{ويدخلهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ أُولَئِكَ حزب الله أَلا إِن حزب الله هم المفلحون (22) .}
وَقَوله: {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان} أَي: أَدخل فِي قُلُوبهم الْإِيمَان. وَقيل: كتب أَي: جعل فِي قُلُوبهم عَلامَة تدل على إِيمَانهم.
وَقَوله: {وأيدهم بِروح مِنْهُ} أَي: قواهم بنصر مِنْهُ. وَقيل: بِنَظَر مِنْهُ. وَقيل: برحمة مِنْهُ.
وَقَوله: {ويدخلهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَقَوله: {أُولَئِكَ حزب الله} أَي: جند الله. وَقيل: خَاصَّة الله وصفوته. وَتقول الْعَرَب: أَنا فِي حزب فلَان أَي: فِي شقّ فلَان وجانبه.
وَقَوله: {أَلا إِن حزب الله هم المفلحون} أَي: هم السُّعَدَاء الْبَاقُونَ فِي نعيم الْأَبَد. وَقيل: هم الَّذين نالوا رضَا الله تَعَالَى، وَالله أعلم.(5/394)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (1) هُوَ الَّذِي أخرج}
تَفْسِير سُورَة الْحَشْر
وَهِي مَدَنِيَّة
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه سَمَّاهَا سُورَة النَّضِير، وَالله اعْلَم(5/395)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
قَوْله تَعَالَى: {سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} أَي: صلى وَتعبد لله. وَالتَّسْبِيح لله تَعَالَى: هُوَ تنزيهه من كل سوء. وَذكر بَعضهم عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: كل تَسْبِيح ورد فِي الْقُرْآن فَهُوَ بِمَعْنى الصَّلَاة. وَمِنْه قَوْله: سبْحَة الضُّحَى أَي: صَلَاة الضُّحَى.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب على الْأَشْيَاء، الْحَكِيم فِي الْأُمُور.(5/395)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أخرج الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من دِيَارهمْ} قَالَ جمَاعَة الْمُفَسّرين: هم بَنو النَّضِير من الْيَهُود، وَكَانَ رَسُول الله وادعهم وَشرط عَلَيْهِم أَن لَا ينصرُوا مُشْركي قُرَيْش، فنقضوا الْعَهْد. وَرُوِيَ أَن نقضهم الْعَهْد كَانَ هُوَ أَن النَّبِي أَتَاهُم يَسْتَعِين بهم فِي دِيَة التلاديين وَقيل الْعَامِرِيين قَتْلَى عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي، فجَاء وَقعد فِي أصل حصنهمْ فَقَالُوا: مَا جَاءَ بك يَا مُحَمَّد؟ ! فَذكر لَهُم مَا جَاءَ فِيهِ، واستعان بهم، فدبروا ليلقوا عَلَيْهِ صَخْرَة ويقتلوه؛ فجَاء جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأخْبرهُ، فَرجع إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ حَاصَرَهُمْ وأجلاهم ".
وَقَوله: {لأوّل الْحَشْر} قَالَ الْحسن: معنى أول الْحَشْر: هُوَ أَن الشَّام أَرض الْحَشْر والمنشر، وَكَانَ رَسُول الله أجلاهم إِلَى الشَّام، فإجلاءه إيَّاهُم كَانَ هُوَ الْحَشْر الأول، والحشر الثَّانِي يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ قَول عِكْرِمَة أَيْضا. وَقَالَ عِكْرِمَة: من شكّ أَن الشَّام أَرض الْمَحْشَر فليقرأ قَوْله تَعَالَى: {لأوّل الْحَشْر} . وَقيل: إِن بني النَّضِير كَانُوا أول من(5/395)
{الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من دِيَارهمْ لأوّل الْحَشْر مَا ظننتم أَن يخرجُوا وظنوا أَنهم مانعتهم حصونهم من الله فَأَتَاهُم الله من حَيْثُ لم يحتسبوا وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار (2) وَلَوْلَا أَن} أجلوا عَن بِلَادهمْ من الْيَهُود فَقَالَ: {لأوّل الْحَشْر} بِهَذَا الْمَعْنى. ثمَّ إِن عمر رَضِي الله عَنهُ أجلى بَاقِي الْيَهُود عَن جَزِيرَة الْعَرَب اسْتِدْلَالا بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " لَا يجْتَمع دينان فِي جَزِيرَة الْعَرَب " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وجزيرة الْعَرَب من حفر أبي مُوسَى إِلَى أقْصَى حجر بِالْيمن طولا، وَمن رمل يبرين إِلَى مُنْقَطع السماوة عرضا. وَالْقَوْل الثَّانِي قَول مُجَاهِد وَغَيره.
وَقَوله: {مَا ظننتم أَن يخرجُوا} مَعْنَاهُ: مَا ظننتم أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ أَن يخرجُوا؛ لأَنهم كَانُوا أعز الْيَهُود بِأَرْض الْحجاز وأمنعهم جانبا.
قَوْله: {وظنوا أَنهم مانعتهم حصونهم من الله} أَي: من عَذَاب الله.
وَقَوله: {فَأَتَاهُم الله من حَيْثُ لم يحتسبوا} قَالَ السدى: هُوَ بقتل كَعْب بن الْأَشْرَف، قَتله مُحَمَّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ حِين بَعثه رَسُول الله وَكَانَ صديقا لكعب فِي الْجَاهِلِيَّة فَجَاءَهُ لَيْلًا ودق عَلَيْهِ بَاب الْحصن، فَنزل وفاغتاله وَقَتله، وَرُوِيَ أَن مُحَمَّد بن مسلمة قَالَ لكعب: أَلَسْت كنت تعدنا خُرُوج هَذَا النَّبِي؟ وَتقول: هُوَ الضحوك الْقِتَال يركب الْبَعِير، ويلبس الشملة، يجترئ بالكسرة، سَيْفه على عَاتِقه، لَهُ ملاحم وملاحم. فَقَالَ: نعم، وَلَكِن لَيْسَ هُوَ بِذَاكَ. فَقَالَ كذبت يَا عَدو الله، بل حسدتموه.
وَقَوله: {وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب} أَي: الْخَوْف، وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " نصرت بِالرُّعْبِ مسيرَة شهر ".
وَقَوله: {يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ} وَقُرِئَ: " يخربون " من(5/396)
{كتب الله عَلَيْهِم الْجلاء لعذبهم فِي الدُّنْيَا وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب النَّار (3) ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يشاق الله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب (4) مَا قطعْتُمْ من لينَة} الإخراب، فَمنهمْ من قَالَ: هما وَاحِد، وَالتَّشْدِيد للتكثير. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: يخربون من فعل التخريب، ويخربون بِالتَّخْفِيفِ أَي: يتركوها خرابا. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ} وَلَا يتَصَوَّر أَن يخربوا بُيُوتهم بأيدي الْمُؤمنِينَ؟ وَالْجَوَاب: إِنَّمَا أضَاف إِلَيْهِم؛ لأَنهم هم الَّذين ألجأوا الْمُؤمنِينَ إِلَى التخريب، وحملوهم على ذَلِك بامتناعهم عَن الْإِيمَان. فَإِن قَالَ قَائِل: لم يخربوا بُيُوتهم؟ قُلْنَا: طلبُوا من ذَلِك توسيع مَوضِع الْقِتَال. وَعَن الزُّهْرِيّ: أَن الْمُسلمين كَانُوا يخربون من خَارج الْحصن، وَالْيَهُود كَانُوا يخربون من دَاخل الْحصن، وَكَانَ تخريبهم ذَلِك ليحملوا مَا استحسنوه من سقوف بُيُوتهم مَعَ أنفسهم. وَقيل: لِئَلَّا تبقى للْمُؤْمِنين.
وَقَوله: {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَالِاعْتِبَار هُوَ النّظر فِي الشَّيْء ليعرف بِهِ جنسه وَمثله. وَقيل مَعْنَاهُ: فانظروا وتدبروا يَا ذَوي الْعُقُول والفهوم، كَيفَ سلط الله الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِم، وسلطهم على أنفسهم؟ وَقد اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة على جَوَاز الْقيَاس فِي الْأَحْكَام، لِأَن الْقيَاس نوع اعْتِبَار؛ إِذْ هُوَ تَعْبِير شَيْء بِمثلِهِ بِمَعْنى جَامع بَينهمَا ليتفقا فِي حكم الشَّرْع.(5/397)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن كتب الله عَلَيْهِم الْجلاء لعذبهم فِي الدُّنْيَا} أَي: بِالسَّيْفِ. وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذِهِ الْآيَة على أَن الْإِخْرَاج من الدَّار بِمَنْزِلَة الْقَتْل؛ وَعَلِيهِ يدل قَوْله تَعَالَى: {أَن اقْتُلُوا أَنفسكُم أَو اخْرُجُوا من دِيَاركُمْ} .
