطاء عن ابن عباس , ومنه قول امرىء القيس:
(ثياب بني عَوفٍ طهارى نقيّةٌ ... وأَوْجُهُهُمْ عند المشاهد غُرّان)
الثاني: وثيابك فشمّر وقصّر , قاله طاووس. الثالث: وثيابك فطهر من النجاسات بالماء , قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء. الرابع: معناه لا تلبس ثياباً إلا [من] كسب حلال مطهرة من الحرام. {والرُّجْزَ فاهْجُرْ} فيه ستة تأويلات: أحدها: يعني الآثام والأصنام , قاله جابر وابن عباس وقتادة والسدي. الثاني: والشرك فاهجر، قاله ابن جبير. الثالث: والذنب فاهجر , قاله الحسن. الرابع: والإثم فاهجر , قال السدي. الخامس: والعذاب فاهجر , حكاه أسباط. السادس: والظلم فاهجر , ومنه قول رؤبة بن العجاج.
(كم رامنا من ذي عديد منه ... حتى وَقَمْنا كيدَه بالرجزِ.)
قاله السدي: الرَّجز بنصب الراء: الوعيد. {ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر} فيه أربعة تأويلات:(6/137)
أحدها: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها , قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة , قال الضحاك: هذا حرمه الله تعالى على رسول وأباحه لأمته. الثاني: معناه لا تمنن بعملك تستكثر على ربك , قاله الحسن. الثالث: معناه لا تمنن بالنبوة على الناس تأخذ عليها منهم أجراً , قاله ابن زيد. الرابع: معناه لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه , قاله مجاهد. ويحتمل تأويلاً خامساً: لا تفعل الخير لترائي به الناس. {ولِربِّك فاصْبِرْ} أما قوله (وَلِرَبِّكَ) ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: لأمر ربك. الثاني: لوعد ربك. الثالث: لوجه ربك. وفي قوله (فاصْبِرْ سبعة تأويلات: أحدها: فاصْبِرْ على ما لاقيت من الأذى والمكروه قاله مجاهد. الثاني: على محاربة العرب ثم العجم , قاله ابن زيد. الثالث: على الحق فلا يكن أحد أفضل عندك فيه من أحد , قاله السدي. الرابع: فاصْبِرْ على عطيتك لله , قاله إبراهيم. الخامس: فاصْبِرْ على الوعظ لوجه الله , قاله عطاء. السادس: على انتظام ثواب عملك من الله تعالى , وهو معنى قول ابن شجرة. السابع: على ما أمرك الله من أداء الرسالة وتعليم الدين , حكاه ابن عيسى. {فإذا نُقِرَ في الناقُورِ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني نفخ في الصور , قاله ابن عباس , وهل المراد النفخة الأولى أو الثانية؟ قولان: أحدهما: الأولى. والثاني: الثانية. - الثاني: أن الناقور القلب يجزع إذا دعي الإنسان للحساب , حكاه ابن كامل. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن الناقور صحف الأعمال إذا نشرت للعرض.(6/138)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
{ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر} {ذرْني ومَنْ خَلَقْتُ وَحيداً} قال المفسرون يعني الوليد بن المغيرة المخزومي وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه , وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة لأذى الرسول. وفي قوله تعالى: (وحيداً) تأويلان: أحدهما: أن الله تفرد بخلقه وحده. الثاني: خلقه وحيداً في بطن أُمّه لا مال له ولا ولد , قاله مجاهد , فعلى هذا الوجه في المراد بخلقه وحيداً وجهان: أحدهما: أن يعلم به قدر النعمةعليه فيما أعطي من المال والولد. الثاني: أن يدله بذلك على أنه يبعث وحيداً كما خلق وحيداً. {وجَعَلْتُ له مالاً مَمْدوداً} فيه ثمانية أقاويل: أحدها: ألف دينار , قاله ابن عباس. الثاني: أربعة الآف دينار , قاله سفيان. الثالث: ستة الآف دينار , قاله قتادة. الرابع: مائة ألف دينار , قاله مجاهد. الخامس: أنها أرض يقال لها ميثاق , وهذا مروي عن مجاهد أيضاً. السادس: أنها غلة شهر بشهر , قاله عمر رضي الله عنه. السابع: أنه الذي لا ينقطع شتاء ولا صيفاً , قاله السدي. الثامن: أنها الأنعام التي يمتد سيرها في أقطار الأرض للمرعى والسعة , قاله ابن بحر.(6/139)
ويحتمل تاسعاً: أن سيتوعب وجوه المكاسب فيجمع بين زيادة الزراعة وكسب التجارة ونتاج المواشي فيمد بعضها ببعض لأن لكل مكسب وقتاً. ويحتمل عاشراً: أنه الذي يتكون نماؤه من أصله كالنخل والشجر. {وبَنينَ شُهوداً} اختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم كانوا عشرة , قاله السدي. الثاني: قال الضحاك: كان له سبعة ولدوا بمكة , وخمسة ولدوا بالطائف. الثالث: أنهم كانوا ثلاثة عشر رجلاً , قاله ابن جبير. وفي قوله (شهوداً) ثلاثة تأويلات: أحدها: أنهم حضور معه لا يغيبون عنه , قاله السدي. الثاني: أنه إذا ذكر ذكروا معه , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم كلهم رب بيت , قاله ابن جبير. ويحتمل رابعاً: أنهم قد صاروا مثله من شهود ما كان يشهده , والقيام بما كان يباشره. {ومَهّدْت له تَمْهيداً} فيه وجهان: أحدها: مهدت له من المال والولد , قاله مجاهد. الثاني: مهدت له الرياسة في قومه , قاله ابن شجرة. ويحتمل ثالثاً: أنه مهد له الأمر في وطنه حتى لا ينزعج عنه بخوف ولا حاجة. {ثم يَطْمَعُ أنْ أَزيدَ} فيه وجهان: أحدهما: ثم يطمع أن أدخله الجنة , كلاّ , قاله الحسن. الثاني: أن أزيده من المال والولد (كلاّ) قال ابن عباس: فلم يزل النقصان في ماله وولده. ويحتمل وجهاً ثالثاً: ثم يطمع أن أنصره على كفره. {كلاّ إنه كان لآياتِنَا عَنيداً} في المراد (بآياتنا) ثلاثة أقاويل: أحدها: القرآن , قاله ابن جبير. الثاني: محمد صلى الله عليه وسلم , قاله السدي.(6/140)
الثالث: الحق , قاله مجاهد. وفي قوله (عنيداً) أربعة تأويلات: أحدها: معاند , قاله مجاهد وأبو عبيدة , وأنشد قول الحارثي:
(إذا نزلت فاجعلاني وسطا ... إني كبير لا أطيق العُنَّدا)
الثاني: مباعد , قاله أبو صالح , ومنه قول الشاعر:
(أرانا على حال تفرِّق بيننا ... نوى غُرْبَةٍ إنّ الفراق عنود.)
الثالث: جاحد , قاله قتادة. الرابع: مُعْرض , قاله مقاتل. ويحتمل تأويلاً خامساً: أنه المجاهر بعداوته. {سأرْهِقُه صَعُوداً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: مشقة من العذاب , قاله قتادة. الثاني: أنه عذاب لا راحة فيه , قاله الحسن. الثالث: أنها صخرة في النار ملساء يكلف أن يصعدها , فإذا صعدها زلق منها , وهذا قول السدي. الرابع: ما رواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم (سأرهقه صعودا) قال: (هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده , فإذا وضع يده عيله ذابت , وإذا رفعها عادت , وإذا وضع رجله ذابت , وإذا رفعها عادت) . ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل قولاً خامساً: أنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه. {إنه فكَّر وقَدَّر} قال قتادة: زعموا أن الوليد بن المغيرة قال: لقد نظرت فيما قال هذا الرجل فإذا هو ليس بشعر , وإن له لحلاوة , وإن عليه لطلاوة , وإنه ليعلو وما يُعْلَى , وما أشك أنه سحر , فهو معنى قوله (فكر وقدّر) أي فكر في القرآن فيما إنه سحر وليس بشعر.(6/141)
ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يكون فكّر في العداوة وقدّر في المجاهدة. {فقُتِلَ كيف قَدَّرَ} فيه وجهان: أحدهما: أي عوقب ثم عوقب , فيكون العقاب تكرر عليه مرة بعد أخرى. الثاني: أي لعن ثم لعن كيف قدر أنه ليس بشعر ولا كهانة , وأنه سحر. {ثم نَظَرَ} يعني الوليد بن المغيرة , وفي ما نظر فيه وجهان: أحدهما: أنه نظر في الوحي المنزل من القرآن , قاله مقاتل. الثاني: أنه نظر إلى بني هاشم حين قال في النبي صلى الله عليه وسلم إنه ساحر , ليعلم ما عندهم. ويحتمل ثالثاً: ثم نظر إلى نفسه فيما أُعطِي من المال والولد فطغى وتجبر. {ثم عَبَسَ وبَسَرَ} أما عبس فهو قبض ما بين عينينه , وبَسَرَ فيه وجهان: أحدهما: كلح وجهه , قاله قتادة , ومنه قول بشر بن أبي خازم:
(صبحنا تميماً غداة الجِفار ... بشهباءَ ملمومةٍ باسِرةَ)
الثاني: تغيّر , قاله السدي , ومنه قول توبة:
(وقد رابني منها صدودٌ رأيتُه ... وإعْراضها عن حاجتي وبُسورها.)
واحتمل أن يكون قد عبس وبسر على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه. واحتمل أن يكون على من آمن به ونصره. وقيل إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة , وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة. {ثم أَدْبَر واسْتَكْبَرَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أدبر عن الحق واستكبر عن الطاعة. الثاني: أدبر عن مقامه واستكبر في مقاله. {فقال إنْ هذا إلا سِحْرٌ يُؤْثَر} قال ابن زيد: إن الوليد بن المغيرة قال: إنْ هذا القرآن إلا سحر يأثره محمد عن غيره فأخذه عمن تقدمه. ويحتمل وجهاً آخر: أن يكون معناه أن النفوس تؤثر لحلاوته فيها كالسحر.(6/142)
{إنْ هذا إلا قَوْلَ البَشِرِ} أي ليس من كلام الله تعالى , قال السدي: يعنون أنه من قول أبي اليسر عَبْدٌ لبني الحضرمي كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم , فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك. {سأصْليه سَقَرَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه اسم من أسماء جهنم مأخوذ من قولهم: سقرته الشمس إذا آلمت دماغه , فسميت جهنم بذلك لشدة إيلامها. {وما أدراك ما سَقَر لا تُبقي ولا تذر} فيه وجهان: أحدهما: لا تبقي من فيها حياً , ولا تذره ميتاً , قاله مجاهد. الثاني: لا تبقي أحداً من أهلها أن تتناوله , ولا تذره من العذاب , حكاه ابن عيسى. ويحتمل وجهاً ثالثاً: لا تبقيه صحيحاً , ولا تذره مستريحاً. {لوّاحَةً للبَشَرِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: مغيرة لألوانهم , قال أبو رزين تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل. الثاني: تحرق البشر حتى تلوح العظم , قاله عطية. الثالث: أن بشرة أجسادهم تلوح على النار , قاله مجاهد. الرابع: أن اللواح شدة العطش , والمعنى أنها معطشة للبشر , أي لأهلها , قاله الأخفش , وأنشد:
(سَقَتْني على لوْحٍ من الماءِ شَرْبةً ... سقاها به الله الرهامَ الغواديا.)
يعني باللوح شدة العطش: ويحتمل خامساً: أنها تلوح للبشر بهولها حتى تكون أشد على من سبق إليها , وأسرّ لمن سلم منها. وفي البشر وجهان: أحدهما: أنهم الإنس من أهل النار , قالهالأخفش والأكثرون. الثاني: أنه جمع بشرة , وهي جلدة الإنسان الظاهرة , قاله مجاهد وقتادة.(6/143)
{عليها تسعةَ عَشَرَ} هؤلاء خزنة جهنم وهم الزبانية , وعددهم هذا الذي ذكره الله تعالى , وروى عامر عن البراء أن رهطاً من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم , فأهوى بأصابع كفيه مرتين , فأمسك الإبهام في الثانية , وأخبر الله عنهم بهذا العدد , وكان الاقتصار عليه دون غيره من الأعداد إخباراً عمن وكل بها وهو هذا العدد , وموافقة لما نزل به التوراة والإنجيل من قبل. وقد يلوح لي في الاقتصار على هذا العدد معنى خفي يجوز أن يكون مراداً , وهو أن تسعة عشر عدد يجمع أكثر القليل من العدد وأقل الكثير , لأن العدد آحاد وعشرات ومئون وألوف , والآحاد أقل الأعداد , وأكثر الآحاد تسعة , وما سوى الآحاد كثير وأقل الكثير عشرة , فصارت التسعة عشر عدداً يجمع من الأعداد أكثر قليلها , وأقل كثيرها , فلذلك ما وقع عليها الاقتصار والله أعلم للنزول عن أقل القليل وأكثر الكثير فلم يبق إلا ما وصفت. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن يكون الله حفظ جهنم حتى ضبطت وحفظت بمثل ما ضبطت به الأرض وحفظت به من الجبال حتى رست وثبتت , وجبال الأرض التي أرسيت بها واستقرت عليها تسعة عشر جبلاً , وإن شعب فروعها تحفظ جهنم بمثل هذا العدد , لأنها قرار لعُصاة الأرض من الإنس والجن , فحفظت مستقرهم في النار بمثل العدد الذي حفظ مستقرهم في الأرض , وحد الجبل ما أحاطت به أرض تتشعب فيها عروقه ظاهره ولا باطنه , وقد عد قوم جبال الأرض فإذا هي مائة وتسعون جبلاً , واعتبروا انقطاع عروقها رواسي وأوتاداً , فهذان وجهان يحتملهما الاستنباط , والله أعلم بصواب ما استأثر بعلمه. وذكر من يتعاطى العلوم العقلية وجهاً ثالثاً: أن الله تعالى حفظ نظام خلقه ودبر ما قضاه في عباده بتسعة عشر جعلها المدبرات أمراً وهي سبعة كواكب واثنا عشر(6/144)
برجاً , فصار هذا العدد أصلاً في المحفوظات العامة , فلذلك حفظ جهنم , وهذا مدفوع بالشرع وإن راق ظاهره. ثم نعود إلى تفسير الآية , روى قتادة أن الله تعالى لما قال: (عليها تسعة عشر) قال أبو جهل: يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم أن يأخذوا واحداً منهم وأنتم أكثر منهم. قال السدي: وقال أبو الأشد بن الجمحي: لا يهولنكم التسعة عشر أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة , وبمنكبي الأيسر التسعة ثم تمرون إلى الجنة , يقولها مستهزئاً.(6/145)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
{وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} {وما جَعَلْنَا أصحابَ النارِ إلا ملائكةً وما جعلْنا عدَّتهم إلا فِتْنةً للذين كَفَروا} وروى ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم نعت خزنة جهنم فقال: كأن أعينهم البرق , وكأن(6/145)
أفواههم الصياصي , يجرون شعورهم , لأحدهم مثل قوة الثقلين , يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار , ويرمي الجبل عليهم. {ليَسْتَيْقِنَ الذين أُوتوا الكتابَ} فيه وجهان: أحدهما: ليستيقنوا عدد الخزنة لموافقة التوراة والإنجيل , قاله مجاهد. الثاني: ليستيقنوا أن محمداً نبي لما جاء به من موافقة عدة الخزنة. {ويَزْدادَ الذين آمَنوا إيماناً} بذلك , قاله جريج. {وما هي إلا ذِكْرى للبَشَرِ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وما نار جهنم إلا ذكرى للبشر , قاله قتادة. الثاني: وما هذه النار في الدنيا إلا تذكرة لنار الآخرة , حكاه ابن عيسى. الثالث: وما هذه السورة إلا تذكرة للناس , قاله ابن شجرة. {كلا والقَمرِ} الواو في (والقمر) واو القسم , أقسم الله تعالى به , ثم أقسم بما بعده فقال: {والليلِ إذا أَدْبَرَ} فيه وجهان: أحدهما: إذ ولّى , قاله ابن عباس. الثاني: إذ أقبل عند إدبار النهار قاله أبو عبيدة , وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن إذا دبر , وهي قراءة ابن مسعود وأُبي بن كعب. واختلف في أدبر ودبر على قولين: - أحدهما: أنهما لغتان ومعناهما واحد , قاله الأخفش. - الثاني: أن معناهما مختلفان , وفيه وجهان: أحدهما: أنه دبر إذا خلقته خلفك , وأدبر إذا ولى أمامك , قاله أبو عبيدة. الثاني: أنه دبر إذا جاء بعد غيره وعلى دبر , وأدبر إذا ولى مدبراً , قاله ابن بحر. {والصُّبْحِ إذا أَسْفَرَ} يعني أضاء وهذا قسم ثالث. {إنها لإحْدَى الكُبَرِ} فيها ثلاثة تأويلات: أحدها: أي أن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم لإحدى الكبر , أي الكبيرة من الكبائر، قاله(6/146)
ابن عباس. الثاني: أي أن هذه النار لإحدى الكبر , أي لإحدى الدواهي. الثالث: أن هذه الآية لإحدى الكبر , حكاه ابن عيسى. ويحتمل رابعاً: أن قيام الساعة لإحدى الكبر , والكُبَرُ هي العظائم والعقوبات والشدائد , قال الراجز:
(يا ابن المُغَلّى نزلتْ إحدى الكُبَرْ ... داهية الدهرِ وصَمّاءُ الغِيَرْ.)
