أحدهما: أنه سُمِّي سكناً لأن كل متحرك بالنهار يسكن فيه. والثاني: لأن كل حي يأوي فيه إلى مسكنه. {وَالشَّمْسَ والْقَمَرَ حُسْبَاناً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه يجريان في منازلهما بحساب وبرهان فيه بدء ورد إلى زيادة ونقصان , قاله ابن عباس والسدي. والثاني: أي جعلهما سبباً لمعرفة حساب الشهور والأعوام. والثالث: أي جعل الشمس والقمر ضياء , قاله قتادة , وكأنه أخذه من قوله تعالى: {وَيُرْسِلَ عَلَيهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَآءِ} [الكهف: 40] قال: ناراً.(2/148)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِّن نَّفْسِ وَاحِدَةٍ} يعني آدم عليه السلام. {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَودَعٌ} فيه ستة تأويلات: أحدها: فمستقر في الأرض ومستودع في الأصلاب , قاله ابن عباس. والثاني: فمستقر في الرحم ومستودع في القبر , قاله ابن مسعود. والثالث: فمستقر في أرحام النساء ومستودع في أصلاب الرجال , قاله عطاء , وقتادة.(2/148)
والرابع: فمستقر في الدنيا ومستودع في الآخرة , قاله مجاهد. والخامس: فمستقر في الأرض ومستودع في القبر , قاله الحسن. والسادس: أن المستقر ما خُلِق , والمستودع ما لم يُخلق , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} فيه قولان: أحدهما: معناه رزق كل شيء من الحيوان. والثاني: نبات كل شيء من الثمار. {فَأَخْرجْنَا مِنهُ خَضِراً} يعني زرعاً رطباً بخلاف صفته عند بذره. {نُّخْرِجُ مِنهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} يعني السنبل الذي قد تراكب حبه. {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيةٌ} القنوان جمع قنو وفيه ثلاثة تأويلات: أحدهما: أنه الطلع , قاله الضحاك. والثاني: أنه الجمار. والثالث: هي الأعذاق , قال امرؤ القيس
(أثت أعاليه وآدت أصوله ... ومال بقنوان من البسر أحمرا)
{دَانِيَةٌ} فيه قولان: أحدهما: دانية من المجتني لقصر نخلها وقرب تناولها , قاله ابن عباس. والثاني: داينة بعضها من بعض لتقاربها , قاله الحسن. {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} يعني بساتين من أعناب. {مُشْتَبِهاً وَغَيرَ مُتَشَابِهٍ} فيه وجهان: أحدهما: مشتبها ورقه مختلفاً ثمره , قال قتادة.(2/149)
والثاني: مشتبهاً لونه مختلفاً طعمه , قاله الكلبي. {انظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} قرأ حمزة والكسائي بالضم , وقرأ الباقون بالفتح , وفي اختلافه بالضم والفتح قولان: أحدهما: أن الثُّمُر بالضم جمع ثمار , وبالفتح جمع ثمرة , قاله علي بن عيسى. والثاني: أن الثُّمُر بالضم: المال , وبالفتح: ثمر النخل , قاله مجاهد , وأبو جعفر الطبري. {وَيَنْعِهِ} يعني نضجة وبلوغه.(2/150)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
{وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} قوله عز وجل: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المجوس نسبت الشر إلى إبليس , وتجعله بذلك شريكاً لله. والثاني: أن مشركي العرب جعلوا الملائكة بنات الله وشركاء له , قاله قتادة , والسدي , وابن زيد كقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَينَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} فَسَمَّى الملائكة لاختفائهم عن العيون جنة. والثالث: أنه أطاعوا الشيطان في عبادة الأوثان حتى جعلوها شركاء لله في العبادة , قاله الحسن , والزجاج. {وَخَلَقَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه خلقهم بلا شريك [له] , فَلِمَ جعلوا له في العبادة شريكاً؟ . والثاني: أنه خلق من جعلوه شريكاً فكيف صار في العبادة شريكاً.(2/150)
وقرأ يحيى بن يعمر {وَخَلْقَهُمْ} بتسكين اللام. ومعناه أنهم جعلوا خلقهم الذي صنعوه بأيديهم من الأصنام لله شريكاً. {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} في خرقوا قراءتان بالتخفيف والتشديد , وفيه قولان: أحدهما: أن معنى خرقوا كذبوا , قاله مجاهد , وقتادة , وابن جريج , وابن زيد. والثاني: معناه وخلقوا له بنين وبنات , والخلق والخرق واحد , قاله الفراء. والقول الثاني: أن معنى القراءتين مختلف , وفي اختلافهما قولان: أحدهما: أنها بالتشديد على التكثير. والثاني: أن معناها بالتخفيف كذبوا , وبالتشديد اختلفوا. والبنون قول النصارى في المسيح أنه ابن الله , وقول اليهود أن عزيراً ابن الله. والبنات قول مشركي العرب في الملائكة أنهم بنات الله. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: بغير علم منهم أن له بنين وبنات. والثاني: بغير حجة تدلهم على أن له بنين وبنات.(2/151)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
{بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} قوله عز وجل: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} فيه لأهل التأويل خمسة أقاويل:(2/151)
أحدها: معناه لا تحيط به الأبصار , وهو يحيط بالأبصار , واعتل قائل هذا بقوله: {فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} فوصف الله الغرق بأنه أدرك فرعون , وليس الغرق موصوفاً بالرؤية , كذلك الإدراك هنا , وليس ذلك بمانع من الرؤية بالإِبصار , غير أن هذا اللفظ لا يقتضيه وإن دل عليه قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . والقول الثاني: معناه لا تراه الأبصار وهو يرى الأبصار , واعتل قائلو ذلك بأمرين: أحدهما: أن الأبصار ترى ما بينها ولا ترى ما لاصقها , وما بين البصر فلا بد أن يكون بينهما فضاء , فلو رأته الأبصار لكان محدوداً ولخلا منه مكان , وهذه صفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان. والثاني: أن الأبصار تدرك الألوان كما أن السمع يدرك الأصوات , فلما امتنع أن يكون ذا لون امتنع أن يكون مرئياً , كما أن ما امتنع أن يكون ذا صوت امتنع أن يكون مسموعاً. والقول الثالث: لا تدركه أبصار الخلق في الدنيا بدليل قوله: {لاَ تَدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وتدركه في الآخرة بدليل قوله: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة. والرابع: لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة , وتدركه أبصار المؤمنين , وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة , لأن الإِدراك له كرامة تنتفي عن أهل المعاصي.(2/152)
والقول الخامس: أن الأبصار لا تدركه في الدنيا والآخرة , ولكن الله يحدث لأوليائه حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس يرونه بها , اعتِلاَلاً بأن الله أخبر برؤيته , فلو جاز أن يُرَى في الآخرة بهذه الأبصار وإن زِيْدَ في قواها جاز أن يرى بها في الدنيا وإن ضعفت قواها بأضعف من رؤية الآخرة , لأن ما خُلِقَ لإِدراك شيء لا يُعْدَمُ إدراكه , وإنما يختلف الإِدراك بحسب اختلاف القوة والضعف , فلما كان هذا مانعاً من الإدراك - وقد أخبر الله تعالى بإدراكه - اقتضى أن يكون ما أخبر به حقاً لا يدفع بالشبه , وذلك بخلق حاسة أخرى يقع بها الإِدراك. ثم قال: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} فاحتمل وجهين من التأويل: أحدهما: لطيف بعباده في الإِنعام عليهم , خبير بمصالحهم. والثاني: لطيف في التدبير خبير بالحكمة.(2/153)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
{قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون} قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتلو بعضها بعضاً فلا ينقطع التنزيل. والثاني: أن الآية تنصرف في معان متغايرة مبالغة في الإِعجاز ومباينة لكلام البشر. والثالث: أنه اختلاف ما تضمنها من الوعد والوعيد والأمر والنهي , ليكون أبلغ في الزجر , وأدعى إلى الإِجابة , وأجمع للمصلحة. ثم قال تعالى: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} وفي الكلام حذف , وتقديره: ولئلا يقولوا درست , فحذف ذلك إيجازاً كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 167] أي لئلا تضلوا. وفي {دَرَسْتَ} خمس قراءات يختلف تأويلها بحسب اختلافها:(2/153)
إحداهن: {َدَرَسْتَ} بمعنى قرأت وتعلمت , تقول ذلك قريش للنبي صلى الله عليه وسلم , قاله ابن عباس , والضحاك , وهي قراءة حمزة , والكسائي. والثانية: {دَارَسْتَ} بمعنى ذاكرت وقارأت , قاله مجاهد , وسعيد بن جبير , ومروي عن ابن عباس , وهي قراءة ابن كثير , وأبي عمرو. وفيها على هذه القراءة تأويل ثانٍ , أنها بمعنى خاصمت وجادلت. والثالثة: {دَرَسَتْ} بتسكين التاء بمعنى انمحت وتقادمت , قاله ابن الزبير , والحسن , وهي قراءة ابن عامر. والرابعة: {دُرِسَتْ} بضم الدال لما لم يسم فاعله تليت وقرئت , قاله قتادة. والخامسة: {دَرَسَ} بمعنى قرأ النبي صلى الله عليه وسلم وتلا , وهذا حرف أبي بن كعب , وابن مسعود. {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْْلَمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لقوم يعقلون. والثاني: يعلمون وجوه البيان وإن لم يعلموا المبين.(2/154)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
{اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا(2/154)
لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دَونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوَاْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} يعني اعتداء , وقرأ أهل مكة عَدُوّاً بالتشديد بمعنى أنهم اتخذوه عدوّاً. وفيه قولان: أحدهما: لا تسبوا الأصنام فتسب عبدة الأصنام من يسبها , قاله السدي. والثاني: لا تسبوها فيحملهم الغيظ والجهل على أن يسبوا من تعبدون كما سَبَبْتم ما يعبدون. {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: كما زينا لكم فعل ما أمرناكم به من الطاعات كذلك زينا لمن تقدم من المؤمنين فعل ما أمرناهم به من الطاعات , قاله الحسن. والثاني: كذلك شبهنا لكل أهل دين عملهم بالشبهات ابتلاء لهم حتى قادهم الهوى إليها وعَمُوا عن الرشد فيها. والثالث: كما أوضحنا لكم الحِجج الدالة على الحق كذلك أوضحنا لمن قبلكم من حِجج الحق مثل ما أوضحنا لكم.(2/155)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} قوله عز وجل: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} هؤلاء قوم من مشركي أهل مكة حلفوا بالله لرسوله صلى الله عليه وسلم لئن جاءتهم آية اقترحوها ليؤمنن بها , قال ابن جريج: هم المستهزئون. واختلف في الآية التي اقترحوها على ثلاثة أقاويل:(2/155)
أحدها: أن تجعل لنا الصفا ذهباً. والثاني: ما ذكره الله في آخر: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسِقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَينَا كِسَفَاً} إلى قوله: {كِتَاباً نَقْرؤُهُ} فأمر الله نبيه حين أقسموا له أن يقول لهم {قُلْ إِنَّمَا الأَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} . والثالث: أنه لما نزل قوله تعالى في الشعراء: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُم لَهَا خَاضِعِينَ} قال المشركون: أنزلها علينا حتى نؤمن بها إن كنت من الصادقين , فقال المؤمنون: يا رسول الله أنزلها عليهم ليؤمنوا , فأنزل الله تعالى هذه الآية , قاله الكلبي: وليس يجب على الله إجابتهم إلى اقتراحهم لا سيما إذا علم أنهم لا يؤمنون بها , واختلف في وجوبها عليه إذا علم إيمانهم بها على قولين وقد أخبر أنهم لا يؤمنون بقوله: {وَمَا يُشْعُرِكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} . ثم قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُم وَأَبْصَارَهُم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وهذا من الله عقوبة لهم , وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها عقوبة من الله في الآخرة يقلبها في النار. والثاني: في الدنيا بالحيرة حتى يزعج النفس ويغمها. والثالث: معناه أننا نحيط بذات الصدور وخائنة الأعين منهم. وفي قوله: {أَوَّلَ مَرَّةٍ} تأويلان: أحدهما: أول مرة جاءتهم الآيات. والثاني: أن الأول أحوالهم في الدنيا كلها , ثم أكد الله تعالى حال عنتهم.(2/156)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون}(2/156)
فقال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} فيه قراءاتان: إحداهما: {قِبَلا} بكسر القاف وفتح الباء , قرأ بها نافع , وابن عامر , ومعنى ذلك معاينة ومجاهرة , قاله ابن عباس وقتادة. والقراءة الثانية: بضم القاف والباء وهي قراءة الباقين , وفي تأويلها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن القُبُل جمع قبيل وهو الكفيل , فيكون معنى {قُبُلاً} أي كُفَلاء. والثاني: أن معنى ذلك قبيلة قبيلة وصفاً صفاً , قاله مجاهد. والثالث: معناه مقابلة , قاله ابن زيد , وابن إسحاق. ثم قال: {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} يعني بهذه الآيات مع ما اقترحوها من قبل. ثم قال: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} فيه قولان: أحدهما: أن يعينهم عليه. والثاني: إلا أن يشاء أن يجبرهم عليه , قاله الحسن البصري. ثم قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يجهلون فيما يقترحونه من الآيات. والثاني: يجهلون أنهم لو أجيبوا إلى ما اقترحوا لم يؤمنوا طوعاً.(2/157)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
{وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً} أي جعلنا للأنبياء أعداء كما جعلنا لغيرهم من الناس أعداء. وفي {جَعَلْنَا} وجهان:(2/157)
أحدهما: معناه حكمنا بأنهم أعداء. والثاني: معناه تركناهم على العداوة , فلم نمنعهم منها. وفي {شَيَاطِينَ الإْنسِ وَالْجِنِّ} ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني شياطين الإنس الذين مع الإنس , وشياطين الجن الذين مع الجن , قاله عكرمة , والسدي. والثاني: شياطين الإنس كفارهم , وشياطين الجن كفارهم , قاله مجاهد. والثالث: أن شياطين الإنس والجن مردتهم , قاله الحسن , وقتادة. {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} في يوحي ثلاثة أوجه: أحدها: يعني يوسوس بعضهم بعضاً. والثاني: يشير بعضهم إلى بعض , فعبر عن الإشارة بالوحي كقوله: {فَأَوْحَى إِلَيهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 11] و {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} ما زينوه لهم من الشبه في الكفر وارتكاب المعاصي. والثالث: يأمر بعضهم بعضاً كقوله: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12] أي أمر. ثم قال: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما فعلوه من الكفر. والثاني: ما فعلوا من زخرف القول. وفي تركهم على ذلك قولان: أحدهما: ابتلاء لهم وتمييزاً للمؤمنين منهم. والثاني: لا يلجئهم إلى الإيمان فيزول التكليف.(2/158)
قوله عز وجل: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ} أي تميل إليه قلوبهم , والإصغاء: الميل , قال الشاعر:
(ترى السفيه به عن كل محكمة ... زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء)
وتقدير الكلام , يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ليغروهم ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة , وقال قوم: بل هي لام أمر ومعناها الخبر. {وَلِيَرْضَوْهُ} لأن من مَالَ قلبه إلى شيء رضيه وإن لم يكن مرضياً. {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُمْ مُّقْتَرِفُونَ} فيه وجهان: أحدهما: وليكتسبوا من الشرك والمعاصي ما هم مكتسبون , قاله جويبر. والثاني: وليكذبوا على الله ورسوله ما هم كاذبون , وهو محتمل.(2/159)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
{أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} قوله عز وجل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} فيه وجهان: أحدهما: معناه هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم الله حتى أعدل عنه. والثاني: هل يجوز لأحد أن يحكم مع الله حتى أحتكم إليه. والفرق بين الحَكَم والحَاكِم , أن الحَكَمَ هو الذي يكون أهلاً للحُكْم فلا يَحْكُمُ إلا بحق , والحَاكِمُ قد يكون من غير أهله فَيَحْكُمُ بغير حق , فصار الحَكَم من صفات ذاته , والحَاكِم من صفات فعله , فكان الحَكَم أبلغ في المدح من الحَاكِم.(2/159)
ثم قال: {وُهُوَ الَّذِيِّ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} في المفصَّل أربعة تأويلات: أحدها: تفصيل آياته لتبيان معانيه فلا تُشْكِل. والثاني: تفصيل الصادق من الكاذب. والثالث: تفصيل الحق من الباطل , والهدى من الضلال , قاله الحسن. والرابع: تفصيل الأمر من النهي , والمستحب من المحظور , والحلال من الحرام. وسبب نزول هذه الآية أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حَكَماً إن شئت من أحبار اليهود وإن شئت من أحبار النصارى , ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك , فنزلت عليه هذه الآية. قوله عز وجل: {وَتَمَّتَ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} يعني القرآن , وفي تمامه أربعة أوجه محتملة: أحدها: تمام حُجَجِهِ ودلائله. والثاني: تمام أحكامه وأوامره. والثالث: تمام إنذاره بالوعد والوعيد. والرابع: تمام كلامه واستكمال صوره. وفي قوله: {صِدْقاً وَعَدْلاً} وجهان: أحدهما: صدقاً في وعده ووعهده , وعدلاً في أمره ونهيه , قاله ابن بحر. والثاني: صدقاً فيما حكاه , عدلاً فيما قضاه , وهو معنى قول قتادة. وقد مضى تفسير {لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} .(2/160)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
{وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما(2/160)
حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون} قوله عز وجل: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإْثْمِ وَبَاطِنهُ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: سره وعلانيته , قاله مجاهد , وقتادة. والثاني: ظاهر الإثم: ما حرم من نكاح ذوات المحارم بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتكُمْ ... } الآية. وباطنه الزِّنى , قاله سعيد بن جبير. والثالث: أن ظاهر الإثم أُوْلاَت الرايات من الزواني , والباطن ذوات الأخدان , لأنهن كُنَّ يستحللنه سراً , قاله السدي , والضحاك. والرابع: أن ظاهر الإثم العِرية التي كانو يعملون بها حين يطوفون بالبيت عراة , وباطنه الزِّنى , قاله ابن زيد. ويحتمل خامساً: أن ظاهر الإثم ما يفعله بالجوارح , وباطنه ما يعتقده بالقلب.(2/161)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} قوله عز وجل: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: المراد بها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها , قاله عطاء. والثاني: أنها الميتة , قاله ابن عباس. والثالث: أنه صيد المشركين الذين لا يذكرون اسم الله , ولا هم من أهل التسمية , يَحْرُمُ على المسلمين أن يأكلوه حتى يكونوا هم الذين صادوه , حكاه ابن بحر.(2/161)
والرابع: أنه ما لم يُسَمَّ اللَّهُ عند ذبحه. وفي تحريم أكله ثلاثة أقاويل: أحدها: لا يحرم [سواء] تركها عامداً أو ناسياً , قاله الحسن , والشافعي. والثاني: يحرم إن تركها عامداً , ولا يحرم إن تركها ناسياً , قاله أبو حنيفة. والثالث: يحرم سواء تركها عامداً أو ناسياً , قاله ابن سيرين , وداود. {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فيه تأويلان: أحدهما: أن المراد به المعصية , قاله ابن عباس. والثاني: المراد به الإِثم. {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوْحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} يعني المجادلة في الذبيحة , وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عنى بالشياطين قوماً من أهل فارس كتبوا إلى أوليائهم من قريش أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله , ولا يأكلون ما ذبح الله يعني الميتة , ويأكلون ما ذبحوه لأنفسهم , فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية , قاله عكرمة. والثاني: أن الشياطين قالوا ذلك لأوليائهم من قريش , قاله ابن عباس. والثالث: أن قوماً من اليهود قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم , وهذا مروي عن ابن عباس. وفي وحيهم إليهم وجهان: أحدهما: أنها إشارتهم. والثاني: رسالتهم. {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} يعني في أكل الميتة , إنكم لمشركون إن استحللتموها.(2/162)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
{أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}(2/162)
قوله عز وجل: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كان ميتاً حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح [فيه] , حكاه ابن بحر. والثاني: كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالهداية إلى الإيمان , حكاه ابن عيسى. والثالث: كان ميتاً بالجهل فأحييناه بالعمل , أنشدني بعض أهل العلم ما يدل على صحة هذا التأويل لبعض شعراء البصرة.
(وفي الجهل قبل الموت لأهله ... فأجسامهم قبل القبور قبور)
(وإن امرءا لم يحيى بالعلم ميت ... فليس له حتى النشور نشور)
{وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن النور القرآن , قاله الحسن. والثاني: انه العلم الذي يهدي إلى الرشد. والثالث: أنه حُسْنُ الإيمان. وقوله: {يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} يحتمل وجهين: أحدهما: ينشر به ذكر دينه بين الناس في الدنيا حتى يصير كالماشي. والثاني: يهتدي به بين الناس إلى الجنة فيكون هو الماشي. {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} فيه قولان: أحدهما: أن الظلمات الكفر. والثاني: الجهل , وشبهه بالظلمة لأن صاحبه في حيرة تفضي به إلى الهلكة كحيرة الماشي في الظلمة. واختلفوا في هذه الآية على قولين. أحدهما: أنها على العموم في كل مؤمن وكافر , قاله الحسن وغيره من أهل العلم. والثاني: أنها على الخصوص في مُعَيَّن. وفيمن تعين نزول ذلك فيه قولان: أحدهما: أن المؤمن عمر بن الخطاب , والكافر أبو جهل , قاله الضحاك. ومقاتل.(2/163)
والثاني: أن المؤمن عمار بن ياسر , والكافر أبو جهل , قاله عكرمة , والكلبي.(2/164)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
{وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون} قوله عز وجل: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْءَايَةٌ} يعني علامة تدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته. {قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لن نؤمن بالآية. والثاني: لن نؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم. {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: مثل ما أوتي رسل الله من الكرامة. الثاني: مثل ما أوتوا من النبوة. {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} قصد بذلك أمرين: أحدهما: تفرد الله تعالى بعلم المصلحة فيمن يستحق الرسالة. والثاني: الرد عليهم في سؤال ما لا يستحقونه , والمنع مما لا يجوز أن يسألوه. {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجرَمُواْ صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} الصَّغَار: الذل سمي صَغَاراً لأنه يصغر إلى الإنسان نفسه. وفي قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} ثلاثة أوجه: أحدها: من عند الله , فحذف (من) إيجازاً. والثاني: أن أنفتهم من اتباع الحق صَغَار عند الله وذل إن كان عندهم تكبراً وعزاً , قاله الفراء. والثالث: صَغَار في الآخرة , قاله الزجاج.(2/164)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} قوله عز وجل: {فَمَن يُرِِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ} فيه قولان: أحدهما: يهديه إلى نيل الثواب واستحقاق الكرامة.(2/165)
والثاني: يهديه إلى الدلائل المؤدية إلى الحق. {يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} يعني بشرح الصدر سعته لدخول الأسلام إيه وثبوته فيه كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشَرْحْ لَكَ صَدْرَك} [الشرح: 1] . روى عمرو بن مرة عن أبي جعفر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المؤمنين أكْيَس؟ قال: (أَكْثَرُهُم ذِكْراً لِلْمَوتِ وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَاداً) قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: (نُوْرٌ يُقْذَفُ فَيَنْشَرِحُ لَهُ وَيَنفَسِحُ) قالوا: فهل لذلك أمارة يُعْرَفُ بها؟ قال: (الإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرورِ وَالاسْتِعْدَادِ لِلْمَوتِ قَبْلَ لِقَاءِ المَوتِ) وروى ابن مسعود مثل ذلك. ثم قال: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} فيه قولان: أحدهما: يضله عن الهداية إلى الحق. والثاني: عن نيل الثواب واستحقاق الكرامة. {يَجْعَلُ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} يعني ضيقاً لا يتسع لدخول الإسلام. {حَرَجاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون شديد الصلابة حتى لا يثبت فيه شيء. والثاني: شديد الضيق حتى لا يدخله شيء. والثالث: أن موضعه مُبْيَض. {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: كأنه كُلِّف الصعود إلى السماء في امتناعه عليه وبعده منه. والثاني: كأنه لا يجد مسلكاً لضيق المسالك عليه إلا صعوداً في السماء يعجز عنه. والثالث: كأنه قلبه بالنبو عنه والنفور منه صاعداً إلى السماء. والرابع: كأن قلبه يصعد إلى السماء بمشقته عليه وصعوبته عنده. ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} في الرجس خمسة تأويلات: أحدها: أنه ما لا خير فيه , قاله مجاهد. والثاني: أنه العذاب , قاله ابن زيد. والثالث: السخط , قاله ابن بحر. والرابع: انه الشيطان , قاله ابن عباس. والخامس: أن الرجس والنجس واحد , وهو قول بعض نحويي الكوفة , وحكاه عَلِيُّ بن عيسى. وقد روى قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل الخلاء قال:(2/166)
(اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ وَالنَّجَسِ الهَبِيثِ الخَبِيثِ الشِّيْطَانِ الرَّجِيمِ) .(2/167)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
{وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {وَهَذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} قد ذكرنا أن الصراط هو الطريق , ومنه قول عامر ابن الطفيل:
(شحنا أرضهم بالخيل حتى ... تركناهم أذل من الصراط)
وفيه ها هنا قولان: أحدهما: يريد أن الإِسلام هو الصراط المستقيم إلى الله تعالى , قاله الكلبي. والثاني: يريد أن ما في القرآن من البيان هو الصراط المستقيم. {قَدْ فَصَّلْنَا} يحتمل وجهين: أحدهما: بيَّنَّا. والثاني: ميَّزنا. قوله عز وجل: {لَهُم دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ} وهي الجنة , وفي تسميتها دار السلام وجهان: أحدهما: لأنها دار السلامة الدائمة من كل آفة , قاله الزجاج. والثاني: أن السلام هو الله , والجنة داره , فلذلك سُمِّيَتْ دار السلام , وهذا معنى قول الحسن , والسدي. وفي قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} وجهان: أحدهما: أن دار السلام عند ربهم في الآخرة لأنها أخص به. والثاني: معناه أن لهم عن ربهم أن ينزلهم دار السلام. {وُهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: وهو ناصرهم في الدنيا على إيمانهم. والثاني: وهو المتولِّي لثوابهم في الآخرة على أعمالهم.(2/167)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
{ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} يعني يحشر الجن والإنس جميعاً يوم القيامة. {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنسِ} فيه قولان: أحدهما: قد استكثرتم من إغوئهم وإضلالهم , قاله ابن عباس , والحسن , وقتادة , ومجاهد. والثاني قد استكثرتم من الإنس بإغوائكم لهم. {وَقَالَ أَولِيَاؤُهُمْ مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَغْضٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه استمتع بعضنا بصحبة بعض في التعاون والتعاضد. والثاني: استمتع بعضنا ببعض فيما زينوه من اتباع الأهواء وارتكاب المعاصي. والثالث: أن الاستمتاع بهم ما كانوا عليه من التعوذ بهم كقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} , قال الحسن , وابن جريج. ثم فيه وجهان: أحدهما: أنه استمتاع الإنس بالجن. والثاني: أنه استمتاع الإنس بعضهم ببعض. وفيه وجه ثالث: أن الإنس استمتعوا بالجن , والجن استمتعوا بالإنس في اعتقادهم أنهم يقدرون على النفع. {وَبَلَغْنآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} فيه قولان: أحدهما: أنه الموت , قاله الحسن , والسدي. والثاني: الحشر. {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} أي منزل إقامتكم , لأن المثوى الإقامة , ومنه قول الشاعر:
(لقد كان في حول ثواءً ثويته ... تقضي لبانات وتسأم سائم)(2/168)
{خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} في {إِلاَّ} في هذا الموضوع ثلاثة أوجه: أحدها: أنها بمعنى لكن , قاله سيبويه. والثاني: أنها بمعنى سوى , قاله الفراء. والثالث: أنها مستعملة على حقيقتها , وهو قول الجمهور. وفي هذا الاستثناء ثلاثة أقاويل. أحدها: أن مدة الاستثناء هي مدة العرض في القيامة وذلك ما بين بعثهم من قبورهم إلى حين مصيرهم إلى جهنم , فكأنه قال: النار مثواكم خالدين فيها إلا هذه المدة التي ذكرها , فإنهم فيها غير خالدين في النار. والثاني: معناه خالدين فيها إلا ما شاء الله من تجديد جلودهم بعد إحراقها وتصريفهم في أنواع العذاب أو تركهم فيها على حالتهم الأولى , فيكون الاستثناء في صفة العذاب لا في الخلود في النار. والثالث: أنه جعل أمرهم في مبلغ عذابهم ومدته إلى مشيئته تعالى , قاله ابن عباس , قال: ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه , ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.(2/169)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
{وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون} قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِِمِينَ بَعْضاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: معناه وكذلك نَكِلُ بعضهم إلى بعض , فلا نعينهم , ومن سُلِبَ معونة الله كان هالكاً.(2/169)
والثاني: وكذلك نجعل بعضهم لبعض ولياً على الكفر. والثالث: وكذلك نولِّي بعضهم عذاب بعض في النار. والرابع معناه أن بعضهم يتبع بعضاً في النار من الموالاة وهي المتابعة , قاله قتادة. والخامس: تسليط بعضهم على بعض بالظلم والتعدي , قاله ابن زيد.(2/170)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
{يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} قوله عز وجل: {يَا مَعشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} المعشر: الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف , ومنه قيل للعَشَرَة لأنها تمام العِقْد. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلُ مِنْكُمْ يَقُصُّون عَلَيْكُمْءَايَاتِي} اختلفوا في الرسالة إلى الجن على ثلاثة أقاويل. أحدها: ان الله بعث إلى الجن رسلاً منهم , كما بعث إلى الإنس رسلاً منهم , قاله الضحاك وهو ظاهر الكلام. والثاني: أن الله لم يبعث إليهم رسلاً منهم , وإنما جاءتهم رسل الإنس , قاله ابن جريج , والفراء , والزجاج , ولا يكون الجمع في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنُكُمْ} مانعاً من أن يكون الرسل من أحد الفريقين , كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما هو خارج من أحدهما. والثالث: أن رسل الجن هم الذين لمَّا سمعوا القرآن {وَلَّواْ إِلَى قَومِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29] , قاله ابن عباس. وفي دخولهم الجنة قولان: أحدهما: قاله الضحاك.(2/170)
والثاني: أن ثوابهم أن يجاروا من النار , ثم يُقَال لهم كونوا تراباً كالبهائم , حكاه سفيان عن ليث. {وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} يحتمل وجهين: أحدهما: ينذرونكم خذلان بعضكم لبعض وتبرؤ بعضكم من بعض في يوم القيامة. والثاني: ينذرونكم ما تلقونه فيه من العذاب على الكفر , والعقاب على المعاصي. {قالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا} يحتمل وجهين: أحدهما: إقرارهم على أنفسهم بأن الرسل قد أنذروهم. والثاني: شهادة بعضهم على بعض بإنذار الرسل لهم. {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} فيه وجهان:(2/171)
أحدهما: وغرتهم زينة الحياة الدنيا. والثاني: وغرتهم الرياسة في الدنيا. ويحتمل ثالثاً: وغرتهم حياتهم في الدنيا حين أمهلوا. {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِم} وفي هذه الشهادة أيضاً الوجهان المحتملان إلا أن تلك شهادة بالإنذار وهذا بالكفر.(2/172)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
{ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون} قوله تعالى: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: وما كان ربك مهلك القرى بظلم منه ولكن بحق استوجبوا به الهلكة , وهو معنى قول مقاتل. والثاني: وما كان ربك مهلك القرى بظلم أهلها حتى يقدم إنذارهم ويرفع أعذارهم ويخرجوا من حكم الغافلين فيما ينزل بهم , وهو معنى قول مجاهد. قوله عز وجل: {وَلِكُلٍ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} معناه ولكل عامل بطاعة الله أو معصيته درجات , يعني منازل , وإنما سُمِّيت درجات لتفاضلها كتفاضل الدَرَجِ في الارتفاع والانحطاط. وفيها وجهان: أحدهما: أن المقصود بها الأعمال المتفاضلة. والثاني: أن المقصور بها الجزاء المتفاضل. ويحتمل هذا التفضيل بالدرجات على أهل الجنة , وأهل النار , لأن أهل النار يَتفاضلون في العقاب بحسب تفاضلهم في السيئات , كما يتفاضل أهل الجنة في الثواب لتفاضلهم في الحسنات , لكن قد يعبر عن تفاضل أهل الجنة بالدَرَج , وعن تفاضل أهل النار بالدرك , فإذا جمع بينهما بالتفاضل عبر عن تفاضلهما بالدرج تغليباً لصفة أهل الجنة.(2/172)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
{وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون} قوله عز وجل: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُم} فيه خمسة تأويلات: أحدها: على طريقتكم. والثاني: على حالتكم.(2/172)
والثالث: على ناحيتكم , قاله ابن عباس , والحسن. والرابع: على تمكنكم , قاله الزجاج. والخامس: على منازلكم , قاله الكلبي. {إِنِّي عَامِلٌ} يعني أنذركم من جزاء المطيع بالثواب , والعاصي بالعقاب. {فَسَوفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونَ لَهُ عاقِبَةٌ الدَّارِ} فيه وجهان: أحدهما: تعلمون ثواب الآخرة بالإيمان , وعقابها بالكفر ترغيباً منه في ثوابه وتحذيراُ من عقابه. والثاني: تعلمون نصر الله في الدنيا لأوليائه , وخذلانه لأعدائه , قاله ابن بحر.(2/173)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
{وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون} قوله عز وجل: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً} . . {مِمَّا ذَرَأَ} مما خلق , مأخوذ من الظهور , ومنه قيل ملح ذُرْ أي لبياضه , وقيل لظهور الشيب ذُرْأَة , والحرث: الزرع , والأنعام: الإبل والبقر والغنم , مأخوذ من نعمة الوطء. وهذا إخبار منه عن كفار قريش ومن تابعهم من مشركي العرب , كانوا يجعلون لله في زروعهم ومواشيهم نصيباً , ولأوثانهم وأصنامهم نصيباً , فجعل الله أوثانهم شركاءهم؛ لأنهم قد أشركوهم في أموالهم بالنصيب الذي قد جعلوه فيها لهم , ونصيبهم في الزرع جزء منها يجعلونه مصروفاً في النفقة عليها وعلى خدامها. وفي نصيبهم من الأنعام ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه كنصيبهم من الزرع مصروف في النفقة عليها وعلى خدامها. والثاني: أنه قربان لأوثانهم كانوا يتقربون به إليها.(2/173)
والثالث: أنه البحيرة , والسائبة , والوصيلة , والحام. ثم قال تعالى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِم فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} فاختلف أهل التأويل في المراد بذلك على أربعة أوجه: أحدها: أنه كان إذا اختلط بأموالهم شيء مما جعلوه لأوثانهم , ردوه , وإذا اختلط بها ما جعلوه لله لم يردوه , قاله ابن عباس , وقتادة. والثاني: أنه كان إذا هلك ما لأوثانهم غرموه , وإذا هلك ما لله لم يغرموه , قاله الحسن , والسدي. والثالث: أنهم كانوا يصرفون بعض ما جعلوه لله في النفقة على أوثانهم ولا يفعلون مثل ذلك فيما جعلوه لأوثانهم , قاله بعض المتأخرين. والرابع: أن كل شيء جعلوه لله من ذبائحهم لم يأكلوه حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم , ولا يذكرون اسم الله فيما جعلوه لأوثانهم , قاله ابن زيد.(2/174)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
{وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون} قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} أما شركاؤهم ها هنا ففيهم أربعة أقاويل: أحدها: الشياطين , قاله الحسن , ومجاهد , والسدي. والثاني: أنهم قوم كانوا يخدمون الأوثان , قاله الفراء , والزجاج. والثالث: أنهم الغواة من الناس. وفي الذي زينوه لهم من قتل أولادهم قولان: أحدهما: أنه كان أحدهم يحلف إن وُلِدَ له كذا وكذا غلام ان ينحر أحدهم كما(2/174)
حلف عبد المطلب في نحر ابنه عبد الله , قاله الكلبي. والثاني: أنه وَأَدُ البنات أحياءً خِيْفَة الفقر , قاله مجاهد. {لِيُرْدُوهُمْ} أي ليهلكوهم , ومنه قوله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 11] يعني إذا هلك. وفي ذلك وجهان: أحدهما: أنهم قصدوا أن يردوهم بذلك كما قصدوا إغواءَهم. والثاني: أنهم لم يقصدوا ذلك وإنما آلَ إليه فصارت. هذه لام العاقبة كقوله: {فَالْتَقَطَهُءَالُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] لأن عاقبته صارت كذلك وإن لم يقصدوها.(2/175)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
{وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون} قوله عز وجل: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} أي ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان: 22] أي حراماً , قال الشاعر:
(قبت مرتفقاً والعين ساهرة ... كأن نومي عليَّ الليل محجور)
{لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ} قال الكلبي: جعلوها للرجال دون النساء. وفي الأنعام والحرث التي قالوا إنه لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم قولان. أحدهما: أن الأنعام التي يحكمون فيها بهذا الحكم عندهم هي البَحِيْرَة والحام خاصة , والحرث ما جعلوه لأوثانهم , قاله الحسن , ومجاهد. والثاني: أن الأنعام هي ذبائح الأوثان , والحرث ما جعلوه لها. ثم قال تعالى: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} فيها قولان:(2/175)
أحدهما: أنها السائبة. والثاني: أنها التي لا يحجون عليها , قاله أبو وائل. {وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} وهي قربان أوثانهم يذكرون عليها اسم الأوثان , ولا يذكرون عليها اسم الله تعالى. {افْتِرَآءً عَلَيْهِ} أي على الله وفيه قولان: أحدهما: أن إضافتهم ذلك إلى الله هو الافتراء عليه. والثاني: أن ذكرهم أسماء أوثانهم عند الذبيحة بدلاً من اسم الله هو الافتراء عليه.(2/176)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
{وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين} {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} , قرأ الأعمش {خَالِصٌ} , وفي {خَالِصَةٌ} وفي {خَالِصٌ} وجهان: أحدهما: أن {خَالِصَةٌ} أبلغ من {خَالِصٌ} وإن كانت في معناه فدخلت الهاء للمبالغة كقولهم: علاَّمة , ونسَّابة , قاله الكسائي. والثاني: أن دخول الهاء يوجب عوده إلى الأنعام لتأنيثها , وحذف الهاء , يوجب عوده إلى ما في بطونها لتذكيره , قاله الفراء. وفي ذلك ثلاثة أقاويل: أحدها: أن ما في بطونها الأجنة , قاله: مجاهد. والثاني: الألبان , قاله قتادة.(2/176)
والثالث: الجميع: الأجنة والألبان , قاله مقاتل. وفي جعلهم ذلك لذكورهم دون إناثهم وأزواجهم قولان: أحدهما: لأن الذكور هم خدام الأوثان. والثاني: تفضيلاً للذكور على الإناث. وأصل الذكور من الذِّكْر , وفي أخذه من الذِّكْر وجهان: أحدهما: لأنه المذكور بين الناس فكان أنبه ذِكْراً من الأنثى. والثاني: لأنه أشرف , والذِّكْر هو الشرف , قاله الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] أي شرف.(2/177)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
{وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْروشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ... } أما الجنات فهي البساتين يحفها الشجر , وأما الروضة فهي الخضراء بالنبات , وأما الزهرة فهي باختلاف الألوان الحسنة. وفي قوله: {مَعْرُوشَاتٍ} أربعة أقاويل: أحدها: أنه تعريش الناس الكروم وغيرها , بأن ترفع أغصانها , قاله ابن عباس , والسدي. والثاني: أن تعريشها هو رفع حظارها وحيطانها.(2/177)
والثالث: أنها المرتفعة عن الأرض لعلو شجرها , فلا يقع ثمرها على الأرض , لأن أصله الارتفاع ولذلك سُمِّيَ السرير عرشاً لارتفاعه , ومنه قوله تعالى: {خاوية على عروشها} [الكهف: 42] و [الحج: 45] أي على أعاليها وما ارتفع منها. والرابع: أن المعروشات ما عرشه الناس , وغير المعروشات ما نبت في البراري والجبال. {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وإنما قدم ذكر الأكل لأمرين: أحدهما: تسهيلاً لإيتاء حقه. والثاني: تغليباً لحقهم وافتتاحاً بنفعهم بأموالهم. وفي قوله: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ثلاثة أقاويل: أحدها: الصدقة المفروضة فيه: العُشْر فيما سقي بغير آلة , ونصف العشر فيما سقي بآلة , وهذا قول الجمهور. والثاني: أنها صدقة غير الزكاة , مفروضة يوم الحصاد والصرام وهي إطعام من حضر وترك ما تساقط من الزرع والثمر , قاله عطاء ومجاهد. والثالث: أن هذا كان مفروضاً قبل الزكاة ثم نسخ بها , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير , وإبراهيم. {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن هذا الإسراف المنهي عنه هو أن يتجاوز رب المال إخراج القدر المفروض عليه إلى زيادة تجحف به , قاله أبو العالية , وابن جريج. وقد روى سعد بن سنان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المُعْتَدِي فِي(2/178)
الصَّدَقَةِ كَمَانِعِهَا) وقيل: إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وقد تصدق بجميع ثمرته حتى لم يبق فيها ما يأكله. والثاني: هو أن يأخذ السلطان منه فوق الواجب عليه , قاله ابن زيد. والثالث: هو أن يمنع رب المال من دفع القدر الواجب عليه , قاله سعيد بن والمسيب. والرابع: أن المراد بهذا السرف ما كانوا يشركون آلهتهم فيه من الحرث والأنعام , قاله الكلبي. والخامس: هو أن يسرف في الأكل منها قبل أن يؤدي زكاتها , قاله ابن بحر. قوله عز وجل: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الحمولة كبار الإبل التي يُحْمَلُ عليها , والفرش صغارها التي لا يحمل عليها , مأخوذ من افتراش الأرض بها على الاستواء كالفرش. وقال ابن بحر الافتراش الإضجاع للنحر , فتكون الحمولة كبارها , والفرش صغارها , قال الراجز:
(أورثني حمولة وفرشا ... أمشّها في كل يوم مشّا)
أي أمسحها , قاله ابن مسعود , والحسن , ومجاهد. والثاني: أن الحَمُولة ما حُمِلَ عليه من الإبل والبقر , والفرش: الغنم , قاله ابن عباس , وقتادة , ومنه قول ابن مسلمة:
(وحوينا الفرش من أنعامكم ... والحمولات وربات الحجل)
والثالث: أن الحملة ما حمل من الإبل , والبقر , والخيل , والبغال , الحمير , والفرش ما خلق لهم من أصوافها وجلودها. {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: من الحمولة ليبين أن الانتفاع بظهرها لا يمنع من جواز أكلها. والثاني: أنه إذن منه في عموم أكل المباح من أموالهم , ونهى عن أكل ما لا يملكونه.(2/179)
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فيها قولان: أحدهما: أنها طريقه التي يدعوكم إليها من كفر وضلال. والثاني: أنها تخطيه إلى تحريم الحلال وتحريم الحرام , وقد ذكرنا ما في ذلك من زيادة التأول ومن الاحتمال , وأنه الانتقال من معصية إلى أخرى حتى يستوعب جميع المعاصي , مأخوذ من خطو القدم: انتقالها من مكان إلى مكان. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فيه قولان: أحدهما: أنه ما بان لكم من عداوته لأبيكم آدم. والثاني: ما بان لكم من عداوته لأوليائه من الشياطين , قاله الحسن.(2/180)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
{ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} قوله عز وجل: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أما الزوج فاسم ينطلق على الواحد وعلى الاثنين , يقال للاثنين زوج , ويقال للواحد زوج لأنه لا يكون زوجاً إلا ومعه آخر له مثل اسمه , قال لبيد:
(من كل محفوف يظل عصيه ... زوج عليه كلة وقرامها)
فلذلك قال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} لأنها ثمانية آحاد. ثم فسرها فقال: {مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} يعني ذكراً وأنثى.(2/180)
{وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} يعني ذكراً وأنثى. {قُلُءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ} إبطالاً لما حرمته الجاهلية منها في البحيرة , والسائبة , والوصيلة , والحام. {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} يعني قولهم: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَرْحَامِ خالصةً لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} . ثم قال تعالى: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} يريد به ما أراده في الضأن والمعز وأن هذه الثمانية أزواج حلال لا يحرم منها شيء بتحريمكم. حكى أبو صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه عوف بن مالك , فقال له: أَحَلَّلْتَ ما حرمه أباؤنا , يعني من البحيرة , والسائبة , والوصيلة , والحام , فأنزل الله تعالى هذه الآية , وقال: {ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ} فسكت عوف لظهور الحجة عليه.(2/181)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
{قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} قوله عز وجل: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} يعني أن ما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام لم يحرمه الله تعالى ولا أوحى إليَّ بتحريمه , ثم بيَّن المحرَّم على وجه الاستثناء لأن نفي التحريم خرج مخرج العموم , فقال: {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} وهي التي خرجت روحها بغير ذكاة. {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} يعني مهراقاً مصبوباً ومنه سمي الزنا سفاحاً لصب الماء فيه ضائعاً , وقال طرفة بن العبد:
(إني وجدَّك ما هجوتك والأن ... صاب يسفح فوقهن دم)
فأما الدم غير مسفوح فإن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال(2/181)
لقوله صلى الله عليه وسلم: (أُحِلَّتْ لَنَا مِيْتَتَانِ وَدَمَانِ , فَالمِيْتَتَانِ: الحُوتُ وَالجَرَادُ , وَالدَّمَانِ: الكَبِدُ وَالطُّحَالُ) . وإن كان غير ذي عروق يجمد عليها وإنما هو مع اللحم وفيه , ففي تحريمه قولان: أحدهما: لا يحرم لتخصيص التحريم بالمسفوح , وهو قول عائشة , وعكرمة , وقتادة , قال عكرمة: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون عروق اللحم كما تتبعها اليهود. والثاني: أنه حرام لأنه من جملة المسفوح وبعضه , وإنما ذكر المسفوح لاستثناء الكبد والطحال منه. {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} يعني نجساً حراماً. {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} يعني ما ذبح للأوثان والأصنام , سماه فسقاً لخروجه عن أمر الله. فإن قيل: لم اقتصر هنا على تحريم هذه الأربعة وقد ذكر في المائدة غيرها من المنخنقة والموقوذة والمتردية؟ قيل: لأن هذا كله من جملة الميتة فذكره هناك مفصلاً وها هنا في الجملة. وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أنها مشتملة على جميع المحرمات فلا يحرم من الحيوان ما عدا هذا المذكور فيها , وهذا قول ابن عباس , وعائشة. والثاني: أنا تشتمل على تحريم ما تضمنها وليست مستوعبة لجميع(2/182)
المحرمات لما جاءت به السنة من تحريم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير , وهذا قول الجمهور.(2/183)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
{وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} قوله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} هذا التحريم على الذين هادوا إنما هو تكليف بلوى وعقوبة , فأول ما ذكره من المحرمات عليهم {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير , ومجاهد , وقتادة , والسدي. والثاني: أنه عنى أنواع السباع كلها. والثالث: أنه كل ذي مخلب من الطير , وكل ذي حافر من الدواب. ثم قال: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها شحوم الثّرْب خاصة , قاله قتادة. والثاني: أنه كل شحم لم يكن مختلطاً بعظم ولا على عظم , قاله ابن جريج. والثالث: أنه شحم الثرب والكلى , قاله السدي وابن زيد.(2/183)
ثم قال: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} يعني شحم الجنب وما علق بالظهر فإنه لم يحرم عليهم. ثم قال: {أَوْ الْحَوَايَآ} وفيها أربعة تأويلات: أحدها: أنها المباعر , قاله ابن عباس , والحسن , وسعيد بن جبير , وقتادة , ومجاهد , والسدي. والثاني: أنها بنات اللبن , قاله عبد الرحمن بن زيد. والثالث: أنها الأمعاء التي عليها الشحم من داخلها , قاله بعض المتأخرين. والرابع: أنها كل ما تحوّى في البطن واجتمع واستدار , قاله علي بن عيسى. {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} فيه قولان: أحدهما: أنه شحم الجنب. والثاني: أنه شحم الجنب والأليه , لأنه على العصعص , قاله ابن جريج , والسدي. {ذَالِكَ جَزَيْنَاهُم ببَغْيِهِمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: ببغيهم على موسى عليه السلام فيما اقترحوه وعلى ما خالفوه. والثاني: ببغيهم على أنفسهم في الحلال الذي حرموه. {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فيما حكاه عنهم وحرمه عليهم.(2/184)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
{فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد(2/184)
معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} قوله عز وجل: {قُلْ تَعَالَواْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمُ عَلَيْكُمُ} وهذا أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم , أن يدعو الناس إليه ليتلو عليهم ما حرمه الله عليهم , وما أحله لهم ليقلعوا عما كانت الجاهلية عليه من تحريم المباح وإباحة الحرام. والتلاوة: هي القراءة , والفرق بين التلاوة والمتلو , والقراءة والمقروء أن التلاوة والقراءة للمرة الأولى , والمتلو والمقروء للثانية وما بعدها , ذكره علي بن عيسى , والذي أراه من الفرق بينهما أن التلاوة والقراءة يتناول اللفظ , والمتلو والمقروء يتناول الملفوظ. ثم إن الله أخذ فيا حرم فقال: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: ألا تشركوا بعبادته عبادة غيره من شيطان أو وثن. والثالث: أن يحمل الأمرين معاً. ثم قال: {وَبَالْوَالِدَينَ إِحْسَاناً} تقديره: وأوصيكم بالوالدين إحساناً , والإحسان تأدية حقوقهما ومجانبة عقوقهما والمحافظة على برهما. {وَلاَ تَقْتُلُوْاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقَكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق. وفي الإملاق قولان:(2/185)
أحدهما: أنه الإفلاس , ومنه الملق لأنه اجتهاد المفلس في التقريب إلى الغنى طمعاً في تأجيله. والثاني: أن الإملاق ومعناهما قريب وإن كان بينهما فرق , وهذا قول ابن عباس , وقتادة , والسدي , والضحاك , وابن جريج. ثم ذكر فساد اعتقادهم في الإملاق بأن قال: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} لأن رزق العباد كلهم , من كفيل ومكفول , على خالقهم. ثم قال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وفيها أربعة تأويلات: أحدها: أن ذلك عام في جميع الفواحش سرها وعلانيتها , قاله قتادة. والثاني: أنه خاص في الزنى , ما ظهر منها: ذوات الحوانيت , وما بطن: ذوات الاستسرار , قاله ابن عباس , والحسن , والسدي. والثالث: ما ظهر منها: نكاح المحرمات , وما بطن: الزنى , قاله مجاهد , وابن جبير. والرابع: أن ما ظهر منها: الخمر , وما بطن منها: الزنى , قاله الضحاك. وقد ذكرنا فيه احتمال تأويل خامس: أن ما ظهر منها أفعال الجوارح , وما بطن منها اعتقاد القلوب. ثم قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} والنفوس المحرمة: نفس مسلم , أو معاهد , والحق الذي تقتل به النفس ما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ , أَوْزِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ , أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ) . ثم قال: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} يعني أن الله وصى عباده بذلك , ووصية الله واجبة.(2/186)
ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: تعقلون تحريم ذلك عليكم وتعلمونه. والثاني: تعملون عمل من يعقل وهو ترك ما أوجب العقاب من هذه المحرمات.(2/187)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} قوله عز وجل: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إنما خص مال اليتيم بالذكر وإن كان مال غيره في التحريم بمثابته , لأن الطمع فيه لقلة مراعيه أقوى , فكان بالذكر أولى. وفي قوله: {إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أربعة تأويلات: أحدها: حفظ ماله عليه إلى أن يكبر ليتسلمه , قاله الكلبي. والثاني: أن ذلك هو التجارة به , قاله مجاهد. والثالث: هو ألا يأخذ من الربح إذا اتجر له بالمال شيئاً , قاله الضحاك. والرابع: هو أن يأكل الولي بالمعروف من ماله إن افتقر , ويترك إن استغنى , ولا يتعدى من الأكل إلى الباس ولا غيره , قاله ابن زيد. ويحتمل خامساً: أن التي هي أحسن: حفظ أصوله وتثمير فروعه. ثم قال: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} والأشُد القوة والشباب. وفي حدها ثلاثة أقاويل:(2/187)
أحدها: أنه الحلم حين تكتب له الحسنات وعليه السيئات , قاله ربيعة , وزيد بن أسلم , ومالك. والثاني: أن الأَشُد ثلاثون سنة , قاله السدي. والثالث: أن الأشد ثماني عشرة سنة , ذكره علي بن عيسى وفيه وجوه أُخَر نذكرها من بعد. ثم قال تعالى: {وَأَوْفُواْ الْكَيلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} يعني بالعدل , أمر في مال البائع من تأدية بمثل ما أُمِر به في مال اليتيم. ثم قال: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} يعني أنه لما كان العدل في الوزن والكيل مستحقاً , وكان تحديد أقل القليل متعذراً , كان ذلك عفواً , لأنه لا يدخل في الوسع فلم يكلفه. ثم قال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: إذا حكمتم فأنصفوا. الثاني: إذا شهدتم فاصدقوا. الثالث: إذا توسطتم فلا تميلوا. ثمَ قال: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ} فيه قولان: أحدهما: أن عهد الله كل ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره. الثاني: أنه الحلف بالله أن يلزم الوفاء به إلا في معصية. {ذَالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى الذين هادوا وما أوصاهم به في التوراة. والثاني: أنه راجع إلى المسلمين وما وصاهم به في القرآن. قوله عز وجل: {وََأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} فيه قولان: أحدهما: القرآن. والثاني: الشرع وسُمِّيَ ذلك صراطاً , والصراط هو الطريق لأنه يؤدي إلى الجنة فصار طريقاً إليها. {فَاتَّبِعُوهُ} يعني في العمل به.(2/188)
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما تقدم من الكتب المنزلة نسخها بالقرآن , وهو محتمل. والثاني: ما تقدم من الأديان المتقدمة نسخها بالإسلام وهو محتمل. والثالث: البدع والشبهات. {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} يعني عن طريق دينه. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن يكون سبيله نصرة دينه وجهاد أعدائه , فنهى عن التفرق وأمر بالأجتماع.(2/189)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
{ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} قوله عز وجل: {ثُمَّءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} وفي قوله: {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} خمسة أقاويل: أحدها: تماماً على إحسان موسى بطاعته , قاله الربيع , والفراء. والثاني: تماماً على المحسنين , قاله مجاهد , وكان ابن مسعود. يقرأ: {تَمَاماً عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ} . والثالث: تماماً على إحسان الله إلى أنبيائه , قاله ابن زيد. والرابع: تماماً لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا , قاله الحسن وقتادة. والخامس: تماماً لنعمة الله على إبراهيم لأنه من ولده , قاله ابن بحر.(2/189)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
{أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا(2/189)
يصدفون هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون} قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلآئِكَةُ} فيه وجهان: أحدهما: هل ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة رسلاً , يعني الكفار الذين يتوقفون عن الإيمان مع ظهور الدلائل. والثاني: هي ينظرون يعني في حُجَج الله ودلائله إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم , قاله جويبر. {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} فيه وجهان: أحدهما: أمر ربك بالعذاب , قاله الحسن. والثاني: قضاء ربك في القيامة , قاله مجاهد. {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ} فيه قولان: أحدهما: أنه طلوع الشمس من مغربها , قاله مجاهد , وقتادة , والسدي , قال ابن مسعود: مع القمر في وقت واحد وقرأ: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9] . والثاني: طلوع الشمس من مغربها , والدجال , ودابة الأرض , قاله أبو هريرة.(2/190)
{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ ... } في أول آيات الساعة وآخرها قولان: أحدهما: أن أولها الدجال , ثم الدخان , ثم يأجوج ومأجوج , ثم الدابة , ثم طلوع الشمس من مغربها , {لاَ يَنْفَعُ نَفْسَاً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مِِن قَبْلُ} هذا قول معاذ بن جبل. والثاني: أن أولها خروج الدجال , ثم خروج يأجوج ومأجوج , ثم طلوع الشمس من مغربها {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مَن قَبْلُ} ثم خروج الدابة , وهذا قول حذيفة بن اليمان ورواه مرفوعاً. ثم اختلفوا في ألا ينفعها إيمانها بظهور أول الآيات أو بظهور آخرها على قولين: أحدهما: إذا خرج أول الآيات , طرحت الأقلام , وجلست الحفظة , وشهدت الأجساد على الأعمال. والقول الثاني: أن ذلك يكون بخروج آخر الآيات ليكون لنا فيها أثر في الإنذار. ثم قال: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيَمَانِهَا خَيْراً} أما إيمانها قبل هذه الآيات فمُعْتَدٌّ به , وأما بعدها فإن لم تكسب فيه خيراً لم يُعْتَدّ به , وإن كسبت فيه خيراً ففي الاعتداد به قولان: أحدهما: يُعْتَدُّ به , وهو ظاهر الآية أن يكون قبل الآيات أو بعده. والثاني: لا يُعْتَدُّ به , ويكون معناه: لم تكن آمنت من قبل وكسب في إيمانها خيراً , وهذا قول السدي. وفي الخير الذي تكسبه وجهان: أحدهما: تأدية الفروض على أكمل أحوالها. والثاني: التطوع بالنوافل بعد الفروض.(2/191)
روى مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحُ مِن قِبَلِ المَغْرِبِ , فَالتَّوْبَةُ مَقْبَولَةٌ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: مِنْ إِبْلِيس رَأْسِ الكُفْرِ , وَمِنْ قَابِيل قَاتِلِ هَابِيلَ , وَمَنْ قَتَلَ نَبِيَّا لاَ تَوْبَةَ لَهُ , فَإِذَا طَلَعَت الشَّمْسُ مِن ذَلِكَ البَابِ كَالعَكَرِ الأَسْوَدِ لاَ نَورَ لَهَا حَتَّى تَتَوَسَّطَ السَّماءَ ثُمَّ تَرْجِعُ فِيُغْلَقُ البَابُ وَتُرَدُّ التَّوبَةُ فَلاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيراً , ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى مَشَارِقَهَا , فَتَطْلُعُ بَعْدَ ذلِكَ عِشْرِينَ وَمِائَة سَنَة إِلاَّ أَنَّهَا سُنُونَ تَمُرُّ مَراً) .(2/192)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمُ وَكَانُواْ شِيَعاً} فيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنهم اليهود خاصة , قاله مجاهد. والثاني: اليهود والنصارى , قاله قتادة. والثالث: أنهم جميع المشركين , قاله الحسن. والرابع: أهل الضلالة من هذه الأمة , قاله أبو هريرة. وفي تفريقهم الذي فرقوه قولان: أحدهما: أنه الدين الذي أمر الله به , فرقوه لاختلافهم فيه باتباع الشبهات. والثاني: أنه الكفر الذي كانوا يعتقدونه ديناً لهم. ومعنى قوله: {وَكَانُواْ شيَعاً} يعني فرقاً. ويحتمل وجهاً آخر: أن يكون الشيع المتفقين على مشايعة بعضهم لبعض , وهو الأشبه , لأنهم يتمالأون على أمر واحد مع اختلافهم في غيره.(2/192)
وفي أصله وجهان: أحدهما: أصله الظهور , من قولهم شاع الخبر إذا ظهر. والثاني: أصله الاتباع , من قولهم شايعه على الأمر إذا اتبعه , قاله الزجاج. ثم قال تعالى: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} فيه قولان: أحدهما: لست من قتالهم في شيء , ثم نسخها بسورة التوبة , قاله الكلبي. والثاني: لست من مخالطتهم في شيء , نَهْيٌ لنبيه صلى الله عليه وسلم عن مقاربتهم , وأمر له بمباعدتهم , قاله قتادة , كما قال النابغة:
(إذا حاولت في أسد فجوراً ... فإني لست منك ولست مني.)(2/193)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} قوله عز وجل: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} في الحسنة والسيئة هنا قولان: أحدهما: أن الحسنة الإيمان , والسيئة الكفر , قاله أبو صالح. والثاني: أنه على العموم في الحسنات والسيئات أن جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها تفضلاً , وجعل جزاء السيئة مثلها عدلاً , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَبْعَدَ اللَّهُ مَنْ غَلَبَتْ وَاحِدَتُهُ عَشْراً) . ثم في ذلك قولان: أحدهما: أنه عام في جميع الناس. والثاني: أنه خاص في الأعراب إذا جاء أحدهم بحسنة فله عشر أمثالها , فأما غيرهم من المهاجرين فلمن جاء منهم بحسنة سبعمائة , قاله ابن عمر , وأبو سعيد الخدري.(2/193)
فأما مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها فلأن الله فرض عُشْر أموالهم , وكانوا يصومون في كل شهر ثلاثة أيام وهي البيض منه , فكان آخر العُشْر من المال آخر جميع المال , وآخر الثلاثة الأيام آخر جميع الشهر. وأما مضاعفة ذلك بسبعمائة ضعف فلقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلِةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لَمَنْ يَشَآءُ} [البقرة: 261] , فضاعف الله الحسنة بسبعمائة ضعف , وكان الحسن البصري يقرأ: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالُهَا} بالتنوين , وَوَجْهُهُ في العربية صحيح. وحكى ابن بحر في الآية تأويلاً يخرج عن عموم الظاهر , وهو أن الحسنة اسم عام يطلق على كل نوع من الإيمان وينطلق على عمومه , فإن انطلقت الحسنة على نوع واحد منه , فليس له عليها من الثواب إلا مثل واحد , وإن انطلقت على حسنة تشتمل على نوعين , كان الثواب عليها مثلين كقوله: {اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُم كفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] , والكفل: النصيب كالمثل , فجعل لمن اتقى وآمن بالرسول نصيبين , نصيباً لتقوى الله , ونصيباً لإيمانه برسوله , فدل على أن الحسنة التي جعلت لها عشر أمثالها هي التي جمعت عشرة أنواع من الحسنات , وهو الإيمان الذي جمع الله في صفته عشرة أنواع بقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {وَأَجْراً عَظِيماً} [الاحزاب: 35] , فكانت هذه الأنواع العشرة التي ثوابها عشرة أمثالها , فيكون لكل نوع منها مثل , وهذا تأويل فاسد , لخروجه عن عموم الظاهر , لما لا يحتمله تخصيص العموم , لأن ما جمع عشرة أنواع فهو عشر حسنات , فليس يجزي عن حسنة إلا مثلها , وبطل أن يكون جزاء الحسنة عشر أمثالها. وذكر بعض المفسرين تأويلاً ثالثاً: أن له عشر أمثالها في النعيم والزيادة لا في عظيم المنزلة , لأن منزلة التعظيم لا تنال إلا بالطاعة , وهذه مضاعفة تفضيل كما قال: {لِيُوَفِّيهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} [فاطر: 30] .(2/194)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
{قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من(2/194)
المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هذا أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر للناس حال عبادته ومن له الأمر في حياته ومماته. فقال {إِنَّ صَلاَتِي} وهي الصلاة المشروعة ذات الركوع والسجود المشتملة على التذلل والخضوع لله تعالى دون غيره من وثن أو بشر. ثم قال: {وَنُسُكِي} وفيه هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الذبيحة في الحج والعمرة , قاله سعيد بن جبير , ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك. والثاني: معناه ديني , قاله الحسن. والثالث: معناه عبادتي , قاله الزجاج , من قولهم فلان ناسك أي عابد , والفرق بين الدين والعبادة: أن الدين اعتقاد , والعبادة عمل. قوله تعالى: {وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن حياته ومماته بيد الله تعالى لا يملك غيره له حياة ولا موتاً , فلذلك كان له مصلياً وناسكاً. والثاني: أن حياته لله في اختصاصها بطاعته , ومماته له في رجوعه إلى مجازاته. ووجدت فيها وجهاً ثالثاً: أن عملي في حياتي ووصيتي عند مماتي لله. ثم قال: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} صفة الله تعالى أنه مالك العالم دون غيره , فلذلك كان أحق بالطاعة والتعبد من غيره. ثم قال تعالى: {لاَ شَرِيكَ لَهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا شريك له في ملك العالمين. والثاني: لا شريك له في العبادة.(2/195)
{وَبِذَالِكَ أُمِرْتُ} يعني ما قدم ذكره. {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} يعني من هذه الأمة حثّاً على اتباعه والمسارعة بالإٍسلام.(2/196)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
{قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} قوله عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} وسبب [نزول] ذلك أن كفار قريش دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائه في عبادة اللات والعزى , وقالوا: يا محمد إن كان وزراً فهو علينا دونك , فنزلت هذه الآية عليه. {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} يعني إلا عليها عقاب معصيتها ولها ثواب طاعتها. {َوَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا يتحمل أحد ذنب غيره فيأثم به ويعاقب عليه , ولا يحمل ذنبه غيره , فيبرأ منه ويسلم من عقابه. وفي أصل الوزر وجهان: أحدهما: أصله الثقل , من قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 2 - 3] ومنه سمي وزير الملك لتحمله القل عنه. والثاني: أن أصله الملجأ من قوله: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} [القيامة: 11] ومنه سُمِّي وزير المَلِكِ لأنه يلجأ إليه في الأمور. {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ماء ءاتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} قوله عز وجل: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه جعلهم خلفاً من الجان سكاناً للأرض، قاله ابن عباس. والثاني: أن أهل كل عصر يخلف أهل العصر الذي قبله، كما مضى أهل عصر خلفه أهل عصر بعده على انتظام، حتى تقوم الساعة على العصر الأخير فلا(2/196)
يخلق عصر، فصارت هذه الأمة خلفاً للأمم الماضية. والثالث: جعل بعضهم خليفة لبعض ليتآلفوا بالتعاون. والرابع: لأنهم آخر الأمم وكانوا خلفاً لمن تقدمهم، قال الشماخ:
(تصيبكم وتخطئى المنايا ... وأخلق في ربوع عن ربوع)
{ورفع بعضكم على بعض درجات} يعني ما خالف بينهم في الغنى بالمال وشرف الآباء وقوة الأجسام، وهذا، وإن ابتدأه تفضلاً من غير جزاء ولا استحقاق، لحكمه منه تضمنت ترغيباً في الأعلى وترهيباً من الأدنى، لتدم له الرغبة والرهبة. وقد نبه على ذلك بقوله: {ليبلوكم فيما ءاتاكم} يعني من الغنى والقوة وفيه وجهان: أحدهما: ليختبركم بالاعتراف. {إن ربك سريع العقاب} فإن قيل: فكيف جعله سريعاً وهو في الآخرة. فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن كل آت قريب، كقوله: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} [النحل: 77] . والثاني: إن ربك سريع العقاب في الدنيا لمن استحق منه تعجيل العقاب فيها. والثالث: أنه إذا شاء عاقب، فصار عقابه سريعاً لأنه يقترن بمشيئته، وهذا قول ابن بحر. {وإنه لغفور رحيم} جمعاً منه بين ما يقتضي الرهبة من سرعة العقاب وبين ما يقتضي الرغبة من الغفران والرحمة، لأن الجمع بين الرغبة والرهبة أبلغ في الإنقياد إلى الطاعة والإقلاع عن المعصية، والله عز وجل أعلم.(2/197)
سورة الأعراف
مكية كلها في قول الحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر، وقال ابن عباس، وقتادة: مكية إلا خمس آيات وهي قوله: {واسألهم عن القربة} [الأعراف: 163] إلى آخر الخمس. بسم الله الرحمن الرحيم(2/198)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
{المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} قوله عز وجل: {المص} فيه لأهل التأويل تسعة أقاويل: أحدها: معناه: أنا الله أُفَضِّل , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير. والثاني: أنه [حرف] هجاء [من] المصور , قاله السدي. والثالث: أنه اسم السورة من أسماء القرآن , قاله قتادة. والرابع: أنه اسم السورة مفتاح لها , قاله الحسن. والخامس: أنه اختصار من كلام يفهمه النبي صلى الله عليه وسلم , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. والسادس: هي حروف هجاء مقطعة نبه بها على إعجاز القرآن. والسابع: هي من حساب الجمل المعدود استأثر الله بعلمه.(2/198)
والثامن: هي حروف تحوي معاني كثيرة دل الله تعالى خلقه بها على مراده من كل ذلك. والتاسع: هي حروف اسم الله الأعظم. ويحتمل عندي قولاً عاشراً: أن يكون المراد به: المصير إلى كتاب أنزل إليك من ربك , فحذف باقي الكلمة ترخيماً وعبر عنه بحروف الهجاء لأنها تذهب بالسامع كل مذهب , وللعرب في الاقتصار على الحروف مذهب كما قال الشاعر:
(قلت لها قفي فقالت قاف ... ... ... ...)
أي وقفت. قوله عز وجل {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} يعني القرآن. {فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} وفي الحرج ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الضيق , قاله الحسن , وهو أصله. قال الشماخ بن ضرار:
(ولو ردت المعروف عندي رددتها ... لحاجة لا العالي ولا المتحرج)
ويكون معناه: فلا يضيق صدرك خوفاً ألا تقوم بحقه. والثاني: أن الحرج هنا الشك , قاله ابن عباس , ومجاهد , وقتادة , والسدي. قال الراجز:
(آليت لولا حرج يعروني ... ما جئت أغزوك ولا تغزوني)
ومعناه: فلا تشك فيما يلزمك فيه فإنما أنزل إليك لتنذر به. والثالث: فلا يضيق صدرك بأن يكذبوك , قاله الفراء. ثم قال: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} فجعله إنذاراً للكافرين وذكرى للمؤمنين ليعود نفعه على الفريقين.(2/199)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
{وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} قوله عز وجل: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} الآية , هذا إخبار من الله تعالى عن حال من أهلكه بكفر تحذيراً للمخاطبين به عن مثله , وقوله: {وَكَم} هي كلمة توضع للتكثير , (ورُب) موضوعة للتقليل , وذلك هو الفرق بين كم ورب. قال الفرزدق:
(كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت على عشاري)
فدل ذلك على تكثير العمات والخالات: وفي قوله: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتَاً} وإنما الهلاك بعد مجيء البأس أربعة أوجه: أحدها: معناه أهلكناها حكماً فجاءها بأسنا فعلاً. والثاني: أهلكناها بإرسال الملائكة إليها بالعذاب فجاءها بأسنا بوقوع العذاب لهم. والثالث: أهلكناها بخذلاننا لها عن الطاعة فجاءها بأسنا عقوبة على المعصية. والرابع: أن البأس والهلاك وقعا معاً في حال واحدة , لأن الهلاك كان بوقوع البأس فلم يفترقا , وليس دخول الفاء بينهما موجبة لافتراقهما بل قد تكون بمعنى الواو كما يقال أعطيت وأحسنت , فكان الإحسان بالعطاء ولم يكن بعد العطاء , قاله الفراء. وقوله: {بَيَانَاً} يعني في نوم الليل. {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} يعني في نوم النهار وقت القائلة. فإن قيل: فلم جاءهم بالعذاب في وقت النوم دون اليقظة؟ قيل: لأمرين: أحدهما: لأن العذاب في وقت الراحة أشد وأغلظ.(2/200)
والثاني: لئلا يتحرزوا منه ويهربوا عنه , لاستسلام النائم وتحرز المستيقظ , والبأس: شدة العذاب , والبؤس: شدة الفقر. قوله عز وجل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْْأَلَنَّ الْمُرسَلِينَ} فيه وجهان: أحدهما: لنسألن الذين أرسل إليهم عن قبول الرسالة والقيام بشروطها , ولنسألن المرسلين عن أداء الرسالة والأمانة فيها. والثاني: لنسألن الذين أرسل إليهم عن حفظ حرمان الرسل , ولنسألن المرسلين عن الشفقة على الأمم.(2/201)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
{والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون} قوله عز وجل: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الوزن ها هنا هو القضاء بالحق , أي بالعدل , قاله مجاهد. والثاني: أنه موازنة الحسنات والسيئات بعلامات يراها الناس يوم القيامة. والثالث: أنه موازنة الحسنات والسيئات بميزان له كفتان , قاله الحسن وطائفة. واختلف من قال بهذا في الذي يوزن على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الذي يوزن هوالحسنات والسيئات بوضع إحداهما في كفة والأخرى في كفة , قاله الحسن والسدي. والثاني: أن الذي يوزن صحائف الأعمال , فأما الحسنات والسيئات فهي أعمال , والوزن إنما يمكن في الأجسام , قاله عبد الله بن عمر. والثالث: أن الذي يوزن هو الإنسان , قال عبيد بن عمير , قال يؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح بعوضة.(2/201)
{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه فمن قُضي له بالطاعة. والثاني: معناه فمن كانت كفة حسناته أثقل من كفة سيئاته. والثالث: معناه فمن زادت حسناته على سيئاته. {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} يعني بما لهم من الثوب , وبضده إذا خفت.(2/202)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
{ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: سهلنا عليكم التصرف فيها حتى وصلتم إلى مرادكم منها. والثاني: ملكناكم إياها حتى صرتم أحق بها. {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} فيه وجهان: أحدهما: ما تعيشون به من نبات وحيوان. والثاني: ما تتوصلون به إلى معايشكم فيها من زراعة أو عمل.(2/202)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
{ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} فيه لأهل التأويل أربعة أقاويل: أحدها: ولقد خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء , قاله عكرمة. والثاني: ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم في ظهره , قاله مجاهد. والثالث: خلقناكم نطفاً في أصلاب الرجال وترائب النساء , ثم صورناكم عند اجتماع النطفتين في الأرحام , وهو معنى قول الكلبي.(2/202)
والرابع: خلقناكم في بطون أمهاتكم , ثم صورناكم فيها بعد الخلق بشق السمع والبصر , قاله معمر. {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ} فإن قيل فالسجود عبادة لا تجوز إلا الله تعالى , فكيف أمر به لآدم عليه السلام؟ قيل: فيه لأهل العلم قولان: أحدهما: أنه أمرهم بالسجود له تكرمة وهو لله تعالى عبادة. والثاني: أنه جعله قبلة سجودهم لله تعالى. فإن قيل: فالأمر بالسجود لآدم قبل تصوير ذريته , فكيف قال: {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ} ؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه صورهم في صلب آدم ثم قال للملائكة: اسجدوا. والثاني: معناه ثم صورناكم ثم أخبرناكم بِأَنَّا قلنا للملائكة: اسجدوا. والثالث: اي في الكلام تقديماً وتأخيراً , وتقديره: ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ثم صورناكم. وفيه جواب رابع أنكره بعض النحويين وهو: أن {ثُمَّ} هنا بمعنى الواو , قاله الأخفش.(2/203)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
{قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين}(2/203)
قوله عز وجل: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدهما: أنه أُهْبِط من السماء لأنه كان فيها , قاله الحسن. والثاني: من الجنة. والثالث: أنه أهبط من المنزلة الرفيعة التي استحقها بطاعة الله إلى المنزلة الدَّنِيَّةِ التي استوجبها لمعصيته , قاله ابن بحر. {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} وليس لأحد من المخلوقين أن يتكبر فيها ولا في غيرها , وإنما المعنى: فما لمن يتكبر أن يكون فيها وإنما المتكبر في غيرها. وفي التكبر وجهان: أحدهما: تكبر عن الله أن يمتثل له. والثاني: تكبر عن آدم أن يسجد له. {فَاخْرُجْ} فيها قولان: أحدهما: من المكان الذي كان فيه من السماء أو الجنة. والثاني: من جملة الملائكة الذين كان منهم أو معهم. {إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: بالمعصية في الدنيا لأن العاصي ذليل عند من عصاه. والثاني: بالعذاب في الآخرة لأن المعذب ذليل بالعذاب. وفي هذا القول من الله تعالى لإبليس وجهان: أحدهما: أنه قال ذلك على لسان بعض الملائكة. والثاني: أنه أراه معجزة تدله على ذلك. قوله عز وجل: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فيه قولان: أحدهما: أنه سأله الإنظار بالعقوبة إلى البعث وهو يوم القيامة. والثاني: أنه سأله الإنظار بالحياة إلى يوم يبعثون وهو يوم القيامة لئلا يذوق(2/204)
الموت , فَأُجِيْبَ بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم وهي النفخة الأولى ليذوق الموت بين النفختين وهو أربعون سنة , قاله الكلبي. فإن قيل: فكيف قدر الله مدة أجله وفي ذلك إغواؤه بفعل المعاصي تعويلاً على التوبة في آخر الأجل؟ قيل: قد علم الله من حاله أنه لا يتوب من معصيته بما أوجبه من لعنته بقوله تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَومِ الدَّينِ} فجاز مع علمه بهذه أن يقدر له مدة أجله ولو كان كغيره ما قدرت له مدة أجله. فإن قيل: كيف أقدم إبليس على هذا السؤال مع معصيته؟ قيل: كما ينبسط الجاهل في سؤال ما لا يستحقه. فإن قيل: فكيف أجاب الله سؤاله مع معصيته؟ قيل: في إجابته دعاء أهل المعاصي قولان: أحدهما: لا تصح إجابتهم لأن إجابة الدعاء تكرمة للداعي وأهل المعاصي لا يستحقون الكرامة , فعلى هذا إنما أنظره الله تعالى وإن كان عقيب سؤاله ابتداء منه لا إجابه له. والثاني: أنه قد يجوز أن تجاب دعوة أهل المعاصي على وجه البلوى وتأكيد الحجة , فتكون إجابة المطيعين تكرمة , وإجابة العصاة بلوى. فإن قيل: فهل ينظر غير إبليس إلىالوقت الذي سأل وقد قال من المنظرين؟ قيل: نعم وهو من لم يقض الله تعالى عليه الموت من عباده الذين تقوم عليهم الساعة.(2/205)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
{قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} قوله عز وجل: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} اختلف أهل العربية في معنى قوله: {فبما أغويتني} على قولين:(2/205)
أحدهما: أنه على معنى القسم وتقديره: فبإغوائك لي لأقعدن لهم صراطك المستقيم. والثاني: أنه على معنى المجازاة , تقديره: فلأنك أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. واختلف أهل العلم في قوله: {أَغْوَيْتَنِي} على أربعة أقاويل: أحدها: معناه أضللتني , قاله ابن عباس وابن زيد. والثاني: معناه خيبتني من جنتك , ومنه قول الشاعر:
(فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً)
أي ومن يخب. والثالث: معناه عذبتني كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَياً} [مريم: 59] أي عذاباً , قاله الحسن. والرابع: معناه أهلكتني بلعنك لي , يقال غوى الفصيل إذا أشفى على الهلاك بفقد اللبن , قال الشاعر:
(معطفة الأثناء ليس فصيلها ... برازئها دراً ولا ميِّت غوى)
وقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي على صراطك المستقيم , وفيه تأويلان: أحدهما: طريق مكة ليصد عن قصدها في الحج والعمرة , قاله ابن مسعود. والثاني: طريق الحق ليصد عنها بالإغواء , قاله مجاهد. قوله عز وجل: {ثُمَّ لأَتِيَنَّهُم مِّنَ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ... } الآية. فيه أربعة تأويلات: أحدها: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أي أشككهم في آخرتهم , {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}(2/206)
أرغبهم في دنياهم , {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} : أي من قبل حسناتهم , {وَعَن شَمَآئِلِهِم} من قبل سيئاتهم , قاله ابن عباس. والثاني: {مِنّ بَيْنِ أيْدِيهِمْ} : من قبل , دنياهم , {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} : من قبل آخرتهم , {وَعَنْ أَيْمَأنِهِمْ} : الحق أشككهم فيه , {وَعَن شَمَآئِلِهِم} : الباطل أرغبهم فيه , قاله السدي وإبراهيم. والثالث: {مِنّ بَيْنِ أَيْدِيهِم} {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من حيث ينظرون , {وَمِنْ خَلْفِهِم} {وَعَنْ شَمَائِلِهِم} : من حيث لا يبصرون , قاله مجاهد. والرابع: أراد من كل الجهات التي يمكن الاحتيال عليهم منها , ولم يذكر من فوقهم لأن رحمة الله تصده , ولا من تحت أرجلهم لما فيه التنفير , قاله بعض المتأخرين. ويحتمل تأويلاً خامساً: {مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم} : فيما بقي من أعمارهم فلا يقدمون على طاعة , {وَمِنْ خَلْفِهِم} : فيما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عن معصية , {وَعَنْ أَيْمَانِهِم} : من قبل غناهم فلا ينفقونه في مشكور , {وَعَن شَمَائِلِهِمِ} : من قبل فقرهم فلا يمتنعون فيه عن محظور. ويحتمل سادساً: {مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم} : بسط أملهم , {وَمِنْ خَلْفِهِم} تحكيم جهلهم , {وعن أيمانهم} : فيما ييسر لهم , {وَعَن شَمَائِلِهِم} : فيما تعسر عليهم , ثم قال: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: شاكرين لنعمك. والثاني: مقيمين على طاعتك. فإن قيل: فكيف علم إبليس ذلك؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه ظن ذلك فصدق ظنه , كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنَّهُ} [سبأ: 20] وسبب ظنه أنَّه لما أغوى آدم واستزله قال: ذرية هذا أضعف منه , قاله الحسن. والثاني: أنه يجوز أن يكون علم ذلك من جهة الملائكة بخبر من الله.(2/207)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
{قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين} قوله عز وجل: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا} يحتمل وجهين: أحدهما: من حيث كان من جنة أو سماء. والثاني: من الطاعة , على وجه التهديد. {مَذْءُوماً مَّدْحُوراً} في قوله: {مَذْءُوماً} خمسة تأويلات: أحدها: يعني مذموماً , قاله ابن زيد , وقرأ الأعمش {مذوماً} والثاني: لئيماً , قاله الكلبي. والثالث: مقيتاً , قاله ابن عباس. والرابع: منفياً , قاله مجاهد. والخامس: أنه شدة العيب وهو أسوأ حالاً من المذموم , قاله الأخفش , قال عامر بن جذامة:
(جذامة لم يأخذوا الحق بل ... زاغت قلوبهم قبل القتال ذأماً)
وأما المدحور ففيه قولان: أحدهما: المدفوع. الثاني: المطرود , قاله مجاهد والسدي.(2/208)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
{ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} قوله عز وجل: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزُوْجُكَ الْجَنَّةَ} يعني حواء , وفي الجنة التي أمر بسكناها قولان:(2/208)
أحدهما: في جنة الخلد التي وعد المتقون , وجاز الخروج منها لأنها لم تجعل ثواباً فيخلد فيها ولا يخرج منها. والثاني: أنها جنة من جنات الدنيا لا تكليف فيها وقد كان مكلفاً. {فَكُلاَ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتَمُا} يحتمل وجهين: أحدهما: من حيث شئتما من الجنة كلها. والثاني: ما شئتما من الثمار كلها لأن المستثنى بالنهي لمَّا كان ثمراً كان المأمور به ثمراً. {وَلاَ تَقَْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} قد ذكرنا اختلاف الناس فيها على ستة أقاويل: أحدها: أنه البُرّ , قاله ابن عباس. والثاني: الكَرْم , قاله السدي. والثالث: التين , قاله بان جريج. والرابع: شجرة الكافور , قاله علي بن أبي طالب. والخامس: شجرة العلم , قاله الكلبي. والسادس: أنها شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة , قاله ابن جدعان , وحكى محمد بن إسحاق عن أهل الكتابين أنها شجرة الحنظل ولا أعرف لهذا وجهاً. فإذا قيل: فما وجه نهيهما عن ذلك مع كمال معرفتهما؟ قيل: المصلحة في استدامة , المعرفة , والابتلاء بما يجِب فيه الجزاء. قوله عز وجل: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الْشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا ... } أما الوسوسة فهي إخفاء الصوت بالدعاء , يقال وسوس له إذا أوهمه النصيحة , ووسوس إليه إذا ألقى إليه المعنى , وفي ذلك قول رؤبة بن العجاج:
(وسوس يدعو مخلصاً رب الفلق ... سراً وقد أوّن تأوين العقق)(2/209)
فإن قيل: فكيف وسوس لهما وهما في الجنة وهو خارج عنها؟ فعنه ثلاثة أجوبة هي أقاويل اختلف فيها أهل التأويل: أحدها: أنه وسوس إليها وهما في الجنة في السماء , وهو في الأرض , فوصلت وسوسته بالقوة التي خلقها الله له إلى السماء ثم الجنة , قاله الحسن. والثاني: أنه كان في السماء وكانا يخرجان إليه فيلقاهما هناك. والثالث: أنه خاطبهما من باب الجنة وهما فيها. { ... وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الْشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} وهذا هو الذي ألقى به من الوسوسة إليهما استغواءً لهما بالترغيب في فضل المنزلة ونعيم الخلود. فإن قيل: هل تصورا ذلك مع كمال معرفتهما؟ قيل: إنما كملت معرفتهما بالله تعالى لا بأحكامه. وفي قول إبليس ذلك قولان: أحدهما: أنه أوهمهما أن ذلك في حكم الله جائز أن يقلب صورتهما إلى صور الملائكة وأن يخلدهما في الجنة. والثاني: أنه أوهمهما أنهما يصيران بمنزلة الملائكة في علو المنزلة مع علمهما بأن قلب الصور لا يجوز. قوله عز وجل: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} أي حلق لهما على صدقه في خبره ونصحه في مشورته , فقبلا قوله وتصورا صدقه لأنهما لم يعلما أن أحداً يجترىء على الحلف بالله كاذباً. ويحتمل وجهاً آخر: أن يكون معنى قوله: {وَقَاسَمَهُمَا} أي قال لهما: إن كان ما قلته خيراً فهو لكما دوني وإن كان شراً فهو عليّ دونكما ومن فعل ذلك معكما فهو من الناصحين لكما , فكانت هذه مقاسمتهما أن قسم الخير لهما والشر له على وجه الغرور لتنتفي عنه التهمة ويسرع إليه القبول.(2/210)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
{فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} قوله عز وجل: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} معناه فحطهما بغرور من منزلة الطاعة إلى حال المعصية. فإن قيل: فهل علما عند أكلهما أنها معصية؟ قيل: لا , لأن إقدامهما عليها مع العلم بأنها معصية يجعلها كبيرة , والأنبياء معصومون من الكبائر , وإنما أقدما عليها لشبهة دخلت عليهما بالغرور. {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} فإن قيل: فلم بدت لهما سوآتهما ولم تكن بادية لهما من قبل؟ ففي ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أنهما كانا مستورين بالطاعة فانكشف الستر عنهما بالمعصية. والثاني: أنهما كانا مستورين بنور الكرامة فزال عنهما بذلك المهانة. والثالث: أنهما خرجا بالمعصية من أن يكونا من ساكني الجنة , فزال عنهما ما كانا فيه من الصيانة. {وَطَفِقَا يخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} في {وَطَفِقَا} وجهان: أحدهما: قاما يخصفان , قاله ابن بحر. والثاني: جعلا يخصفان , أي قطعان. {مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} وفيه قولان: أحدهما: ورق الموز. والثاني: ورق التين , قاله ابن عباس.(2/211)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
{قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين(2/211)
قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} قوله عز وجل: {قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فإن قيل: فالمأمور بالهبوط آدم وحواء لأن إبليس قد كان أهبط من قبل حين امتنع عن السجود لآدم , فكيف عبر عنهما بلفظ الجمع؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه خبر عن هبوطهم مع تفرقهم وإن خرج مخرج الأمر , قاله السدي. والثاني: أنهم آدم وحواء والحية , فكانوا جماعة , قاله أبو صالح. والثالث: أنهم آدم وحواء والوسوسة , قاله الحسن. فهبط آدم بأرض الهند على جبل يقال له واسم , وهبطت حواء بجدة , وهبطت الحية بأصفهان. وفي مهبط إبليس قولان. أحدهما بالأبلة. والثاني: بالمدار. وقيل أسكنهما الجنة لئلا ساعات خلت من يوم الجمعة , وأخرجهما لتسع ساعات خلت من ذلك اليوم. {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أما المستقر ففيه وجهان: أحدهما: أنه فعل الاستقرار. والثاني: أنه موضع الاستقرار , قاله أبو صالح. وأما المتاع فهو المنتفع به من عروض الدنيا التي يستمتع بها. وقوله: {إِلَى حِينٍ} يعني إلى انقضاء الدنيا , والحين وقت مجهول القدر ينطلق على طويل الزمان وقصيره وإن كان موضوعاً في الأغلب للتكثير.(2/212)
قال الشاعر:
(وما مزاحك بعد الحلم والدين ... وقد علاك مشيب حين لا حين)
أي وقت لا وقت.(2/213)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
{يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون} قوله عز وجل: {يَا بَنِيَءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوُءَاتِكُمْ} نزلت هذه الآية في قوم من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويرون أن ذلك أبلغ في الطاعة وأعظم في القربة. وفي دخول الشبهة عليهم في ذلك وجهان: أحدهما: أن الثياب قد دنستها المعاصي فخرجوا عنها. والثاني: تفاؤلاً بالتعري من الذنوب فقال الله تعالى: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} أي ما تلبسون من الثياب. فإن قيل: فليس ذلك بمنزل من السماء. فعنه جوابان: أحدهما: أنه لما كان ينبت من المطر الذي نزل من السماء صار كالمنزل من السماء , قاله الحسن. والثاني: أن هذا من بركات الله , والبركة تنسب إلى أنها تنزل من السماء , كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] . ثم قال: {يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} أي يستر عوراتكم , وسميت العورة سوأة لأنه يسوء صاحبها انكشافها. ثم قال: {وَرِيشاً} وهذه قراءة أهل الأمصار وكان الحسن يقرأ: {وَرِيَاشاً} وفيه أربعة تأويلات:(2/213)
أحدهما: أنه المعاش , قاله معبد الجهني. والثاني: أنه اللباس والعيش والنعيم , قاله ابن عباس. والثالث: أنه الجمال والزينة , قاله ابن زيد , ومنه قوله رؤبة:
(إليك أشكو شدة المعيش ... وجهد أعوام نتفن ريشي)
يريد أذهبن جمالي وزينتي. والرابع: أنه المال: قاله ابن الزبير ومجاهد , قال الشاعر:
(فريشي منكم وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما)
وفي الريش والرياش وجهان: أحدهما: أن معناهما واحد وإن اختلف لفظهما. والوجه الثاني: أن معناهما مختلف , فالريش ما بطن , والرياش ما ظهر. ثم قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} وفي لباس التقوى سبعة تأويلات: أحدها: أنه الإيمان , قاله قتادة والسدي. الثاني: الحياة , قاله معبد الجهني. والثالث: أنه العمل الصالح , قاله ابن عباس. والرابع: أنه السمت الحسن , قاله عثمان بن عفان. والخامس: خشية الله , قاله عروة بن الزبير. السادس: ستر العورة للصلاة التي هي التقوى , قاله ابن زيد. والسابع: لبس ما يُتَّقَى به الحر والبرد , قاله ابن بحر.(2/214)
وفي قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى لباس التقوى ومعنى الكلام أن لباس التقوى خير من الرياش واللباس , قاله قتادة والسدي. والثاني: أنه راجع إلى جميع ما تقدم من {قَدْ أَنزَلْنَا علَيكُمْ لِبَاساً يُوارِي سَوْءَاتِكُم وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوى} , ثم قال: {ذَلِكَ} الذي ذكرته هو {خَيْرٌ} كله.(2/215)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
{يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} قوله عز وجل: {يَا بَنِيءَادَمَ لاَ يَفتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} وهذا خطاب توجه إلى من كان من العرب يطوف بالبيت عرياناً , فقيل لهم لا يفتننكم الشيطان بغروره كما فتن أبويكم من قبل حتى أخرجهما من الجنة , ليكون إِشعارهم بذلك أبلغ في الزجر من مجرد النهي. {ينزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن لباسهما كان أظفاراً تستر البدن فنزعت عنهما وتركت زينة وتبصرة , قاله ابن عباس. الثاني: أن لباسهما كان نوراً , قاله وهب بن منبه. والثالث: أن نزع عنهما لباسهما من تقوى الله وطاعته , قاله مجاهد. {لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} فيه قولان: أحدهما: أجسادهما من العورة حين خرجا من لباسهما , وهو مقتضى قول ابن عباس. والثاني: سوأة معصيتهما حتى خرجا من تقوى الله وطاعته , وهو معنى قول مجاهد. {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنَ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: قومه , وهو قول الجمهور.(2/215)
والثاني: جيلُهُ , قاله السدي. {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: من حيث لا تبصرون أجسادهم. والثاني: من حيث لا تعلمون مكرهم وفتنتهم.(2/216)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
{وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون} قوله عز وجل: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَاءَابَآءَنَا} في هذه الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها وردت في العرب الذين كانوا يطوفون عراة , والفاحشة التي فعلوها كشف العورة , وهذا قول أكثر المفسرين. والثاني أنها في عبدة الأوثان , والفاحشة التي فعلوها الشرك , قاله الحسن. والثالث أنها اتخاذ البَحِيْرَةِ والسائبة والوصيلة والحام , قاله الكلبي. قوله عز وجل: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} فيه وجهان: أحدهما: بالصدق. والثاني: بالعدل. {وَأقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة , قاله مجاهد. والثاني: معناه اجعلوا سجودكم خالصاً لله تعالى دون ما سواه من الأوثان والأصنام , قاله الربيع بن أنس.(2/216)
والثالث: معناه اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة , أمراً بالجماعة لها , ندباً عند الأكثرين , وحتماً عن الأقلين. والرابع: أن أي موضع أدركت فيه وقت الصلاة فصل فيه فإنه مسجد ولا تؤخرها إلى حضور المسجد. {وَاْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني أقروا له بالوحدانية وإخلاص الطاعة. والثاني: ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له الدين. {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: كما بدأكم شقياً وسعيداً , كذلك تبعثون يوم القيامة , قاله ابن عباس. الثاني: كما بدأكم فآمن بعضكم وكفر بعضكم , كذلك تبعثون يوم القيامة. روى أبو سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تُبْعَثُ كُلُّ نَفْسٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ) . والثالث: كما خلقكم ولم تكونوا شيئاً , كذلك تعودون بعد الفناء أحياء , قاله الحسن , وابن زيد. والرابع: كما بدأكم لا تملكون شيئاً , كذلك تبعثون يوم القيامة. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرلاً وَأَوَّلُ مَنْ يُكَسَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيهِ السَّلاَمُ) ثم قرأ {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلينَ} [الأنبياء: 104] .(2/217)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
{يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} قوله عز وجل: {يَا بِنِيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمُ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن ذلك وارد في ستر العورة في الطواف على ما تقدم ذكره , قاله ابن(2/217)
عباس , والحسن , وعطاء , وقتادة , وسعيد بن جبير , وإبراهيم. والثاني: أنه وارد في ستر العورة في الصلاة , قاله مجاهد , والزجاج. والثالث: أنه وارد في التزين بأجمل اللباس في الجمع والأعياد. والرابع: أنه أراد به المشط لتسريح اللحية. {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} يعني ما أحله الله لكم. ويحتمل أن يكون هذا أمر بالتوسع في الأعياد. {وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسُرِفِينَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا تسرفوا في التحريم , قاله السدي. والثاني: معناه لا تأكلوا حراماً فإنه إسراف , قاله ابن زيد. والثالث: لا تسرفوا في أكل ما زاد على الشبع فإنه مضر , وقد جاء في الحديث: (أَصْلُ كُلِّ دَاءٍ البردة) , يعني التخمة. ويحتمل تأويلاً رابعاً: لا تسرفوا في الإنفاق. وقوله: {إِنَّهُ لاَ يحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يحب أفعالهم في السرف. والثاني: لا يحبهم في أنفسهم لأجل السرف.(2/218)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} قوله عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِّي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} يعني ستر العورة ردا على تركها من العرب في الطواف. ويحتمل ثانياً: أن يريد زينتها في اللباس. ثم قال: {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} فيه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يحرمون في الإحرام أكل السمن واللبن , قاله ابن زيد , والسدي.(2/218)
والثاني: أنها البحَيْرَةُ والسائبة التي حرموها على أنفسهم , قاله الحسن , وقتادة. وفي طيبات الرزق قولان: أحدهما: أنه المستلذ. والثاني: أنه الحلال. {قُلْ هِيَ للَّذِينَءَامَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني أن الذين آمنوا في الحياة الدنيا له الطيبات من الرزق يوم القيامة لأنهم في القيامة يختصون بها وفي الدنيا قد يشركهم الكفار فيها. وفي قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وجهان: أحدهما: خالصة لهم من دون الكفار. والثاني: خالصة من مضرة أو مأثم.(2/219)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} فيه وجهان: أحدهما: أن الفواحش: الزنى خاصة , وما ظهر منها: المناكح الفاسدة , وما بطن: الزنى الصريح. والثاني: أن الفواحش: جميع المعاصي , وما ظهر منها: أفعال الجوارح , وما بطن: اعتقاد القلوب. {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فيه وجهان: أحدهما: أن الإثم الخيانة في الأمور , والبغي: التعدي في النفوس.(2/219)
والثاني: الإثم: الخمر , والبغي: السكر , قال الشاعر:
(شربت الإثم حتى ضَلَّ عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول)
وسمي الخمر بالإثم , والسكر بالبغي لحدوثه عنهما.(2/220)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
{ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله عز وجل: {وَلِكُلَّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ولكل أمة كتاب فيما قضاه الله عليهم من سعادة أو شقاوة , من عذاب أو رحمة , قاله جويبر. الثاني: ولكلٍ نبي يدعوهم إلى طاعته وينهاهم عن معصيته , قاله معاذ بن جبل. والثالث: لكل أمة أجل فيما قدره الله من حياة , وقضاه عليهم من وفاة. ويحتمل رابعاً: ولكل أمة مدة يبقون فيها على دينهم أن يحدثوا فيه الاختلاف. {فِإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} فيه قولان: أحدهما: أجل موتهم. الثاني: أجل عذابهم , قاله جويبر. {لاَ يَسْتَأَخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يزيد أجل حياتهم ولا ينقص. والثاني: لا يتقدم عذابهم ولا يتأخر.(2/220)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
{فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} قوله عز وجل: { ... أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: هو عذاب الله الذي أعده لمن أشرك , قاله الحسن , والسدي. والثاني: ما سبق لهم من الشقاء والسعادة , قاله ابن عباس. والثالث: نصيب من كتابهم الذي كتبنا لهم أو عليهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير أو شر , قاله قتادة. والرابع: نصيبهم مما كتب لهم من العمر والرزق والعمل , قاله الربيع بن أنس , وابن زيد. والخامس: نصيبهم مما وعدوا في الكتاب من خير أو شر , قاله الضحاك. {حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} في توفي الرسل هنا قولان: أحدهما: أنها وفاة الموت في الدنيا التي توبخهم عندها الملائكة. والثاني: أنها وفاة الحشر إلى النار يوم القيامة , قاله الحسن.(2/221)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
{قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون} قوله عز وجل: { ... حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جِمِيعاً} يعني في النار أدرك بعضهم بعضاً حتى استكملوا فيها.(2/221)
{قَالَتْ أُخْرَاهُمُ لأُولاَهُمْ} يعني الأتباع للقادة لأنهم بالاتباع لهم متأخرون عنهم , وكذلك في دخول النار تقدم القادة على الأتباع. {رَبَّنَا هَؤُّلآءِ أَضَلُّونَا فئَاتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ} يريد بأحد الضعفين عذابهم على الكفر , وبالآخر عذابهم على الإغواء. ويحتمل هذا القول من الأتباع وجهين: أحدهما: تخفيف العذاب عنهم. والثاني: الانتقام من القادة بمضاعفة العذاب عليهم. فأجابهم الله قال: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} يعني أنه وإن كان للقادة ضعف العذاب , لأن أحدهما بالكفر , والآخر بالإغواء , فلكم أيها الأتباع ضعف العذاب , وهذا قول الجمهور , وإن ضعف الشيء زيادة مثله. وفيه وجه ثان: قاله مجاهد: أن الضعف من أسماء العذاب.(2/222)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
{إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أي لا تفتح لأرواحهم لأنها تفتح لروح الكافر وتفتح لروح المؤمن , قاله ابن عباس , والسدي. والثاني: لا تفتح لدعائهم , قاله الحسن. والثالث: لا تفتح لأعمالهم , قاله مجاهد , وإبراهيم. والرابع: لا تفتح لهم أبواب السماء لدخول الجنة لأن الجنة في السماء , وهذا قول بعض المتاخرين. والخامس: لا تفتح لهم أبواب السماء لنزول الرحمة عليهم , قاله ابن بحر.(2/222)
{وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يِلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فيه قولان: أحدهما: سم الخياط: ثقب الإبرة , قاله ابن عباس , الحسن , ومجاهد , وعكرمة , والسدي. والثاني: أن سم الخياط هو السم القاتل الداخل في مسام الجسد أي ثقبه. وفي {الْجَمَلِ} قراءتان: إحداهما: وعليها الجمهور , الجَمَل بفتح الجيم وتخفيف الميم وهو ذو القوائم الأربع. والثانية الجُمَّل بضم الجيم وتشديد الميم وهو القلس الغليظ , وهذه قراءة سعيد بن جبير , وإحدى قراءتي ابن عباس , وكان ابن عباس يتأول أنه حبل السفينة. ومعنى الكلام أنهم لا يدخلون الجنة أبداً كما لا يدخل الجمل في سم الخياط أبداً , وضرب المثل بهذا أبلغ في إياسهم من إرسال الكلام وإطلاقه في النفي , والعرب تضرب هذا للمبالغة , قال الشاعر:
(إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وعاد القار كاللبن الحليب)
قوله عز وجل: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} قال الحسن: فراش من نار , والمهاد: الوِطَاء , ومنه أخذ مهد الصبي. {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها اللحف. والثاني: اللباس. والثالث: الظلل , قاله الحسن.(2/223)
والمراد بذلك أن النار من فوقهم ومن تحتهم , فعبر عما تحتهم بالمهاد , وعما فوقهم بالغواش.(2/224)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} قوله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم منْ غِلٍّ ... } فيه أربعة أوجه: أحدها: الأهواء والبدع , قاله سهل بن عبد الله. والثاني: التباغض والتحاسد. والثالث: الحقد. والرابع: نزع من نفوسهم أن يتمنوا ما لغيرهم. وفي نزعه وجهان: أحدهما: أن الله نزع ذلك من صدورهم بلطفه. والثاني: ان ما هداهم إليه من الإيمان هو الذي نزعه من صدورهم. وفي هذا الغل قولان: أحدهما: أنه غل الجاهلية , قاله الحسن. والثاني: أنهم لا يتعادون ولا يتحاقدون بعد الإيمان , وقد روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} .(2/224)
وقيل: إنها نزلت في أهل بدر. ويحتمل قوله: {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذا} وجهين: أحدهما: هدانا لنزع من صدورنا. والثاني: هدانا لثبوت الإيمان في قلوبنا حتى نزع الغل من صدورنا. وفيه وجه ثالث: قال جويبر: هدانا لمجاوزة الصراط ودخول الجنة.(2/225)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
{ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} قوله عز وجل: { ... وَعَلَى الأَعَرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمُ} أما الأعراف فسور بين الجنة والنار , قاله مجاهد , والسدي , وهو جَمْعٌ وَاحِدُهُ عُرْف وهو ما ارتفع عن غيره , ومنه عرف الديك وعرف الفرس , قال الراجز:
(كل كتاب لجمعه موافي ... كالعلم الموفي على الأعراف.)