وَقَوله: {وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب النَّار} أَي: عَذَاب جَهَنَّم.(5/397)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله} أَي: خالفوا الله وَرَسُوله. وَقد ذكرنَا أَن مَعْنَاهُ: صَارُوا فِي شقّ غير شقّ الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: {وَمن يشاق الله} أَي: يُخَالف الله {فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب} .(5/397)
{أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على أُصُولهَا فبإذن الله وليخزي الْفَاسِقين (5) وَمَا أَفَاء الله على}(5/398)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {مَا قطعْتُمْ من لينَة} قَالَ سعيد بن جُبَير: اللينة كل تمر سوى البرني والعجوة، وَأهل الْمَدِينَة يسمون التمور الألوان. وَقيل: اللينة: النَّخْلَة. وَعَن بَعضهم أَن اللينة: جمع الْأَشْجَار، سميت لينَة للينها بِالْحَيَاةِ. وَعَن سُفْيَان قَالَ: اللينة كرائم النخيل. وَقيل: هُوَ الفسيل، سمي لينَة لِأَنَّهُ لَا يكون فِي شدَّة الْحر. وَمن الْمَشْهُور أَن النَّبِي قَالَ: " الْعَجْوَة من الْجنَّة وفيهَا شِفَاء من السم ".
وَفِي الْقِصَّة: أَن أَصْحَاب رَسُول الله لما حاصروا بني النَّضِير كَانَ بَعضهم يقطع النخيل وَبَعْضهمْ يَتْرُكهَا.
وَفِي رِوَايَة: " أَن النَّبِي أَمرهم بِقطع النخيل، فَخرج الْيَهُود حِين رَأَوْا ذَلِك وَقَالُوا: يَا مُحَمَّد، أَلَسْت تنْهى عَن الْفساد، وَهَذَا من الْفساد، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ".
وَقد ثَبت بِرِوَايَة نَافِع عَن ابْن عمر " أَن النَّبِي حرق نخيل بني النَّضِير وقطعها، فَأنْزل الله تَعَالَى: {مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على أُصُولهَا فبإذن الله} " أَي: بِأَمْر الله، قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْخَبَر الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، أخبرنَا جدي، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، عَن قُتَيْبَة، عَن اللَّيْث بن سعد، عَن نَافِع. الْخَبَر. وَفِي رِوَايَة: أَن النَّبِي حرق البويرة، وَقَالَ شَاعِرهمْ شعرًا:
(وَهَان على سراة بني لؤَي ... حريق بالبويرة مستطير)
والبويرة: مَوضِع بني النَّضِير(5/398)
{رَسُوله مِنْهُم فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب وَلَكِن الله يُسَلط رسله على من يَشَاء وَالله على كل شَيْء قدير (6) مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ}
وَقَوله: {وليخزي الْفَاسِقين} هم الْيَهُود، وإخزاؤهم هُوَ رُؤْيَتهمْ كَيفَ يتحكم الْمُؤْمِنُونَ فِي أَمْوَالهم.(5/399)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَفَاء الله على رَسُوله مِنْهُم} أَي: من بني النَّضِير، والفيء كل مَال رد الله تَعَالَى من الْكفَّار إِلَى الْمُسلمين، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْفَيْء بِمَعْنى الرُّجُوع يُقَال: فَاء إِذا رَجَعَ، وَمِنْه فَيْء الظل، وَالْفرق بَين الْفَيْء وَالْغنيمَة: أَن الْغَنِيمَة هِيَ مَا أَخذه الْمُسلمُونَ من الْكفَّار بِإِيجَاف الْخَيل والركاب، والفيء مَا صَار إِلَى الْمُسلمين من أَمْوَال الْكفَّار من غير إيجَاف خيل وركاب.
وَقَوله: {فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب} الركاب: الْإِبِل، وَالْمعْنَى: أَن أَمْوَالهم صَارَت إِلَى رَسُول الله من غير إيجافكم بخيل أَو إبل. والإيجاف: الْإِسْرَاع. فَجعل الله تَعَالَى أَمْوَال بني النَّضِير للنَّبِي خَاصَّة، لِأَن النَّبِي ظهر عَلَيْهِم من غير قتال من الْمُسلمين، وَكَانَ يدّخر مِنْهَا قوت سنة لِعِيَالِهِ، وَالْبَاقِي يتَّخذ مِنْهُ الكراع وعدة فِي سَبِيل الله ".
وَفِي تَفْسِير قَتَادَة: أَن الْمُسلمين طلبُوا أَن يقسم بَينهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَجعل مَا أَصَابُوهُ للرسول خَاصَّة، وَكَانَ رَسُول الله لما أجلاهم شَرط أَن لَهُم مَا تحمله إبلهم إِلَّا الْحلقَة، يَعْنِي: السِّلَاح.
وَقَوله: {وَلَكِن الله يُسَلط رسله على من يَشَاء} أَي: رَسُوله على من يَشَاء.
وَقَوله: {وَالله على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.(5/399)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل} فِي الْآيَة بَيَان مصارف الْخمس، وَقد بَينا من قبل،(5/399)
{وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل كي لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا وَاتَّقوا الله إِن الله شَدِيد الْعقَاب (7) للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون (8) وَالَّذين تبوءوا الدَّار} والقرى هِيَ الْقرى الْعَرَبيَّة مثل: خَيْبَر، ووادي الْقرى، وفيماء، وَغَيرهَا. وَمن الْمَشْهُور فِي التَّفْسِير أَيْضا: أَن النَّبِي قسم أَمْوَال بني النَّضِير بَين الْمُهَاجِرين، وَلم يُعْط الْأَنْصَار مِنْهَا شَيْئا إِلَّا ثَلَاثَة نفر: سهل بن حنيف، وَأَبا دُجَانَة، والْحَارث بن الصمَّة، وَهَذَا قَول غير القَوْل الأول الَّذِي ذكرنَا، وَهُوَ الْأَشْهر، فعلى هَذَا جعل الله أَمْوَال بني النَّضِير للرسول خَاصَّة قسمهَا بَين الْمُهَاجِرين ليكفي الْأَنْصَار مؤنتهم.
وَقَوله تَعَالَى: {كي لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم} أَي: لِئَلَّا يتداوله الْأَغْنِيَاء مِنْكُم. والتداول هُوَ النَّقْل من يَد إِلَى يَد.
وَقَوله: {وَمَا أَتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} حث الله تَعَالَى الْمُسلمين فِي هَذِه الْآيَة على التَّسْلِيم لأمر الله تَعَالَى وَنَهْيه؛ لِأَن الْمَعْنى وَمَا أَتَاكُم الرَّسُول عَن الله فَخُذُوهُ، وَمَا نهاكم عَن الله فَانْتَهوا.
وَقَوله: {وَاتَّقوا الله إِن الله شَدِيد الْعقَاب} أَي: الْعقُوبَة.(5/400)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين} يَعْنِي: مَا أَفَاء الله على رَسُوله للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين {الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ} فديارهم مَكَّة وَغَيرهَا، وَأَمْوَالهمْ مَا خلفوها عِنْد هجرتهم.
وَقَوله: {يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا} أَي: يطْلبُونَ فضل الله وَرضَاهُ.
وَقَوله: {وينصرون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون} أَي: الصادقون عقدا وقولا وفعلا.(5/400)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين تبوءوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم} أجمع أهل التَّفْسِير على أَن المُرَاد بهم الْأَنْصَار.(5/400)
{وَالْإِيمَان من قبلهم يحبونَ من هَاجر إِلَيْهِم وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم}
وَقَوله: {تبوءوا الدَّار وَالْإِيمَان} أَي: استوطنوا الْمَدِينَة، وقبلوا الْإِيمَان. وَقيل: تبوءوا الدَّار أَي: أعدُّوا الديار للمهاجرين وواسوهم فِي كل مَالهم.
وَقَوله: {وَالْإِيمَان} أَي: جعلُوا دُورهمْ دور الْإِيمَان، وَذَلِكَ بإظهارهم الْإِيمَان فِيمَا بَينهم، فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {من قبلهم} وَالْأَنْصَار إِنَّمَا آمنُوا من بعد الْمُهَاجِرين؟ وَالْجَوَاب أَن قَوْله: {من قبلهم} ينْصَرف إِلَى تبوء الدَّار لَا إِلَى الْإِيمَان وَالثَّانِي أَن قَوْله {من قبلهم} وَإِن انْصَرف إِلَى الْإِيمَان فَالْمُرَاد مِنْهُ قبل هجرتهم؛ لِأَن الْأَنْصَار كَانُوا قد آمنُوا قبل هجرتهم.
وَقَوله: {يحبونَ من هَاجر إِلَيْهِم} أَي: من أهل مَكَّة وَغَيرهم.
وَقَوله: {وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا} قَالَ قَتَادَة: وَعند كثير من الْمُفَسّرين مَعْنَاهُ: حسدا مِمَّا أعْطوا، وَقيل: ضيقا فِي قُلُوبهم مِمَّا أعطي الْمُهَاجِرين، وَهُوَ بِمَعْنى الأول. وَقد ذكرنَا مَا أعْطى رَسُول الله الْمُهَاجِرين من أَمْوَال بني النَّضِير، فَالْمَعْنى ينْصَرف إِلَيْهِم.
وَقَوله: {ويؤثرون على أنفسهم} أَي: يقدمُونَ الْمُهَاجِرين على أنفسهم.