{نذيراً للبشر} فيه وجهان: أحدهما: أن محمداً صلى الله عليه وسلم نذير للبشر حين قاله له (قم فأنذر) قاله ابن زيد. الثاني: أن النار نذير للبشر , قال الحسن: والله ما أنذر الخلائق قط بشيء أدهى منها. ويحتمل ثالثاً: أن القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد. {لمن شاءَ منكم أن يتقدّم أو يتأَخّرَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتقدم في طاعة الله , أو يتأخر عن معصية الله , وهذا قول ابن جريج. الثاني: أن يتقدم في الخير أو يتأخر في الشر , قاله يحيى بن سلام. الثالث: أن يتقدم إلى النار أو يتأخر عن الجنة , قاله السدي. ويحتمل رابعاً: لمن شاء منكم أن يستكثر أو يقصر , وهذا وعيد وإن خرج مخرج الخبر.(6/147)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
{كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة كلا بل لا يخافون الآخرة كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره(6/147)
وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة} {كلُّ نفْسٍ بما كَسَبَتْ رَهينةٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ان كل نفس مرتهنة محتسبة بعملها لتحاسب عليه , إلا أصحاب اليمين , وهم أطفال المسلمين فإنه لا حساب عليهم لأنه لا ذنوب لهم , قاله عليٌّ رضي الله عنه. الثاني: كل نفس من أهل النار مرتهنة في النار إلا أصحاب اليمين وهم المسلمون , فإنهم لا يرتهنون , وهم إلى الجنة يسارعون , قاله الضحاك. الثالث: كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين وهم أهل الجنة , فإنهم لا يحاسبون , قاله ابن جريج. {وكنّا نَخُوض مع الخائضينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: نكذب مع المكذبين , قاله السدي. الثاني: كلما غوى غاو غوينا معه , قاله قتادة. الثالث: قولهم محمد كاهن , محمد ساحر , محمد شاعر , قاله ابن زيد. ويحتمل رابعاً , وكنا أتباعاً ولم نكن مبتوعين. {وكنّا نًكذّب بيوم الدِّين} يعني يوم الجزاء وهو يوم القيامة. {حتى أتانا اليقين} فيه وجهان: أحدهما: الموت , قاله السدي. الثاني: البعث يوم القيامة. {فما لهم عن التَذْكِرَةِ مُعْرِضين} قال قتادة: عن القرآن. ويحتمل ثالثاً: عن الاعتبار بعقولهم. {كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرةٌ} قرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء , يعني مذعورة وقرأ الباقون بكسرها , يعني هاربة , وأنشد الفراء:
(أمْسِكْ حمارَك إنه مُستنفِرٌ ... في إثْر أحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ.)
{فَرَّتْ من قَسْورةٍ} فيه ستة تأويلات:(6/148)
أحدها: أن القسورة الرماة , قاله ابن عباس. الثاني: أنه القناص أي الصياد , ومنه قول علي:
(يا ناس إني مثل قسورةٍ ... وإنهم لعداة طالما نفروا.)
الثالث: أنه الأسد , قاله أبو هريرة , روى يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه الأسد بلسان الحبشة , قال الفرزدق:
(إلى هاديات صعاب الرؤوس ... فساروا للقسور الأصيد.)
الرابع: أنهم عصب من الرجال وجماعة , رواه أبو حمزة عن ابن عباس. الخامس: أنه أصوات الناس , رواه عطاء عن ابن عباس. السادس: أنه النبيل , قاله قتادة. {بل يريد كلُّ امرىءٍ منهم أنْ يُؤْتى صحُفاً مُنَشّرةً} يعني كتباً منشورة وفيه أربعة أوجه: أحدها: أن يؤتى كتاباً من الله أن يؤمن بمحمد , قاله قتادة. الثاني: أن يؤتى براءة من النار أنه لا يقذف بها , قاله أبو صالح. الثالث: أن يؤتى كتاباً من الله بما أحل له وحرم عليه , قاله مقاتل. الرابع: أن كفار قريش قالوا إن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد ذنباً وجده مكتوباً في رقعة , فما بالنا لا نرى ذلك فنزلت الآية , قاله الفراء. {هو أهل التقْوَى وأهل المغْفِرةِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو أهل أن تتقى محارمه , وأهل أن يغفر الذنوب , قاله قتادة. الثاني: هو أهل أن يتقى أن يجعل معه إله غيره , وأهل لمن اتقاه أن يغفر له , وهذا معنى قول رواه أنس مرفوعاً. الثالث: هو أهل أن يتقى عذابه وأهل أن يعمل بما يؤدي إلى مغفرته. ويحتمل رابعاً: أهل الانتقام والإنعام.(6/149)
سورة القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم(6/150)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
{لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره} قوله تعالى: {لا أُقسِم بيومِ القيامةِ} اختلفوا في (لا) المبتدأ بها في أول الكلام على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها صلة دخلت مجازاً ومعنى الكلام أقسم بيوم القيامة , قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة , ومثله قول الشاعر:
(تَذكّرْت ليلى فاعْتَرْتني صَبابةٌ ... وكاد ضمير القلْبِ لا يتَقطّع.)
... الثاني: أنها دخلت توكيداً للكلام كقوله: لا والله , وكقول امرىء القيس:
(فلا وأبيكِ ابنةَ العامريّ ... لا يدّعي القوم أني أَفِرْ.)
قاله أبو بكر بن عياش. الثالث: أنها رد لكلام مضى من كلام المشركين في إنكار البعث , ثم ابتدأ(6/150)
القسم فقال: أقسم بيوم القيامة , فرقاً بين اليمين المستأنفة وبين اليمين تكون مجدداً , قاله الفراء. وقرأ الحسن: لأقْسِمُ بيوم القيامة , فجعلها لاماً دخلت على ما أُقسم إثباتاً للقسم , وهي قراءة ابن كثير. {ولا أُقْسِم بالنّفْسِ اللوّامةِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه تعالى أقسم بالنفس اللوامة كما أقسم بيوم القيامة فيكونان قَسَمَيْن , قاله قتادة. الثاني: أنه أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة , قاله الحسن , ويكون تقدير الكلام: أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة. وفي وصفها باللوامة قولان: أحدهما: أنها صفة مدح , وهو قول من جعلها قسماً: الثاني: أنها صفة ذم , وهو قول من نفى أن يكون قسماً. فمن جعلها صفة مدح فلهم في تأويلها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها التي تلوم على ما فات وتندم , قاله مجاهد , فتلوم نفسها على الشر لم فعلته , وعلى الخير أن لم تستكثر منه. الثاني: أنها ذات اللوم , حكاه ابن عيسى. الثالث: أنها التي تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها. فعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى اللائمة. ومن جعلها صفة ذم فلهم في تأويلها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها المذمومة , قاله ابن عباس. الثاني: أنها التي تلام على سوء ما فعلت. الثالث: أنها التي لا صبر لها على محن الدنيا وشدائدها , فهي كثيرة اللوم فيها , فعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى الملومة. {أيَحْسَب الإنسان} يعني الكافر. {أنْ لن نَجْمَعَ عِظامَه} فنعيدها خلقاً جديداً بعد أن صارت رفاتاً.(6/151)
{بلى قادِرينَ على أنْ نُسوّيَ بَنانه} في قوله (بلى) وجهان: أحدهما: أنه تمام قوله (أن لن نجمع عظامه) أي بلى نجمعها , قاله الأخفش. الثاني: أنها استئناف بعد تمام الأول بالتعجب بلى قادرين , الآية وفيه وجهان: أحدهما: بلى قادرين على أن نسوي مفاصله ونعيدها للبعث خلقاً جديداً , قاله جرير بن عبد العزيز. الثاني: بلى قادرين على أن نجعل كفه التي يأكل بها ويعمل حافر حمار أو خف بعير , فلا يأكل إلا بفيه , ولا يعمل بيده شيئاً , قاله ابن عباس وقتادة. {بل يريد الإنسان ليَفْجُرَ أمامَه} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه أن يقدم الذنب ويؤخر التوبة , قاله القاسم بن الوليد. الثاني: يمضي أمامه قدُماً لا ينزع عن فجور , قاله الحسن. الثالث: بل يريد أن يرتكب الآثام في الدنيا لقوة أمله , ولا يذكر الموت , قاله الضحاك. الرابع: بل يريد أن يكذب بالقيامة ولا يعاقب بالنار , وهو معنى قول ابن زيد. ويحتمل وجهاً خامساً: بل يريد أن يكذب بما في الآخرة كما كذب بما في الدنيا , ثم وجدت ابن قتيبة قد ذكره وقال إن الفجور التكذيب واستشهد بأن أعرابياً قصد عمر بن الخطاب وشكا إليه نقب إبله ودبرها , وسأله أن يحمله على غيرها , فلم يحمله , فقال الأعرابي:
(أقسم بالله أبو حفصٍ عُمَرْ ... ما مسّها مِن نَقَبٍ ولا دَبَرْ)
89 (فاغفر له اللهم إنْ كان فجَرْ} 9
يعني إن كان كذبني بما ذكرت. {فإذا بَرِقَ البصرُ} فيه قراءتان: إحداهما: بفتح الراء , وقرأ بها أبان عن عاصم , وفي تأويلها وجهان: أحدهما: يعني خفت وانكسر عند الموت , قاله عبد الله بن أبي إسحاق. الثاني: شخص وفتح عينه عند معاينة ملك الموت فزعاً , وأنشد الفراء:(6/152)
(فنْفسَكَ فَانْعَ ولا تْنعَني ... وداوِ الكُلومَ ولا تَبْرَقِ.)
أي ولا تفزع من هول الجراح. الثانية: بكسر الراء وقرأ بها الباقون , وفي تأويلها وجهان: أحدهما: عشى عينيه البرق يوم القيامة , قاله أشهب العقيلي , قال الأعشى:
(وكنتُ أرى في وجه مَيّةَ لمحةً ... فأبرِق مَغْشيّاً عليّ مكانيا.)
الثاني: شق البصر , قاله أبو عبيدة وأنشد قول الكلابي:
(لما أتاني ابن عمير راغباً ... أعطيتُه عيساً صِهاباً فبرق.)
{وخَسَفَ القمرُ} أي ذهب ضوؤه , حتى كأنّ نوره ذهب في خسفٍ من الأرض. {وجُمِعَ الشمسُ والقمرُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه جمع بينهما في طلوعهما من المغرب [أسودين مكورين] مظلمين مقرنين. الثاني: جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف لتكامل إظلام الأرض على أهلها , حكاه ابن شجرة. الثالث: جمع بينهما في البحر حتى صارا نار الله الكبرى. {يقولُ الإنسانُ يومئذٍ أين المفرُّ} أي أين المهرب , قال الشاعر:
(أين أفِرّ والكباشُ تنتطحْ ... وأيّ كبشٍ حاد عنها يفتضحْ.)