وفي الذين على الأعراف خمسة أقاويل: أحدها: أنهم فضلاء المؤمنين وعلماؤهم , قاله الحسن , ومجاهد , قال أمية بن أبي الصلت:
(وآخرون على الأعراف قد طمعوا ... بجنة حفها الرمان والخضر.)(2/225)
وهذا وإن كان شعراً جاهلياً وحال الأعراف منقول عن خبر يروى فيحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون أمية قد وصل إلى علمه من الصحف الشرعية. والثاني: أن يكون الله قد انطق به أمية إلهاماً لتصديق ما جاء به القرآن. والثاني: أنهم ملائكة يُرَون في صور الرجال , قاله أبو مجلز. والثالث: أنهم قوم بطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس , قاله حذيفة. والرابع: أنه قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فجعلوا هنالك حتى يقضى الله من أمرهم ما يشاء ثم يدخلهم الجنة , قاله ابن مسعود. والخامس: أنهم قوم قتلوا في سبيل الله وكانوا عصاة لآبائهم , قيل إنهم غزوا بغير إذنهم , وقد روى محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: (هُمْ قَومٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَعْصِيةِ آبَائِهِمْ , فَمَنَعَهُمْ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَنِ النَّارِ ومنعهم مَعْصِيَةُ آبَائِهِم أَنْ يَدْخُلُواْ الجَنَّةَ) ومعنى قوله: {يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} يعني يعرفون أهل النار وأهل الجنة بعلامتهم التي يتميزون بها , وعلامتهم في وجوههم وأعينهم , قال الحسن البصري: علامة أهل النار سواد الوجوه وزرقة العيون , وعلامة أهل الجنة بياض الوجوه وحسن العيون. فإن قيل في أصحاب الأعراف: إنهم فضلاء المؤمنين كان ذلك زيادة في ثوابهم ومبالغة في كرامتهم لأنهم يرون منازلهم في الجنة فيستمتعون بها , ويرون عذاب النار فيفرحون بالخلاص منها.(2/226)
وإن قيل: إنهم المفضلون وأصحاب الصغائر من المؤمنين كان ذلك لنقص ثوابهم عن استحقاق الدخول للجنة. وإن قيل: إنهم الملائكة , احتمل أمرهم ثلاثة أوجه: أحدها: أن يؤمروا بذلك حمداً لأهل الجنة وذماً لأهل النار وزيادة في الثواب والعقاب. والثاني: أن يكونوا حفظة الأعمال في الدنيا الشاهدين بها عند الله في الآخرة أمروا بذلك , ما أدوه من الشهادة تبشيراً لأهل الجنة وتوبيخاً لأهل النار. والثالث: أن يكونوا خزنه الجنة والنار , فإن من الملائكة من أفرد لخزنة الجنة , ومنهم من أفرد لخزنة النار , ويكون هؤلاء قد جمع لهم بين الأمرين , والله أعلم بغيب ذلك. وحكى ابن الأنباري أن قوله: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} معناه على معرفة أهل الجنة والنار رجال , وأن قوله: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوفٌ عَلَيكُم} الآية من قول أصحاب الأعراف , وهو مخالف لقول جميع المفسرين.(2/227)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
{ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون} وفي قوله: {وَنَادَى} وجهان: أحدهما: أنه بمعنى ينادي , لأنه في المستقبل. والثاني: أنه على الحذفِ وتقديره: إذا كان يوم القيامة نادى أصحاب الأعراف.(2/227)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
{ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون}(2/227)
قوله عز وجل: { ... أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} فيه وجهان: أحدهما: من ماء الرحمة ومما رزقكم الله من القربة. والثاني: من ماء الحياة ومما رزقكم الله من النعم.(2/228)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
{ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ} يعني القرآن. {فصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} فيه وجهان: أحدهما: بيَّنَّا ما فيه من الحلال والحرام على علم بالمصلحة. والثاني: ميزنا به الهدى من الضلالة على علم بالثواب والعقاب. {هُدىً وَرَحْمَةً} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الهدى البرهان. والثاني: أن الهدى الإرشاد , والرحمة: اللطف. قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} أي هل ينظرون , فعبر عن الانتظار بالنظر , {إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} أي تأويل القرآن , وفيه وجهان: أحدهما: عاقبته من الجزاء , قاله الحسن. والثاني: ما فيه من البعث والنشور والحساب. {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} فيه وجهان: أحدهما: القضاء به , قاله الحسن. الثاني: عاقبة ما وعدهم الله به في الدنيا والآخرة , قال الكلبي. {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ} فيه قولان: أحدهما: معنى نسوه أعرضوا عنه فصار كالمنسي , قاله أبو مجلز.(2/228)
والثاني: تركوا العمل به , قاله الزجاج. {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنبياء الله في الدنيا بكتبه المنذرة. والثاني: الملائكة عند المعاينة بما بشروهم به من الثواب العقاب.(2/229)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} قوله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وفي ترك تعجيل خلقها في أقل الزمان مع قدرته على ذلك أربعة أوجه: أحدها: أن إنشاءها شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال أبلغ في الحكمة وأدل على صحة التدبير ليتوالى مع الأوقات بما ينشئه من المخلوقات تكرار المعلوم بأنه عالم قادر يصرف الأمور على اختياره ويجريها على مشيئته. والثاني: أن ذلك لاعتبار الملائكة , خلق شيئاً بعد شيء. والثالث: أن ذلك ترتب على الأيام الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وهي ستة أيام فأخرج الخلق فيها , قاله مجاهد. والرابع: ليعلمنا بذلك , الحساب كله من ستة ومنه يتفرع سائر العدد قاله ابن بحر. {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} فيه قولان: أحدهما: معناه استوى أمره على العرش , قاله الحسن. والثاني: استولى على العرش , كما قال الشاعر:
(قد اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاقِ ... مِن غَيْرِ سَيْفٍ ودم مُهْرَاقٍ)(2/229)
وفي {الْعَرْشِ} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه المُلْك كني عنه بالعرش والسرير كعادة ملوك الأرض في الجلوس على الأسرة , حكاه ابن بحر. والثاني: أنه السموات كلها لأنها سقف , وكل سقف عند العرب هو عرش , قال الله تعالى: {خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف: 42] [الحج: 45] أي على سقوفها. والثالث: أنه موضع في السماء في أعلاها وأشرفها , محجوب عن ملائكة السماء. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي يغشي ظلمة الليل ضوء النهار. {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} لأن سرعة تعاقب الليل والنهار تجعل كل واحد منهما كالطالب لصاحبه. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: مذللات بقدرته. والثاني: جاريات بحكمه. {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه مالك الخلق وتدبيرهم. والثاني: إليه إعادتهم وعليه مجازاتهم.(2/230)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين} قوله عز وجل: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} فيه وجهان: أحدهما: في الرغبة والرهبة , قاله ابن عباس.(2/230)
والثاني: التضرع: التذلل والخضوع , والخفية: إخلاص القلب. ويحتمل أن التضرع بالبدن , والخفية إخلاص القلب. {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} يعني في الدعاء , والاعتداء فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن يسأل ما لا يستحقه من منازل الأنبياء , قاله أبو مجلز. والثاني: أنه يدعو باللعنه والهلاك على من لا يستحق , قاله مقاتل. والثالث: أن يرفع صوته بالدعاء , روى أبو عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأشرفوا واد , فجعل الناس يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنفُسكُم إِنَّكُم لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِباً إِنَّكُم تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً وَهُوَ مَعَكُمْ) . قوله عز وجل: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} فيه أربعة أقاويل: أحدها: لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان. والثاني: لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل. والثالث: لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة , قاله الكلبي. والرابع: لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه , قاله الحسن. {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} يحتمل وجهين: أحدهما: خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه. والثاني: خوفاً من الرد وطمعاً في الإجابة. {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} فإن قيل: فلم أسقط الهاء من قريب والرحمة مؤنثة؟ فعن ذلك جوابان. أحدهما: أن الرحمة من الله إنعام منه فَذُكِّرَ على المعنى , وهو أن إنعام الله قريب من المحسنين , قاله الأخفش.(2/231)
والثاني: أن المراد به مكان الرحمة , قاله الفراء , كما قال عروة بن حزام:
(عَشِيَّة لاَ عَفْرَاءَ مِنكِ قَرِيبَةٌ ... فَتَدْنُو ولا عَفْرَاءُ مِنْكِ بَعِيدُ)
فأراد بالبعد مكانها فأسقط الهاء , وأرادها هي بالقريبة فأثبت الهاء.(2/232)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
{وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون} قوله عز وجل: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} يعني طيب التربة. {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} يعني يخرج نباته حسناً جيداً. {وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} فيه قولان: أحدهما: أن النكد القليل الذي لا ينتفع به , قاله السدي. والثاني: أنه العسر بشدته المانع من خيره , قال الشاعر:
(وَأَعْطِ مَا أَعَطْيتَهُ طَيِّباً ... لاَ خَيْرَ فِي الْمَنْكُودِ وَالنَّاكِد)
وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر , فجعل المؤمن كالأرض الطيبة والكافر كالأرض الخبيثة السبخة , قاله ابن عباس , والحسن , ومجاهد , وقتادة , والسدي.(2/232)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
{لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين(2/232)
أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون} قوله عز وجل: { ... وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} فيها قولان: أحدهما: القوة , قاله ابن زيد. والثاني: بسط البدن وطول الجسد , قيل: إنه كان أقصرهم طولاً اثني عشر ذراعاً. {فَاذْكُرُواءَالآءَ اللَّهِ} معناه نعم الله , وقال الشاعر:
(أَبْيَضُ لاَ يَرْهَبُ الهزَالَ وَلاَ ... يَقْطَعُ رَحِمَاً وَلاَ يَخُونُ إِلَى)(2/233)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
{قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما(2/233)
نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين} قوله تعالى: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} في الرجس ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه العذاب , قاله زيد بن أسلم. والثاني: السخط , قاله ابن عباس. والثالث: أن الرجس والرجز بمعنى واحد إلا أن الزاي قلبت سيناً كما قلبت السين تاء في قول الشاعر:
(أَلاَ لَحَى اللَّهُ بَنِي السَّعْلاَةِ ... عَمْرِو بنِ يَرْبُوعَ لِئَامَ النَّاتِ)
89 (لَيْسَوا بِأَعْفَافٍ وَلاَ أَكْيَاتِ} 9
يريد الناس , وأكياس. قوله عز وجل: { ... فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} يعني الأصنام , وفي مراده بتسميتهم وجهان: أحدهما: في تسميتها آلهة يعبدونها. والثاني: أنه تسميتهم لبعضها أنه يسقيهم المطر , والآخرة أنه يأتيهم بالرزق , والآخر أنه يشفي المريض , والآخر يصحبهم في السفر. وقيل: إنه ما أمرهم هود إلا بتوحيد الله والكف عن ظلم الناس فأبوا وقالوا: من أشد منا قوة , فأهلكوا.(2/234)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
{وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم واذكروا(2/234)
إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} قوله عز وجل: { ... هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْءَايَةً} في الآية هنا وجهان: أحدهما: أن الآية الفرض كما قال تعالى: {وَأَنَزَلْنَا فِيهَاءَايَاتٍ} [النور: 1] أي فرضاً , ويكون معنى الكلام هذه ناقة الله عليكم فيها فرض أن تذروها {تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} أي لا تعقروها. والثاني: أنها العلامة الدالة على قدرته. والآية فيها آيتان: إحداهما: أنها خرجت من صخرة ملساء تمخضت بها كما تتمخض المرأة ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها. والثانية: أنه كان لها شرب يوم , ولهم شرب يوم يخصهم لا تقرب فيه ماءهم , حكي ذلك عن أبي الطفيل والسدي وابن إسحاق. قوله عز وجل: { ... وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: يعني أنزلكم في الأرض وهي أرض الحجر بين الشام والمدينة. والثاني: فيها من منازل تأوون إليها , ومنه قولهم: بوأته منزلاً , إذا أمكنته منه ليأوي إليه , قال الشاعر:
(وَبُوِّئَتْ فِي صَمِيمِ مَعْشَرِهَا ... فَتَمَّ فِي قَوْمِهَا مَبْوَؤُهَا)(2/235)
أي مكنت من الكرم في صميم النسب. {تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً} والقصور ما شيد وعلا من المنازل اتخذوها في سهول الأرض ليصيِّفوا فيها. {وَتَنْحِتَونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً} لتكون مساكنهم في الشتاء لأنها أحصن وأبقى وأدفأ فكانوا طوال الآمال طوال الأعمار. {فَاْذْكُرُواءَالآءَ اللَّهِ} فيه ما قدمنا , أي نعمه أو عهوده. {ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفسِدِينَ} فيه وجهان: أحدهما: لا تعملوا فيها بالمعاصي. والثاني: لا تدعوا إلى عبادة غير الله. وفي العبث وجهان: أحدهما: أنه السعي في الباطل. والثاني: أنه الفعل المؤدي لضير فاعله. قوله عز وجل: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها حركة الأرض تضطرب من تحتهم. والثاني: أنها الصيحة , قاله مجاهد , والسدي. والثالث: أنها زلزلة أهلكوا بها , قاله ابن عباس. {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِم جَاثِمِينَ} قال محمد بن مروان السدي: كل ما في القرآن من {دَارِهِمْ} فالمراد به مدينتهم , وكل ما فيه من {دِيَارِهِم} فالمراد به مساكنهم , وفي الجاثم قولان: أحدهما: أنه البارك على ركبتيه لأنهم أصبحوا موتى على هذه الحال. والثاني: معناه أنهم أصبحوا كالرماد الجاثم لأن الصاعقة أحرقتهم. وقيل: إنه كان بعد العصر. {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي خرج من بين أظهرهم , وقيل إن صالحاً خرج عنهم إلى رملة فلسطين بمن آمن معه من قومه وهم مائة وعشرة , وقيل إنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهرها.(2/236)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
{فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} قوله عز وجل: { ... إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَّهَّرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: من إتيان الأدبار. والثاني: يتطهرون بإتيان النساء في الأطهار , قال الشاعر:
(قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا سَدُّوا مَآزِرَهُم ... دَونَ النِّسَاءِ وَلَو بَانَتْ بِأَطْهَارِ)(2/237)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
{فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} فيه وجهان: أحدها: فخلصناه. والثاني: على نجوة من الأرض , وقيل: إن أهله ابنتاه واسمهما زينا ورميا. {مِنَ الْغَابِرِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من الباقين في الهلكى , والغابر الباقي , ومنه قول الراجز:
(فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَر ... لَهُ الإِلَهُ مَا مَضَى وَمَا غَبَر)(2/237)
والثاني: من الغابرين في النجاة , من قولهم: قد غبر عنا فلان زماناً إذا غاب , قال الشاعر:
(أَفَبَعْدَنَا أو بَعْدَهُمْ ... يُرْجَى لِغَابِرِنَا الْفَلاَحُ)
والثالث: من الغابرين في الغم , لأنها لقيت هلاك قومها , قاله أبو عبيدة.(2/238)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
{وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين} قوله عز وجل: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوِعَدُونَ} الصراط: الطريق , قال الشاعر:
(شَحَنَّا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ... تَرَكْنَاهُمْ أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ)
وفي المراد به ثلاثة أقاويل: أحدهما: أنهم كانوا يقعدون على الطريق إلى شعيب يؤذون من قصده للإيمان به ويخوفونه بالقتل , قاله ابن عباس , ومجاهد , وقتادة. والثاني: أنه نهاهم عن قطع الطريق , قاله أبو هريرة. والثالث: أنهم العشارون نهاهم عن تعشير أموال الناس.(2/238)
{وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْءَامَنَ بِهِ} ويحتمل وجهين: أحدهما: تصدون المؤمنين عن طاعة الله وعبادته. والثاني: تصدون من أراد الإيمان بإغوائه ومخادعته. {وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} قال قتادة: يعني تبغون السبيل عوجاً عن الحق. والفرق بين العوج بالكسر وبالفتح أن العوج بكسر العين ما كان في الدين , ولا يُرَى , والعوج بفتح العين ما كان في العود , وما يرى. {وَاذْكُرواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} حكى الزجاج فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كثر عددكم بعد القلة قال ابن عباس: وذلك أن مدين بن إبراهيم تزوج زينا بنت لوط وولد آل مدين منها. والثاني: كثركم بالغنى بعد الفقر. والثالث: كثركم بالقوة بعد الضعف. وذكر بعض المفسرين وجهاً رابعاً: أنه كثرهم بطول الأعمار بعد قصرها من قبل.(2/239)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} قوله عز وجل: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنْ عُدنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجّانَا اللَّهُ مِنْهَا} والفرق بين الملة والدين أن الملة ما شرعه الله , والدين ما اعتقده الناس تقرباً إلى الله , فصار كل دين ملة وليس كل ملة ديناً. فإن قيل: فالعود إلى الشيء الرجوع إليه بعد الخروج منه فهل كان شعيب على ملة قومه من الكفر حتى يقول: {إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم} . في الجواب عنه ثلاثة أوجه:(2/239)
أحدها: أن هذه حكاية عمن اتبع شعيباً من قومه الذين كانوا قبل اتباعه على ملة الكفر. الثاني: أنه قال ذلك على التوهم أنه لو كان عليها لم يعد إليها. والثالث: أنه يطلق ذكر العَود على المبتدىء بالفعل وإن لم يسبق منه فعل مثله سن قولهم: قد عاد عليّ من فلان مكروه وإن لم يسبقه بمثله كقول الشاعر:
(لَئِن كَانَت الأَيَّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً ... إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ)
(أَتَى دَونَ حُلْوِ الْعَيْشِ شَيْءٌ أُمِرُّهُ ... كُرُوبٌ عَلَى آثَارِهِنّ كُرُوبُ)
ثم قال: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} فيه قولان: أحدهما: أن نعود في القرية إلاّ أن يشاء الله , قاله بعض المتكلمين. والثاني: وهو قول الجمهور أن نعود في ملة الكفر وعبادة الأوثان. فإن قيل فالله تعالى لا يشاء عبادة الأوثان فما وجه هذا القول من شعيب؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قد كان في ملتهم ما يجوز التعبد به. والثاني: أنه لو شاء عبادة الوثن لكانت عبادته طاعة لأنه شاءه كتعبده بتعظيم الحجر الأسود. والثالث: أن هذا القول من شعيب علىالتعبيد والامتناع كقوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} [الأعراف: 40] وكقولهم: حتى يشيب الغراب. ثم قال: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَومِنَا بِالْحَقِّ وََأَنتَ خَيرُ الْفَاتِحِينَ} فيه وجهان: أحدهما: اكشف بيننا وبين قومنا , قاله قتادة. والثاني: احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين. وذكر الفراء , أن أهل عُمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح. وقال غيره: إنه لغة مراد , قال الشاعر:
(أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي عُصَمَ رَسُولاً ... بِأَنِّي عَنْ فَتَّاحِكُمُ غَنِي)(2/240)
وقد قال ابن عباس: كنت لا أدري ما قوله: {رَبَّنَا افتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ} حتى سمعت بنت ذي يزن تقول: تعالَيْ أفاتحك , يعني أقاضيك. وقيل: إنه سمي بذلك لأنه يفتح باب العلم الذي قد انغلق على غيره. فإن قيل: فما معنى قوله {بِالْحَقِّ} ومعلوم أن الله لا يحكم إلا بالحق؟ . ففي الجواب عنه أربعة أوجه: أحدها: أنه قال ذلك صفة لحكمه لا طلباً له. والثاني: أنه سأل الله أن يكشف لمخالفه من قومه أنه على حق. والثالث: أن معناه احكم بيننا الذي هو الحق , قاله ابن بحر. والرابع: احكم في الدنيا بنصر الحق , قاله السدي.(2/241)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
{وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين} قوله عز وجل: {الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيبَاً كَأنَ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا} فيه أربعة تأويلات: أحدها: كأنك لم يقيموا فيها , قاله ابن قتيبة. والثاني: كأن لم يعيشوا فيها , قاله الأخفش. والثالث: كأن لم ينعموا فيها , قاله قتادة. والرابع: كأن لم يعمروا فيها , قاله ابن عباس. {الَّذِينَ كَذَّبُوْا شُعَيْباً كَانُواْ هَمُ الخَاسِرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: بالكفر. والثاني: بالهلاك , قاله ابن عباس.(2/241)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
{فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها(2/241)
بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} قوله عز وجل: {وَمَآ أرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِّيٍ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَها بِالبَأْسآءِ وَالضَّرَّآءِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن البأساء: القحط , والضراء: الأمراض والشدائد , قاله الحسن. والثاني: أن البأساء الجوع , والضراء: الفقر , قاله ابن عباس. والثالث: أن البأساء: البلاء , والضراء الزمانة. والرابع: أن البأساء: ما نالهم من الشدة في أنفسهم. والضراء: ما نالهم في أموالهم , حكاه علي بن عيسى. ويحتمل قولاً خامساً: أن البأساء الحروب. {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يتوبون. الثاني: يدعون , قاله ابن عباس. قوله عز وجل: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} فيه وجهان: أحدهما: مكان الشدة الرخاء , قاله ابن عباس , والحسن , وقتادة , ومجاهد. والثاني: مكان الخير والشر. {حَتَّى عَفَواْ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: حتى كثروا , قاله ابن عباس , ومجاهد , والسدي , قال لبيد:
(وَأنَاسٌ بَعْدَ قَتْلٍ قَدْ عَفَواْ ... وَكَثِيرٌ زَالَ عَنْهُمْ فَانْتَقَلْ)
والثاني: حتى أعرضواْ , قاله ابن بحر. والثالث: حتى سُرّوا , قاله قتادة. والرابع: حتى سمنوا , قاله الحسن , ومنه قول بشر بن أبي حازم:
(فَلَمَّا أَنْ عَفَا وَأَصَابَ مَالاً ... تَسَمَّنَ مَعْرِضاً فِيهِ ازْوِرَارُ)(2/242)
{وَّقَالُوْا قَدْ مَسَّءَابَاءَنَا الضَّرَّاءُ والسَّرَّآءُ} أي الشدة والرخاء يعنون ليس البأساء والضراء عقوبة على تكذيبك وإنما هي عادة الله في خلقه أن بعد كل خصب جدباً وبعد كل جدب خصباً.(2/243)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} قوله عز وجلَّ: { ... لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم} فيه وجهان: أحدهما: لرزقنا , قاله السدي. والثاني: لوسعنا. {بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} : (بركات السماء: القطر. وبركات الأرض. النبات والثمار ويحتمل أن تكون بركات السماء قبول الدعاء. وبركات الأرض: تسهيل الحاجات.(2/243)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
{أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون} وفي قوله تعالى: {فَهُم لاَ يَسْمَعُونَ} أي لا يقبلون , كما قال في الصلاة , سمع الله لمن حمده , أي قبل الله ممن حمده , وقال الشاعر:
(دَعَوْتُ اللَّهَ حَتَّى خِفْتُ أَلاَّ ... يَكُونَ اللَّهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ)
أي يقبل.(2/243)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
{تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا(2/243)
ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} قوله عز وجل: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِّنْ عَهْدٍ} في قوله: {مِنْ عَهْدٍ} قولان: أحدهما: أن العهد الطاعة , يريد: ما وجدنا لأكثرهم من طاعة لأنبيائهم , لأنه قال بعده {وَإن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمُ لَفَاسِقِينَ} وتكون {مِنْ} في هذا الموضع على هذا التأويل زائدة. والثاني: أنه محمول على ظاهر العهد أي من وفاء بعهده. وفي المراد بالعهد هنا ثلاثة أقاويل. أحدها: الميثاق الذي أخذه الله عليهم في ظهر آدم قاله أبو جعفر الطبري. والثاني: ما جعله الله في عقولهم من وجوب شكر النعمة , وأن الله هو المنعم , قاله علي بن عيسى. والثالث: أنه ما عهد إليهم مع الأنبياء أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً , قاله الحسن {وإن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُم لَفَاسِقِينَ} في قوله {لَفَاسِقِينَ} وجهان: أحدهما: خارجين عن طاعته. والثاني: خائنين في عهده , وهذا يدل على أن العصاة أكثر من المطيعين.(2/244)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
{ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين}(2/244)
قوله عز وجل: {حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} في {حَقِيقٌ} وجهان: أحدهما: حريص , قاله أبو عبيدة. والثاني: واجب , مأخوذ من وجوب الحق. وفي قوله: {إلاَّ الْحَقَّ} وجهان: أحدهما: إلا الصدق. والثاني: إلا ما فرضه الله عليّ من الرسالة.(2/245)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
{قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين} قوله عز وجل: {قَالُواْ أَرْجِه وَأَخَاهُ} فيه قولان: أحدهما: معناه أخِّرْهُ , قاله ابن عباس والحسن. والثاني: أحبسه , قاله قتادة والكلبي. {وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ} قال ابن عباس: هم أصحاب الشُرَط وهو قول الجماعة أرسلهم في حشر السحرة وكانوا اثنين وسبعين رجلاً.(2/245)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
{قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون}(2/245)
قوله عز وجل: {وَأَوْحِيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} قال ابن عباس: العصا أول آيات موسى وكانت من آس الجنة , طولها عشرة أذرع بطول موسى , قصد باب فرعون فألقى عليه الفزع , فشاب فخضب بالسواد استحياء من قومه , فكان فرعون أول من خضب بسواد. {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} معنى تلقف هو سرعة التناول إلا أن المراد هنا سرعة ابتلاعه بالفم. قال أبو حاتم: وهي في بعض القراءات تلقم بالميم والتشديد , قال الشاعر:
(أَنْتَ عَصَا مُوسَى الَّتِي لَمْ تَزَلْ ... تَلْقَمُ مَا يَأْفِكُهُ السَّاحِرُ)
وفي قوله: {مَا يأْفِكُونَ} وجهان: أحدهما: معناه يقلبون , ومنه المؤتفكات أي المنقلبات , قاله ابن عيسى. والثاني: معناه يكذبون لأن الإفك هو الكذب , قاله مجاهد. فإن قيل: فلم أمر موسى السحرة أن يلقو وذلك منهم كفر ولا يجوز أن يأمر به نبي؟ قيل عن ذلك جوابان. أحدهما: أن مضمون أمره إن كنتم محقين فألقوا. والثاني: القول على ما يصح ويجوز لا على ما يفسد ويستحيل. قوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} أي ظهر الحق , قاله الحسن , ومجاهد , وفي الحق الذي ظهر فيه قولان: أحدهما: ظهرت عصا موسى على حبال السحرة. والثاني: ظهرت نبوة موسى على ربوبية فرعون. قوله عز وجل: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} في سجودهم قولان: أحدهما: أنهم سجدوا لموسى تسليماً له وإيماناً به. والثاني: أنهم سجدوا لله إقراراً بربوبيته , لأنهم {قَالُواءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} . وفي سجودهم قولان: أحدهما: أن الله ألهمهم ذلك لطفاً بهم. والثاني: أن موسى وهارون سجدا شكراً لله عند ظهور الحق على الباطل فاقتدوا بهما في السجود لله طاعة.(2/246)
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
{قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} قوله عز وجل: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ ... } الآية: {الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه أشرافهم. والثاني: رؤساؤهم. والثالث: أنهم الرهط والنفر الذين آمنوا معهم. والفرق بين الرهط والنفر من وجهين: أحدهما: كثرة الرهط وقلة النفر. والثاني: قوة الرهط وضعف النفر , وفي تسميتهم بالملأ وجهان: أحدهما: أنهم مليئون بما يراد منهم. والثاني: لأنهم تملأ النفوس هيبتهم. وفيه وجه ثالث: لأنهم يملأون صدور المجالس. فإن قيل: فما وجه إقدامهم على الإنكار على فرعون مع عبادتهم له؟ قيل:(2/247)
لأنهم رأوا منه خلاف عادته وعادة الملوك في السطوة بمن أظهر العناد وخالف , وكان ذلك من لطف الله بموسى. وفي قوله: {لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} وجهان: أحدهما: ليفسدوا فيها بعبادة غيرك والدعاء إلى خلاف دينك. والثاني: ليفسدوا فيها بالغلبة عليها وأخذ قومه منها. ثم قالوا: {وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ} فإن قيل: فما وجه قولهم ذلك له وهم قد صدقوه على قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] . قيل الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كان يعبد الأصنام وكان قومه يعبدونه , قاله الحسن. والثاني: أنه كان يعبد ما يستحسن من البقر ولذلك أخرج السامري عجلاً جسداً له خوار وقال هذا إلهكم وإله موسى , وكان معبوداً في قومه , قاله السدي. والثالث: أنها كنت أصناماً يعبدها قومه تقرباً إليه , قاله الزجاج. وقرأ ابن عباس {وَيَذَرَكَ وَإِلاَهَتَكَ} أي وعبادتك. قال الحسن: وكان فرعون يَعبُد ويُعبَد. وعلى هذه القراءة يسقط السؤال. وذكر ابن قتيبة في هذه القراءة تأويلاً ثانياً؛ أن الإلاهة الشمس , والعرب تسمي الشمس الإلاهة واستشهد بقول الأعشى:
(وَلَمْ أَذْكُرِ الرُّعْبَ حَتَّى انْتَقَلْتُ ... قُبَيْلَ الإِلاَهَةِ مِنْهَا قرِيباً)
يعني الشمس , فيكون تأويل الآية: ويذرك والشمس حتى تعبد فعلى هذا يكون السؤال متوجهاً عنه ما تقدم. {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ} وإنما عدل عن قتل موسى إلى قتل الأبناء لأنه علم أنه لا يقدر عل قتل موسى إما لقوته وإما تصوره أنه مصروف عن قتله , فعدل إلى قتل الأبناء ليستأصل قوم موسى من بني إسرائيل فيضعف عن فرعون {وَنَسْتَحِيي نِسَاءَهُمُ} فيه قولان:(2/248)
أحدهما: أن نفتش أرحامهن فننظر ما فيهن من الولد , مأخوذ من الحياء وهو اسم من أسماء الفرج , حكاه ابن بحر. والثاني: الأظهر أن معناه: نستبقيهن أحياء لضعفهن عن المنازعة وعجزهن عن المحاربة. قوله عز وجل: {قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أمرهم بذلك تسلية لهم من وعيد فرعون كما يقول من نالته شدة: استعنت بالله. والثاني: أنه موعد منه بأن الله سيعينهم على فرعون إن استعانوا به. ثم قال: {وَاصْبِرُواْ} يحتمل وجهين: أحدهما: واصبروا على ما أنتم فيه من الشدة طمعاً في ثواب الله. والثاني: أنه أمرهم بالصبر انتظاراً لنصر الله. {إنَّ الأَرْضِ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه قال ذلك تسلية لقومه في أن الدنيا لا تبقي على أحد فتبقي على فرعون لأنها تنتقل من قوم إلى قوم. والثاني: أنه أشعرهم بذلك أن الله يورثهم أرض فرعون. {وَالْعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يريد في الآخرة بالثواب. والثاني: في الدنيا بالنصر. قوله عز وجل: {قالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن الأذى من قبل ومن بعد أخذ الجزية. قاله الحسن. والثاني: أن الأذى من قبل: تسخيرهم بني إسرائيل في أعمالهم لنصف النهار وإرسالهم في بقيته ليكسبوا لأنفسهم. والأذى من بعد: تسخيرهم في جميع النهار بلا طعام ولا شراب , قاله جويبر. والثالث: أن الأذى الذي كان من قبل: الاستعباد وقتل الأبناء , والذي كان من بَعد: الوعيد بتجديد ذلك عليهم , حكاه ابن عيسى.(2/249)
والرابع: أن الأذى الذي كان من قبل أنهم كانوا يضربون اللبن ويعطيهم التبن , والأذى من بعد أن صاروا يضربون اللبن ويجعل عليهم التبن , قاله الكلبي , وفي قولهم: {مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} قولان: أحدهما: من قبل أن تأتينا بالرسالة ومن بعد ما جئتنا بها , قاله ابن عباس. والثاني: من قبل أن تأتينا بعهد الله إليك أنه يخلصنا ومن بعد ما جئتنا به. وفي هذا القول منهم وجهان: أحدهما: أنه شكوى ما أصابهم من فرعون واستعانة بموسى. والثاني: أنهم قالوه استبطاء لوعد موسى , حكاه ابن عيسى. {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِك عَدُوَّكُمْ} {عَسَى} في اللغة طمع وإشفاق. قال الحسن عسى من الله واجبة , وقال الزجاج: {عَسَى} من الله يقين. {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} في قوله: {فَينظُرَ} وجهان: أحدهما: فيرى. والثاني: فيعلم وفي قول موسى ذلك لقومة أمران: أحدهما: الوعد بالنصر والاستخلاف في الأرض. والثاني: التحذير من الفساد فيها لأن الله تعالى ينظر كيف يعملون.(2/250)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
{ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاءَالَ فِرْعَوْنَ بالسِّنِينَ} فيه قولان: أحدهما: يعني بالجوع , قاله مجاهد , وقتادة. والثاني: أن معنى السنين الجدوب , قاله الحسن. والعرب تقول: أخذتهم السنة إذا قحطوا وأجدبوا. وقال الفراء: المراد بالسنين الجدب والقحط عاماً بعد عام.(2/250)
قوله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَعَهُ} في الحسنة والسيئة هنا وجهان: أحدهما: أن الحسنة الخصب , السيئة القحط. والثاني: أن الحسنة الأمن , والسيئة , الخوف. {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أي كانت حالنا في أوطاننا وقبل اتباعنا لك , جهلاً منهم بأن الله تعالى هو المولى لها. {وَإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} أي يتشاءَمون بموسى ويقولون هذا من اتباعنا إياك وطاعتنا لك , على ما كانت العرب تزجر الطير فتتشاءم بالبارح وهو الذي يأتي من جهة الشمال , وتتبرك بالسانح وهو الذي يأتي من جهة اليمين , ثم قال رداً لقولهم. {أَلآ إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ} أي طائر البركة وطائر الشؤم.(2/251)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
{وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون} قوله عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ ... } أما الطوفان ففيه ستة أقاويل: أحدها: أنه الغرق بالماء الزائد , قاله ابن عباس. والثاني: أنه الطاعون , قاله مجاهد. والثالث: أنه الموت , قاله عطاء. وروت عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الطُّوفَانُ الْمَْوتُ) .(2/251)
والرابع: أنه أمر من الله طاف بهم , وهو مروي أيضاً عن ابن عباس. والخامس: أنه كثرة المطر والريح , واستدل قائل ذلك بقول الحسن بن عرفطة:
(غَيَّرَ الْجِدَّةَ مِنْ عِرْفَانِهِ ... خُرُقُ الرِّيحِ وَطُوفَانُ الْمَطَرِ)
والسادس: أنه عذاب من السماء , واستدل قائل ذلك بقول أبي النجم:
(وَمَرَّ طُوفَانٌ فِبِتُّ شَهْراً ... فَرْداً شَآبِيبَ وَشَهْراً مدراً)
{وَالْقُمَّلَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه الدَبَى وهو صغار الجراد لا أجنحة له. والثاني: أنه السوس الذي في الحنطة قاله ابن عباس. والثالث: البراغيث , قاله ابن زيد. والرابع: القردان , قاله أبو عبيدة. والخامس: هو دواب سود صغار , قاله الحسن , وسعيد بن جبير , وشاهده قول الأعشى.
(قَوْماً تُعَالِجُ قُمَّلاً أَبْنَاؤهُهُمْ ... وَسَلاَسِلاً أُجُداً وَبَاباً مُؤْصَداً)
وواحد القمل قملة. وأما الضفادع فواحدها ضفدع وهو مشهور. وقيل إنه كان يوجد في فراشهم وآنيتهم , ويدخل في ثيابهم فيشتد أذاه لهم. وأما الدم ففيه قولان:(2/252)
أحدهما: أن ماء شربهم كان يصير دماً عبيطاً , فكان إذا غرف القبطي من الماء صار دماً وإذا غرف الإسرائيلي كان ماء. والثاني: أنه رعاف كان يصيبهم , قاله زيد بن أسلم. {ءَاياتٍ مُّفَصَّلاَتٍ} فيها قولان: أحدهما: مبينات لنبوة موسى. والثاني: مفصل بعضها عن بعض لأن هذه الآيات لم تجتمع في وقت واحد بل كانت تأتي شهراً بعد شهر فيكون في تفرقتها مع الإنذار إعذار , وكان بين كل آيتين شهر. {فَاسْتَكْبَرُواْ} فيه وجهان: أحدهما: عن الانزجار بالآيات. والثاني: عن الإيمان بموسى. {وَكَانُواْ قَوماً مُجْرِمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: كافرين. والثاني: متعدّين. قوله عز وجل: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيهِمُ الرّجْزُ} - فيه قولان: أحدهما: أنه العذاب , قاله الحسن , ومجاهد , وقتادة , وابن زيد. والثاني: هو الطاعون أصابهم فمات به من القبط سبعون ألف إنسان , قاله سعيد بن جبير. {قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: بما تقدم إليك به أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك. والثاني: ما هداك به أن تفعله في قومك , قاله السدي. والثالث: أن ذلك منهم على معنى القسم كأنهم أقسموا عليه بما عهد عنده أن يدعو لهم. {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} هذا قول قوم فرعون , ويحتمل وجهين: أحدهما: لنصدقنك يا موسى أنك نبي. والثاني: لنؤمنن بك يا الله أنك إله واحد.(2/253)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
{فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} قوله عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يستقلون. والثاني: يستذلون وهم بنو إِسرائيل. {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يريد الشرق والغرب , قاله ابن عيسى. والثاني: أرض الشام ومصر , قاله الحسن. والثالث: أرض الشام وحدها شرقها وغربها , قاله قتادة. {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} فيه قولان: أحدهما: بالخصب. والثاني: بكثرة الأنهار والأشجار والثمار. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} فيها قولان: أحدهما: أن تمام كلمة الحسنى ما وعدهم من هلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض بقوله: {عَسَى رَبُّكُم أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُم وَيَسْتَخْلِفَكُم} وسماها الحسنى لأنه وعد بما يحبون. والثاني: هو قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِنَ لَهُم فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 , 6] . وفي قوله: {بِمَا صَبَرُواْ} وجهان: أحدهما: بما صبروا على أذى فرعون. والثاني: بما صبروا على طاعة الله.(2/254)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {إِنَّ هَؤُلاَءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} في {متبر} ثلاثة أوجه: أحدها: باطل , قاله الكلبي. والثاني: ضلال , حكاه أبو اليسع. والثالث: مهلك , ومنه التبر , الذهب. وفي تسميته بذلك قولان: أحدهما: لأن موسى يهلكه. والثاني: لكسره , وكل إناء مكسور متبّر قاله الزجاج. وقال الضحاك هي كلمة نبطية لما ذكرنا.(2/255)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
{قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} قوله عز وجل: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْءَآلِ فِرْعَوْنَ} قال هذا يذكر بالنعمة. {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذابِ} أي أشد العذاب. {يُقَتّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} أي يقتلون أبناءكم صغاراً ويستحيون نساءكم للاسترقاق والاستخدام كباراً. {وَفِي ذَلِكُم بَلاَءٌ مِن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن ما فعله فرعون بكم من قتل الأبناء واسترقاق النساء بلاء عليكم عظيم , قاله الكلبي. والثاني: أنه ابتلاء لكم واختبار عظيم , قاله الأخفش. والثالث: أن في خلاصكم من ذلك بلاء عظيم , أي نعمة عظيمة , قاله ابن قتيبة.(2/255)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} قوله عز وجل: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} فيها قولان: أحدهما: أن الثلاثين ليلة شهرٌ أمر بصيامه , والعشر بعدها أجل لمناجاة ربه. والثاني: أن الأربعين كلها أجل لمناجاة ربه , أجل في الأول ثلاثين ليلة ثم زيدت عشراً بعدها. وقد قيل إنه ذو القعدة وعشر من ذي الحجة , حكي ذلك عن مجاهد , وابن جريج , ومسروق. {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} يعني أن اجتماع الأجلين تمام أربعين ليلة , ليدل بذلك على أن العشر هي ليال وليست ساعات. فإن قيل: فمعلوم أن العشر مع الثلاثين مستكملة أربعين , فما معنى قوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيلَةً} . فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه تأكيد في الذرك فلم يمتنع. والثاني: كان وعده إلى الجبل الذي كلمه فيه. والثالث: لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن يكون من جملة الثلاثين لأن تمام الشيء بعض منه. فإن قيل: فلم زاد في أجل وعده بعد الثلاثين عشراً جعلها أجلاً ثانياً فأخر بها موعده؟ قيل عن ذلك جوابان: أحدهما: أن قومه تأخروا عنه في الأجل الأول فزاده الله لتأخرهم عنه أجلاً ثانياً ليحضروا. والثاني: لأن قومه عبدوا العجل بعده فزاده الله أجلاً ثانياً عقوبة لهم. ويحتمل جواباً ثالثاً: أن الله فعل ذلك به اختباراً لقومه ليتميز به المؤمن من المنافق ويعرف به المتيقن من المرتاب.(2/256)
والفرق بين الميقات والوقت وإن كانا من جنس واحد أن الميقات ما قدر لعمل , والوقت قد لا يتقدر لعمل.(2/257)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
{ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} قوله عز وجل: { ... قَالَ رَبِّ أَرِني أَنظُرُ إِلَيْكَ} الآية , في سؤال موسى ذلك لربه ثلاثة أقاويل: أحدها: ليرد عليه من جواب الله ما يحتج به على قومه حين قالوا: {لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] مع علم موسى بأنه لا يجوز أن يراه في الدنيا. والثاني: أنه كان يعلم ذلك باستدلال فأجب أن يعلمه ضرورة. والثالث: أنه جوّز ذلك وظنه وأن رؤيته في الدنيا ممكنة , قاله الحسن , والربيع , والسدي. فأجابه الله بأن {قَالَ لَن تَرَانِي} . ثم أظهر في الجواب ما يعلم به استحالة مسألته فقال: {وَلَكِن انظُرْ إلىَ(2/257)
الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} لأن الجبل إذا لم يستقر لرؤيته فالإنسان بذلك أولى. {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ للِجَبَلِ} معنى تجلى ظهر مأخوذ من جلاء العروس إذا ظهرت , ومن جلاء المرآة إذا أضاءت. وفي تجليه أربعة أقاويل: أحدها: أنه ظهر بآياته التي أحدثها في الجبل لحاضري الجبل. والثاني: أنه أظهر للجبل من ملكوته ما تدكدك به , لأن الدنيا لا تقوم لما يبرز من ملكوت السماء. والثالث: أنه أبرز قدر الخنصر من العرش. والرابع: ظهر أمره للجبل. {جَعَلَهُ دَكّاً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني مستوياً بالأرض , مأخوذ من قولهم ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام , قاله ابن قتيبة وابن عيسى. والثاني: أنه ساخ في الأرض , قاله الحسن وسفيان. والثالث: أنه صار تراباً , قاله ابن عباس. والرابع: أنه صار قطعاً. قال مقاتل: وكان أعظم جبل بمدين تقطع ست قطع تفرقت في الأرض , صار منها بمكة ثلاثة أجبل: ثبير وغار ثور وحراء. وبالمدينة ثلاثة أجبل: رضوى وأحد وورقان. والله أعلم. {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} فيه قولان: أحدهما: ميتاً , قاله قتادة. والثاني: مغشياً عليه , قاله ابن عباس , والحسن , ابن زيد.(2/258)
قال ابن عباس: أخذته الغشية الخميس من يوم عرفة وأفاق عشية الجمعة وفيه نزلت عليه التوراة وهو يوم النحر العاشر من ذي الحجة , وفيها عشر آيات أنزلها الله في القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في ثماني عشرة من سورة بني إسرائيل. {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه تاب من الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها. والثاني: أنه تاب من اعتقاده جواز رؤيته في الدنيا. والثالث: أنه قال ذلك على جهة التسبيح وعادة المؤمنين عند ظهور الآيات. الدالة على عظيم قدرته. {وَأَنَّاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} فيه قولان: أحدهما: أول المؤمنين بأنه لا يراك شيء من خلقك , قاله ابن عباس , والحسن: والثاني: وأنا أول المؤمنين من قومي باستعظام سؤال الرؤية.(2/259)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
{قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين} قوله عز وجل: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ ... } الآية في {وَكَتَبْنَا لَهُ} قولان: أحدهما: فرضنا , كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] أي فرض. والثاني: أنه كتابة خط بالقلم في ألواح أنزلها الله عليه. واختلفوا في الألواح من أي شيء كانت على أربعة أقاويل:(2/259)
أحدها: أنها كانت من زمرد أخضر , قاله مجاهد. والثاني: أنها كانت من ياقوت , قاله ابن جبير. والثالث: أنها كانت من زبرجد , قاله أبو العالية. والرابع: قاله الحسن كانت الألواح من خشب , واللوح مأخوذ من أن المعاني تلوح بالكتابة فيه. وفي قوله: {مِن كُلِّ شَيْءٍ} قولان: أحدهما: من كل شيء يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام والمباح والمحظور والواجب وغير الواجب. والثاني: كتب له التوراة فيها من كل شيء من الحكم والعبر. وفي قوله: {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً ... } تأويلان: أحدهما: أن الموعظة النواهي , والتفصيل: الأوامر , وهو معنى قول الكلبي. والثاني: الموعظة: الزواجر , والتفصيل: الأحكام , وهو معنى قول مقاتل. قال: وكانت سبعة ألواح. {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: بجد واجتهاد قاله السدي. والثاني: بطاعة , قاله الربيع بن أنس. والثالث: بصحة عزيمة , قاله علي بن عيسى. والرابع: بشكر , قاله جويبر. {وَأمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} لم يقل ذلك لأن فيها غير حسن , وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن أحسنها: المفروضات , وغير الأحسن: المباحات. والثاني: أنه الناسخ دون المنسوخ.(2/260)
والثالث: أن فعل ما أمر به أحسن من ترك ما نهي عنه لأن العمل أثقل من الترك وإن كان طاعة. {سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ} فيها أربعة أقاويل: أحدها: هي جهنم , قاله الحسن , ومجاهد. والثاني: هي منازل من هلك بالتكذيب من عاد وثمود والقرون الخالية , لتعتبروا بها وبما صاروا إليه من النكال , قاله قتادة. والثالث: أنها منازل سكان الشام الجبابرة والعمالقة. والرابع: أنها دار فرعون وهي مصر. وقرأ قسامة بن زهير {سَأُوْرِثُكُمْ} .(2/261)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
{سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْءَاياتي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: سأمنعهم من فهم القرآن , قاله سفيان بن عيينة. والثاني: سأجعل جزاءهم على كفرهم ضلالهم عن الاهتداء بما جاء به من الحق. والثالث: سأصرفهم عن دفع الانتقام عنهم. وفي {يَتَكَبَّرُونَ} وجهان: أحدهما: يحقرون الناس ويرون أن لهم عليهم فضلاً.(2/261)
والثاني: يتكبرون عن الإيمان واتباع الرسول. {وَإن يَرَوْاْ كُلَّءَآيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بها وإن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشُدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} فيه وجهان: أحدهما: أن الرشد الإيمان , والغي: الكفر. والثاني: أن الرشد الهداية. والغي: الضلال. {ذَلَكَ بِأَنَّهُمْ كذَّبُواْ بِآَيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنَها غَافِلِينَ} فيه وجهان: أحدهما: غافلين عن الإيمان. والثاني: غافلين عن الجزاء.(2/262)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
{واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين} قوله عز وجل {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} في الأسف خمسة أقاويل: أحدها: أنه المتأسف على فوت ما سلف قاله علي بن عيسى. والثاني: أنه الحزين , قاله ابن عباس. والثالث: هو الشديد الغضب , قاله الأخفش. والرابع: المغتاظ , قاله السدي.(2/262)
والخامس: النادم , قاله ابن قتيبة. وفي غضبه وأسفه قولان: أحدهما: غضبان من قومه على عبادة العجل؟ أسفاً على ما فاته من مناجاة ربه. والثاني: غضبان على نفسه في ترك قومه حتى ضلوا , أسفاً على ما رأى في قومه من ارتكاب المعاصي. وقال بعض المتصوفة إن غضبه للرجوع عن مناجاة الحق إلى مخاطبة الخلق. {قَالَ بِئْسَ مَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدي} يعني بعباة العجل. {أَعَجِلْتُم أَمْرَ رَبِّكُمْ} فيه قولان: أحدهما: يعني وعد ربكم الذي وعدني به من الأربعين ليلة , وذلك أنه قَدَّروا أنه قد مات لمَّا لم يأت على رأس الثلاثين ليلة , قاله الحسن , والسدي. والثاني: وعد ربكم بالثواب على عبادته حتى عدلتم إلى عبادة غيره , قاله بعض المتأخرين. والفرق بين العجلة والسرعة أن العجلة: التقدم بالشيء قبل وقته , والسرعة: عمله في أقل أوقاته. {وَأَلْقَى الألْوَاحَ} وفي سبب إلقائها قولان: أحدهما: غضباً حين رأى عبادة العجل , قاله ابن عباس. والثاني: أنه ألقاها لما رأى فيها فضائل غير قومه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله , قال: رب فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد , فاشتد عليه فألقاها , قاله قتادة. وكانت التوراة سبعة أسباع فلما ألقى موسى الألواح فتكسرت رفع منها ستة أسباعها وكان فيما رفع تفصيل كل شيء الذي قال الله {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ من كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْضِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} وبقي الهدى والرحمة في السبع الباقي , وهو الذي قاله الله: {أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ} .(2/263)
وقال ابن عباس: ألقى موسى الألواح فتكسرت ورفعت إلا سدُسها. {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} فيه قولان: أحدهما: أنه أخذ بأذنه. والثاني: أخذ بجملة رأسه. فإن قيل: فلم قصده بمثل هذا الهوان ولا ذنب له؟ فعن ذلك جوابان. أحدهما: أن هذا الفعل مما قد يتغير حكمه بالعادة فيجوز أن يكون في ذلك الزمان بخلاف ما هو عليه الآن من الهوان. والثاني: أن ذلك منه كقبض الرجل منا الآن على لحيته وعضه على شفته {قَالَ ابْنَ أُمَّ} فيه وجهان: أحدهما: أنه قال ذلك لأنه كان أخاه لأمه , قاله الحسن. والثاني: أنه قال ذلك على عادة العرب استعطافاً بالرحم , كما قال الشاعر:
(يَا ابْنَ أُمِّي وَيَا شقيقَ نَفْسِي ... أَنْتَ خَلَّيْتَنِي لأَمْرٍ شَدِيدٍ)
{فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ} يعني من خالفه في عبادة العجل لأنهم قد صاروا لمخالفتهم له أعداء. {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَومِ الظَّالِمِينَ} أي لا تغضب عليّ كغضبك عليهم ولست منهم فأدركته الرقة: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لَي ولأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .(2/264)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
{إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها(2/264)
وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ} أما التوبة من السيئات فهي الندم على ما سلف والعزم على ألاّ يفعل مثلها. فإن قيل فالتوبة إيمان فما معنى قوله: {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ} فالجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أنهم تابوا من المعصية واستأنفوا عمل الإيمان بعد التوبة. والثاني: يعني أنهم تابوا بعد المعصية وآمنوا بتلك التوبة. والثالث: وآمنوا بأن الله قابل التوبة.(2/265)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
{واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} قوله عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا} وفي الكلام محذوف وتقديره: واختار موسى من قومه سبعين رجلاً. وفي قوله: {لِّمِيقَاتِنَا} قولان: أحدهما: أنه الميقات المذكور في سؤال الرؤية. والثاني أنه ميقات غير الأول وهو ميقات التوبة من عبادة العجل. {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ} وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها الزلزلة , قاله الكلبي. والثاني: أنه الموت. قال مجاهد: ماتوا ثم أحياهم. والثالث: أنها نار أحرقتهم فظن موسى أنهم قد هلكوا ولم يهلكوا , قاله الفراء. {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} وفي سبب أخذها لهم قولان: أحدهما: لأنهم سألوا الرؤية , قاله ابن إِسحاق.(2/265)
والثاني: لأنهم لم ينهوا عن عبادة العجل قاله ابن عباس. { ... أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَل السُّفَهَاءُ مِنَّآ} فيه قولان: أحدهما: أنه سؤال استفهام خوفاً من أن يكون الله قد عمهم بانتقامه كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] . والثاني: أنه سؤال نفي , وتقديره: إنك ل تعذب إلاَّ مذبناً فكيف تهلكنا بما فعل السفهاء منا. فحكى أن الله أمات بالرجفة السبعين الذين اختارهم موسى من قومه , لا موت فناء ولكن موت ابتلاء ليثبت به من أطاع وينتقم به ممن عصى وأخذت موسى غشية ثم أفاق موسى وأحيا الله الموتى , فقال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ} فيه وجهان: أحدهما: أن المراد بالفتنة العذاب , قاله قتادة. والثاني: أن المراد بها الابتلاء والاختبار.(2/266)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
{واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} قوله عز وجل: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدَّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الأَخِرَةِ} في الحسنة هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها النعمة سميت حسنة لحسن موقعها في النفوس. والثاني: أنها الثناء الصالح. والثالث: أنها مستحقات الطاعة. {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه تبنا إليك , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير , ومجاهد , وقتادة , وإبراهيم. والثاني: رجعنا بالتوبة إليك , لأنه من هاد يهود إذا رجع , قاله علي بن عيسى.(2/266)
والثالث: يعني تقربنا بالتوبة إليك من قولهم: ما له عند فلان هوادة , أي ليس له عنده سبب يقربه منه , قاله ابن بحر. {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ} وفيه قولان: أحدهما: من أشاء من خلقي كما أصيب به قومك. الثاني: من أشاء في التعجيل والتأخير. {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} فيها ثلاثة تأويلات: أحدها: أن مخرجها عام ومعناها خاص , تأويل ذلك: ورحمتي وسعت المؤمنين بي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الآية قاله ابن عباس. والثاني: أنها على العموم في الدنيا والخصوص في الآخرة , وتأويل ذلك: ورحمتي وسعت في الدنيا البر والفاجر , وفي الآخرة هي للذين اتقوا خاصة , قاله الحسن , وقتادة. والثالث: أنها التوبة , وهي على العموم , قاله ابن زيد. {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فيه قولان: أحدهما: يتقون الشرك , قاله ابن عباس. والثاني: يتقون المعاصي , قاله قتادة. {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فيها قولان: أحدهما: أنها زكاة أموالهم لأنها من أشق فرائضهم , وهذا قول الجمهور. والثاني: معناه أي يطيعون الله ورسوله , قاله ابن عباس والحسن , وذهبا إلى أنه العمل بما يزكي النفس ويطهرها من صالحات الأعمال. فأما المكنّى عنه بالهاء التي في قوله: {فَسَأَكْتُبُهَا} فقد قيل إن موسى لما انطلق بوفد بني إسرائيل كلّمه الله وقال: إني قد بسطت لهم الأرض طهوراً ومساجد يصلون فيها حيث أدركتهم الصلاة إلا عند مرحاض أو قبر أو حمّام , وجعلت السكينة في قلوبهم , وجعلتهم يقرؤون التوراة عن ظهر ألسنهم , قال فذكر موسى ذلك لبني إسرائيل , فقالوا لا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا فاجعلها لنا في تابوت , ولا نقرأ التوراة إلا نظراً , ولا نصلي إلا في السكينة , فقال الله تعالى {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} يعني ما مضى من السكينة والصلاة والقراءة , ثم بيَّن من هم فقال:(2/267)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
{الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمّيَّ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وفي تسميته بالأمي ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه لا يكتب. الثاني: لأنه من أم القرى وهي مكة. الثالث: لأن من العرب أمة أمية. {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبَاً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} لأن في التوراة في السفر الخامس: إني سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك , واجعل كلامي في فيه فيقول لهم كل ما أوصيته به. وفيها: وأما ابن الأمة فقد باركت عليه جداً جداً وسأدخره لأمة عظيمة. وفي الإنجيل بشارة بالفارقليط في مواضع: يعطيكم فارقليط آخر يكون معكم الدهر كله. وفيها قول المسيح للحواريين: أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه , إنه نذيركم يجمع بين الحق ويخبركم بالأمور المزمعة ويمدحني ويشهد لي. فهذا تفسير {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} . ثم قال: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} . وهو الحق. {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الُْنكَرِ} وهو الباطل وإنما سمي الحق معروفاً لأنه معروف الصحة في العقول، وسمي الباطل منكراً لأنه منكر الصحة في العقول.(2/268)
ثم قال: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّباتِ} يعني ما كانت الجاهلية تحرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} يعني ما كانوا يستحلونه من لحم الخنزير والدماء. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: أنه عهدهم الذي كان الله تعالى أخذه على بني إسرائيل. والثاني: أنه التشديد على بني إٍسرائيل الذي كان في دينهم من تحريم السبت وتحريم الشحوم والعروق وغير ذلك من الأمور الشاقة , قاله قتادة. {والأَغْلاَلَ التَّي كَانَتْ عَلَيهِمْ} فيها تأويلان: أحدهما: أنه الميثاق الذي أخذه عليهم فيما حرمه عليهم , قاله ابن أبي طلحة. والثاني: يعني ما بيَّنه الله تعالى في قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيِهِمْ} [المائدة: 64] . {فَالَّذِينَ أَمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ... } فيه وجهان: أحدهما: يعني عظموه , قاله علي بن عيسى. والثاني: منعوه من أعدائه , قاله أبو جعفر الطبري. ومنه تعزير الجاني لأنه يمنعه من العود إلى مثله. {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} يعني القرآن , آمنوا به من بعده فروى قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أَيُّ الخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيكُم إِيماناً؟) قالوا: الملائكة فقال نبي اللَّه (ص) : (المَلائِكةُ عِندَ رَبِّهم فَمَا لَهُم لاَ يُؤْمِنُونَ.) فقالوا: النبيون , فقال: (يُوحَى إِلَيهِم فَمَا لَهُم لاَ يُؤْمِنُونَ) قالوا: نحن يا نبي الله. فقال (أَنَا فِيكُم فَمَا(2/269)
لَكُم لاَ تُؤْمِنونَ ,) فقالوا: يا نبي الله فمن هم؟ قال: (هُم قَومٌ يَكُونُونَ بَعْدَكُم يَجِدُونَ كِتاباً فِي وَرَقٍ فَيُؤُمِنُونَ بِهِ) فهو معنى قوله: {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} .(2/270)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} قوله عز وجل: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يهْدُونَ بِالْحَقِّ} فإن قيل فهذا يدل على أن في اليهود من هم على حق. الجواب عند ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم الذين تمسكوا بالحق في وقت ضلالتهم بقتل أنبيائهم , ولا يدل هذا على استدامة حاله على الأبد. والثاني: أنهم قوم وراء الصين لم تبلغهم دعوة الإسلام , قاله ابن عباس , والسدي. والثالث: أنهم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وابن صوريا وغيرهما , قاله الكلبي.(2/270)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
{وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين(2/270)
ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون} قوله عز وجل: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ} اختلف في المأخوذ منه تسمية القرية على وجهين: أحدهما: لأن الماء يقرى إليها أي يجمع , من قولهم قرى الماء في حوضه إذا جمعه. والثاني: لأن الناس يجتمعون إليها كما يجتمع الماء فى الحوض. واختلف في هذه القرية على قولين: أحدهما: أنها بيت المقدس , قاله قتادة. والثاني: هي أرض الشام , قاله الحسن. فإنه قيل: فكيف سمى المأوى مسكناً والإنسان في مسكنه متحرك؟ قيل لأنه يترك فيه التصرف فصار في أكثر أحواله ساكناً وإن كان في بعضها متحركاً.(2/271)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
{واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} قوله عز وجل: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَتُ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} فيها خمسة أقاويل: أحدها: أنها أيلة , قاله ابن عباس , وعكرمة , والسدي. والثاني: أنها بساحل مدين , قاله قتادة. والثالث: أنها مدين قرية بين أيلة والطور , حكاه أبو جعفر الطبري. والرابع: أنها قرية يقال لها مقتا بين مدين وعينونا , قاله ابن زيد.(2/271)
والخامس: ما قاله ابن شهاب أن القرية التي كانت حاضرة البحر طبرية , والقرية التي قال فيها {وَاضْرِبْ لَهَم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس: 13] . أنطاكية. وسؤالهم عن هذه القرية إنما هو سؤال توبيخ على ما كان منهم فيها من سالف الخطيئة وقبيح المعصية. {إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} هو تعديهم فيه بفعل ما نهوا عنه. {إِذْ تَأْتِيهِم حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِم شُرَّعاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن معنى {شُرَّعاً} أي طافية على الماء ظاهرة , قاله ابن عباس , ومنه شوارع البلد لظهورها. والثاني: أنها تأتيهم من كل مكان , قاله عطية العوفي. والثالث: أنها شرّع على أبوابهم كأنها الكباش البيض رافعة رؤوسها حكاه بعض المتأخرين فتعدَّوا فأخذوها في السبت , قاله الحسن.(2/272)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
{وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} قوله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُوا بِهِ} نسوا يعني تركوا , والذي ذكروا به أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَونَ عَنِ السُّوءِ} وهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ} وهم الذين تركوا المعروف وفعلوا المنكر. {بِعَذَابٍ بَئِيَس} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: شديد , قاله مجاهد. والثاني: رديء , قاله الأخفش. الثالث: أنه العذاب المقترن بالفقر وهو البؤس.(2/272)
وأما الفرقة الثالثة التي لم تنه ولم تفعل ففيها قولان: أحدهما: أنها نُجِّيَتْ مع الذين نهوا. والثاني: ما قاله ابن عباس: لا أدري ما فعل بها.(2/273)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
{وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} قوله عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} فيه قولان: أحدهما: أنه تفعُّل من الإذن ومعناه أعلم , قاله الحسن , ومنه قول الأعشى:
(أَذَّنَ الْقَوْمُ جِيرَتِي بِخُلُوفِ ... صَرَمُوا حَبْلَ آلِفٍ مَأْلُوفِ)
والثاني: معناه نادى وأقسم , قاله الزجاج. {ليَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} يعني على اليهود. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} والمبعوثون هم العرب , وسوء العذاب هو الذلة وأخذ الجزية , قاله ابن عباس , والحسن , وسعيد بن جبير , وقتادة. ويقال إن أول من وضع الخراج وجباه من الأنبياء موسى , فجبى الخراج سبع سنين وقيل ثلاث عشرة ثم أمسك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سعيد بن المسيب: استحب أن أبعث في الجزية الأنباط. ولا أعلم لاستحبابه ذلك وجهاً إلا أن يكون لأنهم من قوم بختنصر فهم أشد انتقاماً , أو لأنها قد كانت تؤخذ منهم على استيفائها لأجل المقابلة أحرص.(2/273)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
{وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك(2/273)
وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} قوله عز وجل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً ... } أي فرقناهم فيها فرقاً. وفي تفريقهم فيها ثلاثة أوجه: أحدها: زيادة في الانتقام منهم. والثاني: ليذهب تعاونهم. والثالث: ليتميز الصالح من المفسر لقوله تعالى: {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دَونَ ذَلِكَ} ثم قال: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالثواب والعقاب. والثاني: بالنعم والنقم. والثالث: بالخصب والجدب. قوله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} معناه فخلفهم خلف , والخلف بتسكين اللام مستعمل في الذم. وبفتح اللام مستعمل في الحمد. وقال أبو عبيدة. معناها [واحد] مثل الأثر والإثر , والأول أظهر وهو في قول الشعراء أشهر , قال بعضهم:
(خلفت خلفاً ليت بهم ... كان , لا بِكَ التلف)
وفي الخلف وجهان: أحدهما: القرن , قاله الفراء. والثاني: أنه جمع خالف. {وَرِثُواْ الْكِتَابَ} يعني انتقل إليهم انتقال الميراث من سلف إلى خلف وفيهم قولان:(2/274)
أحدهما: أنهم من خلف اليهود من أبنائهم. والكتاب الذي ورثوه التوراة لانتقالها لهم. والثاني: أنهم النصارى: لأنهم خلف من اليهود. والكتاب الذي ورثوه: الإنجيل لحصوله معهم , قاله مجاهد. {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} يعني الرشوة على الحكم في قول الجميع وسماه عرضاً لقلة بقائه. وفي وصفه بالأدنى وجهان: أحدهما: لأخذه في الدنيا الدانية. والثاني: لأنه من المحرمات الدنية. {وَيَقُولُونَ: سَيُغْفرُ لَنَا} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه مغفور , لا نؤاخذ به. والثاني: أنه ذنب لكن الله قد يغفره لنا تأميلاً منهم لرحمته. {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم أهل إصرار على الذنوب , قاله مجاهد وقتادة والسدي. والثاني: أنهم لا يشبعهم شيء , فهم لا يأخذونه لحاجة , قاله الحسن. {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} يحتمل وجهين: أحدهما: ألا يقولوا على الله إلا الحق في تحريم الحكم بالرشا. والثاني: في جميع الطاعات والمعاصي والأوامر والنواهي. {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} فيه تأويلان: أحدهما: تركوا ما فيه أن يعملوا به حتى صار دارساً. والثاني: أنهم قد تلوه ودرسوه فهم لا يجهلون ما فيه ويقومون على مخالفته مع العلم به.(2/275)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
{وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون}(2/275)
قوله عز وجل: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ ... } فيه ثلاثة أوجه: أحدها: زعزعناه , قاله ابن قتيبة , ومنه قول العجاج:
(قد جرّبوا أخلاقنا الجلائلا. . ... ونتقوا أحلامنا الأثاقلا)
والثاني: بمعنى جذبناه , والنتق: الجذب ومنه قيل للمرأة الولود ناتق , قال النابغة:
(لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم ... طفحت عليك بناتقٍ مذكار.)
واختلف في سبب تسميتها ناتقاً , فقيل لأن: خروج أولادها بمنزلة الجذب. وقيل: لأنها تجذب ماء الفحل تؤديه ولداً. والثالث: معناه ورفعناه عليهم من أصله. قال الفراء: رفع الجبل على عسكرهم فرسخاً في فرسخ. قال مجاهد: وسبب رفع الجبل عليهم أنهم أبوا أن يقبلوا فرائض التوراة لما فيها من المشقة , فوعظهم موسى فلم يقبلوا , فرفع الجبل فوقهم وقيل لهم: إن أخذتموه بجد واجتهاد وإلا ألقي عليكم. قال ابن عباس , ومجاهد , وقتادة: فأخذوه بقوة ثم نكثوا بعد. واختلف في سبب رفع الجبل عليهم هل كان انتقاماً منهم أو إنعاماً عليهم؟ على قولين: أحدهما: أنه كان انتقاماً بالخوف الذي دخل عليهم. والثاني: كان إنعاماً لإقلاعهم به عن المعصية. { ... وَظّنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه غلب في نفوسهم انه واقع بهم على حقيقة الظن. والثاني: أنهم تيقنوه لما عاينوا من ارتفاعه عليهم , قاله الحسن.(2/276)
{خُذُواْ مَاءَاتَيْنَاكُمْ} يعني التوارة. {بِقُوَّةٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: بجد واجتهاد. والثاني: بنية صادقة وطاعة خالصة.(2/277)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون} قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِيَّتَهُمْ} أُختلف في الذين أخرجهم وأخذ ذلك عليهم على قولين: أحدهما: أنه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد وجعل فيها من المعرفة ما علمت به من خاطبها. واختلف من قال بهذا هل كان ذلك قبل نزوله إلى الأرض على قولين: أحدهما: أنه كان في الجنة قبل هبوطه إلى الأرض. والثاني: أنه فعل ذلك بعد هبوطه إليها.(2/277)
والقول الثاني: في الأصل أنه خلق الأرواح والأجساد معاً وذلك في الأرض عند جميع من قال بهذا التأويل. فعلى هذا فيه قولان:(2/278)
أحدهما: أنه أخرجهم كالذر وألهمهم هذا فقالوه , قال الكلبي ومقاتل: وذلك أن الله مسح ظهر آدم بين مكة والطائف فخرج من صفحة ظهره اليمنى ذرية كالذر بيض , فهم أصحاب الميمنة. وخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية كالذر سود , فهم أصحاب المشأمة , فلما شهدوا على أنفسهم جميعاً من آمن منهم ومن كفر أعادهم. والثاني: أنه أخرج الذرية قرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر. وفي {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} قولان: أحدهما: هو أنه دلهم على أنفسهم بما شهدوه من قدرته , قاله بعض المتكلمين. والثاني: هو إشهادهم على أنفسهم بما اعترفوا من ربوبيته ووحدانيته. وفيه على التأويل قولان: أحدهما: أنه قال ذلك للآباء من بني آدم حين أخرج من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ليعلمهم أنه خلق ذرياتهم بعد أن لم يكونوا كان هو الخالق لهم لأنهم كانوا ذرية مثلهم لمن تقدمهم كما صار هؤلاء ذرية لهم فاعترفوا بذلك حين ظهرت لهم الحجة , قاله ابن بحر. والقول الثاني: أنه قال ذلك للذرية حين أخذهم من ظهور آبائهم , وهذا قول الأكثرين فعلى هذا فيه قولان: أحدهما: أنه قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} على لسان الأنبياء بعد أن كملت عقولهم. والثاني: أنه جعل لهم عقولاً علموا بها ذلك فشهدوا به على أنفسهم. وفي أصل الذرية قولان: أحدهما: لأنهم يخرجون من الأصلاب كالذر. والثاني: أنه مأخوذ من ذَرَأ الله الخلق إذا أحدثهم وأظهرهم.(2/279)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون} قوله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ اْلَّذِيّ ءاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانَسَلَخَ مِنْهَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه بلعام بن عوراء , واختلفوا فيه فقيل كان من اليمن , وقيل كان من الكنعانيين , وقيل من بني صال بن لوط , قاله ابن عباس , وابن مسعود. والثاني: أنه أمية بن أبي الصلت الثقفي , قاله عبد الله بن عمرو. والثالث: أنه من أسلم من اليهود والنصارى ونافق , قاله عكرمة. وفي الآيات التي أوتيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه اسم الله الأعظم الذي تجاب به الدعوات , قاله السدي وابن زيد. والثاني: أنها كتاب من كتب الله. قاله ابن عباس. والثالث: أنه أوتي النبوة فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه , قاله مجاهد , وهو غير صحيح لأن الله لا يصطفي لنبوته إلا من يعلم أن لا يخرج عن طاعته إلى معصيته.(2/279)
وفي قوله: {فَانسَلَخَ مِنهَا} وجهان: أحدهما: فانسلخ من العلم بها لأنه سيسلب ما أوتي منها بالمعصية. والثاني: أنه انسلخ منها أي من الطاعة بالمعصية مع بقاء علمه بالآيات حتى حكي أن بلعام رُيثي على أن يدعو على قوم موسى بالهلاك فسها فدعا على قومه فهلكوا. {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشيطان صيره لنفسه تابعاً بإجابته له حين أغواه. والثاني: أن الشيطان متبع من الإنس على ضلالته من الكفر. والثالث: أن الشيطان لحقه فأغواه , يقال اتبعت القوم إذا لحقتهم , وتبعتهم إذا سرت خلفهم , قاله ابن قتيبة. {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} فيه وجهان: أحدهما: من الهالكين. الثاني: من الضالين. قوله عز وجل: {وَلَو شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} فيه وجهان: أحدهما: يعني لأمتناه فلم يكفر. والثاني: لحلنا بينه وبين الكفر فيصير إلى المنزلة المرفوعة معصوماً , قاله مجاهد. {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} أي ركن إليها. وفي ركونه إليها وجهان: أحدهما: أنه ركن إلى أهلها في استنزالهم له ومخادعتهم إياه. والثاني: أنه ركن إلى شهوات الأرض فشغلته عن طاعة الله , وقد بين ذلك قوله تعالى {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} . ثم ضرب مثله بالكلب { ... إِن تَحْمِْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} وفي تشبيهه بالكلب اللاهث وجهان: أحدهما: لدناءته ومهانته. الثاني: لأن لهث الكلب ليس بنافع له.(2/280)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
{من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} , {ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} أي خلقنا ممن يصير إلى جهنم بكفره ومعصيته. و {كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} فيه قولان: أحدهما: أراد أولاد الزنى لأنهم من النطف الخبيثة مخلوقين , فهم أكثر الناس إسراعاً إلى الكفر والمعصية فيصيرون جامعين بين [سوء] المعتقد وخبث المولد. والقول الثاني: أنه على العموم في أولاد الزنى والرِشدة فيمن ولد من نكاح أو سفاح لأنهم مؤاخذون على أفعالهم لا على مواليدهم التي خبثت بأفعال غيرهم. {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} الحق. {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الرشد. {وَلَهُمْءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} الوعظ , فصاروا بترك استعمالها بمثابة من عَدِمها , قال مسكين الدرامي:
(أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يُواري جارتي الجدر)
(وأصم عما كان بينهما ... سمعي وما في سمعي الوقر)(2/281)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون}(2/281)
قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ الأَسْمآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} قال ابن عباس: كل أسمائه حسنى وفي المراد بالحسنى ها هنا وجهان: أحدهما: ما مالت إليه القلوب من ذكره بالعفو والرحمة دون السخط والنقمة. والثاني: أسماؤه التي يستحقها لنفسه ولفعله ومنها صفات هي طريقة المعرفة به , وهي تسعة: القديم الأول قبل كل شيء. والباقي بعد فناء كل شيء. والقادر الذي لا يعجزه شيء والعالم الذي لا يخفى عليه شيء. والحي الذي لا يموت. والواحد الذي ليس كمثله شيء والسميع البصير الذي لا يعزب عنه شيء والغني بنفسه عن كل شيء. وفي دعائه بها وجهان: أحدهما: نداؤه بها عند الرغبة إليه في الدعاء والطلب. والثاني: تعظيمه بها تعبداً له بذكرها. {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه يكذبون , قاله ابن عباس. والثاني: يشركون , قاله قتادة. والثالث: يحوّرون , قاله الأخفش. وفي إلحادهم فيها قولان: أحدهما: اشتقاقهم آلهتهم من أسماء الله , كما سموا بعضها باللات اشتقاقاً من الله , وبعضها بالعزى اشتقاقاً من العزيز , قاله ابن عباس , ومجاهد. والثاني: تسميتهم الأوثان آلهة والله عز وجل أبا المسيح وعزير.(2/282)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
{وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}(2/282)
قوله عز وجل: {وَمِمَّنْ خَلَقَنْآ أُمَّةٌ يَهُدُونَ بِالْحَقِّ} فيهم قولان: أحدهما: العلماء. والثاني: أنهم هذه الأمة. روى ذلك قتادة , وابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم.(2/283)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
{والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين} قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} والاستدراج أن تنطوي على حالة منزلة بعد منزلة. وفي اشتقاقه قولان: أحدهما: أنه مشتق من الدرج لانطوائه على شيء بعد شيء. والثاني: أنه مشتق من الدرجة لانحطاطه من منزلة بعد منزلة. وفي المشار إليه باستدراجهم قولان: أحدهما: استدراجهم إلى الهلكة. والثاني: الكفر. وقوله: {مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يعلمون بالاستدراج. والثاني: لا يعلمون بالهلكة.(2/283)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
{أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون} قوله عز وجل: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِي لَهُ} فيه قولان:(2/283)
أحدهما: معنى يضله يحكم بضلالته في الدين. والثاني: يضله عن طريق الجنة إلى النار. {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} والطغيان إفراط العدوان. وفي {يَعْمَهُونَ} وجهان: أحدهما: يتحيرون , والعمه في القلب كالعمى في العين. والثاني: يترددون , قاله قطرب واستشهد بقول الشاعر:
(متى يعمه إلى عثمان يعمه ... إلى ضخم السرادق والقطار.)(2/284)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
{يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} فيه قولان: أحدهما: أن السائل عنها اليهود , قاله ابن عباس. والثاني: أن السائل عنها قريش , قاله الحسن , وقتادة. {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} أما {أَيَّانَ} فمعنى متى , ومنه قول الراجز:
(أيان تقضي حاجتي أيانا ... أما ترى لنجحها أوانا)
وأما {مُرْسَاهَا} ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: قيامها , قالها السدي. والثاني: منتهاها , قاله ابن عباس. والثالث: ظهورها , قاله الأخفش.(2/284)
{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّيِ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} لا يعلم وقتها إلا هو , نفياً أن يعلمها غير الله {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: كبر على أهل السموات والأرض مجيء الساعة , قاله الحسن. والثاني: ثقل عليهم قيام الساعة , قاله السدي. والثالث: معناه عظم وصفها على أهل السموات والأرض , قاله ابن جريج. {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} يعني على غفلة لأنه لا يعلمها غير الله , ولم ترد الأخبار عنها من جهة الله فصار مجيئها بغتة وذلك أشد لها كما قال الشاعر:
89 (وأنكأ شيء حين يفجؤك البغتُ} 9
{يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} فيه تأويلان: أحدهما: معناه عالِمٌ بها , قاله مجاهد , والضحاك , وابن زيد , ومعمر. والثاني: معنى الكلام يسألونك عنها كأن حفي بهم , على التقديم والتأخير , أي كأنك بينك وبينهم مودة توجب برهم , من قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 46] قاله ابن عباس.(2/285)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
{قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} قوله عز وجل: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً} أي لا أملك القدرة عليهما من غير مانع ولا صاد. {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} أن يملكني إياه فأملكه بمشيئته. {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لاستكثرت من العمل الصالح , قاله الحسن , وابن جريج. والثاني: لأعددت من السنة المخصبة للسنة المجدبة , قاله الفراء. والثالث: وهو شاذ: لاشتريت في الرخص وبعْت في الغلاء.(2/285)
{وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدهما: ما بي جنون كما زعم المشركون , قاله الحسن. والثاني: ما مسني الفقر لاستكثاري من الخير. والثالث: ما دخلت على شبهة.(2/286)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
{هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون} {فَلَمَّاءَاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَاءَاتَاهُمَا} وذلك أن إبليس قال لحواء سَمِّيه: عبد الحارث , يعني نفسه لأنه اسمه في السماء كان (الحارث) فسمته عبد الله فمات , ثم حملت ولداً ثانياً فقال لها ذلك فلم تقبل , فمات , ثم حملت ثالثاً فقال لها ولآدم , أتظنان الله تارك عبده عندكما؟ لا والله ليذهبن به كما ذهب بالآخرين فسمياه بذلك فعاش , فهذا معنى قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَاءَاتَاهُمَا} أي في الاسم , فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض.(2/286)
وقال الحسن وقتادة: إن المكنّى عنه بقوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَاءَاتَاهُمَا} ابن آدم وزوجته , وليس براجع إلى آدم وحواء.(2/287)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
{أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} قوله عز وجل: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} يعني الأصنام , يعني أرجل يمشون بها في مصالحكم. {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} يعني في الدفع عنكم. {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا} يعني مضاركم من منافعكم. {أَمْ لَهُمْءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} دعاءَكم وتضرعكم. فإن قيل فلم أنكر عبادة من لا رجل له ولا يد ولا عين؟ قيل عنه جوابان: أحدهما: أن من عبد جسماً لا ينفع كان ألوم ممن عبد جسماً ينفع. والثاني: أنه عرفهم أنهم مفضلون عليها , فكيف يعبدون من هم أفضل منه.(2/287)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من(2/287)
الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} قوله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: العفو من أخلاق الناس وأعمالهم , قاله ابن الزبير , والحسن , ومجاهد. الثاني: خذ العفو من أموال المسلمين , وهذا قبل فرض الزكاة ثم نسخ بها , قاله الضحاك والسدي وأحد قولي ابن عباس. والثالث: خذ العفو من المشركين , وهذا قبل فرض الجهاد , قاله ابن زيد. {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} فيه قولان: أحدهما: معناه بالمعروف , قاله عروة وقتادة. والثاني: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل حين نزلت عليه هذه الآية {خُذِ الْعَفْوَ وَأَْمُرْ بِالْعُرْفِ} : (يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا) قال: لا أدري أسأل العالم , قال (ثُمَّ عَادَ جِبْرِيلُ فَقَالَ) (يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك , وتعفو عمَّن ظلمك) قاله ابن زيد. {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فإن قيل فكيف أمر بالإعراض مع وجوب الإنكار عليهم؟ قيل: إنما أراد الإعراض عن السفهاء استهانة بهم. وهذا وإن كان خطاباً لنبيِّه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه. قوله عز وجل: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْعٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن النزغ الانزعاج. والثاني: الغضب. والثالث: الفتنة , قاله مقاتل.(2/288)
{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سميع بجهل من جهل , عليم بما يزيل عنك النزغ.(2/289)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة {طَآئِفٌ} , وقرأ الباقون {طَيْفٌ} واختلف في هاتين القراءتين على قولين: أحدهما: أن معناهما واحد وإن اختلف اللفظان , فعلى هذا اختلف في تأويل ذلك على أربعة تأويلات: أحدها: أن الطيف اللمم كالخيال يلم بالإنسان. والثاني: أنه الوسوسة , قاله أبو عمرو بن العلاء. والثالث: أنه الغضب , وهو قول مجاهد. والرابع , أنه الفزع , قاله سعيد بن جبير. والقول الثاني: أن معنى الطيف والطائف مختلفان , فالطيف اللمم , والطائف كل شيء طاف بالإنسان. {تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: علموا فإذا هم منتهون. والثاني: اعتبروا فإذا هم مهتدون.(2/289)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
{وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا(2/289)
بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} قوله عز وجل: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه هلا أتيتنا بها من قبل نفسك , وهذا قول مجاهد , وقتادة. والثاني: معناه هلا اخترتها لنفسك. والثالث: معناه هلا تقبلتها من ربك , قاله ابن عباس.(2/290)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} قوله عز وجل {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَآنُ فِاسْتَمِعُوا لَهُ} أي لقراءته. {وَأَنصِتُواْ} أي لا تقابلوه بكلام ولا إعراض {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . واختلفوا في موضع هذا الإنصات على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في المأموم خلف الإمام ينصت ولا يقرأ , قاله مجاهد. والثاني: أنها نزلت في خطبة الجمعة ينصت الحاضر لاستماعها ولا يتكلم , قالته عائشة , وعطاء. والثالث: ما قاله ابن مسعود: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة , سلام على فلان , سلام على فلان , فجاء القرآن من {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ} .(2/290)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
{واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} قوله عز وجل: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} وفي هذا الذكر ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ذكر القرءاة في الصلاة خلف الإمام سراً في نفسه قاله قتادة. والثاني: أنه ذكر بالقلب باستدامة الفكر حتى لا ينسى نعم الله الموجبة لطاعته.(2/290)
والثالث: ذكره باللسان إما رغبة إليه في دعائه أو تعظيماً له بالآية. وفي المخاطب بهذا الذكر قولان: أحدهما: أنه المستمع للقرآن إما في الصلاة أو الخطبة , قاله ابن زيد. والثاني: أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه عام في جميع المكلفين. ثم قال: {تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} أما التضرع فهو التواضع والخشوع , وأما الخيفة فمعناه مخافة منه. {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} يعني أسرَّ القول إما بالقلب أو باللسان على ما تقدم من التأويلين. ثم قال تعالى: {بالْغُدُوِّ وَالأَصْالِ} فيه وجهان: أحدهما: بالبكر والعشيات. والثاني: أن الغدو آخر الفجر صلاة الصبح , والآصال آخر العشي صلاة العصر , قاله مجاهد , ونحوه عن قتادة. {وَلاَ تَكُنِ مِّنَ الْغَافِلِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: عن الذكر. والثاني: عن طاعته في كل أوامره ونواهيه , قاله الجمهور. {وَيُسَبِّحُونَهُ وََلَهُ يَسْجُدُونَ} وهذا أول سجدات التلاوة في القرآن. وسبب نزولها ما قاله كفار مكة {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان: 60] . فأنزل الله تعالى هذه الآية وأعلمهم أن الملائكة المقربين إذا كانوا على هذه الحال في الخضوع والرغبة فأنتم بذلك أولى والله أعلم بالصواب.(2/291)
سورة الأنفال(2/292)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
{يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وهذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله أصحابه يوم بدر عن الأنفال. وفي هذه الأنفال التي سألوه عنها خمسة أقاويل: أحدها: أنها الغنائم , وهذا قول ابن عباس , وعكرمة , وقتادة , والضحاك , الثاني: أنها السرايا التي تتقدم الجيش , وهذا قول الحسن. الثالث: الأنفال ما ندّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من دابة أو عبد , وهذا أحد قولي ابن عباس. الرابع: أن الأنفال الخمس من الفيء والغنائم التي جعلها الله تعالى لأهل الخمس , وهذا قول مجاهد.(2/292)
الخامس: أنها زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش لما قد يراه من الصلاح. والأنفال جمع نَفَل , وفي النفل قولان: أحدهما: أنه العطية , ومنه قيل للرجل الكثير العطاء: نوفل , قال الشاعر:
89 (يأتي الظلامة منه النوفل الزُّفَرُ} 9
فالنوفل: الكثير العطاء. والزفر: الحمال للأنفال , ومنه سمي الرجل زفر. والقول الثاني: أن النفل الزيادة من الخير ومنه صلاة النافلة. قال لبيد بن ربيعة:
(إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل)
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية على أربعة أقاويل: أحدها: ما رواه ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ كَذَا وَكذَا) فسارع إليه الشبان وبقي الشيوخ تحت الرايات , فلما فتح الله تعالى عليهم جاءوا يطلبون ما جعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم , فأنزل الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} الآية. الثاني: ما روى محمد بن عبيد بن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر قُتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص بن أميةَ وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: هبه لي يا رسول الله , فقال: (اطْرَحْهُ فِى(2/293)
القَبض) فطرحته ورجعت وبي من الغم ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي , قال: فما تجاوزت إلا قريباً حتى نزلت عليه سورة الأنفال فقال: (اذْهَبْ فُخُذْ سَيْفَك) . الثالث: أنها نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدراً فاختلفوا وكانوا أثلاثاً فنزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} الآية. فملّكه الله رسوله فقسمه كما أراه الله , قاله عكرمة والضحاك وابن جريج. والرابع: أنهم لم يعلموا حكمها وشكّوا في إحلالها لهم مع تحريمها على من كان قبلهم فسألوا عنها ليعلموا حكمها من تحليل أو تحريم فأنزل الله تعالى هذه الآية. ثم اختلف أهل العلم في نسخ هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الانفال: 41] . الآية , قاله عكرمة , ومجاهد , والسدي. والقول الثاني: أنها ثابتة الحكم ومعنى ذلك؛ قل الأنفال لله , وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة , والرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيها , قاله ابن زيد. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فيه وجهان:(2/294)
أحدهما: أن يرد أهل القوة على أهل الضعف. الثاني: أن يسلِّموا لله وللرسول ليحكما في الغنيمة بما شاء الله.(2/295)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: خافت. الثاني: رَقّتْ. {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيهِمْءَايَاتُهُ} يعني آيات القرآن بما تضمنته من أمر ونهي. {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} فيه وجهان: أحدهما: تصديقاً. الثاني: خشية. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: فيما يخافونه من الشدة في الدنيا. الثاني: فيما يرجونه من ثواب أعمالهم في الآخرة.(2/295)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
{كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} قوله عز وجل: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} فيه قولان: أحدهما: كما أخرجك ربك من مكة إلى المدينة بالحق مع كراهه فريق من المؤمنين كذلك ينجز وعدك في نصرك على أعدائك بالحق. والثاني: كما أخرجك ربك من بيتك مِن المدينة إلى بدر بالحق كذلك جعل لك غنيمة بدر بالحق. وفي قوله: {بِالْحَقِّ} وجهان: أحدهما: أنك خرجت ومعك الحق. الثاني: أنه أخرجك بالحق الذي وجب عليك. {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} فيه وجهان: أحدهما: كارهون خروجك.(2/295)
الثاني: كارهون صرف الغنيمة عنهم لأنهم لم يعلموا أن الله تعالى قد جعلها لرسوله دونهم. قوله عز وجل: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} يعني في القتال يوم بدر. و {بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} يحتمل وجهين: أحدهما: بعد ما تبين لهم صوابه. الثاني: بعد ما تبين لهم فرضه. وفي المجادل له قولان: أحدهما: أنهم المشركون , قاله ابن زيد. الثاني: أنهم طائفة من المؤمنين وهو قول ابن عباس , وابن إسحاق , لأنهم خرجوا لأخذ العير المقبلة من الشام مع أبي سفيان فلما فاتهم ذلك أمروا بالقتال فجادلوا طلباً للرخصة وقالوا ما تأهبنا في الخروج لقتال العدو , فأنزل الله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} يعني كأنهم في قتال عدوهم يساقون إلى الموت , رعباً وأسفاً لأنه أشد لحال من سيق إلى الموت أن يكون ناظراً له وعالماً به. قوله عز وجل: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} الآية. وسبب ذلك أن عير قريش لما أقبلت من الشام مع أبي سفيان همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج لأخذها , وسار فبلغ ذلك قريشاً فخرجت للمنع عنها , فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بخروجها شاور أصحابه , فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة , فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك , فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد وقال: (سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الْطَّائِفَتَينِ وَاللَّهِ لَكَأَنِي أَنْظُرُ الآنَ إِلَى مَصَارِعِ الْقَومِ) فذلك معنى قوله {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّآئِفَتَيْنِ} يعني العير التي مع أبي سفيان أو الظفر بقريش الخارجين للمنع منها.(2/296)
{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} أي غير ذات الحرب وهي العير لأن نفوسهم في لقائها أسكن , وهم إلى ما فيها من الأموال أحوج. وفي الشوكة التي كُني بها عن الحرب وجهان: أحدهما: أنها الشدة فكُني بها عن الحرب لما فيها من الشدة , وهذا قول قطرب. والثاني: أنها السلاح , وكُني بها عن الحرب لما فيها من السلاح , من قولهم رجل شاكٍ في السلاح , قاله ابن قتيبة. {وَيُريدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} فيه قولان: أحدهما: إظهار الحق بإعزاز الدين في وقته على ما تقدم من وعده. والثاني: أن الحق في أمره لكم أن تجاهدوا عدوكم. وفي صفة ذلك وجهان لأصحاب الخواطر. أحدهما: يحق الحق بالإقبال عليه ويبطل الباطل بالإعراض عنه. الثاني: يحق الحق بالقبول ويبطل الباطل بالرد. {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} معناه ليظهر الحق يعني الإسلام. {ويُبْطِلَ الْبَاطِلَ} أي يذهب بالباطل يعني الشرك. قال الحسن. هذه الآية نزلت قبل قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} وهي في القراءة بعدها. روى سماك عن عكرمة قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر عليك بالعير ليس دونها شيء فقال له العباس وهو أسير في أيديهم: ليس لك ذلك , فقال: (لم؟) فقال: لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك.(2/297)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
{إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم}(2/297)
قوله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: تستنصرون. الثاني: تستجيرون. والفرق بين المستنصر والمستجير أن المستنصر: طالب الظفر , والمستجير: طالب الخلاص. والفرق بين المستغيث والمستعين أن المستغيث: المسلوب القدرة , والمستعين الضعيف القدرة. {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} أي فأعانكم. والفرق بين الاستجابة والإجابة أن الإجابة ما لم يتقدمها امتناع. {أَنَِّي مُمِدُّكُم بَأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: مع كل ملك ملك , وهو قول ابن عباس فتكون الألف ألفين. قال الشاعر:
(إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا)
الثاني: معناه متتابعين , قاله السدي , وقتادة. الثالث: معنى مردفين أي ممدّين , والإرداف إمداد المسلمين بهم , قاله مجاهد. {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى} فيه وجهان: أحدهما: أن البشرى هي في مددهم بألف من الملائكة بشروهم بالنصر فكانت هي البشرى التي ذكرها الله تعالى. والثاني: البشرى النصرة التي عملها الله لهم. {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: بالبشرى. والثاني: بالملائكة. واختلفوا في قتال الملائكة معهم على قولين:(2/298)
أحدهما: لم يقاتلوا وإنما نزلوا بالبشرى لتطمئن به قلوبهم , وإلا فملك واحد يهلك جميع المشركين كما أهللك جبريل قوم لوط. الثاني: أن الملائكة قاتلت مع النبي صلى الله عليه وسلم كما روى ابن مسعود أنه سأله أبو جهل: من أين كان يأتينا الضرب ولا نرى الشخص؟ قال: (مِن قِبَلِ الْمَلاَئِكَةِ) فقال: هم غلبونا لا أنتم. وقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} لئلا يتوهم أن النصر من قبل الملائكة لا من قبل الله تعالى.(2/299)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
{إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسُ أَمَنَةً مِّنْهُ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وكثيراً من أصحابه غشيهم النعاس ببدر. قال سهل بن عبد الله: النعاس يحل في الرأس مع حياة القلب , والنوم يحل في القلب بعد نزول من الرأس , فهوَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ناموا فبشر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر فأخبر به أبا بكر. وفي امتنان الله تعالى عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: أحدهما: قوّاهم بالاستراحة على القتال من الغد. الثاني: أن أمَّنَهم بزوال الرعب من قلوبهم , كما قال: الأمن منيم , والخوف مسهر.(2/299)
وقوله تعالى: {أََمَنَةً مِّنْهُ} يعني به الدعة وسكون النفس من الخوف وفيه وجهان: أحدهما: أمنة من العدو. الثاني: أمنة من الله سبحانه وتعالى. {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} لأن الله تعالى أنزل عليهم ماء السماء معونة لهم بثلاثة أمور: أحدها: الشرب وإن كانوا على ماء. الثاني: وهو أخص أحواله بهم في ذلك المكان وهو أن الرمل تلبد بالماء حتى أمكن المسلمين القتال عليه. والثالث: ما وصفه الله تعالى به من حال التطهير. وفي تطهيرهم به وجهان: أحدهما: من وساوس الشيطان التي ألقى بها في قلوبهم الرعب , قاله زيد بن أسلم. والثاني: من الأحداث والأنجاس التي نالتهم , قاله الجمهور. قال ابن عطاء: أنزل عليهم ماءً طهر به ظواهر أبدانهم , وأنزل عليهم رحمة نقّى بها سرائر قلوبهم. وإنما خصه الله تعالى بهذه الصفة لأمرين. أحدهما: أنها أخص صفاته. والثاني: أنها ألزم صفاته. ثم قال: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيَطانِ} فيه قولان: أحدهما: وسوسته أن المشركين قد غلبوهم على الماء , قاله ابن عباس. والثاني: كيده وهو قوله: ليس لكم بهؤلاء القوم طاقة , قاله ابن زيد. {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: ثقة بالنصر. والثاني: باستيلائهم على الماء.(2/300)
{وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} فيه قولان: أحدهما: بالصبر الذي أفرغه الله تعالى حتى يثبتوا لعدوهم , قاله أبو عبيدة. والثاني: تلبيد الرمل بالمطر الذي لا يثبت عليه قدم , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , والضحاك. قوله عز وجل: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} معناه معينكم ويحتمل أن يكون معناه إني معكم في نصرة الرسول , فتكون الملائكة لتثبيت المؤمنين , والله تعالى متولي النصر بما ألقاه من الرعب في قلوب المشركين. {فَثَبِّتُوا الَّذِينَءَامَنُواْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: فثبوتهم بحضوركم معهم في الحرب. والثاني: بقتالكم معهم يوم بدر , قاله الحسن. والثالث: بإخبارهم أنه لا بأس عليهم من عدوهم. {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} يعني الخوف , ويحتمل أحد وجهين: إما أن يكون إلقاء الرعب بتخاذلهم , وإما أن يكون بتكثير المسلمين في أعينهم. وفي ذلك وجهان: أحدهما: أنه قال ذلك للملائكة معونة لهم. والثاني: أنه قال ذلك له ليثبتوا به الذين آمنوا. {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: فاضربوا الأعناق , وفوق صلة زائدة في الكلام , قاله عطية والضحاك. وقد روى المسعودي عن القاسم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لأُُعَذِّبَ بَعَذَابِ اللَّهِ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ بِضَرْبِ الأَعْنَاقِ وَشَدِّ الْوَثَاقِ) . والثاني: معناه واضربوا الرؤوس فوق الأعناق , قاله عكرمة.(2/301)
والثالث: فاضربوا على الأعناق. والرابع: فاضربوا على الأعناق. والخامس: فاضربوا فوق جلدة الأعناق. {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} يعني المفاصل من أطراف الأيدي والأرجل والبنان: أطراف الأصابع من اليدين والرجلين.(2/302)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً} والزحف: الدنو قليلاً قليلاً. {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} يعني بالهزيمة منهم والانصراف عنهم. وفيه قولان: أحدهما: أن هذا على العموم في تحريم الهزيمة بعد لقاء العدو. والثاني: مخصوص وهو أن الله تعالى أوجب في أول الإِسلام على كل رجل من المسلمين أن يقف بإزاء عشرة من المشركين لا يحل له بعد اللقاء أن ينهزم عنهم وذلك بقوله: {إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَينِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةُ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِنَ الَّذينَ كَفرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] وفيه وجهان: أحدهما: لا يعلمون ما فرضه الله تعالى عليه من الإسلام. الثاني: لا يعلمون ما فرضه الله تعالى عليهم من القتال. ثم نسخ ذلك عنهم بعد كثرتهم واشتداد شوكتهم فأوجب الله تعالى على كل رجل لاقى المشركين محارباً أن يقف بإزاء رجلين بعد أن كان عليه أن يقف بإزاء عشرة تخفيفاً ورخصة وذلك قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وعَلِمَ أَنَّ فِيكُم ضَعْفاً} .(2/302)
قرىء بضم الضاد وفتحها , وفي اختلاف القراءتين وجهان: أحدهما: أنهما لغتان ومعناهما واحد , قاله الفراء. والثاني: معناهما مختلف. وفي اختلافهما وجهان: أحدهما: أنها بالفتح: الضعف في الأموال , وبالضم: الضعف في الأحوال. الثاني: أنها بالفتح: الضعف في النيات , وبالضم: الضعف في الأبدان. وقيل بعكس الوجهين في الوجهين. ثم قال: {فَإِن يَكُن مِّنكم مَّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مَائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَينِ بِإِذنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} فيه تأويلان: أحدهما: مع الصابرين على القتال في معونتهم على أعدائهم. الثاني: مع الصابرين على الطاعة في قبول عملهم وإجزال ثوابهم , فصار حتماً على من لاقى عدوه من المشركين زحفاً أن لا ينهزم مع القوة على المصابرة حتى يقضي الله من أمره ما شاء فأما الهزيمة مع العجز عن المصابرة فإن قاتله أكثر من مثليه جاز أن يُولي عنهم منهزماً , وإن قاتله مثلاه فمن دون حرم عليه أن يوليّ عنهم منهزماً على صفتين: إما أن يتحرف لقتال وهو أن يهرب ليطلب , ويفر ليكر فإن الحرب كرٌ وفرٌ , وهرب وطلب , وإما أن يتحيز إلى فئة أخرى ليقاتل معها , قربت الفئة أو بعدت , وذلك ظاهر في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَومَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} أي صار بالمكان الذي يحق عليه غضب الله , مأخوذ من المبوأ وهو المكان. ومذهب الشافعي وأصحابه وموافقيه أن هذا على العموم , محكوم به في كل مسلم لاقى عدواً , وبه قال عبد الله بن عباس.(2/303)
وحكي عن الحسن , وقتادة , والضحاك: أن ذلك خاص في أهل بدر , وبه قال أبو حنيفة.(2/304)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
{فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين} قوله عز وجل: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم. والثاني: ولكن الله قتلهم بمعونته لكم حين ألقى في قلوبهم الرعب وفي قلوبكم النصر. وفيه وجه ثالث قاله ابن بحر: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم. وقيل لم تقتلوهم بقوتكم وسلاحكم ولكن الله قتلهم بخذلانهم وقبض أرماحهم. {وَمَا رَمَيْتَ إذَ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: ما حكاه ابن عباس , وعرة , والسدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض يوم بدر قبضة من تراب رماهم بها وقال: (شَاهَتِ الْوُجُوهُ) أي قبحت ومنه قول الحطيئة:
(أرى لي وجهاً شوه الله خلقه. . ... فقُبح من وجهٍ وقبح حامله.)
فألقى الله تعالى القبضة في أبصارهم حتى شغلتهم بأنفسهم وأظفر الله المسلمين بهم , فهو معنى قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إذَ رَمَيْتَ وَلَكِنَ اللَّهَ رَمَى} . الثاني: معناه وما ظفرت إذ رميت ولكن الله أظفرك , قاله أبو عبيدة.(2/304)
الثالث: وما رميت قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب ولكن الله ملأ قلوبهم رعباً. والقول الرابع: أنه أرد رمى أصحابه بالسهم فأصاب رميهم. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} يعني بما أرسله من الريح المعينة لسهامهم حتى سددت وأصابت. والمراد بالرمي الإصابة لأن معى الرمي محمول على الإصابة , فإن لم يصب قيل رمى فأخطأ. وإذا قيل مطلقاً: قد رمى , لم يعقل منه إلا الإصابة. ألا ترى إلى قول امرىء القيس:
89 (فرماها في فرائصها.} 9
فاستغنى بذكر الرمي عن وصفه بالإصابة. وقال ذو الرمة في الرأي:
(رمى فأخطأ والأقدار غالبةٌ. . ... فانصاع والويل هجيراه والحربُ)
قوله عز وجل: {وَليُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً} قال أصحاب الخواطر: البلاء الحسن ما يورثك الرضا به والصبر عليه. وقال المفسرون: البلاء الحسن ها هنا النعمة بالظفر والغنيمة.(2/305)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
{إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين} قوله عز وجل: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} في قولان: أحدهما: إن تستنصروا الله , فالفتح النصر , فقد جاءكم فضل الله بنصرنا , حكاه ابن الأنباري. والثاني: معناه إن تستنصروا الله , والفتح النصر , فقد جاءكم نصر الله لنا عليكم , وفي هذا الخطاب قولان. أحدهما: أنه خطاب للمشركين لأنهم استنصروا يوم بدر بأن قالوا: اللهم أقطعنا للرحم وأظلمنا لصاحبه فانصره عليه , فنصر الله تعالى نبيه والمسلمين عليهم.(2/305)
ثم قال {وَإن تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيرٌ لَّكُمْ} لأن الاستنصار كان عليهم لا لهم. {وَإن تَعُودُواْ نَعُدْ} فيه وجهان: أحدهما: وإن تعودوا إلى مثل هذا التكذيب نعد إلى مثل هذا التصديق. والثاني: وإن تعودوا إلى مثل هذا الاستفتاح نعد إلى مثل هذا النصر. والقول الثاني: أنه خطاب للمؤمنين نصرهم الله تعالى يوم بدر حين استنصروه {وَإن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني عما فعلتموه في الأسرى والغنيمة. {وإن تَعودوا نعد} فيه وجهان: أحدهما: وإن تعودوا إلى الطمع نعد إلى المؤاخذة. الثاني: وإن تعودوا إلى مثل ما كان منكم في الأسرى والغنيمة نعد إلى الإنكار عليكم.(2/306)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} قوله عز وجل: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} أما الدواب فاسم لكل ما دب على الأرض من حيوانها لدبيبه عليها مشياً , وكان بالخيل أخص. والمراد بِشَرِّ الدواب الكفار لأنهم شر ما دبّ على الأرض من الحيوان. ثم قال: {الصُّمُّ} لأنهم لا يسمعون الوعظ. {الْبُكْمُ} والأبكم هو المخلوق أخرس , وإنما وصفهم بالبكم لأنهم لا يقرون بالله تعالى ولا بلوازم طاعته. {الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يعقلون عن الله تعالى أمره ونهيه. والثاني: لا يعتبرون اعتبار العقلاء. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في بني عبد الدار. قوله عز وجل: {وَلَو عَلِمَ اللَّهُ فِيهِم خَيْراً} يحتمل وجهين:(2/306)
أحدهما: اهتداء. الثاني: إصغاء. {لأَسْمَعَهُمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدهما: لأسمعهم الحجج والمواعظ سماعَ تفهيم وتعليم , قاله ابن جريج وابن زيد. الثاني: لأسمعهم كلام الذين طلبوا إحياءهم من قصي بن كلاب وغيره يشهدون بنبوتك قاله بعض المتأخرين. والثالث: لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه , قاله الزجاج. {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: ولو أسمعهم الحجج والمواعظ لأعرضوا عن الإصغاء والتفهم. والثاني: ولو أجابهم إلى ما اقترحوه لأعرضوا عن التصديق.(2/307)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} قوله عز وجل: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} يعني أجيبوا الله والرسول قال كعب ابن سعد الغنوي.
(وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب)
وإجابة الله تعالى هي طاعة أمره , وإنما خرجت عن هذا اللفظ لأنها في مقابلة الدعاء إليها فصارت إجابة لها. {إذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} فيه سبعة أقاويل: أحدها: إذا دعاكم إلى الإيمان , قاله السدي. والثاني: إذا دعاكم إلى الحق , قاله مجاهد. والثالث: إذا دعاكم إلى ما في القرآن , قاله قتادة. والرابع: إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدو , قاله ابن إسحاق.(2/307)
والخامس: إذا دعاكم إلى ما فيه دوام حياتكم في الآخرة , ذكره علي بن عيسى. والسادس: إذا دعاكم إلى ما فيه إحياء أمركم في الدنيا , قاله الفراء. والسابع: أنه على عموم الدعاء فيما أمرهم به. روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُبيّ وهو قائم يصلي فصرخ به قال: (يَاأُبيّ) قال فعجل في صلاته , ثم جاء , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مَنَعَكَ إذْ دَعَوتُكَ أَنْ تُجِيبَنِي؟) قال: يا رسول الله كنت أصلي , فقال: (أَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ {اسْتَجِيْبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْْ} ) قال بلى يا رسول الله , لا أعود. {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فيه لأهل التأويل سبعة أقاويل: أحدها: يحول بين الكافر والإيمان , وبين المؤمن والكفر , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير والضحاك. والثاني: يحول بين المرء وعقله فلا يدري ما يعمل , قاله مجاهد. والثالث: يحول بين المرء وقلبه أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه , قاله السدي. والرابع: معناه أنه قريب من قلبه يحول بينه وبين أن يخفى عليه شيء من سره أو جهره فصار أقرب من حبل الوريد , وهذا تحذير شديد , قاله قتادة. والخامس: معناه يفرق بين المرء وقلبه بالموت فلا يقدر على استدراك فائت. ذكره علي بن عيسى. والسادس: يحول بين المرء وما يتمناه بقلبه من البقاء وطول العمر والظفر والنصر , حكاه ابن الأنباري.(2/308)
والسابع: يحول بين المرء وما يوقعه في قلبه من رعب خوف أو قوة وأمن , فيأمن المؤمن من خوفه , ويخاف الكافر عذابه.(2/309)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} قوله عز وجل: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} فيها أربعة أقاويل: أحدها: أنه المنكر , أمر الله تعالى المؤمنين ألا يقروه بين أظهرهم فيعمهم العذاب قاله ابن عباس. والثاني: أنها الفتنة بالأموال والأولاد كما قال تعالى {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُم فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] قاله عبد الله بن مسعود. والثالث: أن الفتنة ها هنا البلية التي يبلى الإنسان بها , قاله الحسن. والرابع: أنها نزلت في النكاح بغير وليّ , قاله بشر بن الحارث. ويحتمل خامساً: أنها إظهار البدع. وفي قوله تعالى: {لاَ تُصِيَبنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُم خَاصَّةً} وجهان: أحدهما: لا تصيبن الفتنة الذين ظلموا. الثاني: لا يصيبن عقابُ الفتنة , فتكون لأهل الجرائم عقوبة , ولأهل الصلاح ابتلاء. وفيه وجه ثالث: أنه دعاء للمؤمن أن لا تصيبه فتنة , قاله الأخفش.(2/309)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
{واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون} قوله عز وجل: {وَاذْكُرُواْ إذْ أنتُم قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ} يريد بذلك قلتهم إذ كانوا بمكة وذلتهم باستضعاف قريش لهم. وفي هذا القول وجهان:(2/309)
أحدهما: أن الله ذكّرهم بذلك نعمه عليهم. والثاني: الإخبار بصدق وعده لهم. {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} فيه قولان: أحدهما: يعني بالناس كفار قريش , قاله عكرمة وقتادة. والثاني: فارس والروم , قاله وهب بن منبه. ثم بيّن ما أنعم به عليهم فقال {فَئَاوَاكُمْ} وفيه وجهان: أحدهما: أي جعل لكم مأوى تسكنون فيه آمنين. والثاني: فآواكم بالهجرة إلى المدينة , قاله السدي. {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} أي قواكم بنصره لكم على أعدائكم يوم بدر. {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني من الحلال , وفيه قولان: أحدهما: ما مكنكم فيه من الخيرات. والثاني: ما أباحكم من الغنائم , قاله السدي. وقال الكلبي ومقاتل: نزلت هذه الآية في المهاجرين خاصة بعد بدر.(2/310)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
{يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم} قوله عز وجل: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَءَآمَنُواْ لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} فيه قولان: أحدهما: لا تخونوا الله سبحانه والرسول عليه السلام كما صنع المنافقون في خيانتهم , قاله الحسن والسدي. والثاني: لا تخونوا الله والرسول فيما جعله لعباده من أموالكم. ويحتمل ثالثاً: أن خيانة الله بمعصية رسوله , وخيانة الرسول , بمعصية كلماته. {وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فيما أخذتموه من الغنيمة أن تحضروه إلى المغنم. الثاني: فيما ائتمن الله العباد عليه من الفرائض والأحكام أن تؤدوها بحقها ولا تخونوها بتركها.(2/310)
والثالث: أنه على العموم في كل أمانة أن تؤدى ولا تخان. {وَأَنتُم تَعْلَمُونَ} فيه قولان: أحدهما: وأنتم تعلمون أنها أمانة من غير شبهة. والثاني: وأنتم تعلمون ما في الخيانة من المأثم بخلاف من جهل. قال الكلبي ومقاتل: نزلت هذه الآية في أبي لُبابَة بن عبد المنذر أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لنزلوا على حكم سعد فاستشاروه وكان قد أحرز أولاده وأمواله عندهم فأشار عليهم أن لا يفعلوا وأومأ بيده إلى حلقة أنه الذبح فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُم فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن ما عند الله تعالى من الأجر خير من الأموال والأولاد. والثاني: أن ما عند الله تعالى من أجر الحسنة التي يجازي عليها بعشر أمثالها أكثر من عقوبة السيئة التي لا يجازي عليها إلا بمثلها.(2/311)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم} قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِنَّ تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معنى فرقاناً أي هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل , قاله ابن زيد وابن إسحاق. والثاني: يعني مخرجاً في الدنيا والآخرة , قاله مجاهد. والثالث: يعني نجاة , قاله السدي. والرابع: فتحاً ونصراً , قاله الفراء. ويحتمل خامساً: يفرق بينكم وبين الكافر في الآخرة.(2/311)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} قوله عز وجل {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} وذلك أن قريشاً تآمروا في دار الندوة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمرو بن هشام: قيدوه واحبسوه في بيت نتربص به ريب المنون. وقال أبو البختري: أخرجوه عنكم على بعير مطرود تستريحوا منه ومن أذاه لكم. قال أبو جهل: ما هذا برأي ولكن اقتلوه وليجتمع عليه من كل قبيلة رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فترضى حينئذ بنو هاشم بالدية. فأوحى الله عز وجل بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الغار مع أبي بكر رضي الله عنه ثم هاجر منه إلى المدينة , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. فهذا بيان قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ} وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ليثبتوك في الوثاق , قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة. والثاني: ليثبتوك في الحبس , قاله عطاء وعبد الله بن كثير والسدي. والثالث: معنى يثبتوك أي يخرجوك , كما يقال قد أثبته في الحرب إذا أخرجته , قاله بعض المتأخرين. {أَوْ يُخْرِجُوكَ} فيه وجهان: أحدهما: أو يخرجوك من مكة إلى طرف من أطراف الأرض كالنفي. والثاني: أو يخرجوك على بعير مطرود حتى تهلك , أو يأخذك بعض العرب فتقتلك فتريحهم منك , قاله الفراء.(2/312)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
{وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}(2/312)
قوله عز وجل {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا} يحتمل وجهين: أحدهما: قد سمعنا هذا منكم ولا نطيعكم. والثاني: قد سمعنا قبل هذا مثله فماذا أغناكم. {لَوْ نَشَآءَ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} يحتمل وجهين: أحدهما: مثل هذا في النظم والبيان معارضة له في الإعجاز. والثاني: مثل هذا في الاحتجاج معارضة له في الاستدعاء إلى الكفر. {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} يعني أحاديث الأولين ويحتمل وجهين: أحدهما: أنه قصص من مضى وأخبار من تقدم. والثاني: أنه مأخوذ عمن تقدم وليس بوحي من الله تعالى. وقيل إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة , وقد قلته النبي صلى الله عليه وسلم صبراً في جملة ثلاثة من قريش: عقبه بن أبي معيط , والمطعم بن عدي , والنضر بن الحارث وكان أسير المقداد , فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل النضر قال المقداد: أسيري يا رسول الله , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمْ أَعِنِ المِقْدَادَ) , فقال: هذا أردت. وفيه أنزل الله تعالى الآية التي بعدها. {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّْ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حَجَارَةً مِنَ السَّمَآءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وفي هذا القول وجهان: أحدهما: أنهم قالوا ذلك عناداً للحق وبغضاً للرسول صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنهم قالوا ذلك اعتقاداً أنه ليس بحق. وفيهم نزل قوله تعالى {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] وفيهم نزل قوله تعالى: {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} [ص: 16] . قال عطاء: لقد نزلت في النضر بضع عشرة آية من كتاب الله تعالى. قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِم} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه قال ذلك إكراماً لنبيه وتعظيماً لقدره أن يعذب قوماً هو بينهم. تعظيماً لحرمته.(2/313)
والثاني: إرساله فيهم رحمة لهم ونعمة عليهم فلم يجز أن يعذبهم وهو فيهم حتى يستحقوا سلب النعمة بإخراجه عنهم. {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: وما كان الله ليعذب مشركي أهل مكة وقد بقي فيهم من المسلمين قوم يستغفرون وهذا قول الضحاك وأبي مالك وعطية. والثاني: لا يعذبهم في الدنيا وهم يستغفرون فيها فيقولون: غفرانك. قال ابن عباس: كان المشركون بمكة يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك لبيك لا شريك لك , فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قَدْ قَدْ) فيقولون: إلا شريكاً هو لك , تملكه وما ملك , ويقولون غفرانك , فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قاله أبو موسى ويزيد بن رومان ومحمد بن قيس. والثالث: أن الاستغفار في هذا الموضع الإسلام , ومعنى الكلام: وما كان الله معذبهم وهم يسلمون , قاله عكرمة ومجاهد. والرابع: وما كان الله معذب من قد سبق له من الله الدخول في الإسلام , قاله ابن عباس. والخامس: معناه أنهم لو استغفروا لم يعذبوا استدعاء لهم إلى الاستغفار , قاله قتادة والسدي وابن زيد. والسادس: وما كان الله معذبهم أي مهلكهم وقد علم أن لهم أولاد وذرية يؤمنون ويستغفرون.(2/314)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
{وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون وما(2/314)
كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} قوله عز وجل {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ البَيتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} في المكاء قولان: أحدهما: أنه إدخال أصابعهم في أفواههم , قاله مجاهد. والثاني: هو أن يشبك بين أصابعه ويصفر في كفه بفيه فيكون المكاء هو الصفير , ومنه قول عنترة:
(وحليل غنيةٍ تركت مُجدّلا ... تمكو فريصته بشدق الأعلم)
أي تصفر بالريح لما طعنته. وأما التصدية ففيها خمسة أقاويل: أحدهما: أنه التصفيق , قاله ابن عباس وابن عمر والحسن ومجاهد وقتادة والسدي ومنه قول عمرو بن الإطنابة:
(وظلواْ جميعاً لهم ضجة ... مكاء لدى البيت بالتصدية)
والثاني: أنه الصد عن البيت الحرام , قاله سعيد بن جبير وابن زيد. والثالث: أن يتصدى بعضهم لبعض ليفعل مثل فعله , ويصفر له إن غفل عنه , قاله بعض المتأخرين. الرابع: أنها تفعلة من صد يصد , وهو الضجيج , قاله أبو عبيدة. ومنه قوله تعالى: {إِذَا قَومُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] أي يضجون. الخامس: أنه الصدى الذي يجيب الصائح فيرد عليه مثل قوله , قاله ابن بحر. فإن قيل: فلم سمَّى الله تعالى ما كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية صلاة وليس منها؟(2/315)
قيل عن ذلك جوابان: أحدهما: أنهم كانوا يقيمون التصفيق والصفير مقام الدعاء والتسبيح فجعلوا ذلك صلاة وإن لم يكن في حكم الشرع صلاة. والثاني: أنهم كانوا يعملون كعمل الصلاة. {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُم تَكْفُرُونَ} فيه قولان: أحدهما: عذاب السيف يوم بدر , قاله الحسن الضحاك وابن جريج وابن إسحاق. والثاني: أنه يقال لهم في الآخرة {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ} وفيه وجهان: أحدهما: فالقوا. الثاني: فجربوا. وحكى مقاتل في نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في المسجد الحرام قام من كفار بني عبد الدار بن قصي رجلان عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم يصفران كما يصفر المكاء والمكاء طائر , ورجلان منهم عن يساره يصفقان بأيديهما ليخلطوا عليه صلاته وقراءته , فنزلت هذه الآية فيهم.(2/316)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
{إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} قوله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: أنها نفقة قريش في قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر , قاله الضحاك. والثاني: أنه أبو سفيان استأجر معه يوم أُحد ألفين من الأحابيش ومنه كنانة(2/316)
ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم , سوى من انحاز إليه من العرب , قاله سعيد ومجاهد والحكم بن عيينة , وفي ذلك يقول كعب بن مالك:
(وجئنا إلى موج من البحر وسطه ... أحابيش منهم حاسرٌ ومقنع)
(ثلاثة آلافٍ ونحن نَصِيَّة ... ثلاثُ مئينٍ إن كثرنا فأربع)
{فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسْرَةً} يحتمل وجهين: أحدهما: يكون إنفاقها عليهم حسرة وأسفاً عليها. والثاني: تكون خيبتهم فيما أملوه من الظفر عليهم حسرة تحذرهم بعدها. {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} وعد بالنصر فحقق وعده. قوله عز وجل {لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فيه وجهان: أحدهما: الحلال من الحرام. الثاني: الخبيث ما لم تخرج منه حقوق الله تعالى , والطيب: ما أخرجت منه حقوق الله تعالى. يحتمل ثالثاً: أن الخبيث: ما أنفق في المعاصي , والطيب: ما أنفق في الطاعات. {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} أي يجمعه في الآخرة وإن تفرق في الدنيا {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} أي يجعل بعضه فوق بعض , ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} [النور: 43] . وفي قوله تعالى {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} وإن كانت الأموال لا تعذّب وجهان: أحدهما: أن يجعلها عذاباً في النار يعذبون بها , كما قال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35] الآية. الثاني: أنه يجعل أموالهم معهم في جهنم لأنهم استطالوا بها وتقووا على معاصي الله فجعلها معهم في الذل والعذاب كما كانت لهم في الدنيا عزاً ونعيماً.(2/317)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير} قوله عز وجل {قَل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يَغْفِرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} يحتمل وجيهن: أحدهما: إن ينتهوا عن المحاربة إلى الموادعة يغفر لهم ما قد سلف من المؤاخذة والمعاقبة. والثاني: إن ينتهوا عن الكفر بالإسلام يغفر لهم ما قد سلف من الآثام. {وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأُوَّلِينَ} تأويله على احتمال الوجهين الأولين: فعلى الوجه الأول: تأويله: وإن يعودواْ إلى المحاربة فقد مضت سنة الأولين فيمن قتل يوم بدر وأسر , قاله الحسن ومجاهد والسدي. وعلى الوجه الثاني: فقد مضت سنة الأولين من الأمم السالفة فيما أخذهم الله به في الدنيا من عذاب الاستئصال. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أهل مكة بعد أن دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وقال لهم: (ما ظَنُّكُم بِي وَمَا الَّذِي تَرَونَ أَنِّي صَانِعُ بِكُم؟) قالوا: ابن عم كريم فإن تعف فذاك الظن بك وإن تنتقم فقد أسأنا , فقال صلى الله عليه وسلم: (أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لإخْوَتِهِ: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ) [يوسف: 92] فأنزل الله تعالى هذه الآية.(2/318)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول(2/318)
ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير} قوله عز وجل: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ذكر الله تعالى الفيء في سورة الحشر والغنيمة في هذه السورة. واختلفوا في الفيء والغنيمة على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الغنيمة ما ظهر عليه من أموال المشركين والفيء ما ظهر عليه من الأرض , قاله عطاء بن السائب. والثاني: أن الغنيمة ما أخذ عنوة , والفيء ما أخذ عن صلح , قاله الشافعي وسفيان الثوري. والثالث: أن الفيء والغنيمة سواء وهو كل مال أخذ من المشركين , وآية الفيء التي هي في سور الحشر منسوخة بآية الغنيمة التي في سورة الأنفال , قاله قتادة. وقوله تعالى {مِّن شَيْءٍ} يريد جميع ما وقع عليه اسم شيء مباح حواه المسلمون من أموال المشركين. {فإن لِلَه خُمُسَهُ} أحدهما: أنه استفتاح كلام , فلله الدنيا والآخرة وما فيهما , ومعنى الكلام فأن للرسول خمسه , قاله الحسن وعطاء وقتادة وإبراهيم والشافعي , وروى نهشل عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرّية فغنموا خمّس الغنيمة فصرف ذلك الخمس في خمسة ثم قرأ {وَاعلَمُواْ أَنَّمَا مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} وإنما قوله {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسهُ} مفتاح كلام , ولله ما في السموات وما في الأرض فجعل سهم الله وسهم الرسول واحد. والثاني: أن سهم الله مستحق لبيته , ومعناه فإن لبيت الله خمسه وللرسول وقد روى الربيع بن أنس عن أبي العالية الرياحي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى(2/319)
بالغنيمة فيقسمها على خمسة تكون أربعة أخماس لمن شهدها , ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم الله ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول , وسهم لذي القربى , وسهم لليتامى , وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل. وقوله تعالى {وَلِلرَّسُولِ} فيه قولان: أحدهما: أنه مفتاح كلام اقترن بذكر الله وليس للرسول من ذلك شيء كما لم يكن لله من ذلك شيء , وأن الخمس مقسوم على أربعة أسهم , وهذا قول ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة. والثاني: أن ذلك للرسول وهو قول الجمهور. واختلفوا في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على خمسة أقاويل: أحدها: أنه للخليفة بعده , قاله قتادة. والثاني: أنه لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم إرثاً , وهذا قول من جعل النبي موروثاً. والثالث: أن سهم الرسول صلى الله عليه وسلم مردود على السهام الباقية ويقسم الخمس على أربعة. والرابع: أنه مصروف في مصالح المسلمين العامة , قاله الشافعي. والخامس: أن ذلك مصروف في الكراع والسلاح , وروي أن ذلك فعل أبي بكر وعمر , رواه النخعي. أما قوله تعالى {وَلِذِي الْقُرْبَى} فاختلف فيه على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم بنو هاشم , قاله مجاهد. والثاني: أنهم قريش كلها , روى سعيد المقري قال: كتب نجدة إلى عبد الله بن عباس يسأله عن ذي القربى , قال: فكتب إليه عبد الله بن عباس: كنا نقول إننا هم فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا: قريش كلها ذوو قربى. الثالث: أنهم بنو هاشم وبنو المطلب , قاله الشافعي والطبري. واختلفوا في سهمهم اليوم على أربعة أقاويل:(2/320)
أحدها: أنه لهم أبداً كما كان لهم من قبل , قاله الشافعي. والثاني: أنه لقرابة الخليفة القائم بأمور الأمة. والثالث: أنه إلى الإمام يضعه حيث شاء. والرابع: أن سهمهم وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود على باقي السهام وهي ثلاثة , قاله أبو حنيفة. وأما {وَالْيَتَامَى} فهم من اجتمعت فيهم أربعة شروط: أحدها: موت الأب وإن كانت الأم باقية , لأن يتم الآدميين بموت الآباء دون الأمهات ويتم البهائم بموت الأمهات دون الآباء. والثاني: الصغر , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ) . والثالث: الإٍسلام لأنه مال المسلمين. والرابع: الحاجة لأنه معد للمصالح. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنه لأيتام أهل الفيء خاصة. والثاني: أنه لجميع الأيتام. وأما {الْمَسَاكِينِ} فهم الذين لا يجدون ما يكفيهم. وأما أبناء السبيل فهم المسافرون من ذوي الحاجات , والإٍسلام فيهم معتبر. وهل يختص بأله الفيء؟ على القولين. وقال مالك: الخمس موقوف على رأي الإمام فيمن يراه أحق به , وإنما ذكرت هذه الأصناف لصدق حاجتها في وقتها. قوله عز وجل {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَومَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وهو يوم بدر فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل.(2/321)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
{إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان(2/321)
مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم} قوله عز وجل: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} يعني شفير الوادي ببدر , الأدنى إلى المدينة. {وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} يعني شفير الوادي الأقصى إلى مكة. وقال الأخفش: عدوه الوادي هو ملطاط شفيره الذي هو أعلى من أسفله , وأسفل من أعلاه. {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} يعني عير أبي سفيان أسفل الوادي , قال الكلبي: على شاطىء البحر بثلاثة أميال. {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتََلْفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ولو تواعدتم أن تتفقوا مجتمعين لاختلفتم في الميعاد , بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان من غير قصد لذلك. والثاني: ولو تواعدتم ثم بلغكم كثرة عدوكم مع قلة عددكم لتأخرتم فنقضتم الميعاد , قاله ابن إٍسحاق. والثالث: ولو تواعدتم ثم بلغكم كثرة عدوكم من غير معونة الله لكم لأخلفتم بالقواطع والعوائق في الميعاد. قوله عز وجل { ... لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} فيه وجهان: أحدهما: ليقتل ببدر من قتل من مشركي قريش عن حجة , وليبقى من بقي عن قدرة. والثاني: ليكفر من قريش من كفر بعد الحجة ببيان ما وعدوا , ويؤمن من آمن بعد العلم بصحة إيمانهم.(2/322)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
{إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم(2/322)
في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور} قوله عز وجل: {إذْ يُرِيكُهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} فيه وجهان: أحدهما: أن الله أرى نبيه صلى الله عليه وسلم قلة المشركين عياناً , وقوله {فِي مَنَامِكَ} يريد في عينيك التي هي محل النوم , قاله الحسن. والثاني: أنه ألقى عليه النوم وأراه قلتهم في نومه , وهو الظاهر , وعليه الجمهور. وإنما أراه ذلك على خلاف ما هو به لطفاً أنعم به عليه وعلى أمته , ليكون أثبت لقلوبهم وأقدم لهم على لقاء عدوهم , ولولا ذلك لما جازت هذه الحالة من الله تعالى في نبيه صلى الله عليه وسلم. {وَلَوْ أَرَاكَهُمُ كَثِيراً لَّفِشِلْتُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لاختلفتم في لقائهم أو الكف عنهم. والثاني: لجبنتم عنهم وانهزمتم منهم. { ... وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} يحتمل وجهين: أحدهما: سلّم من الفشل. والثاني: لجبنتم عنهم وانهزمتم منهم ولكن الله سلم من العدو. وفيه ثالث: ولكن الله سلم أمره فيهم حتى نفذ ما حكم فيهم به من هلاكهم.(2/323)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم(2/323)
تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} قوله عز وجل { ... وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ} والفشل هو التقاعد عن القتال جبناً. {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يريد بالريح القوة , وضرب الريح لها مثلاً. والثاني: يريد بالريح الدولة. ومعناه فتذهب دولتكم , قاله أبو عبيدة. والثالث: يريد ريح النصر التي يرسلها الله عز وجل لنصر أوليائه وهلاك أعدائه قاله قتادة وابن زيد. ويحتمل رابعاً , أن الريح الهيبة , وريح القوم هيبتهم التي تتقدمهم كتقدم الريح. ويكون معنى الكلام. فتذهب ريحكم وهيبتكم.(2/324)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
{ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم} {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ} هم قريش حين خرجوا في حماية العير فنجا بها أبو سفيان , فقال لهم أبو جهل: لا نرجع حتى نرِد بدراً وننحر جزوراً ونشرب خمراً وتعزف علينا القيان , فكان من أمر الله فيهم ما كان. قوله عز وجل {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ أَعْمَالَهُمْ} قال المفسرون: ظهر لهم في(2/324)
صورة سراقة بن جعشم من بني كنانة فزين للمشركين أعمالهم. يحتمل وجهين: أحدهما: زين لهم شركهم. والثاني: زين لهم قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه وجه ثالث: أنه زين لهم قوتهم حتى اعتمدوها. {وَقَالَ: لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} يعني أنكم الغالبون دون المؤمنين. {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني أني معكم. وفي جواركم ينالني ما نالكم. الثاني: مجير لكم وناصر. فيكون على الوجه الأول من الجوار , وعلى الوجه الثاني من الإجارة. {فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ} يحتمل وجهين: أحدهما: فئة المسلمين وفئة المشركين. والثاني: المسلمون ومن أمدوا به من الملائكة. فكانوا فئتين. {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} والنكوص أن يهرب ذليلاً خازياً , قال الشاعر:
(وما ينفعل المستأخرين نكوصهم ... ولا ضَرّ أهل السابقات التقدم.)
{وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ} يعني من الملائكة الذين أمد الله بهم رسوله والمؤمنين. {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} وإنما ذكر خوفه من الله تعالى في هذا الموضع ولم يذكره في امتناعه من السجود لآدم لأنه قد كان سأل الإنظار إلى قيام الساعة فلما رأى نزول الملائكة ببدر تصور قيام الساعة فخاف فقال {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . قوله عز وجل {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم قوم في قلوبهم شك كانوا تكلموا بالإسلام وهم بمكة , قاله ابن عباس ومجاهد.(2/325)
والثاني: أنهم المشركون , قاله الحسن. والثالث: أنهم قوم مرتابون لم يظهروا العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم بخلاف المنافقين. والمرض في القلب كله هو الشك , وهو مشهور في كلام العرب , قال الشاعر:
(ولا مرضاً أتقيه إني لصائن ... لعرضي ولي في الأليّة مفخر)
وقوله تعالى {غَرَّ هَؤُلآءِ} يعني المسلمين. {دينُهُمْ} يعني الإسلام , لأن الله تعالى قلل المشركين في أعين المسلمين ليتقدموا عليهم , وقلَّل المسلمين في أعين المشركين ليستهينوا بهم حتى أظفر بهم المسلمين فقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا.(2/326)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
{ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد} قوله عز وجل {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وَجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} فيه قولان: أحدهما: يتوفاهم ملك الموت عند قبض أرواحهم , قاله مقاتل. والثاني: قتل الملائكة لهم حين قاتلوهم يوم بدر. {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدبَارَهُمْ} تأويله على القول الأول: يضربون وجوههم يوم القيامة إذا واجهوهم , وأدبارهم إذا ساقوهم إلى النار. وتأويله على القول الثاني يحتمل وجهين: أحدهما: يضربون وجوههم ببدر لما قاتلوا , وأدبارهم لما انهزموا. والثاني: أنهم جاءوهم من أمامهم وورائهم , فمن كان من أمامهم ضرب وجوههم , ومن كان من ورائهم ضرب أدبارهم.(2/326)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
{كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة(2/326)
أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين} قوله عز وجل {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} يحتمل خمسة أوجه: أحدها: لم يك مغيراً نعمة أنعمها عليهم بالنصر لهم على أعدائهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الثقة به والتوكل عليه. والثاني: لم يك مغيراً نعمته عليهم في كف أعدائهم عنهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته والكف عن معصيته. والثالث: لم يك مغيراً نعمته عليهم في الغنى والسعة حتى يغيروا ما بأنفسهم. من تأدية حق الله تعالى منه. والرابع: لم يك مغيراً نعمته في الثواب والجزاء حتى يغيروا ما بأنفسهم من الإيمان. والخامس: لم يك مغيراً نعمته عليهم في الإرشاد حتى يغيروا ما بأنفسهم من الانقياد.(2/327)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
{إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون} قوله عز وجل: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} فيه وجهان: أحدهما: تصادفهم. والثاني: تظفر بهم. {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} فيه ثلاثة أوجه:(2/327)
أحدها: أنذر بهم من خلفهم , قال الشاعر من هذيل:
(أطوِّف في الأباطح كلَّ يوم ... مخافة أن يشرِّد بي حكيم.)(2/328)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
{وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} قوله عز وجل {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} يعني في نقض العهد. {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ} أي فألق إليهم عهدهم حتى لا ينسبوك إلى الغّدر. بهم. والنبذ هو الإلقاء. قال الشاعر:
(فهن ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي)
وفي قوله تعالى {عَلَى سَوَآءٍ} خمسة أوجه: أحدها: على مهل , قال الوليد بن مسلم. والثاني: على محاجزة مما يفعل بهم , قاله ابن بحر. والثالث: على سواء في العلم حتى لا يسبقوك إلى فعل ما يريدونه بك. والرابع: على عدل من غير حيف , واستشهد بقول الراجز:
(فاضرب وجوه الغد والأعداء ... حتى يجيبوك إلى السواء)
أي إلى العدل. والخامس: على الوسط واستشهد قائله بقول حسان:
(يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيب في سواء الملحد)
وذكر مجاهد أنها نزلت في بني قريظة.(2/328)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
{ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون وأعدوا لهم ما استطعتم(2/328)
من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} قوله عز وجل {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن القوة ذكور الخيل , ورباط الخيل إناثها , وهذا قول عكرمة. والثاني: القوة السلاح , قاله الكلبي. والثالث: القوة التصافي واتفاق الكلمة. والرابع: القوة الثقة بالله تعالى والرغبة إليه. والخامس: القوة الرمي. روى يزيد بن أبي حبيب عن أبي عليّ الهمزاني عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: ( {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قوة} أَلاَ إِنَّ القُوةَ الرميُ) قالها ثلاثاً.(2/329)
{وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} على قول عكرمة إناثها خاصة , وعلى قول الجمهور على العموم الذكور والإناث. وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارتبطوا الخيل فَإِنَّ ظُهُورَهَا لَكُم عِزٌّ , وَأَجْوَافَهَا لَكُم كَنزٌ) . {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: عدو الله بالكفر وعدوكم بالمباينة. والثاني: عدو الله هو عدوكم لأن عدو الله عدو لأوليائه. والإرهاب: التخويف. {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: هم بنو قريظة , قاله مجاهد. والثاني: أهل فارس والروم قاله السدي. والثالث: المنافقون؛ قاله الحسن وابن زيد. والرابع: الشياطين , قاله معاذ بن جبل. والخامس: كل من لا تعرفون عداوته , قاله بعض المتأخرين.(2/330)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} قوله عز وجل {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وإن مالوا إلى الموادعة فَمِلْ إليها.(2/330)
والثاني: وإن توقفوا عن الحرب مسالمة لك فتوقف عنهم مسالمة لهم. والثالث: وإن أظهروا الإسلام فاقبل منهم ظاهر إسلامهم وإن تخلف باطن اعتقادهم. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها عامة في موادعة كل من سألها من المشركين ثم نسخت بقوله تعالى {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم} [التوبة: 5] قاله الحسن وقتادة وابن زيد. والثاني: أنها في أهل الكتاب خاصة إذا بذلوا الجزية. والثالث: أنها في قوم معينين سألوا الموادعة فأمر بإجابتهم.(2/331)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
{يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين الله , قاله الكلبي ومقاتل. والثاني: حسبك الله أن تتوكل عليه والمؤمنون أن تقاتل بهم. قال الكلبي: نزلت هذه الآية بالبيداء من غزوة بدر قبل القتال.(2/331)
قوله عز وجل {يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرَّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُواْ أَلفاً} يعين يقاتلوا ألفاً قال مجاهد: وهذا يوم بدر جعل على كل رجل من المسلمين قتال عشرة من المشركين فشق ذلك عليهم فنسخ بقوله تعالى: {الأَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُم} . وقال ابن بحر: معناه أن الله تعالى ينصر كل رجل من المسلمين على عشرة من المشركين , وقد مضى تفسير هاتين الآيتين من قبل.(2/332)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
{ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم} قوله عز وجل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} وهذا نزل في أسرى بدر حين استقر رأي النبي صلى الله عليه وسلم فيهم بعد مشاورة أصحابه على الفداء بالمال , كل أسير بأربعة آلاف درهم , فأنكر الله تعالى ذلك عليه وأنه ما كان له أن يفادي الأسرى. {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ} فيه وجهان: أحدهما هو الغلبة والاستيلاء , قاله السدي. والثاني: هو كثرة القتل ليُعزَّ به المسلمون ويذل به المشركين. قاله مجاهد. {يُرِيدُونَ عَرَضَ الْدُّنْيَا} يعني المال , سماه عرضاً لقلة بقائه. {وَاللَّهُ يُرِيدُ الأَخِرَةَ} يعني العمل بما يوجب ثواب الآخرة. {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يعني ما أخذتموه من المال في فداء أسرى بدر. وفي قوله {لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} أربعة أقاويل: أحدها: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر أن يعذبهم لمسهم فيما أخذوه من فداء أسرى بدر عذاب عظيم , قاله مجاهد وسعيد بن جبير.(2/332)
والثاني: لولا كتاب من الله سبق في أنه سيحل لكم الغنائم لمسكم في تعجلها من أهل بدر عذاب عظيم , قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وعبيدة. والثالث: لولا كتاب من الله سبق أن لا يؤاخذ أحداً بعمل أتاه على جهالة لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم , قاله ابن اسحاق. والرابع: لولا كتاب من الله سبق وهو القرآن الذي آمنتم به المقتضي غفران الصغائر لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم شاور أبا بكر وعمر في أسرى بدر فقال أبو بكر: هم قومك وعشيرتك فاستبقهم لعل الله أن يهديهم , وقال عمر: هم أعداء الله وأعداء رسوله كذبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم , فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم , بعد انصرافه عنهم إلى قول أبي بكر وأخذ فدء الأسرى ليتقوى به المسلمون , وقال: (أَنتُم عَالَةٌ بعيني المُهَاجِرِينَ) فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَو عُذِّبْنَا فِي هَذَا الأمْرِ يَا عُمَرُ لَمَا نَجَا غَيْرُكَ) ثم إن الله تعالى بيَّن تحليل الغنائم والفداء بقوله {فَكُلُوْا مِمَّا غَنِمْتُمْ حََلاَلاً طَيِّباً} .(2/333)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
{يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم} قوله عز وجل {يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مَِّمَّآ أُخِذَ مِنْكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أحل مما أخذ منكم. الثاني: أكثر مما أخذ منكم. قيل إن هذه الآية نزلت لما أسر العباس بن عبد المطلب مع أسرى بدر وأخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء نفسه وابني أخويه عقيل ونوفل فقال: يا رسول الله كنت(2/333)
مسلماً وأخرجت مكرهاً ولقد تركتني فقيراً أتكفف الناس. قال: (فَأَيْنَ الأَمْوَالُ الَّتِي دَفَعْتَهَا إِلَى أُمِّ الْفَضْلِ عِنْدَ خُرُوجِكَ) فقال: إن الله لزيدنا ثقة بنبوتك. قال العباس. فصدق الله وعده فيما آتاني وإن لي لعشرين مملوكاً كل مملوك يضرب بعشرين الفاً في التجارة فقد أعطاني الله عز وجل خيراً مما أخذ مني يوم بدر.(2/334)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
{إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير} قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ} يعني بالله. {وَهَاجَرُواْ} يعني هاجروا وتركوا ديارهم في طاعة الله. {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِم وَأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والمجاهدة بالمال: النفقة , والمجاهدة بالنفس القتال , وهؤلاء هم المهاجرون مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ثم قال {وَالَّذِينَءَاوَواْ وَنَصَرُواْ} يعني الأنصار الذين آووا المهاجرين في منازلهم ونصروا النبي صلى الله عليه وسلم ونصروهم. {أَوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} فيه تأويلان: أحدهما: أولئك بعضهم أعوان بعض , قاله الجمهور. والثاني: أولئك بعضهم أولى بميراث بعض. قال ابن عباس: جعل الله تعالى الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام. ثم قال تعالى {وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ} يعني ما لكم من ميراثهم من شيء حتى يهاجروا فكانوا يعلمون ذلك حتى أنزل الله تعالى {وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كَتَابِ اللَّهِ} يعني في الميراث فنسخت التي قبلها وصار التوارث لذوي الأرحام , قاله مجاهد وعكرمة والحسن والسدي.(2/334)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
{والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم} قوله عز وجل {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} فيه وجهان: أحدهما: بعضهم أنصار بعض , قاله قتادة وابن إسحاق. والثاني: بعضهم وارث بعض , قاله ابن عباس وأبو مالك. {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ ... } فيه تأويلان: أحدهما: إلاَّ تناصروا أيها المؤمنون {تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ} يعني بغلبة الكفار. {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} بضعف الإيمان , قاله ابن اسحاق وابن جرير. والثاني: إلاّ تتوارثوا بالإسلام والهجرة {تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ} باختلاف الكلمة. {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} بتقوية الخارج على الجماعة , قاله ابن عباس وابن زيد والله أعلم. {وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقَّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) والَّذِينَءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَبِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (75) }(2/335)
سورة التوبة(2/336)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
{براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين} قوله عز وجل {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} في ترك افتتاح هذه السورة ب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قولان: أحدهما: أنها والأنفال كالسورة الواحدة في المقصود لأن الأولى في ذكر العهود , والثانية في رفع العهود , وهذا قول أُبي بن كعب قال ابن عباس: وكانتا تدعيان القرينتين , ولذلك وضعتا في السبع الطول. وحكاه عن عثمان بن عفان.(2/336)
الثاني: أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أمان , وبراءة نزلت برفع الأمان , وهذا قول ابن عباس , ونزلت سنة تسع فأنفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليقرأها في الموسم بعد توجه أبي بكر رضي الله عنه إلى الحج , وكان أبو بكر صاحب الموسم , وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يُبِلِّغُ عَنِّي إِلاَّ رَجُلٌ مِنِّي) حكى ذلك الحسن وقتادة ومجاهد. وحكى الكلبي أن الذي أنفذه رسول الله صلى لله عليه وسلم من سورة التوبة عشر آيات من أولها. حكى مقاتل أنها تسع آيات تقرأ في الموسم , فقرأها علي رضي الله عنه في يوم النحر على جمرة العقبة. وفي قوله تعالى {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وجهان: أحدهما: أنها انقطاع العصمة منهما. والثاني: أنها انقضاء عهدهما. ثم قال تعالى {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} وهذا أمان. وفي قوله {فَسِيُحواْ فِي الأَرْضِ} وجهان: أحدهما: انصرفوا فيها إلى معايشكم. والثاني: سافروا فيها حيث أردتم. وفي السياحة وجهان: أحدهما: أنها السير على مهل. والثاني: أنها البعد على وجل. واختلفوا فيمن جعل له أمان هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقاويل: أحدها: أن الله تعالى جعلها أجلاً لمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنه أقل من أربعة أشهر ولمن كان أجل أمانه غير محدود ثم هو بعد الأربعة حرب , فأما من لا أمان له فهو حرب , قاله ابن إٍسحاق.(2/337)
والثاني: أن الأربعة الأشهر أمان أصحاب العهد من كان عهده أكثر منها حط إليها , ومن كان عهده أقل منها إليها , ومن لم يكن له من رسول الله عهد جعل له أمان خمسين ليلة من يوم النحر إلى سلخ المحرم لقوله تعالى {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} قاله ابن عباس والضحاك وقتادة. والثالث: أن الأربعة الأشهر عهد المشركين كافة , المعاهد منهم وغير المعاهد , قاله الزهري ومحمد بن كعب ومجاهد. والرابع: أن الأربعة ألاشهر عهد وأمان لمن لم يكن له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ولا أمان , أما أصحاب العهود فهم على عهودهم إلى انقضاء مددهم , قاله الكلبي. واختلفوا في أول مَدَى الأربعة الأشهر على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن أولها يوم يوم الحج الأكبر وهو يوم النحر , وآخرها انقضاء العاشر من شهر ربيع الآخر , قاله محمد بن كعب ومجاهد والسدي. والثاني: أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم , قاله الزهري. والثالث: أن أولها يوم العشرين من ذي القعدة , وآخرها يوم العشرين من شهر ربيع الأول , لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك اليوم ثم صار في السنة الثانية في العشر من ذي الحجة وفيها حجة الوداع , لأجل ما كانوا عليه في الجاهلية من النسىء , فأقره النبي صلى الله عليه وسلم فيه حتى نزل تحريم النسىء وقال: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ} أي لا تعجزونه هرباً ولا تفوتونه طلباً. {وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الكَافِرِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالسيف لمن حارب والجزية لمن استأمن. والثاني: في الآخرة بالنار.(2/338)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
{وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير(2/338)
معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} قوله عز وجل {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} في الأذان ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه القصص , وهذا قول تفرد به سليمان بن موسى النشابي. والثاني: أنه النداء بالأمر الذي يسمع بالأذن , حكاه علي بن عيسى. الثالث: أنه الإعلام , وهذا قول الكافة. وفي {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه يوم عرفة , قاله عمر بن الخطاب وابن المسيب وعطاء. وروى ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة وقال: (هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ) والثاني: أنه يوم النحر , قاله عبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبه وسعيد بن جبير والشعبي والنخعي. وروي مرة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: خطبنا رسول الله صلى عليه وسلم على ناقته الحمراء وقال (أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا؟ يَوْمُ النَّحْرِ وَهَذَا يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ) . والثالث: أنها أيام الحج كلها , فعبر عن الأيام باليوم , قاله مجاهد وسفيان , قال سفيان: كما يقال يوم الجمل ويوم صفين , أي أيامه كلها. أحدها: أنه سمي بذلك لأنه كان في سنة اجتمع فيها حج المسلمين والمشركين , ووافق أيضاً عيد اليهود والنصارى , قاله الحسن. والثاني: أن الحج الأكبر القِران , والأصغر الإفراد , قاله مجاهد. والثالث: أن الحج الأكبر هو الحج , والأصغر هو العمرة , قاله عطاء والشعبي.(2/339)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم} قوله عز وجل {فَإِذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} الآية. في الأشهر الحرم قولان: أحدهما: أنها رجب وذو العقدة وذو الحجة والمحرم , ثلاثة سرد وواحد فرد , وهذا رأي الجمهور. والثاني: أنها الأربعة الأشهر التي جعلها الله تعالى أن يسيحوا فيها آمنين وهي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع عشر من شهر ربيع الآخر , قاله الحسن. {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} فيه قولان: أحدهما: في حل أو حرم. والثاني: في الأشهر الحرم وفي غيرها. والقتل وإن كان بلفظ الأمر فهو على وجه التخيير لوروده بعد حظر اعتباراً بالأصلح. {وَخُذُوهُم} فيه وجهان: أحدهما: على التقديم والتأخير , وتقديره فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم. والثاني: أنه على سياقه من غير تقديم ولا تأخير , وتقديره: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم. {وَاحْصُرُوهُم} على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الأمرين. وفي قوله {وَاحْصُرُوهُم} وجهان: أحدهما: أنه استرقاقهم. والثاني: أنه الفداء بمال أو شراء.(2/340)
{وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن يطلبوا في كل مكان فيكون القتل إذا وجدوا , والطلب إذا بعدوا. والثاني: أن يفعل بهم كل ما أرصده الله تعالى لهم فيما حكم به تعالى عليهم من قتل أو استرقاق أو مفاداة أو منٍّ ليعتبر فيها فعل الأَصلح منها. ثم قال تعالى {فَإِن تَابُواْ} أي أسلموا , لأن التوبة من الكفر تكون بالإسلام. {وَأَقَامُواْ الْصَلاَةَ} فيه وجهان: أحدهما: أي اعترفوا بإقامتها , وهو مقتضى قول أبي حنيفة , لأنه لا يقتل تارك الصلاة إذا اعترف بها. الثاني: أنه أراد فعل الصلاة , وهو مقتضى قول مالك والشافعي , لأنهما يقتلان تارك الصلاة وإن اعترف بها. {وَءَاتُوا الزَّكَاةَ} يعني اعترفوا بها على الوجهين معاً , لأن تارك الزكاة لا يقتل مع الاعتراف بها وتؤخذ من ماله جبراً , وهذا إجماع.(2/341)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} قوله عز وجل {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ... } الآية: وفي كلام الله وجهان أي إن استأمنك فأمِّنه. أحدهما: أنه عني سورة براءة خاصة ليعلم ما فيها من حكم المقيم على العهد. وحكم الناقض له والسيرة في المشركين والفرق بينهم وبين المنافقين. الثاني: يعني القرآن كله , ليهتدي به من ضلاله ويرجع به عن كفره. {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} يعني إن أقام على الشرك وانقضت مدة الأمان. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: الرشد من الغيّ. والثاني: استباحة رقابهم عند انقضاء مدة أمانهم.(2/341)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
{كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين} قوله عز وجل {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِيْنَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ ... } الآية. يحتمل وجهين: أحدهما: إذا لم يعطوا أماناً. الثاني: إذا غدروا وقاتلوا. وفي قوله {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أربعة أقاويل: أحدها: أنهم قوم من بني بكر بن كنانة , قاله ابن إٍسحاق. والثاني: أنهم قريش , وهو قول ابن عباس. والثالث: خزاعة , قاله مجاهد. والرابع: بنو ضمرة , قاله الكلبي. {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} يعني فما أقاموا على الوفاء بالعهد فأقيموا عليه , فدل على أنهم إذا نقضوا العهد سقط أمانهم وحلّت دماؤهم.(2/342)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
{كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون} قوله عز وجل {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} يعني يقووا حتى يقدروا على الظفر بكم. وفي الكلام محذوف وتقديره: كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم. {لاَ يرْقُبُوْ فِيكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لا يخافوا: قاله السدي. الثاني: لا يراعوا.(2/342)
{إِلأَ وَلاَ ذِمَّةً} وفي الإلّ سبعة تأويلات. أحدها: أنه العهد , وهوقول ابن زيد. والثاني: أنه اسم الله تعالى , قاله مجاهد , ويكون معناه لا يرقبون الله فيكم. والثالث: أنه الحلف , وهو قول قتادة. والرابع: أن الإل اليمين , والذمة العهد , قاله أبو عبيدة , ومنه قول ابن مقبل:
(أفسد الناس خلوف خلفوا ... قطعوا الإلَّ وأعراق الرَّحِم)
والخامس: أنه الجوار , قاله الحسن. والسادس: أنه القرابة , قاله ابن عباس والسدي , ومنه قول حسان:
(وأُقسم إن إلَّك من قريش ... كإل السّقْبِ من رَأل النعام)
والسابع: أن الإل العهد والعقد والميثاق واليمين , وأن الذمة في هذا الموضع التذمم ممن لا عهد له , قاله بعض البصريين. {وَلاَ ذِمَّةً} فيها ثلاثة أوجه: أحدها: الجوار , قاله ابن بحر. الثاني: أنه التذمم ممن لا عهد له , قاله بعض البصريين. والثالث: أنه العهد وهو قول أبي عبيدة. {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: يرضونك بأفواههم في الوفاء وتأبى قلوبهم إلا الغدر. والثاني: يرضونكم بأفواههم في الطاعة وتأبى قلوبهم إلا المعصية. والثالث: يرضونكم بأفواهم في الوعد بالإيمان وتأبى قلوبهم إلا الشرك , لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرضيه من المشركين إلا بالإيمان. {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} فيه وجهان: أحدهما: في نقض العهد وإن كان جميعهم بالشرك فاسقاً.(2/343)
والثاني: وأكثرهم فاسق في دينه وإن كان كل دينهم فسقاً.(2/344)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
{اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون} قوله عز وجل {اشْتَرَواْ بَئَايَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} في آيات الله تعالى ها هنا وجهان: أحدهما: حججه ودلائله. والثاني: آيات الله التوراة التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثمن القليل: ما جعلوه من ذلك بدلاً. وفي صفته بالقليل وجهان: أحدهما: لأنه حرام , والحرام قليل. والثاني: لأنها من عروض الدنيا التي بقاؤها قليل. وفيمن أريد بهذه الآية قولان: أحدهما: أنهم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه , وهذا قول مجاهد ومن زعم أن الآيات حجج الله تعالى. والثاني: أنهم قوم من اليهود دخلوا في العهد ثم رجعوا عنه وهذا قول من زعم أنها آيات التوراة. {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: عن دين الله تعالى في المنع منه. والثاني: عن طاعة الله في الوفاء بالعهد. والثالث: عن قصد بيت الله حين أحصر بالحديبيّة.(2/344)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
{وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون}(2/344)
قوله عز وجل {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي نقضوا عهدهم الذي عقدوه بأيمانهم. {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: إظهار الذم له. والثاني: إظهار الفساد فيه. {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم رؤساء المشركين. والثاني: أنهم زعماء قريش , قاله ابن عباس. والثالث: أنهم الذين كانوا قد هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله قتادة. {إِنَّهُم لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} قراءة الجمهور بفتح الألف , من اليمين لنقضهم إياها. وقرأ ابن عامر: {إِنَّهُم لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} بكسر الألف , وهي قراءة الحسن. وفيها إذا كسرت وجهان: أحدهما: أنهم كفرة لا إيمان لهم. والثاني: أنهم لا يعطون أماناً.(2/345)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
{ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله(2/345)
عليم حكيم أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون} قوله عز وجل: { ... وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الخيانة , قاله قتادة. والثاني: أنهم البطانة , قاله قطرب ومقاتل , ومنه قول الشاعر:
(وجعلت قومك دون ذاك وليجة ... ساقوا إليك الخير غير مشوب)
والثالث: أنه الدخول في ولاية المشركين , من قولهم ولج فلان في كذا إذا دخل فيه قال طرفة بن العبد:
(رأيت القوافي يتلجن موالجاً ... تضايق عنها أن تولجها الإبر)(2/346)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
{ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} قوله عز وجل {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ} يعني المسجد الحرام. وفيه وجهان: أحدهما: ما كان لهم أن يعمروها بالكفر لأن مساجد الله تعالى تعمر بالإيمان. والثاني: ما كان لهم أن يعمروه بالزيارة له والدخول إليه. {شَاهِدِينَ عَلَى أنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن فيما يقولونه أو يفعلونه دليل على كفرهم كما يدل عليه إقرارهم،(2/346)
فكأن ذلك منهم هو شهادتهم على أنفسهم , قاله الحسن. والثاني: يعني شاهدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر لأنهم كذبوه وأكفروه وهو من أنفسهم , قاله الكلبي. والثالث: أن النصراني إذا سئل ما أنت؟ قال: نصراني , واليهودي إذا سئل قال: يهودي , وعابد الوثن يقول: مشرك , وكان هؤلاء كفار وإن لم يقروا بالكفر , قاله السدي. ثم قال تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ} في هذه المساجد قولان: أحدهما: أنها مواضع السجود من المصلى , فعلى هذا عمارتها تحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: بالمحافظة على إقامة الصلاة. والثاني: بترك الرياء. والثالث: بالخشوع والإعراض عما ينهى. والقول الثاني: أنها بيوت الله تعالى المتخذة لإقامة الصلوات , فعلى هذا عمارتها تحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: إنما يعمرها بالإيمان من آمن بالله تعالى. والثاني: إنما يعمرها بالزيارة لها والصلاة فيها من آمن بالله تعالى. والثالث: إنما يرغب في عمارة بنائها من آمن بالله تعالى. {وَالْيَوْمِ الأَخِرِ وَأَقَامَ الْصَّلاَةَ وَءَاتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِن الْمُهْتَدِينَ} فيه وجهان:(2/347)
أحدهما: أنه قال ذلك لهم تحذيراً من فعل ما يخالف هدايتهم. والثاني: أن كل {عَسَى} من الله واجبة وإن كانت من غيره ترجياً , قاله ابن عباس والسدي.(2/348)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم} قوله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني بعمارته السدانة والقيام به. {كَمَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الأخِر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ} لأن قريشاً فضلت ذلك على الإيمان بالله , فرد الله تعالى عليهم وأعلمهم أنهما لا يستويان , وأن ذلك مع الكفر محبط. وحكى مقاتل أن هذا الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب , وهو صاحب السقاية , وفي شيبة بن عثمان وهو صاحب السدانة وحاجب الكعبة أُسرا يوم بدر فعيرا بالمقام على الكفر بمكة وأغلظ لهما المهاجرون , فقالا نحن أفضل منكم أجراً نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج فنزل هذا فيهم.(2/348)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم(2/348)
من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} قوله عز وجل {قُلْ إِن كَانَءَآبَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} يعني اكتسبتموها. {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} فيها وجهان: أحدهما: أنها أموال التجارات إذا نقص سعرها وكسد سوقها. والثاني: أنهن البنات الأيامى إذا كسدن عند آبائهن ولم يخطبن. {وَمَسَاكِنَ تَرْضَونَهَا} وهذا نزل في قوم أسلموا بمكة فأقاموا بها ولم يهاجروا إِشفاقاً على فراق ما ذكره الله تعالى ميلاً إليه وحبّاً له فذمهم الله تعالى على ذلك وقال: { ... فَتَربَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه فتح مكة , قاله مجاهد. والثاني: حتى يأتي الله بأمره من عقوبة عاجلة أو آجلة , قاله الحسن.(2/349)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
{لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم} قوله عز وجل {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ. .} الآية , وفي السكينة ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الرحمة , قاله علي بن عيسى. والثاني: أنها الأمن والطمأنينة. والثالث: أنها الوقار , قاله الحسن.(2/349)
{وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} فيه وجهان: أحدهما: الملائكة. والثاني: أنه تكثيرهم في أعين أعدائهم , وهو محتمل. {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فيه وجهان: أحدهما: بالخوف والحذر. والثاني: بالقتل والسبي.(2/350)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
{يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} قوله عز وجل {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخرِ} فإن قيل: فأهل الكتاب قد آمنوا بالله واليوم الآخر فكيف قال ذلك فيهم ,؟ ففيه جوابان: أحدهما: أن إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بجميع حقوقه , فكانوا بترك الإقرار بحقوقه كمن لا يقرّ به. والثاني: أنه ذمّهم ذم من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر للكفر بنعمته , وهم في الذم بالكفر كغيرهم. {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} فيه وجهان: أحدهما: أنه ما أمر الله سبحانه وتعالى بنسخه من شرائعهم. والثاني: ما أحله لهم وحرمه عليهم. {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ} والحق هنا هو الله تعالى , وفي المراد بدينه في هذا الموضع وجهان:(2/350)
أحدهما: العمل بما في التوراة من اتباع الرسول , قاله الكلبي. والثاني: الدخول في دين الإسلام لأنه ناسخ لما سواه من الأديان , وهو قول الجمهور. {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني من آباء الذين أوتوا الكتاب. الثاني: من الذين أوتوا الكتاب بين أظهرهم لأنه في اتباعه كآبائهم. {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} فيه تأويلان: أحدهما: حتى يضمنوا الجزية وهو قول الشافعي لأنه يرى أن الجزية تجب انقضاء الحول وتؤخذ معه. والثاني: حتى يدفعوا الجزية. وفي الجزية وجهان: أحدهما: أنها من الأسماء المجملة لا يوفق على علمها إلا بالبيان. والثاني: أنها من الأسماء العامة التي يجب إجراؤها على عمومها إلا ما خص بالدليل. ثم قال تعالى {عَن يَدٍ} وفيه أربعة تأويلات: أحدها: عن غنى وقدرة. والثاني: أنها من عطاء لا يقابله جزاء , قاله أبو عبيدة. والثالث: أن يروا أن لنا في أخذها منهم يداً عليهم بحقن دمائهم بها. والرابع: يؤدونها بأيديهم ولا ينفذونها مع رسلهم كما يفعله المتكبرون. {وَهُمْ صَاغِرُونَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن يكونوا قياماً والآخذ لها جالساً , قاله عكرمة. والثاني: أن يمشوا بها وهم كارهون , قاله ابن عباس. والثالث: أن يكونوا أذلاء مقهورين , قاله الطبري.(2/351)
والرابع: أن دفعها هو الصَّغار بعينه. والخامس: أن الصغار أن تجري عليهم أحكام الإسلام , قاله الشافعي.(2/352)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
{وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} قوله عز وجل {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيرٌ ابْنُ اللَّهِ} الآية. أما قول اليهود ذلك فسببه أن بختنصر لما أخرب بيت المقدس أحرق التوراة حتى لم يبق بأيديهم شيء منها , ولم يكونوا يحفظونها بقلوبهم , فحزنوا لفقدها وسألوا الله تعالى ردها عليهم , فقذفها الله في قلب عزير , فحفظها وقرأها عليهم فعرفوها فلأجل ذلك قالوا إنه ابن الله. واختلف فيمن قال ذلك على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن ذلك كان قول جميعهم , وهو مروي عن ابن عباس.(2/352)
والثاني: أنه قول طائفة من سلفهم. والثالث: أنه قول جماعة ممن كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلف فيهم على قولين: أحدهما: أنه فنحاص وحده , ذكر ذلك عبيد بن عمير وابن جريج. والثاني: أنهم جماعة وهم سلام ابن مشكم ونعمان بن أبي أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف , وهذا مروي عن ابن عباس. فإن قيل: فإذا كان ذلك قول بعضهم فلم أضيف إلى جميعهم؟ قيل: لأن من لم يقله عند نزول القرآن لم ينكره , فلذلك أضيف إليهم إضافة جمع وإن تلفظ به بعضهم. {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وهذا قول جميعهم , واختلف في سبب قولهم لذلك على قولين: أحدهما: أنه لما خلق من غير ذكر من البشر قالوا إنه ابن الله , تعالى الله عن ذلك. الثاني: أنهم قالوا ذلك لأجل من أحياه من الموتى وأبرأه من المرضى. {ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ} معنى ذلك: وإن كانت الأقوال كلها من الأفواه: أنه لا يقترن به دليل ولا يعضده برهان , فصار قولاً لا يتجاوز الفم فلذلك خص به. {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ من قبلُ} أي يشابهون , مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء إذا لم تحض تشبيهاً بالرجال ومنه ما جاء في الحديث: (أَجرَأُ النَّاسِ عَلى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ خَلْقَهُ) أي يشبهون به. وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أن قولهم ذلك يضاهي قول عبدة الأوثان في اللات والعزى ومناة وأن الملائكة بنات الله , قاله ابن عباس وقتادة. والثاني: أن قول النصارى المسيح ابن الله يضاهي قول اليهود عزير ابن الله , قاله الطبري. والثالث: أنهم في تقليد أسلافهم يضاهون قول من تقدمهم , قاله الزجاج. {قَاتََلَهُمُ اللَّهُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه لعنهم الله , قاله ابن عباس ومنه قول عبيد بن الأبرص:(2/353)
(قاتلها الله تلحاني وقد علمت ... أني لنفسي إفسادي وإصلاحي)
والثاني: معناه قتلهم الله , قاله بعض أهل العربية. والثالث: أن الله تعالى فيما أعده لعذابهم وبينه من عداوتهم التي هي في مقابلة عصيانهم وكفرهم كأنه مقاتل لهم. {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} معناه كيف يُصرفون عن الحق إلى الإفك وهو الكذب. قوله عز وجل {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} أما الأحبار منهم العلماء , واحدهم حَبْر سمي بذلك لأنه يحبر المعاني أي يحسنها بالبيان عنها. وأما الرهبان فجمع راهب , مأخوذ من رهبة الله تعالى وخشيته , غير أنه صار بكثرة الاستعمال يتناول نُسّاك النصارى. وقوله {أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} يعني آلهة لقبولهم منهم تحريم ما يحرمونه عليهم وتحليل ما يحلونه لهم , فلذلك صاروا لهم كالأرباب وإن لم يقولوا إنهم أرباب , وقد روي مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.(2/354)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
{يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} قوله عز وجل {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} وفي نوره قولان: أحدهما: أنه القرآن والإسلام , قاله الحسن وقتادة. والثاني: أنه آياته ودلائله لأنه يهتدى بها كما يهتدى بالأنوار. وإنما خص ذلك بأفواههم لما ذكرنا أنه ليس يقترن بقولهم دليل. {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} وليس يريد تمامه من نقصان لأن نوره لم يزل تاماً. ويحتمل المراد به وجهين: أحدهما: إظهار دلائله. والثاني: معونة أنصاره. قوله عز وجل {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى خلقه بالهدى ودين الحق. وفيها أربعة تأويلات: أحدها: أن الهدى البيان , ودين الحق الإسلام , قاله الضحاك. والثاني: أن الهدى الدليل , ودين الحق المدلول عليه. والثالث: معناه بالهدى إلى دين الحق. والرابع: أن معناهما واحد وإنما جمع بينهما تأكيداً لتغاير اللفظين. {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} فيه ستة تأويلات: أحدها: يعني عند نزول عيسى عليه السلام فإنه لا يعبد الله تعالى إلاّ بالإٍسلام , قاله أبو هريرة.(2/355)
والثاني: معناه أن يعلمه شرائع الدين كله ويطلعه عليه , قاله ابن عباس. والثالث: ليظهر دلائله وحججه , وقد فعل الله تعالى ذلك , وهذا قول كثير من العلماء. والرابع: ليظهره برغم المشركين من أهله. والخامس: أنه وارد على سبب , وهو أنه كان لقريش رحلتان رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن والعراق فلما أسلموا انقطعت عنهم الرحلتان للمباينة في الدين فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى عليه: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} يعني في بلاد الرحلتين وقد أظهره الله تعالى فيهما. والسادس: أن الظهور الاستعلاء , ودين الإسلام أعلى الأديان كلها وأكثرها أهلاً , قد نصره الله بالبر والفاجر والمسلم والكافر , فروى الربيع بن أنس عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهِ يُؤَيِّدُ بِأَقْوَامٍ مَا لَهُم فِي الأَخِرَةِ مِن خَلاَقٍ) .(2/356)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
{يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون(2/356)
الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} قوله عز وجل {يَآ أَيُّهَا الَّذِِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُون أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} الآية: في قولان: أحدهما: أنه أخذ الرشا في الحكم , قاله الحسن. والثاني: أنه على العموم من أخذه بكل وجه محرم. وإنما عبر عن الأخذ بالأكل لأن ما يأخذونه من هذه الأموال هي أثمان ما يأكلون , وقد يطلق على أثمان المأكول اسم الأكل , كما قال الشاعر:
(ذر الآكلين الماء فما أرى ... ينالون خيراً بعد أكلهم الماء)
أي ثمن الماء. {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه منعهم من الحق في الحكم بقبول الرشا. والثاني: أنه منعهم أهل دينهم من الدخول في الإسلام بإدخال الشبهة عليهم. {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وفي هذا الكنز المستحق عليه هذا الوعيد ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الكنز كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤدَّ زكاته , سواء كان مدفوناً أو غير مدفون , قاله ابن عمر والسدي والشافعي والطبري. والثاني: أن الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم , أديت منه الزكاة أم لم تؤد ,(2/357)
قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقد قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة , وما فوقها كنز. والثالث: أن الكنز ما فضل من المال عن الحاجة إليه , روى عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزل قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ... } الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تبّاً لِلذَهَبِ وَالْفِضَّةِ) قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال عمر ابن الخطاب: أنا أعلم لكم ذلك , فقال: يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال: (لِسَاناً ذَاكِراً وَقَلْباً شَاكِراً وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِه) . وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال: مات رجل من أهل الصفّة فوجد في مئزرة دينار , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كَيَّةٌ) ثم مات آخر فوجد في مئزره ديناران فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كَيَّتَانِ) والكنز في اللغة هو كل شيء مجموع بعضه إلى بعض سواء كان ظاهراً على الأرض أو مدفوناً فيها , ومنه كنز البُرّ , قال الشاعر:
(لا دَرَّ دري إن أطعمت نازلهم ... قِرف الحتى وعندي البُرّ مكنوز)
الحتى: سَويق المقل. يعني وعندي البُرّ مجموع. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} فذكر جنسين ثم قال {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} والهاء كناية ترجع إلى جنس واحد , ولم يقل: وَلاَ يُنفِقُونَهَما لترجع الكناية إليهما.(2/358)
فعن ذلك جوابان: أحدهما: أن الكناية راجعة إلى الكنوز , وتقديره: ولا ينفقون الكنوز في سبيل الله. والثاني: أنه قال ذلك اكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر لدلالة الكلام على اشتراكهما فيه , كما قال تعالى {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} [الجمعة: 11] ولم يقل إليهما , وكقول الشاعر:
89 (إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يُعاص كان جنوناً} 9
ولم يقل يعاصيا. ثم إن الله تعالى غلَّظ حال الوعيد بما ذكره بعد هذا من قوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} وإنما غلظ بهذا الوعيد لما في طباع النفوس من الشح بالأموال ليسهل لهم تغليظ الوعيد إخراجها في الحقوق.(2/359)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
{إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين} قوله عز وجل {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شهْراً} يعني شهور السنة , وإنما كانت اثني عشر شهراً لموافقة الأهلة ولنزول الشمس والقمر في اثني عشر برجاً يجريان فيها على حساب متفق كما قال الله تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] . { ... مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} يعني أن من الاثني عشر شهراً أربعة حرم , يعني(2/359)
بالحرم تعظيم انتهاك المحارم فيها , وهو ما رواه صدقة بن يسار عن ابن عمر قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في وسط أيام التشريق فقال: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ فَهُوَ اليَومُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهراً مِنهَا أَرْبَعَةٌ حَرُمٌ , أَوّلُهُنَّ رَجَبُ مُضَرَ بيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ) . {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} فيه وجهان: أحدهما: أي ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوفي , قاله ابن قتيبة. والثاني: يعني القضاء الحق المستقيم , قاله الكلبي. {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: فلا تظلموها بمعاصي الله تعالى في الشهور الاثني عشر كلها , قاله ابن عباس. والثاني: فلا تظلموها بمعاصي الله في الأربعة الأشهر , قاله قتادة. والثالث: فلا تظلموا أنفسكم في الأربعة الأشهر الحرم بإحلالها بعد تحريم الله تعالى لها , قاله الحسن وابن إسحاق. والرابع: فلا تظلموا فيها أنفسكم أي تتركوا فيها قتال عدوكم , قاله ابن بحر. فإن قيل: فلم جعل بعض الشهور أعظم حرمة من بعض؟ قيل: ليكون كفهم فيها عن المعاصي ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها توطئة للنفس على فراقها مصلحة منه في عباده ولطفاً بهم.(2/360)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
{إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين}(2/360)
قوله عز وجل {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ... } أما النسيء في الأشهر فهو تأخيرها , مأخوذ من بيع النسيئة , ومنه قوله تعالى {مَا نَنسَخُ مِنْءَايَةٍ أَوْنُنسِهَا} أي نؤخرها. وفي نَسْء الأشهر قولان. أحدهما: أنهم كانوا يؤخرون السنة أحد عشر يوماً حتى يجعلوا المحرم صفراً , قاله ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا يؤخرون الحج في كل سنتين شهراً. قال مجاهد: فحج المسلمون في ذي الحجة عامين , ثم حجوا في المحرم عامين: ثم حجوا في صفر عامين , ثم في ذي القعدة عامين الثاني منهما حجة أبي بكر قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة فذلك حين يقول: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) وكان المنادى بالنسيء في الموسم: من بني كنانة على ما حكاه أبو عبيدة , وقال شاعرهم عمير بن قيس:
(ألسنا الناسئين على مَعَدٍّ ... شهور الحل نجعلُها حَراماً)
واختلف في أول من نسأ الشهور منهم , فقال الزبير بن بكار: أول من نسأ الشهور نعيم بن ثعلبة بن الحارث ابن مالك بن كنانة. وقال أيوب بن عمر الغفاري: أول من نسأ الشهور القَلمّس الأكبر وهو عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة , وآخر من نسأ الشهور أبو ثمامة جنادة بن عوف إلى أن نزل هذا التحريم سنة عشر وكان ينادي إني أنسأ الشهور في كل عام , ألا أن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب , فحرم الله سبحانه بهذه الآية النسيء وجعله زيادة في الكفر.(2/361)
ثم قال تعالى { ... لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي ليوافقوا فحرموا أربعة أشهر كما حرم الله تعالى أربعة أشهر. {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن الله تعالى زينها بالشهرة لها والعلامة المميزة بها لتجتنب. الثاني: أن أنفسهم والشيطان زين لهم ذلك بالتحسين والترغيب ليواقعوها , وهو معنى قول الحسن. وفي {سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} ها هنا وجهان: أحدهما: أنه ما قدمه من إحلالهم ما حرم الله تعالى وتحريمهم ما أحله الله. الثاني: أنه الرياء , قاله جعفر بن محمد.(2/362)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلتُمْ إِلَى الأَرْضِ} قال الحسن ومجاهد: دُعوا إلى غزوة تبوك فتثاقلوا فنزل ذلك فيهم. وفي قوله {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} ثلاثة أوجه: أحدها: إلى الإقامة بأرضكم ووطنكم. والثاني: إلى الأرض حين أخرجت الثمر والزرع. قال مجاهد: دعوا إلى ذلك أيام إدراك النخل ومحبة القعود في الظل. الثالث: اطمأننتم إلى الدنيا , فسماها أرضاً لأنها فيها , وهذا قول الضحاك. وقد بينه قوله تعالى {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الأَخَرَةِ} يعني بمنافع الدنيا بدلاً من ثواب الآخرة.(2/362)
والفرق بين الرضا والإرادة أن الرضا لما مضى , والإرادة لما يأتي. {فَمَا مَتَاعُ الَْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الأخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} لانقطاع هذا ودوام ذاك. قوله عز وجل {إِلاَّ تَنفِرُواْ} يعني في الجهاد. {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} قال ابن عباس: احتباس القطر عنهم هو العذاب الأليم الذي أوعدتم ويحتمل أن يريد بالعذاب الأليم أن يظفر بهم أعداؤهم. {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} يعني ممن ينفر إذا دُعي ويجيب إذا أُمر. {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً} فيه وجهان: أحدهما: ولا تضروا الله بترك النفير , قاله الحسن. والثاني: ولا تضرّوا الرسول , لما تكفل الله تعالى به من نصرته , قاله الزجاج.(2/363)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
{إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} قوله تعالى {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} يعني إلا تنصروا أيها الناس النبي صلى الله عليه وسلم بالنفير معه وذلك حين استنفرهم إلى تبوك فتقاعدوا فقد نصره الله. {إِذْ أَخَرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني من مكة ولم يكن معه من يحامي عنه ويمنع منه إلا الله تعالى , ليعلمهم بذلك أن نصره نبيه ليس بهم فيضره انقطاعهم وقعودهم , وإنما هو من قبل الله تعالى فلم يضره قعودهم عنه. وفي قوله {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} وجهان: أحدهما: بإرشاده إلى الهجرة حتى أغناه عن معونتهم. والثاني: بما تكفل به من إمداده بملائكته.(2/363)
{ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي أحد اثنين , وللعرب في هذ مذهب أن تقول خامس خمسة أي أحد خمسة. {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر حين خرجا من مكة دخلا غاراً في جبل ثور ليخفيا على من خرج من قريش في طلبهم. والغار عمق في الجبل يدخل إليه. قال مجاهد: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار مع أبي بكر ثلاثاً. قال الحسن: جعل الله على باب الغار ثمامة وهي شجرة صغيرة , وقال غيره: ألهمت العنكبوت فنسجت على باب الغار. وذهب بعض المتعمقة في غوامض المعاني إلى أن قوله تعالى {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} أي في غيرة على ما كانوا يرونه من ظهور الكفر فغار على دين ربه. وهو خلاف ما عليه الجمهور. {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبهِ لاَ تَحْزَنْ} يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصاحبة أبي بكر (لا تَحْزَنْ) فاحتمل قوله ذلك له وجهين: أحدهما: أن يكون تبشيراً لأبي بكر بالنصر من غير أن يظهر منه حزن. والثاني: أن يكون قد ظهر منه حزن فقال له ذلك تخفيفاً وتسلية. وليس الحزن خوفاً وإنما هو تألم القلب بما تخيله من ضعف الدين بعد الرسول فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) أي ناصرنا على أعدائنا. { ... فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} فيها قولان: أحدهما: على النبي صلى الله عليه وسلم , قاله الزجاج. والثاني: على أبي بكر لأن الله قد أعلم نبيه بالنصر. وفي السكينة أربعة أقاويل: أحدها: أنها الرحمة , قاله ابن عباس. والثاني: أنها الطمأنينة , قاله الضحاك. والثالث: الوقار , قاله قتادة.(2/364)
والرابع: أنها شيء يسكن الله به قلوبهم , قاله الحسن وعطاء. {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} فيه وجهان: أحدهما: بالملائكة. والثاني: بالثقة بوعده واليقين بنصره. وفي تأييده وجهان: أحدهما: إخفاء أثره في الغار حين طلب. والثاني: المنع من التعرض له حين هاجر. {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْسُّفْلَى} يحتمل وجهين: أحدهما: بانقطاع الحجة. والثاني: جعل كلمة الذين كفروا السفلى بذُلّ الخوف , وكلمة الله هي العليا بعز الظفر.
{وَكَلِمَةُ اللهِ هيَ العُلْيَا} بظهور الحجة.(2/365)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
{انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} قوله عز وجل {انفِرُواْ خِفَافاً وثِقَالاً} فيه عشرة تأويلات: أحدها: يعني شباباً وشيوخاً , قاله الحسن وعكرمة ومجاهد. والثاني: في اليسر والعسر فقراء وأغنياء , قاله أبو صالح. والثالث: مشاغيل وغير مشاغيل , قاله الحكم. والرابع: نشاطاً وغير نشاط , قاله ابن عباس وقتادة. والخامس: ركباناً ومشاة , قاله أبو عمرو الأوزاعي. والسادس: ذا صنعة وغير ذي صنعة , قاله ابن زيد. والسابع: ذا عيال وغير ذي عيال , قاله زيد بن أسلم. والثامن: أصحاء وغير أصحاء ومرضى , قاله جويبر.(2/365)
والتاسع: على خفة البعير وثقله , قاله علي بن عيسى والطبري. والعاشر: خفافاً إلى الطاعة وثقالاً عن المخالفة. ويحتمل حادي عشر: خفافاً إلى المبارزة , وثقالاً في المصابرة. {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أما الجهاد بالنفس فمن فروض الكفايات إلا عند هجوم العدو فيصير متعيناً. وأما بالمال فبزاده وراحلته إذا قدر على الجهاد بنفسه , فإن عجز عنه بنفسه فقد ذهب قوم إلى أن بذل المال يلزم بدلاً عن نفسه. وقال جمهورهم: لا يجب لأن المال في الجهاد تبع النفس إلا سهم سبيل الله من الزكاة. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن الجهاد خير لكم من تركه إلى ما أبيح من القعود عنه. والثاني: معناه أن الخير في الجهاد لا في تركه. {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه وجهان: أحدهما: إن كنتم تعلمون صدق الله تعالى فيما وعد به من ثوابه وجنته. والثاني: إن كنتم تعلمون أن الخير في الجهاد. ويحتمل وجهاً ثالثاً: إن كنتم تعلمون أن لله تعالى يريد لكم الخير.(2/366)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
{لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون}(2/366)
قوله عز وجل {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} أي لو كان الذي دُعيتم إليه عرضاً قريباً. وفيه وجهان: أحدهما: يعني بالعرض ما يعرض من الأمور السهلة. والثاني: يعني الغنيمة. {وَسَفَراً قَاصِداً} أي سهلاً مقتصداً. {لاَّتَّبُعُوكَ} يعني في الخروج معك. {وَلَكِنْ بَعْدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} والشقة هي القطعة من الأرض التي يشق ركوبها على صاحبها لبعدها. {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: لو استطعنا فراق أوطاننا وترك ثمارنا. والثاني: لو استطعنا مالاً نستمده ونفقةً نخرج بها لخرجنا معكم في السفر الذي دعوا إليه فتأخروا عنه وهو غزوة تبوك. ثم جاءوا بعد ذلك يحلفون بما أخبر الله عنهم من أنهم لو استطاعوا لخرجوا تصديقاً لقوله تعالى وتصحيحاً لرسالة نبيه صلى الله عليه وسلم. {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: يهلكون أنفسهم باليمين الكاذبة. والثاني: يهلكون أنفسهم بالتأخر عن الإجابة.(2/367)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
{عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا(2/367)
فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين} قوله عز وجل {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} فيه وجهان: أحدهما: صدق العزم ونشاط النفس. والثاني: الزاد والراحلة في السفر , ونفقة الأهل في الحضر. {وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انْبَِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} وإنما كره انبعاثهم لوقوع الفشل بتخاذلهم كعبد الله بن أبي بن سلول , والجد بن قيس. {وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} فيه وجهان: أحدهما: مع القاعدين بغير عذر , قاله الكلبي. والثاني: مع القاعدين بعذر من النساء والصبيان , حكاه علي بن عيسى. وفي قائل ذلك قولان: أحدهما: أنه النبي صلى الله عليه وسلم , غضباً عليهم , لعلمه بذلك منهم. والثاني: أنه قول بعضهم لبعض. قوله عز وجل {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} يعني اضطراباً حكاه ابن عيسى. والثاني: فساداً , قاله ابن عباس. فإن قيل: فلم يكونوا في خبال فيزدادوا بهؤلاء الخارجين خبالاً. قيل هذا من الاستثناء المنقطع , وتقديره: ما زادوكم قوة , ولكن أوقعوا بينكم خبالاً. {وَلأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أما الإيضاع فهو إسراع السير , ومنه قول الراجز:
(يا ليتني فيها جذع ... أخُبّ فيها وأضَعْ)(2/368)
وأما الخلال فهو من تخلل الصفوف وهي الفُرَج تكون فيها , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تَرَاصُّوا فِي الصُّفُوفِ وَلاَ يَتَخَلَّلْكُمْ , كَأَولاَدِ الحذف يَعْنِي الشَّيَاطِينَ) والخلال هو الفساد , وفيه ها هنا وجهان: أحدهما: لأسرعوا في إفسادكم. والثاني: لأوضعوا الخلف بينكم. وفي الفتنة التي يبغونها وجهان: أحدهما: الكفر. والثاني: اختلاف الكلمة وتفريق الجماعة. {وَفِيكُمْ سّمَّاعُونَ لَهُمْ} وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم , قاله قتادة وابن إسحاق. والثاني: وفيكم عيون منكم ينقلون إلى المشركين أخباركم , قاله الحسن.(2/369)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
{لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون} قوله عز وجل {لَقَدْ ابْتَغَؤا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ} يعين إيقاع الخلاف وتفريق الكلمة. {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ} يحتمل أربعة أوجه: أحدها: معاونتهم في الظاهر وممالأة المشركين في الباطن. والثاني: قولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم. والثالث: توقع الدوائر وانتظار الفرص. والرابع: حلفهم بالله لو استطعنا لخرجنا معكم.(2/369)
{حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ} يعني النصر. {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} يعني الدين. {وَهُمْ كَارِهُونَ} يعني النصر وظهور الدين.(2/370)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
{ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} قوله عز وجل {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي} يعني في التأخر عن الجهاد. {وَلاَ تَفْتِنِّي} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا تكسبني الإثم بالعصيان في المخالفة , قاله الحسن وقتادة وأبو عبيدة والزجاج. والثاني: لا تصرفني عن شغلي , قاله ابن بحر. والثالث: أنها نزلت في الجد بن قيس قال: ائذن لي ولا تفتني ببنات بني الأصفر فإني مشتهر بالنساء , قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد. {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} فيها وجهان: أحدهما: في عذاب جهنم لقوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} والثاني: في محنة النفاق وفتنة الشقاق.(2/370)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
{إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} قوله عز وجل {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} يعني بالحسنة النصر. {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَآ أَمْرَنَا مِن قَبْلُ} أي أخذنا حذرنا فسلمنا. {وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} أي بمصيبتك وسلامتهم. قال الكلبي: عنى بالحسنة النصر يوم بدر , وبالمصيبة النكبة يوم أحد.(2/370)
قوله عز وجل {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} فيه وجهان: أحدهما: إلا ما كتب الله لنا في اللوح المحفوظ أنه يصيبنا من خير أو شر , لا أن ذلك بأفعالنا فنذمّ أو نحمد , وهو معنى قول الحسن. والثاني: إلا ما كتب الله لنا في عاقبة أمرنا أنه ينصرنا ويعز دينه بنا. {هُوَ مَوْلاَنَا} فيه وجهان: أحدهما: مالكنا. والثاني: حافظنا وناصرنا. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي على معونته وتدبيره.(2/371)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
{قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} قوله عز وجل {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} يعني النصر أو الشهادة وكلاهما حسنة لأن في النصر ظهور الدين , وفي الشهادة الجنة. {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: عذاب الاستئصال في الدنيا. والثاني: عقاب العصيان في الآخرة. {أَوْ بِأَيْدِينَا} يعني بقتل الكافر عند الظفر والمنافق مع الإذن فيه.(2/371)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
{فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ويحلفون بالله إنهم لمنكم(2/371)
وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون} قوله عز وجل {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُم وَلآ أَوْلاَدُهُمْ ... } فيه خمسة أقاويل: أحدها: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة , قاله ابن عباس وقتادة ويكون فيه تقديم وتأخير. والثاني: إنما يريد الله ليعذبهم بما فرضه من الزكاة في أموالهم , يعني المنافقين. وهذا قول الحسن. والثالث: ليعذبهم بمصائبهم في أموالهم أولادهم , قاله ابن زيد. والرابع: ليعذبهم ببني أولادهم وغنيمة أموالهم , يعني المشركين , قاله بعض المتأخرين. والخامس: يعذبهم بجمعها وحفظها وحبها والبخل بها والحزن عليها , وكل هذا عذاب. {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهمْ} أي تهلك بشدة , من قوله تعالى {وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإٍسراء: 81] . قوله عز وجل {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ ... } الآية , أما الملجأ ففيه أربعة أوجه: أحدها: أنه الحرز , قاله ابن عباس. والثاني: الحصن , قاله قتادة. والثالث: الموضع الحريز من الجبل , قاله الطبري. والرابع: المهرب , قاله السدي. ومعاني هذه كلها متقاربة. وأما المغارات ففيها وجهان:(2/372)
أحدهما: أنها الغيران في الجبال , قاله ابن عباس. والثاني: المدخل الساتر لمن دخل فيه , قاله علي بن عيسى. وأما المدَّخل ففيه وجهان: أحدهما: أنه السرب في الأرض , قاله الطبري. والثاني: أنه المدخل الضيق الذي يدخل فيه بشدة. {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} يعني هرباً من القتال وخذلاناً للمؤمنين. {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي يسرعون , قال مهلهل:
(لقد جمحت جماحاً في دمائهم ... حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا)(2/373)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
{ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} قوله عز وجل {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ... } الآية , فيه قولان: أحدهما: أنه ثعلبة بن حاطب كان يقول: إنما يعطي محمد من يشاء ويتكلم بالنفاق فإن أعطي رضي وإن منع سخط , فنزلت فيه الآية. الثاني: ما روى الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً إذ جاءه الخويصرة التميمي فقال: اعدْل يا رسول الله , فقال: (وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلْ إِن لَّمْ أَعْدِلْ) ؟ (فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه , فقال) دَعْهُ (. فأنزل الله تعالى {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية. وفي معنى يلمزك ثلاثة أوجه:(2/373)
أحدها: يروزك ويسألك , قاله مجاهد. والثاني: يغتابك , قاله ابن قتيبة. والثالث: يعيبك , قال رؤبة:
(قاربت بين عَنَقي وحجزي ... في ظل عصري باطلي ولمزي)(2/374)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
{إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} قوله عز وجل {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرآءِ وَالْمَسَاكِينِ} اختلف أهل العلم فيها على ستة أقاويل: أحدها: أن الفقير المحتاج المتعفف عن المسألة. والمسكين: المحتاج السائل , قاله ابن عباس والحسن وجابر وابن زيد والزهري ومجاهد وزيد. والثاني: أن الفقير هو ذو الزمانة من أهل الحاجة , والمسكين: هو الصحيح الجسم منهم , قاله قتادة. والثالث: أن الفقراء هم المهاجرون , والمساكين: غير المهاجرين , قاله الضحاك بن مزاحم وإبراهيم. والرابع: أن الفقير من المسلمين , والمسكين: من أهل الكتاب , قاله عكرمة. والخامس: أن الفقير الذي لا شيء له لأن الحاجة قد كسرت فقاره , والمسكين الذي له ما لا يكفيه لكن يسكن إليه , قاله الشافعي. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس المسكين الذي لا مال له ولكن(2/374)
المسكين الأخلق الكسب. قال ابن عليّة: الأخلق المحارف عندنا وقال الشاعر:
(لما رأى لُبَدُ النُّسور تطايرت ... رفع القوادم كالفقير الأعزل)
والسادس: أن الفقير الذي له ما لا يكفيه , والمسكين: الذي ليس له شيء يسكن إليه قاله أبو حنيفة. ثم قال {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وهم السعاة المختصون بجبايتها وتفريقها قال الشاعر:
(إن السُّعاة عصوك حين بعثتهم ... لم يفعلوا مما أمرت فتيلا)
وليس الإمام من العاملين عليها ولا والي الإقليم. وفي قدر نصيبهم منها قولان: أحدهما: الثمن , لأنهم أحد الأصناف الثمانية , قال مجاهد والضحاك. والثاني: قدر أجور أمثالهم , قاله عبد الله بن عمر. {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم قوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية , وهم صنفان: مسلمون ومشركون. فأما المسلمون فصنفان: صنف كانت نياتهم في الإسلام ضعيفة فتألفهم تقوية لنياتهم , كعقبة بن زيد وأبي سفيان بن حرب والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس. وصنف آخر منهم كانت نياتهم في الإسلام حسنة فأعطوا تألفاً لعشائرهم من المشركين مثل عدي بن حاتم. ويعطي كِلا الصنفين من سهم المؤلفة قلوبهم. وأما المشركون فصنفان: صنف يقصدون المسلمين بالأذى فيتألفهم دفعاً(2/375)
لأذاهم مثل عامر بن الطفيل , وصنف كان لهم ميل إلى الإسلام تألفهم بالعطية ليؤمنوا مثل صفوان بن أمية. وفي تألفهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسهم المسمى لهم من الصدقات قولان: أحدهما: يعطونه ويتألفون به , قاله الحسن وطائفة. والثاني: يمنعون منه ولا يعطونه لإعزاز الله دينه عن تألفهم , قاله جابر , وكلا القولين محكي عن الشافعي. وقد روى حسان بن عطية قال: قال عمر رضي الله عنه وأتاه عيينة بن حصن يطلب من سهم المؤلفة قلوبهم فقال قد أغنى الله عنك وعن ضربائك {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} {الكهف: 29) أي ليس اليوم مؤلفة. {وَفِي الرِّقابِ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم المكاتبون , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والشافعي. والثاني: أنهم عبيد يُشترون بهذا السهم قاله ابن عباس ومالك. {وَاْلْغَارِمِينَ} وهم الذين عليهم الدين يلزمهم غرمه , فإن ادّانوا في مصالح أنفسهم لم يعطوا إلا مع الفقر , وإن ادّانوا في المصالح العامة أعطوا مع الغنى والفقر. واختلف فيمن ادّان في معصية على ثلاثة أقاويل: أحدها لا يعطى لئلا يعان على معصية. والثاني: يعطى لأن الغرم قد وجب , والمعصية قد انقضت. والثالث: يعطى التائب منها ولا يعطى إن أصر عليها. {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} هم الغزاة المجاهدون في سبيل الله يعطون سهمهم من الزكاة مع الغنى والفقر. {وَابْنِ السَّبِيلِ} فيه قولان: أحدهما: هو المسافر لا يجد نفقة سفره , يعطى منها وإن كان غنياً في بلده , وهو قول الجمهور. والثاني: أنه الضيف , حكاه ابن الأنباري.(2/376)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
{ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم(2/376)
يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} قوله عز وجل {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي يصغي إلى كل أحد , فيسمع منه , قال عدي بن زيد:
(أيها القلب تعلّل بددن ... إن همي من سماع وأذن)
{قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} أي يسمع الخير ويعمل به , لا أذن شر يفعله إذا سمعه. قال الكلبي: نزلت هذه الآية في جماعة من المنافقين كانوا يعيبون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون فيه ما لا يجوز , فنزلت هذه الآية فيهم. وفي تأويلها وجهان: أحدهما: أنهم كانوا يعيبونه بأنه أذن يسمع جميع ما يقال له , فجعلوا ذلك عيباً فيه. والثاني: أنهم عابوه فقال أحدهم: كفوا فإني أخاف أن يبلغه فيعاقبنا , فقالوا: هو أُذن إذا أجبناه وحلفنا له صدقنا , فنسبوه بذلك إلى قبول العذر في الحق والباطل , قاله الكلبي ومقاتل. وقيل إن قائل هذا نفيل بن الحارث.(2/377)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
{يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم} قوله عز وجل {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} فيها ثلاثة أقوال:(2/377)
أحدها: من يخالف الله ورسوله , قاله الكلبي. والثاني: مجاوزة حدودها , قاله علي بن عيسى. والثالث: أنها معاداتها مأخوذ من حديد السلاح لاستعماله في المعاداة , قاله ابن بحر. {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} وهذا وعيد , وإنما سميت النار جهنم من قول العرب بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر , فسميت نار الآخرة جهنم لبعد قعرها , قاله ابن بحر.(2/378)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
{يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤوا إن الله مخرج ما تحذرون} {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ ... } الآية , فيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار من الله تعالى عن حذرهم , قاله الحسن وقتادة. والثاني: أنه أمر من الله تعالى لهم بالحذر , وتقديره ليحذر المنافقون , قاله الزجاج. وفي قوله تعالى { ... تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِم} وجهان: أحدهما: ما أسرّوه من النفاق. والثاني: قولهم في غزوة تبوك: أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات. فأطلع الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا , قاله الحسن وقتادة. {قُلِ اسْتَهْزِئُواْ} هذا ويعد خرج مخرج الأمر للتهديد. {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: مظهر ما تسرون. والثاني: ناصر من تخذلون.(2/378)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
{ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين(2/378)
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم} قوله عز وجل {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن بعضهم يجتمع مع بعض على النفاق. والثاني: أن بعضهم يأخذ نفاقه من بعضٍ. وقال الكلبي: بعضهم على دين بعض. {يَأَمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} في المنكر والمعروف قولان: أحدهما: أن المنكر كل ما أنكره العقل من الشرك , والمعروف: كل ما عرفه العقل من الخير. والثاني: أن المعروف في كتاب الله تعالى كله الإيمان , والمنكر في كتاب الله تعالى كله الشرك , قاله أبو العالية. {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله تعالى , قاله الحسن ومجاهد. والثاني: يقبضونها عن كل خير , قاله قتادة. والثالث: يقبضونها عن الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم , قاله بعض المتأخرين. والرابع: يقبضون أيديهم عن رفعها في الدعاء إلى الله تعالى. {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أي تركوا أمره فترك رحمتهم. قال ابن عباس: كان المنافقون بالمدينة من الرجال ثلاثمائة , ومن النساء سبعين ومائة امرأة.(2/379)
وروى مكحول عن أبي الدرداء أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة المنافق: فقال: (إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا اؤتُمِنَ خَانَ , وَإِذا وَعَدَ أَخلَفَ , وَإِذَ خَاصَمَ فَجَرَ , وَإِذَا عَاهَدَ نَقَضَ , لاَ يَأْتِي الصَّلاَةَ إِلاَّ دُبُراً وَلاَ يَذْكُرِ اللَّهَ إِلاَّ هَجْراً) .(2/380)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
{كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون} قوله عز وجل { ... فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاَقِهِمْ. .} . قيل بنصيبهم من خيرات الدنيا. ويحتمل استمتاعهم باتباع شهواتهم. وفيه وجه ثالث: أنه استمتاعهم بدينهم الذي أصروا عليه. {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوآ} فيه وجهان: أحدهما: في شهوات الدنيا. والثاني: في قول الكفر. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم فارس والروم. والثاني: أنهم بنو اسرائيل.(2/380)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما(2/380)
كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} قوله عز وجل {. . وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن المساكن الطيبة قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر مبنية بهذه الجواهر. الثاني: أنها المساكن التي يطيب العيش فيها , وهو محتمل. وأما جنات عدن فيها خمسة أوجه: أحدها: أنها جنات خلود وإقامة , ومنه سمي المعدن لإقامة جوهره فيه , ومنه قول الأعشى:
(فإن تستضيفوا إلى حِلمِه ... تضافوا إلى راجح قد عدَن)
يعني ثابت الحلم. وهذا مروي عن ابن عباس. والثاني: أن جنات عدن هي جنات كروم وأعناب بالسريانية , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أن عدن اسم لبطنان الجنة اي وسطها , قاله عبد الله بن مسعود. والرابع: أن عدن اسم قصر في الجنة , قاله عبد الله بن عمرو بن العاص والحسن.(2/381)
والخامس: أن جنة عدن في السماء العليا لا يدخلها إلا نبيّ أو صديق أو شهيد أو إمام عدل. وجنة المأوى في السماء الدنيا تأوي إليها أرواح المؤمنين رواه معاذ بن جبل مرفوعاً.(2/382)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
{يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} قوله عز وجل {يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} أما جهاد الكفار فبالسيف وأما جهاد المنافقين ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: جهادهم بيده , فإن لم يستطع فبلسانه وقلبه , فإن لم يستطع فليكفهر في وجوههم , قاله ابن مسعود. والثاني: جهادهم باللسان , وجهاد الكفار بالسيف , قاله ابن عباس.(2/382)
والثالث: أن جهاد الكفار بالسيف , وجهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم , قاله الحسن وقتادة. وكانوا أكثر من يصيب الحدود. {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمُ} يحتمل وجهين: أحدهما: تعجيل الانتقام منهم. والثاني: ألا يصدق لهم قولاً , ولا يبر لهم قسماً. قوله عز وجل {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الجلاس بن سويد بن الصامت , قال: إن كان ما جاء به محمد حقاً فنحن شر من الحمير , ثم حلف أنه ما قال , وهذا قول عروة ومجاهد وابن إسحاق. والثاني: أنه عبد الله بن أبي بن سلول. قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل , قاله قتادة. والثالث: أنهم جماعة من المنافقين قالوا ذلك , قاله الحسن. {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ} يعني ما أنكروه مما قدمنا ذكره تحقيقاً لتكذيبهم فيما أنكروه وقيل بل هو قولهم إن محمداً ليس بنبي. {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} يحتمل وجهين: أحدهما: كفروا بقلوبهم بعد أن آمنوا بأفواههم. والثاني: جرى عليهم حكم الكفر بعد أن جرى عليهم حكم الإيمان. {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المنافقين هموا بقتل الذي أنكر عليهم , قاله مجاهد. والثاني: أنهم هموا بما قالوه {لَئِن رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينةِ ليُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنهَا الأَذَلَّ} وهذا قول قتادة. والثالث: أنهم هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم , وهذا مروي عن مجاهد أيضاً وقيل إنه كان ذلك في غزوة تبوك.(2/383)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
{ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون(2/383)
فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب} قوله عز وجل {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ ... } الآية والتي بعدها نزلت في ثعلبة ابن حاطب الأنصاري. وفي سبب نزولها قولان: أحدهما: أنه كان له مال بالشام خاف هلاكه فنذر أن يتصدق منه , فلما قدم عليه بخل به , قاله الكلبي. والثاني: أن مولى لعمر قتل رجلاً لثعلبة فوعد إن أوصل الله الدية إليه أخرج حق الله تعالى منها , فلما وصلت إليه بخل بحق الله تعالى أن يخرجه , قاله مقاتل. وقيل إن ثعلبه لما بلغه ما نزل فيه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فسأله أن يقبل منه صدقته فقال: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَنِي أَن أَقْبَلَ مِنكَ صَدَقَتَكَ) فجعل يحثي على رأسه التراب. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئاً.(2/384)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
{الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} قوله عز وجل {الَّذِينَ يَلْمزُونَ الْمُطَّوِِّعينَ مِنَ الْمُؤْمِنِيَن فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} قرىء بضم الجيم وفتحها وفيه وجهان: أحدهما: أنهما يختلف لفظهما ويتفق معناهما , قاله البصريون.(2/384)
والثاني: أن معناهما مختلف , فالجهد بالضم الطاقة , وبالفتح المشقة , قاله بعض الكوفيين. وقيل: كان ذلك في غزاة تبوك نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي وأبي عقيل الأراشي وسبب ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة ليتجهز للجهاد , فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال هذا شطر مالي صدقة , وجاء عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر , وجاء أبو عقيل بصاع من تمر وقال: إني آجرت نفسي بصاعين فذهبت بأحدهما إلى عيالي وجئت بالآخر صدقة , فقال قوم من المنافقين حضروه: أما عبد الرحمن وعاصم فما أعطيا إلا رياءً , وأما صاع أبي عقيل فالله غني عنه , فنزلت فيهم هذه الآية. {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم أظهروا حمدهم واستبطنوا ذمهم. والثاني: أنهم نسبوا إلى الرياء وأعلنوا الاستهزاء. {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه ما أوجبه عليهم من جزاء الساخرين. والثاني: بما أمهلهم من المؤاخذة. قال ابن عباس: وكان هذا في الخروج إلى غزاة تبوك.(2/385)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
{استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن(2/385)
يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين} قوله عز وجل {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وهذا على وجه المبالغة في اليأس من المغفرة وإن كان على صيغة الأمر , ومعناه أنك لو طلبتها لهم طلب المأمور بها أو تركتها ترك المنهي عنها لكان سواء في أن الله تعالى لا يغفر لهم. قوله {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} ليس بحد لوقوع المغفرة بعدها , وإنما هو على وجه المبالغة بذكر هذا العدد لأن العرب تبالغ بالسبع والسبعين لأن التعديل في نصف العقد وهو خمسة إذا زيد عليه واحد كان لأدنى المبالغة , وإذا زيد عليه اثنان كان لأقصى المبالغة , ولذلك قالوا للأسد سبُع أي قد ضوعفت قوته سبع مرات , وهذا ذكره علي بن عيسى. وحكى مجاهد وقتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لُهُمْ أَكْثَرَ مِن سَبْعِينَ مَرَّةً) فأنزل الله تعالى {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتُ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فكف.(2/386)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون} قوله عز وجل {فَرَحَ الْمُخَلَّفُونَ} أي المتروكون. {بِمَقْعَدِهْم خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: يعني مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول الأكثرين. والثاني: معناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله أبو عبيدة وأنشد.(2/386)
(عفت الديار خلافهم فكانما ... بسط الشواطب بينهن حصيراً)
أي بعدهم. {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ} فيه وجهان: أحدهما: هذا قول بعضهم لبعض حين قعدوا. والثاني: أنهم قالوه للمؤمنين ليقعدوا معهم , وهؤلاء المخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك وكانوا أربعة وثمانين نفساً. قوله عز وجل {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} هذا تهديد وإن خرج مخرج الأمر , وفي قلة ضحكهم وجهان: أحدهما: أن الضحك في الدنيا لكثرة حزنها وهمومها قليل , وضحكهم فيها أقل لما يتوجه إليهم من الوعيد. الثاني: أن الضحك في الدنيا وإن دام إلى الموت قليل , لأن الفاني قليل. {وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} فيه وجهان: أحدهما: في الآخرة لأنه يوم مقداره خمسون ألف سنة , وهم فيه يبكون , فصار بكاؤهم كثيراً , وهذا معنى قول الربيع بن خيثم. الثاني: في النار على التأبيد لأنهم إذا مسهم العذاب بكوا من ألمه , وهذا قول السدي. ويحتمل أن يريد بالضحك السرور , وبالبكاء الغم.(2/387)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
{فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين}(2/387)
قوله عز وجل: { ... إِنَّكُم رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فيه قولان: أحدهما: أول مرة دعيتم. الثاني: يعني قبل استئذانكم. {فَاقْعُدُاْ مَعَ الْخَالِفِينَ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم النساء والصبيان , قاله الحسن وقتادة. الثاني: هم الرجال الذين تخلفوا بأعذار وأمراض , قاله ابن عباس.(2/388)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
{ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} قوله عز وجل {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَّاتَ أَبَداً} لما احتضر عبد الله بن أبي بن سلول أتى ابنُه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يصلي عليه وأن يعطيه قميصه ليكفن فيه فأعطاه إياه وهو عرق فكفنه فيه وحضره , فقيل إنه أدركه حياً , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَهْلَكَهُمُ اليَهُودُ) فقال: يا رسول الله لا تؤنبني واستغفر لي , فلما مات ألبسه قميصه وأراد الصلاة عليه فجذبه عمر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله أليس الله قد نهاك عن الصلاة عليهم؟ فقال: (يَا عُمَرُ خَيَّرَنِي رَبِّي فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِر اللَّهُ لَهُمْ} لأَزِيدَنَّ عَلَى الْسَّبِعِينَ) فصلى عليه. فنزلت {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} الآية , فما صلى بعدها على منافق , وهذا قول ابن عباس وابن عمر وجابر وقتادة.(2/388)
وقال أنس بن مالك: أراد أن يصلي عليه فأخذ جبريل بثوبه وقال {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُمْ مَّاتَ أَبَداً} . {وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} يعني قيام زائر ومستغفر.(2/389)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
{ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} قوله عز وجل {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيا} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: يعذبهم بحفظها في الدنيا والإشفاق عليها. والثاني: يعذبهم بما يلحقهم منها من النوائب والمصائب. والثالث: يعذبهم في الآخرة بما صنعوا بها في الدنيا عند كسبها وعند إنفاقها. وحكى ابن الأنباري وجهاً رابعاً: أنه على التقديم والتأخير , وتقديره: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم في الدنيا إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الآخرة. قوله عز وجل {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْءَامِنُوا بِاللَّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: استديموا الإيمان بالله. والثاني: افعلوا فعل من آمن بالله. والثالث: آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بأفواهكم , ويكون خطاباً للمنافقين. {وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوْا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أهل الغنى , قاله ابن عباس وقتادة. والثاني: أهل القدرة. وقال محمد بن إسحاق. نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس. قوله عز وجل {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} فيه ثلاثة أوجه:(2/389)
أحدها: مع المنافقين , قاله مقاتل. والثاني: أنهم خساس الناس وأدناهم مأخوذ من قولهم فلان خالفه أهله إذا كان دونهم , قاله ابن قتيبة. والثالث: أنهم النساء , قاله قتادة والكلبي.(2/390)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
{لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم} قوله عز وجل {وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} وهو جمع خيرة , وفيها أربعة أوجه: أحدها: أنها غنائم الدنيا ومنافع الجهاد. والثاني: فواضل العطايا. والثالث: ثواب الآخرة. والرابع: حُور الجنان , من قوله تعالى {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] .(2/390)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
{وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون} قوله عز وجل {وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} فيها وجهان:(2/390)
أحدهما: أنهم المعتذرون بحق اعتذروا به فعذروا , قاله ابن عباس وتأويل قراءة من قرأها بالتخفيف. والثاني: هم المقصرون المعتذرون بالكذب , قاله الحسن وتأويل من قرأها بالتشديد , لأنه إذا خفف مأخوذ من العذر , وإذا شدد مأخوذ من التعذير , والفرق بينهما أن العذر حق والعذير كذب. وقيل إنهم بنو أسد وغطفان. قوله عز وجل {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى} الآية. وفي الضعفاء ها هنا ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم الصغار لضعف أبدانهم. الثاني: المجانين لضعف عقولهم. الثالث: العميان لضعف بصرهم. كما قيل في تأويل قوله تعالى في شعيب {إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} [هود: 91] أي ضريراً. {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} فيه وجهان: أحدهما: إذا برئوا من النفاق. الثاني: إذا قاموا بحفظ المخلفين من الذراري والمنازل. فإن قيل بالتأويل الأول كان راجعاً إلى جميع من تقدم ذكره من الضعفاء. والمرضى الذين لا يجدون ما ينفقون. وإن قيل بالتأويل الثاني كان راجعاً إلى الذين لا يجدون ما ينفقون خاصة. وقيل إنها نزلت في عائذ بن عمرو وعبد الله ابن مُغَفّل. {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه لم يجد لهم زاداً لأنهم طلبوا ما يتزودون به , قاله أنس بن مالك. والثاني: أنه لم يجد لهم نعالاً لأنهم طلبوا النعال , قاله الحسن.(2/391)
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الغزاة وهي تبوك (أَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لاَ يَزَالُ رَاكباً مَا كَانَ مُنْتَعِلاً) . وفيمن نزلت فيه خمسة أقاويل: أحدها: في العرباض بن سارية , قاله يحيى بن أبي المطاع. والثاني: في عبد الله بن الأزرق وأبي ليلى , قاله السدي. والثالث: في بني مقرّن من مُزينة , قاله مجاهد. والرابع: في سبعة من قبائل شتى , قاله محمد بن كعب. والخامس: في أبي موسى وأصحابه , قاله الحسن.(2/392)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
{يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} قوله عز وجل: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيآءُ} في السبيل ها هنا وجهان: أحدهما: الإنكار. الثاني: الإثم.(2/392)
وقوله تعالى: {يَسْتَأْذِنُونَكَ} يعني في التخلف عن الجهاد. {وَهُمْ أَغْنِيَآءُ} يعني بالمال والقدرة. {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم الذراري من النساء والأطفال. الثاني: أنهم المتخلفون بالنفاق.(2/393)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
{الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم} قوله عز وجل: {الأعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} فيه وجهان: أحدهما: أن يكون الكفر والنفاق فيهم أكثر منه في غيرهم لقلة تلاوتهم القرآن وسماعهم السنن. الثاني: أن الكفر والنفاق فيهم أشد وأغلظ منه في غيرهم لأنهم أجفى طباعاً وأغلظ قلوباً. {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} ومعنى أجدر أي أقرب , مأخوذ من الجدار الذي يكون بين مسكني المتجاورين. وفي المراد بحدود الله ما أنزل الله وجهان: أحدهما: فروض العبادات المشروعة. الثاني: الوعد والوعيد في مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والتخلف عن الجهاد. قوله عز وجل {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً} فيه وجهان: أحدهما: ما يدفع من الصدقات.(2/393)
الثاني: ما ينفق في الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم مغرماً , والمغرم التزام ما لا يلزم , ومنه قوله تعالى {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 65] أي لازماً , قال الشاعر:
(فَمَا لَكَ مَسْلُوبَ العَزَاءِ كَأَنَّمَا ... تَرَى هَجْرَ لَيْلَى مَغْرَماً أَنْتَ غارِمُهُ)
{وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَآئِرَ} جمع دائرة وهي انقلاب النعمة إلى ضدها , مأخوذة من الدور ويحتمل تربصهم الدوائر وجهين: أحدهما: في إعلان الكفر والعصيان. والثاني: في انتهاز الفرصة بالانتقام. {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} رد لما أضمروا وجزاء لما مكروا. قوله عز وجل {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} قال مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة. {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنها تقربة من طاعة الله ورضاه. الثاني: أن ثوابها مذخور لهم عند الله تعالى فصارت قربات عند الله {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} فيها وجهان: أحدهما: أنه استغفاره لهم , قاله ابن عباس. الثاني: دعاؤه لهم , قاله قتادة. {أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن يكون راجعاً إلى إيمانهم ونفقتهم أنها قربة لهم. الثاني: إلى صلوات الرسول أنها قربة لهم.(2/394)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} قوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ} فيهم أربعة أقاويل:(2/394)
أحدها: أنهم الذين صلّوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب. الثاني: أنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان , قاله الشعبي وابن سيرين. الثالث: أنهم أهل بدر , قاله عطاء. الرابع: أنهم السابقون بالموت والشهادة من المهاجرين والأنصار سبقوا إلى ثواب الله تعالى وحسن جزائه. ويحتمل خامساً: أن يكون السابقون الأولون من المهاجرين هم الذين آمنوا بمكة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم , والسابقون الأولون من الأنصار هم الذين آمنوا برسول الله ورسوله قبل هجرته إليهم. {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بإِحْسَانٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: من الإيمان. الثاني: من الأفعال الحسنة. {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: رضي الله عنهم بالإيمان , ورضوا عنه بالثواب , قاله ابن بحر. الثاني: رضي الله عنهم في العبادة. ورضوا عنه بالجزاء , حكاه علي بن عيسى. الثالث: رضي الله عنهم بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم , ورضوا عنه بالقبول.(2/395)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
{وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} قوله عز وجل: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأعْرابِ مُنَافِقُونَ} يعني حوله المدينة: قال ابن عباس: مزينة وجهينة وأسلم وغِفار وأشجع كان فيهم بعد إٍسلامهم منافقون كما كان من الأنصار لدخول جميعهم تحت القدرة فتميزوا بالنفاق وإن عمتهم الطاعة. {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أقاموا عليه ولم يتوبوا منه , قاله عبد الرحمن بن زيد. الثاني: مردوا عليه أي عتوا فيه , ومنه قوله عز وجل {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} [النساء: 117] . الثالث: تجردوا فيه فظاهروا , مأخوذ منه تجرد خد الأمرد لظهوره وهو محتمل. {لاَ تَعْلَمُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لا تعلمهم حتى نعلمك بهم. الثاني: لا تعلم أنت عاقبة أمورهم وإنما نختص نحن بعلمها , وهذا يمنع أن يحكم على أحد بجنة أو نار. {سَنُعَذِّبُهُمْ مَّرَّتَيْنِ} فيه أربعة أوجه: أحدهما: أن أحد العذابين الفضيحة في الدنيا والجزع من المسلمين , والآخر عذاب القبر , قاله ابن عباس.(2/396)
والثاني: أن أحدهما عذاب الدنيا والآخر عذاب الآخرة , قاله قتادة. والثالث: أن أحدهما الأسر والآخر القتل , قاله ابن قتيبة. والرابع: أن أحدهما الزكاة التي تؤخذ منهم والآخر الجهاد الذي يؤمرون به لأنهم بالنفاق يرون ذلك عذاباً. قال الحسن. {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} فيه ثلاثة أوجه:(2/397)
أحدهما: أنه عذاب النار في الآخرة. الثاني: أنه إقامة الحدود في الدنيا. الثالث: إنه أخذ الزكاة منهم.(2/398)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
{وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم} قوله عز وجل: {وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم سبعة من الأنصار منهم أو لبابة بن عبد المنذر , وأوس بن ثعلبة , ووديعة بن حزام , كانوا من جملة العشرة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك , فربطوا أنفسهم لما ندموا على تأخرهم إلى سواري المسجد ليطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عفا عنهم , فلما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بهم وكانوا على طريقة فسأل عنهم فأخبر بحالهم فقال: (لاَ أَعذُرُهُمْ وَلاَ أُطْلِقُهم حَتَّى يَكونَ اللَّهَ تَعالَى هُوَ الَّذِيَ يَعْذُرُهم وَيُطْلِقُهُمْ) فنزلت هذه الآية فيهم فأطلقهم , وهذا قول ابن عباس. الثاني: أنه أبو لبابة وحده قال لبني قريظة حين أرادوا النزول على حكم النبي صلى الله عليه وسلم إنه ذابحكم إن نزلتم على حكمه , قاله مجاهد. {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحَاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الصالح: الجهاد , والسيء , التأخر عنه , قاله السدي. الثاني: أن السيىء: الذنب والصالح: التوبة , قاله بعض التابعين. الثالث: ما قاله الحسن: ذنباً وسوطاً لا ذهباً فروطاً , ولا ساقطاً سقوطاً.(2/398)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} قوله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} قال ابن عباس: لما نزل في أبي لبابة وأصحابه {وَءَاخَرُونَ اعْترَفُواْ بِذُنُوبِهِم} الآية. ثم تاب عليهم قالوا يا رسول الله خذ منا صدقة أموالنا لتطهرنا وتزكينا , قال: لا أفعل حتى أؤمر , فأنزل الله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وفيها وجهان: أحدهما: أنها الصدقة التي بذلوها من أموالهم تطوعاً , قاله ابن زيد. والثاني: أنها الزكاة التي أوجبها الله تعالى في أموالهم فرضاً , قاله عكرمة. ولذلك قال: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} لأن الزكاة لا تجب في الأموال كلها وإنما تجب في بعضها. {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي تطهر ذنوبهم وتزكي أعمالهم. {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: استغفر لهم: قاله ابن عباس. الثاني: ادع لهم , قاله السدي. {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} فيه خمسة تأويلات:(2/398)
أحدها: قربة لهم , قاله ابن عباس في رواية الضحاك. الثاني: رحمة لهم , رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس أيضاً. الثالث: وقار لهم , قاله قتادة. الرابع: تثبت لهم , قاله ابن قتيبة. الخامس: أمن لهم , ومنه قول الشاعر:
(يَا جَارَةَ الحَيِّ كُنتِ لي سَكَناً ... إذْ ليْسَ بعضُ الجِيرَانِ بِالسَّكَنِ)
وفي الصلاة عليهم والدعاء لهم عند أخذ الصدقة منهم ستة أوجه: أحدها: يجب على الآخذ الدعاء للمعطي اعتباراً بظاهر الأمر. الثاني: لا يجب ولكن يستحب لأن جزاءها على الله تعالى لا على الآخذ. والثالث: إن كانت تطوعاً وجب على الآخذ الدعاء , وإن كانت فرضاً استحب ولم يجب. والرابع: إن كان آخذها الوالي استحب له الدعاء ولم يجب عليه , وإن كان آخذها الفقير وجب عليه الدعاء له , لأن الحق في دفعها إلى الوالي معيّن , وإلى الفقير غير معيّن. والخامس: إن كان آخذها الوالي وجب , وإن كان الفقير استحب ولم يجب. لأنه دفعها إلى الوالي إظهار طاعة فقوبل عليها بالشكر وليس كذلك الفقير. والسادس: إن سأل الدافع الدعاء وجب , وإن لم يسأل استحب ولم يجب. روى عبد الله بن أبي أوفى قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بصدقات قومي فقلت يا رسول الله صلِّ عليّ , فقال: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى) .(2/399)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
{وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم} قوله عز وجل: {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} وهم الثلاثة الباقون من العشرة المتأخرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك ولم يربطوا أنفسهم مع أبي لبابة , وهم هلال بن أمية , ومرارة بن الربيع , وكعب بن مالك.(2/399)
{مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} أي مؤخرون موقوفون لما يرد من أمر الله تعالى فيهم. {إِمَّا يُعَذِبُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: يميتهم على حالهم , قاله السدي. الثاني: يأمر بعذابهم إذا لم يعلم صحة توبتهم. {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يعلم صدق توبتهم فيطهر ما فيهم. الثاني: أن يعفو عنهم ويصفح عن ذنوبهم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بما يؤول إليه حالهم , حكيم فيما فعله من إرجائهم.(2/400)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
{والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً} هؤلاء هم بنو عمرو بن عوف وهم اثنا عشر رجلاً من الأنصار المنافقين , وقيل: هم خذام بن خالد ومن داره أخرج مسجد الشقاق , وثعلبة بن حاطب , وَمُعَتِّب بن قشير , وأبو حبيبة بن الأزعر , وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف , وجارية بن عامر , وابناه مُجمِّع وزيد ابنا جارية , ونبتل بن الحارث , وبجاد بن عثمان , ووديعة بن ثابت , وبحرج وهو جد عبد الله بن حنيف , وله قال النبي صلى الله عليه وسلم (وَيْلَكَ يَا بَحْرَج مَاذَا أَرَدْتَ بِمَا أَرَى؟)(2/400)
فقال يا رسول الله ما أردت إلا الحسنى , وهو كاذب , فصدقه , فبنى هؤلاء مسجد الشقاق والنفاق قريباً من مسجد قباء. {ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني ضراراً , وكفراً بالله , وتفريقاً بين المؤمنين أن لا يجتمعوا كلهم في مسجد قباء فتجتمع كلمتهم , ويتفرقوا فتتفرق كلمتهم , ويختلفوا بعد ائتلافهم. {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } وفي الإرصاد وجهان: أحدهما: أنه انتظار سوء يتوقع. الثاني: الحفظ المقرون بفعل. وفي محاربة الله تعالى ورسوله وجهان: أحدهما: مخالفتهما. الثاني: عداوتهما. والمراد بهذا الخطاب أبو عامر الراهب والد حنظلة بن الراهب كان قد حزّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم خاف فهرب إلى الروم وتنصر واستنجد هرقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبنوا هذا المسجد له حتى إذا عاد من هرقل صلى فيه , وكانوا يعتقدون أنه إذا صلى فيه نُصِر , وكانوا ابتدأوا بنيانه ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارج إلى تبوك , فسألوه أن يصلي لهم فيه فقال: (أَنَا عَلَى سَفَرٍ وَلَو قَدِمْنَا إِن شَآءَ اللَّهُ أَتَينَاكُم وَصَلَّينَا لَكُم فِيهِ) . فلما قدم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد , وقالوا قد فرغنا منه , فأتاه خبر المسجد وأنزل الله تعالى فيه ما أنزل. وحكى مقاتل أن الذي أمّهم فيه مجمع بن جارية وكان قارئاً , ثم حسن إٍسلامه بعد ذلك فبعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الكوفة يعلمهم القرآن , وهو علم ابن مسعود بقية القرآن. { ... وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: طاعة الله تعالى. والثاني: الجنة.(2/401)
والثالث: فعل التي هي أحسن , من إقامة الدين والجماعة والصلاة , وهي يمين تحرُّج. {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: والله يعلم إنهم لكاذبون في قولهم خائنون في إيمانهم. والثاني: والله يعلمك أنهم لكاذبون خائنون. فصار إعلامه له كالشهادة منه عليهم. {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} أي لا تصلَّ فيه أبداً , يعني مسجد الشقاق والنفاق فعند ذلك أنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم وعاصم بن عدي فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه. فذهبا إليه وأخذا سعفاً وحرقاه. وقال ابن جريج: بل انهار المسجد في يوم الاثنين ولم يُحرَّق. {لَّمَسْجِدٌ أسِسَّ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ} وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة , قاله أبو سعيد الخدري ورواه مرفوعاً. الثاني: أنه مسجد قباء , قاله الضحاك وهو أول مسجد بني في الإسلام , قاله ابن عباس وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك.(2/402)
الثالث: أنه كل مسجد بني في المدينة أسس على التقوى , قاله محمد بن كعب {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: من المسجد الذي أسس على التقوى رجال يحبون أن يتطهروا من الذنوب والله يحب المتطهرين منها بالتوبة , قاله أبو العالية. والثاني: فيه رجال يحبون أن يتطهروا من البول والغائط بالاستنجاء بالماء. والله يحب المتطهرين بذلك. روى أبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار عند نزول هذه الآية: (يَا مَعْشَرَ الأَنصَارِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنى عَلَيكُم خَيراً فِي الطَّهُورَ فَمَا طَهُورُكُم هَذَا) قالوا: يا رسول الله نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَهَلْ مَعَ ذلِكَ غَيرُهُ؟) قالوا لا , غير أن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي بالماء , فقال: (هُوَ ذلِكَ فَعَلَيكُمُوهُ) الثالث: أنه عني المتطهرين عن إتيان النساء في أدبارهن , وهو مجهول , قاله مجاهد.(2/403)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
{أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم} قوله عز وجل: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} يعني مسجد قباء والألف من {أَفَمَنْ} ألف إنكار. ويحتمل قوله {عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} وجهين:(2/403)
أحدهما: أن التقوى اجتناب معاصيه , والرضوان فعل طاعته. الثاني: أن التقوى اتقاء عذابه , والرضوان طلب ثوابه. وكان عمر بن شبة يحمل قوله تعالى {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} على مسجد المدينة , ويحتمل {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مَنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} على مسجد قباء , فيفرق بين المراد بهما في الموضعين. {أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} يعني شفير جرف وهو حرف الوادي الذي لا يثبت عليه البناء لرخاوته وأكل الماء له {هَارٍ} يعني هائر , والهائر: الساقط. وهذا مثل ضربه الله تعالى لمسجد الضرار. ويحتمل المقصود بضرب هذا المثل وجهين: أحدهما: أنه لم يبق بناؤهم الذي أسس على غير طاعة الله حتى سقط كما يسقط ما بني على حرف الوادي. الثاني: أنه لم يخف ما أسرُّوه من بنائه حتى ظهر كما يظهر فساد ما بنى على حرف الوادي بالسقوط. {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم ببنيانهم له سقطوا في نار جهنم. الثاني: أن بقعة المسجد مع بنائها وبُناتها سقطت في نار جهنم , قاله قتادة والسدي. قال قتادة: ذكر لنا أنه حفرت منه بقعة فرئي فيها الدخان وقال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حين انهار. قوله عزوجل {لاَ يََزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ} يعني مسجد الضرار. {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِم} فيه قولان: أحدهما: أن الريبة فيها عند بنائه. الثاني: أن الريبة عند هدمه.(2/404)
فإن قيل بالأول ففي الريبة التي في قلوبهم وجهان: أحدهما: غطاء على قلوبهم , قاله حبيب بن أبي ثابت. الثاني: أنه شك في قلوبهم , قاله ابن عباس وقتادة والضحاك , ومنه قول النابغة الذبياني:
(حَلَفْتُ فلم أترك لنَفْسِكَ ريبة ... وليس وراءَ الله للمرءِ مذهب)
ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن تكون الريبة ما أضمروه من الإضرار برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وإن قيل بالثاني أن الريبة بعد هدمه ففيها وجهان: أحدهما: أنها حزازة في قلوبهم , قاله السدي. الثاني: ندامة في قلوبهم , قاله حمزة. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن تكون الريبة الخوف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين. {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: إلا أن يموتوا , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. الثاني: إلا أن يتوبوا , قاله سفيان. الثالث: إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم , قاله عكرمة. وكان أصحاب ابن مسعود يقرأُونها: {وَلَوْ تَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ} .(2/405)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
{إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في(2/405)
التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} قوله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} اشترى أنفسهم بالجهاد , {وَأَمْوَالَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: نفقاتهم في الجهاد. والثاني: صدقاتهم على الفقراء. {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} قال سعيد بن جبير: يعني الجنة , وهذا الكلام مجاز معناه أن الله تعالى أمرهم بالجهاد بأنفسهم وأموالهم ليجازيهم بالجنة , فعبر عنه بالشراء لما فيه من عوض ومعوض مضار في معناه , ولأن حقيقة الشراء لما لا يملكه المشتري. {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأن الثواب على الجهاد إنما يستحق إذا كان في طاعته ولوجهه. {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} يعني أن الجنة عوض عن جهادهم سواء قَتَلُوا أو قُتِلُوا. فروى جابر بن عبد الله الأنصاري أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فكبّر الناس , فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرف ردائه على أحد عاتقيه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ فقال: نَعَم , فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقبل ولا نستقبل. وقال بعض الزهاد: لأنه اشترى الأنفس الفانية بالجنة الباقية.(2/406)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
{التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} قوله عز وجل: {التَّآئِبُونَ} يعني من الذنوب.(2/406)
ويحتمل أن يراد بهم الراجعون إلى الله تعالى في فعل ما أمر واجتناب ما حظر لأنها صفة مبالغة في المدح , والتائب هو الراجع , والراجع إلى الطاعة أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين. {العَابِدُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: العابدون بتوحيد الله تعالى , قاله سعيد بن جبير.(2/407)
والثاني: العابدون بطول الصلاة , قاله الحسن. والثالث: العابدون بطاعة الله تعالى , قاله الضحاك. {الحَامِدُونَ} فيه وجهان: أحدهما: الحامدون لله تعالى على دين الإسلام , قاله الحسن. الثاني: الحامدون لله تعالى على السراء والضراء , رواه سهل بن كثير. {السَّآئِحُونَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: المجاهدون روى أبو أمامة أن رجلاً استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي السياحة فقال: (إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الجِهَادُ فِي سَبيلِ اللَّهِ) والثاني: الصائمون , وهو قول ابن مسعود وابن عباس , وروى أبو هريرة مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سِيَاحَةُ أُمَّتِي الصَّوْمُ) . الثالث: المهاجرون , قاله عبد الرحمن بن زيد. الرابع: هم طلبة العِلم , قاله عكرمة. {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} يعني في الصلاة. {الأَمِرُونَ بِالْمَعْرُوْفِ} فيه وجهان: أحدهما: بالتوحيد , قاله سعيد بن جبير. الثاني: بالإسلام. {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكُرِ} فيه وجهان: أحدهما: عن الشرك , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنهم الذين لم ينهوا عنه حتى انتهوا قبل ذلك عنه , قاله الحسن. {وَاْلحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: القائمون بأمر الله تعالى. والثاني: الحافظون لفرائض الله تعالى من حلاله وحرامه , قاله قتادة. والثالث: الحافظون لشرط الله في الجهاد , قاله مقاتل بن حيان. {وَبَشّرِ الْمُؤْمنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني المصدقين بما وعد الله تعالى في هذه الآيات. قاله سعيد بن جبير. والثاني: العاملين بما ندب الله إليه في هذه الآيات , وهذا أشبه بقول الحسن. وسبب نزول هذه الآية ما روى ابن عباس أنه لما نزل قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} الآية. أتى رجل من المهاجرين فقال يا رسول الله وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر؟ فأنزل الله تعالى {التَّآئِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} الآية.(2/408)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
{ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه(2/408)
عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيّ وَالَّذِينَءَآمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما روى مسروق عن ابن مسعود قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقابر فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلاً ثم بكى فبكينا لبكائه , ثم قام , فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه , فدعاه ثم دعانا فقال: (مَا أَبْكَاكُم؟) قلنا: بكينا لبكائك , قال: (إن القبر الذي جلست عنده قبر آمِنَةَ وَإِنِّي اسْتَأْذَنتُ رَبِّي فِي زيَارَتِهَا فَأَذِنَ لِي , وَإِنِّي استَأْذَنتُ رَبِّي فِي الدُّعَاءِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَن لِي , وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَءَآمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُربَى} الآية. {فأخذني ما يأخذ الولد للوالد , وكنتُ نَهَيتُكُم عن زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُورُوهَا فإنها تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ) (والثاني: أنها نزلت في أبي طالب , روى سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال صلى الله عليه وسلم:) أَي عَمِّ قُلْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةٌ أُحَاج لَكَ بِهَا عِندَ اللَّهِ (فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر شيء كلمهم به أن قال: أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:) لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنكَ (فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَءَآمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلمُشْرِكِينَ} الآية. والثالث: أنها نزلت فيما رواه أبو الخليل عن عليّ بن أبي طالب رضي الله(2/409)
عنه قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان , فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ قال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبويه؟ فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم , فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءآمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} . قوله عز وجل {وَمَا كَانَ استِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهآ إِيَّاهُ} الآية. عذر الله تعالى إبراهيم عليه السلام في استغفاره لأبيه مع شركه لسالف موعده ورجاء إيمانه. وفي موعده الذي كان يستغفر له من أجله قولان: أحدهما: أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن. والثاني: أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له لما كان يرجوه أنه يؤمن. {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ} وذلك بموته على شركه وإياسه من إيمانه {تَبَرَّأَ مِنْهُ} أي من أفعاله ومن استغفاره له , فلم يستغفر له بعد موته. {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} فيه عشرة تأويلات: أحدها: أن الأوّاه: الدعَّاء , أي الذي يكثر الدعاء , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه الرحيم , قاله الحسن. الثالث: أنه الموقن , قاله عكرمة وعطاء. الرابع: أنه المؤمن , بلغة الحبشة , قاله ابن عباس. الخامس: أنه المسبِّح , قاله سعيد بن المسيب. السادس: أنه الذي يكثر تلاوة القرآن , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. السابع: أنه المتأوّه , قاله أبو ذر. الثامن: أنه الفقيه , قاله مجاهد. التاسع: أنه المتضرع الخاشع , رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم.(2/410)
العاشر: أنه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها , قاله أبو أيوب. وأصل الأواه من التأوه وهو التوجع , ومنه قول المثقب العبدي.
(إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُها بِلَيْلٍ ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ)(2/411)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
{وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} الآية. سبب نزولها أن قوماً من الأعراب أسلموا وعادوا إلى بلادهم فعملوا بما شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمله من الصلاة إلى بيت المقدس وصيام الأيام البيض , ثم قدموا بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوه يصلي إلى الكعبة ويصوم شهر رمضان: فقالوا: يا رسول الله أضلنا الله بعدك بالصلاة. إنك على أمر وإنا على غيره فأنزل الله تعالى هذه الآية.(2/411)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
{لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم} قوله عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} الآية. هي غزوة تبوك قِبل الشام , كانوا في عسرة من الظهر , كان الرجلان والثلاثة على بعير وفي عسرة من الزاد , قال قتادة حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما , وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها أحدهم ثم يشرب عليها من الماء , ثم يمصها الآخر , وفي عسرة من الماء , وكانوا في لهبان الحر وشدته.(2/411)
قال عبد الله بن محمد بن عقيل: وأصابهم يوماً عطش شديد فجعلوا ينحرون إبلهم ويعصرون أكراشها فيشربون ماءها , قال عمر بن الخطاب فأمطر الله السماء بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فغشينا. وفي هذه التوبة من الله على النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار وجهان محتملان: أحدهما: استنقاذهم من شدة العسر. والثاني: أنها خلاصهم من نكاية العدوّ. وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه وهو الرجوع إلى الحالة الأولى. {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: تتلف بالجهد والشدة. والثاني: تعدِل عن الحق في المتابعة والنصرة , قاله ابن عباس. {ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وهذه التوبة غير الأولى , وفيها قولان: أحدهما: أن التوبة الأولى في الذهاب , والتوبة الثانية في الرجوع. والقول الثاني: أن الأولى في السفر , والثانية بعد العودة إلى المدينة. فإن قيل بالأول , أن التوبة الثانية في الرجوع , احتملت وجهين: أحدهما: أنها الإذن لهم بالرجوع إلى المدينة. الثاني: أنها بالمعونة لهم في إمطار السماء عليهم حتى حيوا , وتكون التوبة على هذين الوجهين عامة. وإن قيل إن التوبة الثانية بعد عودهم إلى المدينة احتملت وجهين: أحدهما: أنها العفو عنهم من ممالأة من تخلف عن الخروج معهم. الثاني: غفران ما همَّ به فريق منهم من العدول عن الحق , وتكون التوبة على هذين الوجهين خاصة.(2/412)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
{وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت(2/412)
عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} قوله عز وجل: {وَعلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} يعني وتاب على الثلاثة الذين خلّفوا وفيه وجهان: أحدهما: خلفوا عن التوبة وأخرت عليهم حين تاب عليهم , أي على الثلاثة الذين لم يربطوا أنفسهم مع أبي لبابة , قاله الضحاك وأبو مالك. الثاني: خلفوا عن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله عكرمة. وهؤلاء الثلاثة هم: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك. {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} لأن المسلمين امتنعوا من كلامهم. {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} بما لقوه من الجفوة لهم. {وَظَنُّوآ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} أي تيقنوا أن لا ملجأ يلجؤون إليه في الصفح عنهم وقبول التوبة منهم إلا إليه. {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} قال كعب بن مالك: بعد خمسين ليلة من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزاة تبوك. {لِيَتُوبُوآ} قال ابن عباس ليستقيموا لأنه قد تقدمت توبتهم وإنما امتحنهم بذلك استصلاحاً لهم ولغيرهم. قوله عز وجل: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَءَآمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها في أهل الكتاب , وتأويلها: يا أيها الذين آمنوا من اليهود بموسى , ومن النصارى بعيسى اتقوا الله في إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فآمنوا به , وكونوا مع الصادقين يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جهاد المشركين , قاله مقاتل بن حيان.(2/413)
الثاني: أنها في المسلمين: وتأويلها: يا أيها الذين آمنوا من المسلمين اتقوا الله وفي المراد بهذه التقوى وجهان: أحدهما: اتقوا الله من الكذب , قال ابن مسعود: إن الكذب لا يصلح في جدٍّ ولا هزل , اقرأُوا إن شئتم {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَءَآمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وهي قراءة ابن مسعود هكذا: من الصادقين. والثاني: اتقوا الله في طاعة رسوله إذا أمركم بجهاد عدوِّه. {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فيهم أربعة أقاويل: أحدها: مع أبي بكر وعمر , قاله الضحاك. الثاني: مع الثلاثة الذين خُلفوا حين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم عن تأخرهم ولم يكذبوا. قاله السدي. والثالث: مع من صدق في قوله ونيته وعمله وسره وعلانيته , قاله قتادة. والرابع: مع المهاجرين لأنهم لم يتخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن جريج.(2/414)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
{ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}(2/414)
قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} فيه وجهان: أحدهما: وما كان عليهم أن ينفروا جميعاً لأن فرضه صار على الكفاية وهذا ناسخ لقوله تعالى {انفِرُو خِفَافاً وَثِقَالاً} قاله ابن عباس. والثاني: معناه وما كان للمؤمنين إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرية أن يخرجوا جميعاً فيها ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة حتى يقيم معه بعضهم , قاله عبد الله بن عبيد الله بن عمير. قال الكلبي: وسبب نزول ذلك أن المسلمين بعد أن عُيّروا بالتخلف عن غزوة تبوك توفروا على الخروج في سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوه وحده بالمدينة , فنزل ذلك فيهم. {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} فيه قولان: أحدهما: لتتفقه الطائفة الباقية إما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهاده , وإما مهاجرة إليه في إقامته , قاله الحسن. الثاني: لتتفقه الطائفة المتأخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفور في السرايا , ويكون معنى الكلام: فهلاَّ إذا نفروا أن تقيم من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين , قاله مجاهد. وفي قوله تعالى {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} تأويلان: أحدهما: ليتفقهوا في أحكام الدين ومعالم الشرع ويتحملوا عنه ما يقع به البلاغ وينذروا به قومهم إذا رجعوا إليهم. الثاني: ليتفقهوا فيما يشاهدونه من نصر الله لرسوله وتأييده لدينه وتصديق وعده ومشاهدة معجزاته ليقوى إيمانهم ويخبروا به قومهم.(2/415)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
{يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين} قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَآمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ} فيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنهم الروم قاله ابن عمر.(2/415)
الثاني: أنهم الديلم , قاله الحسن. الثالث: أنهم العرب , قاله ابن زيد. الرابع: أنه على العموم في قتال الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى , قاله قتادة.(2/416)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
{وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} قوله عز وجل: {وَإِذَا مَآ أُنْزِلَتُ سُورَةٌ فِمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيَُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} . هؤلاء هم المنافقون. وفي قولهم ذلك عند نزول السورة وجهان: أحدهما: أنه قول بعضهم لبعض على وجه الإنكار , قاله الحسن. الثاني: أنهم يقولون ذلك لضعفاء المسلمين على وجه الاستهزاء. {فَأَمَّا الَّذِينَءَآمَنُوا فَزَادَتْهُمُ إيمَاناً} فيه تأويلان: أحدهما: فزادتهم خشية , قاله الربيع بن أنس. الثاني: فزادتهم السورة إيماناً لأنهم قبل نزولها لم يكونوا مؤمنين بها , قاله الطبري. {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شك. {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إثماً إلى إثمهم , قاله مقاتل. الثاني: شكاً إلى شكِّهم , قاله الكلبي. الثالث: كفراً إلى كفرهم , قاله قطرب.(2/416)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
{أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل(2/416)
يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون} قوله عز وجل: {أَوَ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} الآية. في معنى الافتتان هنا ثلاثة أوجه: أحدها: يبتلون , قاله ابن عباس. الثاني: يضلون , قاله عبد الرحمن بن زيد. الثالث: يختبرون , قاله أبو جعفر الطبري. وفي الذي يفتنون به أربعة أقاويل: أحدها: أنه الجوع والقحط , قاله مجاهد. الثاني: أنه الغزو والجهاد في سبيل الله , قاله قتادة. الثالث: ما يلقونه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله حذيفة بن اليمان. الرابع: أنه ما يظهره الله تعالى من هتك أستارهم وسوء نياتهم , حكاه علي بن عيسى. وهي في قراءة ابن مسعود: {أَوَ لاَ تَرَى أَنَّهُم يُفْتَنُونَ} خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/417)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} قوله عز وجل: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} فيه قراءتان: إحداهما: من أنفسكم بفتح الفاء ويحتمل تأويلها ثلاثة أوجه: أحدها: من أكثركم طاعة لله تعالى. الثاني: من أفضلكم خلقاً. الثالث: من أشرفكم نسباً.(2/417)
والقراءة الثانية: بضم الفاء , وفي تأويلها أربعة أوجه: أحدها: يعني من المؤمنين لم يصبه شيء من شرك , قاله محمد بن علي. الثاني: يعني من نكاح لم يصبه من ولادة الجاهلية , قاله جعفر بن محمد. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خَرَجْتُ مِن نِكَاحٍ وَلَمْ أَخَرُجْ مِنْ سِفَاحٍ) الثالث: ممن تعرفونه بينكم , قاله قتادة. الرابع: يعني من جميع العرب لأنه لم يبق بطن من بطون العرب إلا قد ولدوه , قاله الكلبي. {عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عنِتُّمُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: شديد عليه ما شق عليكم , قاله ابن عباس. الثاني: شديد عليه ما ضللتم , قاله سعيد بن أبي عروبة. الثالث: عزيز عليه عنت مؤمنكم , قاله قتادة. {حَرِيصٌ عَلَيكُمْ} قاله الحسن: حريص عليكم أن تؤمنوا. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فيه وجهان:(2/418)
أحدهما: بما يأمرهم به من الهداية ويؤثره لهم من الصلاح. الثاني: بما يضعه عنهم من المشاق ويعفو عنهم من الهفوات , وهو محتمل. قوله عز وجل {فَإِن تَوَلَّوْا} فيه وجهان: أحدهما: عن طاعة الله , قاله الحسن. الثاني: عنك , ذكره عليّ بن عيسى. {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ} يحتمل وجهين: أحدهما: حسبي الله معيناً عليكم. الثاني: حسبي الله هادياً لكم. {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظيمِ} يحتمل وجهين: أحدهما: لسعته. الثاني: لجلالته. روى يوسف بن مهران عن ابن عباس أن آخر ما أُنزل من القرآن هاتان الآيتان {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} وهذه الآية. وقال أُبي بن كعب: هما أحدث القرآن عهداً بالله وقال مقاتل: تقدم نزولهما بمكة , والله أعلم.(2/419)
سورة يونس(2/420)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
{الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} قوله عز وجل: {الر} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه أنا الله أرى , قاله ابن عباس والضحاك. والثاني: هي حروف من اسم الله الذي هو الرحمن , قاله سعيد بن جبير والشعبي. وقال سالم بن عبد الله: {الر} و {حمٌ} و {ن} للرحمن مقاطع. الثالث: هو اسم من أسماء القرآن , قاله قتادة. الرابع: أنها فواتح افتتح الله بها القرآن , قاله ابن جريج. {تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} يعني بقوله {تِلْكَءَايَاتُ} أي هذه آيات , كما قال الأعشى:
(تلك خَيْلِي مِنْهُ وتلكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُها كالزَّبِيبِ)(2/420)
أي هذه خيلي. وفي {الكِتَابِ الْحِكيمِ} ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: التوراة والإنجيل , قاله مجاهد. الثاني: الزبور , قاله مطر. الثالث: القرآن , قاله قتادة. وفي قوله {الحَكِيمِ} تأويلان: أحدهما: أنه بمعنى محكم , قاله أبو عبيدة. الثاني: أنه كالناطق بالحكمة , ذكره علي بن عيسى. قوله عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ} قال ابن عباس: سبب نزولها أن الله تعالى لما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً أنكر العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد , فنزلت هذه الآية. وهذا لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الإنكار والتعجب مَن كفر من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه جاءهم رسول منهم , وقد أرسل الله إلى سائر الأمم رسلاً منهم. ثم قال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَءَآمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِهِّم} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أن لهم ثواباً حسناً بما قدموا من صالح الأعمال , قاله ابن عباس. الثاني: سابق صدق عند ربهم أي سبقت لهم السعادة في الذكر الأول , قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس أيضاً. الثالث: أن لهم شفيع صدق يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يشفع لهم , قاله مقاتل بن حيان. الرابع: أن لهم سلف صدق تقدموهم بالإيمان , قاله مجاهد وقتادة.(2/421)
والخامس: أن لهم السابقة بإخلاص الطاعة , قال حسان بن ثابت:
(لنا القدم العُلْيَا إليكَ خَلْفَنَا ... لأَوَّلنا في طَاعَةِ اللَّهِ تابعُ)
ويحتمل سادساً: أن قدم الصدق أن يوافق الطاعة صدق الجزاء , ويكون القدم عبارة عن التقدم , والصدق عبارة عن الحق.(2/422)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون} قوله عز وجل: {يُدَبِّرُ الأمْرَ} فيه وجهان: أحدهما: يقضيه وحده , قاله مجاهد. الثاني: يأمر به ويمضيه. {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما من شفيع يشفع إلا من بعد أن يأذن الله تعالى له في الشفاعة. الثاني: ما من أحد يتكلم عنده إلا بإذنه , قاله سعيد بن جبير. الثالث: لا ثاني معه , مأخوذ من الشفع الذي هو الزوج لأنه خلق السموات والأرض وهو واحد فرد لا حي معه , ثم خلق الملائكة والبشر.(2/422)
وقوله {إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} يعني من بعد أمره أن يكون الخلق فكان , قاله ابن بحر. قوله عز وجل: { ... إِنَّهُ يَبْدَؤُأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يَعِيدُهُ} فيه وجهان: أحدهما: أنه ينشئه ثم يفنيه. الثاني: ما قاله مجاهد: يحييه ثم يميته ثم يبيده ثم يحييه.(2/423)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
{إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} فيه تأويلان: أحدهما: لا يخافون عقابنا. ومنه قول الشاعر:
(إِذَا لَسَعَتْهُ النّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلُ)
الثاني: لا يطمعون في ثوابنا , ومنه قول الشاعر:
(أَيَرْجُوا بَنُوا مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي ... وَقَوْمِي تَمِيْمٌ وَالْفَلاَةُ وَرَائِيَا)(2/423)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بإِيمَانِهِمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يجعل لهم نوراً يمشون به , قاله مجاهد. الثاني: يجعل عملهم هادياً لهم إلى الجنة , وهذا معنى قول ابن جريج. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يَتَلَقَّى الْمُؤْمِنَ عَمَلُهُ فِي أَحْسَنِ صُوَرَةٍ(2/423)
فَيُؤْنِسُهُ وَيَهْدَيهِ , وَيَتَلَقَّى الْكَافِرَ عَمَلُهُ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ فَيُوحِشُهُ وَيُضِلُّهُ) . الثالث: أن الله يهديهم إلى طريق الجنة. الرابع: أنه وصفهم بالهداية على طريق المدح لهم. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} فيه وجهان: أحدهما: من تحت منازلهم قاله أبو مالك. الثاني: تجري بين أيديهم وهم يرونها من علو لقوله تعالى {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51] يعني بين يدي. وحكى أبو عبيدة عن مسروق أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود. قوله عز وجل: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} فيه وجهان: أحدهما: أن أهل الجنة إذا اشتهوا الشيء أو أرادوا أن يدعوا بالشيء قالوا سبحانك اللهم فيأتيهم , ذلك الشيء , قاله الربيع وسفيان. الثاني: أنهم إذا أرادوا الرغبة إلى الله في دعاء يدعونه كان دعاؤهم له: سبحانك اللهم: قاله قتادة. {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} فيه وجهان: أحدهما: معناه وملكهم فيها سالم. والتحية الملك , ومنه قول زهير بن جنان الكلبي:
(ولكلُّ ما نال الفتى ... قد نِلتُه إلا التحية)
الثاني: أن تحية بعضهم لبعض فيها سلام. أي: سلمت وأمنت مما بلي به أهل النار , قاله ابن جرير الطبري. {وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: أن آخر دعائهم: الحمد لله رب العالمين , كما كان أول دعائهم: سبحانك اللهم , ويشبه أن يكون هذا قول قتادة.(2/424)
الثاني: أنهم إذا أجابهم فيما دعوه وآتاهم ما اشتهوا حين طلبوه بالتسبيح قالوا بعده: شكراً لله والحمد لله رب العالمين.(2/425)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
{ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون} قوله عز وجل: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: ولو يعجل الله للكافر العذاب على كفره كما عجل له خير الدنيا من المال والولد لعجل له قضاء أجله ليتعجل عذاب الآخرة , قاله ابن إسحاق. الثاني: معناه أن الرجل إذا غضب على نفسه أو ماله أو ولده فيدعو بالشر فيقول: لا بارك الله فيه وأهلكه الله , فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب منه الخير لقضي إليهم أجلهم أي لهلكوا. فيكون تأويلاً على الوجه الأول خاصاً في الكافر , وعلى الوجه الثاني عاماً في المسلم والكافر. {فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} قال قتادة: يعني مشركي أهل مكة. {فِي طُغْيَانِهِمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في شركهم , قاله ابن عباس. الثاني: في ضلالهم , قاله الربيع بن أنس. الثالث: في ظلمهم , قاله عليّ بن عيسى. {يَعْمَهُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يترددون , قاله ابن عباس وأبو مالك وأبو العالية. الثاني: يتمادون , قاله السدي. الثالث: يلعبون , قاله الأعمش.(2/425)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {وَإِذَا مَسَّ الإنسَانَ الضُّرُّ دََعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قآئِماً} فيه وجهان: أحدهما: أنه إذا مسه الضر دعا ربه في هذه الأحوال. الثاني: دعا ربه فيكون محمولاً على الدعاء في جميع أحواله.(2/426)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
{ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون} قوله عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيهِمْءَآيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يعني آيات القرآن التي هي تبيان كل شيء. {قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقآءَنَا} يعني مشركي أهل مكة. {ائتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَآ أَوْ بَدِّلْهُ} والفرق بين تبديله والإتيان بغيره أن تبديله لا(2/426)
يجوز أن يكون معه , والإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه. وفي قولهم ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم سألوه الوعد وعيداً , والوعيد وعداً , والحلال حراماً , والحرام حلالاً , قاله ابن جرير الطبري. الثاني: أنهم سألوه أن يسقط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم , قاله ابن عيسى. الثالث: أنه سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور , قاله الزجاج. {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءي نَفْسِي} أي ليس لي أن أتلقاه بالتبديل والتغيير كما ليس لي أَن أتلقاه بالرد والتكذيب. {إِنْ أَتَّبعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} فيما أتلوه عليكم من وعد ووعيد وتحليل وتحريم أو أمر أو نهي. {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} في تبديله وتغييره. {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني يوم القيامة. قوله عز وجل: {قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} يعني القرآن: {وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ولا أعلمكم به , قاله ابن عباس. الثاني: ولا أنذركم به , قاله شهر بن حوشب. الثالث: ولا أشعركم به , قاله قتادة. {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه أراد ما تقدم من عمره قبل الوحي إليه لأن عمر الإنسان مدة حياته طالت أو قصرت. الثاني: أنه أربعون سنة , لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعد الأربعين وهو المطلق من عمر الإنسان , قاله قتادة. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أني لم أدَّع ذلك بعد أن لبثت فيكم عمراً حتى أُوحِي إليّ , ولو كنت افتريته لقدمته.(2/427)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
{ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون} قوله عز وجل: { ... قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلمُ فِي السَّمَواتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: أتخبرونه بعبادة من لا يعلم ما في السموات ولا ما في الأرض. الثاني: أتخبرونه بعبادة غيره وليس يعلم له شريكاً في السموات ولا في الأرض. قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدً} في الناس ها هنا أربعة أقاويل: أحدها: أنه آدم عليه السلام , قاله مجاهد والسدي. الثاني: أنهم أهل السفينة , قاله الضحاك. الثالث: أنهم من كان على عهد إبراهيم عليه السلام , قاله الكلبي. الرابع: أنه بنو آدم , قاله أُبي بن كعب. وفي قوله تعالى: {إِِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} ثلاثة أوجه: أحدها: على الإسلام حتى اختلفوا , قاله ابن عباس وأُبي بن كعب. الثاني: على الكفر حتى بعث الله تعالى الرسل , وهذا قول قد روي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: على دين واحد , قاله الضحاك. {فاخْتَلَفُواْ} فيه وجهان: أحدهما: فاختلفوا في الدين فمؤمن وكافر , قاله أبي بن كعب.(2/428)
الثاني: هو اختلاف بني بن آدم حين قَتل قابيل أخاه هابيل , قاله مجاهد. {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فيه وجهان: أحدهما: ولولا كلمة سبقت من ربك في تأجيلهم إلى يوم القيامة لقضي بينهم من تعجيل العذاب في الدنيا , قاله السدي. الثاني: ولولا كلمة سبقت من ربك في أن لا يعاجل العصاة إنعاماً منه يبتليهم به لقضى بينهم فيما فيه يختلفون بأن يضطرهم إلى معرفة المحق من المبطل , قاله عليّ بن عيسى.(2/429)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
{ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون} قوله عز وجل: {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّنْ بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: رخاء بعد شدة. الثاني: عافية بعد سقم. الثالث: خصباً بعد جدب , وهذا قول الضحاك. الرابع: إسلاماً بعد كفر وهو المنافق , قاله الحسن.(2/429)
{إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيءَايَاتِنَا} فيه وجهان: أحدهما: أن المكر ها هنا الكفر والجحود , قاله ابن بحر. الثاني: أنه الاستهزاء والتكذيب , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: أن يكون المكر ها هنا النفاق لأنه يظهر الإيمان ويبطن الكفر. {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} يعني أسرع جزاء على المكر. وقيل إن سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على أهل مكة بالجدب فقحطوا سبع سنين كسني يوسف إجابة لدعوته , أتاه أبو سفيان فقال يا محمد قد كنت دعوت بالجدب فأجدبنا فادع الله لنا بالخصب فإن أجابك وأخصبنا صدقناك وآمنا بك , فدعا لهم واستسقى فسقوا وأخصبوا , فنقضوا ما قالوه وأقاموا على كفرهم , وهو معنى قوله {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيءَايَاتِنَا} .(2/430)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} قوله عز وجل: { ... فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} فيه وجهان: أحدهما: ذاهباً. الثاني: يابساً. {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِألأَمْسِ} فيه أربعه تأويلات: أحدها: كأن لم تعمر بالأمس , قاله الكلبي. الثاني: كأنه لم تعش بالأمس , قاله قتادة , ومنه قول لبيد:(2/430)
(وغنيت سبتاً بعد مجرى داحس ... لو كان للنفس اللجوج خلود)
الثالث: كأن لم تقم بالأمس , ومن قولهم غنى فلان بالمكان إذا أقام فيه , قاله عليّ بن عيسى. الرابع كأن لم تنعم بالأمس , قاله قتادة أيضاً. قوله عز وجل: {وَاللَّهَ يَدُعُواْ إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} يعني الجنة. وفي تسميتها دار السلام وجهان: أحدهما: لأن السلام هو الله , والجنة داره. الثاني: لأنها دار السلامة من كل آفة , قاله الزجاج. {وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} في هدايته وجهان: أحدهما: بالتوفيق والمعونة. الثاني: بإظهار الأدلة وإقامة البراهين. وفي الصراط المستقيم أربعة تأويلات: أحدها: أنه كتاب الله تعالى , روى علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى) . الثاني: أنه الإسلام , رواه النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/431)
الثالث: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر , قاله الحسن وأبو العالية. الرابع: أنه الحق , قاله مجاهد وقتادة. روى جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله يوماً فقال: (رَأيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِندَ رَأْسِي وَمِيكآئِيلَ عِندَ رِجْلَيّ , فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبهِ: أضْرِبْ لَهُ مَثَلاً , فَقَالَ: اسْمَعْ سَمْعَتْ أُذُنُكَ , وَاعْقِلْ , عَقَلَ قَلْبُكَ , إِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ كَمَثَلِ مَلِكٍ أتَّخَذَ دَاراً ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيتاً ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا مَائِدَةً ثُمَّ بَعَثَ رَسُولاً يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ فَمِنهُم مَّنْ أَجَابَ الرَّسُولَ وَمِنهُم مَّن تَرَكَهُ , فَاللَّهُ الْمَلِكُ , وَالدَّارُ الإسْلاَمُ , وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ , وََأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ الرَّسُولُ فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ فِي الإِسْلاَمِ , وَمَنْ دَخَلَ فِي الإِسْلاَمِ دَخَلَ الْجَنَّةَ , وَمَن دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مِمَّا فيهَا) ثم تلا قتادة ومجاهد. {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} .(2/432)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله عز وجل: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} يعني عبادة ربهم. {الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أن الحسنى الجنة , والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى. وهذا قول(2/432)
أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وأبي موسى الأشعري. والثاني: أن الحسنى واحدة من الحسنات , والزيادة مضاعفتها إلى عشر أمثالها , قاله ابن عباس. الثالث: أن الحسنى حسنة مثل حسنة. والزيادة مغفرة ورضوان , قاله مجاهد. والرابع: أن الحسنى الجزاء في الآخرة والزيادة ما أعطوا في الدنيا , قاله ابن زيد. والخامس: أن الحسنى الثواب , والزيادة الدوام , قاله ابن بحر. ويحتمل سادساً: أن الحسنى ما يتمنونه , والزيادة ما يشتهونه. {وَلاَ يَْرهَقُ وَجُوهَهُمْ قَتَرٌ} في معنى يرهق وجهان: أحدهما: يعلو. الثاني: يلحق , ومنه قيل غلام مراهق إذا لحق بالرجال. وفي قوله تعالى: {قَتَرٌ} أربعة أوجه: أحدها: أنه سواد الوجوه , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الحزن , قاله مجاهد. الثالث: أنه الدخان ومنه قتار اللحم وقتار العود وهو دخانه , قاله ابن بحر. الرابع: أنه الغبار في محشرهم إلى الله تعالى , ومنه قول الشاعر:
(متوجٌ برداء الملك يتبعه ... موجٌ ترى فوقه الرايات والقترا)
{وَلاَ ذِلَّةٌ} فيها ها هنا وجهان: أحدهما: الهوان. الثاني: الخيبة.(2/433)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
{ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم(2/433)
إن كنا عن عبادتكم لغافلين هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون} قوله عز وجل: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} فيه قراءتان: إحداهما: بتاءين قرأ بها حمزة والكسائي , وفي تأويلها ثلاثة أوجه: أحدها: تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا , قاله السدي , ومنه قول الشاعر:
(إن المريب يتبع المريبا ... كما رأيت الذيب يتلو الذيبا)
الثاني: تتلو كتاب حسناتها وكتاب سيئاتها , ومن التلاوة. والثالث: تعاين كل نفس جزاء ما عملت. والقراءة الثانية: وهي قراءة الباقين تتلو بالباء وفي تأويلها وجهان: أحدهما: تسلم كل نفس. الثاني: تختبر كل نفس , قاله مجاهد. {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِ} أي مالكهم , ووصف تعالى نفسه بالحق , لأن الحق منه , كما وصف نفسه بالعدل , لأن العدل منه. فإن قيل فقد قال تعالى {وَأَنَّ الْكَافرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] فكيف صار ها هنا مولى لهم؟ قيل ليس بمولى في النصرة والمعونة , وهو مولى لهم في الملكية. {وَضلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي بطل عنهم ما كانوا يكذبون.(2/434)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى(2/434)
تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون} قوله عز وجل: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً} هم رؤساؤهم. {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِ شَيْئاً} في الظن وجهان: أحدهما: أنه منزلة بين اليقين والشك , وليست يقيناً وليست شكاً. الثاني: إن الظن ما تردد بين الشك واليقين وكان مرة يقيناً ومرة شكاً.(2/435)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
{وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين} قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ} يعني أنه يختلق ويكذب. {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} فيه وجهان: أحدهما: شاهد بصدق ما تقدم من التوراة والإنجيل والزبور. الثاني: لما بين يديه من البعث والنشور والجزاء والحساب. ويحتمل ثالثاً: أن يكون معناه ولكن يصدقه الذي بين يديه من الكتب السالفة بما فيها من ذكره فيزول عنه الافتراء. قوله عز وجل: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} فيه وجهان:(2/435)
أحدهما: لم يعلموا ما عليهم بتكذيبهم لشكهم فيه. الثاني: لم يحيطوا بعلم ما فيه من وعد ووعيد لإعراضهم عنه. {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} فيه وجهان: أحدهما: علم ما فيه من البرهان. الثاني: ما يؤول إليه أمرهم من العقاب.(2/436)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
{وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون} قوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} فيه وجهان: أحدهما: يستمعون الكذب عليك فلا ينكرونه. الثاني: يستمعون الحق منك فلا يَعُونَه. {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن من لا يعي ما يسمع فهو كمن لا يعقل. الثاني: معناه أنه كما لا يعي من لا يسمع كذلك لا يفهم من لا يعقل. والألف التي في قوله تعالى {أَفَأَنتَ} لفظها الاستفهام ومعناها معنى النفي.(2/436)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
{ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين}(2/436)
قوله تعالى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنَ لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ} فيه وجهان: أحدهما: كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار. الثاني: كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة من النهار لقربه. {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: يعرف بعضهم بعضاً. قال الكلبي: يتعارفون إذا خرجوا من قبورهم ثم تنقطع المعرفة. الثاني: يعرفون أن ما كانوا عليه باطل.(2/437)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
{وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} قوله عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} يعني نبياً يدعوهم إلى الهدى ويأمرهم بالإيمان. {فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم ليكون رسولهم شاهداً عليهم , قاله مجاهد. الثاني: فإذا جاء رسولهم يوم القيامة وقد كذبوه في الدنيا قضى الله تعالى بينهم وبين رسولهم في الآخرة , قاله الكلبي. الثالث: فإذا جاء رسولهم في الدنيا واعياً بعد الإذن له في الدعاء عليهم قضى الله بينهم بتعجيل الانتقام منهم , قاله الحسن.(2/437)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
{قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون أثم(2/437)
إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون} قوله عز وجل: {وَيَسْتَنْبئُونَكَ} أي يستخبرونك , وهو طلب النبأ. {أََحَقٌّ هُوَ} فيه وجهان: أحدهما: البعث , قاله الكلبي. الثاني: العذاب في الآخرة. {قُلْ وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} فأقسم مع إخباره أنه حق تأكيداً. {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} فيه وجهان: أحدهما: بممتنعين. الثاني: بسابقين , قاله ابن عباس. قوله عز وجل: {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُْ الْعَذَابَ} فيه وجهان: أحدهما: أخفوا الندامة وكتموها عن رؤسائهم , وقيل بل كتمها الرؤساء عن أتباعهم. الثاني: أظهروها وكشفوها لهم. وذكر المبرد فيه وجهاً ثالثاً: أنه بدت بالندامة أَسِرّةُ وجوههم وهي تكاسير الجبهة. {وَقُضِيَ بَيْنَهُم} فيه وجهان: أحدهما: قضي بينهم وبين رؤسائهم , قاله الكلبي. الثاني: قضى عليهم بما يستحقونه من عذابهم.(2/438)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
{يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل(2/439)
الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} قوله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن فضل الله معرفته , ورحمته توفيقه. الثاني: أن فضل الله القرآن , ورحمته الإسلام , قاله ابن عباس وزيد بن أسلم والضحاك. الثالث: أن فضل الله الإسلام , ورحمته القرآن , قاله الحسن ومجاهد وقتادة. {فَبَذلِكَ فَلْيَفُرَحُواْ} يعين بالمغفرة والتوفيق على الوجه الأول , وبالإٍسلام والقرآن على الوجهين الآخرين. وفيه ثالث: فلتفرح قريش بأن محمداً منهم , قاله ابن عباس. {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} يعني في الدنيا. روى أبان عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ هَدَاهُ اللهُ لِلإِسْلاَمِ وَعَلَّمَهُ القُرآنَ ثُمَّ شَكَا الفَاقَةَ كَتبَ اللَّهُ الْفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ) ثم تلا {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} .(2/440)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون} قوله عز وجل: {أَلاَّ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في {أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} ها هنا خمسة أقاويل: أحدها: أنهم أهل ولايته والمستحقون لكرامته , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. الثاني: هم {الَّذِينَءَامَنُوا وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} . الثالث: هم الراضون بالقضاء , والصابرون على البلاء , والشاكرون على النعماء.(2/440)
الرابع: هم من توالت أفعالهم على موافقة الحق. الخامس: هم المتحابون في الله تعالى. روى جرير عن عمارة بن غزية عن أبي زرعة عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مِن عِبَادِ اللَّهِ أُنَاسَاً مَّا هُم بِأَنْبِيْآءٍ وَلاَ شُهَدَآءٍ يَغْبِطُهُم الأنبِياءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَمَكَانِهِم مِّن اللَّهِ) قالوا: يا رسول الله خبّرنا من هم وما أعمالهم فإنا نحبهم لذلك , قال: (هُمْ قَوْمٌ تَحآبُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُم وَلاَ أَمْوَالٍ يَتَعَاطَونَهَا. فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُم لَعَلَى مَنَابَرَ مِن نُّورٍ لاَ يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلاَ يَحْزَنُونَ إِذَا حِزَنَ النَّاسُ) وقرأ {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيهمِ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . وفيه وجهان: أحدهما: لا يخافون على ذريتهم فإن الله تعالى يتولاهم ولا هم يحزنون على دنياهم لأن الله تعالى يعوضهم عنها , وهو محتمل. الثاني: لا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون عند الموت. قوله عز وجل: {لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} فيه تأويلان: أحدهما: أن البشرى في الحياة الدنيا هي البشارة عند الموت بأن يعلم أين هو من قبل أن يموت , وفي الآخرة الجنة , قاله قتادة والضحاك , وروى علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إِنّ لِخَدِيجَةَ بِنتِ خُوَيِلدِ بَيْتاً مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَب) . الثاني: أن البشرى في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى(2/441)
له، وفي الآخرة الجنة , روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الدرداء وأبو هريرة وعبادة بن الصامت. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن البشرى في الحياة الدنيا الثناء الصالح , وفي الآخرة إعطاؤه كتابه بيمينه. {لاَ تَبْديلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: لا خلف لوعده. الثاني: لا نسخ لخيره.(2/442)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} قوله عز وجل: { ... فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكآءَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: فاجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم لنصرتكم , قاله الفراء. الثاني: فاجمعوا أمركم مع شركائكم على تناصركم , قاله الزجاج. وفي هذا الإجماع وجهان: أحدهما: أنه الإعداد.(2/442)
الثاني: أنه العزم. {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} فيه تأويلان: أحدهما: أن الغمة ضيق الأمر الذي يوجب الغم. الثاني: أنه المغطى , من قولهم: قد غم الهلال إذا استتر. وفي المراد بالأمر ها هنا وجهان: أحدهما: من يدعونه من دون الله تعالى. الثاني: ما هم عليه من عزم. {ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ثم انهضوا , قاله ابن عباس. الثاني: ثم اقضوا إليّ ما أنتم قاضون , قاله قتادة. الثالث: اقضوا إليّ ما في أنفسكم , قاله مجاهد. {وَلاَ تُنظِرُونَ} قال ابن عباس: ولا تؤخروني. قوله عز وجل: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} يعني عن الإيمان. {فَمَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: فما سألتكم من أجر تستثقلونه فتمتنعون من الإجابة لأجله , {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} . والثاني: فما سألتكم من أجر إن انقطع عني ثقُل علي. {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} وقد حصل بالدعاء لكم إن أجبتم أو أبيتم. {أمِرتُ أن أكونَ مِنَ المُسْلِمينَ} أي من المستسلمين لأمر الله بطاعته. قوله عز وجل: {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ في الْفُلْكِ} قال ابن عباس: كان في سفينة نوح عليه السلام ثمانون رجلاً أحدهم جرهم وكان لسانه عربياً , وحمل فيها من كل زوجين اثنين , قال ابن عباس فكان أول ما حمل الذرة وآخر ما حمل الحمال ودخل معه إبليس يتعلق بذنبه. {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ} أي خلفاً لمن هلك بالغرق. {وَأَغْرَقُنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتِنَا} حكى أبو زهير أن قوم نوح عاشوا في الطوفان(2/443)
أربعين يوماً. وذكر محمد بن إسحاق أن الماء بقي بعد الغرق مائة وخمسين يوماً , فكان بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن غاض الماء ستة أشهر وعشرة أيام وذلك مائة وتسعون يوماً. قال محمد بن إسحاق لما مضت على نوح أربعون ليلة فتح كوة السفينة ثم أرسل منها الغراب لينظر ما فعل الماء فلم يعد , فأرسل الحمامة فرجعت إليه ولم تجد لرجلها موضعاً , ثم أرسلها بعد سبعة أيام فرجعت حيث أمست وفي فيها ورقة زيتونة فعلم أن الماء قد قل على الأرض , ثم أرسلها بعد سبعة أيام فلم تعد فعلم أن الأرض قد برزت , وكان استواء السفينة على الجودي لسبع عشرة ليلة من الشهر السابع فيما ذكر , والله أعلم.(2/444)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
{ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين} قوله عز وجل: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِءَابَاءَنَا} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: لتلوينا , قاله قتادة. الثاني: لتصدنا , قاله السدي. الثالث: لتصرفنا , من قولهم لفته لفتاً إذا صرفه ومنه لفت عنقه أي لواها , قاله عليّ بن عيسى. {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأَرْضِ} فيه أربعة أوجه:(2/444)
أحدها: الملك , قاله مجاهد. الثاني: العظمة , حكاه الأعمش. الثالث: العلو , قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. الرابع: الطاعة , قاله الضحاك.(2/445)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
{وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين} قوله عز وجل: {فَمَاءَآمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذِرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الذرية القليل , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم الغلمان من بني إسرائيل لأن فرعون كان يذبحهم فأسرعوا إلى الإيمان بموسى , قاله زيد بن أسلم. الثالث: أنهم أولاد الزمن قاله مجاهد. الرابع: أنهم قوم أمهاتهم من بني إسٍرائيل وآباؤهم من القبط. ويحتمل خامساً: أن ذرية قوم موسى نساؤهم وولدانهم. {عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِمْ} يعني وعظمائهم وأشرافهم. {أَنَ يَفْتِنَهُمْ} فيه وجهان:(2/445)
أحدهما: أن يعذبهم , قاله ابن عباس. الثاني: أن يكرههم على استدامة ما هم عليه. {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: أي متجبر , قاله السدي. الثاني: باغ طاغ , قاله ابن إسحاق. {وِإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} يعني في بغيه وطغيانه.(2/446)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
{وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين} قوله عز وجل: { ... فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلَنْا} يحتمل وجهين: أحدهما: في الإسلام إليه. الثاني: في الثقة به. {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَومِ الظَّالِمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: لا تسلطهم علينا فيفتنوننا , قاله مجاهد. الثاني: لا تسلطهم علينا فيفتتنون بنا لظنهم أنهم على حق , قاله أبو الضحى وأبو مجلز. قوله عز وجل: {وَأوْحَيْنَآ إِلَى مَوسَى وَأخِيهِ أَن تَبَوَّءَاْ لِقَوْمِكُمَا بِمصْرَ بُيُوتاً} . يعني تخيّرا واتخذا لهم بيوتاً يسكنونها , ومنه قول الراجز:
(نحن بنو عدنان ليس شك ... تبوَأ المجد بنا والملك)
وفي قوله {بِمِصْرَ} قولان: أحدهما: أنها الإسكندرية , وهو قول مجاهد. الثاني: أنه البلد المسمى مصر , قاله الضحاك. وفي قوله {بُيُوتاً} وجهان:(2/446)
أحدهما: قصوراً , قاله مجاهد.(2/447)
الثاني: مساجد , قاله الضحاك. {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: واجعلوها مساجد تصلون فيها , لأنهم كانوا يخافون فرعون أن يصلّوا في كنائسهم ومساجدهم , قاله الضحاك وابن زيد والنخعي. الثاني: واجعلوا مساجدكم قِبل الكعبة , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. الثالث: واجعلوا بيوتكم التي بالشام قبلة لكم في الصلاة فهي قبلة اليهود إلى اليوم قاله ابن بحر. الرابع: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضاً , قاله سعيد بن جبير. {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} فيه وجهان: أحدهما: في بيوتكم لتأمنوا فرعون. الثاني: إلى قبلة مكة لتصح صلاتكم. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} قال سعيد بن جبير: بشرهم بالنصر في الدنيا , وبالجنة في الآخرة.(2/448)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
{وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} قوله عز وجل: { ... رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} أي أهلكها , قاله قتادة. فذكر لنا أن زروعهم وأموالهم صارت حجارة منقوشة , قاله الضحاك. {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: بالضلالة ليهلكوا كفاراً فينالهم عذاب الآخرة , قاله مجاهد. الثاني: بإعمائها عن الرشد. الثالث: بالموت , قاله ابن بحر. الرابع: اجعلها قاسية. {فَلاَ يُؤْمنُوا حَتَّى يَرَُواْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} قال ابن عباس هو الغرق. قوله عز وجل: {قَالَ قَدْ أُجِيبت دَّعْوَتُكُمَا} قال أبو العالية والربيع: دعا موسى وأمَّن هارون فسمي هارون وقد أمّن على الدعاء داعياً , والتأمين على الدعاء أن يقول آمين. واختلف في معنى آمين بعد الدعاء وبعد فاتحة الكتاب في الصلاة على ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه اللهم استجب , قاله الحسن. الثاني: أن آمين اسم من أسماء الله تعالى , قاله مجاهد , قال ابن قتيبة وفيه حرف النداء مضمر وتقديره يا آمين استجب دعاءنا. الثالث: ما رواه سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آمين خَاتَمُ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ) يعني أنها تمنع من وصول الأذى والضرر كما يمنع الختم من الوصول إلى المختوم عليه. وفرق ابن عباس في معنى آمين بين وروده بعد الدعاء وبين وروده بعد فاتحة الكتاب فقال: معناه بعد الدعاء: اللهم استجب , ومعناه بعد الفاتحة: كذلك فليكن. قال محمد بن علي وابن جريج: وأخّر فرعون بعد إجابته دعوتهما أربعين سنة. {فَاسْتَقِيمَا} فيه وجهان: أحدهما: فامضيا لأمري فخرجا في قومهم , قاله السدي. الثاني: فاستقيما في دعوتكما على فرعون وقومه , وحكاه علي بن عيسى. وقيل: إنه لا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن لأن دعاءه موجب لحلول الانتقام وقد يجوز أن يكون فيهم من يتوب.(2/448)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون} قوله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} معنى ننجيك نلقيك على نجوة من الأرض , والنجوة المكان المرتفع وقوله تعالى {بِبَدَنِكَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني بجسدك من غير روح , قاله مجاهد. الثاني: بدرعك , وكان له درع من حديد يعرف بها , قاله أبو صخر , وكان من تخلف من قوم فرعون ينكر غرقه. وقرأ يزيد اليزيدي {نُنَجِّيكَ} بالحاء غير معجمة وحكاها علقمة عن ابن مسعود. أن يكون على ناحية من البحر حتى يراه بنو إسرائيل , وكان قصير أحمر كأنه ثور. {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَءَايَةً} يعني لمن بعدك عبرة وموعظة.(2/449)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
{ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} فيه قولان: أحدهما: أنه الشام وبيت المقدس , قاله قتادة. الثاني: أنه مصر والشام: قاله الضحاك. وفي قوله: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} تأويلان: أحدهما: أنه كالصدق في الفضل. والثاني: أنه تصدق به عليهم.(2/449)
ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أنه وعدهم إياه فكان وَعْدُه وعْد صدق. {وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني وأحللنا لهم من الخيرات الطيبة. {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَآءَهُمُ العِلْمُ} يعني أن بني إسرائيل ما اختلفوا أن محمداً نبي. {حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} وفيه وجهان: أحدهما: حتى جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يعلمون أنه نبي , وتقديره حتى جاءهم المعلوم , قاله ابن بحر وابن جرير الطبري. والثاني: حتى جاءهم القرآن , قاله ابن زيد.(2/450)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
{فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} قوله عز وجل: {فَإن كُنتَ في شَكٍّ مِّمَّآ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ} هذا خطاب من الله لنبيه يقول: إن كنت يا محمد في شك مما أنزلنا إليك , وفيه وجهان: أحدهما: في شك أنك رسول. الثاني: في شك أنك مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل. {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكَتَابَ مِن قَبْلِكَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه أراد مَنْ منهم مثل عبد الله بن سلام وكعب الأحبار , قاله ابن زيد. الثاني: أنه عنى أهل الصدق والتقوى منهم , قاله الضحاك. فإن قيل: فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم شاكاً؟ قيل قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لاَ أَشُكُ وَلاَ أَسْأَلُ)(2/450)
وفي معنى الكلام وجهان: أحدهما: أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره من أمته , كما قال تعالى: {يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} الآية [الطلاق: 1] . والثاني: أنه خطاب ورد على عادة العرب في توليد القبول والتنبيه على أسباب الطاعة. كقول الرجل لابنه: إن كنت ابني فبرّني , ولعبده إن كنت مملوكي فامتثل أمري , ولا يدل ذلك على شك الولد في أنه ابن أبيه ولا أن العبد شاك في أنه ملك لسيده. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي من الشاكّين. قوله عز وجل: {إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: إن الذين وجبت عليهم كلمة ربك بالوعيد والغضب لا يؤمنون أبداً. الثاني: إن الذين وقعت كلمته عليهم بنزول العذاب بهم لا يؤمنون أبداً.(2/451)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
{فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} قوله عز وجل: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌءَامَنَتُ فَنَفَعَهآ إيمَانُهَا} والمراد بالقرية أهل القرية. {إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} وهم أهل نينوى من بلاد الموصل فإن يونس عليه السلام وعدهم بالعذاب بعد ثلاثة أيام , فقالوا: انظروا يونس فإن خرج عنا فوعيده حق , فلما خرج عنهم تحققوه ففزعوا إلى شيخ منهم فقال: توبوا وادعوا وقولوا يا حي حين لاحي , ويا حي يا محيي الموتى , ويا حي لا إله إلا أنت , فلبسوا المسوح وفرقوا بين كل والدة وولدها , وخرجوا من قريتهم تائبين داعين فكشف الله عنهم العذاب كما قال تعالى: { ... كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وفيه وجهان: أحدهما: أنهم تابوا قبل أن يروا العذاب فلذلك قبل توبتهم , ولو رأوه لم يقبلها كما لم يقبل من فرعون إيمانه لما أدركه الغرق. الثاني: أنه تعالى خصهم بقبول التوبة بعد رؤية العذاب , قال قتادة: كشف(2/451)
عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم ولم يكن بينهم وبين العذاب إلا ميل. {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حينٍ} فيه تأويلان: أحدهما: إلى أجلهم , قاله السدي. الثاني: إلى أن يصيرهم إلى الجنة أو النار , قاله ابن عباس. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إن الحذر لا يرد القدر , وإن الدعاء يرد القدر , وذلك أن الله تعالى يقول: {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّاءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} قال عليّ رضي الله عنه ذلك يوم عاشوراء.(2/452)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
{ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين} قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه إلا بأمر الله تعالى , قاله الحسن. الثاني: إلا بمعونة الله. الثالث: إلا بإعلام الله سبل الهدى والضلالات. {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أن الرجس السخط , قاله ابن عباس. الثاني: أنه العذاب , قاله الفراء. الثالث: أنه الإثم , قاله سعيد بن جبيرٍ. الرابع: أنه ما لا خير فيه , قاله مجاهد. الخامس: أنه الشيطان , قاله قتادة.(2/452)
وقوله: {عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} يعني لا يعقلون عن الله تعالى أمره ونهيه ويحتمل أنهم الذين لا يعتبرون بحججه ودلائله.(2/453)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
{قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم} قوله عز وجل: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلِّدِينِ حَنِيفاً} أي استقم بإقبال وجهك على ما أمرت به من الدين حنيفاً , وقيل أنه أراد بالوجه النفس. و {حَنِيفاً} فيه ستة تأويلات: أحدها: أي حاجاً , قاله ابن عباس والحسن والضحاك وعطية والسدي. الثاني: متبعاً , قاله مجاهد. الثالث: مستقيماً , قاله محمد بن كعب. الرابع: مخلصاً , قاله عطاء. الخامس: مؤمناً بالرسل كلهم , قاله أبو قلابة قال حمزة بن عبد المطلب:
(حمدت الله حين هدى فؤادي ... من الإشراك للدين الحنيف)
السادس: سابقاً إلى الطاعة , مأخوذ من الحنف في الرجلين وهو أن تسبق إحداهما الأخرى.(2/453)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
{قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل واتبع ما يوحى(2/453)
إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين} قوله عز وجل: {قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِنَّ ربِّكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: القرآن. الثاني: الرسول صلى الله عليه وسلم. {فَمِنِ اهْتَدَى فإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} فيه وجهان محتملان: أحدهما: فمن اهتدى لقبول الحق فإنما يهتدي بخلاص نفسه. الثاني: فمن اهتدى إلى معرفة الحق فإنما يهتدي بعقله.(2/454)
سورة هود(2/455)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
{الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير} قوله عز وجل: {الر كِتَابٌ} يعني القرآن. {أُحْكِمَتْءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أحكمت آياته بالأمر والنهي ثم فصلت بالثواب والعقاب , قاله الحسن. الثاني: أحكمت آياته من الباطل ثم فصلت بالحلال والحرام والطاعة والمعصية , وهذا قول قتادة.(2/455)
الثالث: أحكمت آياته بأن جعلت آيات هذه السورة كلها محكمة ثم فصلت بأن فسرت , وهذا معنى قول مجاهد. الرابع: أحكمت آياته للمعتبرين , وفصلت آياته للمتقين. الخامس: أحكمت آياته في القلوب , وفصلت أحكامه على الأبدان. {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} فيه وجهان: أحدهما: من عند حكيم في أفعاله , خبير بمصالح عباده. الثاني: حكيم بما أنزل , خبير بمن يتقبل. قوله عز وجل {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ} فيه وجهان: أحدهما: أن كتبت في الكتاب {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ} الثاني: أنه أمر رسوله أن يقول للناس {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ} . {إنَّنِي لَكُم مِّنُهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} قال ابن عباس: نذير من النار , وبشير بالجنة. قوله عز وجل: {وَأَنِ اسْتَغفْفِرُواْ رَبَّكمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} فيه وجهان: أحدهما: استغفروه من سالف ذنوبكم ثم توبوا إليه من المستأنف متى وقعت منكم. قال بعض العلماء: الإٍستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين. الثاني: أنه قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب والتوبة هي السبب إليها , فالمغفرة أولٌ في الطلب وآخر في السبب. ويحتمل ثالثاً: أن المعنى استغفروه من الصغائر وتوبوا إليه من الكبائر {يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً} يعني في الدنيا وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه طيب النفس وسعة الرزق. الثاني: أنه الرضا بالميسور , والصبر على المقدور. الثالث: أنه ترْك الخلق والإقبال على الحق , قاله سهل بن عبد الله ويحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الحلال الكافي. الثاني: أنه الذي لا كد فيه ولا طلب. الثالث: أنه المقترن بالصحة والعافية. {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} فيه ثلاثة أوجه:(2/456)
أحدها: إلى يوم القيامة , قاله سعيد بن جبير. الثاني: إلى يوم الموت , قاله الحسن. الثالث: إلى وقت لا يعلمه إلا الله تعالى , قاله ابن عباس. {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فيه وجهان: أحدهما: يهديه إلىالعمل الصالح , قاله ابن عباس. الثاني: يجازيه عليه في الآخرة , على قول قتادة. ويجوز أن يجازيه عليه في الدنيا , على قول مجاهد. {وَإن تَوَلَّوْا} يعني عما أُمرتم له. {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وفيه إضمار وتقدير: فقل لهم إني أخاف عليكم عذاب يوم كبير يعني يوم القيامة وصفه بذلك لكبر الأمور التي هي فيه.(2/457)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
{ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور} قوله عز وجل: {أَلاَ إنَّهُمُ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: يثنون صدورهم على الكفر ليستخفوا من الله تعالى , قاله مجاهد. الثاني: يثنونها على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ليخفوها عنه , قاله الفراء والزجاج. الثالث: يثنونها على ما أضمروه من حديث النفس ليخفوه عن الناس , قاله الحسن. الرابع: أن المنافقين كانوا إذا مرّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم غطوا رؤوسهم وثنوا صدورهم ليستخفوا منه فلا يعرفهم , قاله أبو رزين. الخامس: أن رجلاً قال إذا أغلقت بابي وضربت ستري وتغشيت ثوبي وثنيت صدري فمن يعلم بي؟ فأعلمهم الله تعالى أنه يعلم ما يسرون وما يعلنون. {أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمُ} يعني يلبسون ثيابهم ويتغطون بها، ومنه قول الخنساء:(2/457)
(أرعى النجوم وما كُلّفتُ رعيتها ... وتارةً أتغشّى فضل أطماري)
وفي المراد ب {حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أربعة أقاويل: أحدها: الليل يقصدون فيه إخفاء أسرارهم فيما يثنون صدورهم عليه. والله تعالى لا يخفى عليه ما يسرونه في الليل ولا ما يخفونه في صدروهم , فكنى عن الليل باستغشاء ثيابهم لأنهم يتغطون بظلمته كما يتغطون إذا استغشوا ثيابهم. الثاني: أن قوماً من الكفار كانوا لشدة بغضتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يستغشون ثيابهم يغطون بها وجوههم ويصمون بها آذنهم حتى لا يروا شخصه ولا يسمعوا كلامه , وهو معنى قول قتادة. الثالث: أن قوماً من المنافقين كانوا يظهرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم أنهم على طاعته ومحبته , وتشتمل قلوبهم على بغضه ومعصيته , فجعل ما تشتمل عليه قلوبهم كالمستغشي بثيابه. الرابع: أن قوماً من المسلمين كانوا يتنسكون بستر أبدانهم ولا يكشفونها تحت السماء , فبين الله تعالى أن المنسك ما اشتملت قلوبهم عليه من معتقد وما أظهروه من قول وعمل. ثم بيَّن ذلك فقال: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما يسرون في قلوبهم وما يعلنون بأفواههم. الثاني: ما يسرون من الإيمان وما يعلنون من العبادات. الثالث: ما يسرون من عمل الليل وما يعلنون من عمل النهار , قاله ابن عباس. {إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قيل بأسرار الصدور. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق الثقفي.(2/458)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}(2/458)
قوله عز وجل: {وَيَعْلَمُ مُستَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدعَهَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: مستقرها حيث تأوي , ومستودعها حيث تموت. الثاني: مستقرها في الرحم , ومستودعها في الصلب , قاله سعيد بن جبير. الثالث: مستقرها في الدنيا , ومستودعها في الآخرة. ويحتمل رابعاً: أن مستقرها في الآخرة من جنة أو نار , ومستودعها في القلب من كفر أو إيمان.(2/459)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
{وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون} قوله عز وجل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني أيكم أتم عقلاً , قاله قتادة. الثاني: أيكم أزهد في الدنيا , وهو قول سفيان. الثالث: أيكم أكثر شكراً , قاله الضحاك. الرابع: ما روى كليب بن وائل عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَيُكُم أَحْسَنُ عَمَلاً) أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَقْلاً وَأَوْرَعُ عَن مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَسَرَعُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ (.(2/459)
قوله عز وجل: {ولئن أخْرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة} فيه وجهان: أحدهما: يعني إلى فناء أمة معلومة , ذكره علي بن عيسى. الثاني: إلى أجل معدود , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين. وتكون الأمة عبارة عن المدة , واصلها الجماعة فعبر بها عن المدة لحلولها في مدة. {ليقولن ما يحبسه} يعني العذاب. وفي قولهم ذلك وجهان: أحدهما: أنهم قالوا ذلك تكذيباً للعذاب لتأخره عنهم. الثاني: أنهم قالوا ذلك استعجالاً للعذاب واستهزاء , بمعنى ما الذي حبسه عنا؟(2/460)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
{ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن(2/460)
يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} قوله عز وجل: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَّبِّه} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن , قاله عبد الرحمن بن زيد. الثاني: محمد صلى الله عليه وسلم , قاله مجاهد وعكرمة وأبو العالية وأبو صالح وقتادة والسري والضحاك. الثالث: الحجج الدالة على توحيد الله تعالى ووجوب طاعته , قاله ابن بحر. وذكر بعض المتصوفة قولاً رابعاً: أن البينة هي الإشراف على القلوب والحكمة على الغيوب. {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه لسانه يشهد له بتلاوة القرآن , قاله الحسن وقتادة , ومنه قول الأعشى:
(فلا تحبسنّي كافراً لك نعمةً ... على شاهدي يا شاهد الله فاشهد.)
)
الثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم شاهد من الله تعالى , قاله علي بن الحسين. الثالث: أنه جبريل عليه السلام , قاله ابن عباس والنخعي وعكرمة والضحاك. الرابع: أنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه , روى المنهال عن عباد بن عبد الله قال: قال عليّ: ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية , قيل له: فما نزل فيك؟ قال {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنُهُ} الخامس: أنه ملك يحفظه , قاله مجاهد وأبو العالية.(2/461)
ويحتمل قولاً سادساً: ويتلوه شاهد من نفسه بمعرفة حججه ودلائله وهو عقله ووحدته , قال ابن بحر. {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} فيه وجهان: أحدهما: ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة , قاله ابن زيد. الثاني: ومن قبل محمد كتاب موسى , قاله مجاهد. {إِمَاماً وَرَحْمَةًً} فيه وجهان: أحدهما يعني متقدماً علينا ورحمة لهم. الثاني: إماماً للمؤمنين لاقتدائهم بما فيه ورحمة لهم. {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني من كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الأديان كلها لأنهم يتحزبون: قاله سعيد بن جبير. الثاني: هم المتخزبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمعون على محاربته. وفي المراد بهم ثلاثة أوجه: أحدها: قريش , قال السدي. الثاني: اليهود والنصارى , قاله سعيد بن جبير. الثالث: أهل الملل كلها. {فَالْنَّارُ مَوْعِدُهُ} أي أنها مصيره , قال حسان بن ثابت:
(أوردتموها حياض الموت ضاحيةً ... فالنار موعِدُها والموت لاقيها)
{فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ منه} فيه وجهان: أحدهما: في مرية من القرآن قاله مقاتل. الثاني: في مرية من أن النار موعد الكفار , قاله الكلبي , وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به جميع المكلفين.(2/462)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
{ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين(2/462)
الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون} قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} معناه ومن أظلم لنفسه ممن افترى على الله كذباً بأن يدعي إنزال ما لم ينزل عليه أو ينفي ما أنزل عليه. {أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} وهو حشرهم إلى موقف الحساب كعرض الأمير لجيشه , إلا أن الأمير يعرضهم ليراهم وهذا لا يجوز على الله تعلى لرؤيته لهم قبل الحشر. {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هؤلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} والأشهاد جمع , وفيما هو جمع له وجهان: أحدهما: أنه جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب. والثاني: جمع شهيد مثل شريف وأشراف. وفي الأشهاد أربعة أقاويل: احدها: أنه الأنبياء , قاله الضحاك. الثاني: أنهم الملائكة , قاله مجاهد. الثالث: الخلائق , قاله قتادة. الرابع: أن الأشهاد أربعة: الملائكة والأنبياء والمؤمنون والأجساد , قاله زيد بن أسلم. قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَصُّدُونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يعني قريشاً. وفي سبيل الله التي صدوا عنها وجهان: أحدهما: أنه محمد صلى الله عليه وسلم صدت قريش عنه الناس , قاله السدي. والثاني: دين الله تعالى , قاله ابن عباس.(2/463)
{وَيَبْغُونَها عِوَجاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني يؤمنون بملة غير الإسلام ديناً , قاله أبو مالك. الثاني: يبغون محمداً هلاكاً , قاله السدي. الثالث: أن يتأولوا القرآن تاويلاً باطلاً , قاله عليّ بن عيسى. قوله عز وجل: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن معنى لا جرم: لا بد. الثاني: أن {لا} عائد على الكفار , أي لا دافع لعذابهم , ثم استأنف فقال: جرم , أي كسب بكفره استحقاق النار , ويكون معنى جرم: كسب , أي بما كسبت يداه , قال الشاعر:
(نَصَبنا رأسه في جذع نخل ... بما جَرَمت يداه وما اعتدينا)
أي بما كسبت يداه. الثالث: أن {لا} زائدة دخلت توكيداً , يعني حقاً إنهم في الآخرة هم الأخسرون. قال الشاعر:
(ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارُة بعدها أن يغضبوا.)
أي أحقتهم الطعنة بالغضب.(2/464)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون} قوله عز وجل: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعني خافوا ربهم , قاله ابن عباس. الثاني: يعني اطمأنوا , قاله مجاهد. الثالث: أنابوا , قاله قتادة.(2/464)
الرابع: خشعوا وتواضعوا لربهم , رواه معمر. الخامس: أخلصوا إلى ربهم , قاله مقاتل.(2/465)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} قوله عزوجل: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَك إلاَّ الَّذينَ هُمْ أرَاذِلُنا} الاراذل جمع أرذل , وارذل جمع رذل , والرذل الحقير , وعنوا بأراذلهم الفقراء وأصحاب المهن المتضعة. {باديَ الرأي} أي ظاهر الرأي , وفيه ثلاثة اوجه: احدها: إنك تعمل بأول الرأي من غير فكر , قاله الزجاج. الثاني: أن ما في نفسك من الرأي ظاهر , تعجيزاً له , قال ابن شجرة. الثالث: يعني ان أراذلنا اتبعوك بأقل الرأي وهم إذا فكروا رجعوا عن اتباعك , حكاه ابن الأنباري. {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنا مِن فَضْلٍ} يحتمل وجهين. أحدهما: من فضل تفضلون به علينا من دنياكم. والثاني: من فضل تفضلون به علينا في أنفسكم.(2/465)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} قوله عز وجل: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَّبِّي} فيه وجهان: أحدهما: يعني على ثقة من ربي , قاله أبو عمران الجوني. الثاني: على حجة من ربي , قاله عليّ بن عيسى.(2/465)
{وَآتَانِي رَحْمَة مِنْ عِنْدِهِ} فيها وجهان: أحدهما: الإيمان. والثاني: النبوة , قاله ابن عباس. {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} يعني البينة في قوله {إنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةِ مِن رَبِّي} وإنما قال {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} وهم الذين عموا عنها , لأنها خفيت عليهم بترك النظر فأعماهم الله عنها. وقرأ حمزة والكسائي وحفص {فعميت عليكم} بضم العين وتشديد الميم , وفي قراءة أُبي {فعمّاها} وهي موافقة لقراءة من قرأ بالضم على ما لم يسم فاعله. وفي الذي عماها على هاتين القراءتين وجهان: أحدهما: أن الله تعالى عماها عليهم. الثاني: بوسوسة الشيطان. وما زينه لهم من الباطل حتى انصرفوا عن الحق. وإنما قصد نبي الله نوح بهذا القول لقومه أن يرد عيهم قولهم {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} ليظهر فضله عليهم بأنه على بينة من ربه وآتاه رحمة من عنده وهم قد سلبوا ذلك , فأي فضل أعظم منه. ثم قال تعالى: {أَنُلْزِمْكَمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} فيها وجهان: أنلزمكم الرحمة , قاله مقاتل. الثاني: أنلزمكم البينة وأنتم لها كارهون , وقبولكم لها لا يصح مع الكراهة عليها. قال قتادة والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك.(2/466)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
{ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون}(2/466)
قوله عز وجل: {. . وَمَآ أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَءَامَنُواْ} لأنهم سألوه طرد من اتبعه من أراذلهم , فقال جواباً لهم ورداً لسؤالهم: وما أنا بطارد الذين آمنوا. {إِنَّهُم مُّلاَقُوْا رَبِّهِم} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قال ذلك على وجه الإعظام لهم بلقاء الله تعالى. الثاني: على وجه الاختصام , بأني لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله. {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: تجهلون في استرذالكم لهم وسؤالكم طردهم. الثاني: تجلون في أنهم خير منكم لإيمانهم وكفركم.(2/467)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
{ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون} قوله عز وجل: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} احتمل هذا القول من نوح عليه السلام وجهين: أحدهما: أن يكون جواباً لقومه على قولهم {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا} الثاني: أن يكون جواباً لهم على قولهم {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} فقال الله تعالى له قل: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِن اللَّهِ} وفيها وجهان: أحدهما: أنها الرحمة أي ليس بيدي الرحمة فأسوقها إليكم , قاله ابن عباس. الثاني: أنها الأموال , أي ليس بيدي أموال فأعطيكم منها على إيمانكم. {وَلاَ أعْلَمُ الْغَيْبَ} فأخبركم بما في انفسكم. {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} يعني فأباين جنسكم.(2/467)
{وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} والازدراء الإحتقار. يقال ازدريت عليه إذاعبته , وزريت عليه إذا حقرته. وأنشد المبرد:
(يباعده الصديق وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير.)
{لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً} أي ليس لاحتقاركم لهم يبطل أجرهم أو ينقص ثوابهم , وكذلك لستم لعلوكم في الدنيا تزدادون على أجوركم. {اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} يعني أنه يجازيهم عليه ويؤاخذهم به. {إِني إذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} يعني إن قلت هذا الذي تقدم ذكره.(2/468)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
{أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون} قوله عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يعني النبي صلى الله عليه وسلم , افترى افتعل من قبل نفسه ما أخبر به عن نوح وقومه. {قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَليَّ إجرامي} وفي الإجرام وجهان: أحدهما: أنه الذنوب المكتسبة. حكاه ابن عيسى. الثاني: أنها الجنايات المقصودة , قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر:
(طريد عشيرةٍ ورهين جرم ... بما جرمت يدي وجنى لساني.)
ومعناه: فعلىّ عقاب إجرامي. {وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ} أي وعليكم من عقاب جرمكم في تكذيبي ما أنا بريء منه.(2/468)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
{وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا(2/468)
منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم} قوله عز وجل: {وَأوحِيَ إِلَى نُوحٍ أنه لن يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} حقق الله تعالى استدامة كفرهم تحقيقاً لنزول الوعيد بهم , قال الضحاك , فدعا عليهم لما أُخبر بهذا فقال: {ربِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديَّاراً. إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27: 26] . {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَ كَانُوا يَفْعَلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: فلا تأسف ومنه قول يزيد بن عبد المدان:
(فارسُ الخيل إذا ما ولولت ... ربّهُ الخِدر بصوتٍ مبتئس)
الثاني: فلا تحزن , ومنه قول الشاعر:
(وكم من خليلٍ أو حميم رُزئته ... فلم أبتئس والرزءُ فيه جَليلُ)
والأبتئاس: الحزن في استكانة , وأصله من البؤس , وفي ذلك وجهان: أحدهما: فلا تحزن لهلاكهم. الثاني: فلا تحزن لكفرهم المفضي إلى هلاكهم. قوله عز وجل: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: بحيث نراك , فعبر عن الرؤية بالأعين لأن بها تكون الرؤية. الثاني: بحفظنا إياك حفظ من يراك.(2/469)
الثالث: بأعين أوليائنا من الملائكة. ويحتمل وجهاً رابعاً: بمعونتنا لك على صنعها. {وَوَحْيِنَا} فيه وجهان: أحدهما: وأمرنا لك أن تصنعها. الثاني: تعليمنا لك كيف تصنعها. {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظلَمُواْ إِنَّهُمْ مُغْرَقونَ} نهاه الله عن المراجعة فيهم فاحتمل نهيه أمرين: أحدهما: ليصرفه عن سؤال ما لا يجاب إليه. الثاني: ليصرف عنه مأثم الممالأة للطغاة. قوله عز وجل: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} قال زيد بن أسلم: مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها , ومائة سنة يعملها , واختلف في طولها على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما قاله الحسن كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع , وعرضها ستمائة ذراع , وكانت مطبقة. الثاني: ما قاله ابن عباس: كان طولها أربعمائة ذراع , وعلوها ثلاثون ذراعاً. وقال خصيف: كان طولها ثلاثمائة ذراع , وعرضها خمسون ذراعاً , وكان في أعلاها الطير , وفي وسطها الناس وفي أسفلها السباع. ودفعت من عين وردة في يوم الجمعة لعشر مضين من رجب ورست بباقردي على الجودي يوم عاشوراء. قال قتادة وكان بابها في عرضها.(2/470)
{وكلّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِّنْ قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} وفي سخريتهم منه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يرونه يبني في البر سفينة فيسخرون منه ويستهزئون به ويقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجاراً. الثاني: أنهم لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا يا نوح: ما تصنع؟ قال: أبني بيتاً يمشي علىالماء فعجبوا من قوله وسخروا منه. {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} فيه قولان: أحدهما: إن تسخروا من قولنا فسنسخر من غفلتكم. الثاني: إن تسخروا من فِعلنا اليوم عند بناء السفينة فإنا نسخر منكم غداً عند الغرق. والمراد بالسخرية ها هنا الاستجهال. ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم. قال ابن عباس: ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر فلذلك سخروا منه. قال: ومياه البحار بقية الطوفان. فإن قيل: فلم جاز أن يقول فإنا نسخر منكم مع قبح السخرية؟ قيل: لأنه ذمٌّ جعله مجازاة على السخرية فجاء به على مزاوجة الكلام , وكان الزجاج لأجل هذا الاعتراض يتأوله على معنى إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلوننا.(2/471)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
{حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل}(2/471)
قوله عز وجل: {حَتَّى إذا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} فيه ستة أوجه: أحدها: وجه الأرض , والعرب تسمي وجه الأرض تَنُّوراً , قاله ابن عباس وقيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك. الثاني: أن التنور العين التي بالجزيرة (عين وردة) , رواه عكرمة. الثالث: أنه مسجد بالكوفة من قبل أبواب كندة , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الرابع: أن التنور ما زاد على وجه الأرض فأشرف منها , قاله قتادة. الخامس: أنه التنور الذي يخبز فيه , قيل له: إذا رأيت الماء يفور منه فاركب أنت ومن معك , قاله مجاهد. قال الحسن: كان تنوراً من حجارة وكان لحواء ثم صار لنوح , وقال مقاتل: فارَ من أقصى دار نوح بعين وردة من أرض الشام , قال أمية بن الصلت:
(فار تنورهم وجاش بماءٍ ... صار فوق الجبال حتى علاها)
السادس: أن التنور هو تنوير الصبح , من قولهم: نور الصبح تنويراً , وهو مروي عن علي رضي الله عنه. {قُلْنَا احِملْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجِيْن اثْنَينِ} يعني من الآدميين والبهائم ذكراً وأنثى. {وَأهْلَكَ} أي احمل أهلك. {إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} من الله تعالى أنه يهلكهم وهو ابنه كنعان وامرأته كانا كافرين: قاله الضحاك وابن جريج. {وَمَن آمَنَ} أي احمل من آمن. {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيْلٌ} واختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل: أحدها: ثمانون رجلاً منهم جرهم , قاله ابن عباس. الثاني: ثمانين , قاله ابن جريج. الثالث: سبعة , قاله الأعمش ومطر , وكان فيهم ثلاثة بنين: سام وحام(2/472)
ويافث , وثلاث بنات له ونوح معهم فصاروا سبعة. وعلى القول الثاني: كانت فيهم امرأة نوح فصاروا ثمانية. قال محمد بن عباد بن جعفر: فأصاب حام امرأته في السفينة , فدعا نوح أن يغير الله نطفته فجاء السودان.(2/473)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
{وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين} قوله عز وجل: {وقال اركبوا فيها بِاسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيمٌ} قال قتادة: ركب نوح عليه السلام في السفينة في اليوم العاشر من رجب , ونزل منها في اليوم العاشر من المحرم , وهو يوم عاشوراء , فقال لمن معه: من كان صائماً فليتم صومه , ومن لم يكن صائماً فليصمه. وقوله {بسم الله مجريها} أي مسيرها , {ومُرساها} أي مثبتها , فكان إذا أراد السير قال: بسم الله مجريها , فتجري , وإذا أراد الوقوف قال: بسم الله مرساها. فتثبت واقفة. قوله عز وجل: {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} قال ذلك لبقائه على كفره تكذيباً لأبيه , وقيل إن الجبل الذي أوى إليه طور زيتا. {قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} فيه وجهان: أحدهما: إلا من رحم الله وهم أهل السفينة. الثاني: إلا من رحم نوح فحمله في سفينته وقوله {لا عاصم} يعني لا معصوم. {من أمر الله} يعني الغرق.(2/473)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
{وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين} قوله عز وجل: {وقيل يا أرض ابلعي ماءَك} جعل نزول الماء فيها بمنزلة البلع , ومعناه ابلعي الماء الذي عليك , فروى الحسن والحسين عليهما السلام أن بعض البقاع امتنع أن يبلع ماءه فصار ماؤه مراً وترابه سبخا. {ويا سماء أقلعي} أي لا تمطري , من قولهم أقلع عن الشيء إذا تركه. {وغيض الماء} أي نقص حتى ذهبت زيادته عن الأرض. {وَقضي الأمر} يعني بهلاك من غرق من قوم نوح. {وَاستوت} يعني السفينة. {على الجودي} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه جبل بالموصل , قاله الضحاك. الثاني: أنه جبل بالجزيرة , قاله مجاهد. قال قتادة. هو بباقردى من أرض الجزيرة. الثالث: أن الجودي اسم لكل جبل , ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل.
(سبحانه ثم سُبحاناً يعود له ... وقبلنا سبح الجوديُّ والجمد)(2/474)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
{ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما(2/474)
ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} قوله عز وجل: {ونادى نوحٌ ربه فقال رَبِّ إنَّ ابني من أهلي} وإنما قال {من أهلي} لأن الله تعالى وعده أن ينجي أهله معه. {وإن وعدك الحق} يحتمل وجهين: أحدهما الذي يحق فلا يخلف. الثاني: الذي يلزم كلزوم الحق. {وأنت أحكم الحاكمين} يعني بالحق: فاحتمل هذا من نوح أحد أمرين: إما أن يكون قبل علمه بغرق ابنه فسأل الله تعالى له النجاة , وإما أن يكون بعد علمه بغرقه فسأل الله تعالى له الرحمة. قوله عز وجل: {قال يا نوح إنه ليس من أهلك} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه وكان لغيره رشدة , قاله الحسن ومجاهد. الثاني: أنه ابن امرأته. الثالث: أنه كان ابنه , قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك. قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط.(2/475)
وقيل إن اسمه كان كنعان , وقيل بل كان اسمه يام. قال الحسن: وكان منافقاً ولذلك استعجل نوح أن يناديه فعلى هذا يكون في تأويل قوله تعالى {إنه ليس من أهلك} وجهان: أحدهما: ليس من أهل دينك وولايتك , وهو قول الجمهور. الثاني: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك , قاله سعيد بن جبير. {إنه عملٌ غير صالحٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن مسألتك إياي أن أنجيه عمل غير صالح , قاله قتادة وإبراهيم وهو تأويل من قرأ عملٌ غير صالح بالتنوين. والثاني: معناه أن ابنك الذي سألتني أن أنجيه هو عملٌ غير صالحٍ , أي أنه لغير رشدة , قاله الحسن. والثالث: أنه عملٌ غير صالحٍ , قاله ابن عباس , وهو تأويل من لمن ينون. {فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: فيما نسبته إلى نفسك وليس منك. الثاني: في دخوله في جملة من وعدتك بإنجائهم من أهلك وليس منهم. {إني أعظُك أن تكون من الجاهلين} يحتمل وجهين: أحدهما: من الجاهلين بنسبك. الثاني: من الجاهلين بوعدي لك. وفي قوله {إني أعظك} تأويلان: أحدهما: معناه إني رافعك أن تكون من الجاهلين. الثاني: معناه أني أحذرك ومنه قوله تعالى {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً} أي يحذرّكم.(2/476)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
{قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة(2/476)
للمتقين وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين} قوله عز وجل: {يُرْسِلِ السماء عليكم مدراراً} فيه وجهان: أحدهما: أنه المطر في إبانه , قاله هارون التيمي. الثاني: المطر المتتابع , قاله ابن عباس. ويحتمل وجهين آخرين: أحدهما: يُدرُّه عند الحاجة. والثاني: يُدرُّ به البركة , وهو مأخوذ من درور اللبن من الضرع. {ويزدكم قوة إلى قوتكم} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني شدة إلى شدتك , قاله مجاهد. الثاني: خصباً إلى خصبكم , قاله الضحاك. الثالث: عزاً إلى عزكم بكثرة عددكم وأموالكم , قاله علي بن عيسى. الرابع: أنه ولد الولد , قاله عكرمة. ويحتمل خامساً يزدكم قوة في إيمانكم إلى قوتكم في أبدانكم.(2/477)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
{قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون(2/477)
إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود} قوله عز وجل: { ... إن ربي على صراط مستقيم} فيه وجهان: أحدهما: على الحق , قاله مجاهد. الثاني: على تدبير محكم , قاله علي بن عيسى. ويحتمل ثالثاً: أنه على طريق الآخرة في مصيركم إليه للجزاء وفصل القضاء.(2/478)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
{وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب} قوله عز وجل: { ... هو أنشأكم من الأرض} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: خلقكم من الأرض لأنكم من آدم وآدم من الأرض , قاله السدي. والثاني: معناه أنشأكم في الأرض. والثالث: أنشأكم بنبات الأرض.(2/478)
{واستعمركم فيها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أعمركم فيها بأن جعلكم فيها مدة أعماركم , قاله مجاهد , من قولهم أعمر فلان فلاناً داره فهي له عمرى. الثاني: امركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها بناء مساكن وغرس أشجار قاله علي بن عيسى. الثالث: أطال فيها أعمالكم , قال الضحاك , كانت أعماركم ألف سنة إلى ثلاثمائة سنة.(2/479)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
{قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير} قوله عز وجل {قالوا يا صالحُ قد كنت فينا مرجُوّاً قَبل هذا} فيه وجهان: أحدهما: أي مؤملاً برجاء خيرك. الثاني: أي حقيراً من الإرجاء وهو التأخير , فيكون على الوجه الأول عتباً , وعلى الثاني زجراً. قوله عز وجل: {قال يا قوم أرأيتم إن كُنْتُ على بينةٍ من ربي} يحتمل وجهين: أحدهما: على حق بَيّن. الثاني: على حجة ظاهرةٍ. وقال الكلبي على دين من ربي. {وآتاني منه رحمة} قال ابن جرير الطبري يعني النبوة والحكمة.(2/479)
{فمن ينصرني من الله إن عصيته} أي فمن يدفع عني عذاب الله إن عصيته بطاعتكم. {فما تزيدونني غير تخسير} فيه وجهان: أحدهما: يعني ما تزيدونني في احتجاجكم بتباع آبائكم إلا خساراً تخسرونه أنتم , قاله مجاهد. الثاني: فما تزيدونني مع الرد والتكذيب إن أجبتم إلى ما سألتم إلا خساراً لاستبدال الثواب بالعقاب.(2/480)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
{ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود} قوله عز وجل: {وأخذ الذين ظلموا الصيحةُ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن جبريل عليه السلام صاح بهم. الثاني: أن الله تعالى أحدثها في حيوان صاح بهم. الثالث: أن الله تعالى أحدثها من غير حيوان. {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} لأن الصيحة أخذتهم ليلاً فأصبحوا منها هلكى. {في ديارهم} فيه وجهان: أحدهما: في منازلهم وبلادهم , من قولهم هذه ديار بكر وديار ربيعة. الثاني: في دار الدنيا لأنها دار لجميع الخلق. وفي {جاثمين} وجهان: أحدهما: مبيتين , لأن الصحية كانت بياتاً في الليل , قاله عبد الرحمن بن زيد.(2/480)
الثاني: هلكى بالجثوم. وفي الجثوم تأويلان: أحدهما: أنه السقوط على الوجه. الثاني: أنه القعود على الرُّكب. قوله عز وجل: {كأن لم يغنوا فيها} فيه وجهان: أحدهما: كأن لم يعيشوا فيها. الثاني: كأن لم ينعموا فيها. {ألا إنَّ ثمود كفروا ربهم} فيه وجهان: أحدهما: كذبوا وعيد ربهم. الثاني: كفروا بأمر ربهم. {ألا بُعْداً لثمود} فقضى عليهم بعذاب الاستئصال فهلكوا جيمعاً إلا رجلاً منهم وهو أبو رمحان كان في حرم الله تعالى فمنعه الحرم من عذاب الله تعالى.(2/481)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
{ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} قوله عز وجل: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} . أما إبراهيم ففيه وجهان: أحدهما: أنه اسم أعجمي , قاله الأكثرون. وقيل معناه أب رحيم.(2/481)
الثاني: أنه عربي مشتق من البرهمة وهي إدامة النظر. والرسل جبريل ومعه ملكان قيل إنهما ميكائيل وإسرافيل عليه السلام وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان المرسل مع جبريل اثني عشر ملكاً. وفي البشرى التي جاءوه بها أربعة أقاويل: أحدها: بشروه بنبّوته , قاله عكرمة. الثاني: بإسحاق , قاله الحسن. الثالث: بشروه بإخراج محمد صلى الله عليه وسلم من صلبه وأنه خاتم الأنبياء. الرابع: بشروه بهلاك قوم لوط , قاله قتادة. {قالوا سلاماً قال سلامٌ} فيه وجهان: أحدهما تحية من الملائكة لإبراهيم عليه السلام فحياهم بمثله فدل على أن السلام تحية الملائكة والمسلمين جميعاً. الثاني: سلمت أنت وأهلك من هلاك قوم لوط. وقوله {سلام} أي الحمد لله الذي سلّمني , فمعنى سلام: سلمت. وقرأ حمزة والكسائي {سِلم} بكسر السين وإسقاط الألف. واختلف في السلم والسلام على وجهين: أحدهما: أن السلم من المسالمة والسلام من السلامة. الثاني: أنهما بمعنى واحد , قال الشاعر , وقد أنشده الفراء لبعض العرب:
(وقفنا فقلنا إيه سِلْم فسَلّمَتْ ... كما اكتلَّ بالبرْقِ الغمامُ اللوائحُ)
{فما لبث أن جاء بعجل حنيذ} ظنَّ رُسُل ربه أضيافاً لأنهم جاؤُوه في صورة الناس فعجل لهم الضيافة فجاءهم بعجل حنيذ. وفي الحنيذ قولان:(2/482)
أحدهما: أنه الحار , حكاه أبان بن تغلب عن علقمة النحوي. الثاني: هو المشوي نضيجاً وهو المحنوذ مثل طبيخ ومطبوخ وفيه قولان: أحدهما: هو الذي حُفر له في الأرض ثم غُمَّ فيها , قال الشاعر:
(اذا ما اعتبطنا اللحم للطالب القِرى ... حنذناه حتى عَين اللحم آكله)
الثاني: هو أن يوقد عل الحجارة فإذا اشتد حرها ألقيت في جوفه ليسرع نضجه , قال طرفة بن العبد:
(لهم راحٌ وكافور ومسكٌ ... وعِقر الوحش شائله حنوذ)
قوله عز وجل: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم} في نكرهم وأنكرهُم وجهان: أحدهما: أن معناهما مخلتف , فنكرهم إذا لم يعرفهم ونكرهم إذا وجدهم على منكر. الثاني: أنهما بمعنى واحد , قال الأعشى:
(وأنكَرَتْني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصّلَعا)
واختلف في سبب إنكاره لهم على قولين: أحدهما: أنهم لم يطعموا , ومن شأن العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم ظنوا به سوءاً وخافوا منه شراً , فنكرهم إبراهيم لذلك , قاله قتادة. والثاني: لأنه لم تكن لهم أيدي فنكرهم , قاله يزيد بن أبي حبيب. وامتنعوا من طعامه لأنهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون. {وَأَْوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} فيه وجهان: أحدهما: أضمر في نفسه خوفاً منهم. والثاني: أحسّ من نفسه تخوفاً منهم , كما قال يزيد بن معاوية:
(جاء البريد بقرطاس يُخَبُّ به ... فأوجس القلبُ من قرطاسه جزعا)
{قالوا لا تخف إنا أُرسلنا إلى قوم لوط} يعني بهلاكهم.(2/483)
وفي إعلامهم إبراهيم بذلك وجهان: أحدهما: ليزول خوفه منهم. والثاني: لأن إبراهيم قد كان يأتي قوم لوط فيقول: ويحكم أينهاكم عن الله أن تتعرضوا لعقوبته فلا يطيعونه. {وَامْرأَتُهُ قَائِمَتٌ فَضَحِكَتْ} وفي قيامها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها كانت قائمة من وراء الستر تسمع كلامهم , قاله وهب. الثاني: أنها كانت قائمة تخدمهم , قاله مجاهد. الثالث: أنها كانت قائمة تُصَلّي , قاله محمد بن إسحاق. {فَضَحِكَتْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني حاضت , قاله مجاهد والعرب تقول ضحكت المرأة إذا حاضت , والضحك الحيض في كلامهم , قال الشاعر:
(وضحك الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الخوف يوم اللّقا)
والثاني: أن معنى ضحكت: تعجبت , وقد يسمى التعجب ضحكاً لحدوث الضحك عنه , ومنه قول أبي ذؤيب.
(فجاء بمزجٍ لم ير الناس مثله ... هو الضحك إلاّ انه عمل النحل)
)
الثالث: أنه الضحك المعروف في الوجه , وهو قول الجمهور. فإن حمل تأويله على الحيض ففي سبب حيضها وجهان: أحدهما: أنه وافق وقت عاتها فخافت ظهور دمها وأرادت شداده فتحيرت مع حضور الرسل. والقول الثاني: ذعرت وخافت فتعجل حيضها قبل وقته , وقد تتغير عادة الحيض باختلاف الأحوال وتغير الطباع. ويحتمل قولاً ثالثاً: أن يكون الحيض بشيراً بالولادة لأن من لم تحض لا تلد. وإن حمل تأويله على التعجب ففيما تعجب منه أربعة أقاويل:(2/484)
أحدها: أنها تعجبت من أنها وزوجها يخدمان الأضياف تكرمة لهم وهم لا يأكلون , قاله السدي. الثاني: تعجبت من أن قوم لوط قد أتاهم العذاب وهم غافلون , قاله قتادة. الثالث: أنها عجبت من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها , قاله وهب بن منبه. الرابع: أنها تعجبت من إحياء العجل الحنيذ لأن جبريل عليه السلام مسحه بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه وأم العجل في الدار , قاله عون بن أبي شداد. وإن حمل تأويله على ضحك الوجه ففيما ضحكت منه أربعة أقاويل: أحدها: ضحكت سروراً بالسلامة. الثاني: سروراً بالولد. الثالث: لما رأت ما بزوجها من الورع , قاله الكلبي. الرابع: أنها ضحكت ظناً بأن الرسل يعملون عمل قوم لوط , قاله محمد بن عيسى. {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} وفي {وراء} ها هنا قولان: أحدهما: أن الوراء ولد الولد , قاله ابن عباس والشعبي. الثاني: أنه بمعنى بعد , قاله مقاتل , وقال النابغة الذبياني:
(حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراءَ اللهِ للمرء مذهبُ)
فعجلوا لها البشرى بالولدين مظاهرة للنعمة ومبالغة في التعجب , فاحتمل أن يكون البشارة بهما باسميهما فيكون الله تعالى هو المسمى لهما , واحتمل أن تكون البشارة بهما وسماها أبوهما. فإن قيل: فلم خصت سارة بالبشرى من دون إبراهيم؟ قيل عن هذا ثلاثة أجوبة: أحدها: أنها لما اختصت بالضحك خصت بالبشرى.(2/485)
الثاني: أنهم كافأُوها بالبشرى مقابلة على استعظام خدمتها. الثالث: لأن النساء في البشرى بالولد أعظم سروراً وأكثر فرحاً. قال ابن عباس: سمي إسحاق لأن سارة سحقت بالضحك حين بشرت به. قوله عز وجل: {قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوزٌ وهذا بَعْلي شيخا} لم تقصد بقولها يا ويلتا الدعاء على نفسها بالويل ولكنها كلمة تخفُّ على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه , وعجبت من ولادتها وهي عجوز وكون بعلها شيخاً لخروجه عن العادة , وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر. واختلف في سنها وسن إبراهيم حينئذ , فقال مجاهد: كان لسارة تسع وتسعون سنة وكان لإبراهيم مائة سنة. وقال محمد بن إسحاق: كانت سارة بنت تسعين سنة وكان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقال قتادة: كان كل واحد منهما ابن تسعين سنة. وقيل انها عرّضت بقولها {وهذا بعلي شيخاً} عن ترك غشيانه لها , والبعل هو الزوج في هذا الموضع , ومنه قوله تعالى {وبعولتهن أحق بردّهن في ذلك} [البقرة: 228] . والبعل: المعبود , ومنه قوله تعالى {أتدعون بعلاً} [الصافات: 125] أي اليها معبوداً. والبعل السيد , ومنه قول لبيد.
(حاسري الديباج عن أذرعهم ... عند بعل حازم الرأي بَطل)
فسمي الزوج بعلاً لتطاوله على الزوجة كتطاول السيد على المسود. {إن هذا لشيء عجيب} أي منكر , ومنه قوله تعالى {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} [ق: 2] أي أنكروا. ولم يكن ذلك منها تكذيباً ولكن استغراباً له.(2/486)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
{فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}(2/486)
قوله عز وجل: {فلما ذهب عن إبراهيم الرّوع} يعني الفزع , والرُّوع بضم الراء النفس , ومنه قولهم ألقى في رُوعي أي في نفْسي. {وجاءتْهُ البشرى} أي بإسحاق ويعقوب. {يجادلنا في قوم لوط} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جادل الملائكة بقوله {إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينة وأهله} [العنكبوت: 32] قاله الحسن. الثاني: أنه سألهم أتعذبونهم إن كان فيها خمسون من المؤمنين؟ قالوا لا , قال: فإن كان فيها أربعون؟ قالوا: لا , إلى أن أنزلهم إلى عشرة , فقالوا: لا , قاله قتادة. الثالث: أنه سألهم عن عذابهم هل هو عذاب الاستئصال فيقع بهم لا محالة على سبيل التخويف ليؤمنوا , فكان هذا هو جداله لهم وإن كان سؤالاً لأنه خرج مخرج الكشف عن أمر غامض. قال أبو مالك: ولم يؤمن بلوط إلا ابنتاه رقية وهي الكبرى وعروبة وهي الصغرى.(2/487)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
{ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد} قوله عز وجل: {ولما جاءَت رُسُلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذراعاً} قال ابن عباس: ساء ظنه بقومه وضاق ذرعاً بأضيافه. ويحتمل وجهاً آخر أنه ساء ظنه برسل ربه , وضاق ذراعاً بخلاص نفسه لأنه نكرهم قبل معرفتهم. {وقال هذا يومٌ عصيب} أي شديد لأنه خاف على الرسل من قومه أن يفضحوهم على قول ابن عباس , وعلى الاحتمال الذي ذكرته خافهم على نفسه فوصف يومه بالعصيب وهو الشديد , قال الشاعر:(2/487)
(وإنك إلاّ ترض بكر بن وائل ... يكن لك يومٌ بالعراق عصيب.)