وَقَوله: {وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} أَي: فقر وحاجة. وَمن الْمَعْرُوف بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن بعض الْأَنْصَار أضَاف رجلا من الْفُقَرَاء، وَلم يكن عِنْده فضل عَمَّا يَأْكُلهُ وَيَأْكُل أَهله وصبيانه. وَفِي رِوَايَة: أَن ذَلِك الرجل كَانَ جَاع ثَلَاثَة أَيَّام وَلم يجد شَيْئا، وَطلب رَسُول الله لَهُ شَيْئا فِي بيُوت أَزوَاجه وَلم يجد، فأضافه هَذَا الْأنْصَارِيّ، حمله إِلَى بَيته وَقَالَ لأَهله: نومي الصبية وأطفئي السراج [بعلة] الْإِصْلَاح، فَفعلت ذَلِك، وَجعلا يمدان أَيْدِيهِمَا ويضربان على (الصحفة) ؛ ليظن الضَّيْف أَنَّهُمَا يأكلان، وَلَا يأكلان ففعلا ذَلِك وَأكل الضَّيْف حَتَّى شبع، فَلَمَّا غَدا(5/401)
{المفلحون (9) وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا} على النَّبِي قَالَ: " لقد عجب الله من صنيعتكم البارحة " فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ للْأَنْصَار: " إِنَّكُم لتكثرون عِنْد الْفَزع، وتقلون عِنْد الطمع ".
وَقَوله: {وَمن يُوقَ شح نَفسه} أَي: بخل نَفسه {فَأُولَئِك هم المفلحون} أَي: السُّعَدَاء الفائزون. وَعَن ابْن مَسْعُود أَن رجلا قَالَ لَهُ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَن أعطي من مَالِي شَيْئا أفتخش الْبُخْل. قَالَ: ذَلِك الْبُخْل، وَبئسَ الشَّيْء الْبُخْل، وَإِنَّمَا الشُّح أَن تَأْخُذ المَال من غير حَقه. وَقيل: الْبُخْل أَن يبخل بِمَالِه نَفسه وَالشح أَن يبخل بِمَال غَيره وَقَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان وَمن يُوقَ شح نَفسه أَي: حرص نَفسه. وَقيل: هوى نَفسه. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ منع الزَّكَاة. وَعَن ابْن زيد: هُوَ أَن يَأْخُذ مَا لَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذ، وَيمْنَع مَا لَا يجوز لَهُ مَنعه.(5/402)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ} هم التابعون. وَقيل: الَّذين يُؤمنُونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا} أَي: خِيَانَة وحقدا، وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن الترحم للسلف(5/402)
{بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رءوف رَحِيم (10) ألم تَرَ إِلَى} وَالدُّعَاء لَهُم بِالْخَيرِ وَترك ذكرهم بالسوء من عَلامَة الْمُؤمنِينَ. وَرُوِيَ أَن رجلا جَاءَ إِلَى مَالك بن أنس فَجعل يَقع فِي جمَاعَة من الصَّحَابَة مثل: أبي بكر، وَعمر، وَعُثْمَان، وَغَيرهم، فَقَالَ لَهُ: أَنْت من الْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَنْت من الَّذين تبوءوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: أشهد أَنَّك لست من الَّذين جَاءُوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان.
وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: لَيْسَ لمن يَقع فِي الصَّحَابَة وَيذكرهُمْ بالسوء فِي الْفَيْء نصيب، وتلا هَذِه الْآيَات الثَّلَاث. وَرُوِيَ أَن عمر بن عبد الْعَزِيز سُئِلَ عَمَّا جرى بَين الصَّحَابَة من الْقِتَال وَسَفك الدِّمَاء فَقَالَ: تِلْكَ دِمَاء طهر الله يَدي عَنْهَا، فَلَا أحب أَن أغمس لساني فِيهَا.
من الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا ذكر أَصْحَابِي فأمسكوا، وَإِذا ذكر الْقدر فأمسكوا " وَالْمرَاد بِهِ الْإِمْسَاك عَن ذكر المساوئ لَاعن ذكر المحاسن. وَفِي بعض الرِّوَايَات: " إِذا ذكر النُّجُوم فأمسكوا ".
وَقَوله: {رَبنَا إِنَّك رءوف رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.(5/403)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين نافقوا} هم عبد الله بن أبي سلول، وَعبد الله بن نفَيْل، وَزيد بن رِفَاعَة وَغَيرهم.(5/403)
{الَّذين نافقوا يَقُولُونَ لإخوانهم الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب لَئِن أخرجتم لَنخْرجَنَّ مَعكُمْ وَلَا نطيع فِيكُم أحدا أبدا وَإِن قوتلتم لننصرنكم وَالله يشْهد إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (11) لَئِن أخرجُوا لَا يخرجُون مَعَهم وَلَئِن قوتلوا لَا ينصرونهم وَلَئِن نصروهم ليولن}
وَقَوله: {يَقُولُونَ لإخوانهم الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم بَنو النَّضِير، قَالَ لَهُم المُنَافِقُونَ ذَلِك قبل أَن أجلوا.
وَالْقَوْل الآخر: أَنهم بَنو قُرَيْظَة، قَالَ لَهُم المُنَافِقُونَ ذَلِك بعد أَن أَجلي بَنو النَّضِير.
وَقَوله: {لَئِن أخرجتم لَنخْرجَنَّ مَعكُمْ} أَي: لَئِن أخرجتم من الْمَدِينَة لَنخْرجَنَّ مَعكُمْ فِي الْقِتَال.
وَقَوله: {وَلَا نطيع فِيكُم أحدا أبدا} أَي: لَا نطيع مُحَمَّدًا فِيكُم.
وَقَوله: {وَإِن قوتلتم لننصرنكم} مَعْنَاهُ: وَلَئِن قاتلكم [مُحَمَّدًا] لنكونن مَعكُمْ فِي الْقِتَال.
وَقَوله: {وَالله يشْهد إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} أَي: فِي هَذَا القَوْل.(5/404)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
قَوْله تَعَالَى: {لَئِن أخرجُوا لَا يخرجُون مَعَهم} يَعْنِي: لَئِن أخرج الْيَهُود لَا يخرج مَعَهم المُنَافِقُونَ.
وَقَوله: {وَلَئِن قوتلوا لَا ينصرونهم} أَي: لَئِن قوتل الْيَهُود لَا ينصرهم المُنَافِقُونَ.
وَقَوله: {وَلَئِن نصروهم ليولن الأدبار ثمَّ لَا ينْصرُونَ} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {لَا ينصرونهم} ثمَّ قَالَ {وَلَئِن نصروهم} وَإِذا أخبر الله تَعَالَى أَنهم لَا ينصرونهم كَيفَ يجوز أَن ينصروهم؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن قَوْله: {لَا ينصرونهم} فِي قوم من الْمُنَافِقين، وَقَوله: {وَلَئِن نصروهم} أَي: فِي قوم آخَرين مِنْهُم، وهم الَّذين لم يَقُولُوا ذَلِك القَوْل.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن قَوْله: {لَا ينصرونهم} أَي: طائعين.(5/404)
{الأدبار ثمَّ لَا ينْصرُونَ (12) لَأَنْتُم أَشد رهبة فِي صُدُورهمْ من الله ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ (13) لَا يقاتلونكم جَمِيعًا إِلَّا فِي قرى مُحصنَة أَو من وَرَاء جدر بأسهم بَينهم شَدِيد تحسبهم جَمِيعًا وَقُلُوبهمْ شَتَّى ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ (14) كَمثل الَّذين من}
وَقَوله: {وَلَئِن نصروهم} أَي: مكرهين.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن قَوْله: {لَا ينصرونهم} أَي: لَا يدومون على نَصرهم. وَقَوله: {وَلَئِن نصروهم} أَي: نصروهم فِي الِابْتِدَاء.
وَالْوَجْه الرَّابِع كَمَا قَالَه الزّجاج: هُوَ أَنهم لَا ينصرونهم على مَا قَالَ الله تَعَالَى، وَقَوله: {وَلَئِن نصروهم} أَي: قصدُوا نصرتهم، لولوا الأدبار أَي: انْهَزمُوا، وَذَلِكَ بِمَا يلقِي الله تَعَالَى فِي قُلُوبهم من الرعب.
وَقَوله: {ثمَّ لَا ينْصرُونَ} أَي: لَا ينصر الْيَهُود.(5/405)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)
قَوْله تَعَالَى: {لَأَنْتُم أَشد رهبة فِي صُدُورهمْ من الله} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي: أَنْتُم [أَشد] رهبة فِي صُدُورهمْ من الله إِذْ يخَافُونَ مِنْكُم مَا لَا يخَافُونَ مِنْهُ.
وَقَوله: {ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ عَظمَة الله وَقدرته فيخافون مِنْهُ.(5/405)
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {لَا يقاتلونكم جَمِيعًا إِلَّا فِي قرى مُحصنَة أَو من وَرَاء جدر} يَعْنِي: أَنهم لَا يُمكنهُم أَن يصافوكم فِي الْقِتَال [ويواجهوكم] بِهِ، وَإِنَّمَا يقاتلونكم فِي الْحُصُون ووراء الْجدر لقتلهم وَدخُول الرعب عَلَيْهِم.