ويحتمل وجهين: أحدهما: (أين المفر) من الله استحياء منه. الثاني: (أين المفر) من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين: أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة من عرصة القيامة دون المؤمن , ثقة المؤمن ببشرى ربه. الثاني: أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوه منها.(6/153)
ويحتمل هذا القول وجهين: أحدهما: من قول الله للإنسان إذا قاله (أين المفر) قال الله له (كلاّ لا وَزَرَ) الثاني: من قول الإنسان إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه (كلا لا وَزَرَ) {كلاّ لا وَزَرَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أي لا ملجأ من النار , قاله ابن عباس. الثاني: لا حصن , قاله ابن مسعود. الثالث: لا جبل , [قاله الحسن] . الرابع: لا محيص , قاله ابن جبير. {إلى ربِّك يومئذٍ المُسْتَقَرُّ} فيه وجهان: أحدهما: أن المستقر المنتهى , قاله قتادة. الثاني: أنه استقرار أهل الجنة في الجنة , وأهل النار في النار , قاله ابن زيد. {يُنَبّأ الإنسان يوميئذٍ بما قدَّمَ وأَخّرَ} يعني يوم القيامة وفي (بما قدم وأخر) خمسة تأويلات: أحدها: ما قدم قبل موته من خير أو شر يعلم به بعد موته , قاله ابن عباس وابن مسعود. الثاني: ما قدم من معصية , وأخر من طاعة , قاله قتادة. الثالث: بأول عمله وآخره , قاله مجاهد. الرابع: بما قدم من الشر وأخر من الخير , قال عكرمة. الخامس: بما قدم من فرض وأخر من فرض , قاله الضحاك. ويحتمل سادساً: ما قدم لدنياه , وما أخر لعقباه. {بل الإنسانُ على نَفْسِه بَصيرةٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه شاهد على نفسه بما تقدم به الحجة عليه , كما قال تعالى: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} . الثاني: أن جوارحه شاهدة عليه بعمله , قاله ابن عباس , كما قال تعالى: {اليوم نَخْتِمُ على أفواههم وتُكَلِّمنا أيْديهم وتشْهدُ أرجُلُهم بما كانوا يكْسِبون} . الثالث: معناه بصير بعيوب الناس غافل عن عيب نفسه فيما يستحقه لها وعليها من ثواب وعقاب.(6/154)
والهاء في (بصيرة) للمبالغة. {ولو أَلْقَى معاذيرَه} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه لو اعتذر يومئذ لم يقبل منه , قاله قتادة. الثاني: يعني لو ألقى معاذيره أي لو تجرد من ثيابه , قاله ابن عباس. الثالث: لو أظهر حجته , قاله السدي وقال النابغة:
89 (لدىّ إذا ألقى البخيلُ معاذِرَه.} 9
الرابع: معناه ولو أرخى ستوره , والستر بلغة اليمن معذار , قاله الضحاك , قال الشاعر:
(ولكنّها ضَنّتْ بمنزلِ ساعةٍ ... علينا وأطّت فوقها بالمعاذرِ)
ويحتمل خامساً: أنه لو ترك الاعتذار واستسلم لم يُترك.(6/155)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
{لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة} {لا تُحرِّكْ به لسانَكَ لِتعْجَلَ به} فيه وجهان: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه القرآن حرك به لسان يستذكره. مخافة أن ينساه , وكان ناله منه شدة , فنهاه الله تعالى عن ذلك وقال: {إنّ علينا جَمْعَه وقرآنه} , قاله ابن عباس. الثاني: أنه كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له وحلاوته في لسانه , فنهي عن ذلك حتى يجتمع , لأن بعضه مرتبط ببعض , قاله عامر الشعبي.(6/155)
{إنّ علينا جَمْعَهُ وقُرْآنَه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إن علينا جمعه في قلبك لتقرأه بلسانك , قاله ابن عباس. الثاني: عيلنا حفظه وتأليفه , قاله قتادة. الثالث: عيلنا أن نجمعه لك حتى تثبته في قلبك , قاله الضحاك. {فإذا قرأناه فاتّبعْ قُرْآنَه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فإذا بيّناه فاعمل بما فيه , قاله ابن عباس. الثاني: فإذا أنزلناه فاستمع قرآنه , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: فإذا تلي عليك فاتبع شرائعه وأحكامه , قاله قتادة. {ثم إنْ علينا بَيانَه} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: بيان ما فيه من أحكام وحلال وحرام , قاله قتادة. الثاني: علينا بيانه بلسانك إذا نزل به جبريل حتى تقرأه كما أقرأك , قاله ابن عباس. الثالث: علينا أن نجزي يوم القيامة بما فيه من وعد أو وعيد , قاله الحسن. {كلاّ بل تُحِبُّونَ العاجلةَ وتذَرُونَ الآخِرَة} فيه وجهان: أحدهما: تحبون ثواب الدنيا وتذرون ثواب الآخرة , قاله مقاتل. الثاني: تحبون عمل الدنيا وتذرون عمل الآخرة. {وُجوهٌ يومئذٍ ناضِرةٌ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني حسنة , قاله الحسن. الثاني: مستبشرة , قاله مجاهد. الثالث: ناعمة , قاله ابن عباس. الرابع: مسرورة , قاله عكرمة. {إلى رَبِّها ناظرةٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تنظر إلى ربها في القيامة، قاله الحسن وعطية العوفي. الثاني: إلى ثواب ربها، قاله ابن عمر ومجاهد.(6/156)
الثالث: تنتظر أمر ربها , قاله عكرمة. {ووجوهُ يومئذٍ باسرةٌ} فيه وجهان: أحدهما: كالحة , قاله قتادة. الثاني: متغيرة , قاله السدي. {تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بها فاقِرةٌ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الفاقرة الداهية , قاله مجاهد. الثاني: الشر , قاله قتادة. الثالث: الهلاك , قاله السدي. الرابع: دخول النار , قاله ابن زيد.(6/157)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
{كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} {كلا إذا بَلَغَتِ التّراقِيَ} يعني بلوغ الروح عند موته إلى التراقي، وهي أعلى الصدر، واحدها ترقوه. {وقيلَ مَنْ راقٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: قال أَهْله: من راقٍ يرقيه بالرُّقى وأسماء الله الحسنى، قاله ابن عباس. الثاني: مَنْ طبيبٌ شافٍ، قاله أبو قلابة، قال الشاعر:(6/157)
(هل للفتى مِن بنات الدهرِ من واقى ... أم هل له من حمامِ الموتِ من راقي)
الثالث: قال الملائكة: مَن راقٍ يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب , رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. {وظَنَّ أنّه الفِراق} أي تيقن أنه مفارق الدنيا. {والْتَفّتِ الساقُ بالساقِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: اتصال الدنيا بالآخرة , قاله ابن عباس. الثاني: الشدة بالشدة والبلاء بالبلاءِ , وهو شدة كرب الموت بشدة هول المطلع , قاله عكرمة ومجاهد , ومنه قول حذيفة بن أنس الهذلي:
(أخو الحرب إن عضّت به الحربُ عضّها ... وإن شمّرتْ عن ساقها الحرب شمّرا.)
الثالث: التفّت ساقاه عند الموت , وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أن التفاف الساق بالساق عند الميثاق , قال الحسن: ماتت رجلاه فلم تحملاه وقد كان عليهما جوّالاً. الرابع: أنه اجتمع أمران شديدان عليه: الناس يجهزون جسده , والملائكة يجهزون روحه , قاله ابن زيد. {إلى ربِّك يومئذٍ المساقُ} فيه وجهان: أحدهما: المنطلق , قاله خارجة. الثاني: المستقر , قاله مقاتل. {فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى} هذا في أبي جهل , وفيه وجهان: أحدهما: فلا صدّق بكتاب الله ولا صلّى للَّه , قاله قتادة. الثاني: فلا صدّق بالرسالة ولا آمن بالمرسل , وهو معنى قول الكلبي. ويحتمل ثالثاً: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. {ولكن كَذَّبَ وتَوَلَّى} فيه وجهان: أحدهما: كذب الرسول وتولى عن المرسل. الثاني: كذب بالقرآن وتولى عن الطاعة. {ثم ذَهَبَ إلى أَهْلِه يَتَمَطَّى} يعني أبا جهل، وفيه ثلاثة أوجه:(6/158)
أحدها: يختال في نفسه، قاله ابن عباس. الثاني: يتبختر في مشيته، قال زيد بن أسلم وهي مشية بني مخزوم. الثالث: أن يلوي مطاه، والمطا: الظهر، وجاء النهي عن مشية المطيطاء وذلك أن الرجل يلقي يديه مع الكفين في مشيه. {أوْلَى لك فأوْلَى ثم أوْلَى لك فأوْلَى} حكى الكلبي ومقاتل: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل ببطحاء مكة وهو يتبختر في مشيته , فدفع في صدره وهمزه بيده وقال: (أوْلى لك فأولى) فقال أبو جهل: إليك عني أوعدني يا ابن أبي كبشة ما تستطيع أنت ولا ربك الذي أرسلك شيئاً , فنزلت هذه الآية. وفيه وجهان: أحدهما: وليك الشر , قال قتادة , وهذا وعيد على وعيد. الثاني: ويل لك , قالت الخنساء:
(هَممْتُ بنفسي بعض الهموم ... فأوْلى لنَفْسيَ أوْلَى لها.
(سأحْمِلُ نَفْسي على آلةٍ ... فإمّا عليها وإمّا لها.)
الآلة: الحالة , والآلة: السرير أيضاً الذي يحمل عليه الموتى. {أيَحْسَبُ الإنسانُ أنْ يُتْرَك سُدىً} فيه أربعة أوجه: أحدها: فهل لا يفترض عليه عمل , قاله ابن زيد. الثاني: يظن ألا يبعث , قاله السدي. الثالث: ملغى لا يؤمر ولا ينهى , قاله مجاهد. الرابع: عبث لا يحاسب ولا يعاقب , قال الشاعر:(6/159)
(فأُقسِم باللَّه جهدَ اليمين ... ما ترك اللَّه شيئاً سُدى)
{ألمْ يكُ نُطْفةً مِنْ مَنيٍّ يُمْنَى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن معنى يُمنى يراق , ولذلك سميت منى لإراقة الدماء فيها. الثاني: بمعنى ينشأ ويخلق , ومنه قول يزيد بن عامر:
(فاسلك طريقك تمشي غير مختشعٍ ... حتى تلاقيَ ما يُمني لك الماني.)
الثالث: أنه بمعنى يشترك أي اشتراك ماء الرجل بماء المرأة. {ثم كان عَلَقَةً} يعني أنه كان بعد النطفة علقة. {فخَلَقَ فسوَّى} يحتمل وجهين. أحدهما: خلق من الأرحام قبل الولادة وسوي بعدها عند استكمال القوة وتمام الحركة. الثاني: خلق الأجسام وسواها للأفعال , فجعل لكل جارحة عملاً , والله أعلم.(6/160)
سورة الإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم(6/161)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
{هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} قال ابن عباس ومقاتل والكلبي ويحيى بن سلام: هي مكية , وقال آخرون فيها مكي من قوله تعالى: {إنا نحن نزّلنا عليك القرآنَ تنزيلاً} إلى آخرها وما تقدم مدني. قوله تعالى: {هلْ أتَى على الإنسان حينٌ من الدهْرِ لم يكُنْ شيئاً مذكوراً} في قوله (هل) وجهان: أحدهما: أنها في هذا الموضع بمعنى قد , وتقدير الكلام: (قد أتى على الإنسان) الآية , على معنى الخبر , قاله الفراء وأبو عبيدة. الثاني: أنه بمعنى (أتى على الإنسان) الآية، على وجه الاستفهام، حكاه ابن عيسى. وفي هذا (الإنسان) قولان: أحدهما: أنه آدم , قاله قتادة والسدي وعكرمة , وقيل إنه خلقه بعد خلق السموات والأرض , وما بينهما في آخر اليوم السادس وهو آخر يوم الجمعة.(6/161)
الثاني: أنه كل إنسان , قاله ابن عباس وابن جريج. وفي قوله تعالى: {حينٌ من الدهر} ثلاثة أقاويل: أحدهأ: أنه أربعون سنة مرت قبل أن ينفخ فيه الروح , وهو ملقى بين مكة والطائف , قاله ابن عباس في رواية أبي صالح عنه. الثاني: أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة , ثم من حمأ مسنون أربعين سنة , ثم من صلصال أربعين سنة , فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة , ثم نفخ فيه الروح , وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك. الثالث: أن الحين المذكور ها هنا وقت غير مقدر وزمان غير محدود , قاله ابن عباس أيضاً. وفي قوله {لم يكن شيئاً مذكوراً} وجهان: أحدهما: لم يكن شيئاً مذكوراً في الخلق , وإن كان عند الله شيئاً مذكوراً , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أي كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً , لا يذكر ولا يعرف , ولا يدري ما اسمه , ولا ما يراد به , ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً , قاله الفراء , وقطرب وثعلب. وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير , وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً , لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً. {إنّا خلقْنا الإنسانَ من نُطْفَةٍ أمْشاجٍ} يعني بالإنسان في هذا الموضع كل إنسان من بني آدم في قول جميع المفسرين. وفي النطفة قولان: أحدهما: ماء الرجل وماء المرأة إذا اختلطا فهما نطفة , قاله السدي. الثاني: أن النطفة ماء الرجل , فإذا اختلط في الرحم وماء المرأة صارا أمشاجاً. وفي الأمشاج أربعة أقاويل: أحدها: أنه الأخلاط، وهو أن يختلط ماء الرجل بماء المرأة، قاله الحسن وعكرمة، ومنه قول رؤبة بن العجاج:(6/162)
(يطرحن كل مُعْجَل نشاجِ ... لم يُكْسَ جلداً في دم أمشاج.)