قال أبو عبيدة: وإنما قيل له عصيب لأنه يعصب الناس بالشر , قال الكلبي: كان بين قرية إبراهيم وقف لوط أربعة فراسخ. قوله عز وجل: {وجاءه قومُه يهرعون إليه} أي يسرعون , والإهراع بين الهرولة والحجزى. قال الكسائي والفراء: لا يكون الإهراع إلا سراعاً مع رعدة. وكان سبب إسراعهم إليه أن أمرأة لوط أعلمتهم بأضيافه وجَمالهم فأسرعوا إليه طلباً للفاحشة منهم. {ومن قبل كانوا يعملون السيئات} فيه وجهان: أحدهما: من قبل إسراعهم اليه كان ينكحون الذكور , قاله السدي. الثاني: أنه كانت اللوطية في قوم لوط في النساء قبل الرجال بأربعين سنة , قاله عمر بن أبي زائدة. {قال يا قوم هؤلاء بناتي هُنَّ أطهر لكم} قال لهم لوط ذلك ليفتدي أضيافه منهم. {هؤلاء بناتي} فيهن قولان: أحدهما: أنه أراد نساء أمته ولم يرد بنات نفسه. قال مجاهد وكل نبي أبو أمّته وهم أولاده. وقال سعيد بن جبير: كان في بعض القرآن: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزاجه أمهاتهم وهوأب لهم. الثاني: أنه أراد بنات نفسه وأولاد صلبه لأن أمره فيهن أنفذ من أمره في غيرهن , وهو معنى قول حذيفة بن اليمان. فإن قيل: كيف يزوجهم ببناته مع كفر قومه وإيمان بناته؟ قيل عن هذا ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه كان في شريعة لوط يجوز تزويج الكافر بالمؤمنة , وكان هذا في صدر الإسلام جائزاً حتى نسخ , قاله الحسن. الثاني: أنه يزوجهم على شرط الإيمان كما هو مشروط بعقد النكاح. الثالث: أنه قال ذلك ترغيباً في الحلال وتنبيهاً على المباح ودفعاً للبادرة من غير بذل نكاحهن ولا بخطبتهن , قاله ابن أبي نجيح.(2/488)
{هن أطهر لكم} أي أحل لكم بالنكاح الصحيح. {فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا تذلوني بعار الفضيحة , ويكون الخزي بمعنى الذل. الثاني: لا تهلكوني بعواقب فسادكم , ويكون الخزي بمعنى الهلاك. الثالث: أن معنى الخزي ها هنا الاستحياء , يقال خزي الرجل إذا استحى , قال الشاعر:
(من البيض لا تخزى إذا الريح ألصقت ... بها مِرطها أو زايل الحلي جيدها)
والضيف: الزائر المسترقد , ينطلق على الواحد والجماعة , قال الشاعر:
(لا تعدمي الدهر شفار الجازر ... للضيف والضيف أحق زائر)
{أليس منكم رجلٌ رشيد} فيه وجهان: أحدهما: أي مؤمن , قاله ابن عباس. الثاني: آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر , قاله أبو مالك. ويعني: رجل رشيد ليدفع عن أضيافه , وقال ذلك تعجباً من اجتماعهم على المنكر. قوله عز وجل: {قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق} فيه وجهان: أحدهما: ما لنا فيهن حاجة , قاله الكلبي. الثاني: ليس لنا بأزواج , قاله محمد بن إٍسحاق. {وإنك لتعلم ما نريد} فيه وجهان: أحدهما: تعلم أننا لا نتزوج إلا بامرأة واحدة وليس منا رجل إلا له امرأة , قاله الكلبي. الثاني: أننا نريد الرجال.(2/489)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
{قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب} قوله عز وجل: {قال لو أن لي بكم قوة} يعني أنصاراً. وقال ابن عباس: أراد الولد. {أو آوي إلى رُكنٍ شديد} يعني إلى عشيرة مانعة. وروى أبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد) . يعني الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فما بعث الله بعده نبياً إلا في ثروة من قومه) . قال وهب بن منبه: لقد وجدت الرسل على لوط وقالوا: إن ركنك لشديد. قوله عز وجل: {قالوا يا لوط إنا رُسُل ربِّك لن يصلوا إليك} وفي اسمه وجهان: أحدهما: أنه اسم أعجمي وهو قول الأكثيرين. الثاني: أنه اسم عربي مأخوذ من قولهم: لطتُ الحوض إذا ملسته بالطين. وقيل إن لوطاً كان قائماً على بابه يمنع قومه من أضيافه , فلما أعلموه أنهم رسل ربه مكّن قومه من الدخول فطمس جبريل عليه السلام على أعينهم فعميت , وعلى أيديهم فجفت. {فأسْرِ بأهلك} أي فسِرْ بأهلك ليلاً , والسُري سير الليل , قال عبد الله بن رواحة:
(عند الصباح يحمد القوم السُرَى ... وتنجلي عنهم غيابات الكرى)
يقال وأسرى وفيها وجهان: أحدهما: أن معناهما في سير الليل واحد. الثاني: أن معناهما مختلف , فأسرى إذا سار من أول الليل , وسرى إذا سار في آخره , ولا يقال في النهار إلا سار , قال لبيد:(2/490)
(إذا المرءُ أسرى ليلة ظن أنه ... قضى عملاً , والمرءُ ما عاش عامِلُ)
{بقطعٍ من الليل} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه سواد الليل , قاله قتادة. الثاني: أنه نصف الليل مأخوذ من قطعه نصفين , ومنه قول الشاعر:
(ونائحةٍ تنوح بقطع ليل ... على رجلٍ بقارعة الصّعيد)
الثالث: أنه الفجر الأول , قاله حميد بن زياد. الرابع: أنه قطعة من الليل , قاله ابن عباس. {ولا يلتفت منك أحد} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا ينظر وراءه منكم أحد , قاله مجاهد. الثاني: يعني لا يتخلف منك أحد , قاله ابن عباس: الثالث: يعني لا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مال أو امتناع , حكاه علي بن عيسى. {إلا امرأتك إنّه مُصيبها ما أصابهم} فيه وجهان: أحدهما: أن قوله {إلا امرأتك} استثناء من قوله {فأسر بأهلك بقطع من الليل الا امرأتك} وهذا قول من قرأ {إلا امرأتك} بالنصب. الثاني: أنه استثناء من قوله {ولا يلتفت منك أحد إلا امرأتك} وهو على معنى البدل إذا قرىء بالرفع. {إنه مصيبها ما أصابهم} فذكره قتادة أنها خرجت مع لوط من القرية فسمعت الصوت فالتفتت , فأرسل الله عليهم حجراً فأهلكها. {إنّ موعدهم الصبح أليْسَ الصُّبحُ بقريبٍ} فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لوطاً لما علم أنهم رسل ربه قال: فالآن إذن فقال له جبريل عليه السلام {إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) ويجوز أن يكون قد جعل الصبح ميقاتاً(2/491)
لهلاكهم لأن النفوس فيه أودع والناس فيه أجمع.(2/492)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
{فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} قوله عز وجل: {فلمّا جاء أمرُنا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه أمر الله تعالى للملائكة. الثاني: أنه وقوع العذاب بهم. الثالث: أنه القضاء بعذابهم. {جعلنا عاليَها سافلَها} قال محمد بن كعب القرظي إن الله تعالى بعث جبريل إلى مؤتفكات قوم لوط فاحتملها بجناحه ثم صعد بها حتى إن أهل السماء يسمعون نباح كلابهم وأصوات دجاجهم , ثم قلبها فجعل عاليها سافلها وأتبعها بحجارة من سجّيل حتى أهلكها وما حولها , وكن خمساً: صبغة ومقرة وعمرة ودوما وسدوم وهي القرية العظمى. وقال قتادة: كانوا في ثلاث قرى يقال لها سدوم بين المدينة والشام وكان فيها أربعة آلاف ألف. {وأمطرنا عليها حجارة من سجّيل} فيه ثمانية تأويلات: أحدها: أنه فارسي معرب وهو (سنك وكيل) فالسنك: الحجر , والكيل الطين , قاله ابن عباس. الثاني: أنه طين قد طبخ حتى صار كالأرحاء , ذكره ابن عيسى. الثالث: أنه الحجارة الصلبة الشديدة , قاله أبو عبيدة وأنشد قول ابن مقبل:(2/492)
(ورحلة يضربون البيض عن عَرَضٍ ... ضربا تواصى به الأبطال سجّينا)
إلا أن النون قلبت لاماً. الرابع: من سجيل يعني من سماء اسمها سجيل , قاله ابن زيد. الخامس: من سجيل من جهنم واسمها سجين فقلبت النون لاماً. السادس: أن السجيل من السجل وهو الكتاب وتقديره من مكتوب الحجارة التي كتب الله تعالى أن يعذب بها أو كتب عليها , وفي التنزيل {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين. وما أدراك ما سجين. كتاب مرقوم} [المطففين: 7 - 9] السابع: أنه فِعِّيل من السجل وهو الإرسال , يقال أسجلته أي أرسلته , ومنه سمي الدلو سجلاً لإرساله فكان السجل هو المرسل عليهم. الثامن: أنه مأخوذ من السجل الذي هو العطاء , يقال سجلت له سجلاً من العطاء , فكأنه قال سُجلوا البلاء أي أعطوه. {منضود} فيه تأويلان: أحدهما: قد نُضَّد بعضه على بعض , قال الربيع. الثاني: مصفوف , قاله قتادة. قوله عز وجل: {مسومة عند ربك} والمسومة: المعلّمة , مأخوذ من السيماء وهي العلامة , قال الشاعر:
(غُلامٌ رماه الله بالحُسْن يافعا ... له سيمياءٌ لا تشقُ على البصر)
وفي علامنها قولان: أحدهما: أنها كانت مختمة , على كل حجر منها اسم صاحبه. الثاني: معلمة ببياض في حمرة , على قول ابن عباس , وقال قتادة: مطوقة بسواد في حمرة. {عند ربك} فيه وجهان:(2/493)
أحدهما: في علم ربك , قال ابن بحر. الثاني: في خزائن ربك لا يملكها غيره ولا يتصرف فيها أحد إلا بأمره. {وما هي من الظالمين ببعيد} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه ذكر ذلك وعيداً لظالمي قريش , قاله مجاهد. الثاني: وعيد لظالمي العرب , قال عكرمة. الثالث: وعيد لظالمي هذه الأمة , قاله قتادة. الرابع: وعيد لكل ظالم , قاله الربيع. وفي الحجارة التي أمطرت قولان: أحدهما: أنه أمطرت على المدن حين رفعها. الثاني: أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها وكان خارجاً عنها.(2/494)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
{وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط} قوله عز وجل: {وإلى مَدِين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبُدوا الله ما لكم من إله غيره} ومدين هم قوم شعيب , وفي تسميتهم بذلك قولان: أحدهما: لأنهم بنو مدين بن إبراهيم , فقيل مدين والمراد بنو مدين , كما يقال مضر والمراد بنو مضر. الثاني: أن مدين اسم مدينتهم فنسبوا إليها ثم اقتصر على اسم المدينة تخفيفاً. ثم فيه وجهان: أحدهما: أنه اسم أعجمي. الثاني: أنه اسم عربي وفي اشتقاقه وجهان: أحدهما: أنه من قولهم مدن بالمكان إذا أقام فيه , والياء زائدة , وهذا قول من زعم أنه اسم مدينة.(2/494)
الثاني: أنه مشتق من قولهم دَيَنْت أي ملكت والميم زائدمة , وهذا قول من زعم أنه اسم رجل. وأما شعيب فتصغير شعب وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الطريق في الجبل. الثاني: أنه القبيلة العظيمة. الثالث: أنه مأخوذ من شَعْب الإناء المكسور. {ولا تنقصوا المكيال والميزان} كانوا مع كفرهم أهل بخس وتطفيف فأمروا بالإيمان إقلاعاً عن الشرك , وبالوفاء نهياً عن التطفيف. {إني أراكم بخير} فيه تأويلان: أحدهما: أنه رخص السعر , قاله ابن عباس والحسن. الثاني: أنه المال وزينة الدنيا , قال قتادة وابن زيد. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أنه الخصب والكسب. {إني أخافُ عليكم عذاب يومٍ محيط} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: غلاء السعر , وهو مقتضى قول ابن عباس والحسن. الثاني: عذاب الاستصال في الدنيا. الثالث: عذاب النار بالآخرة.(2/495)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
{ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ} قوله عز وجل: {بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين} فيها ستة أقاويل: أحدها: يعني طاعة الله تعالى خير لكم , قاله مجاهد. الثاني: وصية من الله , قاله الربيع. الثالث: رحمة الله , قاله ابن زيد. الرابع: حظكم من ربكم خير لكم , قاله قتادة. الخامس: رزق الله خير لكم , قاله ابن عباس.(2/495)
السادس: ما أبقاه الله لكم بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان خير لكم , قاله ابن جرير الطبري. {وما أنا عليكم بحفيظ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: حفيظ من عذاب الله تعالى أن ينالكم. الثاني: حفيظ لنعم الله تعالى أن تزول عنكم. الثالث: حفيظ من البخس والتطفيف إن لم تطيعوا فيه ربكم.(2/496)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
{قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد} قوله عز وجل: {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} في {صلاتك} ثلاثة أوجه: أحدها: قراءتك , قاله الأعمش. الثاني: صلاتك التي تصليها لله تعبّداً. الثالث: دينك الذي تدين به وأمرت باتباعه لأن أصل الصلاة الاتباع , ومنه أخذ المصلي في الخيل. {تأمرك} فيه وجهان: أحدهما: تدعوك إلى أمرنا. الثاني: فيها أن تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا يعني من الأوثان والأصنام. {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: ما كانوا عليه من البخس والتطفيف. الثاني: الزكاة , كان يأمرهم بها فيمتنعون منها , قاله زيد بن أسلم وسفيان الثوري. الثالث: قطع الدراهم والدنانير لأنه كان ينهاهم عنه , قال زيد بن أسلم. {إنك لأنت الحليم الرشيد} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم قالوا ذلك استهزاء به , قاله قتادة.(2/496)
الثاني: معناه أنك لست بحليم ولا رشيد على وجه النفي , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم اعترفوا له بالحلم والرشد على وجه والحقيقة وقالوا أنت حليم رشيد فلِم تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ والحلم والرشد لا يقتضي منع المالك من فعل ما يشاء في ماله , قال ابن بحر.(2/497)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} قوله عز وجل: {قال يا قوم أرأيتُم إن كُنتُ على بيِّنةٍ من ربي} قد ذكرنا تأويله. {ورزقني منه رِزقاً حسناً} فيه تأويلان: أحدهما: أنه المال الحلال , قاله الضحاك. قال ابن عباس وكان شعيب كثير المال. الثاني: أنه النبوة , ذكره ابن عيسى , وفي الكلام محذوف وتقديره , أفأعدل مع ذلك عن عبادته. ثم قال {وما أريدُ أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} أي لا أفعل ما نهيتكم عنه كما لا أترك ما أمرتكم به. {إنْ أريد إلا الإصلاح ما استطعت} ومعناه ما أريد إلا فعل الصلاح ما استطعت , لأن الاستطاعة من شرط الفعل دون الإرادة. {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلْتُ وإليه أُنيب} فيه وجهان: أحدهما: أنّ الإنابة الرجوع ومعناه وإليه أرجع , قاله مجاهد. الثاني: أن الإنابة الدعاء , ومعناه وإليه أدعو , عبيد الله بن يعلى.(2/497)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
{ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود} قوله عز وجل: {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي} في {يجرمنكم} تأويلان: أحدهما: معناه لا يحملنكم , قاله الحسن وقتادة. والثاني: معناه لا يكسبنكم , قاله الزجاج. وفي قوله {شقاقي} ثلاثة تأويلات: أحدها: إضراري , قاله الحسن. الثاني: عداوتي , قاله السدي ومنه قول الأخطل:
(ألا من مبلغ قيساً رسولاً ... فكيف وجدتم طعمَ الشقاق)
الثالث: فراقي , قاله قتادة. {أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوحٍ} وهم أول أمة أهلكوا بالعذاب. {أو قوم هودٍ أو قوم صالحٍ وما قوم لوطٍ منكم ببعيدٍ} فيه وجهان: أحدهما: يعني بعد الدار لقربهم منهم , قاله قتادة. الثاني: بعد العهد لقرب الزمان. ويحتمل أن يكون مراداً به قرب الدار وقرب العهد. وقد أهلك قوم هود بالريح العاصف , وقوم صالح بالرجفة والصيحة , وقوم لوط بالرجم.(2/498)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
{قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط}(2/498)
قوله عز وجل: {قالوا يا شعيبُ ما نفقهُ كثيراً مما تقول} أي ما نفهم , ومنه سمي عِلم الدين فقهاً لأنه مفهوم , وفيه وجهان: أحدهما: ما نفقه صحة ما تقول من العبث والجزاء. الثاني: أنهم قالوا ذلك إعراضاً عن سماعه واحتقاراً لكلامه. {وإنا لنراك ضعيفاً} فيه سبعة تأويلات: أحدها: ضعيف البصر , قاله سفيان. الثاني: ضعيف البدن , حكاه ابن عيسى. الثالث: أعمى , قاله سعيد بن جبير وقتادة. الرابع: قليل المعرفة وحيداً , قاله السدي. الخامس: ذليلاً مهيناً , قاله الحسن. السادس: قليل العقل. السابع: قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها. {ولولا رهطك} فيه وجهان: أحدهما: عشيرتك , وهو قول الجمهور. الثاني: لولا شيعتك , حكاه النقاش. {لرجمناك} فيه وجهان: أحدهما: لقتلناك بالرجم. الثاني: لشتمناك بالكلام , ومنه قول الجعدي.(2/499)
(تراجمنا بمُرِّ القول حتى ... نصير كأننا فَرسَا رِهان)
{وما أنت علينا بعزيز} فيه وجهان: أحدهما: بكريم. الثاني: بممتنع لولا رهطك. قوله عز وجل: {قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله} أي تراعون رهطي فيّ ولا تراعون الله فيّ. {واتخذتموه وراءَكم ظهرياً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: اطرحتم أمره وراء ظهوركم لا تلتفتون إليه ولا تعملون به , قاله السدي , ومنه قول الشاعر:
( ... ... ... ... وجَدْنا بني البرصاءِ من وَلَدِ الظّهْرِ)
أي ممن لا يلتفت إليهم ولا يعتد بهم. الثاني: يعني أنكم حملتم أوزار مخالفته على ظهوركم , قاله السدي , من قولهم حملت فلاناً على ظهري اذا أظهرت عناده. الثالث: يعني أنكم جعلتم الله ظهرياً إن احتجتم استعنتم به , وإن اكتفيتم تركتموه. كالذي يتخذه الجمَّال من جماله ظهرياً إن احتاج إليها حمل عليها وإن استغنى عنها تركها , قاله عبد الرحمن بن زيد. الرابع: إن الله تعالى جعلهم وراء ظهورهم ظهرياً , قاله مجاهد. {إنّ ربي بما تعملون محيط} فيه ثلاثة أوجه:(2/500)
أحدها: حفيظ. الثاني: خبير. الثالث: مُجَازٍ.(2/501)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
{ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود} قوله عز وجل: {ويا قوم اعملوا على مكانتكم} فيه وجهان: أحدهما: على ناحيتكم , قاله ابن عباس. الثاني: على تمكنكم , قاله ابن عيسى. وقوله {اعملوا} يريد ما وعدوه من إهلاكه , قال ذلك ثقة بربة. ثم قال جواباً لهم فيه تهديد ووعيد {إني عاملٌ سوف تعلمون} فيه وجهان: أحدهما: تعلمون الإجابة. الثاني: عامل في أمر من يأتي بهلاككم ليطهر الأرض منكم , وسترون حلول العذاب بكم. {من يأتيه عذابٌ يخزيه} قال عكرمة: الغرق. وفي {يخزيه} وجهان: أحدهما: يذله. الثاني: يفضحه. {ومن هو كاذب} فيه مضمر محذوف تقديره: ومن هو كاذب يخزى بعذاب الله , فحذفه اكتفاء بفحوى الكلام. {وارتقبوا} أي انتظروا العذاب. {إني معكم رقيب} يحتمل وجهين: أحدهما: إني معكم شاهد.(2/501)
الثاني: إني معكم كفيل. وفيه وجه ثالث: إني منتظر , قاله الكلبي.(2/502)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود} قوله عز وجل: {وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة} فيه وجهان: أحدهما: أن اللعنة في الدنيا من المؤمنين وفي الآخرة من الملائكة. الثاني: أنه عنى بلعنة الدنيا الغرق , وبلعنة الآخرة النار , قاله الكلبي ومقاتل. {بئس الرِّفد المرفود} فيه ثلاث أوجه: أحدها: بئس العون المعان , قاله أبو عبيدة. الثاني: أن الرَّفد بفتح الراء: القدح , والرفد بكسرها ما في القدح من الشراب , حكي ذلك عن الأصمعي فكأنه ذم بذلك ما يُسقونه في النار. الثالث: أن الرفد الزيادة , ومعناه بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار , قاله الكلبي.(2/502)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
{ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب} قوله عز وجل: {ذلك من أنباء القُرى نقصُّه عليك} فيه وجهان: أحدهما: نخبرك. الثاني: نتبع بعضه بعضاً. {منها قائمٌ وحصيدٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن القائم: العامرة , والحصيد: الخاوية قاله ابن عباس.(2/502)
الثاني: أن القائم: الآثار , والحصيد: الدارس , قاله قتادة , قال الشاعر:
(والناس في قسم المنية بينهم ... كالزرع منه قائم وحصيد)
قوله عز وجل: {وما زادوهم غير تتبيب} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن التتبيب الشر , قاله ابن زيد. الثاني: أنه الهلكة , قاله قتاة. قال لبيد:
(فلقد بَليتُ وكلُّ صاحب جِدّةٍ ... لبِلىً يعودُ وذاكم التتبيب)
ومنه قول جرير:
(عرابة من بقية قوم لوطٍ ... ألا تباً لما فعلوا تبابا)
الثالث: التخسير , وهو الخسران , قاله مجاهد وتأول قوله تعالى {تبَّتْ يدا أبي لهب} [المسد: 1] أي خسرت.(2/503)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
{وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد} قوله عز وجل: {يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه} فيه ثلاث تأويلات: أحدها: لا تشفع إلا بإذنه. الثاني: لا تتكلم إلا بالمأذون فيه من حسن الكلام لأنهم ملجؤون إلى ترك القبيح. الثالث: أن لهم في القيامة وقت يمنعون فيه من الكلام إلا بإذنه. {فمنهم شقيٌ وسعيد} فيه وجهان: أحدهما: محروم ومرزوق , قاله ابن بحر.(2/503)
الثاني: معذب ومكرم , قال لبيد.
(فمنهم سعيد آخذٌ بنصيبه ... ومنهم شقي بالمعيشة قانعُ)
ثم في الشقاء والسعادة قولان: أحدهما: أن الله تعالى جعل ذلك جزاء على عملهما فأسعد المطيع وأشقى العاصي , قاله ابن بحر. الثاني: أن الله ابتدأهما بالشقاوة والسعادة من غير جزاء. وروى عبد الله بن عمر عن أبيه أنه قال: لما نزلت {فمنهم شقي وسعيد} قلت: يا رسول الله فعلام نعمل؟ أعلى شيء قد فرغ منه أم على ما لم يفرغ منه؟ فقال: (بلى على شيء قد فرغ منه يا عمر , وجرت به الأقلام ولكن كل شيء ميسور لما خلق له) .(2/504)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
{فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} قوله عز وجل: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الزفير الصوت الشديد , والشهيق الصوت الضعيف , قاله ابن عباس. الثاني: أن الزفير في الحلق من شدة الحزن , مأخوذ من الزفير , والشهيق في الصدر , قاله الربيع بن أنس. الثالث: أن الزفير تردد النفس من شدة الحزن , مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر الشدته , والشهيق النفس الطويل الممتد , مأخوذ من قولهم جبل شاهق أي طويل , قاله ابن عيسى. الرابع: أن الزفير أول نهيق الحمار , والشهيق آخر نهيقه , قال الشاعر:(2/504)
(حشرج في الجوف سحيلاً أو شهق ... حتى يقال ناهق وما نهق)
{خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلى ما شاء ربك} فيه ثمانية تأويلات: أحدها: خالدين فيها ما دامت سماء الدنيا وأرضها إلا ما شاء ربك من الزيادة عليها بعد فناء مدتها حكاه ابن عيسى. الثاني: ما دامت سموات الآخرة وأرضها إلا ما شاء ربك من قدر وقوفهم في القيامة , قاله بعض المتأخرين. الثالث: ما دامت السموات والأرض , أي مدة لبثهم في الدنيا , قاله ابن قتيبة. الرابع: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من أهل التوحيد أن يخرجهم منها بعد إدخالهم إليها , قاله قتادة , فيكونون أشقياء في النار سعداء في الجنة , حكاه الضحاك عن ابن عباس , وروى يزيد بن أبي حبيب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحمحمة أخرجوا منها وأدخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميون) الخامس: إلا ما شاء من أهل التوحيد أن لا يدخلهم إليها , قاله أبو نضرة يرويه مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم. السادس: إلا ما شاء ربك من كل من دخل النار من موحد ومشرك أن يخرجه منها إذا شاء , قاله ابن عباس. السابع: أن الاستثناء راجع إلى قولهم {لهم فيها زفير وشهيق} إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي ليست بزفير ولا شهيق مما لم يسم ولم يوصف ومما قد(2/505)
سمّي ووصف , ثم استأنف {ما دامت السموات والأرض} حكاه ابن الأنباري. الثامن: أن الاستثناء واقع على معنى لو شاء ربك أن لا يخلدهم لفعل ولكن الذي يريده ويشاؤه ويحكم به تخليدُهم وفي تقدير خلودهم بمدة السموات والأرض وجهان: أحدهما: أنها سموات الدنيا وأرضها , ولئن كانت فانية فهي عند العرب كالباقية على الأبد فذكر ذلك على عادتهم وعرفهم كما قال زهير:
(ألا لا أرى على الحوادث باقيا ... ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا)
والوجه الثاني: أنها سموات الآخرة وأرضها لبقائها على الأبد.(2/506)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
{وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} قوله عز وجل: {وأمّا الذين سُعدُوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} فيها خمسة تأويلات: أحدها: دامت سموات الدنيا وأرضها إلا ما شاء ربك من الزيادة عليها في الخلود فيها: الثاني: إلا ما شاء ربك من مدة يوم القيامة. الثالث: إلا ما شاء ربك من مدة مكثهم في النار إلى أن يخرجوا منها , قاله الضحاك.(2/506)
الرابع: خالدين فيها يعني أهل التوحيد , إلا ما شاء ربك يعني أهل الشرك , وهو يشبه قول أبي نضرة. الخامس: خالدين فيها إلا ما شاء ربك أي ما شاء من عطاء غير مجذوذ , فتكون {إلا} هنا بمعنى الواو كقول الشاعر:
(وكلُّ أخٍ مفارقُهُ أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان.)
أي والفرقدان. {عطاءً غير مجذوذ} فيه وجهان: أحدهما: غير مقطوع. الثاني: غير ممنوع.(2/507)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
{فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير} قوله عز وجل: { ... وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: نصيبهم من الرزق , قاله أبو العالية. الثاني: نصيبهم من العذاب , قاله ابن زيد. الثالث: ما وعدوا به من خير أو شر , قاله ابن عباس.(2/507)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
{فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} قوله عز وجل: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} فيه أربعة تأويلات:(2/507)
أحدها: لا تميلوا , قاله ابن عباس. الثاني: لا تدنوا , قاله سفيان. الثالث: لا ترضوا أعمالهم , قاله أبو العالية. الرابع: لا تدهنوا لهم في القول وهو أن يوافقهم في السر ولا ينكر عليهم في الجهر. ومنه قوله تعالى {ودّوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 9] , قاله عبد الرحمن بن زيد. {فتمسكم النار} يحتمل وجيهن: أحدهما: فيمسكم عذاب النار لركونكم إليهم. الثاني: فيتعدى إليكم ظلمهم كما تتعدى النار إلى إحراق ما جاورها , ويكون ذكر النار على هذا الوجه استعارة وتشبيهاً , وعلى الوجه الأول خبراً ووعيداً.(2/508)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
{وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} قوله عز وجل: {وأقم الصلاة طرفي النهار} أما الطرف الأول فصلاة الصبح باتفاق وأما الطرف الثاني ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عنى صلاة الظهر والعصر , قاله مجاهد. الثاني: صلاة العصر وحدها , قاله الحسن. الثالث: صلاة المغرب , قاله ابن عباس. {وزلفاً من الليل} والزلف جمع زلفة , والزلفة المنزلة , فكأنه قال ومنازل من(2/508)
الليل , أي ساعات من الليل , وقيل إنما سميت مزدلفة من ذلك لأنها منزل بعد عرفة , وقيل سميت بذلك لازدلاف آدم من عرفة إلى حواء وهي بها , ومنه قول العجاج في صفة بعير:
(ناجٍ طواه الأين مما وجفا ... طيَّ الليالي زُلَفاً فزلفا)
وفي معنى {زلفاً من الليل} قولان: أحدهما: صلاة العشاء الآخرة , قاله ابن عباس ومجاهد. الثانية: صلاة المغرب والعشاء والآخرة , قاله الضحاك ولحسن ورواه مرفوعاً. {إن الحسنات يذهبن السيئات} في هذا الحسنات أربعة أقاويل: أحدها: الصلوات الخمس , قاله ابن عباس والحسن وابن مسعود والضحاك. الثاني: هي قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر , قاله مجاهد قال عطاء: وهن الباقيات الصالحات. الثالث: أن الحسنات المقبولة يذهبن السيئات المغفورة. الرابع: أن الثواب الطاعات يذهبن عقاب المعاصي. {ذلك ذكرى للذاكرين} فيه وجهان: أحدهما: توبة للتائبين , قاله الكلبي. الثاني: بيان للمتعظين , وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (واتبع السيئة الحسنة تمحها) وسبب نزول هذه الآية ما روى الأسود عن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني عالجت امرأة في بعض أقطار المدينة فأصبت منها دون أن أمسّها وأنا هذا فاقض فيّ ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت على(2/509)
نفسك. ولم يردّ عليه النبي صلى الله عيله وسلم شيئاً. فنزلت هذه الآية: {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذركى للذاكرين} فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه فقال عمر: يا رسول الله أله خاصة أم للناس كافة؟ فقال: (بل للناس كافة) قال أبو موسى طمحان: إن هذا الرجل أبو اليسر الأنصاري وقال ابن عابس هو عمرو بن غزية الأنصاري , وقال مقاتل: هو عامر بن قيس الأنصاري.(2/510)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
{فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} قوله عز وجل: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أولو طاعة الثاني: أولو تمييز. الثالث: أولو حذر من الله تعالى. {ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه وكان مجرمين} يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم اتبعوا على ظلمهم ما أترفوا فيه من استدامة نعمهم استدراجاً لهم. الثاني: أنهم أخذوا بظلمهم فيما أترفوا فيه من نعمهم. والمترف: المنعّم. وقال ابن عباس: أترفوا فيه: معناه انظروا فيه.(2/510)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} قوله عز وجل: {ولو شاء ربُّك لجعل الناس أمّةً واحدةً} فيه وجهان: أحدهما: على ملة الإسلام وحدها , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أهل دين واحد , أهل ضلالة وأهل هدى , قاله الضحاك. {ولا يزالون مختلفين إلا من رَحِمَ ربّك} فيه ستة أقاويل: أحدها: مختلفين في الأديان إلا من رحم ربك من أهل الحق , قاله مجاهد وعطاء. الثاني: مختلفين في الحق والباطل إلا من رحم ربك من أهل الطاعة , قاله ابن عباس. الثالث: مختلفين في الرزق فهذا غني وهذا فقير إلا من رحم ربك من أهل القناعة. قاله الحسن. الرابع: مختلفين بالشقاء والسعادة إلا من رحم ربك بالتوفيق. الخامس: مختلفين في المغفرة والعذاب إلا من رحم ربك بالجنة. السادس: أنه معنى مختلفين أي يخلف بعضهم بعضاً , فيكون من يأتي خلفاً للماضي لأن سوءاً في كل منهم خلف بعضهم بعضاً , فاقتتلوا ومنه قولهم: ما اختلف الجديدان , أي جاء هذا بعد ذاك , قاله ابن بحر. {ولذلك خلقهم} فيه أربعة أقاويل: أحدها: للاختلاف خلقهم , قاله الحسن وعطاء. الثاني: للرحمة خلقهم , قاله مجاهد. الثالث: للشقاء والسعادة خلقهم , قاله ابن عباس.(2/511)
الرابع: للجنة والنار خلقهم , قاله منصور بن عبد الرحمن.(2/512)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
{وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} قوله عز وجل: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبتُ به فؤادك} أي نقوّي به قلبك وتسكن إليه نفسك , لأنهم بُلُوا فصبروا , وجاهدوا فظفروا. {وجاءَك في هذه الحقُّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في هذه السورة , قاله ابن عباس وأبو موسى. الثاني: في هذه الدنيا , قاله الحسن وقتادة. الثالث: في هذه الأنباء , حكاه ابن عيسى.(2/512)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
{وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون} وفي هذا {الحق} وجهان: أحدهما: صدق القصص وصحة الأنباء وهذا تأويل من جعل المراد السورة. الثاني: النبوة , وهذا تأويل من جعل المراد الدنيا. {وموعظةُ} يحتمل وجهين: أحدهما: القرآن الذي هو وعظ الله تعالى لخلقه. الثاني: الاعتبار بأنباء من سلف من الأنبياء ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (والسعيد من وعظ بغيره) .(2/512)
سورة يوسف
مكية كلها. وقال ابن عباس وقتادة إلاّ أربع آيات منها. بسم الله الرحمن الرحيم(3/5)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
{الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} قوله عزوجل: {الر تلك آيات الكتاب المبين} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: أنها الآيات المتقدم ذكرها في السورة التي قبلها. الثاني: الآيات التي في هذه السورة , ويكون معنى قوله تعالى {تلك آيات الكتاب المبين} أي هذه آيات الكتاب المبين. الثالث: أن تلك الآيات إشارة إلى ما افتتحت به السورة من الحروف وأنها علامات الكتاب العربي , قاله ابن بحر. وفي قوله تعالى: {الكتاب المبين} ثلاثة تأويلات: أحدها: المبين حلاله وحرامه , قاله مجاهد. الثاني: المبين هداه ورشده , قاله قتادة. الثالث: المبين للحروف التي سقطت من ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف , قاله معاذ.(3/5)
قوله عز وجل: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً} فيه وجهان: أحدهما: إنا أنزلنا الكتاب قرآناً عربياً بلسان العرب , وهو قول الجمهور. الثاني: إنا أنزلنا خبر يوسف قرآناً , أي مجموعاً عربياً أي يعرب عن المعاني بفصيح من القصص وهو شاذ. {لعلكم تعقلون} . {نحن نقص عليك أحسن القصص} أي نبين لك أحسن البيان , والقاصّ الذي يأتي بالقصة على حقيقتها.(3/6)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
{إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} قوله عز وجل: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحَدَ عشر كوكباً والشمس والقمر} فيه قولان: أحدهما: أنه رأى إخوته وأبويه ساجدين له فثنى ذكرهم , وعنى بأحد عشر كوكباً إخوته وبالشمس أباه يعقوب , وبالقمر أمه راحيل رآهم له ساجدين , فعبر عنه بما ذكره , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: أنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين له فتأول الكواكب إخوته , والشمس أباه , والقمر أمه , وهو قول الأكثرين. وقال ابن جريج: الشمس أمه والقمر أبوه , لتأنيث الشمس وتذكير القمر. وروى السدي عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/6)
رجلٌ من اليهود يقال له بستانة فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رأها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها , فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجب بشيء , فنزل عليه جبريل بأسمائها قال فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وقال (أنت تؤمن إن أخبرتك بأسمائها) فقال نعم , فقال: (جريان , والطارق والذيال وذو الكتفين وقابس والوثّاب والعمودان والفليق والمصبح والضروح وذو الفرع والضياء والنور) فقال اليهودي: بلى والله إنها لأسماؤها. وفي إعادة قوله {رأيتهم لي ساجدين} وجهان: أحدهما: تأكيداً للأول لبعد ما بينهما قاله الزجاج. الثاني: أن الأول رؤيته لهم والثاني رؤيته لسجودهم. وفي قوله {ساجدين} وجهان: أحدهما: أنه السجود المعهود في الصلاة إعظاماً لا عبادة. الثاني: أنه رآهم خاضعين فجعل خضوعهم سجوداً , كقول الشاعر:
( ... ... ... ... ... ترى الأكم فيه سُجّداً للحوافر)(3/7)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
{قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين} وقيل إنه كان له عند هذه الرؤيا سبع عشرة سنة , قال ابن عباس: رأى هذه الرؤيا ليلة الجمعة وكانت ليلة القدر , فلما قصها على يعقوب أشفق عليه من حسد(3/7)
إخوته فقال: يا بني هذه رؤيا الليل فلا يعول عليها , فلما خلا به {قا يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدوٌّ مبين} . وفي تسميته بيوسف قولان: أحدهما: أنه اسم أعجمي. الثاني: أنه عربي مشتق من الأسف , والأسف في اللغة الحزن.(3/8)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
{وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم} قوله عز وجل: {وكذلك يجتبيك ربك} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: بحسن الخَلق والخُلق. الثاني: بترك الإنتقام. الثالث: بالنبوة , قاله الحسن. {ويعلمك من تأويل الأحاديث} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: عبارة الرؤيا , قاله مجاهد. الثاني: العلم والحكمة , قاله ابن زيد. الثالث: عواقب الأمور , ومنه قول الشاعر:
(وللأحبة أيام تذكّرُها ... وللنوى قبل يوم البيْن تأويل)
{ويتم نعمته عليك} فيه وجهان: أحدهما: باختيارك للنبوة. الثاني: بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك , قال مقاتل. وفيه وجه ثالث: أن أخرج إخوته إليه حتى أنعم عليهم بعد إساءتهم إليه. {وعلى آل يعقوب} بأن جعل فيهم النبوة.(3/8)
{كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق} قال عكرمة: فنعمته على إبراهيم أن أنجاه من النار , وعلى إسحاق أن أنجاه من الذبح.(3/9)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين} قوله عز وجل: {لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين} في هذه الآيات وجهان: أحدهما: أنها عِبَرٌ للمعتبرين. الثاني: زواجر للمتقين. وفيها من يوسف وإخوته أربعة أقاويل: أحدها: ما أظهره الله تعالى فيه من عواقب البغي عليه. الثاني: صدق رؤياه وصحة تأويله. الثالث: ضبط نفسه وقهر شهوته حتى سلم من المعصية وقام بحق الأمانة. الرابع: الفرج بعد شدة الإياس. قال ابن عطاء: ما سمع سورة يوسف محزون إلا استروح إليها. قوله عز وجل: {إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا مِنّا} وأخوه بنيامين وهما أخوان لأب وأم , وكان يعقوب قد كلف بهما لموت أمهما وزاد في المراعاة لهما , فذلك سبب حسدهم لهما , وكان شديد الحب ليوسف , فكان الحسد له أكثر , ثم رأى الرؤيا فصار الحسد له أشد.(3/9)
{ونحن عصبة} وفي العصبة أربعة أقاويل: أحدها: أنها ستة أو سبعة , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنها من عشرة إلى خمسة عشر , قاله مجاهد. الثالث: من عشرة إلى أربعين , قاله قتادة الرابع: الجماعة , قاله عبد الرحمن بن زيد. {إن أبانا لفي ضلال مبين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لفي خطأ من رأيه , قال ابن زيد. الثاني: لفي جور من فعله , قال ابن كامل. الثالث: لفي محبة ظاهرة , حكاه ابن جرير. وإنما جعلوه في ضلال مبين لثلاثة أوجه: أحدها: لأنه فضّل الصغير على الكبير. الثاني: القليل على الكثير. الثالث: من لا يراعي ما له على من يراعيه. واختلف فيهم هل كانوا حينئذ بالغين؟ فذهب قوم إلى أنهم كانوا بالغين مؤمنين ولم يكونوا أنبياء بعد لأنهم قالوا {يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} وهذه(3/10)
حالة لا تكون إلا من بالغ , وقال آخرون: بل كانوا غير بالغين لأنهم قالوا {أرسله معنا غداً نرتع ونلعب} وإنما استغفروه بعد البلوغ. قوله عز وجل: {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً} فيه وجهان: أحدهما: اطرحوه أرضاً لتأكله السباع. الثاني: ليبعد عن أبيه. {يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين} فيه وجهان: أحدهما: أنهم أرادوا صلاح الدنيا لا صلاح الدين , قاله الحسن. الثاني: أنهم أرادوا صلاح الدين بالتوبة , قاله السدي. ويحتمل ثالثاً: أنهم أرادوا صلاح الأحوال بتسوية أبيهم بينهم من غير أثرة ولا تفضيل. وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم. قوله عز وجل: {قال قائلٌ منهم لا تقتلوا يوسف} اختلف في قائل هذا منهم على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه روبيل وهو أكبر إخوة يوسف وابن خالته , قاله قتادة. الثاني: أنه شمعون , قاله مجاهد. الثالث: أنه يهوذا , قال السدي. {وألقُوه في غيابة الجُبِّ} فيه وجهان: أحدهما: يعني قعر الجب وأسفله. الثاني: ظلمه الجب التي تغيّب عن الأبصار ما فيها , قاله الكلبي. فكان رأس الجب ضيقاً وأسفله واسعاً. أحدهما: لأنه يغيب فيه خبره. وفي تسميته {غيابة الجب} وجهان: الثاني: لأنه يغيب فيه أثره , قال ابن أحمر:(3/11)
(ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالثٍ ... إلى ذاك ما قد غيبتني غيابيا)
وفي {الجب} قولان: أحدهما: أنه اسم بئر في بيت المقدس , قاله قتادة. الثاني: أنه بئر غير معينة , وإنما يختص بنوع من الآبار قال الأعشى:
(لئن كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم)
وفيما يسمى من الآبار جباً قولان: أحدهما: أنه ما عظم من الآبار سواء كان فيه ماء أو لم يكن. الثاني: أنه ما لا طيّ له من الآبار , قال الزجاج , وقال: سميت جبًّا لأنها قطعت من الأرض قطعاً ولم يحدث فيها غير القطع. {يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين} معنى يلتقطه يأخذه , ومنه اللقطة لأنها الضالة المأخوذة. وفي {السيارة} قولان: أحدهما: أنهم المسافرون سُموا بذلك لأنهم يسيرون. الثاني: أنهم مارة الطريق , قاله الضحاك.(3/12)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
{قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون} قوله عز وجل: {أرسله معنا غداً يرتع ويلعب} فيه خمسة أوجه: أحدها: نلهو ونلعب , قاله الضحاك. الثاني: نسعى وننشط , قاله قتادة. الثالث: نتحارس فيحفظ بعضنا بعضاً ونلهو , قاله مجاهد. الرابع: نرعى ونتصرف , قاله ابن زيد , ومنه قول الفرزدق.
(راحت بمسلمة البغالُ مودعاً ... فارعي فزارة لا هناك المرتع)(3/12)
الخامس: نطعم ونتنعم مأخوذ من الرتعة وهي سعة المطعم والمشرب , قاله ابن شجرة وأنشد قول الشاعر:
(أكُفراً بعد رَدّ الموت عنّي ... وبعد عطائك المائة الرِّتاعا)
أي الراتعة لكثرة المرعى. ولم ينكر عليهم يعقوب عليه السلام اللعب لأنهم عنوا به ما كان مباحاً.(3/13)
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
{قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون} قوله عز وجل: {قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخافُ أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون} فيه قولان: أحدهما: أنه قال ذلك لخوفه منهم عليه , وأنه أرادهم بالذئب , وخوفه إنما كان من قتلهم له فكنى عنهم بالذئب مسايرة لهم , قال ابن عباس فسماهم ذئاباً. والقول الثاني: ما خافهم عليه , ولو خافهم ما أرسله معهم , وإنما خاف الذئب لأنه أغلب ما يخاف منه من الصحارى. وقال الكلبي: بل رأى في منامه أن الذئب شَدّ على يوسف فلذلك خافه عليه.(3/13)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
{فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} {وأوحينا إليه} فيه وجهان:(3/13)
أحدهما: يعني وألهمناه , كما قال تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7] . الثاني: أن الله تعالى أوحى إليه وهو في الجب , قاله مجاهد وقتادة. {لتنبئنهم بأمرهم هذا} فيه وجهان: أحدهما: أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا , فعلى هذا يكون الوحي بعد إلقائه في الجب تبشيراً له بالسلامة. الثاني: أنه أوحى إليه بالذي يصنعون به , فعلى هذا يكون الوحي قبل إلقائه في الجب إنذاراً له. {وهم لا يشعرون} فيه وجهان: أحدهما: لا يشعرون بأنه أخوهم يوسف , قاله قتادة وابن جريج. الثاني: لا يشعرون بوحي الله تعالى له بالنبوة , قاله ابن عباس ومجاهد.(3/14)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
{وجاؤوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} قوله عز وجل: {قالوا يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق} وهو نفتعل من السباق وفيه أربعة أوجه: أحدها: معناه ننتصل , من السباق في الرمي , قاله الزجاج. الثاني: أنهم أرادوا السبق بالسعي على أقدامهم. الثالث: أنهم عنوا استباقهم في العمل الذي تشاغلوا به من الرعي والاحتطاب. الرابع: أي نتصيد وأنهم يستبقون على اقتناص الصيد. {وتركنا يوسف عند متاعنا} يحتمل أن يعنوا بتركه عند متاعهم إظهار الشفقة عليه , ويحتمل أن يعنوا حفظ رحالهم.(3/14)
{فأكله الذئب} لما سمعوا أباهم يقول: وأخاف أن يأكله الذئب أخذوا ذلك من فيه وتحرّموا به لأنه كان أظهر المخاوف عليه. {وما أنت بمؤمن لنا} أي بمصدق لنا. {ولو كنا صادقين} فيه وجهان: أحدهما: أنه لم يكن ذلك منهم تشكيكاً لأبيهم في صدقهم وإنما عنوا: ولو كنا أهل صدق ما صدقتنا , قاله ابن جرير. الثاني: معناه وإن كنا قد صدقنا , قاله ابن إسحاق. قوله عزوجل: {وجاءُوا على قميصه بدمٍ كذب} قال مجاهد: كان دم سخلة. وقال قتادة: كان دم ظبية. قال الحسن: لما جاءُوا بقميص يوسف فلم ير يعقوب فيه شقاً قال: يا بني والله ما عهدت الذئب حليماً أيأكل ابني ويبقي على قميصه. ومعنى قوله {بدم كذب} أي مكذوب فيه , ولكن وصفه بالمصدر فصار تقديره بدم ذي كذب. وقرأ الحسن {بدم كذب} بالدال غير معجمة , ومعناه بدم متغير قاله الشعبي. وفي القميص ثلاث آيات: حين جاءُوا عليه بدم كذب , وحين قُدَّ قميصه من دُبر , وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيراً. {قال بل سوَّلت لكن أنفسكم أمراً} فيه وجهان: أحدهما: بل أمرتكم أنفسكم , قاله ابن عباس. الثاني: بل زينت لكم أنفسكم أمراً , قاله قتادة. وفي ردّ يعقوب عليهم وتكذيبه لهم ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كان ذلك بوحي من الله تعالى إليه بعد فعلهم.(3/15)
الثاني: أنه كان عنده علم بذلك قديم أطلعه الله عليه. الثالث: أنه قال ذلك حدساً بصائب رأيه وصدق ظنه. قال ترضيه لنفسه {فصبر جميل} فاحتمل ما أمر به نفسه من الصبر وجهين: أحدهما: الصبر على مقابلتهم على فعلهم فيكون هذا الصبر عفواً عن مؤاخذتهم. الثاني: أنه أمر نفسه بالصبر على ما ابتُلي به من فقد يوسف. وفي قوله: {فصبرٌ جميل} وجهان: أحدهما: أنه بمعنى أن من الجميل أن أصبر. الثاني: أنه أمر نفسه بصبر جميل. وفي الصبر الجميل وجهان: أحدهما: أنه الصبر الذي لا جزع فيه قاله مجاهد. الثاني: أنه الصبر الذي لا شكوى فيه. روى حباب بن أبي حبلة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {فصبر جميل} فقال: (صبر لا شكوى فيه , ومن بث لم يصبر) . {والله المستعان على ما تصفون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: والله المستعان على الصبر الجميل. الثاني: والله المستعان على احتمال ما تصفون. الثالث: يعني على ما تكذبون , قاله قتادة. قال محمد بن إسحاق: ابتلى الله يعقوب في كبره , ويوسف في صغره لينظر كيف عزمهما.(3/16)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
{وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين}(3/16)
قوله عز وجل: {وجاءت سيارةٌ فأرسلوا واردهم} وهو الذي يرد أمامهم الماء ليستقي لهم. وذكر أصحاب التواريخ أنه مالك بن ذعر بن حجر بن يكه بن لخم. {فأدلى دلوه} أي أرسلها ليملأها , يقال أدلاها إذا أرسل الدلو ليملأها , ودلاّها إذا أخرجها ملأى. قال قتادة: فتعلق يوسف عليه السلام بالدلو حين أرسلت. والبئر ببيت المقدس معروف مكانها. {قال يا بشرى هذا غلام} فيه قولان: أحدهما: أنه ناداهم بالبشرى يبشرهم بغلام , قاله قتادة. الثاني: أنه نادى أحدهم , كان اسمه بشرى فناداه باسمه يعلمه بالغلام , قاله السدي. {وأسرُّوه بضاعة} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن إخوة يوسف كانوا بقرب الجب فلما رأوا الوارد قد أخرجه قالوا هذا عبدنا قد أوثقناه فباعوه وأسرّوا بيعه بثمن جعلوه بضاعة لهم , قاله ابن عباس. الثاني: أن الواردين إلى الجُب أسرّوا ابتياعه عن باقي أصحابهم ليكون بضاعة لهم كيلا يشركوهم فيه لرخصه وتواصوا أنه بضاعة استبضعوها من أهل الماء , قاله مجاهد. الثالث: أن الذين شروه أسرُّوا بيعه على الملك حتى لا يعلم به أصحابهم وذكروا أنه بضاعة لهم. وحكى جويبر عن الضحاك أنه ألقيَ في الجب وهو ابن ست سنين , وبقي فيه إلى أن أخرجته السيارة منه ثلاثة أيام. وقال الكلبي: ألقي فيه وهو ابن سبع عشرة سنة.(3/17)
قوله عزوجل: {وشروه بثمن بخسٍ} معنى شروه أي باعوه , ومنه قول ابن مفرغ الحميري.
(وشريت برداً ليتني ... من بعدِ بُرْدٍ كنت هامه)
واسم البيع والشراء يطلق على كل واحد من البائع والمشتري لأن كل واحد منهما بائع لما في يده مشتر لما في يد صاحبه. وفي بائعه قولان: أحدهما: أنهم إخوته باعوه على السيارة حين أخرجوه من الجب فادّعوه عبداً , قاله ابن عباس والضحاك ومجاهد. الثاني: أن السيارة باعوه عن ملك مصر , قاله الحسن وقتادة. {بثمن بخس} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن البخس ها هنا الحرام , قاله الضحاك , قال ابن عطاء: لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها فكان ثمنه وإن جَلّ بخساً , وما هو وإن باعه أعداؤه بأعجب منك في بيع نفسك بشهوةٍ ساعةٍ من معاصيك. الثاني: أنه الظلم , قاله قتادة. الثالث: أنه القليل , قاله مجاهد والشعبي. {دراهم معدودة} اختلف في قدرها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه بيع بعشرين درهماً اقتسموها وكانوا عشرة فأخذ كل واحد منهم درهمين , قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة وعطية والسدي. الثاني: باثنين وعشرين درهماً , كانوا أحد عشر فأخذ كل واحد درهمين , قاله مجاهد. الثالث بأربعين(3/18)
درهما , قاله عكرمة وابن إسحاق. وكان السدي يقول: اشتروا بها خفافاً ونِعالاً. وفي قوله تعالى {دراهم معدودة} وجهان: أحدهما: معدودة غير موزونة لزهدهم فيه. الثاني: لأنها كانت أقل من أربعين درهماً , وكانوا لا يَزِنُون أقل من أربعين درهماً , لأن أقل الوزن عندهم كان الأوقية , والأوقية أربعون درهماً. {وكانوا فيه من الزاهدين} وفي المعنيّ بهم قولان: أحدهما: أنهم إخوة يوسف كانوا فيه من الزاهدين حين صنعوا به ما صنعوا. الثاني: أن السيارة كانوا فيه من الزاهدين حين باعوه بما باعوه به. وفي زهدهم فيه وجهان: أحدهما: لعلمهم بأنه حرٌّ لا يبتاع. الثاني: أنه كان عندهم عبداً فخافوا أن يظهر عليه مالكوه فيأخذوه. وفيه وجه ثالث: أنهم كانوا في ثمنه من الزاهدين لاختبارهم له وعلمهم بفضله , وقال عكرمة أعتق يوسف حين بيع.(3/19)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
{وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} قوله عزو جل: {وقال الذي اشتراه من مصر} وهو العزيز ملكها واسمه إظفير بن رويجب. {لامرأته} واسمها راعيل بنت رعاييل , على ما ذرك ابن اسحاق. وقال ابن عباس: اسمه قطفير وكان على خزائن مصر , وكان الملك يومئذ الوليد بن الرّيان من العماليق. قال مقاتل: وكان البائع له للملك مالك بن ذعر بعشرين ديناراً وزاده حُلة ونعلين. {أكرمي مثواه} فيه وجهان: أحدهما: أجملي منزلته.(3/19)
الثاني: أجلي منزلته , قال كثير:
(أريد ثواءً عندها وأظُنُّها ... إذا ما أطَلْنا عندها المكث ملَّت)
وإكرام مثواه بطيب طعامه ولين لباسه وتوطئة مبيته. {عسى أن ينفعنا} قيل: في ثمنه إن بعناه. ويحتمل: ينفعنا في الخدمة والنيابة. {أو نتخذه ولداً} إن أعتقناه وتبنيناه. قال عبد الله بن مسعود: أحسن الناس في فراسة ثلاثة: العزيز في يوسف حين قال لامرأته {أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا} وابنة شعيب في موسى حين قالت لأبيها {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26] وأبو بكر حين استخلف عمر. {وكذلك مكّنّا ليوسف في الأرض} فيه وجهان: أحدهما: بإخراجه من الجب. الثاني: باستخلاف الملك له. {ولنعلمه من تأويل الأحاديث} قد ذكرنا في تأويله وجهين. {والله غالبٌ على أمره} فيه وجهان: أحدهما: غالب على أمر يوسف حتى يبلغ فيه ما أراده له , قاله مقاتل. الثاني: غالب على أمر نفسه فيما يريده , أن يقول له كن فيكون. قوله عز وجل: {ولما بلغ أشدَّه} يعني منتهى شدته وقوة شبابه. وأما الأشدُّ ففيه ستة أقاويل:(3/20)
أحدها: ببلوغ الحلم , قاله الشعبي وربيعة وزيد بن أسلم. الثاني: ثماني عشرة سنة , قاله سعيد بن جبير. الثالث: عشرون سنة , قاله ابن عباس والضحاك. الرابع: خمس وعشرون سنة , قاله عكرمة. الخامس: ثلاثون سنة , قاله السدي. السادس: ثلاث وثلاثون سنة. قاله الحسن ومجاهد وقتادة. هذا أول الأشد , وفي آخر الأشد قولان: أحدهما: أنه أربعون سنة , قاله الحسن. الثاني: أنه ستون سنة , حكاه ابن جرير الطبري , وقال سُحَيْم بن وثيل الرياحي:
(أخو خمسين مجتمع أشُدّي ... وتجذّني مداورة الشئون)
وفي المراد ببلوغ الأشد في يوسف قولان: أحدهما: عشرون سنة , قاله الضحاك. الثاني: ثلاثون سنة , وهو قول مجاهد. {آتيناه حكماً وعلماً} في هذا الحكم الذي آتاه خمسة أوجه: أحدها: العقل , قاله مجاهد. الثاني: الحكم على الناس. الثالث: الحكمة في أفعاله. الرابع: القرآن , قاله سفيان. الخامس: النبوة , قاله السدي. وفي هذا العلم الذي آتاه وجهان: أحدهما: الفقه , قاله مجاهد. الثاني: النبوة , قاله ابن أبي نجيح. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أنه العلم بتأويل الرؤيا.(3/21)
{وكذلك نجزي المحسنين} فيه وجهان: أحدهما: المطيعين. الثاني: المهتدين , قاله ابن عباس. والفرق بين الحكيم والعالم أن الحكيم هو العامل بعلمه , والعالم هو المقتصر على العلم دون العمل.(3/22)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
{وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه} وهي راعيل امرأة العزيز إظفير. قال الضحاك: وكان اسمها زليخا. قال محمد بن إسحاق: وكان إظفير فيما يحكى لنا رجلاً لا يأتي النساء وكانت امرأته حسناء , وكان يوسف عليه السلام قد أُعطي من الحسن ما لم يعطه أحد قبله ولا بعده كما لم يكن في النساء مثل حواء حسناً. قال ابن عباس: اقتسم يوسف وحواء الحسن نصفين. فراودته امرأة العزيز عن نفسه استدعاء له إلى نفسها. {وغلقت الأبواب} فيه وجهان: أحدهما: بتكثير الأغلاق. الثاني: بكثرة الإيثاق. {وقالت هيت لك} فيه وجهان: أحدهما: معناه تهيأت لك , قاله عكرمة وأبو عبد الرحمن السلمي , وهذا تأويل من قرأ بكسر الهاء وترك الهمز , وقال الشاعر:
(قد رابني أن الكرى أسكتا ... لو كان معنياً بها لهيتا)(3/22)
الثاني: هلم لك , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة: وأنشد أبو عمرو بن العلاء:
(أبلغ أمير المؤمنين أخا ... العراق إذا أتيتا)
(أن العراق وأهله ... عنق إليك , فهيت هيتا)
وهذا تأويل من قرأ هيت لك بفتح الهاء وهي أصح وأفصح , قال طرفة بن العبد:
(ليس قومي بالأبعدين إذا ما ... قال داع من العشيرة: هيتا)
ثم اختلف قائلو هذا التأويل في الكلمة فحكى عطية عن ابن عباس أن {هيت لك} كلمة بالقبطية معناها هلم لك , وقال مجاهد بل هي كلمة عربية هذا معناها وقال الحسن: هي كلمة سريانية. {قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي} أي أعوذ بالله. وفي {إنه ربي أحسن مثواي} وجهان: أحدهما: إن الله ربي أحسن مثواي فلا أعصيه , قاله الزجاج. الثاني: أنه أراد العزيز إظفير إنه ربي أي سيدي أحسن مثواي فلا أخونه. قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي.(3/23)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
{ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} قوله عز وجل: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى بُرهان ربه} أما همها به ففيه قولان: أحدهما: أنه كان هَمَّ شهوة. الثاني: أنها استلقت له وتهيأت لمواقعته. وأما همّه بها ففيه ستة أقاويل:(3/23)
أحدها: أنه همّ بها أن يضربها حين راودته عن نفسه ولم يهم بمواقعتها قاله بعض المتأخرين. الثاني: أن قوله ولقد همت به كلام تام قد انتهى , ثم ابتدأ الخبر عن يوسف فقال {وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} ومعنى الكلام لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها , قاله قطرب. الثالث: أن همها كان شهوة , وهمه كان عفة. الرابع: أن همه بها لم يكن عزماً وإرادة وإنما كان تمثيلاً بين الفعل والترك , ولا حرج في حديث النفس إذا لم يقترن به عزم ولا فعل , وأصل الهم حديث النفس حتى يظهر فيصير فعلاً , ومنه قول جميل:
(هممت بهمِّ من بثينة لو بدا ... شفيت غليلات الهوى من فؤاديا)
الخامس: أنه همه كان حركة الطباع التي في قلوب الرجال من شهوة النساء وإن كان قاهراً له وهو معنى قول الحسن. السادس: أنه هم بمواقعتها وعزم عليه. قال ابن عباس: وحل الهميان(3/24)
يعني السراويل وجلس بين رجليها مجلس الرجل من المرأة , وهو قول جمهور المفسرين. فإن قيل: فكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا الفعل وهو نبي الله عز وجل؟ قيل: هي منه معصية , وفي معاصي الأنبياء ثلاثة أوجه: أحدها: أن كل نبي ابتلاه الله بخطيئة إنما ابتلاء ليكون من الله تعالى على وجل إذا ذكرها فيجدّ في طاعته إشفاقاً منها ولا يتكل على سعة عفوه ورحمته. الثاني: أن الله تعالى ابتلاهم بذلك ليعرفهم موقع نعمته عليهم بصفحه عنهم وترك عقوبتهم في الآخرة على معصيتهم. الثالث: أنه ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله وترك الإياس في عفوه عنهم إذا تابوا. وفي قوله تعالى {لولا أن رأى برهان ربه} ستة أقاويل: أحدها: أن برهان ربه الذي رآه أن نودي بالنهي عن مواقعة الخطيئة , قال ابن عباس: نودي اي ابن يعقوب تزني فيكون مثلك مثل طائر سقط ريشه فذهب يطير فلم يستطع. الثاني: أنه رأى صورة يعقوب وهو يقول: يا يوسف أتهمُّ بفعل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء؟ فخرجت شهوته من أنامله , قاله قتادة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير.(3/25)
قال مجاهد: فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكراً إلا يوسف فلم يولد له إلا غلامان ونقص بتلك الشهوة ولده. الثالث: أن البرهان الذي رآه ما أوعد الله تعالى على الزنى , قال محمد بن كعب القرظي: رأى كتاباً على الحائط: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} [الإسراء: 32] . الرابع: أن البرهان الذي رآه. الملك إظفير سيده , قاله ابن إسحاق. الخامس: أن البرهان الذي رآه هو ما آتاه الله تعالى من آداب آبائه في العفاف والصيانة وتجنب الفساد والخيانة , قاله ابن بحر. السادس: أن البرهان الذي رآه أنه لما همت به وهم بها رأى ستراً فقال لها: ما وراء هذه الستر؟ فقالت: صنمي الذي أعبده أستره استحياء منه. فقال: إذا استحيت مما لا يسمع ولا يبصر فأنا أحق أن أستحي من إلهي وأتوقاه , قاله الضحاك. {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} فيها وجهان: أحدهما: أن السوء الشهوة , والفحشاء المباشرة. الثاني: أن السوء عقوبة الملك العزيز. والفحشاء مواقعة الزنى. {إنه من عبادنا المخلصين} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر المخلصين بكسر اللام , وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله تعالى. وقرأ الباقون بفتح اللام , وتأويلها الذين أخلصهم الله برسالته , وقد كان يوسف عليه السلام بهاتين الصفتين لأنه كان مخلصاً في طاعة الله تعالى , مستخلصاً لرسالة الله.(3/26)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
{واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} قوله عز وجل: {واستبقا الباب} أي أسرعا إليه , أما يوسف فأسرع إليه هرباً , وأما امرأة العزيز فأسرعت إليه طلباً. {وقَدت قميصه من دبر} لأنها أدركته وقد فتح بعض الأغلاق فجذبته من ورائه فشقت قميصه إلى ساقه , قال ابن عباس: وسقط عنه وتبعته. {وألفيا سيدها لَدى الباب} أي وجدا زوجها عند الباب. قال أبو صالح: والسيد هو الزوج بلسان القبط. {قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلاّ أن يسجن أو عذابٌ أليمٌ} هذا قولها لزوجها لتدفع الريبة عن نفسها بإلقائها على يوسف , ولو صدق حبها لم تفعل ذلك به ولآثرته على نفسها , ولكنها شهوة نزعت ومحبة لم تصف. وذلك أنه لما اقترن شدة حبها بالشهوة طلبت دفع الضرر بالتكذيب عليه , ولو خلص من الشهوة لطلبت دفع الضرر عنه بالصدق. {قال هي راودتني عن نفسي} لأنها لما برأت نفسها بالكذب عليه احتاج أن يبرىء نفسه بالصدق عليها , ولو كفت عن الكذب عليه لكف عن الصدق عليها. {وشهد شاهد من أهلها} لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى(3/27)
شاهد يعلم به صدق الصادق منهما من الكاذب , فشهد شاهد من أهلها , أي حكم حاكم من أهلها لأنه حكم منه وليس شهادة. وفيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه صبي أنطقه الله تعالى في مهده , قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وسعيد بن جبير والضحاك. الثاني: أنه خلق من خلق الله تعالى ليس بإنس ولا جن , قاله مجاهد. الثالث: أنه رجل حكيم من أهلها , قاله قتادة. قال السدي وكان ابن عمها. الرابع: أنه عنى شهادة القميص المقدود , قاله مجاهد أيضاً. {إن كان قميصُه قد مِن قُبل فصدقت وهو من الكاذبين} {وإن كان قميصه قد من دُبر فكذبت وهو من الصادقين} لأن الرجل إذا طلب المرأة كان مقبلاً عليها فيكون شق قميصه من قبله دليلاً على طلبه. وإذا هرب من المرأة كان مدبراً عنها فيكون شق قميصه من دبره دليلاً على هربه. وهذه إحدى الآيات الثلاث في قميصه: إن كان قُدَّ من دبر فكان فيه دليل على صدقه , وحين جاءوا على قميصه بدم كذب , وحين ألقي على وجه أبيه فارتدّ بصيراً. {فلما رأى قميصه قُدَّ من دُبُرٍ قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} علم بذلك صدق يوسف فصدّقه وقال إنه من كيدكن. وفي الكيد هما وجهان: أحدهما: يعني به كذبها عليه.(3/28)
الثاني: أنه أراد السوء الذي دعته إليه. وفي قائل ذلك قولان: أحدهما: أنه الزوج , قاله محمد بن إسحاق. الثاني: أنه الشاهد , حكاه علي بن عيسى. قوله عزوجل: {يوسف أعرض عن هذا} فيه وجهان: أحدهما: أعرض عن هذا الأمر , قال قتادة: على وجه التسلية له في ارتفاع الإثم. الثاني: أعرض عن هذا القول , قاله ابن زيد على وجه التصديق له في البراءة من الذنب. {واستغفري لذنبك} هذا قول الملك لزوجه وهو القائل ليوسف أعرض عن هذا. وفيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن غيوراً فلذلك كان ساكتاً. الثاني: أن الله تعالى سلبه الغيرة وكان فيه لطف بيوسف حتى كفى بادرته وحلم عنها فأمرها بالاستغفار من ذنبها توبة منه وإقلاعاً عنه. {إنك كنت من الخاطئين} يعني من المذنبين , يقال لمن قصد الذنب خَطِىءَ , ولمن لم يقصده أخطأ , وكذلك في الصوب والصواب , قال الشاعر:
(لعمرك إنما خطئي وصوبي ... عليّ وإنما أهلكت مالي)
وقال من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات لتغليب المذكر على المؤنث.(3/29)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
{وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل(3/29)
ماء آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم} قوله تعالى: {وقال نسوة في المدينة} قال جويبر: كن أربعاً: امرأة الحاجب وامرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة القهرمان. قال مقاتل: وامرأة صاحب السجن وفي هذه المدينة قولان: أحدهما: مصر. الثاني: عين شمس. {امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه} قلن ذلك ذماً لها وطعناً فيها وتحقيقاً لبراءة يوسف وإنكاراً لذنبه. والعزيز اسم الملك مأخوذ من عزته , ومنه قول أبى داؤد:
(درة غاص عليها تاجر ... جلبت عند عزيز يوم طل)
{قد شغفها حبّاً} أي قد دخل حبه من شغاف قلبها. وفي شغاف القلب خمسة أقاويل: أحدها: أنه حجاب القلب , قاله ابن عباس. الثاني: أنه غلاف القلب وهو جلدة رقيقة بيضاء تكون على القلب وربما سميت لباس القلب , قاله السدي وسفيان. الثالث: أنه باطن القلب , قاله الحسن , وقيل هو حبة القلب. الرابع: أنه ما يكون في الجوف , قاله الأصمعي. الخامس: هو الذعر والفزع الحادث عن شدة الحب , قاله إبراهيم. وقد قرىء في الشواذ عن ابن محيصن: قد شعفها حباً (بالعين غير معجمة) واختلف في الفرق بينهما على قولين:(3/30)
أحدهما: أن الشغف بالغين معجمة هو الجنون وبالعين غير معجمة هو الحب , قاله الشعبي. والثاني: أن الشغف بالإعجام الحب القاتل , والشعف بغير إعجام دونه , قاله ابن عباس وقال أبو ذؤيب:
(فلا وجْدَ إلا دُون وجْدٍ وجَدته ... أصاب شغافَ القلب والقلبُ يشغف)
{إنا لنراها في ضلال مبين} فيه وجهان: أحدهما: في ضلال عن الرشد وعدول عن الحق. الثاني: معناه في محبة شديدة. ولما اقترن شدة حبها بالشهوة طلبت دفع الضرر عن نفسها بالكذب عليه , ولو خلص من الشهوة طلبت دفع الضرر عنه بالصدق على نفسها. قوله عز وجل: {فلما سمعت بمكرهن} فيه وجهان: أحدهما: أنه ذمهن لها وإنكارهن عليها. الثاني: أنها أسرت إليهن بحبها له فأشعْن ذلك عنها. {أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ} وفي {أعتدت} وجهان: أحدهما: أنه من الإعداد. الثاني: أنه من العدوان. وفي (المُتْكَأ) ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه المجلس , قاله ابن عباس والحسن. والثاني: أنه النمارق والوسائد يتكأ عليها , قاله أبو عبيدة والسدي. الثالث: أنه الطعام مأخوذ من قول العرب اتكأنا عند فلان أي طعمنا عنده , وأصله أن من دعي إلى طعام أُعد له متكأ فسمي الطعام بذلك متكأ على الاستعارة. فعلى هذا أي الطعام هو؟ فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه الزُّماورد , قاله الضحاك وابن زيد.(3/31)
الثاني: أنه الأترج , قاله ابن عباس ومجاهد وهو وتأويل من قرأها مخففة غير مهموزة , والمتْك في كلامهم الأترج , قال الشاعر:
(نشرب الإثم بالصُّواع جهارا ... وترى المتك بيننا متسعارا)
والإثم: الخمر , والمتك: الأترج. الثالث: أنه كل ما يجز بالسكين وهو قول عكرمة لأنه في الغالب يؤكل على متكأ. الرابع: أنه كل الطعام والشراب على عمومه , وهو قول سعيد بن جبير وقتادة. {وآتت كلَّ واحدة منهن سكيناً وقالت اخرج عليهن} وإنما دفعت ذلك إليهن في الظاهر معونة على الأكل , وفي الباطن ليظهر من دهشتهن ما يكون شاهداً عليهن. قال الزجاج: كان كالعبد لها فلم تمكنه أن يخرج إلا بأمرها. {فلما رأينه أكبرنه} وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه أعظمنه , قاله ابن عباس. الثاني: معناه وجدن شأنه في الحسن والجمال كبيراً , قال ابن بحر. الثالث: معناه: حضن عند رؤيته , وهو قول رواه عبد الصمد بن علي الهاشمي عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس. وقيل: إن المرأة إذا جزعت أو خافت حاضت , وقد يسمى الحيض إكباراً , قال الشاعر:
(نأتي النساء على أطهارهن ولا ... نأتي النساء إذا أكبرن إكباراً)(3/32)
)
{وقطعن أيديهن} دهشاً ليكون شاهداً عليهن على ما أضمرته امرأة العزيز فيهن. وفي قطع أيديهن وجهان: أحدهما: أنهن قطعن أيديهن حتى بانت. الثاني: أنهن جرحن أيديهن حتى دميت , من قولهم قطع فلان يده إذا جرحها. {وقلن حاش لله} بالألف في قراءة أبي عمرو ونافع في رواية الأصمعي وقرأ الباقون حاش لله بإسقاط الألف , ومعناهما واحد. وفي تأويل ذلك وجهان: أحدهما: معاذ الله , قاله مجاهد. الثاني: معناه سبحان الله , قاله ابن شجرة. وفي أصله وجهان: أحدهما: أنه مأخوذ من قولهم كنت في حشا فلا أي في ناحيته. والثاني: أنه مأخوذ من قولهم حاش فلاناً أى اعزله في حشا يعني في ناحية. {ما هذا بشراً} فيه وجهان: أحدهما: ما هذا أهلاً للمباشرة. الثاني: ما هذا من جملة البشر. وفيه وجهان: أحدهما: لما علمهن من عفته وأنه لو كان من البشر لأطاعها. الثاني: لما شاهدن من حسنه البارع وجماله البديع {إن هذا إلا ملك كريم} وقرىء ما هذا بشراً (بكسر الباء والشين) أى ما هذا عبداً مشترى إن هذا إلا ملك كريم , مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة تعظيماً لشأنه. قوله عزوجل {قال رب السجن أحب إلىَّ مما يدعونني إليه} وهذا يدل على أنها دعته إلى نفسها ثانية بعد ظهور حالهما , فقال: {رب السجن أحب إلىَّ} يعني(3/33)
الحبس في السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه. ويحتمل وجهين: أحدهما: أنه أراد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة وكنى عنها بخطاب الجمع إما تعظيماً لشأنها في الخطاب وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض. الثاني: أنه أراد بذلك جماعة النسوة اللاتي قطعن أيديهن حين شاهدنه لاستحسانهن له واستمالتهن لقلبه. {وإِلاَّ تصرف عني كيدهن} يحتمل وجهين: أحدهما: ما دعي إليه من الفاحشة إذا أضيف ذلك إلى امرأة العزيز. الثاني: استمالة قلبه إذا أضيف ذلك إلى النسوة. {أصْبُ إِليهن} فيه وجهان: أحدهما: أتابعهن , قاله قتادة. الثاني: أمل إليهن , ومنه قول الشاعر:
(إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبي)(3/34)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
{ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} قوله تعالى: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات} في الآيات التي رأوها وجهان: أحدهما: قدُّ القميص وحز الأيدي. الثاني: ما ظهر لهم من عفته وجماله حتى قلن {ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم} . {ليسجننه حتى حين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الحين ها هنا ستة أشهر , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنه سبع سنين , قاله عكرمة.(3/34)
الثالث: أنه زمان غير محدود , قاله كثير من المفسرين. وسبب حبسه بعد ظهور صِدْقه ما حكى السدي أن المرأة قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني وقال إني راودته عن نفسه , فإما أن تطلقني حتى أعتذر وإما أن تحبسه مثل ما حبستني , فحبسه.(3/35)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
{ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين} قوله عز وجل: {ودخَلَ معه السجن فتيان} قال ابن عباس: كان أحدهما خازن الملك على طعامه , وكان الآخر ساقي الملك على شرابه , وكان الملك وهو الملك الأكبر الوليد بن الرّيان قد اتهمهما بسمّه فحبسهما , فحكى مجاهد أنهما قالا ليوسف لما حُبسا معه: والله لقد أحببناك حين رأيناك , فقال يوسف: أنشدكما بالله أن أحببتماني فما أحبّني أحد إلا دخل عليّ من حبه(3/35)
بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من حبها بلاء، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من حبه بلاء، ثم أحبتني زوجة صاحبي العزيز فدخل عليّ من حبها بلاء، لا أريد أن يحبني إلا ربي. وقال {فتيان} لأنهما كان عبدين , والعبد يسمى فتى صغيراً كان أم كبيراً. {قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحملُ فوق رأسي خُبزاً تأكل الطير منه} وسبب قولهما ذلك ما حكاه ابن جرير الطبري أنهما سألاه عن علمه فقال: إني أعبر الرؤيا , فسألاه عن رؤياهما وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها قال مجاهد وابن إسحاق: وكذلك صدق تأويلها. روى محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) . الثاني: أنها كانت رؤيا كذب سألاه عنها تجربة , فلما أجابهما قالا: إنما كنا نلعب فقال {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} وهذا معنى قول ابن مسعود والسدي. الثالث: أن المصلوب منهما كان كاذباً , والآخر صادقاً , قاله أبو مجلز. وقوله {إني أراني أعصر خمراً} أي عنباً. وفي تسميته خمراً وجهان: أحدهما: لأن عصيره يصير خمراً فعبر عنه بما يؤول إليه. الثاني: أن أهل عُمان يسمون العنب خمراً , قال الضحاك. وقرأ ابن مسعود: إني أراني أعصر عنباً. {نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين} فيه ستة أقاويل: أحدها: أنهم وصفوه بذلك لأنه كان يعود مريضهم ويعزي حزينهم ويوسع على من ضاق مكانه منهم , قاله الضحاك. الثاني: معناه لأنه كان يأمرهم بالصبر ويعدهم بالثواب والأجر.(3/36)
الثالث: إنا نراك ممن أحسن العلم. حكاه ابن جرير الطبري. الرابع: أنه كان لا يرد عذر معتذر. الخامس: أنه كان يقضي حق غيره ولا يقضي حق نفسه. السادس: إنا نراك من المحسنين إن أنبأتنا بتأويل رؤيانا هذه , قاله ابن إسحاق.(3/37)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
{قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} قوله عز وجل {قَال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبّأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يأتيكما طعام ترزقانه في النوم إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما في اليقظة قاله السدي. الثاني: لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يصلكما لأنه كان يخبر بما غاب مثل عيسى , قاله الحسن. الثالث: أن الملك كان من عادته إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً معروفاً وأرسل به إليه , فكره يوسف تعبير رؤيا السوء قبل الإياس من صاحبها لئلا يخوفه بها فوعده بتأويلها عند وصول الطعام إليه , فلما ألحّ عليه عبرها , لئلا يخوفه بها فوعده بتأويلها عند وصول الطعام إليه , فلما ألحَّ عليه عبرها , قاله ابن جريج. وكذلك روى ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من رأى رؤيا فلا يقصها إلا على حبيب أو لبيب) .(3/37)
{ذلكما مما علمنى ربي} يعني تأويل الرؤيا. {إني تركت ملة قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون} . وإنما عدل عن تأويل ما سألاه عنه لما كان فيها من الكرامة , وأخبر بترك ملة قوم لا يؤمنون تنبيهاً لهم على ثبوته وحثاً لهم على طاعة الله. قوله عز وجل: {ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس} قال ابن عباس: من فضل الله علينا أن جعلنا أنبياء , وعلى الناس أن بعثنا إليهم رسلاً. ويحتمل وجهاً آخر ذلك من فضل الله علينا في أن برأنا من الزنى , وعلى الناس من أن خلصهم من مأثم القذف.(3/38)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
{يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله عز وجل: {ذلك الدين القيم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ذلك الدين المستقيم , قاله السدي. الثاني: الحساب البيّن , قاله مقاتل بن حيان. الثالث: يعني القضاء الحق , قاله ابن عباس.(3/38)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
{يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان}(3/38)
قوله عز وجل: {يا صاحبي السجين أما أحدكما فيسقي ربه خمراً} وهو الذي قال: إني أراني أعصر خمراً , بشره بالنجاة وعوده إلى سقي سيده خمراً لأنه كان ساقيه. {وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه} وهو الذي قال {إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه} فأنذره بالهلكة وكان خباز الملك , قال ابن جرير: وكان اسمه مجلثاً , واسم الساقي نبواً. فلما سمع الهالك منهما تأويل رؤياه قال: إنما كنا نلعب. قال {قُضِيَ الأمر الذي فيه تستفتيان} فيه وجهان: أحدهما: قضي السؤال والجواب. الثاني: سيقضى تأويله ويقع. فإن قيل: فكيف قطع بتأويل الرؤيا وهو عنده ظن من طريق الاجتهاد الذي لا يقطع فيه؟ ففيه وجهان: أحدهما: يجوز أن يكون قاله عن وحي من الله تعالى. الثاني: لأنه نبي يقطع بتحقيق ما أنطقه الله تعالى وأجراه على لسانه , بخلاف من ليس بنبي.(3/39)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
{وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين} قوله عز وجل: {وقال للذي ظن أنه ناجٍ منهما اذكرني عند ربك} فيه قولان: أحدهما: يعني للذي علم أنه ناج , فعبر عن العلم بالظن , قاله ابن شجرة. الثاني: أنه ظن ذلك من غير يقين. وفي ظنه وجهان: أحدهما: لأن عبارة الرؤيا بالظن فلذلك لم يقطع به , قاله قتادة. الثاني: أنه لم يتيقن صدقهما في الرؤيا فكان الظن في الجواب لشكه في صدقهما.(3/39)
{اذكرني عند ربك} أي عند سيدك يعني الملك الأكبر الوليد بن الريان تأميلاً للخلاص إن ذكره عنده. {فأنساه الشيطان ذكر ربِّه} فيه قولان: أحدهما: أن الذي نجا منهما أنساه الشيطان ذكر يوسف عند سيده حتى رأى الملك الرؤيا قاله محمد بن إسحاق. الثاني: أن يوسف أنساه الشياطن ذكر ربه في الاستغاثة به والتعويل عليه. روى أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قال: اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ما لبث) . {فلبث في السِّجن بضع سنين} قال ابن عباس: عوقب يوسف بطول السجن بضع سنين لما قال للذي نجا منهما اذكرني عند ربك , ولو ذكر يوسف ربه لخلصه. وفي (البضع) أربعة أقاويل: أحدها: من ثلاث إلى سبع , وهذا قول أبي بكر الصديق وقطرب. الثاني: من ثلاث إلى تسع , قاله مجاهد والأصمعي. الثالث: من ثلاث إلى عشر , قاله ابن عباس. الرابع: ما بين الثلاث إلى الخمس , حكاه الزجاج. قال الفراء: والبِضع لا يذكر إلا مع العشرة والعشرين إلى التسعين , ولا يذكر بعد المائة. وفي المدة التي لبث فيها يوسف مسجوناً ثلاثة أقاويل: أحدها: سبع سنين , قاله ابن جريج وقتادة. الثاني: أنه لبث اثنتي عشرة سنة , قاله ابن عباس. الثالث: لبث أربعة عشرة سنة , قاله الضحاك , وإنما البضع مدة العقوبة لا مدة الحبس كله.(3/40)
وقال وهب: حبس يوسف سبع سنين , ومكث أيوب في البلاء سبع سنين. قال الكلبي: حبس سبع سنين بعد الخمس السنين التي قال فيها {اذكرني عند ربك} .(3/41)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
{وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} قوله عز وجل: {وقال الملك إني أرى سبع بقراتٍ سمان ... } الآية. وهذه الرؤيا رآها الملك الأكبر الوليد بن الريان وفيها لطف من وجهين: أحدهما: أنها كانت سبباً لخلاص يوسف من سجنه. الثاني: أنها كانت نذيراً بجدب أخذوا أهبته وأعدوا له عدته. {يا أيها الملأ افتوني في رؤياي} وذلك أن الملك لما لم يعلم تأويل رؤياه نادى بها في قومه ليسمع بها من يكون عنده عِلْمٌ بتأويلها فيعبرها له. قوله عز وجل: {قالوا أضغاث أحلام} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني أخلاط أحلام , قاله معمر وقتادة.(3/41)
الثاني: ألوان أحلام , قاله الحسن. الثالث: أهاويل أحلام قاله مجاهد. الرابع: أكاذيب أحلام , قاله الضحاك. وفيه خامس: شبهة أحلام , قاله ابن عباس. قال أبو عبيدة: الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا , ومنه قول الشاعر:
89 (كضغث حلم عُزَّ منه حالمُه.} 9
وروى هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب) . وفي تقارب الزمان وجهان: أحدهما: أنه استواء الليل والنهار لأنه وقت اعتدال تنفتق فيه الأنوار وتطلع فيه الثمار فكان أصدق الزمان في تعبير الرؤيا. الثاني: أنه آخر الزمان وعند انتهاء أمده. والأضغاث جمع واحده ضغث والضغث الحزمة من الحشيش المجموع بعضه إلى بعض وقيل هو ملء الكف , ومنه قوله تعالى: {خذ بيدك ضغثاً} وقال ابن مقبل.
(خَوْذٌ كَأَنَّ فِرَاشَهَا وُضِعَتْ بِهِ ... أَضْغَاثُ رَيْحَانٍ غَدَاةَ شَمَالِ)
والأحلام جمع حُلم , والحُلم الرؤيا في النوم , وأصله الأناة , ومنه الحلم ضد الطيش فقيل لما يرى في النوم حلم لأنها حال أناة وسكون. {وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين} فدل ذلك على أنه ليس التأويل الأول مما تؤؤل به الرؤيا هو الحق المحكوم به لأن يوسف عرفهم تأويلها بالحق , وإنما قال يوسف للغلامين {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} لأنه منه نذير نبوة. ويجوز أن يكون(3/42)
الله تعالى صرف هؤلاء عن تفسير هذه الرؤيا لطفاً بيوسف ليتذكر الذي نجا منهما حاله فتدعوهم الحاجة إليه فتكون سبباً لخلاصه. قوله عز وجل: {وقال الذي نجا منهما وادّكر بَعْدَ أمة} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني بعد حين , قاله ابن عباس. الثاني: بعد نسيان , قاله عكرمة. الثالث: بعد أمة من الناس , قاله الحسن. قال الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة , وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة وجمع له شمله فعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة. وقرىء {وادّكر بعد أمَةٍ} بفتح الألف وتخفيف الميم , والأمه: بالتخفيف النسيان. {أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} أي أخبركم بمن عنده علم بتأويله ثم لم يذكره لهم. قال ابن عباس: لم يكن السجن بالمدينة فانطلق إلى يوسف حين أذن له وذلك بعد أربع سنين بعد فراقه. قوله عز وجل: {يوسف أيها الصديق أفتنا} احتمل تسميته بالصديق وجهين: أحدهما: لصدقه في تأويل رؤياهما. الثاني: لعلمه بنبوته. والفرق بين الصادق والصديق أن الصادق في قوله بلسانه , والصديق من تجاوز صدقه لسانه إلى صدق أفعاله في موافقة حاله لا يختلف سره وجهره , فصار كل صدّيق صادقاً وليس كل صادق صدّيقاً. {أفتنا في سبع بقرات سمان} قال قتادة: هي السنون المخصبات. {يأكلهن سبع عجافٌ} قال قتادة: هي السنون المجدبات. {وسبع سنبلات خضر وأُخر يابسات} والخضر الخصب لأن الأرض بنباتها(3/43)
خضراء , واليابسات هي الجدب لأنّ الأرض فيه يابسة , كما أن ماشية الخصب سمان , وماشية الجدب عجاف. {لعلي أرجع إلى الناس} أي لكي أرجع إلى الناس وهو الملك وقومه , ويحتمل أن يريد الملك وحده فعبر عنه بالناس تعظيماً له. {ولعلهم يعلمون} لأنه طمع أن يعلموا وأشفق أن لا يعلموا , فلذلك قال {لعلهم يعلمون} يعني تأويلها. ولم يكن ذلك منه شكاً في علم يوسف. لأنه قد وقر في نفسه علمه وصدقه , ولكن تخوف أحد أمرين إما أن تكون الرؤيا كاذبةً , وإما ألاّ يصدقوا تأويلها لكراهتهم له فيتأخر الأمر إلى وقت العيان. قوله عز وجل: {قال تزرعون سبع سنين دأباً} فيه وجهان: أحدهما: يعني تباعاً متوالية. الثاني: يعني العادة المألوفة في الزراعة. {فما حصدتم فذروه في سُنْبُلهِ إلا قليلاً مما تأكلون} يعني فيخرج من سنبله لأن ما في السنبل مدخر لا يؤكل , وهذا القول منه أمر , والأول خبر , ويجوز لكونه نبياً أن يأمر بالمصالح , ويجوز أن يكون القول الأول أيضاً أمراً وإن كان الأظهر منه أنه خبر. قوله عز وجل: {ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شداد} يعني المجدبات لشدتها على أهلها. وحكى زيد بن أسلم عن أبيه أن يوسف كان يصنع طعام اثنين فيقربه إلى رجل فيأكل نصفه ويدع نصفه , حتى إذا كان يوماً قربه له فأكله كله , فقال يوسف: هذا أول يوم السبع الشداد. {يأكلن ما قدمتم لهن} يعني تأكلون فيهن ما ادخرتموه لهن. {إلا قليلاً مما تحصنون} فيه وجهان: أحدهما: مما تدخرون , قاله قتادة. الثاني: مما تخزنون في الحصون. ويحتمل وجهاً ثالثاً: إلا قليلاً مما تبذرون لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات.(3/44)
قوله عز وجل: {ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يغاث الناس} فيه وجهان: أحدهما: يغاثون بنزول الغيث , قاله ابن عباس. الثاني: يغاثون بالخصب , حكاه ابن عيسى. {وفيه يعصرون} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعصرون العنب والزيتون من خصب الثمار , قاله مجاهد وقتادة. الثاني: أي فيه يجلبون المواشي من خصب المراعي , قاله ابن عباس. الثالث: يعصرون السحاب بنزول الغيث وكثرة المطر , من قوله تعالى {وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجَّاجاً} [النبأ: 14] . قاله عيسى بن عمر الثقفي. الرابع: تنجون , مأخوذ من العُصْرة وهي المنجاة , قاله أبو عبيدة والزجاج , ومنه قول الشاعر:
(صادياً يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عُصْرَة المنجود)
الخامس: تحسنون وتفضلون , ومنه قول الشاعر:
(لو كان في أملاكنا ملك ... يعصر فينا مثل ما تعصر)
أي يحسن: وهذا القول من يوسف غير متعلق بتأويل الرؤيا وإنما هو استئناف خبر أطلقه الله تعالى عليه من آيات نبوته.(3/45)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
{وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} قوله عز وجل: {وقال الملك ائتوني به} يعني يوسف عليه السلام.(3/45)
{فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك} يعني الملك. {فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} وإنما توقف عن الخروج مع طول حبسه ليظهر للملك عذره قبل حضوره فلا يراه مذنباً ولا خائناً. فروى أبو الزناد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يرحم الله يوسف إنه كان ذا أناةٍ لو كنت أنا المحبوس ثم أُرسل لخرجت سريعاً) . وفي سؤاله عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن دون امرأة العزيز ثلاثة أوجه: أحدها: أن في سؤاله عنها ظنَّةً ربما صار بها متهماً. والثاني: صيانة لها لأنها زوج الملك فلم يتبذلها بالذكر. الثالث: أنه أرادهن دونها لأنهن الشاهدات له عليها. {إن ربي بكيدهن عليم} فيه وجهان: أحدهما: معناه إن الله بكيدهن عليم. الثاني: أن سيدي الذي هو العزيز بكيدهن عليم. قوله عز وجل: {قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه} فهذا سؤال الملك قد تضمن تنزيه يوسف لما تخيله من صدقه لطفاً من الله تعالى به حتى لا تسرع واحدة منهن إلى التكذب عليه. وفي قوله: {راودتن} وإن كانت المراودة من إحداهن وجهان: أحدهما: أن المراودة كانت من امرأة العزيز وحدها فجمعهن في الخطاب وإن توجه إليها دونهن احتشاماً لها. الثاني: أن المراودة كانت من كل واحدة منهن. {قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوءٍ} فشهدن له بالبراءة من السوء على علمهن لأنها شهادة على نفي , ولو كانت شهادتهن على إثبات لشهدن قطعاً، وهكذا(3/46)
حكم الله تعالى في الشهادات أن تكون على العلم في النفي , وعلى القطع في الإثبات. {قالت امرأة العزيز الآنَ حصحص الحق} معناه الآن تبين الحق ووضح , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. وأصله مأخوذ من قولهم حَصّ شعره إذا استأصل قطعه فظهرت مواضعه ومنه الحصة من الأرض إذا قطعت منها. فمعنى حصحص الحق أي انقطع عن الباطل بظهوره وبيانه. وفيه زيادة تضعيف دل عليها الاشتقاق مثل قوله: (كبوا , وكبكبوا) قاله الزجاج. وقال الشاعر:
(ألا مبلغ عني خداشاً فإنه ... كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم)
{أنا راودته عن نفسه , وإنه لمن الصادقين} وهذا القول منها وإن لم تسأل عنه إظهار لتوبتها وتحقيق لصدق يوسف ونزاهته لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه , فجمع الله تعالى ليوسف في إظهار صدقه الشهادة والإقرار حتى لا يخامر نفساً ظن ولا يخالجها شك. قوله عز وجل: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قول امرأة العزيز عطفاً على ما تقدم , ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب , يعني الآن في غيبه بالكذب عليه وإضافة السوء إليه لأن الله لا يهدي كيد الخائنين , حكاه ابن عيسى. الثاني: أنه قول يوسف بعد أن علم بظهور صدقه , وذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب عنه في زوجته , قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي. {وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} معناه وأن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم.(3/47)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
{وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور(3/47)
رحيم وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} قوله عز وجل: {وما أبرىء نفسي} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قول العزيز أي وما أبرىء نفسي من سوء الظن بيوسف. {إنَّ النفس لأمارة بالسوء} يحتمل وجهين: أحدهما: الأمارة بسوء الظن. الثاني: بالاتهام عند الارتياب. {إلا ما رحم ربي} يحتمل وجهين: أحدهما: إلاَّ ما رحم ربي إن كفاه سوء الظن. الثاني: أن يثنيه حتى لا يعمل. فهذا تأويل من زعم أنه قول العزيز. الوجه الثاني: أنه قول امرأة العزيز وما أبرىء نفسي إن كنت راودت يوسف عن نفسه لأن النفس باعثة على السوء إذا غلبت الشهوة عليها. {إلا ما رحم ربي} يحتمل وجهين: أحدهما: إلا ما رحم ربي من نزع شهوته منه. الثاني: إلا ما رحم ربي في قهره لشهوة نفسه , فهذا تأويل من زعم أنه من قول امرأة العزيز. الوجه الثاني: أنه من قول يوسف , واختلف قائلو هذا في سببه على أربعة أقاويل: أحدها: أن يوسف لما قال {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قالت امرأة العزيز: ولا حين حللت السراويل؟ فقال: وما أبريء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء، قاله السدي.(3/48)
الثاني: أن يوسف لما قال ذلك غمزه جبريل عليه السلام فقال: ولا حين هممت؟ فقال {وما أُبريء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء} قاله ابن عباس. الثالث: أن الملك الذي مع يوسف قال له: اذكر ما هممت به , فقال: {وما أبرىء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء} قاله قتادة. الرابع: أن يوسف لما قال {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} كره نبي الله أن يكون قد زكى نفسه فقال {وما أبريء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} قاله الحسن. ويحتمل قوله {لأمارة بالسوء} وجهين: أحدهما: يعني أنها مائلة إلى الهوى بالأمر بالسوء. الثاني: أنها تستثقل من عزائم الأمور ما إن لم يصادف حزماً أفضت إلى السوء. قوله عز وجل: {وقال الملك ائتوني به اسْتخلصه لنفسي} وهذا قول الملك الأكبر لما علم أمانة يوسف اختاره ليستخلصه لنفسه في خاص خدمته. {فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} لأنه استدل بكلامه على عقله , وبعصمته على أمانته فقال: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} وهذه منزلة العاقل العفيف. وفي قوله {مكين} وجهان: أحدهما: وجيه , قاله مقاتل. الثاني: متمكن في المنزلة الرفيعة. وفي قوله {أمين} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه بمعنى آمن لا تخاف العواقب , قاله ابن شجرة. الثاني: أنه بمعنى مأمون ثقة , قاله ابن عيسى. الثالث: حافظ , قاله مقاتل. قوله عز وجل: {قال اجعلني على خزائن الأرض} أي على خزائن أرضك , وفيها قولان:(3/49)
أحدهما: هو قول بعض المتعمقة أن الخزائن ها هنا الرجال , لأن الأفعال والأقوال مخزونة فيهم فصاروا خزائن لها. الثاني: وهو قول أصحاب الظاهر أنها خزائن الأموال , وفيها قولان: أحدهما: أنه سأله جميع الخزائن , قاله ابن زيد. الثاني: أنه سأله خزائن الطعام , قاله شيبة بن نعامة الضبي. وفي هذا دليل على جواز أن يخطب الإنسان عملاً يكون له أهلاً وهو بحقوقه وشروطه قائم. فيما حكى ابن سيرين عن أبي هريرة قال: نزعني عمر بن الخطاب عن عمل البحرين ثم دعاني إليها فأبيت , فقال: لم؟ وقد سأل يوسف العمل. فإن كان المولي ظالماً فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين: أحدهما: جوازها إن عمل بالحق فيما تقلده , لأن يوسف عليه السلام ولي من قبل فرعون , ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره. الثاني: لا يجوز ذلك له لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم وتزكيتهم بتنفيذ أعمالهم.(3/50)
وأجاب من ذهب إلى هذا القول عن ولايته من قبل فرعون بجوابين: أحدهما: أن فرعون يوسف كان صالحاً , وإنما الطاغي فرعون موسى. الثاني: أنه نظر له في أملاكه دون أعماله فزالت عنه التبعة فيه. والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات فيجوز توليته من جهة الظالمين لأن النص على متسحقيه قد أغنى عن الاجتهاد فيه , وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التنفيذ. والقسم الثاني: ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الإجتهاد في مصرفه كأموال الفيء فلا يجوز توليته من جهة الظالم لأنه يتصرف بغير حقٍ ويجتهد فيما لا يستحق. والقسم الثالث: ما يجوز أن يتولاه أهله وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام , فعقد التقليد فيه محلول , فإن كان النظر تننفيذاً لحكم بين متراضيين أو توسطاً بين مجبورين جاز , وإن كان إلزام إجبار لم يجز. {إني حفيظ عليم} فيه أربعة تأويلات: أحدها: حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني , قاله ابن زيد. الثاني: حفيظ بالكتاب , عليم بالحساب , حكاه ابن سراقة , وأنه أول من كتب في القراطيس. الثالث: حفيظ بالحساب , عليم بالألسن , قاله الأشجع عن سفيان. الرابع: حفيظ لما وليتني , قاله قتادة , عليم بسني المجاعة , قاله شيبة الضبي.(3/51)
وفي هذا دليل على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل , وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات ولكن مخصوص فيما اقترن بوصلة أو تعلق بظاهر من مكسب وممنوع منه فيما سواه لما فيه من تزكية ومراءاة , ولو تنزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله , فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله ولما يرجوه من الظفر بأهله.(3/52)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
{وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون} قوله عز وجل: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} قال ابن جرير الطبري: استخلصه الملك الأكبر الوليد بن الريان على عمل إظفير وعزله. قال مجاهد: وأسلم على يده. قال ابن عباس: ملك بعد سنة ونصف. فروى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن يوسف قال: إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته ذلك) . ثم مات إظفير فزوّجه الملك بامرأة إظفير راعيل , فدخل بها يوسف فوجدها عذراء وولدت له ولدين أفرائيم ومنشا ابني يوسف. ومن زعم أنها زليخا قال لم يتزوجها يوسف وأنها لما رأته في موكبه بكت , ثم قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً بالمعصية , وجعل العبيد بالطاعة ملوكاً , فضمها إليه فكانت في عياله حتى ماتت عنده ولم يتزوجها. {يتبوَّأ منها حيث يشاء} فيه وجهان:(3/52)
أحدهما: يتخذ من أرض مصر منزلاً حيث يشاء , قاله سعيد بن جبير. الثاني: يصنع في الدنيا ما يشاء لتفويض الأمر إليه , قاله عبد الرحمن بن زيد. {نصيب برحمتنا من نشاء} يعني في الدنيا بالرحمة والنعمة. {ولا نضيع أجر المحسنين} يعني في الآخرة بالجزاء. ومنهم من حملها على الدنيا , ومنهم من حملها على الآخرة , والأصح ما قدمناه. واختلف فيما أوتيه من هذا الحال على قولين: أحدهما: ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه. الثاني: أنه أنعم بذلك عليه تفضلاً منه , وثوابه باقٍ على حاله في الآخرة. قوله عز وجل {ولأجر الآخرة خيرٌ للذين آمنوا وكانوا يتقون} فيه وجهان: أحدهما: ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا من أجر الدنيا , لأن أجر الآخرة دائم , وأجر الدنيا منقطع. الثاني: ولأجر الآخرة خير ليوسف من التشاغل بملك الدنيا ونعيمها لما فيه من التبعة.(3/53)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
{وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون} قوله عز وجل: {وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه} الآية. قال ابن إسحاق والسدي: وإنما جاءُوا ليمتاروا من مصر في سني القحط التي ذكرها يوسف في تفسير الرؤيا , ودخلوا على يوسف لأنه كان هو الذي يتولى بيع الطعام لعزته. {فعرفهم} فيه وجهان: أحدهما: أنه عرفهم حين دخلوا عليه من غير تعريف , قاله ابن عباس.(3/53)
الثاني: ما عرفهم حتى تعرفوا إليه فعرفهم , قاله الحسن. وقيل بل عرفهم بلسانهم العبراني حين تكلموا به. قال ابن عباس: إنما سميت عبرانية لأن إبراهيم عليه السلام عبر بهم فلسطين فنزل من وراء نهر الأردن فسمّوا العبرانية. {وهم له منكرون} لأنه فارقوه صغيراً فكبر , وفقيراً فاستغنى , وباعوه عبداً فصار ملكاً , فلذلك أنكروه , ولم يتعرف إليهم ليعرفوه. قوله عز وجل: {ولمّا جهزهم بجهازهم} وذلك أنه كال لهم الطعام , قال ابن إسحاق: وحمل لكل رجل منهم بعيراً بعدَّتهم. {قال ائتوني بأخٍ لكم من أبيكم} قال قتادة: يعني بنيامين وكان أخا يوسف لأبيه وأمه. قال السدي: أدخلهم الدار وقال: قد استربت بكم تنكر عليهم فأخبروني من أنتم فإني أخاف أن تكونوا عيوناً , فذكروا حال أبيهم وحالهم وحال يوسف وحال أخيه وتخلفه مع أبيه , فقال: إن كنتم صادقين فائتوني بهذا الأخ الذي لكم من أبيكم , وأظهر لهم أنه يريد أن يستبرىء به أحوالهم. وقيل: بل وصفوا له أنه أحَبُّ إلى أبيهم منهم , فأظهر لهم محبة رؤيته. {ألا تروْن أني أوفي الكيلَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أرخص لهم في السعر فصار زيادة في الكيل. الثاني: أنه كال لهم بمكيال واف. {وأنا خير المنزلين} فيه وجهان: أحدهما: يعني خير المضيفين , قاله مجاهد. الثاني: وهو محتمل , خير من نزلتم عليه من المأمونين. فهو على التأويل الأول مأخوذ من النزل وهو الطعام , وعلى التأويل الثاني مأخوذ من المنزل وهو الدار.(3/54)
قوله عز وجل: {فإن لم تأتوني به فلا كيْل لكم عندي} يعني فيما بعد لأنه قد وفاهم كيلهم في هذه الحال. {ولا تقربون} أي لا أنزلكم عندي منزلة القريب. ولم يُرد أن يبعدوا منه ولا يعودوا إليه لأنه على العود حثهم. قال السدي: وطلب منهم رهينة حتى يرجعوا , فارتهن شمعون عنده. قال الكلبي: إنما اختار شمعون منهم لأنه يوم الجُبّ كان أجملهم قولاً وأحسنهم رأياً. قوله عز وجل: {قالوا سَنُرَاوِدُ عنه أباه} والمراودة الاجتهاد في الطلب , مأخوذ من الإرادة. {وَإِنَّا لَفَاعِلُون} فيه وجهان: أحدهما: وإنا لفاعلون مراودة أبيه وطلبه منه. الثاني: وإنا لفاعلون للعود إليه بأخيهم , قاله ابن إسحاق. فإن قيل: كيف استجاز يوسف إدخال الحزن على أبيه بطلب أخيه؟ قيل عن هذا أربعة أجوبة: أحدها: يجوز أن يكون الله عز وجل أمره بذلك ابتلاء ليعقوب ليُعظم له الثواب فاتّبع أمره فيه. الثاني: يجوز أن يكون أراد بذلك أن ينبه يعقوب على حال يوسف. الثالث: لتضاعف المسرة ليعقوب برجوع ولديه عليه. والرابع: ليقدم سرور أخيه بالاجتماع معه قبل إخوته لميله إليه. قوله عز وجل: {وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم} قرأ حمزة والكسائي وحفص {لفتيانه} وفيهم قولان: أحدهما: أنهم غلمانه , قاله قتادة. الثاني: أنهم الذين كالوا لهم الطعام , قاله السدي.(3/55)
وفي بضاعتهم قولان: أحدهما: أنها وَرِقهم التي ابتاعوا الطعام بها. الثاني: أنها كانت ثمانية جُرُب فيها سويق المقل , قاله الضحاك. وقال بعض العلماء: نبه الله تعالى برد بضاعتهم إليهم على أن أعمال العباد تعود إليهم فيما يثابون إليه من الطاعات ويعاقبون عليه من المعاصي. {لعلهم يعرفونها} أي ليعرفوها. {وإذا انقلبوا إلى أهلهم} يعني رجعوا إلى أهلهم , ومنه قوله تعالى {فانقلبوا بنعمة من الله} [آل عمران: 174] . {لعلهم يرجعون} أي ليرجعوا. فإن قيل: فلم فعل ذلك يوسف؟ قيل: يحتمل أوجهاً خمسة: أحدها: ترغيباً لهم ليرجعوا , على ما صرّح به. الثاني: أنه علم منهم لا يستحلّون إمساكها , وأنهم يرجعون لتعريفها. الثالث: ليعلموا أنه لم يكن طلبه لعودهم طمعاً في أموالهم. الرابع: أنه خشي أن لا يكون عند أبيه غيرها للقحط الذي نزل به. الخامس: أنه تحرج أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن قوتهم مع شدة حاجتهم.(3/56)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
{فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين} قوله عز وجل: {فلمّا رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا مُنِعَ مِنّا الكيل} واختلفوا في نزلهم الذي رجعوا إليه إلى أبيهم على قولين: أحدهما: بالعربات من أرض فلسطين.(3/56)
الثاني: بالأولاج من ناحية الشعب أسفل من حمس , وكان صاحب بادية له شاءٌ وإبل. {قالوا يا أبانا منع منا الكيل} أي سيمنع منا الكيل إن عدنا بغير أخينا لأن ملك مصر ألزمنا به وطلبه منا إما ليراه أو ليعرف صدقنا منه. {فأرسل معنا أخانا نكتَل} أي إن أرسلته معنا أمكننا أن نعود إليه ونكتال منه. {وإنا له لحافظون} ترغيباً له في إرساله معهم. فلم يثق بذلك منهم لما كان منهم في يوسف. {قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل} لأنهم ضمنوا له حفظ يوسف فأضاعوه , فلم يثق بهم فيما ضمنوه. {فالله خير حافظاً} قرأ حمزة والكسائي وحفص {حافظاً} يعني منكم لأخيكم. {وهو أرحم الراحمين} يحتمل وجهين: أحدهما: أرحم الراحمين في حفظ ما استودع. والثاني: أرحم الراحمين فيما يرى من حزني.(3/57)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
{ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل} قوله عز وجل: {ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم رُدَّتْ إليهم} أي وجدوا التي كانت بضاعتهم وهو ما دفعوه في ثمن الطعام الذي امتاروه. {قالوا يا أبانا ما نبغي} فيه وجهان:(3/57)
أحدهما: أنه على وجه الاستفهام بمعنى ما نبغي بعد هذا الذي قد عاملنا به , قاله قتادة. الثاني: معناه ما نبغي بالكذب فيما أخبرناك به عن الملك , حكاه ابن عيسى. {هذه بضاعتنا ردت إلينا} احتمل أن يكون قولهم ذلك له تعريفاً واحتمل أن يكون ترغيباً , وهو أظهر الاحتمالين. {ونمير أهلنا} أي نأتيهم بالميرة , وهي الطعام المقتات , ومنه قول الشاعر:
(بعثتك مائراً فمكثت حولاً ... متى يأتي غياثك من تغيث.)