قَوْله: {بأسهم بَينهم شَدِيد} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي أَنهم يَقُولُونَ فِيمَا بَينهم: لنفعلن كَذَا ولنفعلن كَذَا.
وَقَوله: {تحسبهم جَمِيعًا وَقُلُوبهمْ شَتَّى} يَعْنِي: أَن الْمُنَافِقين قطّ لَا يخلصون للْيَهُود، وَلَا الْيَهُود لِلْمُنَافِقين.
وَقَوله: {ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ} أَي: لَا يتدبرون بعقولهم، فهم بِمَنْزِلَة من(5/405)
{قبلهم قَرِيبا ذاقوا وبال أَمرهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (15) كَمثل الشَّيْطَان إِذْ قَالَ للْإنْسَان اكفر فَلَمَّا كفر قَالَ إِنِّي برِئ مِنْك إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين (16) فَكَانَ عاقبتهما} لَا عقل لَهُ.(5/406)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
قَوْله تَعَالَى: {كَمثل الشَّيْطَان إِذْ قَالَ للْإنْسَان اكفر} أَي: مثل هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقين مَعَ الْيَهُود كَمثل الشَّيْطَان مَعَ الْكَافِر. وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَن هَذَا الْكَافِر هُوَ رجل من بني إِسْرَائِيل يعبد الله تَعَالَى فِي صومعة دهرا طَويلا، وَكَانَ اسْمه برصيصا العابد، وَكَانَ فِي بني إِسْرَائِيل ثَلَاثَة إخْوَة لَهُم أُخْت حسناء بهَا شَيْء من اللمم، وَقيل: كَانَت مَرِيضَة، فَعرض لَهُم سفر فَقَالُوا: نسلم أُخْتنَا إِلَى فلَان العابد فيحفظها إِلَى أَن نرْجِع وَفِي رِوَايَة: يَدْعُو لَهَا وَيقوم عَلَيْهَا فَإِن مَاتَت دَفنهَا، وَإِن برأت فَكَانَت عِنْده إِلَى أَن نرْجِع، فسلموها إِلَيْهِ بِجهْد، فَقَامَ عَلَيْهَا حَتَّى برأت. ثمَّ أَن الشَّيْطَان جَاءَهُ وزين لَهُ أَن يواقعها فواقعها وحبلت مِنْهُ، ثمَّ جَاءَ الشَّيْطَان وَقَالَ: إِنَّك تفضح إِذا قدم إخوتها فَاقْتُلْهَا وادفنها وَقل أَنَّهَا مَاتَت، فَفعل ذَلِك ودفنها فِي أصل صومعته، فَلَمَّا رَجَعَ الْإِخْوَة وَجَاءُوا [إِلَيْهِ] ذكر لَهُم أَنَّهَا قد مَاتَت فصدقوه، ثمَّ أَن الشَّيْطَان أَرَاهُم فِي الْمَنَام أَن العابد قد قتل أختكم ودفنها فِي مَوضِع كَذَا، فَجَاءُوا إِلَى ذَلِك الْموضع، وحفروا وَاسْتَخْرَجُوا أختهم مقتولة، فَذَهَبُوا وَذكروا ذَلِك للْملك، فجَاء الْملك وَالنَّاس واستنزلوا العابد من صومعته ليقتلوه، فَجَاءَهُ الشَّيْطَان وَقَالَ: أَنا الَّذِي فعلت بك مَا فعلت فأطعني حَتَّى أنجيك، فَقَالَ: أيش أفعل؟ فَقَالَ: تسْجد لي سَجْدَة فَفعل، وَقتل على الْكفْر، وَنزلت هَذِه الْآيَة فِي هَذِه الْقِصَّة وَقد روى عَطِيَّة عَن ابْن عَبَّاس قَرِيبا من هَذَا وَذكر بَعضهم هَذِه الْقِصَّة مُسندَة إِلَى الرَّسُول بِرِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار بِأَلْفَاظ قريبَة من هَذَا فِي الْمَعْنى. قَالَ الشَّيْخ: أخبرنَا بذلك أَبُو على الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا ابْن فراس، أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الديبلي، أخبرنَا سعيد بن(5/406)
{أَنَّهُمَا فِي النَّار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين (17) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله ولتنظر نفس مَا قدمت لغد وَاتَّقوا الله إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، عَن سُفْيَان.
وَقَوله: {فَلَمَّا كفر قَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْك إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين} هَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا تراءت الفئتان نكص على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْكُم إِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ إِنِّي أَخَاف الله وَالله شَدِيد الْعقَاب} وَقيل: إِن خَوفه من الْعقُوبَة فِي الدُّنْيَا لَا من الْعقُوبَة فِي الْآخِرَة. وَقيل: هُوَ الْخَوْف من الْعقُوبَة فِي الْآخِرَة إِلَّا أَن خَوفه لَا يَنْفَعهُ لعدم الْإِيمَان. وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي جَمِيع الْكفَّار لَا فِي كَافِر مَخْصُوص، وَالْمَشْهُور هُوَ القَوْل الأول.(5/407)
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِي النَّار خَالِدين فِيهَا} يَعْنِي: عَاقِبَة الْكَافِر وإبليس (خَالِدين فِيهَا) أَي: دائمين فِيهَا.
وَقَوله: {وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين} أَي: الْكَافرين.(5/407)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله ولتنظر نفس مَا قدمت لغد} قَالَ قَتَادَة: مَا زَالَ يقرب السَّاعَة حَتَّى جعل كالغد.
وَقَوله: {وَاتَّقوا الله إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} الْأَمر بالتقوى على طَرِيق التَّأْكِيد.(5/407)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} أَي: تركُوا أَمر الله فتركهم من نظره وَرَحمته. وَقيل مَعْنَاهُ: تركُوا طلب الْحَظ لأَنْفُسِهِمْ فِي الْآخِرَة بِمَا تركُوا من أَمر الله، وَنسب إِلَى الله تَعَالَى؛ لِأَن تَركهم طلب الْحَظ لأَنْفُسِهِمْ وفواته إيَّاهُم كَانَ لأجل مَا توجه عَلَيْهِم من أَمر الله، وَقيل مَعْنَاهُ: أغفلهم عَن حَظّ أنفسهم عُقُوبَة لَهُم. قَالَ النّحاس: ويستقيم فِي الْعَرَبيَّة أَن يُقَال: نسيهم فلَان بِمَعْنى تَركهم. وَلَا يَسْتَقِيم أنساهم بِمَعْنى تَركهم.(5/407)
{كَالَّذِين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب الْجنَّة هم الفائزون (20) لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل لرأيته خَاشِعًا متصدعا من خشيَة الله وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس لَعَلَّهُم يتفكرون
وَقَوله: {أُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} أَي: الخارجون عَن طَاعَة الله.(5/408)
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب الْجنَّة هُوَ الفائزون} أَي: الناجون.(5/408)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
قَوْله تَعَالَى: {لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل لرأيته خَاشِعًا متصدعا من خشيَة الله} أَي: إِذا جعلنَا لَهُ مَا يُمَيّز وَيعْقل. قيل: هُوَ مَذْكُور على طَرِيق التَّمْثِيل لَا على طَرِيق الْحَقِيقَة، وَعند أهل السّنة: أَن لله تَعَالَى فِي الْموَات والجمادات علما (لَا) يقف عَلَيْهِ النَّاس. وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} وَهُوَ دَلِيل على مَا ذكرنَا من قبل.
وَقَوله: {خَاشِعًا} أَي: ذليلا، وَقيل: متصدعا أَي: متشققا من خشيَة الله.
وَقَوله: {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس لَعَلَّهُم يتفكرون} أَي: يتدبرون.(5/408)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} أَي: السِّرّ وَالْعَلَانِيَة، وَقيل: عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة أَي: مَا كَانَ وَمَا يكون.
وَقَوله: {هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم} قد بَينا.(5/408)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
قَوْله: {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْملك} أَي: المقتدر على الْأَشْيَاء.
وَقَوله: {القدوس} أيك الطَّاهِر، وَقيل: المنزه من كل نقص وعيب، وَقيل القدوس: الْمُقَدّس، يَعْنِي: يقدسه الْمَلَائِكَة ويسبحونه، وَفِي تَسْبِيح الْمَلَائِكَة: سبوح(5/408)
{هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم (22) هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْملك القدوس السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن الْعَزِيز الْجَبَّار المتكبر قدوس رب الْمَلَائِكَة وَالروح. وَمِنْه بَيت الْمُقَدّس، وَمِنْه حَظِيرَة الْقُدس، وَهِي الْجنَّة. قَالَ رؤبة:.
(دَعَوْت رب الْعِزَّة القدوسا ... دُعَاء من لَا يقرع الناقوسا}
وَقَوله: {السَّلَام} قَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ: مُسلم من الْآفَات والعيوب. وَقَالَ مُجَاهِد: سلم النَّاس من ظلمه. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " السَّلَام اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى [وَوَضعه] بَيْنكُم فأفشوه ".