الثاني: أن الأمشاج الألوان , قاله ابن عباس , وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء , ونطفة المرأة خضراء وصفراء. روى سعيد عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماء الرجل غليظ أبيض , وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما سبق أو علا فمنه يكون الشبه) . الثالث: أن الأمشاج: الأطوار , وهو أن الخلق يكون طوراً نطفة , وطوراً علقة , وطوراً مضغة , ثم طوراً عظماً , ثم يكسى العظم لحماً , قاله قتادة. الرابع: أن الأمشاج العروق التي تكون في النطفة , قاله ابن مسعود. وفي قوله {نَبْتَلِيه} وجهان: أحدهما: نختبره. الثاني: نكلفه بالعمل. فإن كان معناه الاختبار ففيما يختبر به وجهان: أحدهما: نختبره بالخير والشر , قاله الكلبي. الثاني: نختبر شكره في السراء , وصبره في الضراء , قاله الحسن. ومن جعل معناه التكليف ففيما كلفه وجهان: أحدهما: العمل بعد الخلق، قاله مقاتل. الثاني: الدين، ليكون مأموراً بالطاعة، ومنهياً عن المعاصي. {فَجَعَلْناه سميعاً بصيراً} ويحتمل وجهين: أحدهما: أي يسمع بالأذنين ويبصر بالعينين أمتناناً بالنعمة عليه. الثاني: ذا عقل وتمييز ليكون أعظم في الامتنان حيث يميزه من جميع الحيوان. وقال الفراء ومقاتل: في الآية تقديم وتأخير أي فجعلناه سميعاً بصيراً أن نبتليه , فعلى هذا التقديم في الكلام اختلفوا في ابتلائه على قولين: أحدهما: ما قدمناه من جعله اختباراً أو تكليفاً.(6/163)
الثاني: لنبتليه بالسمع والبصر , قاله ابن قتيبة. {إنّا هَدَيْناه السّبيلَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: سبيل الخير والشر , قاله عطية. الثاني: الهدى من الضلالة , قاله عكرمة. الثالث: سبيل الشقاء والسعادة , قاله مجاهد. الرابع: خروجه من الرحم , قاله أبو صالح والضحاك والسدي. ويحتمل خامساً: سبيل منافِعِه ومضارِّه التي يهتدي إليها بطبعه , وقيل: كمال عقله. {إمّا شاكراً وإمّا كَفوراً} فيه وجهان: أحدهما: إما مؤمناً وإما كافراً , قاله يحيى بن سلام. الثاني: إما شكوراً للنعمة وإما كفوراً بها , قاله قتادة. وجمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور - مع إجتماعهما في معنى المبالغة - نفياً للمبالغة في الشكر وإثباتاً لها في الكفر , لأن شكر الله تعالى لا يُؤدَّى فانتفت عنه المبالغة , ولم تنتف عن الكفر المبالغة , فقل شكره لكثرة النعم عليه , وكثر كفره وإن قل مع الإحسان إليه.(6/164)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
{إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا} {إن الإبرار يَشْربونَ} في الأبرار قولان: أحدهما: أنهم الصادقون، قاله الكلبي. الثاني: المطيعون، قاله مقاتل.(6/164)
وفيما سُمّوا أبراراً ثلاثة أقاويل: أحدها: سمّوا بذلك لأنهم برّوا الآباء والأبناء، قاله ابن عمر. الثاني: لأنهم كفوا الأذى , قاله الحسن. الثالث: لأنهم يؤدون حق الله ويوفون بالنذر , قاله قتادة. وقوله {مِن كأسٍ} يعني الخمر , قال الضحاك: كل كأس في القرآن فإنما عنى به الخمر. وفي وقوله {كان مِزاجها كافوراً} قولان: أحدهما: أن كافوراً عين في الجنة اسمها كافور , قاله الكلبي. الثاني: أنه الكافور من الطيب فعلى هذا في المقصود منه في مزاج الكأس به ثلاثة أقاويل: أحدها: برده , قال الحسن: ببرد الكافور وطعم الزنجبيل. الثاني: بريحه , قاله قتادة: مزج بالكافور وختم بالمسك. الثالث: طعمه , قال السدي: كأن طعمه طعم الكافور. {عَينْاً يَشْرَبُ بها عبادُ اللَّهِ} يعني أولياء اللَّه , لأن الكافر لا يشرب منها شيئاً وإن كان من عباد الله , وفيه وجهان: أحدهما: ينتفع بها عباد الله , قاله الفراء. الثاني: يشربها عباد الله. قال مقاتل: هي التسنيم , وهي أشرف شراب لاجنة , يشرب بها المقربون صِرفاً , وتمزج لسائر أهل الجنة بالخمر واللبن والعسل. {يُفَجِّرونَها تفْجيراً} فيه وجهان: أحدهما: يقودونها إلى حيث شاءوا من الجنة، قاله مجاهد. الثاني: يمزجونها بما شاءوا، قاله مقاتل. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يستخرجوه من حيث شاءوا من الجنة. وفي قوله (تفجيراً) وجهان:(6/165)
أحدهما: أنه مصدر قصد به التكثير. الثاني: أنهم يفجرونه من تلك العيون عيوناً لتكون أمتع وأوسع. {يُوفُونَ بالنّذْرِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يوفون بما افترض الله عليهم من عبادته , قاله قتادة. الثاني: يوفون بما عقدوه على أنفسهم من حق الله , قاله مجاهد. الثالث: يوفون بالعهد لمن عاهدوه , قاله الكلبي. الرابع: يوفون بالإيمان إذا حلفوا بها , قاله مقاتل. ويحتمل خامساً: أنهم يوفون بما أُنذِروا به من وعيده. {ويَخافون يوْماً كان شَرُّه مُسْتَطيراً} قال الكلبي عذاب يوم كان شره مستطيراً , وفيه وجهان: أحدهما: فاشياً , قاله ابن عباس والأخفش. الثاني: ممتداً , قاله الفراء , ومنه قول الأعشى:
(فبانتْ وقد أَوْرَثَتْ في الفؤادِ ... صَدْعاً على نأيها مُستطيرا)
أي ممتداً. ويحتمل وجهاً ثالثاً يعني سريعاً. {ويُطْعمونَ الطعامَ على حُبِّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: على حب الطعام، قاله مقاتل. الثاني: على شهوته، قاله الكلبي. الثالث: على قلته، قاله قطرب. {مسكيناً ويتيماً وأسيراً} في الأسير ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه المسجون المسلم، قاله مجاهد. الثاني: أنه العبد , قاله عكرمة. الثالث: أسير المشركين، قاله الحسن وسعيد بن جبير. قال سعيد بن جبير: ثم نسخ أسير المشركين بالسيف، وقال غيره بل هو ثابت الحكم في الأسير بإطعامه، إلا أن يرى الإمام قتله.(6/166)
ويحتمل وجهاً رابعاً: أن يريد بالأسير الناقص العقل , لأنه في أسر خبله وجنونه , وإن أسر المشركين انتقام يقف على رأي الإمام وهذا بر وإحسان. {إنّما نُطْعِمُكم لوجْهِ اللهِ} قال مجاهد: إنهم لم يقولوا ذلك , لكن علمه الله منهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب. {لا نُريدُ منكم جزاءً ولا شُكوراً} جزاء بالفعال , وشكوراً بالمقال وقيل إن هذه الآية نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر , وهم سبعة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعيد وأبو عبيدة. {إنّا نخافُ من ربِّنا يوماً عَبوساً قمْطريراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن العبوس الذي يعبس الوجوه من شره , والقمطرير الشديد , قاله ابن زيد. الثاني: أن العبوس الضيق , والقمطرير الطويل , قاله ابن عباس , قال الشاعر:
(شديداً عبوساً قمطريراً تخالهُ ... تزول الضحى فيه قرون المناكب.)
الثالث: أن العُبوس بالشفتين , والقمطرير بالجبهة والحاجبين , فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم , قاله مجاهد , وأنشد ابن الأعرابي:
(يَغْدو على الصّيْدِ يَعودُ مُنكَسِرْ ... ويَقْمَطُّر ساعةً ويكْفَهِرّ.)
{فَوَقاهمُ الله شَرَّ ذلك اليومِ ولَقّاهُمْ نَضْرةً وسُروراً} قال الحسن النضرة من الوجوه , والسرور في القلوب. وفي النضرة ثلاثة أوجه: أحدها: أنها البياض والنقاء , قاله الضحاك. الثاني: أنها الحسن والبهاء , قاله ابن جبير.(6/167)
الثالث: أنها أثر النعمة , قاله ابن زيد. {وجَزاهم بما صَبروا} يحتمل وجهين: أحدهما: بما صبروا على طاعة الله. الثاني: بما صبروا على الوفاء بالنذر. {جَنَّةً وحريراً} فيه وجهان: أحدهما: جنة يسكنونها , وحريراً يلبسونه. الثاني: أن الجنة المأوى , والحرير أبد العيش في الجنة , ومنه لبس الحرير ليلبسون من لذة العيش. واختلف فيمن نزلت هذه الآية على قولين: أحدهما: ما حكاه الضحاك عن جابر أنها نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذراً فوفاه. الثاني: ما حكاه عمرو عن الحسن أنها نزلت في علي وفاطمة ... رضي الله عنهما - وذلك أن علياً وفاطمة نذرا صوماً فقضياه , وخبزت فاطمة ثلاثة أقراص من شعير ليفطر علّي على أحدها وتفطر هي على الآخر , ويأكل الحسن والحسين الثالث , فسألها مسكين فتصدقت عليه بأحدها , ثم سألها يتيم فتصدقت عيله بالآخر , ثم سألها أسير فتصدقت عليه بالثالث , وباتوا طاوين.(6/168)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
{متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قوارير من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا} {مُتّكِئينَ فيها على الأرائِك} وفيها مع ما قدّمناه من تفسيرها قولان:(6/168)
أحدهما: أنها الأسرّة , قاله ابن عباس. الثاني: أنها كل ما يتكأ عليه , قاله الزجاج. {لا يَرَوْنَ فيها شمْساً ولا زَمْهَريراً} أما المراد بالشمس ففيه وجهان: أحدهما: أنهم في ضياء مستديم لا يحتاجون فيه إلى ضياء , فيكون عدم الشمس مبالغة في وصف الضياء. الثاني: أنهم لا يرون فيها شمساً فيتأذون بحرها , فيكون عدمها نفياً لأذاها. وفي الزمهرير ثلاثة أوجه: أحدها: أنه البرد الشديد , قال عكرمة لأنهم لا يرون في الجنة حراً ولا برداً. الثاني: أنه لون في العذاب , قاله ابن مسعود. الثالث: أنه من هذا الموضع القمر , قاله ثعلب وأنشد:
(وليلةٍ ظلامُها قد اعتكَرْ ... قطْعتها والزمهريرُ ما ظَهَرْ)
وروي ما زهر , ومعناه أنهم في ضياء مستديم لا ليل فيه ولا نهار , لأن ضوء النهار بالشمس , وضوء الليل بالقمر. { ... وذُلِّلّتْ قُطوفُها تذْليلاً} فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد، قاله قتادة. الثاني: أنه إذا قام ارتفعت , وإذا قعد نزلت، قاله مجاهد.(6/169)
ويحتمل ثالثاً: أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها وتخلص من نواها. { ... وأَكْوابٍ كانت قَواريرَا قواريرَا من فِضّةٍ} أما الأكواب فقد ذكرنا ما هي من جملة الأواني. وفي قوله تعالى: (قوارير من فضة) وجهان: أحدهما: أنها من فضة من صفاء القوارير , قاله الشعبي. الثاني: أنها من قوارير في بياض الفضة , قاله أبو صالح. وقال ابن عباس: قوارير كل أرض من تربتها , وأرض الجنة الفضة فلذلك كانت قواريرها فضة. {قَدَّرُوها تقْديراً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنهم قدروها في أنفسهم فجاءت على ما قدروها , قاله الحسن. الثاني: على قدر ملء الكف , قاله الضحاك. الثالث: على مقدار لا تزيد فتفيض , ولا تنقص فتغيض , قاله مجاهد. الرابع: على قدر ريهم وكفايتهم , لأنه ألذ وأشهى , قاله الكلبي. الخامس: قدرت لهم وقدروا لها سواء , قاله الشعبي. {ويُسْقَونَ فيها كأساً كان مِزاجُها زَنْجبيلاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تمزج بالزنجبيل , وهو مما تستطيبه العرب لأنه يحذو اللسان ويهضم المأكول , قاله السدي وابن أبي نجيح. الثاني: أن الزنجبيل اسم للعين التي فيها مزاج شراب الأبرار , قاله مجاهد. الثالث: أن الزنجبيل طعم من طعوم الخمر يعقب الشرب منه لذة , حكاه ابن شجرة , ومنه قول الشاعر:(6/170)
(وكأن طعْمَ الزنجبيلِ به ... اذْ ذُقْتُه وسُلافَةَ الخمْرِ)
{عْيناً فيها تُسَمّى سَلْسَبيلاً} فيه ستة أقاويل: أحدها: أنه اسم لها , قاله عكرمة. الثاني: معناه سلْ سبيلاً إليها , قاله علّي رضي الله عنه. الثالث: يعني سلسلة السبيل , قاله مجاهد. الرابع: سلسلة يصرفونها حيث شاءوا , قاله قتادة. الخامس: أنها تنسلّ في حلوقهم انسلالاً , قاله ابن عباس. السادس: أنها الحديدة الجري , قاله مجاهد أيضاً , ومنه قول حسان بن ثابت:
(يَسْقُون من وَرَدَ البريصَ عليهم ... كأساً تُصَفِّقُ بالرحيق السِّلْسَل)
وقال مقاتل: إنما سميت السلسبيل لأنها تنسل عليهم في مجالسهم وغرفهم وطرقهم. {ويَطوفُ عليهم وِلْدانٌ مُخَلّدونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: مخلدون لا يموتون , قاله قتادة. الثاني: صغار لا يكبرون وشبابٌ لا يهرمون، قاله الضحاك والحسن. الثالث: أي مُسَوَّرون، قاله ابن عباس، قال الشاعر:
(ومُخَلّداتٍ باللُّجَيْنِ كأنما ... أعْجازُهنّ أقاوزُ الكُثْبانِ.)
{إذا رَأَيْتَهم حَسِبْتَهم لُؤْلُؤاً مَنْثوراً} فيه قولان: أحدها: أنهم مشبهون باللؤلؤ المنثور لكثرتهم , قاله قتادة. الثاني: لصفاء ألوانهم وحسن منظرهم وهو معنى قول سفيان. {وإذا رأَيْتَ ثمَّ} يعني الجنة. {رأَيْتَ نَعيماً} فيه وجهان: أحدهما: يريد كثرة النعمة.(6/171)
الثاني: كثرة النعيم. {ومُلْكاً كبيراً} فيه وجهان: أحدهما: لسعته وكثرته. الثاني: لاستئذان الملائكة عليهم وتحيتهم بالسلام. ويحتمل ثالثاً: أنهم لا يريدون شيئاً إلا قدروا عليه. {وسقاهم ربُّهم شَراباً طَهوراً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه وصفه بذلك لأنهم لا يبولون منه ولا يُحْدِثون عنه , قاله عطية , قال إبراهيم التميمي: هو عَرَق يفيض من أعضائهم مثل ريح المسك. الثاني: لأن خمر الجنة طاهرة , وخمر الدنيا نجسة , فلذلك وصفه الله تعالى بالطهور , قاله ابن شجرة. الثالث: أن أنهار الجنة ليس فيها نجس كما يكون في أنهار الدنيا وأرضها حكاه ابن عيسى.(6/172)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما} {ولا تُطِعْ منهم آثِماً أو كَفوراً} قيل إنه عنى أبا جهل , يريد بالآثم المرتكب للمعاصي , وبالكفور الجاحد للنعم. {واذكُر اسمَ رَبِّك بُكرَةً وأصيلاً} يعني في أول النهار وآخره، ففي أوله صلاة الصبح، وفي آخره صلاة الظهر والعصر. {ومِنَ الليلِ فاسْجدْ له} يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة. {وسَبِّحْهُ ليلاً طويلاً} يعني التطوع من الليل.(6/172)
قال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن هو صلاة. {إنّ هؤلاءِ يُحِبّونَ العاجلةَ} يحتمل في المراد بهم قولين: أحدهما: أنه أراد بهم اليهود وما كتموه من صفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوّته. الثاني: أنه أراد المنافقين لاستبطانهم الكفر. ويحتمل قوله {يحبون العاجلة} وجهين: أحدهما: أخذ الرشا على ما كتموه إذا قيل إنهم اليهود. الثاني: طلب الدنيا إذا قيل إنهم المنافقون. {ويَذَرُونَ وراءَهم يوماً ثقيلاً} يحتمل وجهين: أحدهما: ما يحل بهم من القتل والجلاء إذا قيل إنهم اليهود. الثاني: يوم القيامة إذا قيل إنهم المنافقون. فعلى هذا يحتمل قوله (ثقيلاً) وجهين: أحدهما: شدائده وأحواله. الثاني: للقِصاص من عباده. {نحن خَلقْناهم وشَدَدْنا أَسْرَهم} في أسرهم ثلاثة أوجه: أحدها: يعني مفاصلهم , قاله أبو هريرة. الثاني: خلقهم , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة قال لبيد:
(ساهم الوجه شديد أسْرُه ... مشرف الحارك محبوك الكفل.)