{ونمير أهلنا} هذا ترغيب محض ليعقوب. {ونحفظ أخانا} وهذا استنزال. {ونزداد كيل بعير} وهو ترغيب وفيه وجهان: أحدهما: كيل البعير نحمل عليه أخانا. والثاني: كيل بعير هو نصيب أخينا لأن يوسف قسّط الطعام بين الناس فلا يعطى الواحد أكثر من حمل بعير. {ذلك كَيْلٌ يسير} فيه وجهان: أحدهما: أن الذي جئناك به كيل يسير لا ينفعنا. والثاني: أن ما نريده يسير على من يكيل لنا , قاله الحسن. فيكون على الوجه الأول استعطافاً , وعلى الثاني تسهيلاً. وفي هذا القول منهم وفاءٌ , ليوسف فيما بذلوه من مراودة في اجتذاب أخيهم لأنهم قد راودوه من سائر جهات المراودة ترغيباً واستنزالاً واستعطافاً وتسهيلاً. قوله تعالى: {قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله} في هذا الموثق ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إشهادهم الله على أنفسهم. الثاني: أنه حلفهم بالله , قاله السدي.(3/58)
الثالث: أنه كفيل يتكفل بهم {لتأتنني به إلاَّ أن يحاط بكم} فيه وجهان: أحدهما: يعني إلا أن يهلك جميعكم , قاله مجاهد. الثاني: إلا أن تُغلَبوا على أمركم , قاله قتادة.(3/59)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
{وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله عز وجل: {وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد ... } يعني لا تدخلوا مصر من باب واحد , وفيه وجهان: أحدها: يعني من باب واحد من أبوابها. {وادخلوا من أبواب متفرقة} , قاله الجمهور. الثاني: من طريق واحد من طرقها {وادخلوا من أبواب متفرقة} أي طرق , قاله السدي. وفيما خاف عليهم أن يدخلوا من باب واحد قولان: أحدهما: أنه خاف عليهم العين لأنهم كانوا ذوي صور وجمال , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: أنه خاف عليهم الملك أن يرى عددهم وقوتهم فيبطش بهم حسداً أو حذراً , قاله بعض المتأخرين. {وما أغني عنكم من الله من شيءٍ} أي من أي شيء أحذره عليكم فأشار عليهم في الأول , وفوض إلى الله في الآخر.(3/59)
قوله عز وجل: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيءٍ} أي لا يرد حذر المخلوق قضاءَ الخالق. {إلاَّ حاجة في نفس يعقوب قضاها} وهو حذر المشفق وسكون نفس بالوصية أن يتفرقوا خشية العين. {وإنه لذو علم لما علمناه} فيه ثلاثة أوجه. أحدها: إنه لعامل بما علم , قاله قتادة. الثاني: لمتيقن بوعدنا , وهو معنى قول الضحاك. الثالث: إنه لحافظ لوصيتنا , وهو معنى قول الكلبي.(3/60)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
{ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {ولما دخلوا على يوسف أوى إليه أخاه} قال قتادة: ضمّهُ إليه وأنزله معه. {قال إني أنا أخوك} فيه وجهان: أحدهما: أنه أخبره أنه يوسف أخوه , قاله ابن إسحاق. الثاني: أنه قال له: أنا أخوك مكان أخيك الهالك , قاله وهب. {فلا تبتئس بما كانوا يعملون} فيه وجهان: أحدهما: فلا تأسف , قاله ابن بحر. الثاني: فلا تحزن بما كانوا يعملون. وفيه وجهان: أحدهما: بما فعلوه في الماضي بك وبأخيك. الثاني: باستبدادهم دونك بمال أبيك.(3/60)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
{فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} قوله عز وجل: {فلما جهزهم بجهازهم} وهو كيل الطعام لهم بعد إكرامهم وإعطائه بعيراً لأخيهم مثل ما أعطاهم. {جعل السقاية في رحل أخيه} والسقاية والصواع واحد. قال ابن عباس. وكل شيء يشرب فيه فهو صواع , قال الشاعر:
(نشرب الخمر بالصواع جهاراً ... وترى المتك بيننا مستعارا)
قال قتادة: وكان إناء المتك الذي يشرب فيه. واختلف في جنسه , فقال عكرمة كان من فضة , وقال عبد الرحمن بن زيد: كان من ذهب , وبه كال طعامهم مبالغة في إكرامهم. وقال السدي: هو المكوك العادي الذي يلتقي طرفاه. {ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون} أي نادى مناد فسمى النداء أذاناً لأنه إعلام كالأذان. وفي {العير} وجهان: أحدهما: أنها الرفقة. الثاني: أنها الإبل المرحولة المركوبة , قاله أبو عبيدة. فإن قيل: كيف استجاز يوسف أن يجعل السقاية في رحل أخيه لسرقهم وهم برآء , وهذه معصية؟ قيل عن هذه أربعة أجوبة: أحدها: أنها معصية فعلها الكيال ولم يأمر بها يوسف.(3/61)
الثاني: أن المنادي الذي كال حين فقد السقاية ظن أنهم سرقوها ولم يعلم بما فعله يوسف , فلم يكن عاصياً. الثالث: أن النداء كان بأمر يوسف , وعنى بذلك سرقتهم ليوسف من أبيه , وذلك صدق. الرابع: أنها كانت خطيئة من قبل يوسف فعاقبه الله عليها بأن قال القوم {إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل} يعنون يوسف. وذهب بعض من يقول بغوامض المعاني إلى أن معنى قوله {إنكم لسارقون} أي لعاقون لأبيكم في أمر أخيكم حيث أخذتموه منه وخنتموه فيه. قوله عز وجل: {قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون} لأنهم استنكروا ما قذفوا به مع ثقتهم بأنفسهم فاستفهموا استفهام المبهوت. {قالوا نفقد صواع الملك} والصواع واحد وحكى غالب الليثي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ صوغ الملك بالغين معجمة , مأخوذ من الصياغة لأنه مصوغ من فضة أو ذهب وقيل من نحاس. {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} وهذه جعالة بذلت للواجد. وفي حمل البعير وجهان: أحدهما: حمل جمل , وهو قول الجمهور. الثاني: حمل حمار , وهو لغة , قاله مجاهد. واختلف في هذا البذل على قولين: أحدهما: أن المنادي بذله عن نفسه لأنه قال {وأنا به زعيم} أي كفيل ضامن. فإن قيل: فكيف ضمن حمل بعير وهو مجهول , وضمان المجهول لا يصح؟ قيل عنه جوابان: أحدهما: أن حمل البعير قد كان عندهم معلوماً كالسوق فصح ضمانه.(3/62)
الثاني: أنها جعالة وقد أجاز بعض الفقهاء فيها في الجهالة , ما لم يُجزْه في غيرها كما أجاز فيها ضمان ما لم يلزم , وإن منع منه في غيرها.(3/63)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
{قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم} قوله عز وجل: {قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض} أي لنسرق , لأن السرقة من الفساد في الأرض. وإنما قالوا ذلك لهم لأنهم قد كانوا عرفوهم بالصلاح والعفاف. وقيل لأنهم ردّوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم , ومن يؤد الأمانة في غائب لا يقدم على سرقة مال حاضر. {وما كنا سارقين} يحتمل وجهين: أحدهما: ما كنا سارقين من غيركم فنسرق منكم. والثاني: ما كنا سارقين لأمانتكم فنسرق غير أمانتكم. وهذا أشبه لأنهم أضافوا بذلك إلى عملهم. قوله عز وجل: {قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين} أي ما عقوبة من سرق منكم إن كنتم كاذبين في أنكم لم تسرقوا منا. {قالوا جزاؤه مَن وُجِدَ في رحلِه فهو جزاؤه} أي جزاء من سرق إن يُسْترق. {كذلك نِجزي الظالمين} أي كذلك نفعل بالظالمين إذا سرقوا وكان هذا من دين يعقوب. {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاءِ أخيه} لتزول الريبة من قلوبهم لو بدىء بوعاء أخيه. {ثم استخرجها من وعاء أخيه} قيل عنى السقاية فلذلك أنّث , وقيل عنى الصاع , وهو يذكر ويؤنث في قول الزجاج.(3/63)
{كذلك كدنا ليوسُف} فيه وجهان: أحدهما: صنعنا ليوسف قاله الضحاك. والثاني: دبّرنا ليوسف , قاله ابن عيسى. {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في سلطان الملك , قاله ابن عباس. والثاني: في قضاء الملك , قاله قتادة. والثالث: في عادة الملك , قال ابن عيسى: ولم يكن في دين الملك استرقاق من سرق. قال الضحاك: وإنما كان يضاعف عليه الغرم. {إلا أن يشاء الله} فيه وجهان: أحدهما: إلا أن يشاء الله أن يُسْتَرق من سرق. والثاني: إلا أن يشاء الله أن يجعل ليوسف عذراً فيما فعل.(3/64)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
{قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون} قوله عز وجل: {قالوا إن يسرق فقد سَرَق أخ له من قبلُ} يعنون يوسف. وفي هذا القول منهم وجهان: أحدهما: أنه عقوبة ليوسف أجراها الله تعالى على ألسنتهم , قاله عكرمة. والثاني: ليتبرأوا بذلك من فعله لأنه ليس من أمهم وأنه إن سرق فقد جذبه عِرق أخيه السارق لأن في الاشتراك في الأنساب تشاكلاً في الأخلاق. وفي السرقة التي نسبوا يوسف إليها خمسة أقاويل: أحدها: أنه سرق صنماً كان لجده إلى أمه من فضة وذهب , وكسره وألقاه في الطريق فعيّروه بذلك , قاله سعيد بن جبير وقتادة.(3/64)
الثاني: كان مع إخوته على طعام فنظر إلى عرق فخبأه , فعيّروه بذلك , قاله عطية العوفي. الثالث: أنه كان يسرق من طعام المائدة للمساكين , حكاه ابن عيسى. الرابع: أن عمته وكانت أكبر ولد إسحاق وإليها صارت منطقة إسحاق لأنها كانت في الكبير من ولده , وكانت تكفل يوسف , فلما أراد يعقوب أخذه منها جعلت المنطقة , واتهمته فأخذتها منه , فصارت في حكمهم أحق به , فكان ذلك منها لشدة ميلها وحبها له , قاله مجاهد. الخامس: أنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه , قاله الحسن. {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم} فيه وجهان: أحدهما: أنه أسر في نفسه قولهم {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} قاله ابن شجرة وعلي بن عيسى. الثاني: أسر في نفسه {أنتُمْ شَرٌّ مكاناً ... } الآية , قاله ابن عباس وابن إسحاق. وفي قوله: {قال أنتم شر مكاناً} وجهان: أحدهما: أنتم شر منزلة عند الله ممن نسبتموه إلى هذه السرقة. الثاني: أنتم شر صنعاً لما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم. وفي قوله تعالى: {والله أعلم بما تصفون} تأويلان: أحدهما: بما تقولون , قاله مجاهد. الثاني: بما تكذبون , قاله قتادة. وحكى بعض المفسرين أنهم لما دخلوا عليه دعا بالصواع فنقره ثم أدناه من أذنه ثم قال: إن صواعي هذا ليخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً وأنكم انطلقتم بأخٍ لكم فبِعْتموه , فلما سمعها بنيامين قام وسجد ليوسف وقال أيها الملك سلْ صواعك هذا عن أخي أحيّ هو أم هالك؟ فنقره , ثم قال: هو حي وسوف تراه. قال: فاصنع بي ما شئت , فإنه إن علم بي سينقذني. قال: فدخل يوسف فبكى ثم توضأ وخرج , فقال بنيامين: افقر صواعك ليخبرك بالذي سرقه فجعله في رحلي، فنقره , فقال:(3/65)
صواعي هذا غضبان وهو يقول: كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت.(3/66)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
{قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون} قوله عز وجل: { ... يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً} لكن قالوا ذلك ترقيقاً واستعطافاً وفي قولهم {كبيراً} وجهان: أحدهما: كبير السن. الثاني: كبير القدر لأن كبر السن معروف من حال الشيخ. {فخذ أحدنا مكانه} أي عبْداً بدله. {إنا نراك من المحسنين} فيه وجهان: أحدهما: نراك من المحسنين في هذا إن فعلت , قاله ابن إسحاق. الثاني: نراك من المحسنين فيما كنت تفعله بنا من إكرامنا وتوفية كيلنا وبضاعتنا. ويحتمل ثالثاً: إنا نراك من العادلين , لأن العادل محسن. فأجابهم يوسف عن هذا {قال معاذَ الله أن نأخذ إلا من وجَدْنا متاعنا عنده إنَّا إذًا لظالمون} إن أخذنا بريئاً بسقيم , وفيه وجه ثان: إنا إذاً لظالمون عندكم إذا حكمنا عليكم بغير حكم أبيكم أن من سرق استُرِقّ.(3/66)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
{فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى(3/66)
أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون} قوله عز وجل: {فلما استيأسوا منه} أي يئسوا من رد أخيهم عليهم. الثاني: استيقنوا أنه لا يرد عليهم , قاله أبو عبيدة وأنشد قول الشاعر:
(أقول لها بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم)
{خلصوا نجيّاً} أي خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يختلط بهم غيرهم. {قال كبيرهم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عنى كبيرهم في العقل والعلم وهو شمعون الذي كان قد ارتهن يوسف عنده حين رجع إخوته إلى أبيهم , قاله مجاهد. الثاني: أنه عنى كبيرهم في السن وهو روبيل ابن خالة يوسف , قاله قتادة. الثالث: أنه عنى كبيرهم في الرأي والتمييز وهو يهوذا , قاله مجاهد. {ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله} يعني عند إيفاد ابنه هذا معكم. {ومن قبل ما فرَّطتم في يوسف} أي ضيعتموه. {فلن أبرح الأرض} يعني أرض مصر. {حتى يأذن لي أبي} يعني بالرجوع. {أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين} فيه قولان: أحدهما: يعني أو يقضي الله لي بالخروج منها , وهو قول الجمهور. الثاني: أو يحكم الله لي بالسيف والمحاربة لأنهم هموا بذلك , قاله أبو صالح. قوله عز وجل: {ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق} وقرأ ابن عباس(3/67)
{سُرِق} بضم السين وكسر الراء وتشديدها. {وما شهدنا إلا بما علمنا} فيها وجهان: أحدهما: وما شهدنا عندك بأن ابنك سرق إلا بما علمنا من وجود السرقة في رحله , قاله ابن إسحاق. الثاني: وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يُسترقّ إلا بما علمنا من دينك , قاله ابن زيد. {وما كنا للغيب حافظين} فيه وجهان: أحدهما: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق , قاله قتادة. الثاني: ما كنا نعلم أن ابنك يسترقّ , وهو قول مجاهد. قوله عز وجل: {واسأل القرية التي كنا فيها} وهي مصر , والمعنى واسأل أهل القرية فحذف ذكر الأهل إيجازاً , لأن الحال تشهد به. {والعير التي أقبلنا فيها} وفي {العير} وجهان: أحدهما: أنها القافلة , وقافلة الإبل تسمى عيراً على التشبيه. الثاني: الحمير , قاله مجاهد , والمعنى أهل العير. وقيل فيه وجه ثالث: أنهم أرادوا من أبيهم يعقوب أن يسأل القرية وإن كانت جماداً , أو نفس العير وإن كانت حيواناً بهيماً لأنه نبي , والأنبياء قد سخر لهم الجماد والحيوان بما يحدث فيهم من المعرفة إعجازاً لأنبيائه , فأحالوه على سؤال القرية والعير ليكون أوضح برهاناً. {وإنا لصادقون} أي يستشهدون بصدْقنا أن ابنك سرق.(3/68)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
{قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتؤا(3/68)
تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون} قوله عز وجل: {قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً} فيه وجهان: أحدهما: بل سهلت. الثاني: بل زينت لكم أنفسكم أمراً في قولكم إن ابني سرق وهو لا يسرق , وإنما ذاك لأمر يريده الله تعالى. {فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً} يعني يوسف وأخيه المأخوذ في السرقة وأخيه المتخلف معه فهم ثلاثة. {إنه هو العليم الحكيم} يعني العليم بأمركم , الحكيم في قضائه بما ذكرتم. قوله عز وجل: {وتولَّى عنهم وقال يا أسفَى على يوسف} فيه وجهان: أحدهما: معناه واجزعاه قاله مجاهد , ومنه قول كثير:
(فيا أسفا للقلب كيف انصرافُه ... وللنفس لما سليت فتسلّتِ)
الثاني: معناه يا جزعاه , قاله ابن عباس. قال حسان بن ثابت يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(فيا أسفا ما وارت الأرض واستوت ... عليه وما تحت السلام المنضد)
وفي هذا القول وجهان: أحدهما: أنه أراد به الشكوى إلى الله تعالى ولم يرد به الشكوى منه رغباً إلى الله تعالى في كشف بلائه. الثاني: أنه أراد به الدعاء , وفيه قولان: أحدهما: مضمر وتقديره يا رب ارحم أسفي على يوسف. {وابيضت عَيْنَاه من الحزن} فيه قولان: أحدهما: أنه ضعف بصره لبياض حصل فيه من كثرة بكائه.(3/69)
الثاني: أنه ذهب بصره , قاله مجاهد. {فهو كظيم} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه الكمد , قاله الضحاك. الثاني: أنه الذي لا يتكلم , قاله ابن زيد. الثالث: أنه المقهور , قاله ابن عباس , قال الشاعر:
(فإن أك كاظماً لمصاب شاسٍ ... فإني اليوم منطلق لساني)
والرابع: أنه المخفي لحزنه , قاله مجاهد وقتادة , مأخوذ من كظم الغيظ وهو إخفاؤه , قال الشاعر:
(فحضضت قومي واحتسبت قتالهم ... والقوم من خوفِ المنايا كظم)
)
قوله عز وجل: {قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف} قال ابن عباس والحسن وقتادة معناه لا تزال تذكر يوسف , قال أوس بن حجر:
(فما فتئت خيل تثوبُ وتدّعي ... ويلحق منها لاحق وتقطّعُ)
أي فما زالت. وقال مجاهد: تفتأ بمعنى تفتر. {حتى تكون حرضاً} فيه ثلاثة تأويلات. أحدها: يعني هرماً , قاله الحسن. والثاني: دنفاً من المرض , وهو ما دون الموت , قاله ابن عباس ومجاهد. والثالث: أنه الفاسد العقل , قاله محمد بن إسحاق. وأصل الحرض فساد الجسم والعقل من مرض أو عشق , قال العرجي.
(إني امرؤلجّ بي حُبٌّ فأحرضني ... حتى بَليتُ وحتى شفّني السقم)
{أو تكون من الهالكين} يعني ميتاً من الميتين قاله الجميع.(3/70)
فإن قيل: فكيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكاً متمكناً بمصر , وأبوه بحرّان من أرض الجزيرة؟ وهلاّ عجّل استدعاءه ولم يتعلل بشيء بعد شيء؟ قيل يحتمل أربعة أوجه: أحدها: أن يكون فعل ذلك عن أمر الله تعالى , ابتلاء له لمصلحة علمها فيه لأنه نبيّ مأمور. الثاني: أنه بلي بالسجن , فأحب بعد فراقه أن يبلو نفسه بالصبر. الثالث: أن في مفاجأة السرور خطراً وأحب أن يروض نفسه بالتدريج. الرابع: لئلا يتصور الملك الأكبر فاقة أهله بتعجيل استدعائهم حين ملك. قوله عز وجل: {قال إنما أشكو بَثِّي وحزني إلى الله} في بثي وجهان: أحدهما: همّي , قاله ابن عباس. الثاني: حاجتي , حكاه ابن جرير. والبث تفريق الهم بإظهار ما في النفس. وإنما شكا ما في نفسه فجعله بثاً وهو مبثوث. {وأعلم من الله ما لا تعلمون} فيه تأويلان: أحدهما: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة , وأني ساجد له , قاله ابن عباس. والثاني: أنه أحست نفسه حين أخبروه فدعا الملك وقال: لعله يوسف , وقال لا يكون في الأرض صدّيق إلا نبي , قاله السدّي. وسبب قول يعقوب {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} ما حكي أن رجلاً دخل عليه فقال: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله إليه: يا يعقوب تشكوني؟ فقال: خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. وكان بعد ذلك يقول {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} .(3/71)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
{يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا(3/71)
ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين} قوله عز وجل: { ... اذهبوا فتحسَّسُوا مِن يوسُفَ وأخيه} أي استعملوا وتعرّفوا , ومنه قول عديّ بن زيد:
(فإنْ حَييتَ فلا أحسسك في بلدي ... وإن مرضت فلا تحسِسْك عُوّادِي)
وأصله طلب الشيء بالحس. {ولا تيأسوا من روح الله} فيه تأويلان: أحدهما: من فرج الله , قاله محمد بن إسحاق. والثاني: من رحمة الله , قاله قتادة. وهو مأخوذ من الريح التي بالنفع. وإنما قال يعقوب ذلك لأنه تنّبه على يوسف برد البضاعة واحتباس أخيه وإظهار الكرامة ولما حكي أن يعقوب سأل ملك الموت هل قبضت روح يوسف؟ فقال: لا. قوله عز وجل: {فلمّا دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مَسّنا وأهلنا الضر} وهذا مِن ألطف ترفيق وأبلغ استعطاف. وفي قصدهم بذلك قولان: أحدهما: بأن يرد أخاهم عليهم , قاله ابن جرير. والثاني: توفية كيلهم والمحاباة لهم , قاله علي بن عيسى. {وجئنا ببضاعةٍ مزجاةٍ} وأصل الإزجاء السَوْق بالدفع , وفيه قول الشاعر عدي بن الرقاع.
(تزجي أغَنّ كأن إبرَة روقِهِ ... قلمٌ أصاب من الدواة مدادها)
وفي بضاعتهم هذه خمسة أقاويل: أحدها: أنها كانت دراهم، قاله ابن عباس.(3/72)
الثاني: متاع الأعراب , صوف وسمن , قاله عبد الله بن الحارث. الثالث: الحبة الخضراء وصنوبر , قاله أبو صالح. الرابع: سويق المقل. قاله الضحاك. الخامس: خلق الحبْل والغرارة , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. وفي المزجاة ثلاثة تأويلات: أحدها: أنها الرديئة , قاله ابن عباس. والثاني: الكاسدة , قاله الضحاك. الثالث: القليلة , قاله مجاهد. قال ابن إسحاق: وهي التي لا تبلغ قدر الحاجة ومنه قول الراعي:
(ومرسل برسول غير متّهم ... وحاجة غير مزجاة من الحاج)
وقال الكلبي: هي كلمة من لغة العجم , وقال الهيثمي: من لغة القبط. {فأوف لنا الكيل} فيه قولان: أحدهما: الكيل الذي كان قد كاله لأخيهم , وهو قول ابن جريج. الثاني: مثل كيلهم الأول لأن بضاعتهم الثانية أقل , قاله السدي. {وتصدق علينا} فيه أربعة أقاويل: أحدهما: معناه تفضل علينا بما بين الجياد والرديئة , قاله سعيد بن جبير والسدي والحسن , وذلك لأن الصدقة تحرم على جميع الأنبياء. الثاني: تصدق علينا بالزيادة على حقنا , قاله سفيان بن عيينة. قال مجاهد: ولم تحرم الصدقة إلا على محمد صلى الله عليه وسلم وحده. الثالث: تصدق علينا برد أخينا إلينا , قاله ابن جريج , وكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم تصدّق عَليّ , لأن الصدقة لمن يبتغي الثواب.(3/73)
الرابع: معناه تجوّز عنا , قاله ابن شجرة وابن زيد واستشهد بقول الشاعر:
(تصدّق علينا يا ابن عفان واحتسب ... وأمر علينا الأشعري لياليا)(3/74)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
{قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} قوله عز وجل: {قال هَلْ علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه} معنى قوله {هل علمتم ما فعلتم} أي قد علمتم , كقوله تعالى {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} أي قد أتى. قال ابن إسحاق: ذكر لنا أنهم لما قالوا {مسّنا وأهلنا الضر} رحمهم ورقَّ لهم , فقال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ وعَدَّدَ عليهم ما صنعوا بهما. {إذ أنتم جاهلون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني جهل الصغر. الثاني: جهل المعاصي. الثالث: الجهل بعواقب أفعالهم. فحينئذ عرفوه. {قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي} وحكى الضحاك في قراءة عبد الله: وهذا أخي وبيني وبينه قربى {قد مَنّ الله علينا} يعني بالسلامة ثم بالكرامة , ويحتمل بالإجتماع بعد طول الفرقة. {إنه مَنْ يتّق ويصبرْ} فيه قولان: أحدهما: يتقي الزنى ويصبر على العزوبة , قاله إبراهيم.(3/74)
الثاني: يتقي الله تعالى ويصبر على بلواه. وهو محتمل. {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} فيه قولان: أحدهما: في الدنيا. الثاني: في الآخرة. قوله عز وجل: {قالوا تالله آثرك اللهُ علينا} مأخوذ من الإيثار , وهو إرادة تفضيل أحد النفسين على الآخر , قال الشاعر:
(والله أسماك سُمًّا مباركاً ... آثرك الله به إيثارَكاً)
{وإن كنا لخاطئين} أي فيما صنعوا بيوسف , وفيه قولان: أحدهما: آثمين. الثاني: مخطئين. والفرق بين الخاطئ والمخطئ أن الخاطئ آثم. فإن قيل: فقد كانوا عند فعلهم ذلك به صغاراً ترفع عنهم الخطايا. قيل لما كبروا واستداموا إخفاء ما صنعوا صاروا حينئذ خاطئين. قوله عز وجل: {قال لا تثريب عليكم} فيه قولان أربعة تأويلات: أحدها: لا تغيير عليكم , وهو قول سفيان ابن عيينة. الثاني: لا تأنيب فيما صنعتم , قاله ابن إسحاق. الثالث: لا إباء عليكم في قولكم , قاله مجاهد. الرابع: لا عقاب عليكم وقال الشاعر:
(فعفوت عنهم عفو غير مثربٍ ... وتركتهم لعقاب يومٍ سرمد)
{اليوم يغفر الله لكم} يحتمل وجهين: أحدهما: لتوبتهم بالاعتراف والندم. الثاني: لإحلاله لهم بالعفو عنهم. {وهو أرحم الراحمين} يحتمل وجهين: أحدهما: في صنعه بي حين جعلني ملكاً.(3/75)
الثاني: في عفوه عنكم عما تقدم من ذنبكم.(3/76)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
{اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم} قوله عز وجل: {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً} وفيه وجهان: أحدهما: مستبصراً بأمري لأنه إذا شم ريح القميص عرفني. الثاني: بصيراً من العمى فذاك من أحد الآيات الثلاث في قميص يوسف بعد الدم الكذب وقدّه من دُبُره. وفيه وجه آخر لأنه قميص إبراهيم أنزل عليه من الجنة لما أُلقي في النار , فصار لإسحاق ثم ليعقوب , ثم ليوسف فخلص به من الجب وحازه حتى ألقاه أخوه على وجه أبيه فارتد بصيراً , ولم يعلم بما سبق من سلامة إبراهيم من النار ويوسف من الجب أن يعقوب يرجع به بصيراً. قال الحسن: لولا أن الله تعالى أعلم يوسف بذلك لم يعلم أنه يرجع إليه بصره ... وكان الذي حمل قميصه يهوذا بن يعقوب , قال ليوسف: أنا الذي حملت إليه قميصك بدم كذب فأحزنته فأنا الآن أحمل قميصك لأسرّه وليعود إليه بصره فحمله , حكاه السدي. {وأتوني بأهلكم أجمعين} لتتخذوا مِصرَ داراً. قال مسروق فكانوا ثلاثة وتسعين بين رجل وامرأة. قوله عز وجل: {ولمّا فصلت العير} أي خرجت من مصر منطلقة إلى الشام. {قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف} فيها قولان: أحدهما: أنها أمارات شاهدة وعلامات قوي ظنه بها , فكانت هي الريح التي(3/76)
وجدها ليوسف، مأخوذ من قولهم تنسمت رائحة كذا وكذا إذا قرب منك ما ظننت أنه سيكون. والقول الثاني: وهو قول الجمهور أنه شم ريح يوسف التي عرفها. قال جعفر بن محمد رضي الله عنه: وهي ريح الصبا. ثم اعتذر فقال: {لولا أن تفندّون} فيه أربعة أقاويل: أحدها: لولا أن تسفهون , قاله ابن عباس ومجاهد , ومنه قول النابغة الذبياني:
(إلا سليمان إذ قال المليكُ له ... قم في البرية فا جددها عن الفنَد)
أي عن السفة. الثاني: معناه لولا أن تكذبون , قاله سعيد بن جبير والضحاك , ومنه قول الشاعر:
(هل في افتخار الكريم من أود ... أم هل لقول الصديق من فند)
أي من كذب. الثالث: لولا أن تضعّفون , قاله ابن إسحاق. والتفنيد: تضعيف الرأي , ومنه قول الشاعر:
(يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي ... فليس ما فات من أمري بمردود)
وكان قول هذا لأولاد بنيه , لغيبة بنيه عنه , فدل هذا على أن الجدَّ أبٌ. الرابع: لولا أن تلوموني , قاله ابن بحر. ومنه قول جرير:
(يا عاذليَّ دعا الملامة واقصِرا ... طال الهوى وأطلْتُما التفنيدا)
واختلفوا في المسافة التي وجد ريح قميصه منها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه وجدها من مسافة عشرة أيام. قاله أبو الهذيل.(3/77)
الثاني: من مسيرة ثمانية أيام , قاله ابن عباس. الثالث: من مسيرة ستة أيام , قاله مجاهد. وكان يعقوب بأرض كنعان ويوسف بمصر وبينهما ثمانون فرسخاً , قاله قتادة. قوله عز وجل: {قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أي في خطئك القديم , قاله ابن عباس وابن زيد. الثاني: في جنونك القديم , قاله سعيد بن جبير. قال الحسن: وهذا عقوق. الثالث: في محبتك القديمة , قاله قتادة وسفيان. الرابع: في شقائك القديم , قاله مقاتل , ومنه قول لبيد:
(تمنى أن تلاقي آل سلمى ... بحطمة والمنى طرف الضِّلال)
وفي قائل ذلك قولان: أحدهما: بنوه , ولم يقصدوا بذلك ذماً فيأثموا. والثاني: بنو نبيه وكانوا صغاراً.(3/78)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
{فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} قوله عز وجل: {فلما أن جاء البشير} وفي قولان: أحدهما: شمعون , قاله الضحاك. الثاني: يهوذا. سمي بذلك لأنه أتاه ببشارة. {ألقاه على وجهه} يعني ألقى قميص يوسف على وجه يعقوب. {فارتدَّ بصيراً} أي رجع بصيراً , وفيه وجهان: أحدهما: بصيراً بخبر يوسف. الثاني: بصيراً من العمى. {قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: إني أعلم من صحة رؤيا يوسف ما لا تعلمون.(3/78)
الثاني: إني أعلم من قول ملك الموت أنه لم يقبض روح يوسف ما لا تعلمون. الثالث: إني أعلم من بلوى الأنبياء بالمحن ونزول العراج ونيل الثواب ما لا تعلمون. قوله عز وجل: {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا} وإنما سألوه ذلك لأمرين: أحدهما: أنهم أدخلوا عليه من آلام الحزن ما لا يسقط المأثم عنه إلا بإجلاله. الثاني: أنه نبيُّ تجاب دعوته ويعطى مسألته , فروى ابن وهب عن الليث بن سعد أن يعقوب وإخوة يوسف قاموا عشرين سنة يطلبون التوبة فيما فعل إخوة يوسف بيوسف لا يقبل ذلك منهم حتى لقي جبريل يعقوب فعلمه هذا الدعاء: يا رجاء المؤمنين لا تخيب رجائي , ويا غوث المؤمنين أغثني , ويا عَوْن المؤمنين أعني , ويا مجيب التّوابين تُبْ عليَّ فاستجيب لهم. فإن قيل قد تقدمت المغفرة لهم بقول يوسف من قبل {لا تثريب عليكم} الآية , فلمَ سألوا أباهم أن يستغفر لهم؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: لأن لفظ يوسف عن مستقبل صار وعداً , ولم يكن عن ماض فيكون خبراً. الثاني: أن ما تقدم من يوسف كان مغفرة في حقه , ثم سألوا أباهم أن يستغفر لهم في حق نفسه. الثالث: أنهم علموا نبوة أبيهم فوثقوا بإجابته , ولم يعلموا نبوة أخيهم فلم يثقوا بإجابته. قوله عز وجل: {قال سوف أستغفر لكم ربي} وفي تأخيره الاستغفار لهم وجهان: أحدهما: أنه أخره دفعاً عن العجيل ووعداً من بعد , فلذلك قال عطاء: طلب(3/79)
الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ , ألا ترى إلى قول يوسف: {لا تثريب عليكم اليوم} وإلى قول يعقوب: {سوف أستغفر لكم ربي} . الثاني: أنه أخّره انتظاراً لوقت الإجابة وتوقعاً لزمان الطلب. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: عند صلاة الليل , قاله عمرو بن قيس. الثاني: إلى السحَر , قاله ابن مسعود وابن عمر. روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجار) . الثالث: إلى ليلة الجمعة قاله ابن عباس ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً. وإنما سألوه عن الاستغفار لهم وإن كان المستحق في ذنوبهم التوبة منها دون الاستغفار لهم ثلاثة أمور: أحدها: للتبرك بدعائه واستغفاره. الثاني: طلباً لاستعطافه ورضاه. الثالث: لحذرهم من البلوى والامتحان في الدنيا.(3/80)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
{فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم} قوله عز وجل: {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه} اختلف في إجتماع يوسف مع أبويه وأهله , فحكى الكلبي والسدي أن يوسف خرج عن مصر وركب معه أهلها , وقيل خرج الملك الأكبر معه واستقبل يعقوب , قال الكلبي على يوم من مصر , وكان القصر على ضحوة من مصر , فلما دنا يعقوب متوكئاً على ابنه يهوذا يمشي , فلما نظر إلى الخيل والناس قال: يا يهوذا أهذا فرعون؟ قال: لا , هذا ابنك يوسف , فقال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان عني , فأجابه يوسف: {وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} فيه وجهان: أحدهما: آمنين من فرعون , قاله أبو العالية. الثاني: آمنين من القحط والجدب , قاله السدي. وقال ابن جريج: كان اجتماعهم بمصر بعد دخولهم عليه فيها على ظاهر اللفظ , فعلى هذا يكون معنى قوله {ادخلوا مصر} استوطنوا مصر. وفي قوله: {إن شاء الله} وجهان: أحدهما: أن يعود إلى استيطان مصر , وتقديره استوطنوا مصر إن شاء الله. الثاني: أنه راجع إلى قول يعقوب: سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله آمنين إنه هو الغفور الرحيم , ويكون اللفظ مؤخراً , وهو قول ابن جريج.(3/81)
فحكى ابن مسعود أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون إنساناً من رجل وامرأة , وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً. قوله عز وجل: {ورفع أبويه على العرش} قال مجاهد وقتادة: وفي أبويه قولان: أحدهما: أنهما أبوه وخالته راحيل , وكان أبوه قد تزوجها بعد أمه فسميت أُماً , وكانت أمه قد ماتت في نفاس أخيه بنيامين , قاله وهب والسدي. الثاني: أنهما أبوه وأمه وكانت باقيه إلى دخول مصر , قاله الحسن وابن إسحاق. {وخرّوا له سجداً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم سجدوا ليوسف تعظيماً له , قال قتادة: وكان السجود تحية من قبلكم وأعطى الله تعالى هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة. وقال الحسن: بل أمرهم الله تعالى بالسجود له لتأويل الرؤيا. وقال محمد بن إسحاق: سجد له أبواه وإخوته الأحد عشر. والقول الثاني: أنهم سجدوا لله عز وجل , قاله ابن عباس , وكان يوسف في جهة القبلة فاستقبلوه بسجود , وكان سجودهم شكراً , ويكون معنى قوله {وخروا} أي سقطوا , كما قال تعالى {فخرّ عليهم السقف مِنْ فوقهم} أي سقط. والقول الثالث: أن السجود ها هنا الخضوع والتذلل , ويكون معنى قوله تعالى {خروا} أي بدروا. {وقال يا أبَتِ هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً} واختلف العلماء فيما بين رؤياه وتأويلها على خمسة أقاويل: أحدها: أنه كان بيهما ثمانون سنة , قاله الحسن وقتادة. الثاني: كان بينهما أربعون سنة , قاله سليمان. الثالث: ست وثلاثون سنة , قاله سعيد بن جبير.(3/82)
الرابع: اثنتان وعشرون سنة. والخامس: أنه كان بينهما ثماني عشرة سنة , قاله ابن إسحاق. فإن قيل: فإن رؤيا الأنبياء لا تكون إلا صادقة فهلاّ وثق بها يعقوب وتسلى؟ ولم {قال يا بُني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً} وما يضر الكيد مع سابق القضاء؟ قيل عن هذا جوابان: أحدهما: أنه رآها وهو صبي فجاز أن تخالف رؤيا الأنبياء المرسلين. الثاني: أنه حزن لطول المدة في معاناة البلوى وخاف كيد الإخوة في تعجيل الأذى. {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو} فإن قيل فلم اقتصر من ذكر ما بُلي به على شكر إخراجه من السجن دون الجب وكانت حاله في الجب أخطر؟ قيل عنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه كان في السجن مع الخوف من المعرة ما لم يكن في الجب فكان ما في نفسه من بلواه أعظم فلذلك خصه بالذكر والشكر. الثاني: أنه قال ذلك شكراً لله عز وجل على نقله من البلوى إلى النعماء , وهو إنما انتقل إلى الملك من السجن لا من الجب , فصار أخص بالذكر والشكر إذ صار بخروجه من السجن ملكاً , وبخروجه من الجب عبداً. الثالث: أنه لما عفا عن إخوته بقوله {لا تثريب عليكم اليوم} أعرض عن ذكر الجب لما فيه من التعريض بالتوبيخ وتأول بعض أصحاب الخواطر قوله: {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن} أي من سجن السخط إلى فضاء الرضا. وفي قوله: {وجاء بكم من البدو} ثلاثة أقاويل:(3/83)
أحدها: أنهم كانوا في بادية بأرض كنعان أهل مواشٍ وخيام , وهذا قول قتادة. الثاني: أنه كان قد نزل (بدا) وبنى تحت جبلها مسجداً ومنها قصد , حكاه الضحاك عن ابن عباس. قال جميل:
(وأنتِ التي حَبَبْتِ شغباً إلى بَدَا ... إليّ وأوطاني بلادٌ سِواهما)
يقال بدا يبدو إذا نزل (بدا) فلذلك قال: وجاء بكم من البدو وإن كانوا سكان المدن. الثالث: لأنهم جاءُوا في البادية وكانوا سكان مدن , ويكون بمعنى في. واختلف من قال بهذا في البلد الذي كانوا يسكنونه على ثلاثة أقاويل. أحدها: أنهم كانوا من أهل فلسطين , قاله علي بن أبي طلحة. الثاني: من ناحية حران من أرض الجزيرة , ولعله قول الحسن. الثالث: من الأولاج من ناحية الشعب , حكاه ابن إسحاق. {من بَعْدِ أن نَزَغَ الشيطانُ بيني وبين إخوتي} وفي نزغه وجهان: أحدهما: أنه إيقاع الحسد , قاله ابن عباس. الثاني: معناه حرّش وأفسد , قاله ابن قتيبة. {إن ربي لطيف لما يشاء} قال قتادة: لطيف بيوسف بإخراجه من السجن , وجاء بأهله من البدو , ونزع عن يوسف نزغ الشيطان.(3/84)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
{رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين} قوله عز وجل: {رب قد آتيتني من الملك} فيه أربعة أقاويل:(3/84)
أحدها: أن الملك هو احتياج حساده إليه , قاله ابن عطاء. الثاني: أراد تصديق الرؤيا التي رآها. الثالث: أنه الرضا بالقضاء والقناعة بالعطاء. الرابع: أنه أراد مُلْك الأرض وهو الأشهر. وإنما قال من الملك لأنه كان على مصر من قبل فرعون. {وعلمتني من تأويل الأحاديث} فيه وجهان: أحدهما: عبارة الرؤيا. قاله مجاهد. الثاني: الإخبار عن حوادث الزمان , حكاه ابن عيسى. {فاطر السموات والأرض} أي خالقهما. {أنت وليّي في الدنيا والآخرة} يحتمل وجهين: أحدهما: مولاي. الثاني: ناصري. {توفني مسلماً} فيه وجهان: أحدهما: يعني مخلصاً للطاعة , قاله الضحاك. الثاني: على ملة الإسلام. حكى الحسن أن البشير لما أتى يعقوب قال له يعقوب عليه السلام: على أي دين خلفت يوسف؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمت النعمة. {وألحقني بالصالحين} فيه قولان: أحدهما: بأهل الجنة , قاله عكرمة. الثاني: بآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب , قاله الضحاك. قال قتادة والسدي: فكان يوسف أول نبي تمنى الموت. وقال محمد بن إسحاق: مكث يعقوب بأرض مصر سبع عشرة سنة. وقال ابن(3/85)
عباس مات يعقوب بأرض مصر وحمل إلى أرض كنعان فدفن هناك. ودفن يوسف بأرض مصر ولم يزل بها حتى استخرج موسى عظامه وحملها فدفنها إلى جنب يعقوب عليهم السلام.(3/86)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين}(3/86)
{ذلك من أنباء الغيب} يعني هذا الذي قصصناه عليك يا محمد من أمر يوسف من أخبار الغيب. {نوحيه إليك} أي نعلمك بوحي منا إليك. {وما كنت لديهم} أي إخوة يوسف. {إذ أجمعوا أمرهم} في إلقاء يوسف في الجب. {وهم يمكرون} يحتمل وجهين: أحدهما: بيوسف في إلقائه في غيابة الجب. الثاني: يعقوب حين جاؤوا على قميصه بدم كذب.(3/87)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
{وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون} قوله عز وجل: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنه قول المشركين الله ربنا وآلهتنا ترزقنا , قاله مجاهد. الثاني: أنه في المنافقين يؤمنون في الظاهر رياء وهم في الباطن كافرون بالله تعالى , قاله الحسن. الثالث: هو أن يشبه الله تعالى بخلقه , قاله السدي. الرابع: أنه يشرك في طاعته كقول الرجل لولا الله وفلان لهلك فلان , وهذا قول أبي جعفر. الخامس: أنهم كانوا يؤمنون بالله تعالى ويكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم , فلا يصح إيمانهم حكاه ابن الأنباري.(3/87)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} قوله عز وجل: {قل هذه سبيلي} فيها تأويلان:(3/87)
أحدهما: هذه دعوتي، قاله ابن عباس. الثاني: هذه سنتي، قاله عبد الرحمن بن زيد. والمراد بها تأويلان: أحدهما: الإخلاص لله تعالى بالتوحيد. الثاني: التسليم لأمره فيما قضاه. {أدْعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبَعَني} فيه تأويلان: أحدهما: على هدى , قاله قتادة. الثاني: على حق , وهو قول عبد الرحمن بن زيد. وذكر بعض أصحاب الخواطر تأويلاً (ثالثاً) أي أبلغ الرسالة ولا أملك الهداية.(3/88)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون} قوله عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} قال قتادة: من أهل الأمصار دون البوادي لأنهم أعلم وأحلم. وقال الحسن: لم يبعث الله تعالى نبياً من أهل البادية قط , ولا من النساء , ولا من الجن. {ولدار الآخرة خير} يعني بالدار الجنة , وبالآخرة القيامة , فسمى الجنة داراً وإن كانت النار داراً لأن الجنة وطن اختيار , والنار مسكن اضطرار.(3/88)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
{حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}(3/88)
قوله عز وجل: {حتى إذا استيأس الرسل} فيه وجهان: أحدهما: من قولهم أن يصدقوهم، قاله ابن عباس. الثاني: أن يعذب قومهم، قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: استيأسوا من النصر. {وظنوا أنهم قد كذبوا} في {كذبوا} قراءتان: أحدهما: بضم الكاف وكسر الذال وتشديدها، قرأ بها الحرميّان وأبو عمرو وابن عامر، وفي تأويلها وجهان: أحدهما: يعني أن قومهم ظنوا أن الرسل قد كذّبوهم، حكاه ابن عيسى. والقراءة الثانية {كُذِبوا} بضم الكاف وتخفيف الذال، قرأ بها الكوفيون، وفي تأويلها وجهان: أحدهما: فظن اتباع الرسل أنهم قد كذبوا فيما ذكروه لهم. الثاني: فظن الرسل أن ابتاعهم قد كذبوا فيما أظهروه من الإيمان بهم. {جاءهم نصرنا} فيه وجهان: أحدهما: جاء الرسل نصر الله تعالى قاله مجاهد. الثاني: جاء قومهم عذاب الله تعالى , وهو قول ابن عباس. {فنجي من نشاءُ} قيل الأنبياء ومَن آمن معهم. {ولا يُرَدُّ بأسُنا عن القومِ المجرمين} يعني عذابنا إذا نزل بهم. {لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثا ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} قوله عز وجل: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} يعني في قصص(3/89)
يوسف وإخوته اعتبار لذوي العقول بأن من نقل يوسف من الجب والسجن وعن الذل والرق إلى أن جعله ملكاً مطاعاً ونبياً مبعوثاً، فهو على نصر رسوله وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه قادر، وإنما الإمهال إنذار وإعذار. {ما كان حديثاً يفتري} أن يختلف ويتخرّص، وفيه وجهان: أحدهما: يعني القرآن، قاله قتادة. الثاني: ما تقدم من القصص، قاله ابن إسحاق. {ولكن تصديق الذي بين يديه} فيه وجهان: أحدهما: أنه مصدَّق لما قبله من التوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى، وهذا تأويل من زعم أنه القرآن. الثاني: يعني ولكن يصدّقه ما قبله من كتب الله تعالى، وهذا قول من زعم أنه القصص. {وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} والله أعلم. تمت سورة يوسف بحمد الله وعونه وحسن توفيقه.(3/90)
سورة الرعد
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في قول الكلبي ومقاتل. وقال ابن عباس مدنية إلا آيتين منها وهما قوله تعالى: {ولو أن قرآناً سيرتت به الجبال} إلى آخرهما. بسم الله الرحمن الرحيم(3/91)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
{المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} قوله عز وجل: {المر تلك آيات الكتاب} وفي الكتاب ثلاثة أقاويل: أحدها: الزبور , وهو قول مطر. الثاني: التوراة والإنجيل , قاله مجاهد. الثالث: القرآن , قال قتادة. فعلى هذا التأويل يكون معنى قوله {تلك آيات الكتاب} أي هذه آيات الكتاب. {والذي أنزل إليك من ربك الحق} يعني القرآن. {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} يعني بالقرآن أنه منزل بالحق. وفي المراد ب {أكثر الناس} قولان: أحدهما: أكثر اليهود والنصارى , لأن أكثرهم لم يسلم. الثاني: أكثر الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/91)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
{الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون} قوله عز وجل: {الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها} فيه تأويلان: أحدهما: يعني بِعُمد لا ترونها , قاله ابن عباس. الثاني: أنها مرفوعة بغير عمد , قاله قتادة وإياس بن معاوية. وفي رفع السماء وجهان: أحدهما: رفع قدرهاا وإجلال خطرها , لأن السماء أشرف من الأرض. الثاني: سمكها حتى علت على الأرض.(3/92)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
{وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} قوله عز وجل: {وهو الذي مَدّ الأرض} أي بسطها للاستقرار عليها , رداً على من زعم أنها مستديرة كالكرة. {وجعل فيها رواسي} أي جبالاً , واحدها راسية , لأن الأرض ترسو بها , أي تثبت. قال جميل:(3/92)
(أُحبُّهُ والذي أرسى قواعده ... حُبًّا إذا ظهرت آياتُه بطنا)
قال عطاء: أول جبل وضع على الأرض أبو قبيس. {وأنهاراً} وفيها من منافع الخلق شرب الحيوان ونبات الأرض ومغيض الأمطار ومسالك الفلك. {ومِنْ كُلِّ الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} أحد الزوجين ذكر وأنثى كفحول النخل وإناثها , كذلك كل النبات وإن خفي. والزوج الآخر حلو وحامض , أو عذب ومالح , أو أبيض وأسود , أو أحمر وأصفر , فإن كل جنس من الثمار ذو نوعين , فصار كل ثمر ذي نوعين زوجين , وهي أربعة أنواع. {يغشي الليل النهار} معناه يغشي ظلمةَ الليل ضوءَ النهار , ويغشي ضوء النهار ظلمة الليل. قوله عز وجل: {وفي الأرض قطعٌ متجاورات} فيه وجهان: أحدهما: أن المتجاورات المدن وما كان عامراً , وغير المتجاورات الصحارى وما كان غير عامر. الثاني: أي متجاورات في المدى , مختلفات في التفاضل. وفيه وجهان: أحدهما: أن يتصل ما يكون نباته مراً. الثاني: أن تتصل المعذبة التي تنبت بالسبخة التي لا تنبت , قاله ابن عباس. {وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الصنوان المجتمع , وغير الصنوان المفترق , قاله ابن جرير. قال الشاعر:
(العلم والحلم خُلّتا كرَمٍ ... للمرءِ زين إذا هما اجتمعا)
(صنوانٍ لا يستتم حسنها ... إلا بجمع ذا وذاك معا)(3/93)
الثاني: أن الصنوان النخلات يكون أصلها واحداً , وغير صنوان أن تكون أصولها شتى , قاله ابن عباس والبراء بن عازب. الثالث: أن الصنوان الأشكال , وغير الصنوان المختلف , قاله بعض المتأخرين. الرابع: أن الصنوان الفسيل يقطع من أمهاته , وهو معروف , وغير الصنوان ما ينبت من النوى , وهو غير معروف حتى يعرف , وأصل النخل الغريب من هذا , قاله علي بن عيسى. {يسقى بماءٍ واحدٍ ونُفَضّلُ بعْضَها على بعضٍ في الأكل} فبعضه حلو , وبعضه حامض , وبعضه أصفر , وبعضه أحمر , وبعضه قليل , وبعضه كثير. {إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون} فيه وجهان: أحدهما: أن في اختلاف ذلك اعتبار يدل ذوي العقول على عظيم القدرة , وهو معنى قول الضحاك. الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لبني آدم , أصلهم واحد وهم مختلفون في الخير والشر والإيمان والكفر كاختلاف الثمار التي تسقى بماء واحد , قاله الحسن.(3/94)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
{وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله عز وجل: {وإن تعجب فعجَبٌ قولهم} الآية. معناه وإن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك فأعجبُ منه تكذيبهم بالبعث. والله تعالى لا يتعجب ولا يجوز(3/94)
عليه التعجب , لأنه تغير النفس بما تخفى أسبابه , وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون.(3/95)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
{ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب} قوله عز وجل: {ويستعجلونَكَ بالسيئة قَبْل الحسنة} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني بالعقوبة قبل العافية , قاله قتادة. الثاني: بالشر قبل الخير , وهو قول رواه سعيد بن بشير. الثالث: بالكفر قبل الإجابة. رواه القاسم بن يحيى. ويحتمل رابعاً: بالقتال قبل الاسترشاد. {وقد خلت من قبلهم المثلاتُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: الأمثال التي ضربها الله تعالى لهم , قاله مجاهد. الثاني: أنها العقوبات التي مثل الله تعالى بها الأمم الماضية , قاله ابن عباس. الثالث: أنها العقوبات المستأصلة التي لا تبقى معها باقية كعقوبات عاد وثمود حكاه ابن الأنباري والمثلات: جمع مثُلة. {وإن ربك لذو مغفرةٍ للناس على ظُلمِهم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يغفر لهم ظلمهم السالف بتوبتهم في الآنف , قاله القاسم بن يحيى. الثاني: يغفر لهم بعفوه عن تعجيل العذاب مع ظلمهم بتعجيل المعصية. الثالث: يغفر لهم بالإنظار توقعاً للتوبة. {وإنّ ربّك لشديد العقاب} فروى سعيد ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش , ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد. ((3/95)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
{ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} قوله عز وجل: { ... إنما أنت منذر} يعني النبي صلى الله عليه وسلم نذير لأمته {ولكل قومٍ هادٍ} فيه ستة تأويلات: أحدها: أنه الله تعالى , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. الثاني: ولكل قومٍ هادٍ أي نبي يهديهم , قاله مجاهد وقتادة. الثالث: ولكل قوم هاد معناه ولكل قوم قادة وهداة , قاله أبو صالح. الرابع: ولكل قوم هاد , أي دعاة , قاله الحسن. الخامس: معناه ولكل قوم عمل , قاله أبو العالية. السادس: معناه ولكل قوم سابق بعلم يسبقهم إلى الهدى , حكاه ابن عيسى.(3/96)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
{الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} قوله عز وجل: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى} قال ابن أبي نجيح يعلم أذكر هو أم أنثى. ويحتمل وجهاً آخر: يعلم أصالح هو أَم طالح. {وما تغيض الأرحام وما تزداد} فيه خمسة تأويلات: أحدها: {وما تغيض الأرحام} بالسقط الناقص {وما تزداد} بالولد التام , قاله ابن عباس والحسن. الثاني: {وما تغيض الأرحام} بالوضع لأقل من تسعة أشهر , {وما تزداد} بالوضع لأكثر من تسعة أشهر , قاله سعيد بن جبير والضحاك. وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين وولدتني وق خرجت سني. الثالث: {وما تغيض الأرحام} بانقطاع الحيض في الحمل {ما تزداد} بدم النفاس بعد الوضع. قال مكحول: جعل الله تعالى دم الحيض غذاء للحمل. الرابع: {وما تغيض الأرحام} بظهور الحيض من أيام على الحمل , وفي ذلك(3/96)
نقص في الولد {وما تزداد} في مقابلة أيام الحيض من أيام الحمل , لأنها كلما حاضت على حملها يوماً ازدادت في طهرها يوماً حتى يستكمل حملها تسعة أشهر طهراً , قال عكرمة وقتادة. الخامس: {وما تغيض الأرحام} من ولدته قبل {وما تزداد} من تلده من بعد , حكاه السدي وقتادة. {وكُلُّ شيءٍ عنده بمقدار} فيه وجهان: أحدهما: في الرزق والأجل , قاله قتادة. الثاني: فيما تغيض الأرحام وما تزداد , قاله الضحاك. ويحتمل ثالثاً: أن كل شيء عنده من ثواب وعقاب بمقدار الطاعة والمعصية.(3/97)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
{سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} قوله تعالى: {سواءٌ منكم مَن أسَرَّ القول ومَن جَهَرَ به} إسرار القول: ما حدّث به نفسه , والجهر ما حَدّث به غيره. والمراد بذلك أنه تعالى يعلم ما أسره الإنسان من خير وشر. {ومَن هو مستخفٍ بالليل وساربٌ بالنهار} فيه وجهان: أحدهما: يعلم من استخفى بعمله في ظلمة الليل , ومن أظهره في ضوء النهار. الثاني: يرى ما أخفته ظلمة الليل كما يرى ما أظهره ضوء النهار , بخلاف المخلوقين الذين يخفي عليهم الليل أحوال أهلهم. قال الشاعر:
(وليلٍ يقول الناسُ في ظلُماتِه ... سَواءٌ صحيحات العُيون وعورها)
والسارب: هو المنصرف الذاهب , مأخوذ من السُّروب في المرعى , وهو(3/97)
بالعشي , والسروج بالغداة , قال قيس بن الخطيم:
(أنَّى سَرَبْتِ وكُنْتِ غير سروب ... وتقرب الأحلام غير قريب)
قوله عز وجل: {له معقبات مِن بين يديه ومن خَلْفِه} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم حراس الأمراء يتعاقبون الحرس , قاله ابن عباس وعكرمة. الثاني: أنه ما يتعاقب من أوامر الله وقضائه في عباده , قاله عبد الرحمن بن زيد. الثالث: أنهم الملائكة , إذا صعدت ملائكة النهار أعقبتها ملائكة الليل , وإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار , قاله مجاهد وقتادة. قال الحسن: وهم أربعة أملاك: اثنان بالنهار , واثنان بالليل , يجتمعون عند صلاة الفجر. وفي قوله تعالى: {من بين يديه ومن خلفه} ثلاثة أوجه: أحدها: من أمامه وورائه , وهذا قول من زعم أن المعقبات حراس الأمراء. الثاني: الماضي والمستقبل , وهذا قول من زعم أن المعقبات ما يتعاقب من أمر الله تعالى وقضائه. الثالث: من هُداه وضلالِه , وهذا قول من زعم أن المعقبات الملائكة. {يحفظونَه من أمر الله} تأويله يختلف بحسب اختلاف المعقبات , فإن قيل بالقول الأول أنهم حراس الأمراء ففي قوله {يحفظونه} أي عند نفسه من أمر الله ولا راد لأمره ولا دافع لقضائه , قاله ابن عباس وعكرمة. الثاني: أن في الكلام حرف نفي محذوفاً وتقديره: لا يحفظونه من أمر الله. وإن قيل بالقول الثاني , إن المعقبات ما يتعاقب من أمر الله وقضائه , ففي تأويل قوله تعالى {يحفظونه من أمر الله} وجهان: أحدهما: يحفظونه من الموت ما لم يأت أجله , قاله الضحاك.(3/98)
الثاني: يحفظونه من الجن والهوام المؤذية ما لم يأت قدر , قاله أبو مالك وكعب الأحبار. وإن قيل بالقول الثالث: وهو الأشبه: أن المعقبات الملائكة ففيما أريد بحفظهم له وجهان: أحدهما: يحفظون حسناته وسيئاته بأمر الله. الثاني: يحفظون نفسه. فعلى هذا في تأويل قوله تعالى {يحفظونه من أمر الله} ثلاثة أوجه: أحدها: يحفظونه بأمر الله , قاله مجاهد. الثاني: يحفظونه من أمر الله حتى يأتي أمر الله , وهو محكي عن ابن عباس. الثالث: أنه على التقديم والتأخير وتقديره: له معقبات من أمر الله تعالى يحفظونه من بين يديه ومن خلفه , قاله إبراهيم. وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أنها عامة في جميع الخلق , وهو قول الجمهور. الثاني: أنها خاصة نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أزمع عامر بن الطفيل وأريد بن ربيعة أخو لبيد على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله عز وجل منهما وأنزل هذه الآية فيه , قاله ابن زيد. {إنَّ الله لا يغيرُ ما بقومٍ حتى يغيِّرُوا ما بأنفسِهم} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الله لا يغير ما بقوم من نعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم من معصية. الثاني: لا يغير ما بهم من نعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة. {وإذا أراد الله بقومٍ سوءًا فلا مرد له} فيه وجهان:(3/99)
أحدهما: إذا أراد الله بهم عذاباً فلا مرد لعذابه. الثاني: إذا أراد بهم بلاء من أمراض وأسقام فلا مرد لبلائه. {وما لهم مِن دونه من وال} فيه وجهان: أحدهما: من ملجأ وهو معنى قول السدي. الثاني: يعني من ناصر , ومنه قول الشاعر:
89 (ما في السماء سوى الرحمن من والِ} 9(3/100)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
{هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال} قوله عز وجل: {هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: خوفاً للمسافر من أذيته , وطمعاً للمقيم في بركته , قاله قتادة. الثاني: خوفاً من صواعق البرق , وطمعاً في غيثه المزيل للقحط , قاله الحسن. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد قال: (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك) . الثالث: خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه. {وينشىء السحاب الثقال} قال مجاهد: ثقال بالماء. قوله عز وجل: {ويسبِّح الرعد بحمده} وفي الرعد قولان: أحدهما: أنه الصوت المسموع , وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الرعد وعيد من الله فإذا سمعتموه فأمسكوا عن الذنوب) .(3/100)
الثاني: أن الرعد ملك , والصوت المسموع تسبيحه , قاله عكرمة. {والملائكة مِن خيفته} فيه وجهان: أحدهما: وتسبح الملائكة من خيفة الله تعالى , قاله ابن جرير. الثاني: من خيفة الرعد , ولعله قول مجاهد. {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء} اختلف فيمن نزل ذلك فيه على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في رجل أنكر القرآن وكذب النبي صلى الله عليه وسلم فأخذته صاعقة , قاله قتادة. الثاني: في أربد بن ربيعة وقد كان همّ بقتل النبي صلى الله عليه وسلم مع عامر بن الطفيل فتيبست يده على سيفه , وعصمه الله تعالى منهما , ثم انصرف فأرسل الله تعالى عليه صاعقة أحرقته. قال ابن جرير: وفي ذلك يقول أخوه لبيد:
(أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السِّماك والأسد)
(فجّعني البرق والصواعق بالفا ... رسِ يوم الكريمة النَّجُدِ)
الثالث: أنها نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن ربك من أي شيء , من لؤلؤ أو ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأخذته , قال علي وابن عباس ومجاهد. روى أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تأخذ الصاعقة ذاكراً لله عز وجل) .(3/101)
{وهم يجادلون في الله} فيه وجهان: أحدهما: يعني جدال اليهودي حين سأل عن الله: من أي شيء هو؟ قاله مجاهد. الثاني: جدال أربد فيما همّ به من قتل النبي صلى الله عليه وسلم , قاله ابن جريج. {وهو شديد المِحالِ} فيه تسعة تأويلات: أحدها: يعني شديد العداوة , قاله ابن عباس. الثاني: شديد الحقد , قاله الحسن. الثالث: شديد القوة , قاله مجاهد. الرابع: شديد الغضب , قاله وهب بن منبه. الخامس: شديد الحيلة , قاله قتادة والسدي. السادس: شديد الحول , قاله ابن عباس أيضاً. السابع: شديد الإهلاك بالمحل وهو القحط , قاله الحسن أيضاً. الثامن: شديد الأخذ , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. التاسع: شديد الانتقام والعقوبة , قاله أبو عبيدة وأنشد لأعشى بني ثعلبة.
(فرع نبع يهتز في غصن المج ... د كريم الندى عظيم المحال)(3/102)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
{له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} قوله عز وجل {له دعوة الحق} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن دعوة الحق لا إله إلا الله , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الله تعالى هو الحق , فدعاؤه دعوة الحق. الثالث: أن الإخلاص في الدعاء هي دعوة الحق , قاله بعض المتأخرين. ويحتمل قولاً رابعاً: أن دعوة الحق دعاؤه عند الخوف لأنه لا يدعى فيه إلا إياه , كما قال تعالى {ضلّ من تدعون إلا إياه} [الإسراء: 67] هو أشبه بسياق الآية لأنه قال: {والذين يدعون مِن دونه} يعني الأصنام والأوثان. {لا يستجيبون لهم بشيء} أي لا يجيبون لهم دعاءً ولا يسمعون لهم نداء. {إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه} ضرب الله عز وجل الماء مثلاً لإياسهم من إجابة دعائهم لأن العرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلاً بالقابض الماء باليد , كما قال أبو الهذيل:
(فأصبحتُ مما كان بيني وبينها ... مِن الود مثل القابض الماء باليد)
وفي معنى هذا المثل ثلاثة أوجه: أحدها: أن الذي يدعو إلهاً من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء ليبلغ إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه , ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبداً , لأن الماء لا يستجيب له وما الماء ببالغ إليه , قاله مجاهد. الثاني: أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفر فيه ليبلغ فاه , وما هو ببالغه لكذب ظنه وفساد توهمه , قاله ابن عباس. الثالث: أنه كباسط كفه إلى الماء ليقبض عليه فلا يحصل في كفيه شيء منه. وزعم الفراء أن المراد بالماء ها هنا البئر لأنها معدن للماء , وأن المثل كمن مد(3/103)
يده إلى البئر بغير رشاء , وشاهده قول الشاعر:
(فإن الماء ماءُ أبي وجدي ... وبئري ذو حَفَرْتُ وذو طويت)(3/104)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
{ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال} قوله عز وجل: {ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض طوعاً وكرهاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: طوعاً سجود المؤمن , وكرهاً سجود الكافر , قاله قتادة. الثاني: {طوعاً} من دخل في الإسلام رغبة , {وكرهاً} من دخل فيه رهبة بالسيف , قاله ابن زيد. الثالث: {طوعاً} من طالت مدة إسلامه فألف السجود , {وكرهاً} من بدأ بالإسلام حتى يألف السجود , حكاه ابن الأنباري. الرابع: ما قاله بعض أصحاب الخواطر أنه إذا نزلت به المصائب ذل , وإذا توالت عليه النعم ملّ. {وظلالهم بالغدو والآصال} يعني أن ظل كل إنسان يسجد معه بسجوده , فظل المؤمن يسجد طائعاً كما أن سجود المؤمن طوعاً , وظل الكافر يسجد كارهاً كما أن سجود الكافر كرهاً. والآصال جمع أصُل , والأصل جمع أصيل , والأصيل العشيّ وهو ما بين العصر والمغرب قال أبو ذؤيب:
(لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائِه بالأصائل)(3/104)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
{قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم(3/104)
نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} قوله عز وجل: {قل من رب السموات والأرض} أمر الله تعالى نبيه أن يقول لمشركي قريش {من رب السموات والأرض} ثم أمره أن يقول لهم: {قل الله} إن لم يقولوا ذلك إفهاماً قالوه تقريراً لأنه جعل ذلك إلزاماً. {قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً} ثم أمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا بعد اعترافهم بالله: أفاتخذتم من دون الخالق المنعم آلهة من أصنام وأوثان فعبدتموها من دونه , لا يملكون لأنفسهم نفعاً يوصلونه إليها ولا ضراً يدفعونه عنها , فكيف يملكون لكم نفعاً أو ضراً؟ وهذا إلزام صحيح. ثم قال تعالى {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور} وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر كالأعمى والبصير , والهدى والضلالة كالظلمات والنور , فالمؤمن في هُداه كالبصير يمشي في النور , والكافر في ضلاله كالأعمى يمشي في الظلمات , وهما لا يستويان , فكذلك المؤمن والكافر لا يتسويان , وهذا من أصح مثل ضربه الله تعالى وأوضح تشبيه. ثم قال تعالى: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم} ومعناه أنه لما لم يخلق آلهتهم التي عبدوها خلقاً كخلق الله فيتشابه عليهم خلقُ آلهتهم بخلق الله فلما اشتبه عليهم حتى عبدوها كعبادة الله تعالى؟ {قل الله خالق كل شيء} فلزم لذلك أن يعبدوه كل شيء. {وهو الواحد القهار} . وفي قوله {فتشابه الخلق عليهم} تأويلان: أحدهما: فتماثل الخلق عليهم. الثاني: فأشكل الخلق عليهم , ذكرهما ابن شجرة.(3/105)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
{أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما(3/105)
يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} قوله عز وجل: {أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها} فيه وجهان: أحدهما: يعني بما قدر لها من قليل أو كثير. الثاني: يعني الصغير من الأودية سال بقدر صغره , والكبير منها سال بقدر كبره. وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن وما يدخل منه في القلوب , فشبه القرآن بالمطر لعموم خيره وبقاء نفعه , وشبه القلوب بالأودية يدخل فيها من القرآن مثل ما يدخل في الأودية من الماء بحسب سعتها وضيقها. قال ابن عباس: {أنزل من السماء ماءً} أي قرآناً {فسالت أودية بقدرها} قال: الأودية قلوب العباد. {فاحتمل السيل زبداً رابياً} الرابي: المرتفع. وهو مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل , فالحق ممثل بالماء الذي يبقى في الأرض فينتفع به , والباطل ممثل بالزبد الذي يذهب جُفاءً لا ينتفع به. ثم ضرب مثلاً ثانياً بالنار فقال {ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية} يعني الذهب والفضة. {أو متاع} يعني الصُفر والنحاس. {زبد مِثله ... } يعني أنه إذا سُبِك بالنار كان له خبث كالزبد الذي على الماء يذهب فلا ينتفع به كالباطل , ويبقى صفوة فينتفع به كالحق. وقوله تعالى: { ... فيذهب جفاءً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني منشقاً قاله ابن جرير.(3/106)
الثاني: جافياً على وجه الأرض , قاله ابن عيسى. الثالث: مرمياً , قاله ابن إسحاق. وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤية يقرأ: جفالاً. قال أبو عبيدة: يقال أجفلت القدر إذا قَذَفَت بزبدها.(3/107)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
{للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب} قوله عز وجل: {للذين استجابوا لربهم الحسنى} فيها تأويلان: أحدهما: الجنة , رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنها الحياة والرزق , قاله مجاهد. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن تكون مضاعفة الحسنات. {والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعاًَ ومثلَهُ معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب} . في {سوء الحساب} أربعة تأويلات: أحدها: أن يؤاخذوا بجميع ذنوبهم فلا يعفى لهم عن شيء منها , قاله إبراهيم النخعي. وقالت عائشة رضي الله عنها: من نوقش الحساب هلك. الثاني: أنه المناقشة في الأعمال , قاله أبو الجوزاء.(3/107)
الثالث: أنه التقريع والتوبيخ , حكاه ابن عيسى. الرابع: هو أن لا تقبل حسناتهم فلا تغفر سيئاتهم. ويحتمل خامساً: أن يكون سوء الحساب ما أفضى إليه حسابهم من السوء وهو العقاب.(3/108)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
{الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا من ما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} قوله عز وجل: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الرحم التي أمرهم الله تعالى بوصلها. {ويخشون ربهم} في قطعها {ويخافون سُوءَ الحساب} في المعاقبة عليها , قاله قتادة. الثاني: صلة محمد صلى الله عليه وسلم , قاله الحسن. الثالث: الإيمان بالنبيين والكتب كلها , قاله سعيد بن جبير. ويحتمل رابعاً: أن يصلوا الإيمان بالعمل.(3/108)
{ويخشون ربهم} فيما أمرهم بوصله. {ويخافون سوءَ الحساب} في تركه. قوله عز وجل: {ويدرءُون بالحسنة السيئة} فيه سبعة تأويلات: أحدها: يدفعون المنكر بالمعروف , قاله سعيد بن جبير. الثاني: يدفعون الشر بالخير , قاله ابن زيد. الثالث: يدفعون الفحش بالسلام , قاله الضحاك. الرابع: يدفعون الظلم بالعفو , قاله جويبر. الخامس: يدفعون سفه الجاهل بالحلم , حكاه ابن عيسى. السادس: يدفعون الذنب بالتوبة , حكاه ابن شجرة. السابع: يدفعون المعصية بالطاعة. قوله عز وجل: {سلام عليكم بما صبرتم} فيه ستة تأويلات: أحدها: معناه بما صبرتم على أمر الله تعالى , قاله سعيد بن جبير. الثاني: بما صبرتم على الفقر في الدنيا , قاله أبو عمران الجوني. الثالث: بما صبرتم على الجهاد في سبيل الله , وهو مأثور عن عبد الله بن عمر. الرابع: بما صبرتم عن فضول الدنيا , قاله الحسن , وهو معنى قول الفضيل بن عياض. السادس: بما صبرتم عما تحبونه حين فقدتموه , قاله ابن زيد. ويحتمل سابعاً: بما صبرتم على عدم اتباع الشهوات. {فنعم عقبى الدار} فيه وجهان: أحدهما: فنعم عقبى الجنة عن الدنيا , قاله أبو عمران الجوني. الثاني: فنعم عقبى الجنة من النار , وهو مأثور.(3/109)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
{والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل(3/109)
ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} قوله تعالى: {ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} وفيه وجهان: أحدهما: أي قليل ذاهب , قاله مجاهد. الثاني: زاد الراعي , قاله ابن مسعود. ويحتمل ثالثاً: وما جعلت الحياة الدنيا إلا متاعاً يتزود منها إلى الآخرة من التقوى والعمل الصالح.(3/110)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
{الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب} قوله عز وجل: {والذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} فيه أربعة أوجه: أحدها: بذكر الله بأفواههم، قاله قتادة. الثاني: بنعمة الله عليهم. الثالث: بوعد الله لهم، ذكره ابن عيسى. الرابع: بالقرآن، قاله مجاهد. {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: بطاعة الله. الثاني: بثواب الله. الثالث: بوعد الله تعالى لهم. قوله عز وجل: {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب} فيه تسعة تأويلات: أحدها: أن طوبى اسم من أسماء الجنة، قاله مجاهد.(3/110)
الثالث: معنى طوبى لهم حسنى لهم , قاله قتادة. الرابع: معناه نِعَم مالهم , قاله عكرمة. الخامس: معناه خير لهم , قاله إبراهيم. السادس: معناه غبطة لهم , قاله الضحاك. السابع: معناه فرح لهم وقرة عين , قاله ابن عباس. الثامن: العيش الطيب لهم , قاله الزجاج. التاسع: أن طوبى فُعلى من الطيب كما قيل أفضل وفضلى , ذكره ابن عيسى. وهذه معان أكثرها متقاربة. وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها كلمة حبشية , قاله ابن عباس. الثاني: كلمة هندية , قاله عبد الله بن مسعود. الثالث: عربية , قاله الجمهور.(3/111)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
{كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} قوله تعالى: { ... وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي} قال قتادة وابن جريج نزلت في قريش يوم الحديبية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتب القضية بينه وبينهم , فقال للكاتب: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) فقالوا ما ندري ما الرحمن وما نكتب إلا: باسمك اللهم. وحكي عن ابن إسحاق أنهم قالوا: قد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا الذي تأتي به رجل من أهل اليمامة يقال له الرحمن , وإنا والله لن نؤمن به أبداً , فأنزل الله تعالى {وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو} يعني أنه إله واحد وإن اختلفت أسماؤه. {عليه توكلت وإليه متاب} قال مجاهد يعني بالمتاب التوبة. ويحتمل ثانياً: وإليه المرجع.(3/111)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
{ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد} قوله عز وجل: {ولو أن قرآناً سُيِّرت به الجبال أو قطعت به الأرض} الآية. وسبب ذلك ما حكاه مجاهد وقتادة أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن يسرَّك أن نتبعك فسيِّرْ جبالنا حتى تتسع لنا أرضنا فإنها ضيقة , وقرب لنا الشام فإننا نتَّجر إليها , وأخرج لنا الموتى من القبور نكلمها , فأنزل الله تعالى. {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} أي أُخرت. {أو قطعت به الأرض} أي قربت. {أو كُلِّم به الموْتَى} أي أُحيوا. وجواب هذا محذوف وتقديره لكان هذا القرآن , لكنه حذف إيجازاً لما في ظاهر الكلام من الدلالة على المضمر المحذوف. ثم قال تعالى: {بل للهِ الأمر جميعاً} أي هو المالك لجميع الأمور الفاعل لما يشاء منها. {أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} وذلك أن المشركين لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه استراب المؤمنون إليه فقال الله تعالى {أفلم ييأس الذين آمنوا} . وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه أفلم يتبين الذين آمنوا , قاله عطية , وهي في القراءة الأولى: أفلم يتبين الذين آمنوا. وقيل لغة جرهم {أفلم ييأس} أي يتبين.(3/112)
الثاني: أفلم يعلم , قاله ابن عباس والحسن ومجاهد , ومنه قول رباح ابن عدي:
(ألم ييأس الأقوام أنِّي أنا ابْنُهُ ... وإن كنتُ عن أرض العشيرة نائيا)
الثالث: أفلم ييأس الذين آمنوا بانقطاع طمعهم. وفيما يئسوا منه على هذا التأويل وجهان: أحدهما: ييأسوا مما سأله المشركون , قاله الفراء. الثاني: يئسوا أن يؤمن هؤلاء المشركون , قاله الكسائي. {أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} فيه وجهان: أحدهما: لهداهم إلى الإيمان. الثاني: لهداهم إلى الجنة. {ولا يزال الذين كفروا تصيبهُم بما صنعوا قارعة} فيها تأويلان: أحدهما: ما يقرعهم من العذاب والبلاء , قاله الحسن وابن جرير. الثاني: أنها الطلائع والسرايا التي كان ينفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله عكرمة. {أو تحل قريباً من دارهم} فيه وجهان: أحدهما: أو تحل القارعة قريباً من دارهم , قاله الحسن. الثاني: أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم , قاله ابن عباس وقتادة {حتى يأتي وَعْدُ الله} فيه تأويلان: أحدهما: فتح مكة , قاله ابن عباس. الثاني: القيامة , قاله الحسن.(3/113)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
{ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين(3/113)
كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد} قوله عز وجل: {أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الملائكة الذين وكلوا ببني آدم , قاله الضحاك. الثاني: هو الله القائم على كل نفس بما كسبت , قاله قتادة. الثالث: أنها نفسه. وفي قوله تعالى: {قائم} وجهان: أحدهما: يعني والياً , كما قال تعالى {قائماً بالقسط} أي والياً بالعدل. الثاني: يعني عالماً بما كسبت , قال الشاعر:
(فلولا رجالٌ من قريش أعزةٌ ... سرقتم ثياب البيت والله قائم)
ويحتمل {بما كسبت} وجهين: أحدهما: ما كسبت من رزق تفضلاً عليها فيكون خارجاً مخرج الامتنان. الثاني: ما كسبت من عمل حفظاً عليها , فيكون خارجاً مخرج الوعد والوعيد {وجعلوا لله شركاء} يعني أصناماً جعلوها آلهة. {قل سموهم} يحتمل وجهين: أحدهما: قل سموهم آلهة على وجه التهديد. الثاني: يعني قل صفوهم ليعلموا أنهم لا يجوز أن يكونوا آلهة. {أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} أي تخبرونه بما لا يعلم أن في الأرض إلهاً غيره. {أم بظاهر مِن القول} فيها أربعة تأويلات: أحدها: معناه بباطل من القول , قاله قتادة , ومنه قول الشاعر:
(أعَيّرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عارٌ يا ابن ريطة ظاهر)(3/114)
أي بالحل. الثاني: بظن من القول , وهو قول مجاهد. الثالث: بكذب من القول , قاله الضحاك. الرابع: أن الظاهر من القول هو القرآن , قاله السدي. ويحتمل تأويلاً خامساً: أن يكون الظاهر من القول حجة يظهرونها بقولهم , ويكون معنى الكلام: أتخبرونه بذلك مشاهدين أم تقولون محتجّين.(3/115)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
{لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار} قوله عز وجل: {مثل الجنة التي وُعِدَ المتقون} فيه قولان: أحدهما: يشبه الجنة , قاله علي بن عيسى. الثاني: نعت الجنة لأنه ليس للجنة مثل , قاله عكرمة. {تجري من تحتها الأنهار أكُلُها دائم} فيه وجهان: أحدهما: ثمرها غير منقطع , قاله القاسم بن يحيى. الثاني: لذتها في الأفواه باقية , قاله إبراهيم التيمي. ويحتمل ثالثاً: لا تمل من شبع ولا مرباد لمجاعة. {وظلها} يحتمل وجهين: أحدهما: دائم البقاء.(3/115)
الثاني: دائم اللذة.(3/116)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
{والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق} قوله عز وجل: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا بما أنزل عليه من القرآن , قاله قتادة وابن زيد. الثاني: أنهم مؤمنو أهل الكتاب , قاله مجاهد. الثالث: أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى فرحوا بما أنزل عليه من تصديق كتبهم , حكاه ابن عيسى. {ومِن الأحزاب من ينكر بعضه} فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود والنصارى والمجوس , قاله ابن زيد. الثاني: أنهم كفار قريش. وفي إنكارهم بعضه وجهان: أحدهما: أنهم عرفوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم وأنكروا نبوته. الثاني: أنهم عرفوا صِدْقه وأنكروا تصديقه.(3/116)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
{ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي(3/116)
بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا رُسُلاً من قبلك وجعلنا لهم أزوجاً وذرية} يعني بالأزواج النساء , وبالذرية الأولاد. وفيه وجهان: أحدهما: معناه أن من أرسلناه قبلك من المرسلين بشر لهم أزواج وذرية كسائر البشر , فلمَ أنكروا رسالتك وأنت مثل من قبلك. الثاني: أنه نهاه بذلك عن التبتل , قاله قتادة. وقيل إن اليهود عابت على النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج , فأنزل الله تعالى إلى ذلك فيهم يعلمهم أن ذلك سُنَّة الرسل قبله. {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} قيل إن مشركي قريش سألوه آيات قد تقدم ذكرها في هذه السورة فأنزل الله تعالى ذلك فيهم. {ولكل أجل كتابٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه لكل كتاب نزل من السماء أجل. وهو من المقدِّم والمؤخر , قاله الضحاك. الثاني: معناه لكل أمر قضاه الله تعالى كتاب كتبه فيه , قاله ابن جرير. الثالث: لكل أجل من آجال الخلق كتاب عند الله تعالى , قاله الحسن. ويحتمل رابعاً: لكل عمل خَبر. قوله عز وجل: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} فيه سبعة تأويلات: أحدها: يمحو الله ما يشاء من أمور عباده فيغيره إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يغيران , قاله ابن عباس. الثاني: يمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء في كتاب سوى أُم الكتاب , وهما كتابان أحدهما: أم الكتاب لا يغيره ولا يمحو منه شيئاً كما أراد , قاله عكرمة.(3/117)
الثالث: أن الله عز وجل ينسخ ما يشاء من أحكام كتابه , ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه , قاله قتادة وابن زيد. الرابع: أنه يمحو مَنْ قد جاء أجلُه ويثبت من لم يأت أجلُه , قاله الحسن. الخامس: يغفر ما يشاء من ذنوب عباده , ويترك ما يشاء فلا يغفره , قاله سعيد بن جبير. السادس: أنه الرجل يقدم الطاعة ثم يختمها بالمعصية فتمحو ما قد سلف , والرجل يقدم المعصية ثم يختمها بالطاعة فتمحو ما قد سلف , وهذا القول مأثور عن ابن عباس أيضاً. السابع: أن الحفظة من الملائكة يرفعون جميع أقواله وأفعاله , فيمحو الله عز وجل منها ما ليس فيه ثواب ولا عقاب , ويثبت ما فيه الثواب والعقاب , قاله الضحاك. {وعنده أم الكتاب} فيه ستة تأويلات: أحدها: الحلال والحرام , قاله الحسن. الثاني: جملة الكتاب , قاله الضحاك. الثالث: هو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق , قاله كعب الأحبار. الرابع: هو الذكر , قاله ابن عباس. الخامس: أنه الكتاب الذي لا يبدل , قاله السدي. السادس: أنه أصل الكتاب في اللوح المحفوظ , قاله عكرمة.(3/118)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
{وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب}(3/118)
قوله عز وجل: {أوَلم يروا أنا نأتي الأرض ننقُصُها من أطرافها} فيه أربعة تأويلات: أحدها: بالفتوح على المسلمين من بلاد المشركين , قاله قتادة. الثاني: بخراجها بعد العمارة , قاله مجاهد. الثالث: بنقصان بركتها وتمحيق ثمرتها , قاله الكلبي والشعبي. الرابع: بموت فقهائها وخيارها , قاله ابن عباس. ويحتمل خامساً: أنه بجور ولاتها.(3/119)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} قوله عز وجل: {ويقول الذين كفروا لست مُرْسلاً} قال قتادة: هم مشركو العرب. {قلْ كفى بالله شهيداً بيني وبينكم} أي يشهد بصدقي وكذبكم. {ومن عنده علم الكتاب} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم عبد الله بن سلام وسلمان وتميم الداري , قاله قتادة. الثاني: أنه جبريل , قاله سعيد بن جبير. الثالث: هو الله تعالى , قاله الحسن ومجاهد والضحاك. وكانوا يقرأون {ومِن عنده علم الكتاب} أي من عِنْد الله علم الكتاب , وينكرون على من قال هو عبد الله بن سلام وسلمان لأنهم يرون السورة مكية , وهؤلاء أسلموا بالمدينة , والله تعالى أعلم بالصواب.(3/119)
سورة إبراهيم
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها مدينة وهي {ألم تر بدّلوا نعمة الله كفراً} والتي بعدها. بسم الله الرحمن الرحيم(3/120)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
{الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد} {الر كتاب أنزلناه إليك} يعني القرآن. {لتُخرِجَ الناسَ مِن الظلماتِ إلى النُّور} فيه أربعة أوجه: أحدها: من الشك إلى اليقين. الثاني: من البدعة إلى السنّة. الثالث: من الضلالة إلى الهدى الرابع: من الكفر إلى الإيمان {بإذن ربهم} فيه وجهان: أحدهما: بأمر ربهم , قاله الضحاك.(3/120)
الثاني: بعلم ربهم. {إلى صراط العزيز الحميد} فروى مِقْسم عن ابن عباس قال: كان قوم آمنوا بعيسى , وقوم كفروا به , فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى , وكفر به الذين آمنوا بعيسى , فنزلت هذه الآية. قوله عز وجل: {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} فيه وجهان: أحدهما: يختارونها على الآخرة , قاله أبو مالك. الثاني: يستبدلونها من الآخرة , ذكره ابن عيسى , والاستحباب هو التعرض للمحبة. ويحتمل ما يستحبونه من الحياة الدنيا على الآخرة وجهين: أحدهما: يستحبون البقاء في الحياة الدنيا على البقاء في الآخرة. الثاني: يستحبون النعيم فيها على النعيم في الآخرة. {ويصدون عن سبيل الله} قال ابن عباس: عن دين الله. ويحتمل: عن محمد صلى الله عليه وسلم. {ويبغونها غِوَجاً} فيه وجهان: أحدهما: يرجون بمكة غير الإسلام ديناً , قاله ابن عباس. الثاني: يقصدون بمحمد صلى الله عليه وسلم هلاكاً , قاله السدي. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن معناه يلتمسون الدنيا من غير وجهها لأن نعمة الله لا تستمد إلا بطاعته دون معصيته. والعِوَج بكسر العين: في الدين والأمر والأرض وكل ما لم يكن قائماً. والعوج بفتح العين: في كل ما كان قائماً كالحائط والرمح.(3/121)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}(3/121)
قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} أي بحُججنا وبراهيننا وقال مجاهد هي التسع الآيات: {أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور} يحتمل وجهين: أحدهما: من الضلالة إلى الهدى. الثاني: من ذل الاستعباد إلى عز المملكة. {وذكِّرهم بأيام الله} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه وعظهم بما سلف من الأيام الماضية لهم , قاله ابن جرير. الثاني: بالأيام التي انتقم الله فيها من القرون الأولى , قاله الربيع وابن زيد. الثالث: أن معنى أيام الله أن نعم الله عليهم , قاله مجاهد وقتادة , وقد رواه أبيّ بن كعب مرفوعاً. وقد تسمَّى النعم بالأيام , ومنه قول عمرو بن كلثوم:
(وأيام لنا غُرٍّ طِوالٍ ... عصينا الملْك فيها أن نَدِينا)
ويحتمل تأويلاً رابعاً: أن يريد الأيام التي كانوا فيها عبيداًَ مستذلين لأنه أنذرهم قبل استعمال النعم عليهم. {إنَّ في ذلك لآيات لكُلِّ صبَّارٍ شكورٍ} الصبار: الكثير الصبر , والشكور: الكثير الشكر , قال قتادة: هو العبد إذا أعطي شكر , وإذا ابتلي صبر. وقال الشعبي: الصبر نصف الإيمان , والشكر نصف , وقرأ {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} . وتوارى الحسن عن الحجاج تسع سنين , فلما بلغه موته قال: اللهم قد أمته فأمت سنته وسجد شكراً وقرأ {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} . وإنما خص بالآيات كل صبار شكور , وإن كان فيه آيات لجميع الناس لأنه يعتبر بها ويغفل عنها.(3/122)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
{وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد} قوله عز وجل: { ... وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: نعمة من ربكم , قاله ابن عباس والحسن. الثاني: شدة البلية , ذكره ابن عيسى. الثالث: اختبار وامتحان , قاله ابن كامل. قوله عز وجل: {وإذ تأذن ربُّكم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه وإذ سمع ربكم , قاله الضحاك. الثاني: وإذا قال ربكم , قاله أبو مالك. الثالث: معناه وإذ أعلمكم ربكم , ومنه الأذان لأنه إعلام , قال الشاعر:
(فلم نشعر بضوء الصبح حتى ... سَمِعْنا في مجالِسنا الأذينا)
{لئن شكرتم لأزيدنكم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي , قاله الربيع. الثاني: لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي , قاله الحسن وأبو صالح. الثالث: لئن وحّدتم وأطعتم لأزيدنكم , قاله ابن عباس. ويحتمل تأويلاً رابعاً: لئن آمنتم لأزيدنكم من نعيم الآخرة إلى نعيم الدنيا. وسُئِل بعض الصلحاء على شكر الله تعالى , فقال: أن لا تتقوى بنِعَمِهِ على معاصيه. وحكي أنَّ داود عليه السلام قال: أي ربِّ كيف أشكرك وشكري لك نعمة مجددة منك عليّ؟ قال: (يا داود الآن شكرتني) . {ولئن كفرتم إن عذابي لشديدٌ} وعد الله تعالى بالزيادة على الشكر , وبالعذاب على الكفر.(3/123)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
{ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} قوله عز وجل: { ... والذين من بعدهم لا يَعْلمُهم إلا الله} فيها وجهان: أحدهما: يعني بعد من قص ذكره من الأمم السالفة قرون وأمم لم يقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلمهم إلا الله عالم ما في السموات والأرض. الثاني: ما بين عدنان وإسماعيل من الآباء. قال ابن عباس: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون. وكان ابن مسعود يقرأ: لا يعلمهم إلا الله كذب النسّابون. {جاءَتهم رسلهم بالبينات} أي بالحجج. {فردُّوا أيديهم في أفواههم} فيه سبعة أوجه: أحدها: أنهم عضوا على أصابعهم تغيظاً عليهم , قاله ابن مسعود واستشهد أبو عبيدة بقول الشاعر:
(لو أن سلمى أبصرت تخدُّدي ... ودقةً في عظم ساقي ويدي)
(وبعد أهلي وجفاءَ عُوَّدي ... عضت من الوجد بأطراف اليد)
الثاني: أنهم لما سمعوا كتاب الله عجبوا منه ووضعوا أيديهم على أفواههم , قاله ابن عباس. الثالث: معناه أنهم كانوا إذا قال لهم نبيهم إني رسول الله إليكم , أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم بأن اسكت تكذيباً له ورداً لقوله , قاله أبو صالح.(3/124)
الرابع: معناه أنهم كذبوهم بأفواههم , قاله مجاهد. الخامس: أنهم كانوا يضعون أيديهم على أفواه الرسل رداً لقولهم , قاله الحسن. السادس: أن الأيدي هي النعم , ومعناه أنهم ردوا نعمهم بأفواههم جحوداً لها. السابع: أن هذا مثل أريد به أنهم كفوا عن قبول الحق ولم يؤمنوا بالرسل , كما يقال لمن أمسك عن الجواب رَدّ في فيه.(3/125)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
{قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون} قوله عزوجل: {قالت رسلهم أفي الله شك} فيه وجهان: أحدهما: أفي توحيد الله شك؟ قاله قتادة. الثاني: أفي طاعة الله شك؟ ويحتمل وجهاً ثالثاً: أفي قدرة الله شك؟ لأنهم متفقون عليها ومختلفون فيما عداها. {فاطر السموات والأرض} أي خالقهما , لسهوهم عن قدرته. {يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم} أي يدعوكم إلى التوبة ليغفر ما تقدمها من معصية. وفي قوله تعالى: {من ذنوبكم} وجهان: أحدهما: أن {من} زائدة , وتقديره , ليغفر لكم ذنوبكم، قاله أبو عبيدة.(3/125)
الثاني: ليست زائدة , ومعناه أن تكون المغفرة بدلاً من ذنوبكم , فخرجت مخرج البدل. {ويؤخركم إلى أجل مسمى} يعني إلى الموت فلا يعذبكم في الدنيا. قوله عز وجل: {قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشرٌ مثلكم} يحتمل وجهين: أحدهما: أن ينكر قومهم أن يكونوا مثلهم وهم رسل الله إليهم. الثاني: أن يكون قومهم سألوهم معجزات اقترحوها. وفي قوله تعالى: {ولكن الله يمنّ على مَنْ يشاء من عباده} ثلاثة أوجه: أحدها: بالنبوة. الثاني: بالتوفيق والهداية. الثالث: بتلاوة القرآن وفهم ما فيه , قاله سهل بن عبد الله. {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بكتاب. الثاني: بحجة. الثالث: بمعجزة.(3/126)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
{وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ} قوله عز وجل: {ذلك لمن خاف مقامي} أي المقام بين يدّي , وأضاف ذلك إليه لاختصاصه به: والفرق بين المقام بالفتح وبين المقام بالضم أنه إذا ضم فهو فعل الإقامة، وإذا فتح فهو مكان الإقامة.(3/126)
{وخاف وعيد} فيه وجهان: أحدهما: أنه العذاب. والثاني: أنه ما في القرآن من زواجر. {واستفتحوا} فيه وجهان: أحدهما: أن الرسل استفتحوا بطلب النصر , قاله ابن عباس. الثاني: أن الكفار استفتحوا بالبلاء , قاله ابن زيد. وفي الاستفتاح وجهان: أحدهما: أنه الإبتداء. الثاني: أنه الدعاء , قاله الكلبي. {وخاب كلُّ جبار عنيد} في {خاب} وجهان: أحدهما: خسر عمله. الثاني: بطل أمله. وفي {جبار} وجهان: أحدهما: أنه المنتقم. الثاني: المتكبر بطراً. وفي {عنيد} وجهان. أحدهما: أنه المعاند للحق. الثاني: أنه المتباعد عن الحق , قال الشاعر:
(ولست إذا تشاجر أمْرُ قوم ... بأَوَّلِ مَنْ يخالِفهُم عَنيدا)
قوله عز وجل: {مِن ورائه جهنم} فيه أربعة أوجه: أحدها: معناه من خلفه جهنم. قال أبو عبيدة: وراء من الأضداد وتقع على خلف وقدام. جميعاً. الثاني: معناه أمامه جهنم , ومنه قول الشاعر:
(ومن ورائك يومٌ أنت بالغه ... لا حاضرٌ معجز عنه ولا بادي)(3/127)
الثالث: أن جهنم تتوارى ولا تظهر , فصارت من وراء لأنها لا ترى حكاه ابن الأنباري. الرابع: من ورائه جهنم معناه من بعد هلاكه جهنم , كما قال النابغة:
(حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً ... وليس وراءَ الله للمرْءِ مذهب)
أراد: وليس بعد الله مذهب. {ويسقى من ماءٍ صديد} فيه وجهان: أحدهما: من ماء مثل الصديد كما يقال للرجل الشجاع أسد , أي مثل الأسد. الثاني: من ماء كرهته تصد عنه , فيكون الصديد مأخوذاً من الصد. قوله عز وجل: { ... ويأتيه الموت مِنْ كل مكان} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره , قاله إبراهيم التيمي , للآلام التي في كل موضع من جسده. الثاني: تأتيه أسباب الموت من كل جهة , عن يمينه وشماله , ومن فوقه وتحته , ومن قدامه وخلفه , قاله ابن عباس. الثالث: تأتيه شدائد الموت من كل مكان , حكاه ابن عيسى. {وما هو بميتٍ} لتطاول شدائد الموت به وامتداد سكراته عليه ليكون ذلك زيادة في عذابه. {ومن ورائه عذاب غليظ} فيه الوجوه الأربعة الماضية. والعذاب الغليظ هو الخلود في جهنم.(3/128)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد} قوله عز وجل: {مثل الذين كفروا بربّهم أعمالُهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف} وهذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكافر في أنه لا يحصل على شيء منها , بالرماد الذي هو بقية النار الذاهبة لا ينفعه , فإذا اشتدت به الريح العاصف: وهي(3/128)
الشديدة: فأطارته لم يقدر على جمعه , كذلك الكافر في عمله. وفي قوله {في يوم عاصف} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه وصف اليوم بالعصوف وهو من صفة الريح , لأن الريح تكون فيه , كما يقال يوم بارد , ويوم حار , لأن البرد والحر يكونان فيه. الثاني: أن المراد به في يوم عاصف الريح , فحذف الريح لأنها قد ذكرت قبل ذلك. الثالث: أن العصوف من صفة الريح المقدم ذكرها , غير أنه لما جاء بعد اليوم ابتع إعرابه. {لا يقدرون مما كسَبَوا على شيءٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يقدرون في الآخرة على شيء من ثواب ما عملوا من البر في الدنيا لإحباطه بالكفر. الثاني: لا يقدرون على شيء مما كسبوه من عروض الدنيا , بالمعاصي التي اقترفوها , أن ينتفعوا به في الآخرة. {ذلك هو الضلال البعيد} وإنما جعله بعيداً لفوات استدراكه بالموت.(3/129)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
{ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} قوله عز وجل: {وبرزوا لله جميعاً} أي ظهروا بين يديه تعالى في القيامة. {فقال الضعفاء} وهم الأتباع. {للذين استكبروا} وهم القادة المتبوعون. {إنا كُنّا لكم تبعاً} يعني في الكفر بالإجابة لكم. {فهل أنتم مغنون عَنّا مِن عذاب الله من شيء} أي دافعون عنا يقال أغنى عنه(3/129)
إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع. {قالوا لو هَدانا الله لهديناكم} فيه ثلاثة أوجه أحدها: لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه. الثاني: لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها. الثالث: لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه. {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيصٍ} أي من منجى أو ملجأ , قيل إن أهل النار يقولون: يا أهل النار إن قوماً جزعوا في الدنيا وبكوا ففازوا , فيجزعون ويبكون. ثم يقولون: يا أهل النار إن قوماً صبروا في الدنيا ففازوا , فيصبرون. فعند ذلك يقولون {سواءٌ علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} .(3/130)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
{وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام} قوله عزوجل: {وقال الشيطان لمّا قضي الأمر} يعني إبليس. قال الحسن: يقف إبليس يوم القيامة خطيباً في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعاً. {إن الله وعدكم وعد الحق} يعني البعث والجنة والنار وثواب المطيع وعذاب العاصي. {ووعدتكم} أن , لا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب. {فأخلفتكم وما كان لي عليكم مِن سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيَّ} فيه وجهان:(3/130)
أحدهما: معناه ما أنا بمنجيكم وما أنتم بمنجيَّ , قاله الربيع بن أنس. الثاني: ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمغيثي , قاله مجاهد. والمصرخ: المغيث. والصارخ: المستغيث. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
(فلا تجزعوا إنّي لكم غير مُصْرخ ... فليس لكم عندي غناءٌ ولا صبر)
{إني كفرتُ بما أشركتمون مِن قبل} فيه وجهان: أحدهما: إني كفرت اليوم بما كنتم في الدنيا تدعونه لي من الشرك بالله تعالى , قاله ابن بحر. الثاني: إني كفرت قبلكم بما أشركتموني من بعد , لأن كفر إبليس قبل كفرهم. قوله عز وجل: { ... تحيّتُهم فيها سلامٌ} فيها وجهان: أحدهما: أن تحية أهل الجنة إذا تلاقوا فيها السلامه , وهو قول الجمهور. الثاني: أن التحية ها هنا الملك , ومعناه أن ملكهم فيها دائم السلام , مأخوذ من قولهم في التشهد: التحيات لله , أي الملك لله , ذكره ابن شجرة. وفي المحيّي لهم بالسلام ثلاثة أوجه: أحدها: أن الله تعالى يحييهم بالسلام. الثاني: أن الملائكة يحيونهم بالسلام. الثالث: أن بعضهم يحيي بعضاً بالسلام. وتشبيه الكلمة الطيبة بها لأنها ثابتة في القلب كثبوت أصل النخلة في الأرض , فإذا ظهرت عرجت إلى السماء كما يعلو فرع النخلة نحو السماء فكلما ذكرت نفعت , كما أن النخلة إذا أثمرت نفعت.(3/131)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
{ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار}(3/131)
قوله عز وجل: {ألم تَرَ كَيْفَ ضرب اللهُ مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ} في الكلمة الطيبة قولان: أحدهما: أنها الإيمان , قاله مجاهد وابن جريج. الثاني: أنه عنى بها المؤمن نفسه , قاله عطية العوفي والربيع بن أنس. وفي الشجرة الطيبة قولان: أحدهما: أنها النخلة , وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر وأنس بن مالك. الثاني: أنها شجرة في الجنة , قاله ابن عباس. وحكى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن الكلمة الطيبة: الإيمان , والشجرة الطيبة: المؤمن. {أصلها ثابت} يعني في الأرض. {وفرعها في السماء} أي نحو السماء. {تؤتي أكُلَها} يعني ثمرها. {كلَّ حين بإذن ربها} والحين عند أهل اللغة: الوقت. قال النابغة:
(تناذرها الرّاقون من سُوءِ سُمِّها ... تُطلِّقُه حيناً وحيناً تُراجع)
وفي {الحين} ها هنا ستة تأويلات: أحدها: يعني كل سنة , قاله مجاهد , لأنها تحمل كل سنة. الثاني: كل ثمانية أشهر , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه , لأنها مدة الحمل ظاهراً وباطناً. الثالث: كل ستة أشهر , قاله الحسن وعكرمة , لأنها مدة الحمل ظاهراً. الرابع: كل أربعة أشهر , قاله سعيد بن المسيب لأنها مدة يرونها من طلعها إلى جذاذها.(3/132)
الخامس: كل شهرين , لأنها مدة صلاحها إلى جفافها. السادس: كل غدوة وعشية , لأنه وقت اجتنائها , قاله ابن عباس. وفي قوله تعالى {في الحياة الدنيا وفي الآخرة} وجهان: أحدهما: أن المراد بالحياة الدنيا زمان حياته فيها , وبالآخرة المساءلة في القبر , قاله طاوس وقتادة. الثاني: أن المراد بالحياة الدنيا المساءلة في القبر أن يأتيه منكر ونكير فيقولان له: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول: إن اهتَدَى: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم. {ويضلُّ اللهُ الظالمين} فيه وجهان: أحدهما: عن حجتهم في قبورهم , كما ضلوا في الحياة الدنيا بكفرهم. الثاني: يمهلهم حتى يزدادوا ضلالاً في الدنيا. {ويفعل الله ما يشاء} فيه وجهان: أحدهما: مِن إمهال وانتقام. الثاني: من ضغطة القبر ومساءلة منكر ونكير. وروى ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا منه سعد بن معاذ , ولقد ضم ضَمّةً) . وقال قتادة: ذكر لنا أنّ عذاب القبر من ثلاثة: ثلثٌ من البول. وثلثٌ من الغيبة , وثلثٌ من النميمة.(3/133)
وسبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف مساءَلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت قال عمر: يا رسول الله أيكون معي عقلي:؟ قال: (نعم) قال. كُفيت إذن , فأنزل الله تعالى هذه الآية. قوله عز وجل: {ومثل كلمة خبيثة} فيها قولان: أحدهما: أنها الكفر. الثاني: أنها الكافر نفسه. {كشجرة خبيثةٍ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها شجرة الحنظل , قاله أنس بن مالك. الثاني: أنها شجرة لم تخلف , قاله ابن عباس. الثالث: أنها الكشوت. {اجتثت من فوق الأرض} أي اقتلعت من أصلها , ومنه قول لقيط:(3/134)
(هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مِثل ذا يوماً ومَنْ سمعا)
{ما لها من قرار} فيه وجهان: أحدهما: ما لها من أصل. الثاني: ما لها من ثبات. وتشبيه الكلمة الخبيثة بهذه الشجرة التي ليس لها أصل يبقى , ولا ثمر يجتنى أن الكافر ليس له عمل في الأرض يبقى , ولا ذكر في السماء يرقى.(3/135)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} قوله عز وجل: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} فيه وجهان: أحدهما: يزيدهم الله أدلة على القول الثابت. الثاني: يديمهم الله على القول الثابت , ومنه قول عبد الله بن رواحة.