وَقَوله: {الْمُؤمن} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يُؤمن الْمُؤمنِينَ من النَّار وَالْعَذَاب. وَالْآخر: أَن الْمُؤمنِينَ أمنُوا من ظلمه فَهُوَ مُؤمن. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه شهد لنَفسِهِ بالوحدانية، فَهُوَ مُؤمن بِهَذَا الْمَعْنى، وشهادته لنَفسِهِ بالوحدانية هُوَ قَوْله تَعَالَى: {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ}
وَقَوله: {الْمُهَيْمِن} قَالَ قَتَادَة: أَي: الشَّهِيد. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الْأمين، وَمعنى كَونه أَمينا: أَنه لَا يضيع أَعمال الْعباد، فَكَأَن أَعمال الْعباد فِي أَمَانَته لَا يضيعها. وَقيل: هُوَ الرَّقِيب. وَقيل: إِن الْمُهَيْمِن أَصله المؤيمن إِلَّا أَنه قد قلبت الْهمزَة هَاء مثل قَوْلهم: أرقت المَاء وهرقته.
وَقَوله: {الْعَزِيز} أَي الْغَالِب. وَقيل: القاهر. وَقيل: المنيع.
وَقَالَ الشَّاعِر فِي الْمُهَيْمِن.(5/409)
{سُبْحَانَ الله عَمَّا يشركُونَ (23) هُوَ الله الْخَالِق البارئ المصور لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى يسبح لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (24) .}
(مليك على عرش السَّمَاء مهيمن ... [لعزته] تعنو الْوُجُوه وتسجد)
وَقَوله: {الْجَبَّار} أَي: جبر الْخلق على مُرَاده ومشيئته. وَقيل: الْجَبَّار أَي: الْعَظِيم. وَقيل: هُوَ الَّذِي يفوت عَن الأوهام والإدراك.
يُقَال: نَخْلَة جبارَة إِذا كَانَت طَوِيلَة لَا يُوصل إِلَيْهَا بِالْأَيْدِي.
قَوْله: {المتكبر} أَي: الْكَبِير. وَقيل: المتكبر هُوَ الَّذِي أَعلَى نَفسه وعظمها، وَهَذَا ممدوح فِي صِفَات الله، مَذْمُوم فِي صِفَات الْخلق؛ لِأَن الْخلق لَا يخلون عَن نقيصة، فَلَا يَلِيق بهم إعظامهم أنفسهم وإعلاؤهم إيَّاهُم، وَالله تَعَالَى لَا يجوز عَلَيْهِ نقص فَيصح مدحه لنَفسِهِ وإعظامه.
وَقيل: مدح نَفسه ليعلم خلقه مدحهم إِيَّاه ليثيبهم عَلَيْهِ، إِذْ لَا يجوز أَن يعود إِلَيْهِ ضرّ وَلَا نفع.
وَقَوله: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يشركُونَ} قد بَينا فِي كثير من الْمَوَاضِع.(5/410)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الله الْخَالِق البارئ} أَي: مُقَدّر الْأَشْيَاء ومخترعها.
وَقَوله: {البارئ} قيل: هُوَ فِي معنى الْخَالِق على طَرِيق التَّأْكِيد، وَقيل: إِن مَعْنَاهُ المحيي بعد الإماتة. قَالَ الشَّاعِر:
(وكل نفس على سلامتها ... يميتها الله ثمَّ يبرؤها)
ذكره أَبُو الْحسن بن فَارس.
وَقَوله: {المصور} هُوَ التَّصْوِير الْمَعْلُوم يصور كل خلق على مَا يَشَاء. وَقيل:(5/410)
التَّصْوِير هُوَ تركيب مَخْصُوص فِي مَحل مَخْصُوص من الْخلق.
وَقَوله تَعَالَى: {لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} الْحسنى: هُوَ تَأْنِيث الْأَحْسَن، وَهِي هَاهُنَا بِمَعْنى الْعليا.
وَقَوله: {يسبح لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى. وَقد ورد فِي بعض المسانيد بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن اسْم الله الْأَعْظَم فِي ثَلَاث آيَات من آخر سُورَة الْحَشْر ". وَالله أعلم.(5/411)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة وَقد كفرُوا}
تَفْسِير سُورَة الممتحنة
وَهِي مَدَنِيَّة، وَالله أعلم(5/412)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء} نزلت الْآيَة فِي حَاطِب بن أبي بلتعة حِين كتب كتابا إِلَى الْمُشْركين يُخْبِرهُمْ بِبَعْض أَمر النَّبِي، وَالْخَبَر فِي ذَلِك مَا أخبرنَا بِهِ أَبُو عَليّ الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن الْحسن الشَّافِعِي، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس، أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْمُقْرِئ، أخبرنَا جدي مُحَمَّد بن عبد الله ابْن يزِيد الْمُقْرِئ، أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة، عَن عبيد الله بن أبي رَافع قَالَ: سَمِعت غليا رَضِي الله عَنهُ يَقُول: " بَعَثَنِي رَسُول الله وَالزُّبَيْر والمقداد بن الْأسود فَقَالَ: انْطَلقُوا إِلَى رَوْضَة خَاخ فَإِن بهَا ظَعِينَة مَعهَا كتاب، فخرجنا [تَتَعَادَى] بِنَا خَيْلنَا حَتَّى بلغنَا رَوْضَة خَاخ، فَوَجَدنَا بهَا ظَعِينَة وَقُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكتاب. فَقَالَت: مَا معي كتاب. فَقُلْنَا: لتخْرجن الْكتاب أَو لنقلبن ثِيَابك. فأخرجت كتابا من غقاص شعرهَا، فأخذناه وأتينا بِهِ النَّبِي، فَإِذا هُوَ كتاب من حَاطِب بن أبي بلتعة إِلَى الْمُشْركين بِمَكَّة يُخْبِرهُمْ بِبَعْض أَمر النَّبِي، فَدَعَا حَاطِبًا وَقَالَ لَهُ: " مَا هَذَا؟ " فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لَا تعجل عَليّ، إِنِّي كنت أمرأ مُلْصقًا فِي قُرَيْش يَعْنِي حليفا وَلم اكن من أنفسهم، وَكَانَ من مَعَك من الْمُهَاجِرين لَهُم قراباتهم، قَرَابَات يحْمُونَ بهَا قراباتهم وَلم يكن لي بِمَكَّة قرَابَة، فَأَحْبَبْت إِذْ فَاتَنِي ذَلِك أَن أَتَّخِذ عِنْدهم يدا يحْمُونَ بهَا قَرَابَتي، وَالله مَا فعلته شكا فِي الْإِسْلَام، وَلَا رضَا بالْكفْر، فَقَالَ النَّبِي: " لقد صدقكُم " فَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله، دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق، فَقَالَ النَّبِي: " إِنَّه قد شهد بَدْرًا، وَلَعَلَّ الله(5/412)
{بِمَا جَاءَكُم من الْحق يخرجُون الرَّسُول وَإِيَّاكُم أَن تؤمنوا بِاللَّه ربكُم إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ} اطلع على أهل بدر فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم ".
قَالَ أهل التَّفْسِير: " وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا أَرَادَ غزوا ورى بِغَيْرِهِ ". وَكَانَ يَقُول: " الْحَرْب خدعة " فَلَمَّا أَرَادَ أَن يَغْزُو مَكَّة كتم أمره أَشد الكتمان، وَكتب حَاطِب بن أبي بلتعة على يَدي امْرَأَة تسمى سارة كتابا إِلَى أهل مَكَّة يُخْبِرهُمْ بمسير النَّبِي، فَأطلع الله نبيه على ذَلِك، وَكَانَ الْأَمر على مَا بَينا، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فِي الْآيَة دَلِيل على أَن حَاطِب لم يخرج من الْإِيمَان بِفِعْلِهِ ذَلِك.
وَقَوله: {لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء} أَي: أعدائي وأعداءكم، وهم مشركو قُرَيْش.
وَقَوله: {تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة} أَي: تلقونَ إِلَيْهِم أَخْبَار النَّبِي وسره بالمودة الَّتِي بَيْنكُم وَبينهمْ. وَيُقَال: تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة أَي: بِالنَّصِيحَةِ، قَالَه مقَاتل. وَقيل: تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة أَي: بِالْكتاب. وَسمي ذَلِك مَوَدَّة وَكَذَلِكَ النَّصِيحَة؛ لِأَن ذَلِك دَلِيل الْمَوَدَّة.
وَقَوله: {وَقد كفرُوا بِمَا جَاءَكُم من الْحق} الْوَاو وَاو الْحَال قَالَه الزّجاج. وَمَعْنَاهُ: وحالهم أَنهم كفرُوا بِمَا جَاءَكُم من الْحق.
وَقَوله: {يخرجُون الرَّسُول وَإِيَّاكُم} أَي: أخرجُوا الرَّسُول وأخرجوكم، وَمعنى الْإِخْرَاج هَاهُنَا هُوَ الإلجاء إِلَى الْخُرُوج.(5/413)
{جهادا فِي سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إِلَيْهِم بالمودة وَأَنا أعلم بِمَا أخفيتم وَمَا أعلنتم وَمن يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل (1) إِن يثقفوكم يَكُونُوا لكم أَعدَاء ويبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لَو تكفرون (2) قد كَانَت لكم}
وَقَوله تَعَالَى: {أَن تؤمنوا بِاللَّه ربكُم} أَي: لأنكم آمنتم بِاللَّه ربكُم.