الثالث: أنه القوة , قاله ابن زيد , قال ابن أحمر في وصف فرس:
(يمشي لأوظفةٍ شدادٍ أسْرُها ... صُمِّ السنابِك لاتقى بالجَدْجَدِ.)
ويحتمل هذا القول منه تعالى وجهين: أحدهما: امتناناً عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية. الثاني: تخويفاً لهمن بسلب النعم. {وإذا شئنا بدّلْنا أمثالَهم تبديلاً} يحتمل وجهين: أحدهما: أمثال من كفر بالنعم وشكرها.(6/173)
الثاني: من كفر بالرسل بمن يؤمن بها. {إنّ هذه تَذْكِرةٌ} يحتمل بالمراد ب (هذه) وجهين: أحدهما: هذه السورة. الثاني: هذه الخلقة التي خلق الإنسان عليها. ويحتمل قوله (تذكرة) وجهين: أحدهما: إذكار ما غفلت عنه عقولهم. الثاني: موعظة بما تؤول إليه أمورهم. {فَمَنْ شاءَ اتَخَذَ إلى ربِّه سَبيلاً} يحتمل وجهين: أحدهما: طريقاً إلى خلاصه. الثاني: وسيلة إلى جنته.(6/174)
سورة المرسلات
مكية من قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها، وهي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} فمدينة. بسم الله الرحمن الرحيم(6/175)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
{والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا إنما توعدون لواقع فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين} قوله تعالى: {والمرسلات عُرْفاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: الملائكة ترسل بالمعروف , قاله أبو هريرة وابن مسعود. الثاني: أنهم الرسل يرسلون بما يُعرفون به من المعجزات , وهذا قول أبي صالح. الثالث: أنها الرياح ترسل بما عرفها الله تعالى. ويحتمل رابعاً: أنها السحب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت فيه , ومن أرسلت إليه.(6/175)
ويحتمل خامساً: أنها الزواجر والمواعظ. وفي قوله (عُرْفاً) على هذا التأويل ثلاثة أوجه: أحدها: متتابعات كعُرف الفرس , قاله ابن مسعود. الثاني: جاريات , قاله الحسن يعني القلوب. الثالث: معروفات في العقول. {فالعاصِفاتِ عَصْفاً} فيه قولان: أحدهما: أنها الرياح العواصف , قاله ابن مسعود. الثاني: الملائكة , قاله مسلم بن صبيح. ويحتمل قولاً ثالثاً: أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف. وفي قوله (عصفاً) وجهان: أحدهما: ما تذروه في جريها. الثاني: ما تهلكه بشدتها. {والنَّاشِراتِ نَشْراً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنها الرياح تنشر السحاب , قاله ابن مسعود. الثاني: أنها الملائكة تنشر الكتب , قاله أبو صالح أيضاً. الثالث: أنه المطر ينشر النبات , قاله أبو صالح أيضاً. الرابع: أنه البعث للقيامة تُنشر فيه الأرواح , قاله الربيع. الخامس: أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد , قاله الضحاك. {فالفارِقات فَرقاً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل , قاله ابن عباس. الثاني: الرسل الذين يفرقون بين الحلال والحرام , قاله أبو صالح. الثالث: أنها الرياح , قاله مجاهد. الرابع: القرآن. وفي تأويل قوله (فَرْقاً) على هذا القول وجهان: أحدهما: فرقه آية آية , قاله الربيع. الثاني: فرق فيه بين الحق والباطل، قاله قتادة.(6/176)
{فالمُلْقِياتِ ذِكْراً} فيه قولان: أحدهما: الملائكة تلقي ما حملت من الوحي والقرآن إلى من أرسلت إليه من الأنبياء , قاله الكلبي. الثاني: الرسل يلقون على أممهم ما أنزل إليهم، قاله قطرب. ويحتمل ثالثاً: أنها النفوس تلقي في الأجساد ما تريد من الأعمال. {عُذْراً أو نُذْراً} يعني عذراً من الله إلى عباده، ونُذْراً إليهم من عذابه. ويحتمل ثانياً: عذراً من الله بالتمكن، ونذراً بالتحذير. وفي ما جعله عذراً أو نذراً ثلاثة أقاويل: أحدها: الملائكة، قاله ابن عباس. الثاني: الرسل , قاله أبو صالح. الثالث: القرآن , قاله السدي. {إنما تُوعَدُونَ لَواقعٌ} هذا جواب ما تقدم من القسم , لأن في أول السورة قسم , أقسم الله تعالى إنما توعدون على لسان الرسول من القرآن في أن البعث والجزاء واقع بكم ونازل عليكم. ثم بيّن وقت وقوعه فقال: {فإذا النجومُ طُمِسَتْ} أي ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب. {وإذا السماءُ فُرِجَتْ} أي فتحت وشققت. {وإذا الجبالُ نُسِفَتْ} أي ذهبت , وقال الكلبي: سويت بالأرض. {وإذا الرّسُلُ أُقِّتَتْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني أُودت , قاله إبراهيم. الثاني: أُجلت , قاله مجاهد. الثالث: جمعت , قاله ابن عباس. وقرأ أبو عمرو (وقتت) ومعناها عرفت ثوابها في ذلك اليوم , وتحتمل هذه القراءة وجهاً آخر أنها دعيت للشهادة على أممها.(6/177)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
{ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين(6/177)
ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين} {ألم نُهلِكِ الأوَّلينِ} يعني من العصاة، وفيمن أريد بهم وجهان: أحدهما: قوم نوح عليه السلام لعموم هلاكهم بالطوفان لأن هلاكهم أشهر وأعم. الثاني: أنه قوم كل نبي استؤصلوا , لأنه في خصوص الأمم أندر. {ثُمّ نُتْبِعُهُم الآخِرينَ} يعني في هلاكهم بالمعصية كالأولين، إما بالسيف وإما بالهلاك. {كذلك نَفْعَلُ بالمْجرمين} يحتمل وجهين: أحدهمأ: أنه تهويل لهلاكهم في الدنيا اعتباراً. الثاني: أنه إخبار بعذابهم في الآخرة استحقاقاً. {أَلمْ نَخْلُقْكُم مِنْ ماءٍ مَهينٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من صفوة الماء , قاله ابن عباس. الثاني: من ماء ضعيف , قاله مجاهد وقتادة. الثالث: من مني سائل , قاله ابن كامل. {فَجَعَلْناه في قرارٍ مَكينٍ} فيه وجهان: أحدهما: قاله وهب بن منبّه في رحم أُمّه لا يؤذيه حَرّ ولا برد. الثاني: مكين حريز لا يعود فيخرج ولا يبث في الجسد فيدوم , قاله الكلبي. {إلى قَدَرٍ مَعْلُومٍِ} إلى يوم ولادته. {فقدرنا فنِعْم القادِرون} في قراءة نافع مشددة , وقرأ الباقون مخففة , فمن قرأ بالتخفيف فتأويلها: فملكنا فنعم المالكون. ومن قرأ بالتشديد فتأويلها: فقضينا فنعم القاضون , وقال الفراء: هما لغتان ومعناهما واحد.(6/178)
{ألمْ نجْعَلِ الأرضَ كِفاتاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني كِنّاً , قاله ابن عباس. الثاني: غطاء , قاله مجاهد. الثالث: مجمعاً , قاله المفضل. الرابع: وعاء قال الصمصامة بن الطرماح:
(فأنت اليومَ فوق الأرض حيٌّ ... وأنت غداً تَضُمُّكَ من كِفات.)
{أحْياءً وأَمْواتاً} فيه وجهان: أحدهما: أن الأرض تجمع الناس أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها , قاله قتادة والشعبي. الثاني: أن من الأرض أحياء بالعمارة والنبات , وأمواتاً بالجدب والجفاف , وهو أحد قولي مجاهد.(6/179)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
{انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين} {انْطَلِقوا إلى ظِلٍّ ذي ثلاثِ شُعَبٍ} قيل إن الشعبة تكون فوقه , والشعبة عن يمينه , والشعبة عن شماله، فتحيط به، قاله مجاهد. الثاني: أن الشعب الثلاث الضريع والزقوم والغسلين، قاله الضحاك. ويحتمل ثالثاً: أن الثلاث الشعب: اللهب والشرر والدخان، لأنه ثلاثة أحوال هي غاية أوصاف النار إذا اضطرمت واشتدت. {لا ظَليلٍ} في دفع الأذى عنه.(6/179)
{ولا يُغْني مِن اللهَب} واللهب ما يعلو عن النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر. {إنها تَرْمي بِشَرَرٍ كالقَصْرِ} والشرر ما تطاير من قطع النار , وفي قوله (كالقصر) خمسة أوجه. أحدها: أنه أصول الشجر العظام , قاله الضحاك. الثاني: كالجبل , قاله مقاتل. الثالث: القصر من البناء وهو واحد القصور , قاله ابن مسعود. الرابع: أنها خشبة كان أهل الجاهلية يقصدونها , نحو ثلاثة أذرع , يسمونها القصر , قاله ابن عباس. الخامس: أنها أعناق الدواب , قاله قتادة. ويحتمل وجهاً سادساً: أن يكون ذلك وصفاً من صفات التعظيم , كنى عنه باسم القصر , لما في النفوس من استعظامه , وإن لم يُردْ به مسمى بعينه. {كأنّه جِمالةٌ صُفْرٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني جِمالاً صُفراً وأراد بالصفر السود , سميت صفراً لأن سوادها يضرب إلى الصفرة , وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة , قال الشاعر:
(تلك خَيْلي منه وتلك رِكابي ... هُنّ صُفْرٌ أولادُها كالزبيبِ.)
الثاني: أنها قلوس السفن , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. الثالث: أنها قطع النحاس , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. وفي تسميتها بالجمالات الصفر وجهان: أحدهما: لسرعة سيرها. الثاني: لمتابعة بعضها لبعض. {فإنْ كانَ لكم كَيْدٌ فَكِيدُونِ} فيه وجهان: أحدهما: إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم، قاله مقاتل. الثاني: إن استطعتم أن تمتنعوا عني فامتنعوا، وهو معنى قول الكلبي.(6/180)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
{إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون} {وإذا قِيلَ لهم ارْكَعوا لا يَرْكَعون} أي صلّوا لا يصلّون، قال مقاتل. نزلت في ثقيف امتنعوا عن الصلاة فنزل ذلك فيهم، وقيل إنه قال ذلك لأهل الآخرة تقريعاً لهم. {فبأيِّ حديثٍ بَعْدَه يُؤْمنُون} أي فبأي كتاب بعد القرآن يصدّقون.(6/181)
سورة النبأ(6/182)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
{عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا} قوله تعالى {عَمَّ يتساءَلونَ عن النبإ العَظيمِ} يعني عن أي شيء يتساءل المشركون؟ لأن قريشاً حيث بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت تجادل وتَختصم في الذي دعا إليه. وفي {النبأ العظيم} أربعة أقاويل: أحدها: القرآن، قاله مجاهد. الثاني: يوم القيامة، قاله ابن زيد. الثالث: البعث بعد الموت، قاله قتادة. الرابع: عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم.(6/182)
{الذي هُمْ فيه مُختَلِفَونَ} هو البعث، فأما الموت فلم يختلفوا فيه، وفيه قولان: أحدهما: أنه اختلف فيه المشركون من بين مصدق منهم ومكذب , قاله قتادة. الثاني: اختلف فيه المسلمون والمشركون , فصدّق به المسلمون وكذّب به المشركون , قاله يحيى بن سلام. {كَلاَّ سيعْلَمون ثم كلا سيعلمون} فيه قولان: أحدهما: أنه وعيد بعد وعيد للكفار , قاله الحسن , فالأول: كلا سيعلمون ما ينالهم من العذاب في القيامة , والثاني: كلا سيعلمون ما ينالهم من العذاب في جهنم. القول الثاني: أن الأول للكفار فيما ينالهم من العذاب في النار , والثاني للمؤمنين فيما ينالهم من الثواب في الجنة , قاله الضحاك. {وجَعَلْنا نَوْمَكم سُباتاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: نعاساً , قاله السدي. الثاني: سكناً , قاله قتادة. الثالث: راحة ودعة , ولذلك سمي يوم السبت سبتاً لأنه يوم راحة ودعة , قال أبو جعفر الطبري: يقال سبت الرجل إذا استراح. الرابع: سُباتا أي قطعاً لأعمالهم , لأن أصل السبات القطع ومنه قولهم سبت الرجل شعره إذا قطعه , قال الأنباري: وسمي يوم السبت لانقطاع الأعمال فيه. ويحتمل خامساً: أن السبات ما قرت فيه الحواس حتى لم تدرك بها الحس. {وجَعَلْنا اللّيلَ لِباساً} فيه وجهان: أحدهما: سكناً، قاله سعيد بن جبير والسدي. الثاني: غطاء، لأنه يغطي سواده كما يغطى الثوب لابسه، قاله أبو جعفر الطبري. {وجَعَلنا النهارَ مَعاشاً} يعني وقت اكتساب، وهو معاش لأنه يعاش فيه.(6/183)
ويحتمل ثانياً: أنه زمان العيش واللذة. {وجَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً} يعني بالسراج الشمس، وفي الوهّاج أربعة أقاويل: أحدها: المنير، قاله ابن عباس. الثاني: المتلألىء، قاله مجاهد. الثالث: أنه من وهج الحر، قاله الحسن. الرابع: أنه الوقّاد، الذي يجمع بين الضياء والجمال. {وأَنْزَلْنا من المُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ان المعصرات الرياح , قاله ابن عباس وعكرمة , قال زيد بن أسلم هي الجنوب. الثاني: أنها السحاب , قاله سفيان والربيع. الثالث: أن المعصرات السماء , قاله الحسن وقتادة. وفي الثجاج قولان: أحدهما: الكثير قاله ابن زيد. الثاني: المنصبّ , قاله ابن عباس , وقال عبيد بن الأبرص:
(فثجّ أعلاه ثم ارتج أسفلُه ... وضاق ذَرْعاً بحمل الماء مُنْصاحِ)
{لنُخرج به حبّاً ونَباتاً} فيه قولان: أحدهما: ان الحب ما كان في كمام الزرع الذي يحصد، والنبات: الكلأ الذي يرعى، وهذا معنى قول الضحاك. الثاني: أن الحب اللؤلؤ، والنبات: العشب، قال عكرمة: ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبتت في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة. ويحتمل ثالثاً: أن الحب ما بذره الآدميّون، والنبات ما لم يبذروه. {وجنّاتٍ أَلْفافاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها الزرع المجتمع بعضه إلى جنب بعض، قاله عكرمة. الثاني: أنه الشجرالملتف بالثمر، قاله السدي. الثالث: أنها ذات الألوان، قاله الكلبي.(6/184)
ويحتمل رابعاً: أنها التي يلف الزرع أرضها والشجر أعاليها، فيجتمع فيها الزرع والشجر ملتفات.(6/185)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
{إن يوم الفصل كان ميقاتا يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال فكانت سرابا إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا وكل شيء أحصيناه كتابا فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا} {إنّ يومَ الفصلِ} يعني يوم القيامة , سمي بذلك لأنه يفصل فيه الحكم بين الأولين والآخرين والمثابين والمعاقبين. {كانَ مِيقاتاً} فيه وجهان: أحدهما: ميعاداً للإجتماع. والثاني: وقتاً للثواب والعقاب. {وسُيِّرتِ الجبالُ فكانتْ سَراباً} فيه وجهان: أحدهما: سُيّرت أي أزيلت عن مواضعها. الثاني: نسفت من أصولها. (فكانت سراباً) فيه وجهان: أحدهما: فكانت هباءً. الثاني: كالسراب لا يحصل منه شيء كالذي يرى السراب يظنه ماء وليس بماء. {إنّ جهنّمَ كانت مِرْصاداً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني أنها راصدة فجازتهم بأعمالهم , قاله أبو سنان. الثاني: أن على النار رصداً , لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه , فمن جاء بجواز جاز , ومن لم يجىء بجواز لم يجز , قاله الحسن. الثالث: أن المرصاد وعيد أوعد الله به الكفار , قاله قتادة.(6/185)
{للطّاغينَ مَآباً} فيه قولان: أحدهما: مرجعاً ومنقلباً , قاله السدي. الثاني: مأولى ومنزلاً , قاله قتادة. والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر أو في دنياه بالظلم. {لابِثينَ فيها أَحْقاباً} يعني كلما مضى حقب جاء حقب وكذلك إلى الأبد واختلفوا في مدة الحقب على سبعة أقاويل: أحدها: ثمانون سنة , قاله أبو هريرة. الثاني: أربعون سنة , قاله ابن عمر. الثالث: سبعون سنة , قاله السدي. الرابع: أنه ألف شهر , رواه أبو أمامة مرفوعاً. الخامس: ثلاثمائة سنة , قاله بشير بن كعب. السادس: سبعون ألف سنة , قاله الحسن. السابع: أنه دهر طويل غير محدود , قاله قطرب. وفي تعليق لبثهم بالأحقاب قولان: أحدهما: أنه على وجه التكثير , كلما مضت أحقاب جاءَت بعدها أحقاب , وليس ذلك بحد لخلودهم في النار. الثاني: أن ذلك حد لعذابهم بالحميم والغسّاق , فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب. {لا يَذُوقونَ فيها بَرداً ولا شَراباً} في البرد ثلاثة أقاويل:(6/186)
أحدها: أنه برد الماء , وبرد الهواء , وهو قول كثير من المفسرين. الثاني: أنه الراحة , قاله قتادة. الثالث: أنه النوم , قاله مجاهد والسدي وأبو عبيدة. وأنشد قول الكندي:
(بَرَدَتْ مَراشِفُها علىَّ فَصَدَّني ... عنها وعن تَقْبيلِها البَرْدُ)
يعني النوم. والشراب ها هنا: العذاب. ويحتمل أن يريد بالشراب الري , لأن الشراب يروي وهم فيها عطاش أبداً. {إلاّ حَميماً وغَسّاقاً} أما الحميم ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الحارّ الذي يحرق , قاله ابن عباس. الثاني: دموع أعينهم في النار تجتمع في حياض في النار فيُسقونْه , قاله ابن زيد. الثالث: أنه نوع من الشراب لأهل النار , قاله السدي. وأما الغسّاق ففيه أربعة أقاويل: أحدهاك أنه القيح الغليظ , قاله ابن عمر. الثاني: أنه الزمهرير البارد الذي يحرق من برده , قاله ابن عباس. الثالث: أنه صديد أهل النار , قاله قتادة. الرابع: أنه المنتن باللغة الطحاوية , قاله ابن زيد. {جزاءً وِفاقاً} وهو جمع وفق , قال أهل التأويل: وافق سوءُ الجزاء سوءَ العمل. {إنهم كانوا لا يَرْجُونَ حِساباً} فيه وجهان: أحدهما: لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً , قاله ابن عباس. الثاني: لا يخافون وعيد الله بحسابهم ومجازاتهم , وهذا معنى قول قتادة. {وكذّبوا بآياتِنا كِذّاباً} يعني بآيات القرآن , وفي (كِذّاباً) وجهان:(6/187)
أحدهما: أنه الكذب الكثير. الثاني: تكذيب بعضهم لبعض , ومنه قول الشاعر:
(فَصَدَقْتُها وَكَذَبْتُها ... والمرءُ يَنْفعُهُ كِذابُهْ)
وهي لغة يمانية.(6/188)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
{إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا} {إنّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} فيه وجهان: أحدهما: نجاة من شرها , قاله ابن عباس. الثاني: فازوا بأن نجوا من النار بالجنة , ومن العذاب بالرحمة , قاله قتادة , وتحقيق هذا التأويل أنه الخلاص من الهلاك , ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها مفازة تفاؤلاً بالخلاص منها. {وكَواعِبَ أَتْراباً} في الكواعب قولان: أحدهما: النواهد , قاله ابن عباس. الثاني: العذارى , قاله الضحاك , ومنه قول قيس بن عاصم:
(وكم مِن حَصانٍ قد حَويْنا كريمةٍ ... ومِن كاعبٍ لم تَدْرِ ما البؤسُ مُعْصر)
وفي الاتراب أربعة أقاويل: أحدها: الأقران , قاله ابن عباس. الثاني: الأمثال , قاله مجاهد. الثالث: المتصافيات , قاله عكرمة. الرابع: المتآخيات , قاله السدي. {وكأساً دِهاقاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: مملوءة , قاله ابن عباس , ومنه قول الشاعر:(6/188)
(أتانا عامرٌ يَبْغي قِرانا ... فأَتْرَعنا له كأساً دِهاقاً)
الثاني: متتابعة يتبع بعضها بعضاً , قاله عكرمة. الثالث: صافية , رواه عمر بن عطاء , قال الشاعر:
(لأنْتِ آلى الفؤادِ أَحَبُّ قُرْباً ... مِن الصّادي إلى كأسٍ دِهَاقِ.)
{لا يَسْمعونَ فيها لَغْواً ولا كِذّاباً} في اللغو ها هنا أربعة أقاويل: أحدها الباطل , قاله ابن عباس. الثاني: الحلف عند شربها , قاله السدي. الثالث: الشتم , قاله مجاهد. الرابع: المعصية , قاله الحسن. وفي (كِذّاباً) ثلاثة أقاويل: أحدهاك لا يكذب بعضهم بعضاً , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنه الخصومة , قاله الحسن. الثالث: أنه المأثم , قاله قتادة. وفي قوله {لا يَسْمَعونَ فيها} وجهان: أحدهما: في الجنة , قاله مجاهد. الثاني: في شرب الخمر , قاله يحيى بن سلام. {جزاءً من ربكَ عَطاءً حِساباً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: كافياً , قاله الكلبي. الثاني: كثيراً , قاله قتادة. الثالث: حساباً لما عملوا , فالحساب بمعنى العد.(6/189)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
{رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر(6/189)
المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} {يومَ يقومُ والرُّوحُ الملائكةُ صَفّاً} في الروح ها هنا ثمانية أقاويل: أحدها: الروح خلق من خلق الله كهيئة الناس وليسوا أناساً , وهم جند للَّه سبحانه , قاله أبو صالح. الثاني: أنهم أشرف الملائكة , قاله مقاتل بن حيان. الثالث: أنهم حفظة على الملائكة , قاله ابن أبي نجيح. الثالث: أنهم حفظة على الملائكة خلقاً , قاله ابن عباس. الرابع: أنه ملك من أعظم الملائكة خلقاً , قاله ابن عباس. الخامس: هو جبريل عليه السلام , قاله سعيد بن جبير. السادس: أنهم بنو آدم , قاله قتادة. السابع: أنهم بنو آدم , قاله قتادة. الثامن: أنه القرآن , قاله زيد بن أسلم. {لا يتكلمونَ إلا مَنْ أَذِنَ له الرحمنُ} فيه قولان: أحدهما: لا يشفعون إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة , قاله الحسن. الثاني: لا يتكلمون في شيء إلا من أذن له الرحمن شهادة أن لا إله إلا الله , قاله ابن عباس. {وقالَ صَواباً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني حقاً , قاله الضحاك. الثاني: قول لا إله إلا الله , قاله أبو صالح. الثالث: أن الروح يقول يوم القيامة: لا تُدخل الجنة إلا بالرحمة , ولا النار إلا بالعمل , فهو معنى قوله (وقال صواباًَ) قاله الحسن. ويحتمل رابعاً: أنه سؤال الطالب وجواب المطلوب , لأن كلام الخلق في القيامة مقصور على السؤال والجواب. {ذلك اليومُ الحقُّ} يعني يوم القيامة , وفي تسميته الحق وجهان: أحدهما: لأن مجئيه حق وقد كانوا على شك. الثاني: أنّ الله تعالى يحكم فيه بالحق بالثواب والعقاب. {فمن شاءَ اتّخَذ إلى ربِّه مآباً} فيه وجهان:(6/190)
أحدهما: سبيلاً , قاله قتادة. الثاني: مرجعاً , قاله ابن عيسى. ويحتمل ثالثاً: اتخذ ثواباً لاستحقاقه بالعمل لأن المرجع يستحق على المؤمن والكافر. {إنّا أنذْرْناكم عَذاباَ قريباً} فيه وجهان: أحدهما: عقوبة الدنيا , لأنه أقرب العذابين , قاله قتادة , وقاله مقاتل: هو قتل قريش ببدر. الثاني: عذاب يوم القيامة , لأنه آت وكل آت قريب , وهو معنى قول الكلبي. {يومَ ينظُرُ المْرءُ ما قدَّمَتْ يَداهُ} يعني يوم ينظر المرء ما قدّم من عمل خير , قال الحسن: قدَّم فقَدِم على ما قَدَّم. ويحتمل أن يكون عامّاً في نظر المؤمن إلى ما قدّم من خير , ونظر الكافر إلى ما قدّم من شر. {ويقولُ الكافرُ يا لَيْتني كنتُ تُراباً} قال مجاهد يبعث الحيوان فيقاد للمنقورة من الناقرة، وللمركوضة من الراكضة، وللمنطوحة من الناطحة، ثم يقول الرب تعالى: كونوا تراباً بلا جنة ولا نار , فيقول الكافر حينئذ: يا ليتني كنت تراباً وفي قوله ذلك وجهان: أحدهما: يا ليتني صرت اليوم مثلها تراباً بلا جنة ولا نار، قاله مجاهد. الثاني: يا ليتني كنت مثل هذا الحيوان في الدنيا وأكون اليوم تراباً، قاله أبو هريرة: وهذه من الأماني الكاذبة كما قال الشاعر:
(ألا يا ليتني والمْرءُ مَيْتُ ... وما يُغْني من الحدثانِ لَيْت.)
قال مقاتل: نزل قوله تعالى: {يوم ينظر المرء ما قدّمت يداهُ} في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي , ونزل قوله تعالى: {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} في أخيه الأسود بن عبد الأسد.(6/191)
سورة النازعات
بسم الله الرحمن الرحيم(6/192)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
{والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} قوله تعالى {والنَّأزِعاتِ غَرْقاً} فيه ستة أقاويل: أحدها: هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم , قاله ابن مسعود ومسروق. الثاني: هو الموت ينزع النفوس، قاله مجاهد. الثالث: هي النفوس حين تنزع، قاله السدي. الرابع: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، ومن المشرق إلى المغرب، قاله الحسن وقتادة. والخامس: هي القسيّ تنزع بالسهم، قاله عطاء. السادس: هي الوحش تنزع من الكلأ وتنفر، حكاه يحيى بن سلام , ومعنى (غرقاً) أي إبعاداً في النزع. {والناشِطات نَشْطاً} فيه ستة تأويلات:(6/192)
أحدها: هي الملائكة تنشط أرواح المؤمنين بسرعة كنشط العقال , قاله ابن عباس. الثاني: النجوم التي تنشط من مطالعها إلى مغاربها , قاله قتادة. الثالث: هو الموت ينشط نفس الإنسان , قاله مجاهد. الرابع: هي النفس حيث نشطت بالموت , قاله السدي. الخامس: هي الأوهاق , قاله عطاء. السادس: هي الوحش تنشط من بلد إلى بلد , كما أن الهموم تنشط الإنسان من بلد إلى بلد , قاله أبو عبيدة , وانشد قول همام بن قحافة:
(أمْسَتْ همومي تنشط المناشِطا ... الشامَ بي طَوْراً وطَوْراً واسطاً.)