(يُثبِّتُ الله ما آتاكَ من حسنٍ ... تثبيتَ موسى ونصراً كالذي نصِرا)
وفي قوله: {بالقول الثابت} وجهان: أحدهما: أنه الشهادتان , وهو قول ابن جرير. الثاني: أنه العمل الصالح. ويحتمل ثالثاً: أنه القرآن.(3/135)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
{ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار} قوله عز وجل: {ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفراً} فيهم خمسة أقاويل:(3/135)
أحدهما: أنهم قريش بدلوا نعمة الله عليهم لما بعث رسوله منهم , كفراً به وجحوداً له , قاله سعيد بن جبير ومجاهد. الثاني: أنها نزلت في الأفجرين من قريش بني أميه وبني مخزوم فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين , وأما بنو مخزوم فأهلكوا يوم بدر , قاله عليٌّ , ونحوه عن عمر رضي الله عنهما. الثالث: أنهم قادة المشركين يوم بدر , قاله قتادة. الرابع: أنه جبلة من الأيهم حين لُطم , فجعل له عمر رضي الله عنه القصاص بمثلها , فلم يرض وأنف فارتد متنصراً ولحق بالروم في جماعة من قومه , قاله ابن عباس. ولما صار إلى بلاد الروم ندم وقال:
(تنصَّرت الأشْرافُ من عار لطمةٍ ... وما كان فيها لو صبرت لها ضَرَرْ)
(تكنفني منها لجاجٌ ونخوةٌ ... وبعث لها العين الصحيحة بالعور)
(فيا ليتني أرْعَى المخاض ببلدتي ... ولم أنكِرِ القول الذي قاله عمر)
الخامس: أنها عامة في جميع المشركين , قاله الحسن. ويحتمل تبديلهم نعمة الله كفراً وجهين: أحدهما: أنهم بدلوا نعمة الله عليهم في الرسالة بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنهم بدلوا نعم الدنيا بنقم الآخرة. {وأحلوا قومهم دار البوار} فيها قولان: أحدهما: أنها جهنم , قاله ابن زيد. الثاني: أنها يوم بدر , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومجاهد. والبوار في كلامهم الهلاك، ومنه قول الشاعر:(3/136)
(فلم أر مثلهم أبطال حربٍ ... غداة الحرب إن خيف البَوارُ)(3/137)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
{قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال} قوله عز وجل: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصّلاة وينفقوا مما رزَقناهم سِرًّا وعلانية} فيه وجهان: أحدهما: يعني بالسر ما خفي , وبالعلانية ما ظهر , وهو قول الأكثرين. الثاني: أن السر التطوع , والعلانية الفرض , قاله القاسم بن يحيى. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن السر الصدقات , والعلانية النفقات. {مِنْ قبل أن يأتي يومٌ , لا بَيْعٌ فيه ولا خلالٌ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه لا فِدية ولا شفاعة للكافر. الثاني: أن معنى قوله {لا بيع} أي لا تباع الذنوب ولا تشتري الجنة. ومعنى قوله {ولا خِلال} أي لا مودة بين الكفار في القيامة لتقاطعهم. ثم فيه وجهان: أحدهما: أن الخلال جمع خلة , مثل قِلال وقُلّة. الثاني: أنه مصدر من خاللت خِلالاً , مثل قاتلت قِتالاً. ومنه قول لبيد:
(خالت البرقة شركاً في الهدى ... خلة باقية دون الخلل)(3/137)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار وإذ قال إبراهيم رب(3/137)
اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} قوله عز وجل: {رَبّنا إني أسكنت مِنْ ذُرِّيتي بوادٍ غير ذي زَرْعٍ} هذا قول إبراهيم عليه السلام. وقوله {مِن ذريتي} يريد بهم إسماعيل وهاجر أُمه. {بوادٍ غير ذي زرع} يعني مكة أسكنها في بطحائها , ولم يكن بها ساكن , ثقة بالله وتوكلاً عليه. {عند بيتك المحرم} لأنه قبلة الصلوات فلذلك أسكنهم عنده. وأضاف البيت إليه لأنه لا يملكه غيره , ووصفه بأنه محرَّم لأنه يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع واستحلال. {ربّنا ليقيموا الصلاة} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون سأل الله تعالى بذلك أن يهديهم إلى إقامة الصلاة. الثاني: أن يكون ذكر سبب تركهم فيه أن يقيموا الصلاة. {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} في {أفئدة} وجهان: أحدهما: أن الأفئدة جمع فؤاد وهي القلوب , وقد يعبر عن القلب بالفؤاد , قال الشاعر:
(وإنّ فؤاداً قادَني بصبابةٍ ... إليك على طول الهوَى لصَبورُ)
الثاني: أن الأفئدة جمع وفد , فكأنه قال: فاجعل وفوداً من الأمم تهوي إليهم. وفي قوله: {تهوي إليهم} أربعة أوجه: أحدها: أنه بمعنى تحن إليهم , الثاني: أنه بمعنى تنزل إليهم , لأن مكة في واد والقاصد إليها نازل إليها،(3/138)
الثالث: ترتفع إليهم , لأن ما في القلوب بخروجه منها كالمرتفع عنها. الرابع: تهواهم. وقد قرىء تهْوَى. وفي مسألة إبراهيم عليه السلام أن يجعل اللهُ أفئدةً من الناس تهوي إليهم قولان: أحدهما: ليهووا السكنى بمكة فيصير بلداً محرّماً , قاله ابن عباس. الثاني: لينزعوا إلى مكة فيحجوا , قاله سعيد بن جبير ومجاهد. قال ابن عباس: لولا أنه قال من الناس لحجه اليهود والنصارى وفارس والروم. {وارزقهم من الثمرات} فيه وجهان: أحدهما: يريد ثمرات القلوب بأن تحببهم إلى قلوب الناس فيزوروهم. الثاني: ومن الظاهر من ثمرات النخل والأشجار , فأجابه بما في الطائف من الثمار , وما يجلب إلهم من الأمصار. {لَعَلَّهُمْ يشكرون} أي لكي يشكروك. قوله عز وجل: {ربنا اغفر لي ولوالديَّ وللمؤمنين} وفي استغفاره لوالديه مع شركهما ثلاثة أوجه: أحدهما: كانا حيين فطمع في إيمانهما. فدعا لهما بالاستغفار , فلما ماتا على الكفر لم يستغفر لهما. الثاني: أنه أراد آدم وحوّاء. الثالث: أنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق. وكان إبراهيم يقرأ: {رب اغفر لي ولوالدي} يعني ابنيه , وكذلك قرأ يحيى بن يعمر.(3/139)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
{ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء} قوله عز وجل: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} قال ميمون بن مهران: وعيد للظالم وتعزية للمظلوم. قوله عز وجل: {مهطعين} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه مسرعين قاله سعيد بن جبير والحسن وقتادة , مأخوذ من أهطع يهطع إهطاعاً إذا أسرع , ومنه قوله تعالى: {مهطعين إلى الداع} أي مسرعين. قال الشاعر:
(بدجلة دارُهُم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع)
الثاني: أنه الدائم النظر لا يطرف , قاله ابن عباس والضحاك. الثالث: أنه المطرِق الذي لا يرفع رأسه , قاله ابن زيد. {مقنعي رءُوسهم} وإقناع الرأس فيه تأويلان: أحدهما: ناكسي رؤوسهم بلغة قريش , قاله مؤرج السدوسي وقتادة.(3/140)
الثاني: رافعي رؤوسهم , وإقناع الرأس رفْعُه , قاله ابن عباس ومجاهد , ومنه قول الشاعر:
(أنغض رأسه نحوي وأقنعا ... كأنما أبصَرَ شيئاً أطمعَا)
{لا يرتد إليهم طرفهم} أي لا يرجع إليهم طرفهم , والطرف هو النظر وسميت العَيْن طرْفاً لأنها بها يكون , قال جميل:
(وأَقْصِرُ طَرْفي دُون جُمْل كرامةً ... لجُمْلٍ وللطرْفِ الذي أنا قاصِر)
{وأفئدتهم هواءٌ} والمراد بالأفئدة مواضع القلوب , وهي الصدور. وقوله: {هواء} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنها تتردد في أجوافهم ليس لها مكان تستقر فيه فكأنها تهوي , قاله سعيد بن جبير ومجاهد. الثاني: أنها قد زالت عن أماكنها حتى بلغت الحناجر , فلا تنفصل ولا تعود , قاله قتادة. الثالث: أنها المتخرمَة التي لا تعي شيئاً , قاله مُرّة. الرابع: أنها خالية من الخير , وما كان خالياً فهو هواء , قاله ابن عباس ومنه قول حسان:
(ألا أبلِغ أبا سفيان عني ... فأنتَ مُجوَّف نخب هواء)(3/141)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
{وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال وقد(3/141)
مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} قوله عز وجل: {وأنذر النّاس يَوْمَ يأتيهم العذاب} معناه وأنذرهم باليوم الذي يأتيهم فيه العذاب , يعني يوم القيامة. وإنما خصه بيوم العذاب وإن كان يوم الثواب أيضاً لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعاصي وإن تضمن ترغيباً للمطيع. {فيقول الذين ظلَموا ربّنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرُّسل} طلبوا رجوعاً إلى الدنيا حين ظهر لهم الحق في الآخرة ليستدركوا فارط ذنوبهم , وليست الآخرة دار توبة فتقبل توبتهم , كما ليست بدار تكليف فيستأنف تكليفهم. فأجابهم الله تعالى عن هذا الطلب فقال: {أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوالٍ} فيه وجهان: أحدهما: ما لكم من انتقال عن الدنيا إلى الآخرة , قاله مجاهد. الثاني: ما لكم من زوال عن العذاب , قاله الحسن. قوله عز وجل: {وقد مكروا مكرهم} فيه قولان: أحدهما: أنه عنى بالمكر الشرك , قاله ابن عباس. الثاني: أنه عنى به العتو والتجبّر , وهي فيمن تجبر في ملكه وصعد مع النسرين في الهواء , قاله علي رضي الله عنه. وقال ابن عباس: هو النمرود بن كنعان بن سنحاريب بن حام بن نوح بنى الصرح في قرية الرس من سواد الكوفة , وجعل طوله خمسة آلاف ذراع , وعرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسة وعشرين ذراعاً وصعد منه مع النسور , فلما علم أنه لا سبيل إلى السماء اتخذه حصناً وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه , فأتى الله بنيانه من القواعد , فتداعى الصرح عليهم , فهلكوا جميعاً، فهذا معنى قوله {وقد مكروا مكرهم} .(3/142)
{وعند الله مكرهم} فيه وجهان: أحدهما: وعند الله مكرهم عالماً به لا يخفى عليه , قاله علي بن عيسى. الثاني: وعند الله مكرهم محفوظاً عليهم حتى يجازيهم عليه , قاله الحسن وقتادة. {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} فيه قراءتان. إحداهما: بكسر اللام الأولى وفتح الثانية , ومعناها وما كان مكرهم لتزول منه الجبال , احتقاراً له , قاله ابن عباس والحسن. الثانية: بفتح اللام الأولى وضم الثانية , ومعناها وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال استعظاماً له. قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم {وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال} . وفي {الجبال} التي عنى زوالها بمكرهم قولان: أحدهما: جبال الأرض. الثاني: الإسلام والقرآن , لأنه لثبوته , ورسوخه كالجبال.(3/143)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
{فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار} قوله عز وجل: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} فيه قولان: أحدهما: أنها تبدل بأرض غيرها بيضاء كالفضة , لم تعمل عليها خطيئة , قاله ابن مسعود. وقال ابن عباس: تبدل الأرض من فضة بيضاء. الثاني: أنها هي هذه الأرض , وإنما تبدل صورتها ويطهر دنسها , قاله الحسن. {السمواتُ} فيها ستة أقاويل:(3/143)
أحدها: أن السموات تبدل بغيرها كالأرض فتجعل السماء من ذهب , والأرض من فضة , قاله علي بن أبي طالب. الثاني: أن السموات تبدل بغيرها كالأرض , فتصير السموات جناناً والبحار نيراناً وتبدل الأرض بغيرها , قاله كعب الأحبار. الثالث: أن تبديل السموات تكوير شمسها وتكاثر نجومها , قاله ابن عيسى. الرابع: أن تبديلها أن تطوى كطي السجل للكتب , قاله القاسم بن يحيى. الخامس: أن تبديلها أن تنشق فلا تظل , قاله ابن شجرة. السادس: أن تبديلها اختلاف أحوالها , تكون في حال كالمهل , وفي حال كالوردة , وفي حال كالدهان , حكاه ابن الأنباري. {وبرزوا لله الواحد القهار} أي صاروا إلى حكم الله تعالى وأمره فروى الحسن قال: قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله يوم تبدَّل الأرض غير الأرض أين الناس يومئذٍ؟ قال (إن هذا الشيء ما سألني عنه أحد ثم قال على الصراط يا عايشة) .(3/144)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
{وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب} قوله عز وجل: {وترى المجرمين يومئذٍ مقرنين في الأصفاد} فيه قولان: أحدهما: أن الأصفاد الأغلال , واحدها صفد , ومنه قول حسان:
(ما بين مأسورٍ يشد صِفادُهُ ... صقرٍ إذا لاقى الكريهة حامي)(3/144)
الثاني: أنها القيود , ومنه قول عمرو بن كلثوم:
(فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأُبنا بالملوكِ مُصَفّدينا)
أي مقيّدين. وأما قول النابغة الذبياني:
(هذا الثناء فإن تسمع لقائله ... فلم أعرض , أبيت اللعن , بالصفدِ)
فأراد بالصفد العطية , وقيل لها صف لأنها تقيد المودة. وفي المجرمين المقرنين في الأصفاد قولان: أحدهما: أنهم الكفار يجمعون في الأصفاد كما اجتمعوا في الدنيا على المعاصي. الثاني: أنه يجمع بين الكافر والشيطان في الأصفاد. قوله عز وجل: {سرابيلهم مِن قطرانٍ} السرابيل: القمص , واحدها سربال , ومنه قول الأعشى:
(عهدي بها في الحي قد سربلت ... صفراء مثل المهرة الضامر)
وفي القطران ها هنا قولان: أحدهما: أنه القطران الذي تهنأ به الجمال , قاله الحسن , وإنما جعلت سرابيلهم من قطران لإسراع النار إليها. الثاني: أنه النحاس الحامي , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. وقرأ عكرمة وسعيد بن جبير {من قطران} بكسر القاف وتنوين الراء وهمزآن لأن القطر النحاس , ومنه قوله تعالى {آتوني أفرغ عليه قطراً} [الكهف: 96] والآني: الحامي , ومنه قوله تعالى {وبين حَمِيمٍ آن} [الرحمن: 44] .(3/145)
{هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله وحدٌ وليذكرا أولوا الألباب} قوله عز وجل: {هذا بلاغ للناس} فيه قولان: أحدهما: هذا الإنذار كاف للناس، قاله ابن شجرة. الثاني: هذا القرآن كافٍ للناس، قاله ابن زيد. {ولينذروا به} فيه وجهان: أحدهما: بالرسول. الثاني: بالقرآن. {وليعلموا أنما هو إله واحدٌ} لما فيه من الدلائل على توحيده. {وليذكر أولوا الألباب} فيه وجهان: أحدهما: وليتغظ، قاله الكلبي. الثاني: ليسترجع يعني بما سمع من المواعظ. أولوا الألباب، أي ذوو العقول. وروى يمان بن رئاب أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.(3/146)
سورة الحجر
مكية باتفاق إلا قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} فمدنية: بسم الله الرحمن الرحيم(3/147)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
{الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} {ألر تلك أياتُ الكتاب وقرآن مبينٍ} فيه تأويلان: أحدهما: أن الكتاب هو القرآن , جمع له بين الاسمين. الثاني: أن الكتاب هو التوراة والانجيل , ثم قرنها بالقرآن بالقرآن المبين. وفي المراد بالمبين ثلاثة أوجه: أحدها: المبين إعجازه حتى لا يعارض. الثاني: المبين الحق من الباطل حتى لا يشكلا. الثالث: المبين الحلال من الحرام حتى لا يشتبها. قوله عز وجل: {رُبما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} وفي زمان هذا التمني ثلاثة أقاويل: أحدها: عند المعاينة في الدنيا حين يتبين لهم الهدى من الضلالة، قاله الضحاك.(3/147)
الثاني: في القيامة إذا رأوا كرامة المؤمنين وذل الكافرين. الثالث: إذا دخل المؤمن الجنة , والكافر النار. وقال الحسن: إذا رأى المشركون المؤمنين وقد دخلوا الجنة وصاروا هم إلى النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين. وربما مستعملة في هذا الموضع للكثير , وإن كانت في الأصل موضوعة للتقليل , كما قال الشاعر:
(ألا ربّما أهدت لك العينُ نظرة ... قصاراك مِنْها أنها عنك لا تجدي)
وقال بعضهم هي للتقليل أيضاً في هذا الموضع , لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها.(3/148)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
{وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} قوله عز وجل: {وما أهلكنا من قرية} يعني من أهل قرية. {إلا ولها كتاب معلوم} يحتمل وجهين: أحدهما: أجل مقدر. الثاني: فرض محتوم. قوله عز وجل: {ما تسبق من أمةٍ أجَلَها وما يَستأخرون} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يتقدم هلاكهم عن أجله ولا يتأخر عنه. الثاني: لا يموتون قبل العذاب فيستريحوا , ولا يتأخر عنهم فيسلموا. وقال الحسن فيه تأويلاً ثالثاً: ما سبق من أمة رسولها وكتابها فتعذب قبلهما ولا يستأخر الرسول والكتاب عنها.(3/148)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
{وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}(3/148)
قوله عز وجل: {ما ننزل الملائكة إلا بالحق} فيه أربعة أوجه: أحدها: إلا بالقرآن , قاله القاسم. الثاني: إلا بالرسالة , قاله مجاهد. الثالث: إلا بالقضاء عند الموت لقبض أرواحهم , قاله الكلبي. الرابع: إلا بالعذاب إذا لم يؤمنوا , قاله الحسن. {وما كانوا إذاً منظرين} أي مؤخَّرين. قوله عز وجل: {إنا نحن نزلنا الذكر} قال الحسن والضحاك يعني القرآن. {وإنا له لحافظون} فيه قولان: أحدهما: وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه , حكاه ابن جرير. الثاني: وإنا للقرآن لحافظون. وفي هذا الحفظ ثلاثة أوجه: أحدها: حفظه حتى يجزى به يوم القيامة , قاله الحسن. الثاني: حفظه من أن يزيد فيه الشيطان باطلاً , أو يزيل منه حقاً , قاله قتادة. الثالث: إنا له لحافظون في قلوب من أردنا به خيراً , وذاهبوان به من قلوب من أردنا به شراً.(3/149)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
{ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين} قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشيع الأمم , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: أن الشيع جمع شيعة , والشيعة الفرقة المتآلفة المتفقة الكلمة , فكأن الشيع الفرق , ومنه قوله تعالى {أو يلبسكم شيَعاً} [الأنعام: 65] أي فرقاً , وأصله مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار يوقد به الكبار , فهو عون النار.(3/149)
الثالث: أن الشيع القبائل , قاله الكلبي. قوله عز وجل: {كذلك نسلكه في قلوب المجرمين} فيه أربعة أوجه: أحدها: كذلك نسلك الاستهزاء في قلوب المجرمين , وإن لم يعرفوا , قاله قتادة. الثاني: كذلك نسلك التكذيب في قلوب المجرمين , قاله ابن جريج. الثالث: كذلك نسلك القرآن في قلوب المجرمين , وإن لم يؤمنوا , قاله الحسن. الرابع: كذلك إذا كذب به المجرمون نسلك في قلوبهم أن لا يؤمنوا به. قوله عز وجل: {لا يؤمنون به} يحتمل وجهين: أحدهما: بالقرآن أنه من عند الله. الثاني: بالعذاب أن يأتيهم. {وقد خلت سنة الأولين} السنة: الطريقة , قال عمر بن أبي ربيعة:
(لها من الريم عيناه وسُنّتُهُ ... ونحرُه السابق المختال إذ صَهَلا)
فيه وجهان: أحدهما: قد خلت سنة الأولين بالعذاب لمن أقام على تكذيب الرسل. الثاني: بأن لا يؤمنوا برسلهم إذا عاندوا. ويحتمل ثالثاً: بأن منهم مؤمناً وكافراً. كما يحتمل رابعاً: من أقام على الكفر بالمعجزات بعد مجيء ما طلب من الآيات.(3/150)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
{ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} قوله عز وجل: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون} فيه وجهان:(3/150)
أحدهما: فظل هؤلاء المشركون يعرجون فيه , قاله الحسن وقتادة. الثاني: فظلت الملائكة فيه يعرجون وهم يرونهم , قاله ابن عباس والضحاك. قوله عز وجل: {لقالوا إنما سكرت أبصارنا} في {سكرت} قراءتان: إحداهما بتشديد الكاف , والثانية بتخفيفها , وفي اختلافهما وجهان: أحدهما: معناهما واحد , فعلى هذا ستة تأويلات: أحدها: سُدّت , قاله الضحاك. الثاني: عميت , قاله الكلبي. الثالث: أخذت , قاله قتادة. الرابع: خدعت , قاله جويبر. الخامس: غشيت وغطيت , قاله أبو عمرو بن العلاء , ومنه قول الشاعر:
(وطلعت شمسٌ عليها مغفر ... وجَعَلَتْ عين الحرورو تسكر)
السادس: معناه حبست , قاله مجاهد. ومنه قول أوس بن حجر:
(فصرن على ليلة ساهرة ... فليست بطلقٍ ولا ساكرة)
والوجه الثاني: أن معنى سكرت بالتشديد والتخفيف مختلف , وفي اختلافهما وجهان: أحدهما: أن معناه بالتخفيف سُحِرَتْ , وبالتشديد: أخذت. الثاني: أنه بالتخفيف من سُكر الشراب , وبالتشديد مأخوذ من سكرت الماء. {بل نحن مسحورون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أي سحرنا فلا نبصر. الثاني: مضللون، حكاه ثعلب.(3/151)
الثالث: مفسدون.(3/152)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
{ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين} قوله عز وجل: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنها قصور في السماء فيها الحرس , قاله عطية. الثاني: أنها منازل الشمس والقمر , قاله علي بن عيسى. الثالث: أنها الكواكب العظام , قاله أبو صالح , يعني السبعة السيارة. الرابع: أنها النجوم , قاله الحسن وقتادة. الخامس: أنها البروج الاثنا عشر. وأصل البروج الظهور , ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت نفسها. {وزيناها للناظرين} أي حسنّاها. {وحفظناها من كل شيطان رجيم} يعني السماء. وفي الرجيم ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الملعون , قاله قتادة. الثاني: المرجوم بقول أو فعل , ومنه قول الأعشى:
(يظل رجيماً لريب المنون ... والسقم في أهله والحزن)
الثالث: أنه الشتيم. زعم الكلبي أن السموات كلها لم تحفظ من الشياطين إلى زمن عيسى , فلما بعث الله تعالى عيسى حفظ منها ثلاث سموات , إلى مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفظ جميعها بعد بعثه وحرسها منهم بالشهب. قوله عز وجل: {إلا من استرق السمع} ومسترق السمع من الشياطين يسترقه من أخبار الأرض دون الوحي , لأن الله تعالى قد حفظ وحيه منهم. ومن استراقهم له قولان:(3/152)
أحدهما: أنهم يسترقونه من الملائكة في السماء. الثاني: في الهواء عند نزول الملائكة من السماء. وفي حصول السمع قبل أخذهم بالشهاب قولان: أحدهما: أن الشهاب يأخذهم قبل وصولهم إلى السمع , فيصرفون عنه. الثاني: أنه يأخذهم بعد وصول السمع إليهم. وفي أخذهم بالشهاب قولان: أحدهما: أنه يخرج ويحرق ولا يقتل , قاله ابن عباس. الثاني: أنه يقتل , قاله الحسن وطائفة. فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان: أحدهما: أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم , فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء , قاله ابن عباس: ولذلك انقطعت الكهانة. الثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن , ولذلك ما يعودون إلى استراقه، ولو لم يصل لانقطع الإستراق وانقطع الإحراق. وفي الشهب التي يرجمون بها قولان: أحدهما: أنها نور يمتد بشدة ضيائه فيحرقهم ولا يعود , كما إذا أحرقت النار لم تعد. الثاني: أنها نجوم يرجمون بها وتعود إلى أماكنها , قال ذو الرمة:
(كأنه كوكب في إثر عفريةٍ ... مُسَوَّمٌ في سوادِ الليل منقضبُ)
قوله عز وجل: {والأرض مددناها} أي بسطناها. قال قتادة. بسطت من مكة لأنها أم القرى. {وألقينا فيها رواسي} وهي الجبال. {وأنبتنا فيها من كل شيء موزون} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني مقدر معلوم , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. وإنما قيل(3/153)
{موزون} لأن الوزن يعرف به مقدار الشيء. قاله الشاعر:
(قد كنت قبل لقائكم ذا مِرّةٍ ... عندي لكل مُخاصِم ميزانُه)
الثاني: يعني به الأشياء التي توزن في أسواقها , قاله الحسن وابن زيد. الثالث: معناه مقسوم , قاله قتادة. الرابع: معناه معدود , قاله مجاهد. ويحتمل خامساً: أنه ما يوزن فيه الأثمان لأنه أجل قدراً وأعم نفعاً مما لا ثمن له. قوله عز وجل: {وجعلنا لكم فيها معايش} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنها الملابس , قاله الحسن. الثاني: أنها المطاعم والمشارب التي يعيشون فيها , ومنه قول جرير:
(تكلفني معيشة آل زيدٍ ... ومَن لي بالمرقق والصنابِ)
الثالث: أنها التصرف في أسباب الرزق مدة أيام الحياة , وهو الظاهر. {ومن لستم له برازقين} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الدواب والأنعام , قاله مجاهد. الثاني: أنها الوحوش , قاله منصور. الثالث: العبيد والأولاد الذين قال الله فيهم {نحن نرزقهم وإياكم} [الإسراء: 31] قاله ابن بحر.(3/154)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
{وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم}(3/154)
قوله عز وجل: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} يعني وإن من شيء من أرزاق الخلق إلا عندنا خزائنه وفيه وجهان: أحدهما: يعني مفاتيحه لأن في السماء مفاتيح الأرزاق , وهو معنى قول الكلبي. الثاني: أنها الخزائن التي هي مجتمع الأرزاق. وفيها وجهان: أحدهما: ما كتبه الله تعالى وقدره من أرزاق عباده. الثاني: يعني المطر المنزل من السماء , لأنه نبات كل شيء , قال الحسن: المطر خزائن كل شيء. {وما ننزله إلا بقدر معلوم} قال ابن مسعود: ما كان عامٌ بأمطر من عام ولكن الله يقسمه حيث يشاء , فيمطر قوماً ويحرم آخرين. قوله عز وجل: {وأرسلنا الرياحَ لواقِحَ} فيه قولان: أحدهما: لواقح السحاب حتى يمطر , قاله الحسن وقتادة , وكل الرياح لواقح. غير أن الجنوب ألقح وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هبت ريح جنوب إلا أنبع الله تعالى بها عيناً غدقة) . الثاني: لواقح للشجر حتى يثمر , قاله ابن عباس. وقال أبو عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح. وقال عبيد بن عمير: يرسل الله تعالى المبشرة فتقم الأرض قمّاً، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب , ثم يرسل المؤلفة فتؤلفه، ثم يرسل اللواقح فتلقح الشجر. قوله عز وجل: {فأنزلنا من السماء ماءً} يعني من السحاب مطراً. {فأسقيناكموه} أي مكناكم منه , والفرق بين السقي والشرب أن السقي بذل(3/155)
المشروب , والشرب: استعمال المشروب , فصار الساقي باذلاً , والشارب مستعملاً. {وما أنتم له بخازنين} فيه وجهان: أحدهما: بخازني الماء الذي أنزلناه. الثاني: بمانعي الماء الذي أنزلناه. قوله عز وجل: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد عَلِمنا المستأخرين} فيه ثمانية تأويلات: أحدها: أن المستقدمين الذين خلقوا , والمستأخرين الذين لم يخلقوا , قاله عكرمة. الثاني: المستقدمين الذين ماتوا , والمستأخرين الذين هم أحياء لم يموتوا , قاله الضحاك. الثالث: المستقدمين أول الخلق , والمستأخرين آخر الخلق , قاله الشعبي. الرابع: المستقدمين أول الخلق ممن تقدم على أمة محمد , والمستأخرين أمة محمد صلى الله عليه وسلم , قاله مجاهد. الخامس: المستقدمين في الخير , والمستأخرين في الشر , قاله قتادة. السادس: المستقدمين في صفوف الحرب , والمستأخرين فيها , قاله سعيد بن المسيب. السابع: المستقدمين من قتل في الجهاد , والمستأخرين من لم يقتل , قاله القرظي. الثامن: المستقدمين في صفوف الصلاة , والمستأخرين فيها. روى عمر بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كانت تصلي(3/156)
خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةٌ من أحسن الناس , لا والله ما رأيت مثلها قط , فكان بعض الناس يستقدم في الصف الأول لئلا يراها , ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطه في الصف , فأنزل الله تعالى في شأنها هذه الآية.(3/157)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
{ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم} قوله عز وجل: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حَمَإٍ مسنون} أما الإنسان ها هنا فهو آدم عليه السلام في قول أبي هريرة والضحاك. أما الصلصال ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الطين اليابس الذي لم تصبه نار , فإذا نقرته صل فسمعت له صلصلة , قاله ابن عباس وقتادة , ومنه قول الشاعر:
(وقاعٍ ترى الصَّلصال فيه ودونه ... بقايا بلالٍ بالقرى والمناكبِ)
والصلصة: الصوت الشديد المسموع من غير الحيوان , وهو مثل القعقعة في الثوب. الثاني: أنه طين خلط برمل , قاله عكرمة. الثالث: أنه الطين المنتن , قاله مجاهد , مأخوذ من قولهم: صَلَّ اللحمُ وأصَلَّ إذا أنتن , قال الشاعر:
(ذاك فتى يبذل ذا قدرِهِ ... لا يفسد اللحم لديه الصلول)
والحمأ: جمع حمأة وهو الطين الأسود المتغير. وفي المسنون سبعة أقاويل:(3/157)
أحدها: أن المسنون المنتن المتغير , من قولهم قد أسن الماء إذا تغير , قاله ابن عباس , ومنه قول أبي قيس بن الأسلت:
(سَقَتْ صدايَ رضاباً غير ذي أَسَنٍ ... كالمسكِ فُتَّ على ماءٍ العناقيد)
الثاني: أن المسنون المنصوب القائم , من قولهم وجه مسنون , قاله الأخفش. الثالث: أن المسنون المصبوب , من قولهم سنيتُ الماء على الوجه إذا صببته عليه , قاله أبو عمرو بن العلاء , ومنه الأثر المروي عن عمر أنه كان يسن الماء على وجهه ولا يشنُّه , والشن تفريق الماء , والسن صبه. الرابع: أن المسنون الذي يحك بعضه بعضاً , من قولهم سننت الحجر على الحجر إذا حككت أحدهما بالآخر , ومنه سمي المسَنّ لأن الحديد يسن عليه , قاله الفراء. الخامس: أن المسنون المنسوب. السادس: أنه الرطب , قاله ابن أبي طلحة. السابع: أنه المخلص من قولهم سن سيفك أي اجلهُ. قوله عز وجل: {والجانَّ خلقناه من قبل من نار السموم} وفي الجان ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه إبليس , قاله الحسن. الثاني: أنهم الجن حكاه ابن شجرة. الثالث: أنه أبو الجن قاله الكلبي فآدم أبو الإنس , والجان: أبو الجن , وإبليس أبو الشياطين. قال ابن عباس: الجان أبو الجن وليسوا شياطين. والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. والجن يموتون , ومنهم المؤمن ومنهم الكافر. {خلقناه من قبل} يعني من قبل آدم. قال قتادة: لأن آدم إنما خلق آخر الخلق.(3/158)
وقوله تعالى: {من نار السّموم} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني من لهب النار , قاله ابن عباس. الثاني: يعني من نار الشمس , قاله عمرو بن دينار. الثالث: من حر السموم , والسموم: الريح الحارة. ذكره ابن عيسى. الرابع: أنه نار السموم نار الصواعق بين السماء وبين حجاب دونها , قاله الكلبي وسمي سموماً لدخوله في مسام البدن.(3/159)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
{وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} قوله عز وجل: {قال رَبِّ فأنظرني إلى يوم يبعثونَ} وهذا السؤال من إبليس لم يكن من ثقة منه بمنزلته عند الله تعالى وأنه أهل أن يجاب له دعاء , ولكن سأل تأخير عذابه زيادة في بلائه كفعل الآيس من السلامة. وأراد بسؤاله الإنظار إلى يوم يبعثون أن لا يموت , لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده. فقال الله تعالى: {فإنك من المنظرين} يعني من المؤجلين. {إلى يوم الوقت المعلوم} فلم يجبه إلى البقاء. وفي الوقت المعلوم وجهان: أحدهما: معلوم عند الله تعالى , مجهول عند إبليس.(3/159)
الثاني: إلى يوم النفخة الأولى يموت إبليس. وبين النفخة والنفخة أربعون سنة. فتكون مدة موت إبليس أربعين سنة , وهو قول ابن عباس وسمي يوم الوقت المعلوم لموت جميع الخلائق فيه. وليس هذا من الله تعالى إجابة لسؤاله , لأن الإجابة تكرمة , ولكن زيادة في بلائه , ويعرف أنه لا يضر بفعله غير نفسه. وفي كلام الله تعالى له قولان: أحدهما: أنه كلمه على لسان رسول. الثاني: أنه كلمه تغليظاً في الوعيد لا على وجه التكرمة والتقريب.(3/160)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
{قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} قوله عز وجل: {قال ربِّ بما أغوَيتني} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بما أضللتني , قاله ابن عباس. الثاني: بما خيبتني من رحمتك. الثالث: بما نسبتني إلى الإغواء. ويحتمل هذا من إبليس وجهين: أحدهما: أنه يقوله على وجه القسم وتقديره: وحق إغوائك لي. الثاني: أنه يقوله على وجه الجزاء , وتقديره لأجل إغوائك لي. {لأزينن لهم في الأرض} يحتمل وجهين: أحدهما: لأزينن لهم فعل المعاصي. الثاني: لأشغلنهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعة.(3/160)
{ولأغوينهم أجمعين} أي لأضلنهم عن الهدى. {إلاّ عبادك منهم المخلصين} وهم الذين أخلصوا العبادة من فساد أو رياء حكى أبو ثمامة أن الحواريين سألوا عيسى عليه السلام عن المخلص لله , فقال: الذي يعمل لله ولا يحب أن يحمده الناس. قوله عز وجل: {قال هذا صراطٌ عليَّ مستقيم} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة , قاله عمر رضي الله عنه. الثاني: هذا صراط إليَّ مستقيم , قاله الحسن فتكون عليَّ بمعنى إليَّ. الثالث: أنه وعيد وتهديد , ومعناه أن طريقه إليَّ ومرجعه عليَّ , كقول القائل لمن يهدده ويوعده: عليَّ طريقك , قاله مجاهد. الرابع: معناه هذا صراط , عليّ استقامته بالبيان والبرهان. وقيل بالتوفيق والهداية. وقرأ الحسن وابن سيرين: {عليٌّ مستقيم} برفع الياء وتنوينها , ومعناه رفيع مستقيم , أي رفيع أن ينال , مستقيم أن يمال.(3/161)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
{إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} قوله عز وجل: {ادخلوها بسلامٍ آمنين} في قوله {بسلام} ثلاثة أوجه: أحدها: بسلامة من النار , قاله القاسم ابن يحيى. الثاني: بسلامة تصحبكم من كل آفة , قاله علي بن عيسى. الثالث: بتحية من الله لهم , وهو معنى قول الكلبي. {آمنين} فيه ثلاثة أوجه:(3/161)
أحدها: آمنين من الخروج منها. الثاني: آمنين من الموت. الثالث: آمنين من الخوف والمرض. قوله عز وجل: {ونزعنا ما في صدورهم مِنْ غِلٍّ} فيه وجهان: أحدهما: نزعنا بالإسلام ما في صدورهم من غل الجاهلية , قاله علي بن الحسين. الثاني: نزعنا في الآخرة ما في صدورهم من غل الدنيا , قاله الحسن , وقد رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً. {إخواناً عَلَى سُرُرٍ متقابلين} في السرر وجهان: أحدهما: أنه جمع أسرة هم عليها. الثاني: أنه جمع سرورهم فيه. وفي {متقابلين} خمسة أوجه: أحدها: متقابلين بالوجوه يرى بعضهم بعضاً فلا يصرف طرفه عنه تواصلاً وتحابياً , قاله مجاهد. الثاني: متقابلين بالمحبة والمودة , لا يتفاضلون فيها ولا يختلفون , قاله علي بن عيسى. الثالث: متقابلين في المنزلة لا يفضل بعضهم فيها على بعض لاتفاقهم على الطاعة واستهوائهم في الجزاء , قاله أبو بكر بن زياد. الرابع: متقابلين في الزيارة والتواصل , قاله قتادة. الخامس: متقابلين قد أقبلت عليهم الأزواج وأقبلوا عليهم بالود، حكاه القاسم.(3/162)
قيل إن هذه الآية نزلت في العشرة من قريش. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير منهم. قوله عز وجل: {نَبِّىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم} سبب نزولها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يضحكون , فقال: (تضحكون وبين أيديكم الجنة والنار) فشق ذلك عليهم , فأنزل الله تعالى: {نَبِّىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم} .(3/163)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
{ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} قوله عز وجل: {قالوا لا توجل} أي لا تخف , ومنه قول معن بن أوس:
(لعمرك ما أدري وأني لأوجل ... على أينا تعدو المنيةُ أوّلُ)
{إنّا نبشِّرك بغلامٍ عليم} أي بولد هو غلام في صغره , عليم في كبره , وهو إسحاق. لقوله تعالى {فضحكت فبشرناها بإسحاق} . وفي {عليم} تأويلان: أحدهما: حليم , قاله مقاتل. الثاني: عالم , قاله الجمهور. فأجابهم عن هذه البشرى مستفهماً لها متعجباً منها {قال أبَشّرتموني على أن مسنيَ الكبر} أي علو السن عند الإياس من الولد. {فبم تبشرونَ} فيه وجهان:(3/163)
أحدهما: أنه قال ذلك استفهاماً لهم , هل بشروه بأمر الله؟ ليكون أسكن لنفسه. الثاني: أنه قال ذلك تعجباً من قولهم , قاله مجاهد. {قالوا بشرناك بالحقّ} أي بالصدق , إشارة منهم إلى أنه عن الله تعالى. {فلا تكن مِنَ القانطين} أي من الآيسين من الولد.(3/164)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
{قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} قوله عز وجل: {قالوا إنا أُرسلنا إلى قومٍ مجرمين إلاّ آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين} آل لوط اتباعه ومؤمنو قومه , سمّاهم آلَهُ لنصرتهم له , وإيمانهم به , فاستثناهم من المجرمين المأمور بهلاكهم , فخرجوا بالاستثناء منهم. ثم قال تعالى {إلاّ امْراَته} فكانت مستثناة من آل لوط ولاحقة بالمجرمين , لأن كل استثناء يعود إلى ما تقدمه فيخالفه في حكمه. فإن عاد إلى إثبات كان الاستثناء نفياً , وإن عاد إلى نفي كان الاستثناء إثباتاً , فصارت امرأة لوط ملحقة بالمجرمين المهلكين. ومثال هذا في الإقرار أن يقول له: عليّ عشرة إلا سبعة إلا أربعة , فيكون عليه سبعة لأن الأربعة استثناء يرجع إلى السبعة التي قبلها , فصار الباقي منها ثلاثة. وتصير الثلاثة الباقية هي الاستثناء الراجع إلى العشرة , فيبقى منها سبعة. وهكذا في الطلاق لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثاً أو اثنتين إلا واحدة طلقت ثنتين لأن الواحدة ترجع إلى الثنتين , فتبقى منها واحدة فتصير الواحدة هي القدر المستثنى من الثلاثة فيصير الباقي منها ثنتين وهكذا حكم قوله: {إلا امرأته} . {قدرنا} فيه وجهان: أحدهما: معناه قضينا، قاله النخعي. الثاني: معناه كتبنا، قاله علي بن عيسى.(3/164)
{إنها لَمِنَ الغابرين} فيه وجهان: أحدهما: أي من الباقين في العذاب مع المجرمين. الثاني: من الماضين بالعذاب.(3/165)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
{فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} قوله عز وجل: {فأسرِ بأهلك بقطع مِن الليل} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: بآخر الليل , قاله الكلبي. الثاني: ببعض الليل , قاله مقاتل. الثالث: بظلمة الليل , قاله قطرب , ومنه قول الشاعر:
(ونائحةٍ تنوحُ بقطع ليلٍ ... على رَجُلٍ بقارعةِ الصعيد)
قوله عز وجل: {وقضينا إليه ذلك الأمر} أي أوحينا إليه ذلك الأمر. {أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} فيه وجهان: أحدهما: آخرهم. الثاني: أصلهم. {مقطوع مصبحين} أي يستأصلون بالعذاب عند الصباح.(3/165)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
{وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أو لم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}(3/165)
قوله عز وجل: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} لعمرك: قسم فيه أربعة أوجه: أحدها: معناه وعيشك , وهذا مروي عن ابن عباس. الثاني: معناه وعملك , قاله قتادة. الثالث: معناه وحياتك , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً وقال: ما أقسم الله تعالى بحياة غيره. الرابع: وحقك , يعني الواجب على أمتك , والعمر الحق , ومنه قولهم: لعمر الله , أي وحق الله. وفي {سكرتهم} وجهان: أحدهما: في ضلالتهم , قاله قتادة. الثاني: في غفلتهم , قاله الأعمش. وفي {يعمهون} أربعة أوجه: أحدها: معناه يترددون , قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وأبو مالك. الثاني: يتمارون , قاله السدي. الثالث: يلعبون , قاله الأعمش. الرابع: يمنعون , قاله الكلبي.(3/166)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
{فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين}(3/166)
قوله تعالى: {إنَّ في ذلك لآياتٍ للمتوسمين} فيه خمسة أوجه: أحدها: للمتفرسين , قاله مجاهد. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) ثم تلا هذه الآية ... الثاني: للمعتبرين , قاله قتادة. الثالث: للمتفكرين , قاله ابن زيد. الرابع: للناظرين , قاله الضحاك. قال زهير بن أبي سلمى:
(وفيهن ملهى للصديق ومنظر ... أنيقٌ لعَيْنِ الناظر المتوسم)
الخامس: للمبصرين , قاله أبو عبيدة. قال الحسن: هم الذين يتوسمون الأمور(3/167)
فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار , ومنه قول عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم:
(إني توسمت فيك الخير أعرِفُه ... والله يعلم أني ثابت البصر)
قوله عز وجل: {وإنها لبسبيل مقيم} فيه تأويلان: أحدهما: لهلاك دائم , قاله ابن عباس. الثاني: لبطريق معلم , قاله مجاهد. يعني بقوله {وإنما} أهل مدائن قوم لوط وأصحاب الأيكة قوم شعيب.(3/168)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
{وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين} قوله عز وجل: {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين} يعني في تكذيب رسول الله إليهم وهو شعيب , لأنه بعثَ إلى أمتين , أصحاب الأيكة وأهل مدين. فأما أهل مدين فأهلكوا بالصيحة , وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة التي احترقوا بنارها , قاله قتادة. وفي {الأيكة} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الغيضة , قاله مجاهد. الثاني: أنه االشجر الملتف , وكان أكثر شجرهم الدوم وهو المقل , وهذا قول ابن جرير , ومنه قول النابغة الذبياني:
(تجلو بِقادِمَتَي حمامةِ أيكة ... بَرَداص أُسفَّ لثاثُهُ الإثمدِ)
الثالث: أن الأيكة اسم البلد، وليكة اسم المدينة بمنزلة بكة من مكة، حكاه ابن شجرة. قوله عز وجل: {فانتقمنا منهم وإنهما لبإمامٍ مبينٍ} فيه تأويلان: أحدهما: لبطريق واضح , قاله قتادة. وقيل للطريق إمام لأن المسافر يأتم به حتى يصل إلى مقصده.(3/168)
الثاني: لفي كتاب مستبين , قاله السدي. وإنما سمي الكتاب إماماً لتقدمه على سائر الكتب , وقال مؤرج: هو الكتاب بلغة حِمْيَر. ويعني بقوله {وإنهما} أصحاب الأيكة وقوم لوط.(3/169)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
{ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون} قوله عز وجل: {ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين} وهم ثمود قوم صالح. وفي {الحجر} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الوادي , قاله قتادة. الثاني: أنها مدينة ثمود , قاله ابن شهاب. الثالث: ما حكاه ابن جرير أن الحجر أرض بين الحجاز والشام. وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ في غزاة تبوك بالحجر , فقال: (هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله إلاّ رجلاً كان في حَرَم الله , منعه حرمُ الله من عذاب الله) . قيل: يا رسول الله من هو؟ قال: (أبو رغال) . قوله عز وجل: {وكانوا ينحتون مِنَ الجبال بيوتاً آمنين} فيه أربعة أوجه: أحدها: آمنين أن تسقط عليهم. الثاني: آمنين من الخراب. الثالث: آمنين من العذاب. الرابع: آمنين من الموت.(3/169)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم}(3/169)
قوله عز وجل: {فاصفح الصفح الجميل} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه الإعراض من غير جزع. الثاني: أنه صفح المنكر عليهم بكفرهم , المقيم على وعظهم , قاله ابن بحر. الثالث: أنه العفو عنهم بغير توبيخ ولا تعنيف. الرابع: أنه الرضا بغير عتاب , قاله علي بن أبي طالب. وفيه قولان: أحدهما: أنه أمر بالصفح عنهم في حق الله تعالى , ثم نسخ بالسيف , فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك , (لقد أتيتكم بالذبح , وبعثت بالحصاد ولم أبعث بالزراعة) قاله عكرمة ومجاهد. الثاني: أنه أمره بالصفح في حق نفسه فيما بينه وبينهم , قاله الحسن.(3/170)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
{ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين} قوله عز وجل: {ولقد آتيناك سبعاً مِن المثاني والقرآن العظيم} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن السبع المثاني هي الفاتحة , سميت بذلك لأنها تثنى كلما قرىء القرآن وصُلّي , قاله الربيع بن أنس وأبو العالية والحسن. وقيل: لأنها يثني فيها الرحمن الرحيم , ومنه قول الشاعر:
(نشدتكم بمنزل القرآن ... أمّ الكتاب السّبع من مثاني)
(ثُنِّين مِن آيٍ مِن القرآن ... والسبع سبع الطول الدواني)
الثاني: أنها السبع الطوَل: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس , قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد.(3/170)
قال ابن عباس: سميت المثاني لما تردد فيها من الأخبار والأمثال والعبر وقيل: لأنها قد تجاوزت المائة الأولى إلى المائة الثانية. قال جرير:
(جزى الله الفرزدق حين يمسي ... مضيعاً للمفصل والمثاني)
الثالث: أن المثاني القرآن كله , قاله الضحاك , ومنه قول صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(فقد كان نوراً ساطعاً يهتدى به ... يخص بتنزيل المثاني المعظم)
الرابع: أن المثاني معاني القرآن السبعة أمر ونهي وتبشير وإنذار وضرب أمثال وتعديد نعم وأنباء قرون , قاله زياد بن أبي مريم. الخامس: أنه سبع كرامات أكرمه الله بها , أولها الهدى ثم النبوة , ثم الرحمةِ ثم الشفقة ثم المودة ثم الألفة ثم السكينة وضم إليها القرآن العظيم , قاله جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما. قوله عز وجل: {لا تمدن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم} يعني ما متعناهم به من الأموال. وفي قوله: {أزواجاً منهم} ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم الأشباه , قاله مجاهد. الثاني: أنهم الأصناف قاله أبو بكر بن زياد. الثالث: أنهم الأغنياء , قاله ابن أبي نجيح. {ولا تحزن عليهم} فيه وجهان: أحدهما: لا تحزن عليهم بما أنعمت عليهم في دنياهم. الثاني: لا تحزن بما يصيرون إليه من كفرهم. {واخفض جناحك للمؤمنين} فيه وجهان: أحدهما: اخضع لهم , قاله سعيد بن جبير. الثاني: معناه أَلِنْ جانبك لهم , قال الشاعر:
(وحسبك فتيةٌ لزعيم قومٍ ... يمدّ على أخي سُقْم جَناحا)(3/171)
وروى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل به ضيف فلم يلق عنده أمراً يصلحه , فأرسل إلى رجل من اليهود يستسلف منه دقيقاً إلى هلال رجب، فقال: لا إلاّ برهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أما والله إني لأمينٌ في السماء وأمين في الأرض، ولو أسلفني أو باعني لأدّيتُ إليه) فنزلت عليه {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} .(3/172)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
{وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {كما أنزلنا على المقتسمين} فيهم سبعة أقاويل: أحدها: أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى اقتسموا القرآن فجعلوه أعضاءً أي أجزاءً فآمنوا ببعض منها وكفروا ببعض , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم أهل الكتاب اقتسموا القرآن استهزاءً به , فقال بعضهم: هذه السورة لي , وهذه السورة لك , فسموا مقتسمين , قاله عكرمة. الثالث: أنهم أهل الكتاب اقتسموا كتبهم , فآمن بعضهم ببعضها , وآمن آخرون منهم بما كفر به غيرهم وكفروا بما آمن به غيرهم , فسماهم الله تعالى مقتسمين , قاله مجاهد. الرابع: أنهم قوم صالح تقاسموا على قتله , فسموا مقتسمين , كما قال تعالى {قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله} [النمل: 49] قاله ابن زيد. الخامس: أنهم قوم من كفار قريش اقتسموا طرق مكة ليتلقوا الواردين إليها من القبائل فينفروهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون , حتى لا يؤمنوا به , فأنزل الله تعالى عليهم عذاباً فأهلكهم , قاله الفراء. السادس: أنهم قوم من كفار قريش قسموا كتاب الله , فجعلوا بعضه شعراً وبعضه كهانة وبعضه أساطير الأولين , قاله قتادة.(3/172)
السابع: أنهم قوم أقسموا أيماناً تحالفوا عليها , قاله الأخفش. وقيل إنهم العاص بن وائل وعبتة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث , وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج. قوله عز وجل: {الذين جعلوا القرآن عضين} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني فرقاً , فجعلوا بعضه شعراً , وبعضه سحراً , وبعضه كهانة , وبعضه أساطير الأولين , فجعلوه أعضاء كما يعضّى الجزور و {عضين} جمع عضو , مأخوذ من عضَّيت الشيء تعضية إذا فرقته كما قال رؤبة بن العجاج:
89 (وليس دينُ الله بالمعضى} 9
يعني بالمفرَّق , قاله ابن عباس والضحاك. الثاني: أن العضين جمع عضه وهو البهت , ومن قولهم: عضهتُ الرجل أعضهه عضهاً إذا بهتّه , لأنهم بهتوا كتاب الله تعالى فيما رموه به , قاله قتادة. ومنه قول الشاعر:
89 (إن العضيهة ليستْ فعل أحرار} 9
الثالث: أن العضين المستهزئون , لأنه لما ذكر في القرآن البعوض والذباب والنمل والعنكبوت قال أحدهم: أنا صاحب البعوض , وقال آخر: أنا صاحب الذباب وقال آخر: أنا صاحب النمل. وقال آخر: أنا صاحب العنكبوت , استهزاء منهم بالقرآن , قاله الشعبي والسدي. الرابع: أنه عنى بالعضه السحر , لأنهم جعلوا القرآن سحراً , قاله مجاهد , قال الشاعر:
89 (لك من عضائهن زمزمة} 9
يعني من سحرهن. وقال عكرمة: العضه السحر بلسان قريش يقولون للساحرة العاضهة , ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن العاضهة والمستعضهه , يعني الساحرة والمستسحرة.(3/173)
وفي اشتقاق العضين وجهان: أحدهما: أنه مشتق من الأعضاء , وهو قول عبيدة. الثاني: أنه مشتق من العضه وهو السحر , وهو قول الفراء. قوله عز وجل: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني عما كانوا يعبدون , قاله أبو العالية. الثاني: عما كانوا يعبدون , وماذا أجابوا المرسلين , رواه الربيع بن أنس.(3/174)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} قوله عز وجل: {فاصدع بما تؤمر} فيه ستة تأويلات: أحدها: فامضِ بما تؤمر , قاله ابن عباس. الثاني: معناه فاظهر بما تُؤمر , قاله الكلبي. قال الشاعر:
(ومَن صادعٌ بالحق يعدك ناطقٌ ... بتقوى ومَن إن قيل بالجوْر عيّرا)
الثالث: يعني إجهر بالقرآن في الصلاة , قاله مجاهد. الرابع: يعني أعلن بما يوحى إليك حتى تبلغهم , قاله ابن زيد. الخامس: معناه افرق بين الحق والباطل , قاله ابن عيسى. السادس: معناه فرق القول فيهم مجتمعين وفرادى , حكاه النقاش. وقال رؤية: ما في القرآن أعْرَبُ من قوله {فاصدع بما تؤمر} {وأعرض عن الجاهلين} فيه ثلاثة أوجه:(3/174)
أحدها: أنه منسوخ بقوله تعالى {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] قاله ابن عباس. الثاني: أعرض عن الاهتمام باستهزائهم. الثالث: معناه بالاستهانة بهم , قاله ابن بحر. ثم فيه وجهان: أحدهما: اصدع الحق بما تؤمر من اظهاره. الثاني: اصدع الباطل بما تؤمر من إبطاله. قوله تعالى: {إنّا كفيناكَ المستهزئينَ} وهم خمسة: الوليد بن المغيرة , والعاص بن وائل , وأبو زمعة , والأسود بن عبد يغوث , والحراث بن الطلاطلة. أهلكهم الله جميعاً قبل بدر لاتسهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبب هلاكهم ما حكاه مقسم وقتادة أن الوليد بن المغيرة ارتدى فعلق سهم بردائه , فذهب فجلس فقطع أكحله فنزف فمات. وأما العاص بن وائل فوطىء على شوكة , فتساقط لحمه عن عظامه , فمات , وأما أبو زمعة فعمى. وأما الأسود بن عبد يغوث فإنه أتى بغصن شوك فأصاب عينيه , فسالت حدقتاه على وجهه , فكان يقول: [دعا] عليّ محمد فاستجيب له , ودعوت عليه فاستجيب لي , دعا عليّ أن أعمى فعميت , ودعوت عليه أن يكون طريداً بيثرب , فكان كذلك , وأما الحارث بن الطلاطلة فإنه استسقى بطنه , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل [حين] نزل عليه بقوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين} (دع لي خالي) يعني الأسود بن الطلاطلة فقال له: كفيت. قوله عز وجل: {ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك} أي قلبك لأن الصدر محل القلب. {بما يقولون} يعني من الاستهزاء , وقيل من الكذب بالحق. {فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين} فيه وجهان:(3/175)
أحدهما: الخاضعين. الثاني: المصلين. {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} فيه وجهان: أحدهما: الحق الذي لا ريب فيه من نصرك على أعدائك , قاله شجرة. الثاني: الموت الذي لا محيد عنه , قاله الحسن ومجاهد وقتادة.(3/176)
سورة النحل
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر: وقال ابن عباس: هي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة وهي قوله {ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً} إلى قوله {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} نزلت بعد قتل حمزة بأحد. بسم الله الرحمن الرحيم(3/177)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
{أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون} قوله تعالى: {أتى أمرُ الله فلا تستعجلوهُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه بمعنى سيأتي أمر الله تعالى. الثاني: معناه دنا أمر الله تعالى. الثالث: أنه مستعمل على حقيقة إتيانه في ثبوته واستقراره. وفي {أمر} أربعة أقاويل: أحدها: أنه إنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو مسلم.(3/177)
الثاني: أنه فرائضه وأحكامه , قاله الضحاك. الثالث: أنه وعيد أهل الشرك ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قاله ابن جريج. الرابع: أنه القيامة , وهو قول الكلبي. وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لما نزلت: {أتى أمر الله} رفعوا رؤوسهم فنزل {فلا تستعجلوه} أي فلا تستعجلوا وقوعه. وحكى مقاتل بن سليمان أنه لما قرأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم {أتى أمر الله} نهض رسول الله خوفاً من حضورها حتى قرأ {فلا تستعجلوه} . ويحتمل وجهين: أحدهما: فلا تستعجلوا التكذيب فإنه لن يتأخر. الثاني: فلا تستعجلوا أن يتقدم قبل وقته , فإنه لن يتقدم.(3/178)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
{ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} قوله عز وجل: {ينزل الملائكة بالروحِ من أمره على من يشاء من عبادِهِ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أن الروح ها هنا الوحي , وهو النبوة , قاله ابن عباس. الثاني: أنه كلام الله تعالى وهو القرآن , قاله الربيع ابن أنس. الثالث: أنه بيان الحق الذي يجب اتباعه , قاله ابن عيسى. الرابع: أنها أرواح الخلق. قال مجاهد لا ينزل ملك إلا ومعه روح. الخامس: أن الروح الرحمة , قاله الحسن وقتادة. ويحتمل تأويلاً سادساً: أن يكون الروح الهداية , لأنها تحيا بها القلوب كما تحيي الروح الأبدان.(3/178)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
{خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم} قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان من نطفةٍ فإذا هو خصيم مبين} . الخصيم المحتج في الخصومة , والمبين هو المفصح عما في ضميره. وفي صفته بذلك ثلاثة أوجه: أحدها: تعريف قدرة الله تعالى في إخراجه من النطفة المهينة إلى أن صار بهذه الحال في البيان والمكنة. الثاني: ليعرفه نعم الله تعالى عليه في إخراجه إلى هذه الحال بعدما خلقه من نطفة مهينة. الثالث: يعرفه فاحش ما ارتكب من تضييع النعمة بالخصومة في الكفر , قاله الحسن. وذكر الكلبي أن هذه الآية نزلت في أُبي بن خلف الجمحي حين أخذ عظاماً نخرة فذراها وقال: أنُعادُ إذا صرنا هكذا. قوله عز وجل: {والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه اللباس , قاله ابن عباس. الثاني: ما ستدفىء به من أصوافها وأوبارها وأشعارها , قاله الحسن. الثالث: أن الدفء صغار أولادها التي لا تركب , حكاه الكلبي. {ومنافِعُ} فيها وجهان: أحدهما: النسل , قاله ابن عباس. الثاني: يعني الركوب والعمل. {ومنها تأكلون} يعني اللبن واللحم.(3/179)
قوله عز وجل: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الرواح من المراعي إلى الأفنية , والسراح انتشارها من الأفنية إلى المراعي. الثاني: أنه على عموم الأحوال في خروجها وعودها من مرعى أو عمل أو ركوب وفي الجمال بها وجهان: أحدهما: قول الحسن إذا رأوها: هذه نَعَمُ فلان , قاله السدي. الثاني: توجه الأنظار إليها , وهو محتمل. وقد قدم الرواح على السراح وإن كان بعده لتكامل درها ولأن النفس به أسَرُّ. {وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بِشِقِّ الأنفس} في البلد قولان: أحدهما: أنه مكة لأنها من بلاد الفلوات. الثاني: أنه محمول على العموم في كل بلد مسلكه على الظهر. {إلا بشق الأنفس} فيه وجهان: أحدهما: أنكم لولاها ما بلغتموه إلا بشق الأنفس. الثاني: أنكم مع ركوبها لا تبلغونه إلا بشق الأنفس , فكيف بكم لو لم تكن. وفي شق الأنفس وجهان: أحدهما: جهد النفس , مأخوذ من المشقة. الثاني: أن الشق النصف فكأنه يذهب بنصف النفس.(3/180)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
{والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} قوله تعالى: { ... ويخلق ما لا تعلمُون} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما لا تعلمون من الخلق , وهو قول الجمهور. الثاني: في عين تحت العرش، قاله ابن عباس.(3/180)
الثالث: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها أرض بيضاء مسيرة الشمس ثلاثين يوماً. مشحونة خلقاً لا يعلمون أن الله يعصى في الأرض , قالوا: يا رسول الله فأين إبليس عنهم؟ قال (لا يعلمون أن الله خلق إبليس) ثم تلا {ويخلق ما لا تعلمون} .(3/181)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
{وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون} {وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر} يحتمل وجهين: أحدهما: وعلى الله قصد الحق في الحكم بين عباده ومنهم جائر عن الحق في حكمه. الثاني: وعلى الله أن يهدي إلى قصد الحق في بيان السبيل , ومنهم جائر عن سبيل الحق , أي عادل عنه لا يهتدي إليه. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الأهواء المختلفة , قاله ابن عباس. الثاني: ملل الكفر.(3/181)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
{وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله(3/181)
ولعلكم تشكرون وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} قوله عز وجل: {وَتَرَى الفلك مواخِرَ فيه} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن المواخر المواقر , قاله الحسن. الثاني: أنها التي تجري فيه معترضة , قاله أبو صالح. الثالث: أنها تمخر الريح من السفن , قاله مجاهد: لأن المخر في كلامهم هبوب الريح. الرابع: أنها تجري بريح واحدة مقبلة ومدبرة , قاله قتادة. الخامس: أنها التي تشق الماء من عن يمين وشمال , لأن المخر في كلامهم شق الماء وتحريكه قاله ابن عيسى. {ولتبتغوا من فضله} يحتمل وجهين: أحدهما: بالتجارة فيه. الثاني: بما تستخرجون من حليته , وتأكلونه من لحومه. قوله عز وجل: {وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون} في العلامات ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها معالم الطريق بالنهار , وبالنجوم يهتدون بالليل , قاله ابن عباس. الثاني: أنها النجوم أيضاً لأن من النجوم ما يهتدي بها , قاله مجاهد وقتادة والنخعي. الثالث: أن العلامات الجبال. وفي {النجم} قولان:(3/182)
أحدهما: أنه جمع النجوم الثابتة , فعبر عنها بالنجم الواحد إشارة إلى الجنس. الثاني: أنه الجدي وحده لأنه أثبت النجوم كلها في مركزه. وفي المراد بالاهتداء بها قولان: أحدهما: أنه أراد الاهتداء بها في جميع الأسفار , قاله الجمهور. الثاني: أنه أراد الاهتداء به في القِبلة. قال ابن عباس: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {وبالنجم هم يهتدون} قال (هو الجدي يا ابن عباس عليه قبلتكم , وبه تهتدون في بركم وبحركم) . قوله عز وجل: {وإن تعدوا نعمة اللهِ لا تحصوها} فيه وجهان: أحدهما: لا تحفظوها , قال الكلبي. الثاني: لا تشكروها وهو مأثور. ويحتمل المقصود بهذا الكلام وجهين: أحدهما: أن يكون خارجاً مخرج الامتنان تكثيراً لنعمته أن تحصى. الثاني: أنه تكثير لشكره أن يؤدى. فعلى الوجه الأول يكون خارجاً مخرج الامتنان. وعلى الوجه الثاني خارجاً مخرج الغفران.(3/183)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
{والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين(3/183)
ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون} قوله عز وجل: {وَإذَا قيل لهم ماذا أنزل ربُّكم} يعني وإذا قيل لمن تقدم ذِكره ممن لا يؤمن بالآخرة وقلوبهم منكرة بالبعث. {مَّاذَا أنزل ربكم} يحتمل القائل ذلك لهم وجهين: أحدهما: أنه قول بعض لبعض , فعلى هذا يكون معناه ماذا نسب إلى إنزال ربكم , لأنهم منكرون لنزوله من ربهم. والوجه الثاني: أنه من قول المؤمنين لهم اختباراً لهم , فعلى هذا يكون محمولاً على حقيقة نزوله منه. {قالوا أساطير الأولين} وهذا جوابهم عما سئلوا عنه ويحتمل وجهين: أحدهما: أي أحاديث الأولين استرذالاً له واستهزاءَ به. الثاني: أنه مثل ما جاء به الأولون , تكذيباً له ولجميع الرسل.(3/184)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
{ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون} قوله عز وجل: {ليحملوا أوزارهم} أي أثقال كفرهم وتكذيبهم. {كاملة يوم القيامة} يحتمل وجهين: أحدهما: أنها لم تسقط بالتوبة. الثاني: أنها لم تخفف بالمصائب. {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علمٍ} يعني أنه قد اقترن بما حملوه من أوزارهم ما يتحملونه من أوزار من أضلوهم. ويحتمل وجهين: أحدهما: أن المضل يتحمل أوزار الضال بإغوائه. الثاني: أن الضال يتحمل أوزار المضل بنصرته وطاعته. ويحتمل قوله تعالى {بغير علمٍ} وجهين: أحدهما: بغير علم المضلّ بما دعا إليه.(3/184)
الثاني: بغير علم الضال بما أجاب إليه. ويحتمل المراد بالعلم وجهين: أحدهما: يعني أنهم يتحملون سوء أوزارهم لأنه تقليد بغير استدلال ولا شبهة. الثاني: أراد أنهم لا يعلمون بما تحملوه من أوزار الذين يضلونهم. {ألا ساءَ ما يزرون} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني أنهم يتحملون سوء أوزارهم. الثاني: معناه أنه يسوؤهم ما تحملوه من أوزارهم. فيكون على الوجه الأول معجلاً في الدنيا , وعلى الوجه الآخر مؤجلاً في الآخرة.(3/185)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
{قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين} قوله عز وجل: {قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد} فيه قولان: أحدهما: أنه هدم بنيانهم من قواعدها وهي الأساس. الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لاستئصالهم. {فخرّ عليهم السقف من فوقهم} فيه وجهان: أحدهما: فخرّ أعالي بيوتهم وهم تحتها , فلذلك قال {من فوقهم} وإن كنا نعلم أن السقف عال إلا أنه لا يكون فوقهم إذ لم يكونوا تحته , قاله قتادة. الثاني: يعني أن العذاب أتاهم من السماء التي هي فوقهم , قاله ابن عباس. وفي الذين خر عليهم السقف من فوقهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه النمرود بن كنعان وقومه حين أراد صعود السماء وبنى الصرح.(3/185)
فهدمه الله تعالى عليه , قاله ابن عباس وزيد بن أسلم. الثاني: أنه بختنصر وأصحابه , قاله بعض المفسرين. الثالث: يعني المقتسمين الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الحجر , قاله الكلبي.(3/186)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
{الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}(3/186)
قوله عز وجل: {. . ولدار الآخرة خيرٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الجنة خير من النار، وهذا وإن كان معلوماً فالمراد به تبشيرهم بالخلاص منها: الثاني: أنه أراد أن الآخرة خير من دار الدنيا، قاله الأكثرون. {ولنعم دار المتقين} فيه وجهان: أحدهما: ولنعم دار المتقين الآخرة. الثاني: ولنعم دار المتقين الدنيا، قال الحسن: لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة ودخول الجنة. قوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين} قيل معناه صالحين. ويحتمل طيبي الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله تعالى. ويحتمل - وجهاً ثالثاً - أن يكون وفاتهم وفاة طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم بخلاف ما تقبض عليه روح الكافر. {يقولون سلام عليكم} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون السلام عليكهم إنذاراً لهم بالوفاة. الثاني: أن يكون تبشيراً لهم بالجنة، لأن السلام أمان. {ادخلوا الجنة} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه أبشروا بدخول الجنة. الثاني: أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة. {بما كنتم تعملون} يعني في الدنيا من الصالحات.(3/187)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
{هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من(3/187)
دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون} قوله عز وجل: {والذين هاجروا في الله من بَعْدِ ما ظُلِموا} يعني من بعد ما ظلمهم أهل مكة حين أخرجوهم إلى الحبشة بعد العذاب والإبعاد. {لنبوئنهم في الدنيا حسنة} فيه أربعة أقاويل: أحدها: نزول المدينة , قاله ابن عباس والشعبي وقتادة. الثاني: الرزق الحسن , قاله مجاهد. الثالث: أنه النصر على عدوهم , قاله الضحاك. الرابع: أنه لسان صدق , حكاه ابن جرير. ويحتمل قولاً خامساً: أنه ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات.(3/188)
ويحتمل قولاً سادساً: أنه ما بقي لهم في الدنيا من الثناء , وما صار فيها لأولادهم من الشرف. وقال داود بن إبراهيم: نزلت هذه الآية في أبي جندل بن سهل , وقال الكلبي: نزلت في بلال وعمار وصهيب وخباب بن الأرتّ عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا في الدنيا , فلما خلوهم هاجروا إلى المدينة. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دفع إلى المهاجرين العطاء قال: هذا ما وعدكم الله في الدنيا , وما خولكم في الآخرة أكثر , ثم تلا عليهم هذه الآية:(3/189)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} قوله عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم} هذا خطابٌ لمشركي قريش. {فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن أهل الذكر العلماء بأخبار من سلف من القرون الخالية الذين يعلمون أن الله تعالى ما بعث رسولاً إلا من رجال الأمة , وما بعث إليهم ملكاً. الثاني: أنه عنى بأهل الذكر أهل الكتاب خاصة , قاله ابن عباس ومجاهد. الثالث: أنهم أهل القرآن , قاله ابن زيد. قوله تعالى: { ... وأنزلنا إليك الذِّكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم} تأويلان:(3/189)
أحدهما: أنه القرآن. الثاني: أنه العلم.(3/190)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم} قوله عز وجل: {أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين} فيه أربعة أوجه: أحدها: في إقبالهم وإدبارهم , قاله ابن بحر. الثاني: في اختلافهم , قاله ابن عباس. الثالث: بالليل والنهار , قاله ابن جريج. الرابع: في سفرهم. {أو يأخذهم على تخوفٍ} فيه ستة أوجه: أحدها: يعني على تنقص بأن يهلك واحد بعد واحد فيخافون الفناء , قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك. الثاني: على تقريع بما قدموه من ذنوبهم , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: على عجل , وهذا قول الليث. الرابع: أن يهلك القرية فتخاف القرية الأخرى , قاله الحسن. الخامس: أن يعاقبهم بالنقص من أموالهم وثمارهم , قاله الزجاج. {فإن ربكم لرءُوف رحيم} أي لا يعاجل بل يمهل.(3/190)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
{أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون}(3/190)
قوله عز وجل: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظِلالُهُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يرجع ظلالُه , لأن الفيء الرجوع , ولذلك كان اسماً للظل بعد الزوال لرجوعه. الثاني: معناه تميل ظلاله , قاله ابن عباس. الثالث: تدور ظلاله , قاله ابن قتيبة. الرابع: تتحول ظلاله , قاله مقاتل. {عن اليمين والشمائل} فيه وجهان: أحدهما: يعني تارة إلى جهة اليمين , وتارة إلى جهة الشمال , قاله ابن عباس. لأن الظل يتبع الشمس حيث دارت. الثاني: أن اليمين أول النهار , والشمال آخر النهار , قاله قتادة والضحاك. {سجداً لله} فيه ثلاث تأويلات: أحدهما: أن ظل كل شيء سجوده , قاله قتادة. الثاني: أن سجود الظلال سجود أشخاصها , قاله الضحاك. الثالث: أن سجود الظلال كسجود الأشخاص تسجد لله خاضعة , قاله الحسن. ومجاهد. وقال الحسن: أما ظلك فيسجد لله , وأما أنت فلا تسجد لله , فبئس والله ما صنعت. {وهم داخرون} أي صاغرون خاضعون , قال ذو الرمة:
(فلم يبق إلا داخرُ في مخيس ... ومنحجر في غير أرضك حُجر)
قوله عز وجل: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة} أما سجود ما في السموات فسجود خضوع وتعبد , وأما سجود ما في الأرض من دابة فيحتمل وجهين: أحدهما: أن سجوده خضوعه لله تعالى. الثاني: أن ظهور ما فيه من قدرة الله يوجب على العباد السجود لله سبحانه.(3/191)
وفي تخصيص الملائكة بالذكر , وإن دخلوا في جملة من في السموات والأرض وجهان: أحدهما: أنه خصهم بالذكر لاختصاصهم بشرف المنزلة فميزهم من الجملة بالذكر وإن دخلوا فيها. الثاني: لخروجهم من جملة من يدب , لما جعل الله تعالى لهم من الأجنحة فلم يدخلوا في الجملة , فلذلك ذكروا. وجواب ثالث: أن في الأرض ملائكة يكتبون أعمال العباد لم يدخلوا في جملة ملائكة السماء فلذلك أفردهم بالذكر. {وهم لا يستكبرون} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يستكبرون عن السجود لله تعالى. الثاني: لا يستكبرون عن الخضوع لقدرة الله. {يخافون رَبَّهم من فوقهم} فيه وجهان: أحدهما: يعني عذاب ربهم من فوقهم لأن العذاب ينزل من السماء. الثاني: يخافون قدرة الله التي هي فوق قدرتهم وهي في جميع الجهات. {ويفعلون ما يؤمرون} فيه وجهان: أحدهما: من العبادة , قاله ابن عباس. الثاني: من الانتقام من العصاة.(3/192)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون}(3/192)
قوله تعالى: { ... وله الدين واصباً} في {الدين} ها هنا قولان: أحدهما: أنه الإخلاص , قاله مجاهد. الثاني: أنه الطاعة , قاله ابن بحر. وفي قوله تعالى: {واصباً} أربعة تأويلات: أحدها: واجباً , قاله ابن عباس. الثاني: خالصاً , حكاه الفراء والكلبي. الثالث: مُتعِباً , والوصب: التعب والإعياء , قال الشاعر:
(لا يشتكي الساق مِن أين ولا وصَبٍ ... ولا يزال أمام القوم يقتَفِرُ)
الرابع: دائماً , قاله الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك , ومنه قوله تعالى {ولهم عذاب واصب} [الصافات: 9] أي دائم , وقال الدؤلي:
(لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... يوماً بذم الدهر أجمع واصبا)
قوله عز وجل: { ... ثم إذا مَسّكُم الضُّرُّ فإليه تجأرون} في {الضر} ها هنا ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه القحط , قاله مقاتل. الثاني: الفقر , قاله الكلبي. الثالث: السقم , قاله ابن عباس. {فإليه تجأرون} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: تضجون , قاله ابن قتيبة. الثاني: تستغيثون. الثالث: تضرعون بالدعاء , وهو في اللغة الصياح مأخوذ من جؤار الثور وهو صياحه.(3/193)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
{ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} قوله عز وجل: {وإذا بُشِّر أحَدُهُم بالأنثى ظلَّ وجهُهُ مسودّاً وهو كظيمٌ} في قوله {مسودّاً} ثلاثة أوجه: أحدها: مسود اللون , قاله الجمهور. الثاني: متغير اللون بسواد أو غيره , قاله مقاتل. الثالث: ان العرب تقول لكل من لقي مكروهاً قد اسودّ وجهه غماً وحزناً , قاله الزجاج. ومنه: سَوَّدْت وجه فلان , إذا سُؤتَه. {وهو كظيم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الكظيم الحزين , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الذي يكظم غيظه فلا يظهر , قاله الأخفش. الثالث: أنه المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من الفم , مأخوذ من الكظامة وهو سد فم القربة , قاله ابن عيسى. { ... أيمسكُهُ على هُونٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو الهوان بلغة قريش , قاله اليزيدي. الثاني: هو القليل بلغة تميم , قاله الفراء. الثالث: هو البلاء والمشقة , قاله الكسائي. قالت الخنساء:
(نهينُ النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها)(3/194)
{أم يدُسُّهُ في التراب} فيه وجهان: أحدهما: أنها الموءُودة التي تدس في التراب قتلاً لها. الثاني: أنه محمول على إخفائه عن الناس حتى لا يعرفوه كالمدسوس في التراب لخفائه عن الأبصار. وهو محتمل. قوله عز وجل: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} يحتمل وجهين: أحدهما: صفة السوء من الجهل والكفر. الثاني: وصفهم الله تعالى بالسوء من الصاحبة والولد. {ولله المَثلُ الأعلى} فيه وجهان: أحدهما: الصفة العليا بأنه خالق ورزاق وقادر ومُجازٍ. الثاني: الإخالص والتوحيد , قاله قتادة.(3/195)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
{ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون} قوله عز وجل: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} يعني في الدنيا بالانتقام لأنه يمهلهم في الأغلب من أحوالهم. {ما ترك عليها من دابّةٍ} يعني بهلاكهم بعذاب الاستئصال من أخذه لهم بظلمهم. {ولكن يؤخرهم إلى أجلٍ مسمى} فيه وجهان: أحدهما: إلى يوم القيامة. الثاني: تعجيله في الدنيا. فإن قيل: فكيف يعمهم بالهلاك مع أن فيهم مؤمناً ليس بظالم؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه يجعل هلاك الظالم انتقاماً وجزاء , وهلاك المؤمن معوضاً بثواب الآخرة.(3/195)
الثاني: ما ترك عليها من دابة من أهل الظلم. الثالث: يعني أنه لو أهلك الآباء بالكفر لم يكن الأبناء ولا نقطع النسل فلم يولد مؤمن. قوله عز وجل: {ويجعلون لله ما يكرهون} يعني من البنات. {وتصف ألسنتهم الكذب أنّ لهم الحُسنَى} فيه وجهان: أحدهما: أن لهم البنين مع جعلهم لله ما يكرهون من البنات , قاله مجاهد. الثاني: معناه أن لهم من الله الجزاء الحسن , قاله الزجاج. {لا جرم أن لهم النار} فيه أربعة أوجه: أحدهما: معناه حقاً أن لهم النار. الثاني: معناه قطعاً أن لهم النار. الثالث: اقتضى فعلهم أن لهم النار. الرابع: معناه بلى إن لهم النار , قاله ابن عباس. {وأنهم مفرطون} فيه خمسة تأويلات: أحدها: معناه منسيون , قاله مجاهد. الثاني: مضيّعون , قاله الحسن. الثالث: مبعدون في النار , قاله سعيد بن جبير. الرابع: متروكون في النار , قاله الضحاك. الخامس: مقدَّمون إلى النار , قاله قتادة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا فَرَطكم على الحوض) أي متقدمكم , وقال القطامي:
(فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجّل فرّاطٌ لوُرّادِ)
والفرّاط: المتقدمون في طلب الماء , والورّاد: المتأخرون. وقرأ نافع {مُفْرِطون} بكسر الراء وتخفيفها , ومعناه مسرفون في الذنوب , من الإفراط فيها.(3/196)
وقرأ الباقون من السبعة {مفرطون} أي معجلون إلى النار متروكون فيها. وقرأ أبو جعفر القارىء {مفَرِّطون} بكسر الراء وتشديدها , ومعناه من التفريط في الواجب.(3/197)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
{تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون} قوله عز وجل: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بُطونه} أي نبيح لكم شرب ما في بطونه , فعبر عن الإباحة بالسقي. {مِن بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً} فيه وجهان: أحدهما: خالصاً من الفرث والدم. الثاني: أن المراد من الخالص هنا الأبيض , قاله ابن بحر ومنه قول النابغة:
(يصونون أجساداً قديمها نعيمُها ... بخالصةِ الأردان خُضْر المناكب)
فخالصة الأردان أي بيض الأكمام , وخضر المناكب يعني من حمائل السيوف. {سائغاً للشاربين} فيه وجهان: أحدهما: حلال للشاربين. الثاني: معناه لا تعافه النفس. وقيل: إنه لا يغص أحد باللبن.(3/197)
قوله عز وجل: {ومن ثَمَرات النخيل والأعناب تتخذون منه سَكراً ورزقاً حسَناً} فيها أربعة تأويلات: أحدها: أن السكر الخمر , والرزق الحسن التمر والرطب والزبيب. وأنزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ثم حرمت من بعد. قال ابن عباس: السَّكر ما حرم من شرابه , والرزق الحسن ما حل من ثمرته , وبه قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ومن ذلك قول الأخطل:
(بئس الصُّحاة وبئس الشرب شربهم ... إذا جرى فيهم المزاءُ والسكُرُ)
والسكر: الخمر , والمزاء: نوع من النبيذ المسكر. واختلف من قال بهذا هل خرج مخرج الإباحة أو مخرج الخبر على وجهين: أحدهما: أنه خرج مخرج الإباحة ثم نسخ. قاله قتادة. الثاني: أنه خرج مخرج الخبر أنهم يتخذون ذلك وإن لم يحل , قاله ابن عباس. الثاني: أن السّكَر: النبيذ المسكر , والرزق الحسن التمر والزبيب , قاله الشعبي والسدي. وجعلها أهل العراق دليلاً على إباحة النبيذ. الثالث: أن السكر: الخل بلغة الحبشة , الرزق الحسن: الطعام. الرابع: أن السكر ما طعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب وهو الرزق الحسن , وبه قال أبو جعفر الطبري وأنشد قول الشاعر:
89 (وَجَعلت عيب الأكرمين سكرا} 9(3/198)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
{وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي(3/198)
من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} قوله عز وجل: {وأوحى ربك إلى النحل} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الوحي إليها هو إلهاماً , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: يعني أنه سخرها , حكاه ابن قتيبة. الثالث: أنه جعل ذلك في غرائزها بما يخفى مثله على غيرها , قاله الحسن. {أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشُون} فذكر بيوتها لما ألهمها وأودعه في غرائزها من صحة القسمة وحسن المنعة. {ومما يعرشون} فيه تأويلان: أحدهما: أنه الكرم , قاله ابن زيد. الثاني: ما يبنون , قاله أبو جعفر الطبري. {ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك} أي طرق ربك. {ذللاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: مذللة , قاله أبو جعفر الطبري. الثاني: مطيعة , قاله قتادة. الثالث: أي لا يتوعر عليها مكان تسلكه , قاله مجاهد. الرابع: أن الذلل من صفات النحل وأنها تنقاد وتذهب حيث شاء صاحبها لأنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا , قاله ابن زيد. {يخرج من بطونها شرابٌ} يعني العسل. {مختلف ألوانُهُ} لاختلاف أغذيتها. {فيه شفاءٌ للناس} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن ذلك عائد إلى القرآن، وأن في القرآن شفاء للناس أي بياناً للناس، قاله مجاهد.(3/199)
الثاني: أن ذلك عائد إلى الاعتبار بها أن فيه هدى للناس , قاله الضحاك. الثالث: أن ذلك عائد إلى العسل , وأن في العسل شفاء للناس , قاله ابن مسعود وقتادة. روى قتادة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فذكر أن أخاه اشتكى بطنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فاسق أخاك عسلاً) ثم جاء فقال: ما زاده إلا شدة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اذهب فاسق أخاك عسلاً) . ثم جاء فقال له: ما زاده إلا شدة , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فاسق أخاك عسلاً , صدق الله وكذب بطن أخيك , فسقاه فكأنه نشط من عِقال)(3/200)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
{والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير} قوله عز وجل: {ومنكم من يرد إلى أرذل العُمرِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أوضعه وأنقصة , قاله الجمهور. الثاني: أنه الهرم , قاله الكلبي. الثالث: ثمانون سنة , حكاه قطرب. الرابع: خمس وسبعون سنة , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. {لكيلا يعلم بعد عِلْمٍ شيئاً} يعني أنه يعود جاهلاً لا يعلم شيئاً كما كان في حال صغره. أو لأنه قد نسي ما كان يعلم , ولا يستفيد ما لا يعلم. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يكون معناه لكي لا يعمل بعد علم شيئاً , فعبر عن العمل(3/200)
بالعلم لافتقاره إليه , لأن تأثير الكبر في عمله أبلغ من تأثيره في علمه.(3/201)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
{والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون} قوله عز وجل: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه أغنى وأفقر , ووسّع وضيّق. الثاني: في القناعة والرغبة. الثالث: في العلم والجهل. قال الفضيل بن عياض: أجلُّ ما رزق الإنسان معرفة تدله على ربه , وعقل يدله على رشده. وفي التفضيل وجهان: أحدهما: أنه فضل السادة على العبيد , قاله ابن قتيبة ومن يرى أن التفضيل في المال. الثاني: أنه فضل الأحرار بعضهم على بعض , قاله الجمهور. {فما الذين فُضِّلُوا بِرادِّي رزقهم على ما ملكت أيمانُهم فهم فيه سواء} فيه وجهان: أحدهما: أن عبيدهم لما لم يشركوهم في أموالهم لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في ملكه , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة , وفي هذا دليل على أن العبد لا يملك. الثاني: أنهم وعبيدهم سواء في أن الله تعالى رزق جميعهم , وأنه لا يقدر أحد على رزق عبده إلا أن يرزقه الله تعالى إياه كما لا يقدر أن يرزق نفسه , حكاه ابن عيسى. {أفبنعمة الله يجحدون} وفيه وجهان: أحدهما: بما أنعم الله عليهم من فضله ورزقه ينكرون. الثاني: بما أنعم الله عليهم من حججه وهدايته يضلون.(3/201)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
{والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون} قوله عز وجل: {والّلهُ جَعَل لكُم مِن أنفسِكم أزواجاً} فيه وجهان: أحدهما: يعني جعل لكم من جنسكم مثلكم , فضرب المثل من أنفسكم , قاله ابن بحر. الثاني: يعني آدم خلق منه حوّاء , قاله الأكثرون. {وجعل لكم مِن أزواجكم بنين وحفدة} وفي الحفدة خمسة أقاويل: أحدها: أنهم الأصهار أختان الرجل على بناته , قاله ابن مسعود وأبو الضحى. وسعيد بن جبير وإبراهيم , ومنه قول الشاعر:
(ولو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حَفَدٌ مما يُعَدّث كثيرُ)
(ولكنها نفس عليَّ أبيّة ... عَيُوفٌ لأَصهارِ للئام قَذور)
الثاني: أنهم أولاد الأولاد , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم بنو امرأة الرجل من غيره , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الرابع: أنهم الأعوان , قاله الحسن. الخامس: أنهم الخدم , قاله مجاهد وقتادة وطاووس , ومنه قول جميل:
(حفد الولائدُ حولهم وأسلمت ... بأكفهن أزِمّةَ الأجمال)
وقال طرفة بن العبد:
(يحفدون الضيف في أبياتهم ... كرماً ذلك منهم غير ذل)
وأصل الحفد الإسراع , والحفدة جمع حافد , والحافد هو المسرع في العمل , ومنه قولهم في القنوت وإليك نسعى ونحفد , أي نسرع إلى العمل بطاعتك , منه قول الراعي:(3/202)
(كلفت مجهولها نوقاً ثمانية ... إذا الحداة على أكسائها حفدوا)
وذهب بعض العلماء في تفسير قوله تعالى {بنين وحفدة} البنين الصغار والحفدة الكبار. {ورزقكم من الطيبات} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من الفيىء والغنيمة. الثاني: من المباحات في البوادي. الثالث: ما أوتيه عفواً من غير طلب ولا تعب. {أفبالباطِل يؤمنون} فيه وجهان: أحدهما: بالأصنام. الثاني: يجحدون البعث والجزاء. {وبنعمة الله يكفرون} فيها وجهان: أحدهما: بالإسلام. الثاني: بما رزقهم الله تعالى من الحلال آفة من أصنامهم. حكاه الكلبي.(3/203)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
{ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} قوله عز وجل: {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء} فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يملك ما لم يؤذن وإن كان باقياً معه. الثاني: أن لسيده انتزاعه من يده وإن كان مالكاً له. {ومَن رزقناه مِنا رزقاً حسناً} يعني الحُرّ , وفيه وجهان: أحدهما: ملكه ما بيده. الثاني: تصرفه في الاكتساب على اختياره.(3/203)
وفي هذا المثل قولان: أحدهما: أنه مثل ضربه الله للكافر لأنه لا خير عنده , ومن رزقناه منا رزقاً حسناً هو المؤمن , لما عنده من الخير , وهذا معنى قول ابن عباس وقتادة. الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه والأوثان , لأنها لا تملك شيئاً , وإنهم عدلوا عن عبادة الله تعالى الذي يملك كل شيء , قاله مجاهد.(3/204)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
{وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم} قوله عز وجل: {وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكمُ لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأْتِ بخير هل يستوي هو ومن يأمُرُ بالعدل وهو على صراط مستقيم} اختلف المفسرون في المثل المضروب بهذه الآية على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه وللوثن , فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن , والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى , وهذا معنى قول قتادة. الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر , فالأبكم: الكافر , والذي يأمر بالعدل: المؤمن , قاله ابن عباس. الثالث: أن الأبكم: عبد كان لعثمان بن عفان رضي الله عنه كان يعرض عليه الإسلام فيأبى. ومن يأمر بالعدل: عثمان , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.(3/204)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
{ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}(3/204)
قوله عزوجل: {ولله غيب السموات والأرض} يحتمل خمسة أوجه: أحدها: ولله علم غيب السموات والأرض , لأنه المنفرد به دون خلقه. الثاني: أن المراد بالغيب إيجاد المعدومات وإعدام الموجودات. الثالث: يعني فعل ما كان وما يكون , وأما الكائن في الحال فمعلوم. الرابع: أن غيب السماء الجزاء بالثواب العقاب. وغيب الأرض القضاء بالأرزاق والآجال. {وما أمْرُ الساعة إلاَّ كلمح البصر أو هو أقرب} لأنه بمنزلة قوله: {كن فيكون} وإنما سماها ساعة لأنها جزء من يوم القيامة وأجزاء اليوم ساعاته. وذكر الكلبي ومقاتل: أن غيب السموات هو قيام الساعة. قال مقاتل: وسبب نزولها أن كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة استهزاء بها , فأنزل الله تعالى هذه الآية.(3/205)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
{والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون} قوله عز وجل: {والله جعل لكم مما خلق ظلالاً} فيه وجهان: أحدهما: البيوت , قاله الكلبي. الثاني: الشجر , قاله قتادة. {وجعل لكم من الجبال أكناناً} الأكنان: جمع كِنّ وهو الموضع الذي يستكن فيه، وفيه وجهان:(3/205)
أحدهما أنه ظل الجبال. الثاني: أنه ما فيها من غار أو شَرَف. {وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ} يعني ثياب القطن والكتان والصوف. {وسرابيل تقيكم بأسكم} يعني الدروع التي تقي البأس , وهي الحرب. قال الزجاج: كل ما لبس من قميص ودروع فهو سربال. فإن قيل: فكيف قال: {وجعل لكم من الجبال أكناناً} ولم يذكر السهل وقال {تقكيم الحر} ولم يذكر البرد؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أن القوم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل , وكانوا أهل حر ولم يكونوا أهل برد , فذكر لهم نعمه عليه مما هو مختص بهم , قاله عطاء. الثاني: أنه اكتفى بذكر احدهما عن ذكر الآخر , إذ كان معلوماً أن من اتخذ من الجبال أكناناً اتخذ من السهل , واسرابيل التي تقي الحر تقي البرد , قاله الفراء , ومثله قول الشاعر:
(وما أدري إذا يممتُ أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني.)