وَقَوله: {إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي} قَالُوا: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالْمعْنَى: إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي وابتغاء مرضاتي فَلَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء. وَقيل مَعْنَاهُ: لَا تسروا إِلَيْهِم بالمودة إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي وابتغاء مرضاتي، فَهُوَ معنى قَوْله: {تسرون إِلَيْهِم بالمودة} خبر بِمَعْنى النَّهْي.
وَقَوله: {وَأَنا أعلم بِمَا أخفيتم وَمَا أعلنتم} أَي: بِمَا أسررتم وَمَا ظهرتم.
وَقَوله: {وَمن يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل} أَي: أَخطَأ طَرِيق الْحق.(5/414)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {إِن يثقفوكم يَكُونُوا لكم أَعدَاء} مَعْنَاهُ: إِن يظفروا بكم، وَالْعرب تَقول: فلَان ثقف لقف، إِذا كَانَ سريع الْأَخْذ.
وَقَوله: {يَكُونُوا لكم أَعدَاء} أيك يعاملونكم مُعَاملَة الْأَعْدَاء.
وَقَوله: {ويبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم وألسنتهم بالسوء} أَي: أَيْديهم بِالسَّيْفِ، وألسنتهم بالشتم.
وَقَوله: {وودوا لَو تكفرون} أَي: وأحبوا لَو تكفرون كَمَا كفرُوا.(5/414)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قَوْله تَعَالَى: {لن تنفعكم أَرْحَامكُم وَلَا أَوْلَادكُم} يَعْنِي: أَنكُمْ فَعلْتُمْ مَا فَعلْتُمْ لأجل قراباتكم وأرحامكم، وَلنْ ينفعكم ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {يَوْم الْقِيَامَة يفصل بَيْنكُم} أَي: يفصل بَيْنكُم يَوْم الْقِيَامَة؛ فيبعث أهل الطَّاعَة إِلَى الْجنَّة، وَأهل الْمعْصِيَة إِلَى النَّار.
وَقَوله تَعَالَى: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ظَاهر الْمَعْنى.(5/414)
{أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده إِلَّا قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَن لَك وَمَا املك لَك من الله من شَيْء رَبنَا عَلَيْك توكلنا وَإِلَيْك أنبنا وَإِلَيْك الْمصير (4) رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للَّذين كفرُوا واغفر لنا رَبنَا إِنَّك}(5/415)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
قَوْله تَعَالَى: {قد كَانَت لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} أَي: قدوة حَسَنَة.
وَقَوله: {فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا} الْمَعْنى فِي الْكل: أَنه أَمرهم بِأَن تأسوا بإبراهيم فِي التبرؤ من الْمُشْركين وَترك الْمُوَالَاة مَعَهم.
وَقَوله: {إِلَّا قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَن لَك} قَالَ قَتَادَة مَعْنَاهُ: اقتدوا بإبراهيم إِلَّا فِي هَذَا [الْموضع] ، وَهُوَ استغفاره لِأَبِيهِ الْمُشرك، وَقد بَينا سَبَب اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ من قبل. وَقَوله: {وَمَا أملك لَك من الله من شَيْء} أَي: لَا أدفَع عَنْك من الله من شَيْء، وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ.
وَقَوله: {رَبنَا عَلَيْك توكلنا وَإِلَيْك أنبنا وَإِلَيْك الْمصير} إِخْبَار عَن إِبْرَاهِيم وَقَومه من الْمُؤمنِينَ يَعْنِي: إِنَّهُم ذَلِك.(5/415)
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للَّذين كفرُوا} قَالَ مُجَاهِد وَغَيره: أَي: لَا تعذبنا بأيدي الْكفَّار وَلَا بِعَذَاب من عنْدك، فيظن الْكفَّار أَنا على غير الْحق حَيْثُ عذبنا، فَيصير فتْنَة لَهُم فِي دينهم، ويظنون أَنا كُنَّا على الْبَاطِل؛ لأَنهم يَقُولُونَ لَو كَانَ هَؤُلَاءِ على الْحق لم يعذبوا وَلم يظفر بهم.
وَقَوله: {واغفر لنا رَبنَا إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى.(5/415)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فيهم أُسْوَة حَسَنَة} كرر الْمَعْنى الأول على طَرِيق التَّأْكِيد.(5/415)
{أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم (5) لقد كَانَ لكم فيهم أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد (6) عَسى الله أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبَين الَّذين عاديتم مِنْهُم مَوَدَّة وَالله قدير وَالله غَفُور رَحِيم (7) لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يقاتلونكم فِي الدّين وَلم يخرجوكم من دِيَاركُمْ أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم إِن الله يحب}
وَقَوله: {لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} أَي: يخَاف الله، وَيخَاف يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} أَي: المستغني عَنْهُم، الحميد فِي فعاله. وَالْمعْنَى: أَنهم إِذا خالفوا أمره، وتولوا الْكفَّار لم يعد إِلَى الله من ذَلِك شَيْء.(5/416)
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
قَوْله تَعَالَى: {عَسى الله} قد بَينا أَن عَسى من الله وَاجِب.
وَقَوله تَعَالَى: {أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبَين الَّذين عاديتهم مِنْهُم مَوَدَّة} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد مِنْهُ تَزْوِيج أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان من رَسُول الله. وَقيل: هُوَ إِسْلَام أبي سُفْيَان بن حَرْب، وَأبي سُفْيَان بن الْحَارِث، وَسُهيْل بن عَمْرو، وَحَكِيم بن حزَام، وَصَفوَان بن أُميَّة وَغَيرهم. وَفِي بعض التفاسير: أَن النَّبِي توفّي وَأَبُو سُفْيَان بن حَرْب أَمِير على بعض الْيمن، فَلَمَّا ارْتَدَّت الْعَرَب قَاتل هودا الْحمار وَقَومه على ردتهم، فَكَانَ [هُوَ] أول من يُجَاهد مَعَ الْمُرْتَدين.
وَقَوله: {وَالله قدير} أَي: قَادر على أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبينهمْ مَوَدَّة.
وَقَوله: {وَالله غَفُور رَحِيم} أَي: لما كَانَ مِنْهُم قبل إسْلَامهمْ، وَقبل حُدُوث الْمَوَدَّة بَيْنكُم وَبينهمْ.(5/416)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين وَلم يخرجوكم من دِيَاركُمْ} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن المُرَاد مِنْهُ قوم كَانُوا على عهد النَّبِي من الْكفَّار من خُزَاعَة، وَهِي مُدْلِج وَغَيرهم. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن قتيلة [كَانَت كَافِرَة، و] كَانَت(5/416)
{المقسطين (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدّين وأخرجوكم من دِيَاركُمْ وظاهروا على إخراجكم أَن تولوهم وَمن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فَإِن} أم أَسمَاء، فَلم تقبل أَسمَاء هديتها حَتَّى سَأَلت النَّبِي، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَرخّص فِي الْقبُول والمكافأة، قَالَه عبد الله بن الزبير.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن هَذَا قبل نزُول آيَة السَّيْف، ثمَّ نسخت بِآيَة السَّيْف، قَالَ قَتَادَة وَغَيره.
وَقَوله: {أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم} أَي: تحسنوا إِلَيْهِم، وتستعملوا الْعدْل مَعَهم أَي: الْمُكَافَأَة.
وَقَوله: {إِن الله يحب المقسطين} أَي: الفاعلين للعدل.(5/417)
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدّين وأخرجوكم من دِيَاركُمْ وظاهروا على إخراجكم} أَي: عاونوا على إخراجكم.
وَقَوله: {أَن تولوهم} مَعْنَاهُ: أَن تتولوهم.
وَقَوله: {وَمن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} أَي: وضعُوا الْمُوَالَاة فِي غير موضعهَا.(5/417)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَات مهاجرات} سماهن مؤمنات قبل وصولهن إِلَى النَّبِي؛ لِأَنَّهُنَّ على قصد الْإِيمَان وَتَقْدِيره، ذكره الْأَزْهَرِي.
وَقَوله: {فامتحنوهن} أَي: اختبروهن. قَالَ أهل التَّفْسِير: نزلت الْآيَة " فِي الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَين النَّبِي وَبَين الْمُشْركين، وَهُوَ عهد الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَ النَّبِي عَاهَدَ مَعَ الْمُشْركين على أَن من جَاءَهُ مِنْهُم يردهُ (عَلَيْهِم) ، وَمن لحق بهم من الْمُؤمنِينَ لم يردوا "، وَأَن الله تَعَالَى نسخ هَذَا الْعَهْد، وَرَفعه فِي النِّسَاء وَأمره بالامتحان. وَقَالَ(5/417)
{علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا وَلَا جنَاح عَلَيْكُم أَن تنكحوهن إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ وَلَا تمسكوا بعصم} بَعضهم: كَانَ الْعَهْد مُطلقًا، وَلم يكن نَص فِي النِّسَاء بردهن عَلَيْهِم. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ قد نَص فِي النِّسَاء أَن يردهن عَلَيْهِم وَإِن جئن مؤمنات، ثمَّ نسخ، وَهُوَ الْأَشْهر، فَكَانَت الَّتِي أَتَت مُؤمنَة مهاجرة بعد الْعَهْد: أم كُلْثُوم بنت عقبَة بن أبي معيط، وَأما الأمتحان، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ أَن يحلفها أَنَّهَا مَا هَاجَرت إِلَّا جبا لله وَرَسُوله، ورغبة فِي الْإِسْلَام، وَأَنَّهَا لم تهَاجر بِحَدَث أحدثته، وَلَا لِبُغْض زوج، وَلَا لرغبة فِي مَال، وَلَا حبا لإِنْسَان.