{والسّابحاتِ سَبْحاً} فيه خمسة أوجه: أحدها: هي الملائكة سبحوا إلى طاعة الله من بني آدم , قاله ابن مسعود والحسن. الثاني: هي النجوم تسبح في فلكها , قاله قتادة. الثالث: هو الموت يسبح في نفس ابن آدم , قاله مجاهد. الرابع: هي السفن تسبح في الماء , قاله عطاء. الخامس: هي الخيل , حكاه ابن شجرة , كما قال عنترة:
(والخيلُ تعْلم حين تس ... بَحُ في حياضِ المْوتِ سَبْحاً)
ويحتمل سادساً: أن تكون السابحات الخوض في أهوال القيامة. {فالسّابقاتِ سَبْقاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء , قاله عليّ رضي الله عنه ومسروق. وقال الحسن: سبقت إلى الايمان. الثاني: هي النجوم يسبق بعضها بعضاً , قاله قتادة. الثالث: هوالموت يسبق إلى النفس , قاله مجاهد. الرابع: هي النفس تسبق بالخروج عند الموت , قاله الربيع.(6/193)
الخامس: هي الخيل , قاله عطاء. ويحتمل سادساً: أن تكون السابقات ما سبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار. {فالمُدَبِّرات أمْراً} فيهم قولان: أحدهما: هي الملائكة , قاله الجمهور , فعلى هذا في تدبيرها بالأمر وجهان: أحدهما: تدبير ما أمرت به وأرسلت فيه. الثاني: تدبير ما وكلت فيه من الرياح والأمطار. الثاني: هي الكواكب السبعة , حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل؛ وعلى هذا في تدبيرها للأمر وجهان. أحدهما: تدبير طلوعها وأفولها. الثاني: تدبير ما قضاه الله فيها من تقلب الأحوال. ومن أول السورة إلى هذا الموضع قسم أقسم الله به , وفيه وجهان: أحدهما: أن ذكرها بخالقها. الثاني: أنه أقسم بها وإن كانت مخلوقة لا يجوز لمخلوق أن يقسم بها , لأن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه. وجواب ما عقد له القسم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مضمر محذوف وتقديره لو أظْهر: لتُبْعَثُن ثم لُتحاسبُن , فاستغنى بفحوى الكلام وفهم السامع عن إظهاره , قاله الفراء. الثاني: أنه مظهر , وهو قوله تعالى: {إن في ذلك لعبرةً لمن يخشى} قاله مقاتل. الثالث: هو قوله تعالى: {يومَ ترْجفُ الراجفةُ تَتْبعُها الرادِفةُ} وفيهما ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الراجفة القيامة , والرادفة البعث , قاله ابن عباس. الثاني: أن الراجفة النفخة الأولى تميت الأحياء , والرادفة: النفخة الثانية تحيي الموتى , قاله الحسن وقتادة.(6/194)
وقال قتادة: ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينهما أربعون , ما زادهم على ذلك ولا سألوه , وكانوا يرون أنها أربعون سنة) . وقال عكرمة: الأولى من الدنيا , والثانية من الآخرة. الثالث: أن الراجفة الزلزلة التي ترجف الأرض والجبال والرادفة إذا دكّتا دكة واحدة , قاله مجاهد. ويحتمل رابعاً: أن الراجفة أشراط الساعة , والرادفة: قيامها. {قلوبٌ يومئذٍ واجِفَةٌ} فيه وجهان: أحدهما: خائفة , قاله ابن عباس. الثاني: طائرة عن أماكنها , قاله الضحاك. {أَبْصارُها خاشِعَة} فيه وجهان: أحدهما: ذليلة , قاله قتادة. الثاني: خاضعة , قاله الضحاك. {يقولون أئنا لَمْردودُونَ في الحافِرةِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن الحافرة الحياة بعد الموت , قاله ابن عباس والسدي وعطية. الثاني: أنها الأرض المحفورة , قاله ابن عيسى. الثالث: أنها النار , قاله ابن زيد. الرابع: أنها الرجوع إلى الحالة الأولى تَكذيباً بالبعث , من قولهم رجع فلان على قومه إذا رجع من حيث جاء , قاله قتادة , قال الشاعر:
(أحافرة على صَلَعٍ وشيْبٍ ... معاذَ اللَّه من جَهْلٍ وطَيْشِ)
{أَئِذا كْنَا عِظاماً نَخِرةً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: بالية , قاله السدي. الثاني: عفنة , قاله ابن شجرة. الثالث: خالية مجوفة تدخلها الرياح فتنخر , أي تصوّت , قاله عطاء والكلبي.(6/195)
ومن قرأ (ناخرة) فإن الناخرة البالية , والنخرة التي تنخر الريح فيها. {تلك إذاً كَرّةٌ خاسِرةٌ} فيه تأويلان: أحدهما: باطلة لا يجيء منها شيء , كالخسران , وليست كاسبة , قاله يحيى بن سلام. الثاني: معناه لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنخسرنّ بالنار , قاله قتادة ومحمد بن كعب. ويحتمل ثالثاً: إذا كنا ننتقل من نعيم الدنيا إلى عذاب الآخرة فهي كرة خاسرة. {فإنّما هي زجْرةٌ واحدةٌ} فيه تأويلان: أحدهما: نفخة واحدة يحيا بها الجميع فإذا هم قيام ينظرون , قاله الربيع بن أنس. الثاني: الزجرة الغضب , وهو غضب واحد , قاله الحسن. ويحتمل ثالثاً: أنه لأمر حتم لا رجعة فيه ولا مثنوية. {فَإذَا هم بالسّاهرةِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: وجه الأرض , قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد , والعرب تسمي وجه الأرض ساهرة لأن فيها نوم الحيوان وسهره , قال أمية بن أبي الصلت:
(وفيها لحْمُ ساهرةٍ وبَحرٌ ... وما فاهوا به لهمُ مُقيم)
وقال آخر يوم ذي قار لفرسه:
(أَقْدِمْ مَحاجِ إنها الأساوِره ... ولا يهولنّك رِجْلٌ بادِرهْ)
(فإنما قَصْرُكَ تُرْبُ السّاهرهْ ... ثم تعودُ , بَعْدها في الحافرهْ)
89 (من بَعْد ما صِرْتَ عظاماً ناخِرهْ} 9
الثاني: أنه اسم مكان من الأرض بعينه بالشام , وهو الصقع الذي بين جبل أريحا وجبل حسّان , يمده الله تعالى كيف يشاء , قاله عثمان بن أبي العاتكة.(6/196)
الثالث: أنها جبل بيت المقدس , قاله وهب بن منبه. الرابع: أنه جهنم , قاله قتادة. ويحتمل خامساً: أنها عرضة القيام لأنها أول مواقف الجزاء , وهم في سهر لا نوم فيه.(6/197)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
{هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} {هلْ أتاكَ حديثُ موسى إذ ناداه ربه بالوادِ المقدَّسِ طُوَىً} فيه قولان: أحدهما: وهو قول مبشر بن عبيد هو واد بأيلة. الثاني: وهو قول الحسن , هو واد بفلسطين. وفي (المقدَّس) تأويلان: أحدهما: المبارك , قاله ابن عباس. الثاني: المطهر , قاله الحسن: قدّس مرتين. وفي (طُوَىً) أربعة أقاويل: أحدها: أنه أسم الوادي المقدس , قاله مجاهد وقتادة وعكرمة. الثاني: لأنه مر بالوادي فطواه , قاله ابن عباس. الثالث: لأنه طوي بالبركة , قاله الحسن. الرابع: يعني طأ الوادي بقدمك , قاله عكرمة ومجاهد. ويحتمل خامساً؛ أنه ما تضاعف تقديسه حتى تطهّر من دنس المعاصي , مأخوذ من طيّ الكتاب إذا ضوعف. {فَقُلْ هل لك إلى أن تَزَكّى} فيه قولان: أحدهما: إلى أن تُسْلِم , قال قتادة. الثاني: إلى أن تعمل خيراً، قاله الكلبي.(6/197)
{فأَراهُ الآيةَ الكُبْرَى} فيها قولان: أحدهما: أنها عصاه ويده، قاله الحسن وقتادة. الثاني: أنها الجنة والنار، قاله السدي. ويحتمل ثالثاً: أنه كلامه من الشجرة. قوله {فَحَشَرَ فنادَى} فيه وجهان: أحدهما: حشر السحرة للمعارضة، ونادى جنده للمحاربة. الثاني: حشر الناس للحضور ونادى أي خطب فيهم. {فأخَذَهُ الله نَكالََ الآخرة والأُولى} فيها أربعة أقاويل: أحدها: عقوبة الدنيا والآخرة , قال قتادة: عذبه الله في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالنار. الثاني: عذاب أول عُمرِه وآخره , قاله مجاهد. الثالث: الأولى قوله: (ما علمت لكم مِن إلهٍ غيري) والآخرة قوله (أنا ربكم الأعلى) , قاله عكرمة , قال ابن عباس: وكان بينهما أربعون سنة , وقال مجاهد: ثلاثون سنة , قال السدي: وهي الآخرة ثلاثون سنة. الرابع: عذاب الأولى الإمهال , والآخرة في النار , من قوله تعالى: {النار يعرضون عليها} الآية , قاله الربيع.(6/198)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
{أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم} {وأَغْطَشَ لَيْلَها وأَخْرَجَ ضُحاها} معناه أظلم ليلها , وشاهد الغطش أنه الظلمة قول الأعشى:
(عَقَرْتُ لهم مَوْهِنا ناقتي ... وغامِرُهُمْ مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ)
يعني يغمرهم ليلهم لأنه غمرهم بسواده.(6/198)
وفي قوله: (وأخرج ضُحاها) وجهان: أحدهما: أضاء نهارها وأضاف الليل والضحى إلى السماء لأن منهما الظلمة والضياء. الثاني: قال ابن عباس أن أخرج ضحاها: الشمس. {والأرضَ بَعْد ذلك دَحاها} في قوله (بَعْد) وجهان: أحدهما: مع وتقدير الكلام: والأرض مع ذلك دحاها , لأنها مخلوقة قبل السماء , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: أن (بعد) مستعملة على حقيقتها لأنه خلق الأرض قبل السماء ثم دحاها بعد السماء , قاله ابن عمر وعكرمة. وفي (دحاها) ثلاثة أوجه: أحدها: بسطها , قاله ابن عباس , قال أمية بن أبي الصلت:
(وَبَثَّ الخلْق فيها إذْ دَحاها ... فَهُمْ قُطّانُها حتى التنادي)
قال عطاء: من مكة دحيت الأرض , وقال عبد الله بن عمر: من موضع الكعبة دحيت. الثاني: حرثها وشقها , قاله ابن زيد. الثالث: سوّاها , ومنه قول زيد بن عمرو:
(وأسْلَمْتُ وجهي لمن أسْلَمتْ ... له الأرضُ تحمل صَخْراً ثِقالا)
(دحاها فلما اسْتَوتْ شدّها ... بأيْدٍ وأرْسَى عليها الجبالا)(6/199)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
{فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر(6/199)
من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} {فإذا جاءت الطامّةُ الكُُبْرى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها النفخة الآخرة، قاله الحسن. الثاني: أنها الساعة طمت كل داهية، والساعة أدهى وأمّر، قاله الربيع. الثالث: أنه اسم من أسماء القيامة يسمى الطامة، قاله ابن عباس. الرابع: أنها الطامة الكبرى إذا سيق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، قاله القاسم بن الوليد، وهو معنى قول مجاهد. وفي معنى (الطامّة) في اللغة ثلاثة وجوه: أحدها: الغاشية. الثاني: الغامرة. الثالث: الهائلة , ذكره ابن عيسى , لأنها تطم على كل شيء أي تغطيه. {وأمّا مَنْ خاف مَقام رَبِّهِ ونَهَى النفْسَ عن الهَوى} فيه وجهان: أحدهما: هو خوفه في الدنيا من الله عند مواقعة الذنب فيقلع , قاله مجاهد. الثاني: هو خوفه في الآخرة من وقوفة بين يدي الله للحساب , قاله الربيع بن أنس , ويكون معنى: خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى , قال الكلبي: وزجر النفس عن المعاصي والمحارم. {فإنّ الجنّةَ هي المأوَى} أي المنزل , وذكر أنها نزلت في مصعب بن عمير. {يسألونَكَ عن الساعةِ أيّانَ مُرْساها} قال ابن عباس: متى زمانها , قاله الربيع {فيمَ أنْتَ مِن ذِكْراها} فيه وجهان: أحدهما: فيم يسألك المشركون يا محمد عنها ولست ممن يعلمها , وهو معنى قول ابن عباس. الثاني: فيم تسأل يا محمد عنها وليس لك السؤال , وهذا معنى قول عروة بن الزبير.(6/200)
{إلى ربِّك مُنْتَهاها} يعني منتهى علم الساعة: فكف النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال وقال: يا أهل مكة إن الله احتجب بخمس لم يُطْلع عيهن مَلَكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً فمن ادعى علمهن فقد كفر: {إن اللَّه عنده علم الساعة ... } إلى آخر السورة. {إنّما أنْتَ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. {مَنْذِرُ مَنْ يَخْشَاها} يعني القيامة. {كأنّهم يومَ يَرَوْنَها} يعني الكفار يوم يرون الآخرة. {لَمْ يَلْبَثُوا} في الدنيا. {إلاَّ عَشيّةً} وهي ما بعد الزوال. {أو ضُحاها} وهو ما قبل الزوال , لأن الدنيا تصاغرت عندهم وقلّت في أعينهم , كما قال تعالى: {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعةً من نهارٍ} .(6/201)
سورة عبس
مكية في قول الجميع بسم الله الرحمن الرحيم(6/202)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
{عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} قوله تعالى {عَبَسَ وتَوَلّى أنْ جاءَه الأَعْمَى} روى سعيد عن قتادة أن ابن أم مكتوم , وهو عبد الله بن زائدة من بني فهر , وكان ضريراً , أتى رسول الله رسول الله صلى الله عليه سلم يستقرئه وهو يناجي بعض عظماء قريش - وقد طمع في إسلامهم - قال قتادة: هو أمية بن خلف , وقال مجاهد: هما عتبة وشيبة ابنا ربيعة , فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعمى وعبس في وجهه , فعاتبه الله تعالى في إعراضه وتوليه فقال (عبس وتولّى) أي قطّب واعرض (أن جاءه الأعمى) يعني ابن أم مكتوم. {وما يُدريك لعلّه يَزَّكى} فيه أربعة أوجه: أحدها: يؤمن , قاله عطاء. الثاني: يتعبد بالأعمال الصالحة، قاله ابن عيسى. الثالث: يحفظ ما يتلوه عليه من القرآن، قاله الضحاك.(6/202)
الرابع: يتفقه في الدين , قاله ابن شجرة. {أوْ يَذَّكّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى} قال السدّي: لعله يزّكّى ويّذكرُ , والألف صلة , وفي الذكرى وجهان: أحدها: الفقه. الثاني: العظة. قال ابن عباس: فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر إليه مقبلاً بسط له رداءه حتى يجلس عليه إكراماً له. قال قتادة: واستخلفه على صلاة الناس بالمدينة في غزاتين من غزواته , كل ذلك لما نزل فيه. {كلاّ إنّها تَذْكِرةٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن هذه السورة تذكرة , قاله الفراء والكلبي. الثاني: أن القرآن تذكرة , قاله مقاتل. {فَمَن شَاءَ ذكَرَهُ} فيه وجهان: أحدهما: فمن شاء الله ألهمه الذكر , قاله مقاتل. الثاني: فمن شاء أن يتذكر بالقرآن أذكره الله , وهو معنى قول الكلبي. {في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مكرمة عند الله , قاله السدي. الثاني: مكرمة في الدين لما فيها من الحكم والعلم , قاله الطبري. الثالث: لأنه نزل بها كرام الحفظة. ويحتمل قولاً رابعاً: أنها نزلت من كريم , لأن كرامة الكتاب من كرامة صاحبه. {مرفوعةٍ} فيه قولان: أحدهما: مرفوعة في السماء , قاله يحيى بن سلام. الثاني: مرفوعة القدر والذكر , قاله الطبري.(6/203)