فكنى عن الشر ولم يذكره لأنه مدلول عليه. الثالث: أنه ذكر الجبال لأنه قدم ذكر السهل بقوله تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكناً} وذكر الحرَّ دون البرد تحذيراً من حر جهنم وتوقياً لاستحقاقها بالكف عن المعاصي. {كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون} أي تؤمنون بالله إذا عرفتم نعمه عليكم. وقرأ ابن عباس {لعلكم تسلمون} بفتح التاء أي تسلمون من الضرر , فاحتمل أن يكون عنى ضرر الحر والبرد واحتمل أن يكون ضرر القتال والقتل , واحتمل أن يريد ضرر العذاب في الآخرة إن اعتبرتم وآمنتم. قوله عز وجل: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} فيه خمسة تأويلات:(3/206)
أحدها: أنه عنى النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون نبوته ثم ينكرونها ويكذبونه، قاله السدي. الثاني: أنهم يعرفون منا عدد الله تعالى عليهم في هذه السورة من النعم وأنها من عند الله وينكرونها بقولهم أنهم ورثوا ذلك عن آبائهم , قاله مجاهد. الثالث: أن انكارها أن يقول الرجل: لولا فلان ما كان كذا وكذا ولولا فلانٌ ما أصبت كذا , قاله عون بن عبد الله. الرابع: أن معرفتهم بالنعمة إقرارهم بأن الله رزقهم , وإنكارهم قولهم: رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا. الخامس: يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها , وينكرونها بترك الشكر عليها. ويحتمل سادساً: يعرفونها في الشدة , وينكرونها في الرخاء. ويحتمل سابعاً يعرفونها بأقوالهم , وينكرونها بأفعالهم. قال الكلبي: هذه السورة تسمى سورة النعم , لما ذكر الله فيها من كثرة نعمه على خلقه. {وأكثرهم الكفارون} فيه وجهان: أحدهما: معناه وجميعهم كافرون , فعبر عن الجميع بالأكثر , وهذا معنى قول الحسن. الثاني: أنه قال {وأكثرهم الكافرون} لأن فيهم من جرى عليه حكم الكفر تبعاً لغيره كالصبيان والمجانين , فتوجه الذكر إلى المكلفين.(3/207)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
{ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون}(3/207)
قوله عز وجل: {وألقوا إلى الله يومئذ السلم} يحتمل وجهين: أحدهما: استسلامهم لعذابه , وخضوعهم لعزه. الثاني: إقرارهم بما كانوا ينكرون من طاعته. {وضَلَّ عنهم ما كانوا يفترون} يحتمل وجهين: أحدهما: وبطل ما كانوا يأملون. الثاني: خذلهم ما كانوا به يستنصرون. قوله عز وجل: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زِدناهُم عذاباً فوق العذاب} فيه وجهان: أحدهما: أن الزيادة هي عذاب الدنيا مع ما يستحق من عذاب الآخرة. الثاني: أن أحد العذابين على كفرهم , والعذاب الآخر على صدهم عن سبيل الله ومنعهم لغيرهم من الإيمان. {بما كانوا يفسدون} في الدنيا بالمعاصي.(3/208)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
{ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} قوله عز وجل: {ويوم نبعث في كل أمةٍ شهيداً عليهم من أنفسِهم} وهم الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة وفي كل زمان شهيد وإن لم يكن نبياً. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أئمة الهدى الذين هم خلفاء الأنبياء. الثاني: أنهم العلماء الذين حفظ الله بهم شرائع أنبيائه. {وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم شهيداً على أمته.(3/208)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}(3/208)
قوله عز وجل: {إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان ... } الآية. في تأويل هذه الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: أن العدل: شهادة أن لا إله إلا الله , والإحسان: الصبر على أمره ونهيه وطاعة الله في سره وجهره {وإيتاء ذي القربى} صلة الرحم , {وينهى عن الفحشاء} يعني الزنى , {والمنكر} القبائح. {والبغي} الكبر والظلم حكاه ابن جرير الطبري. الثاني: أن العدل: القضاء بالحق , والإحسان: التفضل بالإنعام , وإيتاء ذي القربى: ما يستحقونه من النفقات. وينهى عن الفحشاء ما يستسر بفعله من القبائح. والمنكر: ما يتظاهر به منها فينكر. والبغي: منا يتطاول به من ظلم وغيره , وهذا معنى ما ذكره ابن عيسى. الثالث: أن العدل ها هنا استواء السريرة والعلانية في العمل لله. والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء والمنكر: أن تكون علانيته أحسن من سريرته , قاله سفيان بن عيينة. فأمر بثلاث ونهى عن ثلاث. {يعظكم لعلكم تذكرون} يحتمل وجهين: أحدهما: تتذكرون ما أمركم به وما نهاكم عنه. الثاني: تتذكرون ما أعده من ثواب طاعته وعقاب معصيته.(3/209)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
{وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} قوله عز وجل: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أنه النذور.(3/209)
الثاني: ما عاهد الله عليه من عهد في طاعة الله. الثالث: أنه التزام أحكام الدين بعد الدخول فيه. {ولا تنقضوا الأيمان بَعْدَ توكيدها} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: لا تنقضوها بالامتناع بعد توكيدها بالالتزام. الثاني: لا تنقضوها بالعذر بعد توكيدها بالوفاء. الثالث: لا تنقضوها بالحنث بعد توكيدها بالِبّر. وفي هذه الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنها نزلت في الحلف الذي كان في الجاهلية بين أهل الشرك , فجاء الإسلام بالوفاء به. الثالث: أنها نزلت في كل عقد يمين عقده الإنسان على نفسه مختاراً يجب عليه الوفاء به ما لم تدع ضرورة إلى حله. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليأت الذي هو خير) محمول على الضرورة دون المباح. وأهل الحجاز يقولون. وكّدت هذه اليمين توكيداً , وأهل نجد يقولون أكدتها تأكيداً. قوله عز وجل: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً} وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن نقض عهده , وفيه قولان: أحدها: أنه عنى الحبْل , فعبر عنه بالغزل , قاله مجاهد. الثاني: أنه عنى الغزل حقيقة. {من بعد قوة} فيه قولان: أحدهما: من بعد إبرام. قاله قتادة.(3/210)
الثاني: أن القوة ما غزل على طاق ولم يثن. {أنكاثاً} يعني أنقاضاً , واحده نكث , وكل شيء نقض بعد الفتل أنكاثٌ. وقيل أن التي نقضت غزلها من بعد قوة امرأة بمكة حمقاء , قال الفراء: إنها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة , سميت جعدة لحمقها , كانت تغزل الصوف ثم تنقضه بعدما تبرمه , فلما كان هذا الفعل لو فعلتموه سفهاً تنكرونه كذلك نقض العهد الذي لا تنكرونه. {تتخذون أيمانكُمْ دَخَلاً بينكُمْ} فيه ستة تأويلات: أحدها: أن الدخل الغرور. الثاني: أن الدخل الخديعة. الثالث: أنه الغل والغش. الرابع: أن يكون داخل القلب من الغدر غير ما في الظاهر من لزوم الوفاء. الخامس: أنه الغدر والخيانة , قاله قتادة. السادس: أنه الحنث في الأيمان المؤكدة. {أن تكون أمة هي أربى من أمة} أن أكثر عدداً وأزيد مدداً , فتطلب بالكثرة أن تغدر بالأقل بأن تستبدل بعهد الأقل عهد الأكثر. وأربى: أفعل الربا , قال الشاعر:
(أسمر خطيّاً كأنّ كعوبه ... نوى القسب أو أربى ذراعاً على عشر)(3/211)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
{ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}(3/211)
قوله عز وجل: {ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ} فيه وجهان: أحدهما: يريد به أن الدنيا فانية , والآخرة باقية. الثاني: أن طاعتكم تفنى وثوابها يبقى.(3/212)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {مَن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينهُ حياةً طيبة} فيها خمسة تأويلات: أحدها: أنها الرزق الحلال , قاله ابن عباس. الثاني: أنها القناعة , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري. الثالث: أن يكون مؤمناً بالله عاملاً بطاعته , قاله الضحاك. الرابع: أنها السعادة , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الخامس: أنها الجنة , قاله مجاهد وقتادة. ويحتمل سادساً: أن تكون الحياة الطيبة العافية والكفاية. ويحتمل سابعاً: أنها الرضا بالقضاء. {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يجازى على أحسن الأعمال وهي الطاعة , دون المباح منها. الثاني: مضاعفة الجزاء وهو الأحسن , كما قال تعالى {من جاءَ بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] .(3/212)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} قوله عز وجل: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله تعالى، قاله الزجاج.(3/212)
الثاني: فإذا كنت قارئاً فاستعذ بالله. الثالث: أنه من المؤخر الذي معناه مقدم , وتقديره: فإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم فاقرأ القرآن. والاستعاذة هي استدفاع الأذى بالأعلى من وجه الخضوع والتذلل والمعنى فاستعذ بالله من وسوسة الشيطان عند قراءتك لتسلم في التلاوة من الزلل , وفي التأويل من الخطأ. وقد ذكرنا في صدر الكتاب معنى الرجيم. قوله عز وجل: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} فيه أربعة تأويلات: أحدها: ليس له قدرة على أن يحملهم على ذنب لا يغفر , قاله سفيان. الثاني: ليس له حجة على ما يدعوهم إليه من المعاصي , قاله مجاهد. الثالث: ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم باللَّه منه , لقوله تعالى {وإمّا ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [فصلت: 36] . الرابع: أنه ليس له عليهم سلطان بحال لأن الله تعالى صرف سلطانه عنهم حين قال عدو الله إبليس {ولأغوينهم أجميعن إلا عبادَك منهم المخلصين} [الحجر: 39 - 40] فقال الله تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42] وفي معنى السلطان وجهان: أحدهما: الحجة , ومنه سمي الوالي سلطاناً لأنه حجة الله تعالى في الأرض. الثاني: أنها القدرة , مأخوذ من السُّلْطَة , وكذلك سمي السلطان سلطاناً لقدرته. {إنما سلطانه على الذين يتولونه} يعني يتبعونه. {والذين هُمْ به مشركون} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: والذين هم بالله مشركون , قاله مجاهد. الثاني: والذين أشركوا الشيطان في أعمالهم , قاله الربيع بن أنس. الثالث: والذين هم لأجل الشيطان وطاعته مشركون , قاله ابن قتيبة.(3/213)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
{وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما(3/213)
أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} قوله عز وجل: {وإذا بدّلنا آيةً مكان آيةٍ} فيه وجهان: أحدهما: شريعة تقدمت بشريعة مستأنفة , قاله ابن بحر. الثاني: وهو قول الجمهور أي نسخنا آية بآية , إما نسخ الحكم والتلاوة وإما نسخ الحكم مع بقاء التلاوة. {والله أعلم بما ينزل} يعني أعلم بالمصلحة فيه ينزله ناسخاً ويرفعه منسوخاً. {قالوا إنما مفْتَرٍ} أي كاذب. {بل أكثرهم لا يعلمون} فيه وجهان: أحدهما: لا يعلمون جواز النسخ. الثاني: لا يعلمون سبب ورود النسخ.(3/214)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
{ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} قوله عز وجل: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمُه بشرٌ} اختلف في اسم من أراده المشركون فيما ذكروه من تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربعة أقاويل: أحدها: أنه بلعام وكان قيناً بمكة , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه يعلمه , فاتهمته قريش أنه كان يتعلم منه , قاله مجاهد. الثاني: أنه كان عبداً أعجمياً لامرأة بمكة، يقال له أبو فكيهة، كان يغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقرأ عليه ويتعلم منه، فقالوا لمولاته احبسيه فحبستْه، وقالت له: اكنس(3/214)
البيت وكل كناسته، ففعل وقال: والله ما أكلت أطيب منه ولا أحلى، وكان يسأل مولاته بعد ذلك أن تحبسه فلا تفعل. الثالث: أنهما غلامان لبني الحضرمي , وكانا من أهل عين التمر صيقلين يعملان السيوف اسم أحدها يسار , والآخر جبر , وكانا يقرآن التوراة , وكان رسول الله ربما جلس إليهما , قاله حصين بن عبد الله بن مسلم. الرابع: أنه سلمان الفارسي , قاله الضحاك. {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي} في يلحدون تأويلان: أحدهما: يميلون إليه. الثاني: يعترضون به , يعني أن لسان من نسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التعلم منه أعجمي. {وهذا لسانٌ عربيٌ مبين} يعني باللسان القرآن لأنه يقرأ باللسان , والعرب تقول: هذا لسان فلان , تريد كلامه , قال الشاعر:
(لسان السوء تهديها إلينا ... وخُنْتَ وما حسبتُك أن تخونا)(3/215)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
{من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} قوله عز وجل: {مَن كفر بالله من بعد إيمانه} ذكر الكلبي أنها نزلت في(3/215)
عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة وعبد الله بن خطل وقيس بن الوليد بن المغيرة , كفروا بعد إيمانهم ثم قال تعالى: {إلا من أُكره وقلبُه مطمئن بالإيمان} قال الكلبي: نزل ذلك في عمار بن ياسر وأبويه ياسر وسُمية وبلال وصهيب وخبّاب , أظهروا الكفر بالإكراه وقلوبهم مطمئنة بالإيمان. ثم قال تعالى: {ولكن من شرح بالكُفْر صدراً} وهم من تقدم ذكرهم , فإذا أكره على الكفر فأظهره بلسانه وهو معتقد الإيمان بقلبه ليدفع عن نفسه بما أظهر , ويحفظ دينه بما أضمر فهو على إيمانه , ولو لم يضمره لكان كافراً. وقال بعض المتكلمين: إنما يجوز للمكرَه إظهارُ الكفر عل وجه التعريض دون التصريح الباتّ. لقبح التصريح بالتكذيب وخطره في العرف والشرع , كقوله إن محمداً كاذب في اعتقادكم , أو يشير لغيره ممن يوافق اسمه لاسمه إذا عرف منه الكذب , وهذا لعمري أولى الأمرين , ولم يَصِرِ المكرَه بالتصريح كافر.(3/217)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
{ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون} قوله تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنةً مطمئنةً} يريد بالقرية أهلها {آمنة} يعني من الخوف. {مطمئنة} بالخصب والدعة. {يأتيها رِزقُها} فيه وجهان: أحدهما: أقواتها.(3/217)
الثاني: مرادها. {رغداً} فيه وجهان: أحدهما: طيباً. الثاني: هنيئاً. {من كُلِّ مكانٍ} يعني منها بالزراعة , ومن غيرها بالتجارة , ليكون اجتماع الأمرين لهم أوفر لسكنهم وأعم في النعمة عليها. {فكفرت بأنعم الله} يحتمل وجهين. أحدهما: بترك شكره وطاعته. الثاني: بأن لا يؤدوا حقها من مواساة الفقراء وإسعاف ذوي الحاجات. وفي هذه القرية التي ضربها الله تعالى مثلاً أقاويل: أحدها: أنها مكة , كان أمنها أن أهلها آمنون لا يتفاوزون كالبوادي. {فأذاقها اللهُ لباسَ الجوع والخوْف} وسماه لباساً لأنه قد يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس , وقيل إن القحط بلغ بهم إلى أن أكلوا القد والعلهز وهو الوبر يخلط بالدم , والقِد أديم يؤكل , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. الثاني: أنها المدينة آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم كفرت بأنعم الله بقتل عثمان بن عفان وما حدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بها من الفتن , وهذا قول عائشة وحفصة رضي الله عنهما. الثالث: أنه مثل مضروب بأي قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى.(3/218)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
{فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام(3/218)
لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} قوله عز وجل: {ثم إنّ ربّك للذين عملوا السُّوء بجهالةٍ} فيه وجهان: أحدها: بجهالة أنها سوء. الثاني: بجهالة لغلبة الشهوة عليهم مع العلم بأنها سوء. ويحتمل ثالثاً: أنه الذي يعجل بالإقدام عليها ويعد نفسه بالتوبة. {ثم تابوا مِنْ بعد ذلك وأصْلَحوا} لأنه مجرد التوبة من السالف إذا لم يصلح عمله في المستأنف لا يستحق ولا يستوجب الثواب.(3/219)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} قوله عز وجل: {إنّ إبراهيم كان أمّةً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يُعلّم الخير , قاله ابن مسعود وإبراهيم النخعي. قال زهير:
(فأكرمه الأقوام من كل معشر ... كرام فإن كذبتني فاسأل الأمم)
يعني العلماء. الثاني: أمة يقتدى به , قاله الضحاك. وسمي أمة لقيام الأمة به. الثالث: إمام يؤتم به , قاله الكسائي وأبو عبيدة. {قانتاً لله} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: مطيعاً لله , قاله ابن مسعود. الثاني: إن القانت هو الذي يدوم على العبادة لله. الثالث: كثير الدعاء لله عز وجل. {حنيفاً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: مخلص , قاله مقاتل. الثاني: حاجّا , قاله الكلبي. الثالث: أنه المستقيم على طريق الحق , حكاه ابن عيسى. {ولم يَكُ من المشركين} فيه وجهان: أحدهما: لم يك من المشركين بعبادة الأصنام. الثاني: لم يك يرى المنع والعطاء إلا من اللَّه. {وآتيناه في الدنيا حسنة} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن الحسنة النبوة , قاله الحسن. الثاني: لسان صدق , قاله مجاهد. الثالث: أن جميع أهل الأديان يتولونه ويرضونه , قاله قتادة. الرابع: أنها تنوية الله بذكره في الدنيا بطاعته لربه. حكاه ابن عيسى. ويحتمل خامساً: أنه بقاء ضيافته وزيارة الأمم لقبره. {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} فيه وجهان: أحدهما: في منازل الصالحين في الجنة. الثاني: من الرسل المقربين. قوله عز وجل: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً} فيه قولان: أحدهما: اتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه , وهذا قول بعض أصحاب الشافعي , وهذا دليل على جواز الأفضل للمفضول لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء. الثاني: اتباعه في التبرؤ من الأوثان والتدين بالإسلام , قاله أبو جعفر الطبري.(3/219)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
{إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} قوله عز وجل: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} وهم اليهود وفي اختلافهم في السبت ثلاثة أقاويل: أحدها: أن بعضهم جعله أعظم الأيام حُرْمَةً لأن الله فرغ من خلق الأشياء فيه. الثاني: أن بعضهم جعل الأحد أعظم حُرمة منه لأن الله ابتدأ خلق الأشياء فيه. الثالث: أنهم عدلوا عما أمروا به من تعظيم الجمعة تغليباً لحرمة السبت والأحد , قاله مجاهد وابن زيد.(3/220)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} قوله عز وجل: {ادعُ إلى سبيل ربِّك} يعني إلى دين ربك وهو الإسلام. {بالحكمة} فيها تأويلان: أحدهما: بالقرآن , قاله الكلبي. الثاني: بالنبوة , وهو محتمل. {والموعظة الحسنة} فيها تأويلان: أحدهما: بالقرآن في لين من القول , قاله الكلبي. الثاني: بما فيه من الأمر والنهي , قاله مقاتل. {وجادلْهُم بالتي هي أحسنُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني بالعفو. الثاني: بأن توقظ القلوب ولا تسفه العقول. الثالث: بأن ترشد الخلف ولا تذم السلف. الرابع: على قدر ما يحتملون. روى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم) .(3/220)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} قوله عز وجل: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُوقبتم به} فيها قولان: أحدهما: أنها نزلت في قتلى أحُد حين مثلت بهم قريش. واختلف قائل ذلك في نسخه على قولين: أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: {واصبر وما صبرك إلا بالله} الثاني: أنها ثابتة غير منسوخة فهذا أحد القولين. والقول الثاني: أنها نزلت في كل مظلوم ان يقتص من ظالمه , قاله ابن سيرين ومجاهد {واصبر} فيه وجهان: أحدهما: اصبر على ما أصابك من الأذى , وهو محتمل. الثاني: واصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا من المثلة بقتلى أُحد , قاله الكلبي. {وما صبر إلا بالله} يحتمل وجهين: أحدهما: وما صبر إلا بمعونة الله.(3/221)
الثاني: وما صبرك إلا لوجه الله. {ولا تحزن عليهم} فيه وجهان: أحدهما: إن لم يقبلوا. الثاني: إن لم يؤمنوا. {ولا تك في ضيقٍ مما يمكرون} قرأ بن كثير {ضيق} بالكسر وقرأ الباقون بالفتح. وفي الفرق بينهما قولان: أحدهما: أنه بالفتح ما قل , وبالكسر ما كثر , قاله أبو عبيدة. الثاني: أنه بالفتح ما كان في الصدر، وبالكسر ما كان في الموضع الذي يتسع ويضيق، قاله الفراء. قوله عز وجل: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} اتقوا يعني فيما حرم الله عليهم. والذين هم محسنون فيما فرضه الله تعالى، فجمع في هذه الآية اجتناب المعاصي وفعل الطاعات. وقوله: {مع الذين اتقوا} أي ناصر الذي اتقوا. وقال بعض أصحاب الخواطر: من اتقى الله في أفعاله أحْسَنَ إليه في أحواله، والله أعلم.(3/222)
سورة الإسراء(3/223)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} قوله عز وجل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} أما قوله {سبحان} ففيه تأويلان: أحدهما: تنزيه الله تعالى من السوء , وقيل بل نزه نفسه أن يكون لغيره في إسراء عبده تأثير. الثاني: معناه برأه الله تعالى من السوء , وقد قال الشاعر:
(أقول لمّا جاءني فَخْرُه ... سبحان مِنْ علقمةَ الفاخِر)
وهو ذكر تعظيم لله لا يصلح لغيره , وإنما ذكره الشاعر على طريق النادر، وهو(3/223)
من السبح في التعظيم وهو الجري فيه إلى أبعد الغايات. وذكر أبان بن ثعلبة أنها كلمة بالنبطية (شبهانك) . وقد ذكر الكلبي ومقاتل: إن {سبحان} في هذا الموضع بمعنى عجب , وتقدير الآية: عجب من الذي أسرى بعبده ليلاً , وقد وافق على هذا التأويل سيبويه وقطرب , وجعل البيت شاهداً عليه , وأن معناه عجبٌ من علقمة الفاخر. ووجه هذا التأويل أنه إذا كان مشاهدة العجب سبباً للتسبيح صار التسبيح تعجباً فقيل عجب , ومثله قول بشار:
(تلقي بتسبيحةٍ مِنْ حيثما انصرفت ... وتستفزُّ حشا الرائي بإرعاد)
وقد جاء التسبيح في الكلام على أربعة أوجه: أحدها: أن يستعمل في موضع الصلاة , من ذلك قوله تعالى: {فلولا أنه كان من المسبِّحينَ} [الصافات: 143] أي من المصلين. الثاني: أن يستعمل في الاستثناء , كما قال بعضهم في قوله تعالى: {ألم أقل لكم لولا تسبحون} [القلم: 28] أي لولا تستثنون. الثالث: النور , للخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (لأحرقت سبحات وجهه) أي نور وجهه. الرابع: التنزيه , روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التسبيح فقال: (تنزيه الله تعالى عن السوء) . وقوله تعالى: {أسرى بعبده} أي بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم , والسُّرى: سير الليل , قال الشاعر:
(وليلة ذا ندًى سَرَيت ... ولم يلتني مِنْ سُراها ليت)
وقوله {من المسجد الحرام} فيه قولان:(3/224)
أحدهما: يعني من الحرم , والحرم كله مسجد. وكان صلى الله عليه وسلم حين أُسرى به نائماً في بيت أم هانىء بنت أبي طالب , روى ذلك أبو صالح عن أم هانىء. الثاني: أنه أسرى به من المسجد , وفيه كان حين أسري به روى ذلك أنس بن مالك. ثم اختلفوا في كيفية إسرائه على قولين: أحدهما: أنه أسريَ بجسمه وروحه , روى ذلك ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان. واختلف قائلو ذلك هل دخل بيت المقدس وصلى فيه أم لا , فروى أبو هريرة أنه صلى فيه بالأنبياء , ثم عرج به إلى السماء , ثم رجع به إلى المسجد الحرام فصلى فيه صلاة الصبح من صبيحة ليلته. وروى حذيفة بن اليمان أنه لم يدخل بيت المقدس ولم يُصلّ فيه ولا نزل عن البراق حتى عرج به , ثم عاد إلى ملكه. والقول الثاني: أن النبي صلى الله عليه السلام أسري بروحه ولم يسر بجسمه , روى ذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما فُقِدَ جَسَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولكن الله أسرى بروحه. وروي عن معاوية قال: كانت رؤيا من الله تعالى صادقة , وكان الحسن(3/225)
يتأول قوله تعالى {وما جَعَلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنةً للناس} [الإسراء: 60] أنها في المعراج , لأن المشركين كذبوا ذلك وجعلوا يسألونه عن بيت المقدس وما رأى في طريقه فوصفه لهم , ثم ذكر لهم أنه رأى في طريقه قعباً مغطى مملوءاً ماء , فشرب الماء ثم غطاه كما كان , ثم ذكر لهم صفة إبل كانت لهم في طريق الشام تحمل متاعاً , وأنها تقدُم يوم كذا مع طلوع الشمس , يقدمها جمل أورق؛ فخرجوا في ذلك اليوم يستقبلونها , فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد أشرقت ولم تأت , وقال آخر: هذه والله العير يقدُمها جمل أورق كما قال محمد. وفي هذا دليل على صحة القول الأول أنه أسرى بجسمه وروحه. وقوله تعالى: {إلى المسجد الأقصى} يعني بيت المقدس , وهو مسجد سليمان بن داود عليهما السلام وسمي الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام. ثم قال تعالى: {الذي باركنا حوله} فيه قولان: أحدهما: يعني بالثمار ومجاري الأنهار. الثاني: بمن جعل حوله من الأنبياء والصالحين ولهذا جعله مقدساً. وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يقول الله تعالى: يا شام(3/226)
أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي) . {لنريه من آياتنا} فيه قولان: أحدهما: أن الآيات التي أراه في هذا المسرى أن أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة , وهي مسيرة شهر. الثاني: أنه أراه في هذا المسرى آيات. وفيها قولان: أحدهما: ما أراه من العجائب التي فيها اعتبار. الثاني: من أري من الأنبياء حتى وصفهم واحداً واحداً. {إنه هو السميع البصير} فيه وجهان: أحدهما: أنه وصف نفسه في هذه الحال بالسميع والبصير , وإن كانتا من صفاته اللازمة لذاته في الأحوال كلها لأنه حفظ رسوله عند إسرائه في ظلمة الليل فلا يضر ألا يبصر فيها , وسمع دعاءه فأجابه إلى ما سأل , فلهذين وصف الله نفسه بالسميع البصير. الثاني: أن قومه كذبوه عن آخرهم بإسرائه , فقال: السميع يعني لما يقولونه من تصديق أو تكذيب , البصير لما يفعله من الإسراء والمعراج.(3/227)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
{وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا} قوله عز وجل: {وآتينا موسى الكتاب} يعني التوراة. {وجعلناه هدًى لبني إسرائيل} يحتمل وجهين: أحدهما: أن موسى هدى لبني إسرائيل. الثاني: أن الكتاب هدى لبني إسرائيل. {ألاّ تتخذوا من دوني وكيلاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: شريكاً , قاله مجاهد. الثاني: يعني ربّاً يتوكلون عليه في أمورهم، قاله الكلبي. الثالث: كفيلاً بأمورهم، حكاه الفراء.(3/227)
قوله عز وجل: {ذرية من حملنا مع نوح} يعني موسى وقومه من بني إسرائيل ذرية من حملهم الله تعالى مع نوح في السفينة وقت الطوفان. {إنّه كان عبداً شكوراً} يعني نوحاً , وفيه قولان: أحدهما: أنه سماه شكوراً لأنه كان يحمد الله تعالى على طعامه , قاله سلمان. الثاني: أنه كان يستجد ثوباً إلا حمد الله تعالى عند لباسه , قاله قتادة. ويحتمل وجهين: أحدهما: أن نوحاً كان عبداً شكوراً فجعل الله تعالى موسى من ذريته. الثاني: أن موسى كان عبداً شكوراً إذ جعله تعالى من ذرية نوح.(3/228)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} . معنى قضينا ها هنا: أخبرنا. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن معناه حكمنا , قاله قتادة. ومعنى قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل} أي قضينا عليهم. {لتفسدن في الأرض مرتين} الفاسد الذي فعلوه قتلهم للناس ظلماً وتغلبهم على أموالهم قهراً , وإخراب ديارهم بغياً. وفيمن قتلوه من الأنبياء في الفساد الأول قولان:(3/228)
أحدهما: أنه زكريا قاله ابن عباس. الثاني: أنه شعياً , قاله ابن إسحاق , وأن زكريا مات حتف أنفه. أما المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني فيحيى بن زكريا في قول الجميع قال مقاتل: وإن كان بينهما مائتا سنة وعشر. {فإذا جاء وعْد أولاهما} يعني أولى المرتين من فسادهم. {بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديدٍ} في قوله بعثنا وجهان: أحدهما: خلينا بينكم وبينهم خذلاناً لكم بظلمكم , قاله الحسن. الثاني: أمرنا بقتالكم انتقاماً منكم. وفي المبعوث عليهم في هذه المرة الأولى خمسة أقاويل: أحدها: جالوت وكان ملكهم طالوت إلى أن قتله داود عليه السلام , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: أنه بختنصر , وهو قول سعيد بن المسيب. الثالث: أنه سنحاريب , قاله سعيد بن جبير. الرابع: أنهم العمالقة وكانوا كفاراً , قاله الحسن. الخامس: أنهم كانوا قوماً من أهل فارس يتجسسون أخبارهم , وهو قول مجاهد. { ... فجاسوا خلال الديار} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعني مشوا وترددوا بين الدور والمساكن , قال ابن عباس وهو أبلغ في القهر. الثاني: معناه فداسوا خلال الديار , ومنه قول الشاعر:
89 (إِلَيْكَ جُسْتُ اللَّيْلَ بِالمَطِيِّ} 9
الثالث: معناه فقتولهم بين الدور والمساكن , ومنه قول حسان بن ثابت:
(ومِنَّا الَّذِي لاقَى بِسَيْفِ مُحَمَّدٍ ... فَجَاس بهِ الأَعْدَاءَ عَرْضَ العَسَاكر)(3/229)
الرابع: معناه فتشوا وطلبوا خلال الديار , قاله أبو عبيدة. الخامس: معناه نزلوا خلال الديار , قاله قطرب , ومنه قول الشاعر:
(فَجُسنا ديارهم عَنْوَةً ... وأبنا بساداتهم موثَقينا)
قوله عز وجل: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} يعني الظفر بهم , وفي كيفية ذلك ثلاثة أقاويل: أحدها: أن بني إسرائيل غزوا ملك بابل واستنقذوا ما فيه يديه من الأسرى والأموال. الثاني: أن ملك بابل أطلق من في يده من الأسرى , وردّ ما في يده من الأموال. الثالث: أنه كان بقتل جالوت حين قتله داود. {وأمددناكم بأموالٍ وبنين} بتجديد النعمة عليهم. {وجعلناكم أكثر نفيراً} فيه وجهان: أحدهما: أكثر عزاً وجاهاً منهم. الثاني: أكثر عدداً , وكثرة العدد تنفر عدوهم منهم , قال تُبع بن بكر:
(فأكرِم بقحْطَانَ مِن وَالِدٍ ... وحِمْيَرَ أَكْرِم بقَوْمٍ نَفِيراً)
قال قتادة: فكانوا بها مائتي سنة وعشر سنين , وبعث فيهم أنبياء. قوله عز وجل: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} لأن الجزاء بالثواب يعود إليها , فصار ذلك إحساناً لها. {وإن أسأتُم فلها} أي فإليها ترجع الإساءة لما يتوجه إليها من العقاب , فرغَّب في الإحسان وحذر من الإساءة. ثم قال تعالى: {فإذا جاءَ وعْدُ الآخرة ليسوءُوا وجُوهكم} يعني وعد المقابلة على فسادهم في المرة الثانية. وفيمن جاءهم فيها قولان: أحدهما: بختنصّر، قاله مجاهد.(3/230)
الثاني: أنه انطياخوس الرومي ملك أرض نينوى، وهو قول مقاتل، وقيل إنه قتل منهم مائة ألف وثمانين ألفاً، وحرق التوراة وأخرب بيت المقدس , ولم يزل على خرابه حتى بناه المسلمون. {وليدخلوا المسجد كما دَخلوه أوّل مرّة} يعني بيت المقدس. {وليتبروا ما علوا تتبيراً} فيه تأويلان: أحدهما: أنه الهلاك والدمار. الثاني: أنه الهدم والإخراب , قاله قطرب , ومنه قول لبيد:
(وما النَّاسُ إلا عَامِلان فَعَامِلٌ ... يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وَآخَرُ رَافِعٌ)
)
قوله عز وجل: {عسى ربُّكم أن يرحمكم} يعني مما حل بكم من الانتقام منكم. {وإن عدتم عدنا} فيه تأويلان: أحدهما: إن عدتم إلى الإساءة عدنا إلى الانتقام , فعادوا. قال ابن عباس وقتادة: فبعث الله عليهم المؤمنين يذلونهم بالجزية والمحاربة إلى يوم القيامة. الثاني: إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى القبول , قاله بعض الصالحين. {وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً} فيه تأويلان: أحدهما: يعني فراشاً ومهاداً , قاله الحسن: مأخوذ من الحصير المفترش. الثاني: حبساً يحبسون فيه , قاله قتادة , مأخوذ من الحصر وهو الحبس. والعرب تسمي الملك حصيراً لأنه بالحجاب محصور , قال لبيد:
(ومقامَةِ غُلْبِ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ ... جِنٌّ لَدَى بَابِ الحَصِير قِيَامُ)(3/231)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما} قوله عز وجل: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} فيها تأويلان:(3/231)
أحدهما: شهادة أن لا إله إلا الله , قاله الكلبي والفراء. الثاني: ما تضمه من الأوامر والنواهي التي هي أصوب , قاله مقاتل.(3/232)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
{ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا} قوله عز وجل: {ويدعو الإنسان بالشر دُعاءَه بالخير} فيه وجهان من التأويل: أحدها: أن يطلب النفع في العاجل بالضر العائد عليه في الآجل. الثاني: أن يدعوا أحدهم على نفسه أو ولده بالهلاك , ولو استجاب دعاءه بهذا الشر كما استجاب له بالخير لهلك. {وكان الإنسان عجولاً} فيه تأويلان: أحدهما: عجولاً في الدعاء على نفسه وولده وما يخصه , وهذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد. الثاني: أنه عنى آدم حين نفخ فيه الروح , حتى بلغت إلى سُرّته فأراد أن ينهض عجلاً , وهذا قول إبراهيم والضحاك.(3/232)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
{وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا} قوله عز وجل: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل} فيه قولان: أحدهما: أنها ظلمة الليل التي لا نبصر فيها الطرقات كما لا نبصر ما محي من الكتاب , وهذا من أحسن البلاغة , وهو معنى قول ابن عباس. الثاني: أنها اللطخة السوداء التي في القمر , وهذا قول علي وقتادة ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيميز به الليل من النهار. {وجعلنا آية النهار مبصرة} فيه قولان: أحدهما: أنها الشمس مضيئة للأبصار. الثاني: موقظة.(3/232)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
{وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} قوله عز وجل: {وكل إنسان ألزمنا طائره في عنقه} فيه قولان: أحدهما: ألزمناه عمله من خير أو شر مثل ما كانت العرب تقوله سوانح الطير وبوارحه , والسانح: الطائر يمر ذات اليمين وهو فأل خير , والبارح: الطائر يمر ذات الشمال وهو فأل شر , وأضيف إلى العنق. الثاني: أن طائره حظه ونصيبه , من قول العرب: طار سهم فلان إذا خرج سهمه ونصيبه منه , قاله أبو عبيدة. {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً} يعني كتاب طائره الذي في عنقه من خير أو شر. ويحتمل نشر كتابه الذي يلقاه وجهين: أحدهما: تعجيلاً للبشرى بالحسنة , والتوبيخ بالسيئة. الثاني: إظهار عمله من خير أو شر. {اقرأ كتابك} يحتمل وجهين: أحدهما: لما في قراءته من زيادة التقريع والتوبيخ. والثاني: ليكون إقراره بقراءته على نفسه. {كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} فيه قولان: أحدهما: يعني شاهداً. والثاني: يعني حاكماً بعملك من خير أو شر. ولقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك بعملك.(3/233)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} قوله عز وجل: {مَن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} يعني لما يحصل له من ثواب طاعته. {ومَن ضلّ فإنما يضل عليها} يعني لما يحصل عليه من عقاب معصيته. {ولا تزر وازِرةٌ وزر أخرى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. الثاني: لا يجوز لأحد أن يعصى لمعصية غيره. الثالث: لا يأثم أحد بإثم غيره. ويحتمل رابعاً: أن لا يتحمل أحد ذنب غيره ويسقط مأثمه عن فاعله. {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} فيه وجهان: أحدهما: وما كنا معذبين على الشرائع الدينية حتى نبعث رسولاً مبيناً , وهذا قول من زعم أن العقل تقدم الشرع. الثاني: وما كنا معذبين على شيء من المعاصي حتى نبعث رسولاً داعياً , وهذا قول من زعم أن العقل والشرع جاءا معاً. وفي العذاب وجهان: أحدهما: عذاب الآخرة. وهو ظاهر قول قتادة. الثاني: عذاب بالاستئصال في الدنيا، وهو قول مقاتل.(3/234)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
{وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} قوله عز وجل: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها. .} الآية في قوله {وإذا أردنا أن نهلك قرية} ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه إذا أردنا أن نحكم بهلاك قرية. والثاني: معناه وإذا أهلكنا قرية , وقوله {أردنا} صلة زائدة كهي في قوله تعالى: {جداراً يريد أن ينقض} [الكهف: 77] الثالث: أنه أراد بهلاك القرية فناء خيارها وبقاء شرارها. {أمرنا مترفيها} الذي عليه الأئمة السبعة من القراء أن أمرنا مقصور مخفف , وفيه وجهان: أحدهما: أمرنا متفريها بالطاعة , لأن الله تعالى لا يأمر إلا بها , {ففسقوا فيها} أي فعصوا بالمخالفة , قاله ابن عباس. الثاني: معناه: بعثنا مستكبريها , قاله هارون , وهي في قراءة أبيِّ: بعثنا أكابر مجرميها. وفي قراءة ثانية {أمّرنا مترفيها} بتشديد الميم , ومعناه جعلناهم أمراء مسلطين , قاله أبو عثمان النهدي. وفي قراءة ثالثة {آمَرْنا مُترفيها} ممدود , ومعناه أكثرنا عددهم , من قولهم آمر(3/235)
القوم إذا كثروا , لأنهم مع الكثرة يحتاجون إلى أمير يأمرهم وينهاهم , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (خير المال مهرة أو سُكة مأبورة) أي كثيرة النسل , وقال لبيد:
(إن يغبطوا يهبطوا وإن أمِروا ... يوماً يصيروا إلى الإهلاك والنكد)
وهذا قول الحسن وقتادة. وفي {مترفيها} ثلاثة تأويلات: أحدها جباروها , قاله السن. الثاني: رؤساؤها , قاله علي بن عيسى. الثالث: فساقها , قاله مجاهد.(3/236)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
{وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} قوله عز وجل: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نُوح} واختلفوا في مدة القرن على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مائة وعشرون سنة , قاله عبد الله بن أبي أوفى. الثاني: أنه مائة سنة , قاله عبد الله بن بُسْر المازني.(3/236)
الثالث: أنه أربعون سنة , روى ذلك محمد بن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم.(3/237)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
{كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} قوله عز وجل: {كُلاًّ نُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربِّكَ} يعني البر والفاجر من عطاء ربك في الدنيا دون الآخرة. {وما كان عطاء ربك محظوراً} فيه تأويلان: أحدهما: منقوصاً , قاله قتادة. الثاني: ممنوعاً , قاله ابن عباس.(3/237)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
{لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} قوله عز وجل: {وقضى ربُّك ألاّ تبعدوا إلاّ إياه} معناه وأمر ربك , قاله ابن عباس والحسن وقتادة. وكان ابن مسعود وأبيّ بن كعب يقرآن {ووصى ربك} قاله الضحاك , وكانت في المصحف: {ووصى ربك} لكن ألصق الكاتب الواو فصارت {وقضى ربك} .(3/237)
{وبالوالدين أحساناً} معناه ووصى بالوالدين إحساناً , يعني أن يحسن إليهما بالبر بهما في الفعل والقول. {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} فيه وجهان: أحدهما: يبلغن كبرك وكما عقلك. الثاني: يبلغان كبرهما بالضعف والهرم. {فلا تقل لهما أفٍّ} يعني حين ترى منهما الأذى وتميط عنهما الخلا , وتزيل عنهما القذى فلا تضجر , كما كانا يميطانه عنك وأنت صغير من غير ضجر. وفي تأويل {أف} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كل ما غلظ من الكلام وقبح , قاله مقاتل. الثاني: أنه استقذار الشيء وتغير الرائحة , قاله الكلبي. الثالث: أنها كلمة تدل على التبرم والضجر , خرجت مخرج الأصوات المحكية. والعرب أف وتف , فالأف وسخ الأظفار , والتُّف ما رفعته من الأرض بيدك من شيء حقير. {وقل لهما قولاً كريماً} فيه وجهان: أحدهما: ليناً. والآخر: حسناً. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية والآية التي بعدها في سعد بن أبي وقاص.(3/238)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
{ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا} قوله عز وجل: { ... إنه كان للأوّابين غفوراً} فيهم خمسة أقاويل: أحدها: أنهم المحسنون، وهذا قول قتادة.(3/238)
والثاني: أنهم الذين يصلّون بين المغرب والعشاء، وهذا قول ابن المنكدر يرفعه. الثالث: هم الذي يصلون الضحى، وهذا قول عون العقيلي. والرابع: أنه الراجع عن ذنبه الذي يتوب، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد. والخامس: أنه الذي يتوب مرة بعد مرة، وكلما أذنب بادر بالتوبة وهذا قول سعيد بن المسيب.(3/239)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
{وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} قوله عز وجل: {وإما تعرضَنَّ عنهم ابتغاء رحمةٍ من ربّك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً} فيه تأويلان: أحدهما: معناه إذا أعرضت عمن سألك ممن تقدم ذكره لتعذره عندك {ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} أي انتظاراً للزرق منه {فقل لهم قولاً ميسوراً} أي عِدْهم خيراً ورد عليهم رداً جميلاً , وهذا قول الحسن ومجاهد. الثاني: معناه إذا أعرضت عمن سألك حذراً أن ينفقه في معصية فمنعته ابتغاء رحمة له فقل لهم قولاً ميسوراً , أي ليناً سهلاً , وهذا قول ابن زيد.(3/239)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا} قوله عز وجل: {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} أي ويقتر ويقلل. {إنه كان بعباده خبيراً بصيراً} يحتمل وجهين: أحدهما: خبيراً بمصالحهم بصيراً بأمورهم. والثاني: خبيراً بما أضمروا بصيراً بما عملوا.(3/239)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
{ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} قوله عز وجل: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ} يعني وأد البنات أحياء خيفة الفقر. {نحن نرزقهم وإياكُم إنّ قتلهم كان خطئاً كبيراً} والخِطءُ العدول عن الصواب بعمد , والخطأ العدول عنه بسهو , فهذا الفرق بين الخِطْءِ والخطأ , وقد قال الشاعر:
(الخِطْءُ فاحشةٌ والبِرُّ نافِلةٌ ... كعَجْوةٍ غرسَتْ في الأرض تؤتَبرُ)
الثاني: أن الخطء ما كان إثماً , والخطأ ما لا إثم فيه , وقرأ الحسن خطاء بالمد.(3/240)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} قوله عز وجل: {ولا تقتلوا النفس التي حَرَّم الله إلاَّ بالحق} يعني إلا بما تستحق به القتل. {ومَن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه القود , قاله قتادة. الثاني: أنه الخيار بين القود أو الدية أو العفو , وهذا قول ابن عباس والضحاك. الثالث: فقد جعلنا لوليه سلطاناً ينصره وينصفه في حقه. {فلا يُسْرِف في القَتل} فيه قولان: أحدهما: فلا يسرف القاتل الأول في القتل تعدياً وظلماً , إن وليّ المقتول كان منصوراً , قاله مجاهد. الثاني: فلا يسرف وليّ المقتول في القتل.(3/240)
وفي إسرافه أربعة أوجه: أحدها: أن يقتل غير قاتله , وهذا قول طلق بن حبيب. الثاني: أن يمثل إذا اقتص , قاله ابن عباس. الثالث: أن يقتل بعد أخذ الدية , قاله يحيى. الرابع: أن يقتل جماعة بواحد , قاله سعيد بن جبير وداود. {إنه كان منصوراً} فيه وجهان: أحدهما: أن الولي كان منصوراً بتمكينة من القود , قاله قتادة. الثاني: أن المقتول كان منصوراً بقتل قاتله , قاله مجاهد.(3/241)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا} قوله عز وجل: {ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن} وإنما خص اليتيم بالذكر لأنه إلى ذلك أحوج , والطمع في ماله أكثر. وفي قوله {إلاّ بالتي هي أحسن} قولان: أحدهما: حفظ أصوله وتثمير فروعه , وهو محتمل. الثاني: أن التي هي أحسن التجارة له بماله. {حتى يَبْلُغَ أَشدَّه} وفي الأشد وجهان: أحدهما: أنه القوة. الثاني: المنتهى. وفي زمانه ها هنا قولان: أحدهما: ثماني عشرة سنة. والثاني: الاحتلام مع سلامة العقل وإيناس الرشد. {وأوفوا بالعهد} فيه ثلاثة تأويلات:(3/241)
أحدها: أنها العقود التي تنعقد بين متعاقدين يلزمهم الوفاء بها , وهذا قول أبي جعفر الطبري. الثاني: أنه العهد في الوصية بمال اليتيم يلزم الوفاء به. الثالث: أنه كل ما أمر الله تعالى به أو نهى فهو من العهد الذي يلزم الوفاء به. {إن العهد كان مسئولاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن العهد كان مطلوباً , قاله السدي. الثاني: أن العهد كان مسئولا عنه الذي عهد به , فيكون ناقض العهد هو المسئول. الثالث: أن العهد نفسه هو المسئول بم نقِضت , كما تُسأل الموءُودة بأي ذنب قتلت. قوله عز وجل: { ... وزنُوا بالقسطاس المستقيم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه القبان. قاله الحسن. الثاني: أنه الميزان صغر أو كبر , وهذا قول الزجاج. الثالث: هو العدل. واختلف من قال بهذا على قولين: أحدهما: أنه رومي , قاله مجاهد. الثاني: أنه عربي مشتق من القسط , قاله ابن درستويه. {ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً} فيه وجهان: أحدهما: أحسن باطناً فيكون الخير ما ظهر , وحسن التأويل ما بطن. الثاني: أحسن عقابة , تأويل الشيء عاقبته.(3/242)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
{ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}(3/242)
قوله عز وجل: {ولا تقف ما ليس لك به عِلْمٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه لا تقل ما ليس لك به علم فلا تقل رأيت , ولم تر , ولا سمعت , ولم تسمع , ولا علمت ولم تعلم. وهذا قول قتادة. الثاني: معناه ولا ترم أحد بما ليس لك به علم , وهذا قول ابن عباس. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن بني النضر كنانة لا نقْفُو أمنا ولا ننتفي من أبينا) . الثالث: أنه من القيافة وهو اتباع الأثر , وكأنه يتبع قفا المتقدم , قال الشاعر:
(ومِثْلُ الدُّمى شُمُّ العَرَنِينِ سَاكِنٌ ... بِهِنَّ الْحَيَاءُ لا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا)
أي التقاذف. {إن السمع والبصر والفؤاد كلُّ أُولئك كان عنه مسئولاً} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الإنسان هو المسئول عن السمع والبصر والفؤاد لأنه يعمل بها إلى الطاعة والمعصية. الثاني: أن السمع والبصر والفؤاد تُسأل عن الإنسان ليكونوا شهوداً عليه، وله، بما فعل من طاعة وما ارتكب من معصية , ويجوز أن يقال أولئك لغير الناس، كما قال جرير:(3/243)
(ذُمّ المنازِلِ بَعْدَ منزِلِةِ اللِّوى ... والْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئكَ الأَيَّامِ)(3/244)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
{ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها} قوله عز وجل: {ولا تمش في الأرض مَرَحاً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن المرح شدة الفرح بالباطل. الثاني: أنه الخيلاء في المشي , قاله قتادة. الثالث: أنه البطر والأشر. الرابع: أنه تجاوز الإنسان قدره. الخامس: التكبر في المشي. {إنّك لن تخرِقَ الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً} فيه وجهان: أحدهما: إنك لن تخرق الأرض من تحت قدمك ولن تبلغ الجبال طولاً بتطاولك زجراً له عن تجاوزه الذي لا يدرك به غرضاً. الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى له , ومعناه كما أنك لن تخرق الأرض في مشيك , ولن تبلغ الجبال طولاً فإنك لا تبلغ ما أردت بكبرك وعجبك , إياساً له من بلوغ إرادته.(3/244)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
{ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا} قوله عز وجل: {ولقد صرفنا في هذا القرآن} فيه وجهان: أحدهما: كررنا في هذا القرآن من المواعظ والأمثال. الثاني: غايرنا بين المواعظ باختلاف أنواعها. {ليذكروا} فيه وجهان: أحدهما: ليذكروا الأدلة.(3/244)
الثاني: ليهتدوا إلى الحق. {وما يزيدهم الا نفوراً} فيه وجهان: أحدهما: نفوراً عن الحق والاتباع له. الثاني: عن النظر والاعتبار. وفي الكلام مضمر محذوف , وتقديره ولقد صرفنا الأمثال في هذا القرآن.(3/245)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
{قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا} قوله عز وجل: {قل لو كان مََعَهُ آلهةٌ كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً} فيه وجهان: أحدهما: لطلبوا إليه طريقاً يتصلون به لأنهم شركاء؛ قاله سعيد بن جبير. الثاني: ليتقربوا إليه لأنهم دونه , قاله قتادة.(3/245)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
{تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا} قوله عز وجل: {وإن من شيءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: وإن من شيء من الأحياء الا يسبح بحمده , فأما ما ليس بحي فلا , قاله الحسن. الثاني: إن جميع المخلوقات تسبح له من حي وغير حي حتى صرير الباب , قاله إبراهيم. الثالث: أن تسبيح ذلك ما يظهر فيه من لطيف صنعته وبديع قدرته الذي يعجز الخلق عن مثله فيوجب ذلك على من رآه تسبيح الله وتقديسه , كما قال الشاعر:
(تُلْقِي بِتَسْبِيحَةٍ مِنْ حَيْثُما انْصَرَفَتْ ... وتَسْتَقِرُّ حَشَا الرَّائِي بإِرْعَادِ)
(كَأَنَّمَا خُلِقتْ مِن قِشْرِ لُؤْلُؤةٍ ... فَكُلُّ أَكْنَافِها وَجْهٌ لِمِرْصَادِ)(3/245)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
{وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا} قوله عز وجل: {وإذا قرأت القرآن جلعنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً} فيه وجهان: أحدهما: أي جعلنا القرآن حجاباً ليسترك عنهم إذا قرأته. الثاني: جعلنا القرآن حجاباً يسترهم عن سماعه إذا جهرت به. فعلى هذا فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم لإعراضهم عن قراءتك كمن بينك وبينهم حجاباً في عدم رؤيتك. قاله الحسن. والثاني: أن الحجاب المستور أن طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه , قاله قتادة. الثالث: أنها نزلت في قوم كانوا يؤذونه في الليل إذا قرأ , فحال الله بينه وبينهم من الأذى , قاله الزجاج. {مستوراً} فيه وجهان: أحدهما: أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه. الثاني: أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه , ويكون مستور بمعنى ساتر , وقيل إنها نزلت في بني عبد الدار.(3/246)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
{نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} قوله عز وجل: {نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى} في هذه النجوى قولان: أحدهما: أنه ما تشاوروا عليه في أمر النبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة.(3/246)
الثاني: أن هذا في جماعة من قريش منهم الوليد بن المغيرة كانوا يتناجون بما ينفّرون به الناس عن اتباعه صلى الله عليه وسلم. قال قتادة: وكانت نجواهم أنه مجنون , وأنه ساحر , وأنه يأتي بأساطير الأولين. {إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجُلاً مسحوراً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه سحر فاختلط عليه أمره , يقولون ذلك تنفيراً عنه. الثاني: أن معنى مسحور مخدوع , قاله مجاهد. الثالث: معناه أن له سحراً , أي رئة , يأكل ويشرب فهو مثلكم وليس بملك , قاله أبو عبيدة , ومنه قول لبيد:
(فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هذَا الأَنَامِ الْمُسَحَّرِ)(3/247)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
{وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} قوله عز وجل: {وقالوا أئِذا كُنّا عظاماً ورفاتاً} فيه تأويلان: أحدهما: أن الرفات التراب , قاله الكلبي والفراء. الثاني: أنه ما أرفت من العظام مثل الفتات , قاله أبو عبيدة , قال الراجز:
89 (صُمَّ الصَّفَا رَفَتَ عَنْهَا أَصْلُهُ} 9
قوله عز وجل: {قل كونوا حجارةً أو حديداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه إن عجبتم من إنشاء الله تعالى لكم عظاماً ولحماً فكونوا أنتم حجارة أو حديداً إن قدرتم , قاله أبو جعفر الطبري.(3/247)
الثاني: معناه أنكم: لو كنتم حجارة أو حديداً لم تفوتوا الله تعالى إذا أرادكم إلا أنه أخرجه مخرج الأمر لأنه أبلغ من الإلزام , قاله علي بن عيسى. الثالث: معناه لو كنتم حجارة أو حديداً لأماتكم الله ثم أحياكم. {أو خَلْقاً ممّا يكبر في صدوركم} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه عنى بذلك السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس , قاله مجاهد. الثاني: أنه أراد الموت لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه وقد قال أمية ابن أبي الصلت:
(نادوا إلههمُ ليسرع خلقهم ... وللموت خلق للنفوس فظيعُ)
وهذا قول ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص. الثالث: أنه أراد البعث لأنه كان أكبر شيء في صدروهم قاله الكلبي. الرابع: ما يكبر في صدوركم من جميع ما استعظمتموه من خلق الله تعالى , فإن الله يميتكم ثم يحييكم ثم يبعثكم , قاله قتادة. { ... فسينغضون إليك رءُوسَهُم} قال ابن عباس وقتادة , أي يحركون رؤوسهم استهزاء وتكذيباً , قال الشاعر:
(قلت لها صلي فقالت مِضِّ ... وحركت لي رأسها بالنغضِ)
قوله عز وجل: {يَوْمَ يدعوكم فتستجيبون بحمده} في قوله تعالى يدعوكم قولان: أحدهما: أنه نداء كلام يسمعه جميع الناس يدعوهم الله بالخروج فيه إلى أرض المحشر. الثاني: أنها الصيحة التي يسمعونها فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة.(3/248)
وفي قوله: {فتستجيبون بحمده} أربعة أوجه: أحدها: فتستجيبون حامدين لله تعالى بألسنتكم. الثاني: فتستجيبون على ما يقتضي حمد الله من أفعالكم. الثالث: معناه فستقومون من قبوركم بحمد الله لا بحمد أنفسكم. الرابع: فتستجيبون بأمره , قاله سفيان وابن جريج. {وتظنون إن لبثتم إلاّ قليلاً} فيه خمس أوجه: أحدها: إن لبثتم إلا قليلاً في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة , قاله الحسن. الثاني: معناه الاحتقار لأمر الدنيا حين عاينوا يوم القيامة , قاله قتادة. الثالث: أنهم لما يرون من سرعة الرجوع يظنون قلة اللبث في القبور. الرابع: أنهم بين النفختين يرفع عنهم العذاب فلا يعذبون , وبينهما أربعون سنة فيرونها لاستراحتهم قليقلة؛ قاله الكلبي. الخامس: أنه لقرب الوقت , كما قال الحسن كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل.(3/249)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا} قوله عز وجل: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به. {إنّ الشيطان ينزغُ بينهم} في تكذيبه. الثاني: أنه امتثال أوامر الله تعالى ونواهيه , قاله الحسن. الثالث: أنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الرابع: أن يرد خيراً على من شتمه. وقيل إنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من بعض كفار قريش , فهم به عمر , فأنزل الله تعالى فيه {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} .(3/249)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
{ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا(3/249)
وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا} قوله عز وجل: {إن يشاء يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إن يشأ يرحمكم بالهداية أو يعذبكم بالإضلال. الثاني: إن يشاء يرحمكم فينجيكم من أعدائكم أو يعذبكم بتسلطهم عليكم , قاله الكلبي. الثالث: إن يشأ يرحمكم بالتوبة أو يعذبكم بالإقامة , قاله الحسن: {وما أرسلناك عليهم وكيلاً} فيه وجهان: أحدهما: ما وكلناك أن تمنعهم من الكفر بالله سبحانه , وتجبرهم على الإيمان به. الثاني: ما جعلناك كفيلاً لهم تؤخذ بهم , قاله الكلبي , قاله الشاعر:
(ذكرت أبا أرْوَى فَبِتُّ كأنني ... بِرَدِّ الأمور الماضيات وكيلُ)
وكيل: أي كفيل.(3/250)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
{قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} قوله عز وجل: {أولئك الذين يدعون يبتغُون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقْرَبُ} الآية فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في نفر من الجن كان يعبدهم قوم من الإنس , فأسلم الجن ابتغاء الوسيلة عند ربهم , وبقي الإنس على كفرهم؛ قاله عبد الله بن مسعود.(3/250)
الثاني: أنهم الملائكة كانت تعبدهم قبائل من العرب , وهذا مروي عن ابن مسعود أيضاً. الثالث: هم وعيسى وأُمُّهُ , قاله ابن عباس ومجاهد. وهم المعنيّون بقوله تعالى {قلِ ادعُوا الذين زعمتم مِن دونه} وتفسيرها أن قوله تعالى {اولئك الذين يدعون} يحتمل وجهين: أحدهما: يدعون الله تعالى لأنفسهم. الثاني: يدعون عباد الله إلى طاعته. وقوله تعالى: {يبتغون إلى ربهم الوسيلة} وهي القربة , وينبني تأويلها على احتمال الوجهين في الدعاء. فإن قيل إنه الدعاء لأنفسهم كان معناه يتوسلون إلى الله تعالى بالدعاء إلى ما سألوا. وإن قيل دعاء عباد الله إلى طاعته كان معناه أنهم يتوسلون لمن دعوه إلى مغفرته. {أيهم أقرَبُ} تأويله على الوجه الأول: أيهم أقرب في الإجابة. وتأويله على الوجه الثاني: أيهم أقرب إلى الطاعة. {ويرجون رحمته ويخافون عذابهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون هذا الرجاء والخوف في الدنيا. الثاني: أن يكونا في الآخرة. فإن قيل إنه في الدنيا احتمل وجهين: أحدهما: أن رجاء الرحمة التوفيق والهداية , وخوف العذاب شدة البلاء.(3/251)
وإن قيل إن ذلك في الآخرة احتمل وجهين: أحدهما: أن رجاء الرحمة دوام النعم وخوف عذاب النار. الثاني: أن رجاء الرحمة العفو , وخوف العذاب مناقشة الحساب. ويحتمل هذا الرجاء والخوف وجهين: أحدهما: أن يكون لأنفسهم إذا قيل إن أصل الدعاء كان لهم. الثاني: لطاعة الله تعالى إذا قيل إن الدعاء كان لغيرهم. ولا يمتنع أن يكون على عمومه في أنفسهم وفيمن دعوه. قال سهل بن عبد الله: الرجاء والخوف ميزانان على الإنسان فإذا استويا استقامت أحواله , وإن رجح أحدهما بطل الآخر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا) .(3/252)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
{وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} قوله عز وجل: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الآيات معجزات الرسل جعلها الله تعالى من دلائل الإنذار تخويفاً للمكذبين. الثاني: أنها آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي. الثالث: أنها تقلُّبُ الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهُّل ثم إلى مشيب , لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمْرك , وهذا قول أحمد بن حنبل رحمه الله.(3/252)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
{وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا}(3/252)
قوله عز وجل: {وإذا قلنا لك إنّ ربّك أحاط بالناس} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه أحاطت بالناس قدرته فهم في قبضته , قاله مجاهد وابن أبي نجيح. الثاني: أحاط علمه بالناس , قاله الكلبي. الثالث: أنه عصمك من الناس أن يقتلوك حتى تبلغ رسالة ربك , قاله الحسن وعروة وقتادة. {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها رؤيا عين ليلة الإسراء به من مكة إلى بيت المقدس , قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك وابن أبي نجيح وابن زيد , وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أُسريَ به. الثاني: أنها رؤيا نوم رأى فيها أنه يدخل مكة , فعجل النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوقت يوم الحيبية , فرجع فقال ناس قد كان قال إنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: أنها رؤيا منام رأى فيها قوماً يعلون على منابره ينزون نزو القردة. فساءه , وهذا قول سهل بن سعد. وقيل إنه ما استجمع ضاحكاً حتى مات صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية. {والشجرة الملعونة في القرآن} فيها أربعة أقاويل: أحدها: أنها شجرة الزقوم طعام الأثيم , وقال الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك وسعيد بن جبير وطاووس وابن زيد. وكانت فتنتهم بها قول أبي جهل وأشياعه: النار تأكل الشجر فكيف تنبتها.(3/253)
الثاني: هي الكشوت التي تلتوي على الشجر , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم اليهود تظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب , قاله ابن بحر. الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه قوماً يصعدون المنابر , فشق عليه , فأنزل الله تعالى {والشجرة الملعونة في القرآن} قاله سعيد بن المسيب. والشجرة كناية عن المرأة , والجماعة أولاد المرأة كالأغصان للشجر.(3/254)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا} قوله عز وجل: { ... لأحتنكن ذُرِّيته إلاّ قليلاً} فيه ستة تأويلات: أحدها: معناه لأستولين عليهم بالغلبة , قاله ابن عباس. الثاني: معناه لأضلنهم بالإغواء. الثالث: لأستأصلنهم بالإغواء. الرابع: لأستميلنهم , قاله الأخفش. الخامس: لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحنكها إذا شد فيه حبل يجذبها وهو افتعال من الحنك إشارة إلى حنك الدابة. السادس: معناه لأقطعنهم إلى المعاصي , قال الشاعر:
(أشْكوا إليك سَنَةً قد أجحفت ... جهْداً إلى جهدٍ بنا وأضعفت)
89 (واحتنكَتْ أَمْولُنا واجتلفت.} 9(3/254)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
{قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا} قوله عز وجل: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: واستخف , وهذا قول الكلبي والفراء. الثاني: واستجهل. الثالث: واستذل من استطعت , قاله مجاهد. {بصوتك} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه صوت الغناء واللهو , قاله مجاهد. الثاني: أنه صوت المزمار , قاله الضحاك. الثالث: بدعائك إلى معصية الله تعالى وطاعتك , قاله ابن عباس. {وأجلب عليهم بخيلك ورجَلِكِ} والجلب هو السوْق بجلبه من السائق , وفي المثل: إذا لم تغلب فأجلب. وقوله {بخيلك ورجلك} أي بكل راكب وماشٍ في معاصي الله تعالى. {وشاركهم في الأموال والأولاد} أما مشاركتهم في الأموال ففيها أربعة أوجه: أحدها: أنها الأموال التي أصابوها من غير حلها , قاله مجاهد. الثاني: أنها الأموال التي أنفقوها في معاصي الله تعالى , قاله الحسن. الثالث: ما كانوا يحرّمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام , قاله ابن عباس. الرابع: ما كانوا يذبحون لآلهتهم , قاله الضحاك. وأما مشاركتهم في الأولاد ففيها أربعة أوجه: أحدها: أنهم أولاد الزنى , قاله مجاهد. الثاني: أنه قتل الموؤودة من أولادهم , قاله ابن عباس. الثالث: أنه صبغة أولادهم في الكفر حتى هوّدوهم ونصّروهم , قاله قتادة.(3/255)
الرابع: أنه تسمية أولادهم عبيد آلهتهم كعبد شمس وعبد العزَّى وعبد اللات , رواه أبو صالح عن ابن عباس.(3/256)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
{ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما} قوله عز وجل: {ربُّكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر} معناه يجريها ويسيرها , قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد , قال الشاعر:
(يا أيها الراكب المزجي مطيتُه ... سائل بني أسدٍ ما هذه الصوت)(3/256)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
{وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا} قوله عز وجل: {وإذا مَسّكم الضُّرُّ في البحر ضَلَّ من تدعون إلا إياه} فيه وجهان: أحدهما: بطل من تدعون سواه , كما قال تعالى {أضلَّ أعمالهم} [محمد: 1] أي أبطلها. الثاني: معناه غاب من تدعون كما قال تعالى {أئِذا ضَلَلْنا في الأرض} [السجدة: 10] أي غِبْنَا.(3/256)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
{أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من(3/256)
الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا} قوله عز وجل: {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البَرِّ} يحتمل وجهين: أحدهما: يريد بعض البر وهو موضع حلولهم منه , فسماه جانبه لأنه يصير بعد الخسف جانباً. الثاني: أنهم كانوا على ساحل البحر , وساحله جانب البر , وكانوا فيه آمنين من أهوال البحر فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر. {أو يُرْسِلَ عليكم حاصباً} فيه وجهان: أحدهما: يعني حجارة من السماء , قاله قتادة. الثاني: إن الحاصب الريح العاصف سميت بذلك لأنها تحصب أي ترمي بالحصباء. والقاصف الريح التي تقصف الشجر , قاله الفراء وابن قتيبة.(3/257)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
{ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} قوله تعالى: {ولقد كَرّمنا بني آدم. .} فيه سبعة أوجه: أحدها: يعني كرمناهم بإنعامنا عليهم. الثاني: كرمناهم بأن جعلنا لهم عقولاً وتمييزاً. الثالث: بأن جعلنا منهم خير أمة أخرجت للناس. الرابع: بأن يأكلوا ما يتناولونه من الطعام والشراب بأيديهم , وغيرهم يتناوله بفمه , قاله الكلبي ومقاتل. الخامس: كرمناهم بالأمر والنهي. السادس: كرمناهم بالكلام والخط. السابع: كرمناهم بأن سخّرنا جميع الخلق لهم.(3/257)
{ ... ورزقناهُمْ من الطيبات} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما أحله الله لهم. الثاني: ما استطابوا أكله وشربه. الثالث: أنه كسب العامل إذا نفع , قاله سهل بن عبد الله. {وفضلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: بالغلبة والاستيلاء. الثاني: بالثواب والجزاء. الثالث: بالحفظ والتمييز. الرابع: بإصابة الفراسة.(3/258)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
{يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا} قوله عز وجل: {يوم ندعوا كل أناسٍ بإمامِهمْ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: بنبيِّهم , قاله مجاهد. الثاني: بكتابهم الذي أنزل عليهم أوامر الله ونواهيه , قاله ابن زيد. الثالث: بدينهم , ويشبه أن يكون قول قتادة. الرابع: يكتب أعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير وشر , قاله ابن عباس. الخامس: بمن كانوا يأتمرون به في الدنيا فيتبعونه في خير أو شر , أو على حق , أو باطل , وهو معنى قول أبو عبيدة. قوله عز وجل: {ومن كان في هذه أعمى. .} يحتمل أربعة أوجه: أحدها: من كان في الدنيا أعمى عن الطاعة {فهو في الآخرة أعمى} عن الثواب.(3/258)
الثاني: ومن كان في الدنيا أعمى عن الاعتبار {فهو في الآخرة أعمى} عن الاعتذار. الثالث: ومن كان في الدنيا أعمى عن الحق {فهو في الآخرة أعمى} عن الجنة. الرابع: ومن كان في تدبير دنياه أعمى فهو تدبير آخرته أعمى {وأضل سبيلاً} .(3/259)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
{وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا} قوله تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره} فيه قولان: أحدهما: ما روى سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الحجر في طوافه فمنعته قريش وقالوا لا ندعك تستلم حتى تلم بآلهتنا فحدث نفسه وقال: (ما عليّ أن ألمَّ بها بعد أن يعدوني أستلم الحجر والله يعلم أني لها كاره) فأبى الله تعالى وأنزل عليه هذه الآية , قاله مجاهد وقتادة. الثاني: ما روى ابن عباس أن ثقيفاً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أجِّلْنا سنة حتى نأخذ(3/259)
ما نُهدي لآلهتنا , فإذا أخذناه كسرنا آلهتنا وأسلمْنا , فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطيعهم , فأنزل الله هذه الآية. {لِتَفْتَريَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: لتدّعي علينا غير وحينا. الثاني: لتعتدي في أوامرنا. {وإذاً لاتخذوك خليلاً} فيه وجهان: أحدهما: صديقاً , مأخوذ من الخُلة بالضم وهي الصداقة لممالأته لهم. الثاني: فقيراً , مأخوذ من الخلة بالفتح وهي الفقر لحاجته إليهم. قوله عز وجل: {إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} فيه قولان: أحدهما: لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. الثاني: لأذقناك ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة , حكاه الطبري: وفي المراد بالضِّعف ها هنا وجهان: أحدها: النصيب , ومنه قوله تعالى {لكل ضِعفٌ} [الأعراف: 38] أي نصيب. الثاني: مثلان , وذلك لأن ذنبك أعظم. وفيه وجه ثالث: أن الضعف هو العذاب يسمى ضعف لتضاعف ألمه , قاله أبان بن تغلب وأنشد قول الشاعر:
(لمقتل مالكٍ إذ بان مني ... أبيتُ الليل في ضعفٍ أليم)
قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين) .(3/260)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
{وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا} قوله عز وجل: {وإن كادوا ليستفزونَك مِنَ الأرض ليخرجوك منها} في قوله {ليستفزّونك} وجهان: أحدهما: يقتلونك , قاله الحسن. الثاني: يزعجونك باتسخفافك , قاله ابن عيسى. قال الشاعر:
(يُطِيعُ سَفِيهَ القوْمِ إذ يَسْتَفِزُّهُ ... ويعْصِي حَكِيماً شَيَّبَتْهُ الْهَزَاهِزُ)
وفي قوله {ليخرجوك منها} أربعة أقاويل: أحدها: أنهم اليهود أرادوا أن يخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة , فقالوا: إن أرض الأنبياء هي الشام وإن هذه ليست بأرض الأنبياء , قاله سليمان التيمي. الثاني: أنهم قريش هموا بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قبل الهجرة , قاله قتادة. الثالث: أنهم أرادوا إخراجه من جزيرة العرب كلها لأنهم قد أخرجوه من مكة. الرابع: أنهم أرادوا قتله ليخرجوه من الأرض كلها , قاله الحسن. {وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً} يعني بعدك , قال خلْفك وخلافك وقد قرئا جميعاً بمعنى بعدك , ومنه قول الشاعر:
(عَفَتِ الدِّيَارُ خِلاَفَها فَكَأَنَّما ... بَسَطَ الشَّوَاطبُ بَيْنَهُم حَصِيراً)
وقيل خلفك بمعنى مخالفتك , ذكره ابن الأنباري. {إلا قليلاً} فيه وجهان: أحدهما: أن المدة التي لبثوها بعده ما بين إخراجهم له إلى قتلهم يوم بدر , وهذا قوله من ذكر أنهم قريش.(3/261)
الثاني: ما بين ذلك وقتل بني قريظة وجلاء بني النضير , وهذا قول من ذكر أنهم اليهود.(3/262)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
{أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قوله عز وجل: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} . أما دلوك الشمس ففيه تأويلان: أحدهما: أنه غروبها , وأن الصلاة المأمور بها صلاة المغرب , ومنه قول ذي الرمة:
(مصابيح ليست باللواتي تقودها ... نجومٌ ولا بالآفات الدوالك)
قاله ابن مسعود وابن زيد , ورواه مجاهد عن ابن عباس , وهو مذهب أبي حنيفة. الثاني: أنه زوالها , والصلاة المأمور بها صلاة الظهر , وهذا قول ابن عباس في رواية الشعبي عنه , وهو قول أبي بردة والحسن وقتادة ومجاهد , وهو مذهب الشافعي ومالك لرواية أبي بكر بن عمرو بن حزم عن ابن مسعود وعقبة بن عامر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر) وقال الشاعر:(3/262)
(هذا مُقام قَدَامي رباح ... ذَيّبَ حتى دَلَكت بَراح)
وبراح اسم الشمس , والباء التي فيه من أصل الكلمة , وذهب بعض أهل العربية إلى أن الباء التي فيها باء الجر , واسم الشمس راح. فمن جعل الدلوك اسماً لغروبها فلأن الإنسان يدلك عينيه براحته لتبينها , ومن جعله اسماً لزوالها فلأنه يدلك عينيه براحته لشدة شعاعها. وقيل إن أصل الدلوك في اللغة هو الميل , والشمس تميل عند زوالها وغروبها فلذلك انطلق على كل واحدٍ منهما. وأما {غسق الليل} ففيه تأويلان: أحدهما: أنه ظهور ظلامه , قاله الفراء وابن عيسى , ومنه قول زهير:
(ظَلَّت تَجُودُ يَدَاها وهِيَ لاَهِيَةٌ ... حتى إذا جَنَحَ الإِظْلاَمُ والغَسَقُ)
الثاني: أنه دنوّ الليل وإقباله , وهوقول ابن عباس وقتادة. قال الشاعر:
(إن هذا الليل قد غسقا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .)
وفي الصلاة المأمور بها قولان: أحدهما: أنها صلاة المغرب , وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك الثاني: هي صلاة العشاء الآخرة , قاله أبو جعفر الطبري. ثم قال {وقرآن الفَجْر إنّ قرآن الفجْر كان مشهوداً} في {قرآن} تأويلان: أحدهما: أقم القراءة في صلاة الفجر , وهذا قول أبي جعفر الطبري. الثاني: معناه صلاة الفجر , فسماها قرآناً لتأكيد القراءة في الصلاة , وهذا قول أبي اسحاق الزجاج. {إن قرآن الفجر كان مشهوداً} فيه قولان: أحدهما: إن من الحكمة أن تشهده بالحضور إليه في المساجد , قاله ابن بحر. الثاني: ان المراد به ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تشهده ملائكة(3/263)
الليل وملائكة النهار) وفي هذا دليل على أنها ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار. قوله عز وجل: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} أما الهجود فمن أسماء الأضداد , وينطلق على النوم وعلى السهر , وشاهد انطلاقه على السهر قول الشاعر:
(ألا زارت وأهْلُ مِنىً هُجُود ... ولَيْتَ خَيَالَهَا بِمِنىً يعُود)
وشاهد انطلاقه على النوم قول الشاعر:
(أَلا طَرَقَتْنَا والرِّفَاقُ هُجُود ... فَبَاتَتْ بِعُلاَّت النّوالِ تجود)
أما التهجد فهو السهر , وفيه وجهان: أحدهما: السهر بالتيقظ لما ينفي النوم , سواء كان قبل النوم أو بعده. الثاني: أنه السهر بعد النوم , قاله الأسود بن علقمة. وفي الكلام مضمر محذوف وتقديره: فتهجد بالقرآن وقيام الليل نافلة أي فضلاً وزيادة على الفرض. وفي تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بأنها نافلة له ثلاثة أوجه: أحدها: تخصيصاً له بالترغيب فيها والسبق إلى حيازة فضلها , اختصاصها بكرامته , قاله علي بن عيسى. الثاني: لأنها فضيلة له , ولغيره كفارة , قاله مجاهد. الثالث: لأنها عليه مكتوبة ولغيره مستحبة , قاله ابن عباس. {عسى أن يبعثك ربُّك مقاماً محموداً} فيه ثلاثة أقاويل:(3/264)
أحدها: أن المقام المحمود الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله حذيفة بن اليمان. الثاني: أنه إجلاسه على عرشه يوم القيامة، قاله مجاهد.(3/265)
الثالث: أنه إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة. ويحتمل قولاً رابعاً: أن يكون المقام المحمود شهادته على أمته بما أجابوه من تصديق أو تكذيب , كما قال تعالى {وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41] .(3/266)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
{وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} قوله عز وجل: {وقل ربِّ أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مُخرج صدق} فيه سبعة أقاويل: أحدها: أن مدخل الصدق دخوله إلى المدينة حين هاجر إليها , ومخرج صدق بخروجه من مكة حين هاجر منها , قاله قتادة وابن زيد. الثاني: أدخلني مدخل صدق إلى الجنة وأخرجني مخرج صدق من مكة إلى المدينة , قاله الحسن. الثالث: أدخلني مدخل صدق فيما أرسلتني به من النبوة , وأخرجني منه بتبليغ الرسالة مخرج صدق , وهذا قول مجاهد. الرابع: أدخلني في الإسلام مدخل صدق , وأخرجني من الدنيا مخرج صدق , قاله أبو صالح. الخامس: أدخلني مكة مدخل صدق وأخرجني منها مخرج صدق آمناً، قاله الضحاك.(3/266)
السادس: أدخلني في قبري مدخل صدق , وأخرجني منه مخرج صدق، قاله ابن عباس. السابع: أدخلني فيما أمرتني به من طاعتك مدخل صدق , وأخرجني مما نهيتني عنه من معاصيك مخرج صدق , قاله بعض المتأخرين. والصدق ها هنا عبارة عن الصلاح وحسن العاقبة. {واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني مُلكاً عزيزاً أقهر به العصاة , قاله قتادة. الثاني: حجة بيّنة , قاله مجاهد. الثالث: أن السلطة على الكافرين بالسيف , وعلى المنافقين بإقامة الحدود قاله الحسن. ويحتمل رابعاً: أن يجمع له بين القلوب باللين وبين قهر الأبدان بالسيف. قوله عز وجل: {وقُلْ جاء الحق وزهق الباطل} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن الحق هو القرآن , والباطل هو الشيطان , قاله قتادة. الثاني: أن الحق عبادة الله تعالى والباطل عبادة الأصنام , قاله مقاتل بن سليمان. الثالث: أن الحق الجهاد , والباطل الشرك , قاله ابن جريج. {إن الباطل كان زهوقاً} أي ذاهباً هالكاً , قال الشاعر:
(ولقدْ شفَى نفسي وأبْرأ سُقْمَهَا ... إِقدامُهُ قهْراً له لَمْ يَزْهَق)
وحكى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ورأى فيها التصاوير أمر بثوب فبُل بالماء وجعل يضرب به تلك التصاوير ويمحوها ويقول {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً} .(3/267)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
{وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا}(3/267)
قوله عز وجل: {وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: شفاء من الضلال , لما فيه من الهدى. الثاني: شفاء من السقم , لما فيه من البركة. الثالث: شفاء من الفرائض والأحكام , لما فيه من البيان. وتأويله الرحمة ها هنا على الوجوه الأُوَلِ الثلاثة: أحدها: أنها الهدى. الثاني: أنها البركة. الثالث: أنها البيان. {ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} يحتمل وجهين: أحدهما: يزيدهم خساراً لزيادة تكذيبهم. الثاني: يزيدهم خساراً لزيادة ما يرد فيه من عذابهم.(3/268)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
{وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا} قوله عز وجل: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه} يحتمل وجهين: أحدهما: إذا أنعمنا عليه بالصحة والغنى أعرض ونأى وبعد من الخير. الثاني: إذا أنعمنا عليه بالهداية أعرض عن السماع وبعُد من القبول وفي قوله {ونأى بجانبه} وجهان: أحدهما: أعجب بنفسه , لأن المعجب نافر من الناس متباعد عنهم. الثاني: تباعد من ربه. {وإذا مَسّهُ الشر كان يئوساً} يحتمل إياسه من الفرج إذا مسه الشر وجهين: أحدهما: بجحوده وتكذيبه. الثاني: بعلمه بمعصيته أنه معاقب على ذنبه. وفي {الشر} ها هنا ثلاثة تأويلات:(3/268)
أحدها: أنه الفقر , قاله قتادة. الثاني: أنه السقم , قاله الكلبي. الثالث: السيف , وهو محتمل. قوله عز وجل: {قُلْ كلٌّ يعمل على شاكلته} في ستة تأويلات: أحدها: على حِدّته , قاله مجاهد. الثاني: على طبيعته , قاله ابن عباس. الثالث: على بيته , قاله قتادة. الرابع: على دينه , قاله ابن زيد. الخامس: على عادته. السادس: على أخلاقه. {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً} فيه وجهان: أحدهما: أحسن ديناً. الثاني: أسرع قبولاً.(3/269)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} قوله عز وجل: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} فيها خمسة أقاويل: أحدها: أنه جبريل عليه السلام , قاله ابن عباس. كما قال تعالى {نزل به الروح الأمين} [الشعراء: 193] . الثاني: ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه , لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بجميع ذلك , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الثالث: أنه القرآن , قاله الحسن , كما قال تعالى {وكذلك أوحينا إليك روحاً(3/269)
من أمرنا} [الشورى: 52] فيكون معناه أن القرآن من أمر الله تعالى ووحيه الذي أنزل عليّ وليس هو مني. الرابع: أنه عيسى ابن مريم هو من أمر الله تعالى وليس كما ادعته النصارى أنه ابن الله , ولا كما افترته اليهود أنه لغير رشدة. الخامس: أنه روح الحيوان , وهي مشتقة من الريح. قال قتادة سأله عنها قوم من اليهود وقيل في كتابهم أنه إن أجاب عن الروح فليس بنبيّ فقال الله تعالى {قل الروح من أمر ربي} فلم يجبهم عنها فاحتمل ذلك ستة أوجه: أحدها: تحقيقاً لشيء إن كان في كتابهم. الثاني: أنهم قصدوا بذلك الإعنات كما قصدوا اقتراح الآيات. الثالث: لأنه قد يتوصل إلى معرفته بالعقل دون السمع. الرابع: لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سؤال ما لا يعني. الخامس: قاله بعض المتكلمين , أنه لو أجابهم عنها ووصفها؛ بأنها جسم رقيق تقوم معه الحياة , لخرج من شكل كلام النبوة , وحصل في شكل كلام الفلاسفة. فقال {من أمر ربي} أي هو القادر عليه. السادس: أن المقصود من سؤالهم عن الروح أن يتبين لهم أنه محدث أو قديم , فأجابهم بأنه محدث لأنه قال: {من أمر ربي} أي من فعله وخلقه , كما قال تعالى {إنما أمرنا لشيء} .(3/270)
فعلى هذا الوجه يكون جواباً لما سألوه , ولا يكون على الوجوه المتقدمة جواباً. {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} فيه وجهان: أحدهما: إلا قليلاً من معلومات الله. الثاني: إلا قليلاً بحسب ما تدعو الحاجة إليه حالاً فحالاً. وفيمن أريد بقوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} قولان: أحدهما: أنهم اليهود خاصة , قاله قتادة. الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الخلق.(3/271)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
{ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا} قوله عز وجل: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} فيه وجهان: أحدهما: لأذهبناه من الصدور والكتب حتى لا يقدر عليه. الثاني: لأذهبناه بقبضك إلينا حتى لا ينزل عليك. {ثم لا تجدُ لك به علينا وكيلاً} فيه وجهان:(3/271)
أحدهما: أي لا تجد من يتوكل في رده إليك , وهو تأويل من قال بالوجه الأول. الثاني: لا تجد من يمنعنا منك , وهو تأويل من قال بالوجه الثاني. {إلاّ رحمة من ربك} أي لكن رحمة من ربك أبقاك له وأبقاه عليك. {إنّ فضله كان عليك كبيراً} فيه وجهان: أحدهما: جزيلاً لكثرته. الثاني: جليلاً لعظيم خطره.(3/272)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
{وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا} قوله عز وجل: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجُر لنا من الأرض ينبوعاً} التفجير تشقيق الأرض لينبع الماء منها , ومنه سمي الفجر لأنه ينشق عن عمود الصبح , ومنه سمي الفجور لأنه شق الحق بالخروج إلى الفساد. الينبوع: العين التي ينبع منها الماء , قال قتادة ومجاهد: طلبوا عيوناً ببلدهم. {أو تكون لك جنةٌ من نخيلٍ وعنب} سألوا ذلك في بلد ليس ذلك فيه. {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً} أي قطعاً. قرىء بتسكين السين وفتحها , فمن قرأ بالتسكين أراد السماء جميعها , ومن فتح السين جعل المراد به بعض السماء , وفي تأويل ذلك وجهان: أحدهما: يعني حيزاً , حكاه ابن الأنباري , ولعلهم أرادوا به مشاهدة ما فوق السماء.(3/272)
الثاني: يعني قطعاً , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والعرب تقول. أعطني كسفة من هذا الثوب أي قطعة منه. ومن هذا الكسوف لانقطاع النور منه , وعلى الوجه الثاني لتغطيته بما يمنع من رؤيته. {أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني كل قبيلة على حدتها , قاله الحسن. الثاني: يعني مقابلة , نعاينهم ونراهم , قاله قتادة وابن جريج. الثالث: كفيلاً , والقبيل الكفيل , من قولهم تقبلت كذا أي تكفلت به , قاله ابن قتيبة. الرابع: مجتمعين , مأخوذ من قبائل الرأس لاجتماع بعضه إلى بعض ومنه سميت قبائل العرب لاجتماعها , قاله ابن بحر. قوله عز وجل: {أو يكون لك بيت من زخرف} فيه وجهان: أحدهما: أن الزخرف النقوش , وهذا قول الحسن. الثاني: أنه الذهب , وهذا قول ابن عباس وقتادة , قال مجاهد: لم أكن أدري ما الزخرف حتى سمعنا في قراءة عبد الله: بيت من ذهب. وأصله من الزخرفة وهو تحسين الصورة , ومنه قوله تعالى {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت} [يونس: 24] . والذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك نفر من قريش قال ابن عباس: هم عتبة ابن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان والأسود بن عبد المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية والعاص بن وائل وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج.(3/273)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا}(3/273)
قوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا} يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم. {إذ جاءَهم الهُدى} يحتمل وجهين: أحدهما: القرآن. الثاني: الرسول. {إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً} وهذا قول كفار قريش أنكروا أن يكون البشر رُسُل الله تعالى , وأن الملائكة برسالاته أخص كما كانوا رسلاً إلى أنبيائه , فأبطل الله تعالى عليهم ذلك بقوله: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} يعني أن الرسول إلى كل جنس يأنس بجنسه , وينفر من غير جنسه , فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكاً لنفروا من مقاربته ولما أنسوا به ولداخلهم من الرهب منه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه ويمنعهم من سؤاله , فلا تعمّ المصلحة. ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به ويسكنوا إليه لقالوا لست ملكاً وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك , وعادوا إلى مثل حالهم.(3/274)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
{قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا} قوله عز وجل: {ومن يهد الله فهو المهتدِ} معناه من يحكم الله تعالى بهدايته فهو المهتدي بإخلاصه وطاعته. {ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه} فيه وجهان: أحدهما: ومن يحكم بضلاله فلن تجد له أولياء من دونه في هدايته. الثاني: ومن يقض الله تعالى بعقوبته لم يوجد له ناصر يمنعه من عقابه. {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم , من قول العرب: قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا.(3/274)
الثاني: أنه يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كمن يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه. {عُمْياً وبكماً وصماً} فه وجهان: أحدهما: أنهم حشروا في النار عُمي الأبصار بُكم الألسن صُمّ الأسماع ليكون ذلك يزادة في عذابهم , ثم أبصروا لقوله تعالى {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} [الكهف: 53] وتكلموا لقوله تعالى {دَعوا هنالك ثبوراً} [الفرقان: 13] وسمعوا , لقوله تعالى {سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} [الفرقان: 12] . وقال مقاتل بن سليمان: بل إذا قال لهم {اخسئوا فيها ولا تكلمُون} [المؤمنون: 18] صاروا عمياً لا يبصرون , صُمّاً لا يسمعون , بكماً لا يفقهون. الثاني: أن حواسهم على ما كانت عليه , ومعناه عمي عما يسرّهم , بكم عن التكلم بما ينفعهم , صم عما يمتعهم , قاله ابن عباس والحسن. {مأواهم جهنم} يعني مستقرهم جهنم. {كلما خبت زدناهم سعيراً} فيه وجهان: أحدهما: كلما طفئت أوقدت , قاله مجاهد. الثاني: كلما سكن التهابها زدناهم سعيراً والتهاباً , قاله الضحاك , قال الشاعر:
(وكُنّا كَالحَرِيقِ أَصَابَ غَاباً ... فَيَخْبُو سَاعَةً ويَهُبُّ سَاعا)
وسكون التهابها من غير نقصان في الآمهم ولا تخفيف من عذابهم.(3/275)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
{ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على(3/275)
أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا} قوله عز وجل: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي} فيه وجهان: أحدهما: خزائن الأرض الأرزاق , قاله الكلبي. الثاني: خزائن النعم , وهذا أعم. {إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق} فيه وجهان: أحدهما: لأمسكتم خشية الفقر , والإنفاق الفقر , قاله قتادة وابن جريج. الثاني: يعني أنه لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله تعالى لما جاد بها كجود الله تعالى لأمرين: أحدهما: أنه لا بدّ أن يمسك منها لنفقته وما يعود بمنفعته. الثاني: أنه يخاف الفقر ويخشى العدم , والله عز وجل يتعالى في جوده عن هاتين الحالتين. {وكان الإنسان قتوراً} فيه تأويلان: أحدهما: مقتراً , قاله قطرب والأخفش. الثاني: بخيلاً , قاله ابن عباس وقتادة. واختلف في هذا الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في المشركين خاصة , قاله الحسن. الثاني: أنها عامة , وهو قول الجمهور.(3/276)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
{ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا}(3/276)
قوله تعالى {ولقد آتينا موسى تسْع آيات بيناتٍ} فيها أربعة أقاويل: أحدها: أنها يده وعصاه ولسانه والبحر والطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم آيات مفصلات , قاله ابن عباس. الثاني: أنها نحو من ذلك إلا آيتين منهن إحداهما الطمس , والأخرى الحجر , قاله محمد بن كعب القرظي. الثالث: أنها نحو من ذلك , وزيادة السنين ونقص من الثمرات , وهو قول الحسن. الرابع: ما روى صفوان بن عسال عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قوماً من اليهود سألوه عنها فقال: (لا تشركوا بالله شيئاً , ولا تسرقوا , ولا تزنوا , ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق , ولا تسحروا , ولا تأكلوا الربا , ولا تمشوا ببرىء إلى السلطان ليقتله , ولا تقذفوا محصنة , ولا تفرُّوا من الزحف , وأنتم يا يهود خاصة لا تعدُوا في السبت) فقبلوا يده ورجله. {فاسأل بني إسرائيل. .} وفي أمره بسؤالهم وإن كان خبر الله أصدق من خبرهم ثلاثة أوجه: أحدها: ليكون ألزم لهم وأبلغ في الحجة عليهم. الثاني: فانظر ما في القرآن من أخبار بني إسرائيل فه سؤالهم , قاله الحسن. الثالث: إنه خطاب لموسى عليه أن يسأل فرعون في إطلاق بني إسرائيل قاله ابن عباس. وفي قوله {إني لأظنك يا موسى مسحوراً} أربعة أوجه:(3/277)
أحدها: قد سُحرت لما تحمل نفسك عليه من هذا القول والفعل المستعظمين. الثاني: يعني ساحراً لغرائب أفعالك. الثالث: مخدوعاً. الرابع: مغلوباً: قاله مقاتل. { ... وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً} فيه خمسة أوجه: أحدها: مغلوباً , قاله الكلبي ومقاتل. وقال الكميت:
(وَرَأَت قُضَاعَةُ في الأَيَا ... مِنِ رَأْيَ مَثْبُورٍ وَثَابِر)
الثاني: هالك , وهو قول قتادة. الثالث: مبتلى , قاله عطية. الرابع: مصروفاً عن الحق , قاله الفراء. الخامس: ملعوناً , قاله أبان بن تغلب وأنشد: يا قَوْمَنَا لاَ تَرُومُوا حَرْبَنَا سَفَهاً إِنّ السَّفَاهَ وإِنَّ البَغْيَ مَثْبُورُ
قوله عز وجل: {فأراد أن يستفزهم من الأرض} وفيه وجهان: أحدهما: يزعجهم منها بالنفي عنها , قاله الكلبي. الثاني: يهلكهم فيها بالقتل. ويعني بالأرض مصر وفلسطين والأردن. قوله عز وجل: { ... فإذا جاءَ وعد الآخرة} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: وعد الإقامة وهي الكرة الآخرة , قاله مقاتل. الثاني: وعد الكرة الآخرة في تحويلهم إلى أرض الشام. الثالث: نزول عيسى عليه السلام من السماء , قاله قتادة. {جئنا بكم لفيفاً} فيه تأويلان: أحدهما: مختلطين لا تتعارفون , قاله رزين. الثاني: جئنا بكم جميعاًً من جهات شتى , قاله ابن عباس وقتادة. مأخوذ من لفيف الناس.(3/278)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
{وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} قوله عز وجل: {وبالحق أنزلناه وبالحق نَزَل} يحتمل وجهين: أحدهما: أن إنزاله حق. الثاني: أن ما تضمنه من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد حق. {وبالحق نزل} يحتمل وجهين: أحدهما: وبوحينا نزل. الثاني: على رسولنا نزل. {وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً} يعني مبشراً بالجنة لمن أطاع الله تعالى , ونذيراً بالنار لمن عصى الله تعالى. قوله عز وجل: {وقرآناً فرقناه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فرقنا فيه بين الحق والباطل , قاله الحسن. الثاني: فرّقناه بالتشديد وهي قراءة ابن عباس أي نزل مفرّقاً آية آية وهي كذلك في مصحف ابن مسعود وأُبيِّ بن كعب: فرقناه عليك. الثالث: فصّلناه سُورَاً وآيات متميزة , قاله ابن بحر. {لتقرأه على الناس على مُكْثٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني على تثبت وترسّل , وهو قول مجاهد. الثاني: أنه كان ينزل منه شيء , ثم يمكثون بعد ما شاء الله , ثم ينزل شيء آخر. الثالث: أن يمكث في قراءته عليهم مفرقاً شيئاً بعد شيء , قاله أبو مسلم.(3/279)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
{قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان(3/279)
سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} قوله عز وجل: {قل آمنوا بِه أو لا تؤمنوا} يعني القرآن , وهذا من الله تعالى على وجه التبكيت لهم والتهديد , لا على وجه التخيير. {إن الذين أوتوا العلم من قَبله} فيهم وجهان: أحدهما: أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم , قاله الحسن. الثاني: أنهم أناس من اليهود , قاله مجاهد. {إذا يتلى عليهم يخرُّون للأذقان سُجّداً} فيه قولان: أحدهما: كتابهم إيماناً بما فيه من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم. الثاني: القرآن كان أناس من أهل الكتاب إذا سمعوا ما أنزل منه قالوا: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا , وهذا قول مجاهد. وفي قوله {يخرُّون للأذقان} ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الأذقان مجتمع اللحيين. الثاني: أنها ها هنا الوجوه , قاله ابن عباس وقتادة. الثالث: أنها اللحى , قاله الحسن.(3/280)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
{قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} قوله عز وجل: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} في سبب نزولها قولان: أحدهما: قاله الكلبي. أن ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً وهو في التوراة كثير , فلما أسلم ناس من اليهود منهم ابن سلام وأصحابه ساءَهم قلة ذكر الرحمن في القرآن , وأحبوا أن يكون كثيراً فنزلت.(3/280)
الثاني: ما قاله ابن عباس أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً يدعو (يا رحمن يا رحيم) فقال المشركون هذا يزعم أن له إِلهاً واحداً وهو يدعو مثنى , فنزلت الآية. {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً} فيه قولان: أحدهما: أنه عنى بالصلاة الدعاء , ومعنى ذلك ولا تجهر بدعائك ولا تخافت به , وهذا قول عائشة رضي الله عنها ومكحول. قال إبراهيم: لينتهين أقوام يشخصون بأبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم. الثاني: أنه عنى بذلك الصلاة المشروعة , واختلف قائلو ذلك فيما نهى عنه من الجهر بها والمخافتة فيها على خمسة أقاويل: أحدها: أنه نهى عن الجهر بالقراءة فيها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة كان يجهر بالقراءة جهراً شديداً , فكان إذا سمعه المشركون سبّوه , فنهاه الله تعالى عن شدة الجهر , وأن لا يخافت بها حتى لا يسمعه أصحابه , ويبتغي بين ذلك سبيلاً , قاله ابن عباس. الثاني: أنه نهى عن الجهر بالقراءة في جميعها وعن الإسرار بها في جميعها وأن يجهر في صلاة الليل ويسر في صلاة النهار. الثالث: أنه نهي عن الجهر بالتشهد في الصلاة , قاله ابن سيرين. الرابع: أنه نهي عن الجهر بفعل الصلاة لأنه كان يجهر بصلاته , بمكة فتؤذيه قريش , فخافت بها واستسر , فأمره الله ألاّ يجهر بها كما كان , ولا يخافت بها كما صار , ويبتغي بين ذلك سبيلاً , قاله عكرمة. الخامس: يعني لا تجهر بصلاتك تحسنها مرائياً بها في العلانية , ولا تخافت بها تسيئها في السريرة , قال الحسن: تحسّن علانيتها وتسيء سريرتها. وقيل: لا تصلّها رياءً ولا تتركها حياء. والأول أظهر. روي أن أبا بكر الصديق كان إذا صلى خفض من صوته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (لم تفعل هذا) قال: أناجي ربي وقد علم حاجتي , فقال صلى الله عليه وسلم (أحسنت) .(3/281)
وكان عمر بن الخطاب يرفع صوته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تفعل هذا) فقال أُوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحسنت) . فلما نزلت هذه الآية قال لأبي بكر: (ارفع شيئا) وقال لعمر: (أخفض شيئاً) . قوله تعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً} يحتمل وجهين: أحدهما: أمره بالحمد لتنزيه الله تعالى عن الولد. الثاني: لبطلان ما قرنه المشركون به من الولد. {ولم يكن له شريك في الملك} لأنه واحد لا شريك له في ملك ولا عبادة. {ولم يكن له وليٌّ من الذل} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لم يحالف أحداً. الثاني: لا يبتغي نصر أحد. الثالث: لم يكن له وليٌّ من اليهود والنصارى لأنهم أذل الناس , قاله الكلبي. {وكبره تكبيراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: صِفه بأنه أكبر من كل شيء. الثاني: كبّره تكبيراً عن كل ما لا يجوز في صفته. الثالث: عظِّمْه تعظيماً والله أعلم.(3/282)
سورة الكهف(3/283)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
{الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} قوله عز وجل: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} يعني على محمد القرآن , فتمدح بإنزاله لأنه أنعم عليه خصوصاً , وعلىالخلق عموماً. {ولم يجعل له عوجاً} في {عوجاً} ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني مختلفاً , قاله مقاتل , ومنه قول الشاعر:
(أدوم بودي للصديق تكرُّماً ... ولا خير فيمن كان في الود أعوجا)
الثاني: يعني مخلوقاً , قاله ابن عباس. الثالث: أنه العدول عن الحق إلى الباطل , وعن الاستقامة إلى الفساد , وهو قول علي بن عيسى.(3/283)
والفرق بين العوج بالكسر والعوج بالفتح أن العوج بكسر العين ما كان في الدين وفي الطريق وفيما ليس بقائم منتصب , والعوج بفتح العين ما كان في القناة والخشبة وفيما كان قائماً منتصباً. {قيِّماً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه المستقيم المعتدل , وهذ قول ابن عباس والضحاك. الثاني: أنه قيم على سائر كتب الله تعالى يصدقها وينفي الباطل عنها. الثالث: أنه المعتمد عليه والمرجوع إليه كقيم الدار الذي يرجع إليه في أمرها , وفيه تقديم وتأخير في قول الجميع وتقديره: أنزل الكتاب على عبده قيماً ولم يجعل له عوجاً ولكن جعله قيماً. {لينذر بأساً شديداً من لدنه} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه عذاب الاستئصال في الدنيا. الثاني: أنه عذاب جهنم في الآخرة.(3/284)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
{فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} قوله عز وجل: {فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم} فيه وجهان: أحدهما: قاتل نفسك , ومنه قول ذي الرُّمَّةِ:
(ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... بشيء نحتَهُ عن يديك المقادِرُ)
الثاني: أن الباخع المتحسر الأسِف , قاله ابن بحر. {على آثارهم} فيه وجهان: أحدهما: على آثار كفرهم. الثاني: بعد موتهم.(3/284)
{إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} يريد إن لم يؤمن كفار قريش بهذا الحديث يعني القرآن. {أسفاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أي غضباً , قاله قتادة. الثاني: جزعاً , قاله مجاهد. الثالث: أنه غمّاً , قاله السدي. الرابع: حزناً , قاله الحسن , وقد قال الشاعر:
(أرى رجلاً منهم أسيفاً كأنما ... تضُمُّ إلى كشحيه كفّاً مخضبَّا)
قوله عز وجل: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنها الأشجار والأنهار التي زين الله الأرض بها , قاله مقاتل. الثاني: أنهم الرجال لأنهم زينة الأرض , قاله الكلبي. الثالث: أنهم الأنبياء والعلماء , قاله القاسم. الرابع: أن كل ما على الأرض زينة لها , قاله مجاهد. الخامس: أن معنى {زينة لها} أي شهوات لأهلها تزين في أعينهم وأنفسهم. {لنبلوهم أيهم أحْسَنُ عملاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أيهم أحسن إعراضاً عنها وتركاً لها , قاله ابن عطاء. الثاني: أيهم أحسن توكلاً علينا فيها , قاله سهل بن عبد الله. الثالث: أيهم أصفى قلباً وأهدى سمتاً. ويحتمل رابعاً: لنختبرهم أيهم أكثر اعتباراً بها.(3/285)
ويحتمل خامساً: لنختبرهم في تجافي الحرام منها. قوله عز وجل: {وإنّا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} في الصعيد ثلاثة أقاويل: أحدها: الأرض المستوية , قاله الأخفش ومقاتل. الثاني: هو وجه الأرض لصعوده , قاله ابن قتيبة. الثالث: أنه التراب , قاله أبان بن تغلب. وفي الجُرُز أربعة أوجه: أحدها: بلقعاً , قاله مجاهد. الثاني: ملساء , وهو قول مقاتل. الثالث: محصورة , وهو قول ابن بحر. الرابع: أنها اليابسة التي لا نبات بها ولا زرع قال الراجز:
89 (قد جرفتهن السُّنون الأجراز} 9(3/286)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} قوله عز وجل: {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً} أما الكهف فهو غار في الجبل الذي أوى إليه القوم. وأما الرقيم ففيه سبعة أقاويل: أحدها: أنه اسم القرية التي كانوا منها , قاله ابن عباس. الثاني: أنه اسم الجبل , قاله الحسن. الثالث: أنه اسم الوادي، قاله الضحاك. قال عطية العوفي: هو واد(3/286)
بالشام نحو إبلة وقد روي أن اسم جبل الكهف بناجلوس، واسم الكهف ميرم واسم المدينة أفسوس، واسم الملك وفيانوس. الرابع: أنه اسم كلبهم. قاله سعيد بن جبير , وقيل هو اسم لكل كهف. الخامس: أن الرقيم الكتاب الذي كتب فيه شأنهم , قاله مجاهد. ماخوذ من الرقم في الثوب. وقيل كان الكتاب لوحاً من رصاص على باب الكهف , وقيل في خزائن الملوك لعجيب أمرهم. السادس: الرقيم الدواة بالرومية , قاله أبو صالح. السابع: أن الرقيم قوم من أهل الشراة كانت حالهم مثل حال أصحاب الكهف , قاله سعيد بن جبير. {كانوا مِنْ آياتنا عجباً} فيه وجهان: أحدهما: معناه ما حسبت أنهم كانوا من آياتنا عجباً لولا أن أخبرناك وأوحينا إليك. الثاني: معناه أحسبت أنهم أعجب آياتنا وليسوا بأعجب خلقنا , قاله مجاهد. قوله عز وجل: {إذ أوى الفتية إلى الكهف} اختلف في سبب إيوائهم إليه على قولين: أحدهما: أنهم قوم هربوا بدينهم إلى الكهف , قاله الحسن. {فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرِنا رشداً} . الثاني: أنهم أبناء عظماء وأشراف خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد , فقال أسَنُّهم: إني أجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده , إن ربي رب السموات والأرض , {فقالوا} جميعاً {ربُّنا ربُّ السموات والأرض لن ندعوا من دونه(3/287)
إلهاً لقد قلنا إذاً شَطَطَاً} ثم دخلوا الكهف فلبثوا فيه ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعاً , قاله مجاهد. قال ابن قتيبة: هم أبناء الروم دخلوا الكهف قبل عيسى , وضرب الله تعالى على آذنهم فيه , فلما بعث الله عيسى أخبر بخبرهم , ثم بعثهم الله تعالى بعد عيسى في الفترة التي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم. وفي {شططاً} ثلاثة أوجه: أحدها: كذباً , قاله قتادة. الثاني: غلوّاً , قاله الأخفش. الثالث: جوراً , قاله الضحاك. قوله عز وجل: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً} والضرب على الآذان هو المنع من الاستماع , فدل بهذا على أنهم لم يموتوا وكانوا نياماً , {سنين عدداً} فيه وجهان: أحدهما: إحصاء. الثاني: سنين كاملة ليس فيها شهور ولا أيام. وإنما ضرب الله تعالى على آذانهم وإن لم يكن ذلك من أسباب النوم لئلا يسمعوا ما يوقظهم من نومهم. قوله عز وجل: {ثم بعثناهم} الآية. يعني بالعبث إيقاظهم من رقدتهم. {لنِعلَم} أي لننظر {أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: عدداً , قاله مجاهد. الثاني: أجلاً , قاله مقاتل. الثالث: الغاية , قاله قطرب. وفي الحزبين أربعة أقاويل:(3/288)
أحدها: أن الحزبين هما المختلفان في أمرهم من قوم الفتية , قاله مجاهد. الثاني: أن أحد الحزبين الفتية , والثاني: من حضرهم من أهل ذلك الزمان. الثالث: أن أحد الحزبين مؤمنون , والآخر كفار. الرابع: أن أحد الحزبين الله تعالى , والآخر الخلق , وتقديره: أنتم أعلم أم الله.(3/289)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
{نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا} قوله عز وجل: {وربطنا على قلوبهم. .} فيه وجهان: أحدهما: ثبتناها. الثاني: ألهمناها صبراً , قاله اليزيدي. { ... ولقد قلنا إذاً شططاً} فيه وجهان: أحدهما: غُلواً. الثاني: تباعداً. قوله تعالى: { ... لولا يأتون عليهم بسلطان بيّنٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: بحجة بينة , قاله مقاتل. الثاني: بعذر بيّن , قاله قتادة. الثالث: بكتاب بيّن , قاله الكلبي. قوله تعالى: { ... ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً} فيه وجهان: أحدهما: سعة. الثاني: معاشاً.(3/289)
ويحتمل ثالثاً: يعني خلاصاً , ويقرأ {مِرْفقاً} بكسر الميم وفتح الفاء {ومَرفِقاً} بفتح الميم وكسر الفاء , والفرق بينهما أنه بكسر الميم وفتح الفاء إذا وصل إليك من غيرك , وبفتح الميم وكسر الفاء إذا وصل منك إلى غيرك.(3/290)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
{وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} قوله عز وجل: {وترى الشمس إذا طَلَعَتْ تزوار عن كهفهم ذاتَ اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال} فيه وجهان أحدهما: تعرض عنه فلا تصيبه. الثاني: تميل عن كهفهم ذات اليمين. {وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معنى تقرضهم تحاذيهم , والقرض المحاذاة , قاله الكسائي والفراء. الثاني: معناه تقطعهم ذات الشمال أي أنها تجوزهم منحرفة عنهم , من قولك قرضته بالمقراض أي قطعته. الثالث: معناه تعطيهم اليسير من شعاعها ثم تأخذه بانصرافها , مأخوذ من قرض الدراهم التي ترد لأنهم كانوا في مكان موحش , وقيل لأنه لم يكن عليهم سقف يظلهم ولو طلعت عليهم لأحرقتهم. وفي انحرافها عنهم في الطلوع والغروب قولان: أحدهما: لأن كهفهم كان بإزاء بنات نعش فلذلك كانت الشمس لا تصيبه في وقت الشروق ولا في وقت الغروب , قاله مقاتل. الثاني: أن الله تعالى صرف الشمس عنهم لتبقى أجسامهم وتكون عبر لمن يشاهدهم أو يتصل به خبرهم.(3/290)
{وهم في فجوة منه} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني في فضاء منه , قاله قتادة. الثاني: داخل منه , قاله سعيد بن جبير. الثالث: أنه المكان الموحش. الرابع: أنه ناحية متسعة , قاله الأخفش , ومنه قول الشاعر:
(ونحن ملأنا كلَّ وادٍ وفجوةٍ ... رجالاً وخيلاً غير ميلٍ ولا عُزْلِ)(3/291)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال.(3/291)
وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا} قوله عز وجل: {وتحسبهم أيقاظاً وهم رقودٌ} الأيقاظ: المنتبهون. قال الراجز:
(قد وجدوا إخوانهم أيقاظا ... والسيف غياظ لهم غياظا)
والرقود: النيام. قيل إن أعينهم كانت مفتوحة ويتنفسون ولا يتكلمون. {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} يعني تقلب النيام لأنهم لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض لطول مكثهم. وقيل إنهم كانوا يقلبون في كل عام مرتين , ستة أشهر على جنب. وستة أشهر على جنبٍ آخر , قاله ابن عباس. قال مجاهد: إنما قلبوا تسع سنين بعد ثلاثمائة سنة لم يقلبوا فيها. وفيما تحسبهم من أجله أيقاظاً وهم رقود قولان: أحدهما: لانفتاح أعينهم. الثاني: لتقليبهم ذات اليمين وذات الشمال. {وكلبهم باسِطٌ ذِراعيه بالوصيد} في {كلبهم} قولان: أحدهما: أنه كلب من الكلاب كان معهم , وهو قول الجمهور. وقيل إن اسمه كان حمران. الثاني: أنه إنسان من الناس كان طباخاً لهم تبعهم , وقيل بل كان راعياً. وفي {الوصيد} خمسة تأويلات: أحدها: أنه العتبة. الثاني: أنه الفناء قاله ابن عباس. الثالث: أنه الحظير , حكاه اليزيدي. الرابع: أن الوصيد والصعيد التراب , قاله سعيد بن جبير. الخامس: أنه الباب , قاله عطية , وقال الشاعر:
(بأرض فضاءَ لا يُسَدُّ وَصيدها ... عليَّ ومعروفي بها غيرُ مُنْكَرِ)
وحكى جرير بن عبيد أنه كان كلباً ربيباً صغيراً. قال محمد بن إسحاق كان اصفر اللون. {لو أطّلعت عليهم لوليت منهم فِراراً ولملِئت منهم رُعباً} فيه وجهان: أحدهما: لطول أظفارهم وشعورهم يأخذه الرعب منهم فزعاً.(3/292)
الثاني: لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة التي ترد عنهم الأبصار لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله. حكى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غزوت مع معاوية رضي الله عنه في بحر الروم فانتهينا إلى الكهف الذي فيه أصحاب الكهف , فقال معاوية أريد أن أدخل عليهم فأنظر إليهم , فقلت ليس هذا لك فقد منعه الله من هو خير منك , قال تعالى {لو اطعلت عليهم لوليت منهم فراراً} الآية. فأرسل جماعة إليهم دخلوا الكهف أرسل الله عليهم ريحاً أخرجتهم. وقيل إن هذه المعجزة من قومهم كانت لنبي قيل إنه كان أحدهم وهو الرئيس الذي اتبعوه وآمنوا به.(3/293)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
{وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا} قوله عز وجل: {وكذلك بعثناهم} يعني به إيقاظهم من نومهم. قال مقاتل: وأنام الله كلبهم معهم. {ليتساءلوا بينهم قال قائلٌ منهم كم لبثتم} ليعلموا قدر نومهم. {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} كان السائل منهم أحدهم , والمجيب له غيره , فقال لبثنا يوما لأنه أطول مدة النوم المعهود , فلما رأى الشمس لم تغرب قال {أو بعض يوما} لأنهم أنيموا أول النهار ونبهوا آخره. {قالوا ربُّكم أعْلمُ بما لبثتم} وفي قائله قولان:(3/293)
أحدهما: أنه حكاية عن الله تعالى أنه أعلم بمدة لبثهم. الثاني: أنه قول كبيرهم مكسلمينا حين رأى الفتية مختلفين فيه فقال {ربكم أعلم بما لبثتم} فنطق بالصواب ورد الأمر إلى الله عالمه , وهذا قول ابن عباس. {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة} قرىء بكسر الراء وبتسكينها , وهو في القراءتين جميعاً الدراهم , وأما الورَق بفتح الراء فهي الإبل والغنم , قال الشاعر:
(إياك أدعو فتقبل مَلَقي ... كَفِّرْ خطاياي وثمِّرْ ورقي)
يعني إبله وغنمه. {فلينظر أيها أزكي طعاماً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أيها أكثر طعاماً , وهذا قول عكرمة. الثاني: أيها أحل طعاماً , وهذا قول قتادة. الثالث: أطيب طعاماً , قاله الكلبي. الرابع: أرخص طعاماً. {فليأتكم برزق مِنْه} فيه وجهان: أحدهما: بما ترزقون أكله. الثاني: بما يحل لكم أكله. {وليتلطف ... } يحتمل وجهين: أحدهما: وليسترخص. الثاني: وليتلطف في إخفاء أمركم. وهذا يدل على جواز اشتراك الجماعة في طعامهم وإن كان بعضهم أكثر أكلاً وهي المناهدة , وكانت مستقبحة في الجاهلية(3/294)
فجاء الشرع بإباحتها. قوله عز وجل: {إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يرجموكم بأيديهم استنكاراً لكم , قاله الحسن. الثاني: بألسنتهم غيبة لكم وشتماً , قاله ابن جريج. الثالث: يقتلوكم. والرجم القتل لأنه أحد أسبابه. {أو يعيدوكم في ملتهم} يعني في كفرهم. {ولن تفلحوا إذاً أبداً} إن أعادوكم في ملتهم.(3/295)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا} قوله عز وجل: {وكذلك أعثرنا عليهم} فيه وجهان أحدهما: أظهرنا أهل بلدهم عليهم. الثاني: أطلعنا برحمتنا إليهم. {وليعلموا أن وعْدَ اللهِ حقٌّ ... } يحتمل وجهين: أحدهما: ليعلم أهل بلدهم أن وعد الله حق في قيام الساعة وإعادة الخلق أحياء , لأن من أنامهم كالموتى هذه المدة الخارجة عن العادة ثم أيقظهم أحياء قادر على إحياء من أماته وأقبره. الثاني: معناه ليرى أهل الكهف بعد علمهم أن وعد الله حق في إعادتهم. {إذ يتنازعون بينهم أمرهم} ذلك أنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها وطعام , استنكروا شخصه واستنكرت ورقه لبعد العهد فحمل إلى الملك وكان صالحاً قد آمن ومن معه , فلما نظر إليه قال: لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك فقد كنت أدعو الله أن يريناهم , وسأل الفتى فأخبره فانطلق والناس معه إليهم , فلما دنوا من أهل الكهف وسمع الفتية كلامهم خافوهم ووصى بعضهم بعضاً بدينهم فلما دخلوا عليهم أماتهم الله ميتة الحق , فحينئذ كان التنازع الذي ذكره الله تعالى فيهم.(3/295)
وفي تنازعهم قولان: أحدهما: أنهم تنازعوا هل هم أحياء أم موتى؛ الثاني: أنهم تنازعوا بعد العلم بموتهم هل يبنون عليهم بنياناً يعرفون به أم يتخذون عليهم مسجداً. وقيل: إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب , فأتاه آت منهم في المنام فقال: أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود فدعْنا.(3/296)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
{سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا}(3/296)
قوله عز وجل: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} فأدخل الواو على انقطاع القصة لأن الخبر قد تم. {قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل} في المختلفين في عددهم قولان: أحدهما: أنهم أهل المدينة قبل الظهور عليهم. الثاني: أنهم أهل الكتاب بعد طول العهد بهم. وقوله تعالى: {رجماً بالغيب} قال قتادة قذفاً بالظن , قال زهير:
(وما الحرب إلاَّ ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجّم.)
وقال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله تعالى: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق: كانوا ثمانية , وجعلا قوله تعالى: {وثامنهم كلبهم} أي صاحب كلبهم. وكتب قومهم أسماءهم حين غابوا , فلما بان أمرهم كتبت أسماؤهم على باب الكهف. قال ابن جريج: أسماؤهم مكسلمينا ويمليخا وهو الذي مضى بالورق يشتري به الطعام , ومطرونس , ومحسيميلنينا , وكشوطوش , وبطلنوس ويوطونس وبيرونس.(3/297)
قال مقاتل: وكان الكلب لمكسلمينا وكان أسنهم وكان صاحب غنم. {فلا تمار فيهم إلاّ مراءً ظاهراً} فيه خمسة أوجه: أحدها: إلا ما قد أظهرنا لك من أمرهم , قاله مجاهد. الثاني: حسبك ما قصصا عليك من شأنهم , فلا تسألني عن إظهار غيره , قاله قتادة. الثالث: إلا مِراء ظاهراً يعني بحجة واضحة وخبر صادق , قاله علي بن عيسى. الرابع: لا تجادل فيهم أحداً ألا أن تحدثهم به حديثاً , قاله ابن عباس. الخامس: هو أن تشهد الناس عليهم. {ولا تستفت فيهم منهم أحداً} فيه وجهان: أحدهما: ولا تستفت يا محمد فيهم أحداً من أهل الكتاب , قاله ابن عباس. ومجاهد وقتادة. الثاني: أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ونهي لأمته.(3/298)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} قوله عز وجل: {ولا تقولن لشيءإني فاعلٌ ذلك غداً} {إلا إن يشاء الله} قال الأخفش: فيه إضمار وتقديره: إلا أن تقول إن شاء الله , وهذا وإن كان أمراً فهو على وجه التأديب والإرشاد أن لا تعزم على أمر إلا أن تقرنه بمشيئة الله تعالى لأمرين: أحدهما: أن العزم ربما صد عنه بمانع فيصير في وعده مخلفاً في قوله كاذباً , قال موسى عليه السلام {ستجدني إن شاء الله صابراً} [الكهف: 70] ولم يصبر ولم يكن كاذباً لوجود الاستثناء في كلامه. الثاني: إذعاناً لقدرة الله تعالى , وإنه مدبر في أفعاله بمعونة الله وقدرته.(3/298)
الثالث: يختص بيمينه إن حلف وهو سقوط الكفارة عنه إذا حنث. {واذكر ربك إذا نسيت} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنك إذا نسيت الشيء فاذكرالله ليذكرك إياه , فإن فعل فقد أراد منك ما ذكرك , وإلا فسيدلك على ما هو أرشد لك مما نسيته , قاله بعض المتكلمين. الثاني: واذكر ربك إذا غضبت , قاله عكرمة , ليزول عنك الغضب عند ذكره. الثالث: واذكر ربك إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله في يمينك. وفي الذكر المأمور به قولان: أحدهما: أنه ما ذكره في بقية الآية {وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً} الثاني: أنه قول إن شاء الله الذي كان نسيه عند يمينه. واختلفوا في ثبوت الاستثناء بعد اليمين على خمسة أقاويل: أحدها: أنه يصح الاستثناء بها إلى سنة , فيكون كالاستثناء بها مع اليمين في سقوط الكفارة ولا يصح بعد السنة , قاله ابن عباس. الثاني: يصح الاستثناء بها في مجلس يمينه , ولا يصح بعد فراقه , قاله الحسن وعطاء. الثالث: يصح الاستثناء بها ما لم يأخذ في كلام غيره. الرابع: يصح الاستثناء بها مع قرب الزمان , ولا يصح مع بعده. الخامس: أنه لا يصح الاستثناء بها إلا متصلاً بيمينه وهو الظاهر من مذهب مالك والشافعي رحمهما الله.(3/299)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
{ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا}(3/299)
قوله عز وجل: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً} في قراءة ابن مسعود قالوا لبثوا في كهفهم. وفيه قولان: أحدهما: أن هذا قول اليهود , وقيل بل نصارى نجران أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً , فرد الله تعالى عليهم قولهم وقال لنبيه {قل الله أعلم بما لبثوا} واتلقول الثاني: أن هذا إخبار من الله تعالى بهذا العدد عن مدة بقائهم في الكهف من حين دخلوه إلى ما ماتوا فيه. {وازدادوا تسعاً} هو ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية. {قل الله أعلم بما لبثوا} فيه وجهان: أحدهما: بما لبثوا بعد مدتهم إلى نزول القرآن فيهم. الثاني: الله أعلم بما لبثوا في الكهف وهي المدة التي ذكرها عن اليهود إذ ذكروا زيادة ونقصاناً. قوله عز وجل: { ... أبصر به وأسمع} فيه تأويلان: أحدهما: أن الله أبصر وأسمع , أي أبصر , بما قال وأسمع لما قالوا. الثاني: معناه أبصرهم وأسمعهم , ما قال الله فيهم. {ما لهم من دونه من وَليّ} فيه وجهان: أحدهما: من ناصر. الثاني: من مانع. {ولا يشرك في حكمه أحداً} فيه وجهان: أحدهما: ولا يشرك في علم غيبه أحداً. الثاني: أنه لم يجعل لأحد أن يحكم بغير حكمه فيصير شريكاً له في حكمه.(3/300)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
{واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}(3/300)
قوله تعالى: { ... ولن تجد من دونه مُلتحداً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: ملجأ، قاله مجاهد، قال الشاعر:
(لا تحفيا يا أخانا من مودّتنا ... فما لنا عنك في الأقوام مُلتحد)
الثاني: مهرباً , قاله قطرب , قال الشاعر:
(يا لهف نفسي ولهفٌ غير مغنيةٍ ... عني وما مِنْ قضاء الله ملتحدُ)
الثالث: معدلاً , قاله الأخفش. الرابع: ولياً , قاله قتادة. ومعانيها متقاربة. قوله عز وجل: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم} فيه وجهان: أحدهما: يريدون تعظيمه. الثاني: يريدون طاعته. قال قتادة: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فلما نزلت عليه قال: (الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر معهم) . {يدعون ربهم بالغداة والعشي} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يدعونه رغبة ورهبة. الثاني: أنهم المحافظون على صلاة الجماعة , قاله الحسن. الثالث: أنها الصلاة المكتوبة , قاله ابن عباس ومجاهد. ويحتمل وجهاً رابعاً: أن يريد الدعاء في أول النهار وآخره ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق , ويختموه بالدعاء طلباً للمغفرة. {يريدون وجهه} يحتمل وجهين: أحدهما: بدعائهم. الثاني: بعمل نهارهم. وخص النهار بذلك دون الليل لأن عمل النهار إذا كان لله تعالى فعمل الليل أولى أن يكون له. {ولا تعد عيناك عنهم. .} فيه وجهان:(3/301)
أحدهما: ولا تتجاوزهم بالنظر إلى غيرهم من أهل الدنيا طلباً لزينتها , حكاه اليزيدي. الثاني: ما حكاه ابن جريج أن عيينة بن حصن قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم: لقد آذاني ريح سلمان الفارسي وأصحابه فاجعل لنا مجلساً منك لا يجامعونا فيه , واجعل لهم مجلساً لا نجامعهم فيه , فنزلت. {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذِكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً} . قوله {أغفلنا} فيه وجهان: أحدهما: جعلناه غافلاً عن ذكرنا. الثاني: وجدناه غافلاً عن ذكرنا. وفي هذه الغفله لأصحاب الخواطر ثلاثة أوجه: أحدها: أنها إبطال الوقت بالبطالة , قاله سهل بن عبد الله. الثاني: أنها طول الأمل. الثالث: أنها ما يورث الغفلة. {واتبع هواه} فيه وجهان: أحدهما: في شهواته وأفعاله. الثاني: في سؤاله وطلبه التمييز عن غيره. {وكان أمرُه فُرُطاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: ضيقاً , وهو قول مجاهد. الثاني: متروكاً , قاله الفراء. الثالث: ندماً قاله ابن قتيبة. الرابع: سرفاً وإفراطاً , قاله مقاتل. الخامس: سريعاً. قاله ابن بحر. يقال أفرط إذا أسرف وفرط إذا قصر.(3/302)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا}(3/302)
قوله عز وجل: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} هذا وإن كان خارجاً مخرج التخيير فهو على وجه التهديد والوعيد , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم لا ينفعون الله بإيمانهم ولا يضرونه بكفرهم. الثاني: فمن شاء الجنة فليؤمن , ومن شاء النار فليكفر , قاله ابن عباس. الثالث: فمن شاء فليعرِّض نفسه للجنة بالإيمان , ومن شاء فليعرض نفسه للنار بالكفر. {إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن سرادقها حائط من النار يطيف بهم , قاله ابن عباس. الثاني: هو دخانها ولهيبها قبل وصولهم إليها , وهو الذي قال الله تعالى فيه {إلى ظلٍّ ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب} [المرسلات: 30 - 31] . قاله قتادة. الثالث: أنه البحر المحيط بالدنيا. روى يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (البحر هو جهنم) ثم تلا {ناراً أحاط بهم سرادقها} ثم قال (والله لا أدخلها أبداً ما دمت حياً ولا يصيبني منها قطرة) والسرادق فارسي معرب , واصله سرادر. {وإن يستغيثوا يُغَاثوا بماءٍ كالمهل ... } فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه القيح والدم , قاله مجاهد. الثاني: دردي الزيت , قاله ابن عباس. الثالث: أنه كل شيء أذيب حتى انماع؛ قاله ابن مسعود. الرابع: هو الذي قد انتهى حره , قاله سعيد بن جبير , قال الشاعر:
(شاب بالماء منه مهلاً كريهاً ... ثم علّ المتون بعد النهال)
وجعل ذلك إغاثة لاقترانه بذكر الاستغاثة. { ... بئس الشراب وساءت مرتفقاً} في المرتفق أربعة تأويلات: أحدها: معناه مجتمعاً , قاله مجاهد , كأنه ذهب إلى معنى المرافقة.(3/303)
الثاني: منزلاً قاله الكلبي , مأخوذ من الارتفاق. الثالث: أنه من الرفق. الرابع: أنه من المتكأ مضاف إلى المرفق , ومنه قول أبي ذؤيب:
(نامَ الخَلِيُّ وَبِتُّ الليْلَ مُرْتَفِقاً ... كَأَنَّ عَيْنِي فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ)(3/304)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا} قوله عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجْر من أحسن عملاً} روى البراء بن عازب أن أعرابياً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: إني رجل متعلم فأخبرني عن هذه الآية {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية فقال رسول الله صلى عليه وسلم (يا أعرابي ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك، هم هؤلاء الأربعة الذين هم وقوف، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم) . قوله عز وجل: { ... ويلبسون ثياباً خُضْراً مِن سندس وإستبرق} أما السندس: ففيه قولان: أحدهما: أنه من ألطف من الديباج , قاله الكلبي. الثاني: ما رَقَّ من الديباج , واحده سندسة، قاله ابن قتيبة. وفي الاستبرق قولان: أحدهما: أنه ما غلظ من الديباج , قاله ابن قتيبة، وهو فارسي معرب , أصله استبره وهو الشديد , وقد قال المرقش:(3/304)
(تراهُنَّ يَلبْسنَ المشاعِرَ مرة ... وإسْتَبْرَقَ الديباج طوراً لباسُها)
الثاني: أنه الحرير المنسوج بالذهب , قاله ابن بحر. {متكئين فيها على الأرائك} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الحجال , قاله الزجاج. الثاني: أنها الفُرُش في الحجال. الثالث: أنها السرر في الحجال , وقد قال الشاعر:
(خدوداً جفت في السير حتى كأنما ... يباشرْن بالمعزاء مَسَّ الأرائكِ)(3/305)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
{واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا} قوله تعالى: {واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين} الجنة: البستان , فإذا جمع العنب والنخل وكان تحتها زرع فهي أجمل الجنان وأجداها نفعاً , لثمر أعاليها وزرع أسافلها، وهو معنى قوله {وجعلنا بينهما رزعاً} . {كلتا الجَنتين آتت أكلُها} أي ثمرها وزرعها , وسماه أكُلاً لأنه مأكول. {ولم تظلم منه شيئاً} أي استكمل جميع ثمارها وزرعها. {وفجرنا خِلالهما نهراً} يعني أن فيهما أنهاراً من الماء , فيكون ثمرها وزرعها بدوام الماء فيهما أو في وأروى , وهذه غاية الصفات فيما يجدي ويغل. وفي ضرب المثل في هاتين الجنتين قولان: أحدهما: ما حكاه مقاتل بن سليمان أنه إخبار الله تعالى عن أخوين كانا في(3/305)
بني إسرائيل ورثا عن أبيهما مالاً جزيلاً , قال ابن عباس ثمانية آلاف دينار. فأخذ أحدهما حقه وهو مؤمن فتقرب به إلى الله تعالى , وأخذ الآخر حقه منه وهو كافر فتملك به ضياعاً منها هاتان الجنتان , ولم يتقرب إلى الله تعالى بشيء منه , فكان من حاله ما ذكره الله من بعد , فجعله الله تعالى مثلاً لهذه الأمة. والقول الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة , وليس بخبر عن حال متقدمة , ليزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة , وجعله زجراً وإنذاراً. قوله عز وجل: {وكان له ثمرٌ} قرأ عاصم بفتح الثاء والميم , وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم , وقرأ الباقون ثُمُر بضم الثاء والميم. وفي اختلاف هاتين القراءتين بالضم والفتح قولان: أحدهما: معناهما واحد , فعلى هذا فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه الذهب والفضة , قاله قتادة , لأنها أموال مثمرة. الثاني: أنه المال الكثير من صنوف الأموال , قاله ابن عباس لأن تثميره أكثر الثالث: أنه الأصل الذي له نماء , قاله ابن زيد , لأن في النماء تثميراً. والقول الثاني: أن معناهما بالضم وبالفتح مختلف , فعلى هذا في الفرق. بينهما , أربعة أوجه: أحدها: أنه بالفتح جمع ثمرة , وبالضم جمع ثمار. الثاني: أنه بالفتح ثمار النخيل خاصة , وبالضم جميع الأموال , قاله ابن بحر. الثالث: أنه بالفتح ما كان ثماره من أصله , وبالضم ما كان ثماره من غيره. الرابع: أن الثمر بالضم الأصل , وبالفتح الفرع , قاله ابن زيد. وفي هذا الثمر المذكور قولان: أحدهما: أنه ثمر الجنتين المتقدم ذكرهما , وهو قول الجمهور. الثاني: أنه ثمر ملكه من غير جنتيه , وأصله كان لغيره كما يملك الناس ثماراً لا يملكون أصولها , قاله ابن عباس , ليجتمع في ملكه ثمار أمواله وثمار غير أمواله فيكون أعم مِلكا. {فقال لصاحبه} يعني لأخيه المسلم الذي صرف ماله في القُرب طلباً للثواب(3/306)
في الآخرة، وصرف هذا الكافر ماله فيما استبقاه للدنيا والمكاثرة. {وهو يحاوره} أي يناظره , وفيما يحاوره فيه وجهان: أحدهما: في الإيمان والكفر. الثاني: في طلب الدنيا وطلب الآخرة , فجرى بينهما ما قصة الله تعالى من قولهما.(3/307)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
{قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا} قوله تعالى: {فعسى ربّي أن يؤتين خيراً مِنْ جنتك} فيه وجهان: أحدهما: خيراً من جنتك في الدنيا فأساويك فيها. الثاني: وهو الأشهر خيراً من جنتك في الآخرة , فأكون أفضل منك فيها. {ويرسل عليها حُسْباناً من السماء} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعني عذاباً , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: ناراً. الثالث: جراداً. الرابع: عذاب حساب بما كسبت يداك , قاله الزجاج , لأنه جزاء الآخرة. والجزاء من الله تعالى بحساب. الخامس: أنه المرامي الكثيرة , قاله الأخفش وأصله الحساب وفي السهام التي يرمى بها في طلق واحد , وكان من رَمي الأساورة. {فتصبح صعيداً زلقاً} يعني أرضاً بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم , وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض. {أو يصبح ماؤها غوراً} يعني ويصبح ماؤها غوراً , فأقام أو مقام الواو , و {غوراً} يعني غائراً ذاهباً فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كان فيها.(3/307)
{فلن تستطيع له طلباً} ويحتمل وجهين: أحدهما: فلن تستطيع رد الماء الغائر. الثاني: فلن تستطيع طلب غيره بدلاً منه وإلى هذا الحد انتهت مناظرة أخيه وإنذاره.(3/308)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
{وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا} قوله عز وجل: {وأحيط بثمرِهِ} أي أهلك ماله , وهذا أول ما حقق الله به إنذار أخيه. {فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها} يحتمل وجهين: أحدهما: يقلب كفيه ندماً على ما أنفق فيها وأسفاً على ما تلف. الثاني: يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق وهلك , لأن الملك قد يعبر عنه باليد , من قولهم في يده مال , أي في ملكه. {وهي خاويةٌ على عروشِها} أي منقلبة على عاليها فجمع عليه بين هلاك الأصل والثمر , وهذا من أعظم الجوائح مقابلة على بغيه. قوله عز وجل: {ولم تكُنْ له فِئة ينصرونه منْ دونِ الله} فيه وجهان: أحدهما: أن الفئة الجند , قاله الكلبي. الثاني: العشيرة , قاله مجاهد. {وما كان منتصراً} فيه وجهان: أحدهما: وما كان ممتنعاً , قاله قتادة. الثاني: وما كان مسترداً بدل ما ذهب منه. قال ابن عباس: هما الرجلان ذكرهما الله تعالى في سورة الصافات حيث يقول: {إني كان لي قرين} إلى قوله {في سواء الجحيم} وهذا مثل قيل إنه ضرب لسلمان وخباب وصهيب مع أشراف قريش من المشركين.(3/308)
قوله تعالى: {هنالك الولاية لله الحق} يعني القيامة. وفيه أربعة أوجه: أحدها: أنهم يتولون الله تعالى في القيامة فلا يبقى مؤمن لا كافر إلا تولاه , قاله الكلبي. الثاني: أن الله تعالى يتولى جزاءهم , قاله مقاتل. الثالث: أن الولاية مصدر الولاء فكأنهم جميعاً يعترفون بأن الله تعالى هو الوليّ قاله الأخفش. الرابع: أن الولاية النصر , قاله اليزيدي. وفي الفرق بين الولاية بفتح الواو وبين الولاية بكسرها وجهان: أحدهما: أنها بفتح الواو: للخالق , وبكسرها: للمخلوقين , قاله أبو عبيدة. الثاني: أنها بالفتح في الدين , وبكسرها في السلطان.(3/309)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
{واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} قوله عز وجل: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نباتُ الأرض} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الماء اختلط بالنبات حين استوى. الثاني: أن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء حتى نما. {فأصبح هشيماً تذروهُ الرياحُ} يعني بامتناع الماء عنه , فحذف ذلك إيجازاً لدلالة الكلام عليه , والهشيم ما تفتت بعد اليبس من أوراق الشجر والزرع , قال الشاعر:
(فأصبحت نيّماً أجسادهم ... يشبهها من رآها الهشيما)
واختلف في المقصود بضرب هذا المثل على قولين: أحدهما: أن الله تعالى ضربه مثلاً للدنيا ليدل به على زوالها بعد حسنها وابتهاجها:(3/309)
الثاني: أن الله تعالى ضربه مثلاُ لأحوال أهل الدنيا أن مع كل نعمة نقمة ومع كل فرحة ترحة. قوله عز وجل: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} لأن في المال جمالاً ونفعاً وفي {البنين} قوة ودفعاً فصارا زينة الحياة الدنيا. {والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً} فيها أربعة تأويلات: أحدها: أنها الصلوات الخمس , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. الثاني: أنها الأعمال الصالحة , قاله ابن زيد. الثالث: هي الكلام الطيب. وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً , وقاله عطية العوفي. الرابع: هو قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هي الباقيات الصالحات) . وفي {الصالحات} وجهان: أحدهما: أنها بمعنى الصالحين لأن الصالح هو فاعل الصلاح. الثاني: أنها بمعنى النافعات فعبر عن المنفعة بالصلاح لأن المنفعة مصلحة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما عُرج بي إلى السماء أريت إبراهيم(3/310)