وَقَوله: {الله أعلم بإيمانهن} يَعْنِي: إخلاصهن فِي إيمانهن.
وَقَوله: {فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ التَّوْفِيق بَين قَوْله: {فَإِن علمتموهن مؤمنات} وَبَين قَوْله: {وَالله أعلم بإيمانهن} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: {فَإِن علمتموهن مؤمنات} أَي: إِيمَان الْإِقْرَار والامتحان، كأنهن أقررن بِالْإِيمَان، وحلفن عِنْد الامتحان.
وَقَوله: {فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} أَي: لَا ترودهن.
وَقَوله تَعَالَى: {لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ} أَي: لَا هن حل للْكفَّار نِكَاحا وَلَا هم يحلونَ للمؤمنات نِكَاحا.
وَقَوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا} أوجب الله على الْمُسلمين أَن يردوا على أَزوَاجهنَّ مَا أعطوهن من المهور.
وَقَوله: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم أَن تنكحوهن إِذْ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ} أَي: مهورهن، وَفِيه دَلِيل على أَن النِّكَاح لَا يكون إِلَّا بِمهْر.
وَقَوله: {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} أَي: لَا تمسكوا بِنِكَاح الكوافر، والكوافر جمع الْكَافِر، وَالْمعْنَى: أَن الرجل إِذا أسلم وَهَاجَر إِلَيْنَا، وَخلف امْرَأَته فِي دَار الْحَرْب(5/418)
{الكوافر واسألوا مَا أنفقتم وليسألوا مَا أَنْفقُوا ذَلِكُم حكم الله يحكم بَيْنكُم وَالله عليم حَكِيم (10) وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار فعاقبتم فآتوا الَّذين ذهبت} كَافِرَة لم يعْتد بهَا، وَلم يبْق نِكَاح بَينه وَبَينهَا. وَرُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما هَاجر خلف امْرَأتَيْنِ بِمَكَّة مشركتين، فَتزَوج (إحديهما) مُعَاوِيَة، وَالْأُخْرَى صَفْوَان بن أُميَّة.
وَقَوله: {واسألوا مَا أنفقتم} أَي: مَا أعطيتم، وَهَذَا فِي الْمَرْأَة من المسلمات إِذا لحقت بالمشركين، فطالب زَوجهَا الْمُشْركين بِالْمهْرِ الَّذِي أَعْطَاهَا.
وَقَوله: {وليسألوا مَا أَنْفقُوا} أَي: مَا أعْطوا من الْمهْر وَهُوَ مَا قدمنَا، وَلَيْسَ هَذَا معنى الْأَمر وَالْوَاجِب أَن يسْأَلُوا لَا محَالة، وَلَكِن مَعْنَاهُ: إِن سَأَلُوا أعْطوا، وكل هَذَا مَنْسُوخ، وَقد كَانَ ذَلِك عهدا بَين الرَّسُول وَبينهمْ، وَقد ارْتَفع ذَلِك.
وَقَوله: {ذَلِكُم حكم الله يحكم بَيْنكُم وَالله عليم حَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى.(5/419)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار} أَي: [التحقت] وَاحِدَة من أزواجكم إِلَى الْكفَّار، يَعْنِي: النِّسَاء {فعاقبتم} أَي: غَنِمْتُم. قَالَ القتيبي: مَعْنَاهُ: كَانَت لكم عُقبى خير فِي الْغَنِيمَة والظفرة. وَقُرِئَ: " فعقبتم ". وَهُوَ (بذلك) الْمَعْنى أَيْضا.
قَوْله: {فآتوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا} أَي: مثل الَّذِي أعْطوا من الْمهْر. وَمعنى الْآيَة: أَن امرآة الْمُسلم إِذا التحقت بالمشركين وَلم يردوا الْمهْر، وظفر الْمُسلمُونَ بهم وغنموا، يردون من الْغَنِيمَة الَّتِي أخذُوا مهر الزَّوْج الَّذِي أعطَاهُ.
وَقَوله: {وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ} أَي: مصدقون، وَهَذَا الحكم مَنْسُوخ أَيْضا.(5/419)
{أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ (11) يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ}(5/420)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
قَوْله تَعَالَى: {يَا ايها النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ} الْآيَة وَردت فِي بيعَة النِّسَاء، وَكَانَ قد بَايع الرِّجَال على الْإِيمَان وَالْجهَاد فَحسب، وَبَايع النِّسَاء على هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا، فَروِيَ " أَن النَّبِي قعد على الصَّفَا حِين فتح مَكَّة، وَقعد دونه عمر، وجاءته النِّسَاء يبايعنه، وفيهن هِنْد بنت عتبَة منتقبة مُتَنَكِّرَة، فَلَمَّا قَالَ النَّبِي: " إِنَّا نبايعكن على أَن لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا " قَالَت هِنْد: مَا جِئْنَا إِلَيْك وَقد بَقِي فِي قُلُوبنَا شرك، فَلَمَّا قَالَ: " وعَلى أَن لَا تسرقن " قَالَت هِنْد: إِنِّي قد أخذت من مَال أبي سُفْيَان هَنَات وهنات وَلَا أَدْرِي أتحللها لي أَو لَا؟ وَكَانَ أَبُو سُفْيَان حَاضرا، فَقَالَ: حللتك عَمَّا مضى وَعَما بَقِي. وَفِي رِوَايَة: أَنَّهَا لما قَالَت ذَلِك عرفهَا النَّبِي فَقَالَ: " أَو هِنْد بنت [عتبَة] ؟ " قَالَت: نعم، اعْفُ عَمَّا سلف يَا نَبِي الله، عَفا الله عَنْك، فَقَالَ: " إِن الْإِسْلَام يجب مَا قبله "، فَلَمَّا قَالَ النَّبِي: " وعَلى أَن لَا تزنين " قَالَت هِنْد: أَو تَزني الْحرَّة؟ ! فَضَحِك عمر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا قَالَ: " وعَلى أَلا تقتلن أَوْلَادكُنَّ وَالْمعْنَى: لَا تئدن أَوْلَادكُنَّ قَالَت هِنْد: رَبَّيْنَاهُمْ صغَارًا فَقَتَلْتُمُوهُمْ كبارًا وَكَانَ قتل ابْنهَا حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان يَوْم بدر فَلَمَّا _ كَانَ) قَالَ: {وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ} قَالَت هِنْد: مَا علمت الْبُهْتَان إِلَّا قبيحا ". وَمعنى الْآيَة: لَا تلْحق الْمَرْأَة(5/420)
{وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف فبايعهن} بزوجها ولدا لَيْسَ مِنْهُ. وَقيل مَعْنَاهُ: أَن تلْتَقط ولدا، وَتقول لزَوجهَا: هَذَا وَلَدي مِنْك. وَمن حمل على هَذَا قَالَ: هَذَا أولى، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَلَا يَزْنِين} فقد تضمن الْيَمين عَن الزِّنَا الْيَمين على الْمَعْنى الأول، فَلَا بُد لهَذَا من معنى آخر.
وَقَوله: {يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ} قَالَ ذَلِك؛ لِأَن الْوَلَد إِذا سقط من الْمَرْأَة سقط بَين يَديهَا ورجليها. وَقيل: لِأَن الثدي بَين يدين، والفرج بَين الرجلَيْن، وَالْمَرْأَة تضع وترضع. وَقيل: إِن ذكر الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ على طَرِيق التَّأْكِيد، مثل قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِمَا [قدمت] أَيْدِيكُم} يَعْنِي: بِمَا كسبتم، وَذكر الْأَيْدِي على طَرِيق التَّأْكِيد، فَلَمَّا قَالَ النَّبِي: " وَلَا تعصينني فِي مَعْرُوف " قَالَت هِنْد: مَا جئْنَاك لنعصيك. وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَت: إِنَّك لتأمر بمكارم الْأَخْلَاق ".