ويحتمل قولاً ثالثاً: مرفوعة عن الشُبه والتناقض. {مُطَهّرةٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدهأ: من الدنس , قاله يحيى بن سلام. الثاني: من الشرك , قاله السدي. الثالث: أنه لا يمسها إلا المطهرون , قاله ابن زيد. الرابع: مطهرة من أن تنزل على المشركين , قاله الحسن. ويحتمل خامساً: لأنها نزلت من طاهر مع طاهر على طاهر. {بأيْدِى سَفَرَةٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن السفرة الكتبة , قاله ابن عباس , قال المفضل: هو مأخوذ من سفر يسفر سفراً , إذا كتب , قال الزجاج: إنما قيل للكتاب سِفْر وللكاتب سافر من تبيين الشيء وإيضاحه , كما يقال أسفر الصبح إذا وضح ضياؤه وظهر , وسفرت المرأة إذا كشفت نقابها. الثاني: أنهم القّراء , قال قتادة لأنهم يقرؤون الأسفار. الثالث: هم الملائكة , لأنهم السفرة بين يدي الله ورسله بالرحمة , قال زيد , كما يقال سَفَر بين القوم إذا بلغ صلاحاً , وأنشد الفراء:
(وما أدَعُ السِّفارةَ بين قوْمي ... وما أَمْشي بغِشٍ إنْ مَشَيْتُ)
{كِرام بَرَرةٍ} في الكرام ثلاثة أقاويل: أحدها: كرام على ربهم , قاله الكلبي. الثاني: كرام عن المعاصي فهم يرفعون أنفسهم عنها , قاله الحسن. الثالث: يتكرمون على من باشر زوجته بالستر عليه دفاعاً عنه وصيانة له , وهو معنى قول الضحاك. ويحتمل رابعاً: أنهم يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. وفي (بررة) ثلاثة أوجه: أحدها: مطيعين , قاله السدي.(6/204)
الثاني: صادقين واصلين , قاله الطبري. الثالث: متقين مطهرين , قاله ابن شجرة. ويحتمل قولاً رابعاً: أن البررة مَن تعدى خيرهم إلى غيرهم , والخيرة من كان خيرهم مقصوراً عليهم.(6/205)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
{قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم} {قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَه} في (قتل) وجهان: أحدهما: عُذِّب. الثاني: لعن. وفي (الإنسان) ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه إشارة إلى كل كافر , قاله مجاهد. الثاني: أنه أمية بن خلف , قاله الضحاك. الثالث: أنه عتبة بن أبي لهب حين قال: إني كفرت برب النجم إذا هوى , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللَّهم سلّطْ عليه كلبك) فأخذه الأسد في طريق الشام , قاله ابن جريج والكلبي. وفي (ما أكْفَرَه) ثلاثة أوجه: أحدها: أن (ما) تعجب , وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا قاتله الله ما أحسنه , وأخزاه الله ما أظلمه , والمعنى: أعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا. الثاني: أي شيء أكفره , على وجه الاستفهام , قاله السدي ويحيى بن سلام.(6/205)
الثالث: ما ألعنه , قاله قتادة. {ثم السبيلَ يَسّرَهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: خروجه من بطن أمه , قاله عكرمة والضحاك. الثاني: سبيل السعادة والشقاوة , قاله مجاهد. الثالث: سبيل الهدى والضلالة , قاله الحسن. ويحتمل رابعاً: سبيل منافعه ومضاره. {ثُمَّ أَماتَهُ فأَقْبَرَهُ} فيه قولان: أحدهما: جعله ذا قبر يدفن فيه , قاله الطبري , قال الأعشى:
(لو أسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها ... عاشَ ولم يُنْقلْ إلى قابر)
الثاني: جعل من يقبره ويواريه , قاله يحيى بن سلام. {ثُمَّ إذا شاءَ أَنشَرَهُ} يعني أحياه , قال الأعشى:
(حتى يقولَ الناسُ مما رأوْا ... يا عجباً للميّت الناشِرِ)
{كلاّ لّما يَقْضِ ما أَمَرَهُ} فيه قولان: أحدهما: أنه الكافر لم يفعل ما أمر به من الطاعة والإيمان , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنه على العموم في المسلم والكافر , قال مجاهد: لا يقضي أحد أبداً ما افترض عليه , وكلاّ ها هنا لتكرير النفي وهي موضوعة للرد. ويحتمل وجه حمله على العموم أن الكافر لا يقضيه عمراً , والمؤمن لا يقضيه شهراً. {فَلْيَنظُرِ الإنسانُ إلى طَعامِه} فيه وجهان: أحدهما: إلى طعامه الذي يأكله وتحيا نفسه به , من أي شيء كان , قاله يحيى.(6/206)
الثاني: ما يخرج منه أي شيء كان؟ ثم كيف صار بعد حفظ الحياة وموت الجسد. قال الحسن: إن ملكاً يثني رقبة ابن آدم إذا جلس على الخلاء لينظر ما يخرج منه. ويحتمل إغراؤه بالنظر إلى وجهين: أحدهما: ليعلم أنه محل الأقذار فلا يطغى. الثاني: ليستدل على استحالة الأجسام فلا ينسى. {أنّا صَبَبْنا الماءَ صبّاً} يعني المطر. {ثم شَقَقْنا الأرضَ شقّاً} يعني بالنبات. {فَأَنْبَتْنَا فيها حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً} والقضب: القت والعلق سمي بذلك لقضبه بعد ظهوره. {وزَيْتوناً ونخْلاً وحدائقَ غُلْباً} فيه قولان: أحدهما: نخلاً كراماً , قاله الحسن. الثاني: الشجر الطوال الغلاظ , قال الكلبي: الْغلب الغِلاط , قال الفرزدق:
(عَوَى فأَثارَ أغْلَبَ ضَيْغَميّاً ... فَوَيْلَ ابنِ المراغةِ ما استثار)
وفي (الحدائق) ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها ما التف واجتمع , قاله ابن عباس. الثاني: أنه نبت الشجر كله. الثالث: أنه ما أحيط عليه من النخل والشجر , وما لم يحط عليه فليس بحديقة حكاه أبو صالح. ويحتمل قولاً رابعاً: أن الحدائق ما تكامل شجرها واختلف ثمرها حتى عم خيرها.(6/207)
ويحتمل الغُلْب أن يكون ما غلبت عليه ولم تغلب فكان هيناً. {وفاكهةً وأبّاً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن الأبّ ما ترعاه البهائم , قاله ابن عباس: وما يأكله الآدميون الحصيدة , قال الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
(له دعوة ميمونة ريحها الصبا ... بها يُنْبِتُ الله الحصيدة والأَبّا)
الثاني: أنه كل شيء ينبت على وجه الأرض , قاله الضحاك. الثالث: أنه كل نبات سوى الفاكهة , وهذا ظاهر قول الكلبي. الرابع: أنه الثمار الرطبة , قاله ابن أبي طلحة. الخامس: أنه التبن خاصة , وهو يحكي عن ابن عباس أيضاً , قال الشاعر:
(فما لَهم مَرْتعٌ للسّوا ... م والأبُّ عندهم يُقْدَرُ)
)
ووجدت لبعض المتأخرين سادساً: أن رطب الثمار هو الفاكهة , ويابسها الأبّ. ويحتمل سابعاً: أن الأبّ ما أخلف مثل أصله كالحبوب , والفاكهة ما لم يخلف مثل أصله من الشجر. روي أن عمر بن الخطاب قرأ {عبس وتولّى} فلما بلغ إلى قوله تعالى: {وفاكهة وأبّا} قال: قد عرفنا الفاكهة , فما الأبّ؟ ثم قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا هو التكلف وألقى العصا من يده. وهذا مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم فهم كنبات الزرع بعد دثوره , وتضمن امتناناً عليهم بما أنعم.(6/208)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
{فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه(6/208)
لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة} {فإذا جاءَتِ الصّاخّةُ} فيها قولان: أحدهما: أنها النفخة الثانية التي يصيخ الخلق لاستماعها , قاله الحسن , ومنه قول الشاعر:
(يُصِيخُ للنْبأَة أَسْماعه ... إصاخَةَ الناشدِ للمُنْشِد)
الثاني: أنه اسم من أسماء القيامة , لإصاخة الخلق إليها من الفزع , قاله ابن عباس. {يوم يَفِرُّ المرءُ مِن أخيه وأُمِّه وابيه وصاحِبتِه وبنيه} وفي فراره منهم ثلاثة أوجه: أحدها: حذراً من مطالبتهم إياه للتبعات التي بينه وبينهم. الثاني: حتى لا يروا عذابه. الثالث: لاشتغاله بنفسه , كما قال تعالى بعده: {لكل امرىء منهم يومئذ شأنٌ يُغْنِيهِ} أي يشغله عن غيره. {وجوهٌ يومئذٍ مُسفِرةٌ} فيه وجهان: أحدهما: مشرقة. الثاني: فرحة , حكاه السدي. {ضَاحكةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: ضاحكة من مسرة القلب. الثاني: ضاحكة من الكفار شماتة وغيظاً , مستبشرة بأنفسها مسرة وفرحاً. {ووجوهٌ يومَئذٍ عليها غبرَةٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه غبار جعل شيناً لهم ليتميزوا به فيعرفوا. الثاني: أنه كناية عن كمد وجوههم بالحزن حتى صارت كالغبرة. {ترْهقُها قَتَرةٌ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: تغشاها ذلة وشدة، قاله ابن عباس.(6/209)
الثاني: خزي , قال مجاهد. الثالث: سواد , قاله عطاء. الرابع: غبار , قاله السدي , وقال ابن زيد: القترة ما ارتفعت إلى السماء والغبرة: ما انحطت إلى الأرض. الخامس: كسوف الوجه , قاله الكلبي ومقاتل. {أولئك هم الكَفَرَةُ الفَجرَةُ} يحتمل جمعه بينهما وجهين: أحدهما: أنهم الكفرة في حقوق الله , الفجرة في حقوق العباد. الثاني: لأنهم الكفرة في أديانهم , الفجرة في أفعالهم.(6/210)
سورة التكوير
بسم الله الرحمن الرحيم(6/211)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
{إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت} قوله تعالى: {إذا الشمسُ كُوِّرَتْ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعني ذهب نورها وأظلمت , قاله ابن عباس. الثاني: غُوِّرَت , وهو بالفارسية كوبكرد , قاله ابن جبير. الثالث: اضمحلت , قاله مجاهد. الرابع: نكست , قاله أبو صالح. الخامس: جمعت فألقيت , ومنه كارة الثياب لجمعها , وهو قول الربيع بن خيثم. {وإذا النجوم انْكَدَرَتْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: تناثرت , قاله الربيع بن خيثم. الثاني: تغيرت فلم يبق لها ضوء , قاله ابن عباس.(6/211)
الثالث: تساقطت , قاله قتادة , ومنه قول العجاج:
(أبصَرَ خرْبان فضاء فانكَدَرْ ... تَقضِّيَ البازي إذا البازي كَسَر)
ويحتمل رابعاً: أن يكون انكدارها طمس آثارها , وسميت النجوم نجوماً لظهورها في السماء بضوئها. {وإذا الجبالُ سُيِّرتْ} يعني ذهبت عن أماكنها , قال مقاتل: فسويت بالأرض كما خلقت أول مرة وليس عليها جبل ولا فيها واد. {وإذا العِشارُ عُطِّلتْ} والعشار: جمع عشراء وهي الناقة إذا صار لحملها عشرة أشهر , وهي أنفس أموالهم عندهم , قال الأعشى:
(هو الواهبُ المائةَ المصْطفا ... ةَ إمّا مخاضاً وإمّا عِشاراً)
فتعطل العشار لاشتغالهم بأنفسهم من شدة خوفهم. وفي (عطلت) تأويلان: أحدهما: أُهملت , قاله الربيع. الثاني: لم تحلب ولم تدر , قاله يحيى بن سلام. وقال بعضهم: العشار: السحاب تعطل فلا تمطر. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أنها الأرض التي يعشر زرعها فتصير للواحد عُشراً , تعطل فلا تزرع. {وإذا الوُحوشُ حُشِرتْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: جمعت , قاله الربيع. الثاني: اختلطت , قاله أبي بن كعب فصارت بين الناس.(6/212)
الثالث: حشرت إلى القيامة للقضاء فيقتص للجمّاء من القرناء , قاله السدي. الرابع: أن حشرها بموتها , قاله ابن عباس. {وإذا البحارُ سُجِّرتْ} فيه ثمانية تأويلات: أحدها: فاضت , قاله الربيع. الثاني: يبست , قاله الحسن. الثالث: ملئت , أرسل عذبها على مالحها , ومالحها على عذبها حتى امتلأت , قاله أبو الحجاج. الرابع: فجرت فصارت بحراً واحداً , قاله الضحاك. الخامس: سيرت كما سيرت الجبال , قاله السدي. السادس: هو حمرة مائها حتى تصير كالدم , مأخوذ من قولهم عين سجراء أي حمراء. السابع: يعني أوقدت فانقلبت ناراً , قاله عليّ رضي الله عنه وابن عباس وأُبي بن كعب. الثامن: معناه أنه جعل ماؤها شراباً يعذب به أهل النار , حكاه ابن عيسى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف (سجرت) إخباراً عن حالها مرة واحدة , وقرأ الباقون بالتشديد إخباراً عن حالها في تكرار ذلك منها مرة بعد أخرى. {وإذا النفوسُ زُوِّجَتْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني عُمل بهن عملٌ مثل عملها , فيحشر العامل بالخير مع العامل بالخير إلى الجنة , ويحشر العامل بالشر مع العامل بالشر إلى النار , قاله عطية العوفي: حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة. الثاني: يزوج كل رجل نظيره من النساء فإن من أهل الجنة زوّج بامرأة من(6/213)
اهل الجنة , وإن كان من أهل النار زوّج بامرأة من أهل النار , قاله عمر بن الخطاب , ثم قرأ: {احْشُروا الذين ظلموا وأزواجهم} الثالث: معناه ردّت الأرواح إلى الأجساد , فزوجت بها أي صارت لها زوجاً , قاله عكرمة والشعبي. الرابع: أنه قرن كل غاو بمن أغواه من شيطان أو إنسان , حكاه ابن عيسى. ويحتمل خامساً: زوجت بأن أضيف إلى كل نفس جزاء عملها , فصار لاختصاصها به كالتزويج. {وإذا الموءوجة سُئِلَتْ} والموءودة المقتولة , كان الرجل في الجاهلية إذا ولدت امرأته بنتاً دفنها حية , إما خوفاً من السبي والاسترقاق , وإما خشية الفقر والإملاق , وكان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا ويمنعون منه حتى افتخر الفرزدق فقال:
(ومِنّا الذي مَنَعَ الوائداتِ ... فأحْيا والوئيدَ فلم تُوأَدِ)
وسميت موءودة للثقل الذي عليها من التراب , ومنه قوله تعالى: {ولا يئوده حفظهما} أي لا يثقله , وقال متمم بن نويرة:
(وموءودةٍ مقبورة في مفازةٍ ... بآمتها موسودة لم تُمهّدِ)
فقال توبيخاً لقاتلها وزجراً لمن قتل مثلها {وإذا الموءودة سئلت} واختلف هل هي السائلة أو المسئولة , على قولين: أحدهما: وهو قول الأكثرين أنها هي المسئولة: {بأيِّ ذَنْبِ قُتِلَتْ} فتقول: لا ذنب لي , فيكون ذلك أبلغ في توبيخ قاتلها وزجره. الثاني: أنها هي السائلة لقاتلها لم قتلت , فلا يكون له عذر , قاله ابن عباس وكان يقرأ: وإذا الموءودة سألت.(6/214)