وَأما الْمَعْرُوف فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه جَمِيع الطَّاعَات، وَالْآخر: أَنه النِّيَاحَة وَمَا يَفْعَله النِّسَاء على الْمَوْتَى من شقّ الْجُيُوب، وخمش الْوُجُوه، وَقطع الشُّعُور، وَمَا أشبه ذَلِك. وَهَذَا القَوْل هُوَ الْأَشْهر، وَقد روته أم عَطِيَّة مُسْندًا إِلَى النَّبِي فسر بالنياحة. وَفِي بعض الرِّوَايَات: " مَا وفت بذلك امْرَأَة إِلَّا أم عَطِيَّة ". وروى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِرِوَايَة شهر ابْن حَوْشَب عَن أم سَلمَة الْأَنْصَارِيَّة أَن امْرَأَة من النسْوَة قَالَت: " مَا هَذَا الْمَعْرُوف الَّذِي لَا يَنْبَغِي لنا أَن نَعْصِيك فِيهِ؟ قَالَ: " لَا تنحن " فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِن بني فلَان قد أسعدوني على عمي وَلَا بُد من قضائهن، فعاتبته مرَارًا، فَأذن لي فِي قضائهن، فَلم أنح بعد فِي قضائهن وَلَا غَيره حَتَّى السَّاعَة، وَلم يبْق من النسْوَة امْرَأَة إِلَّا وَقد ناحت غَيْرِي ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بذلك عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله بن أَحْمد الْقفال، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن سراج، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس المحبوبي(5/421)
{واستغفر لَهُنَّ الله إِن الله غَفُور رَحِيم (12) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قوما غضب الله} أخبرنَا أَبُو عِيسَى، أخبرنَا عبد بن حميد، عَن أبي نعيم، عَن يزِيد بن عبد [الله] الشَّيْبَانِيّ، عَن شهر بن حَوْشَب. . الحَدِيث: قَالَ أَبُو عِيسَى: وَأم سَلمَة الْأَنْصَارِيَّة هِيَ أَسمَاء بنت يزِيد السكني.
وَقَوله: {فبايعهن واستغفر لَهُنَّ الله} أَي: قد غفر الله لَكِن.
وَقَوله: {إِن الله غَفُور رَحِيم} قد بَينا. وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَائِشَة " أَن النَّبِي مَا مس بِيَدِهِ يَد امْرَأَة قطّ إِلَّا يَد امْرَأَة يملكهَا ". وَالْمَشْهُور فِي بيعَة النِّسَاء " أَنه دَعَا بِإِنَاء فِيهِ مَاء وغمس فِيهِ يَده فَجعل كل من بَايَعت غمست فِيهِ يَدهَا " وَقد قيل: " إِنَّه أَخذ بيدهن وَرَاء الثَّوْب " وَالأَصَح هُوَ الأول.(5/422)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قوما غضب الله عَلَيْهِم} فِيهِ رُجُوع إِلَى قصَّة حَاطِب بن أبي بلتعة، وتأكيد النَّهْي عَن مُوالَاة الْكفَّار. وَقيل: إِن الْآيَة عَامَّة.
وَقَوله: {قوما غضب الله عَلَيْهِم} قيل: هم المُنَافِقُونَ. وَقيل: هم الْيَهُود، وعَلى(5/422)
{عَلَيْهِم قد يئسوا من الْآخِرَة كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور (13) .} القَوْل الأول هم الْمُشْركُونَ.
وَقَوله: {قد يئسوا من الْآخِرَة} أَي: يئسوا من الْبَعْث بعد الْمَوْت، وَهَذَا فِي الْمُشْركين ظَاهر؛ لأَنهم كَانُوا يُنكرُونَ الْبَعْث، وَقد أخبر الله تَعَالَى عَنْهُم أَنهم قَالُوا: {مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر} وَكَذَلِكَ فِي الْمُنَافِقين ظَاهر. وَأما إِذا حملنَا على الْيَهُود، فَالْمُرَاد من الْآيَة هم الْيَهُود الَّذين كَانُوا يعْرفُونَ النَّبِي، ويعلمون أَنه نَبِي الله، وَيُنْكِرُونَ نبوته حسدا وبغيا. وَمعنى إياسهم من الْآخِرَة هُوَ الْيَأْس من الثَّوَاب؛ لأَنهم إِذا عرفُوا الْحق [وأنكروه] متعنتين عرفُوا حَقِيقَة أَنهم فِي النَّار فِي الْآخِرَة. وَقيل: إِن الْمَعْنى على هَذَا القَوْل هُوَ أَن الْيَهُود كَانُوا يَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْجنَّة أكل وَلَا شرب وَلَا استمتاع، فَمَعْنَى الْيَأْس هُوَ يأسهم عَن هَذِه النعم لمَكَان اعْتِقَادهم.
وَقَوله تَعَالَى: {كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور عَن إصابتهم الثَّوَاب، ووصولهم إِلَى الْجنَّة؛ لأَنهم عاينوا الْأَمر، وَعرفُوا أَنهم أهل النَّار قطعا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور أَنهم لَا يعودون إِلَيْهِم، فعلى القَوْل الأول المُرَاد من الْكفَّار هم الْكفَّار الَّذين مَاتُوا، وعَلى القَوْل الثَّانِي المُرَاد من الْكفَّار هم الْأَحْيَاء مِنْهُم. وَالله أعلم.(5/423)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (1) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كبر مقتا عِنْد الله أَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِن الله}
تَفْسِير سُورَة الصَّفّ
وَهِي مَدَنِيَّة(5/424)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
قَوْله تَعَالَى: {سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} قد بَينا معنى هَذِه الْآيَة. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أحب الْكَلَام إِلَى الله تَعَالَى سُبْحَانَ الله، ولحبه هَذِه الْكَلِمَة ألهمها أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} قد بَينا.(5/424)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} قَالَ ابْن عَبَّاس: اجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله وتذاكروا الْبَعْث وَأمر الْآخِرَة ثمَّ قَالُوا: لَو علمنَا مَا يُحِبهُ الله فَفَعَلْنَا وَلَو نبذل نفوسنا. وَفِي رِوَايَة: أَن عبد الله بن رَوَاحَة كَانَ يَقُول لمن يلقاه: تعال نؤمن سَاعَة، وَنَذْكُر الله تَعَالَى، وَيَقُول: وددت أَن لَو عرفت مَا يُحِبهُ الله فأفعله؛ فَلَمَّا فرض الله الْجِهَاد وَأمرهمْ ببذل النَّفس وَالْمَال، وَكتب عَلَيْهِم الْقِتَال أَحبُّوا الْحَيَاة وكرهوا الْقِتَال، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وَعَن قَتَادَة: أَن أَصْحَاب رَسُول الله لما فروا يَوْم أحد إِلَّا نَفرا يَسِيرا مِنْهُم أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَالْآيَة وَإِن كَانَت عَامَّة فَإِنَّهَا فِي بعض الصَّحَابَة دون الْبَعْض، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ فِي مَوضِع آخر: {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا وَمَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمنهمْ من قضى نحبه وَمِنْهُم من ينْتَظر وَمَا بدلُوا تبديلا} وَهَذَا دَلِيل ظَاهر على أَن الْآيَة فِي هَذِه السُّورَة لم ترد فِي حق جَمِيعهم على الْعُمُوم. وَفِي التَّفْسِير: أَن عبد الله بن رَوَاحَة قَالَ: لما نزلت آيَة الْجِهَاد حبست نَفسِي فِي سَبِيل الله، ثمَّ إِنَّه لما خرج إِلَى غَزْوَة مُؤْتَة، " وَكَانَ النَّبِي أَمر زيد بن حَارِثَة، فَإِن(5/424)
{يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص (4) وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم لم تؤذونني وَقد تعلمُونَ أَنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين (5) وَإِذ قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم يَا بني إِسْرَائِيل إِنِّي رَسُول الله} اسْتشْهد فجعفر بن أبي طَالب، فَإِن اسْتشْهد فعبد الله بن رَوَاحَة [قَالَ: فاستشهد زيد] بن حَارِثَة، ثمَّ أَخذ الرَّايَة جَعْفَر فاستشهد، ثمَّ أَخذ الرَّايَة عبد الله بن رَوَاحَة فاستشهد، ثمَّ إِنَّه أَخذ الرَّايَة خَالِد بن الْوَلِيد وَقَاتل حَتَّى رَجَعَ بِالْمُسْلِمين ".(5/425)
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
وَقَوله: {كبر مقتا عِنْد الله} أَي: بغضا {أَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} وَالْمعْنَى: أَن الله تَعَالَى يبغض من يَقُول شَيْئا وَلَا يفعل.(5/425)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} أَي: ملزق بعضه بِبَعْض. وَقيل: يثبتون فِي الْحَرْب مَعَ الْكفَّار ثبات الْبُنيان الَّذِي وضع بعضه على بعض وسد بالرصاص. وَالْعرب إِذا بنت الْبناء بِالْحِجَارَةِ يرصون الْحِجَارَة ثمَّ يجعلونه فِي خلال الْبناء، ويسمونه الْبناء المرصوص.(5/425)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم لم تؤذونني} قد بَينا مَا كَانَ يُؤْذونَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي سُورَة الْأَحْزَاب.
وَقَوله: {وَقد تعلمُونَ أَنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم} أَي: وتعلمون، " وَقد " صلَة.
وَقَوله: {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} أَي: مالوا عَن الْحق [فأمال] الله قُلُوبهم، أَي: زادهم ميلًا عَن الْحق.
وَقَوله: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} أَي: الْكَافرين.(5/425)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم يَا بني إِسْرَائِيل إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم مُصدقا لما بَين يَدي من التَّوْرَاة وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعد اسْمه أَحْمد} وَقد ثَبت(5/425)
{إِلَيْكُم مُصدقا لما بَين يَدي من التَّوْرَاة وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سحر مُبين (6) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله الْكَذِب وَهُوَ يدعى إِلَى الْإِسْلَام وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (7) يُرِيدُونَ ليطفئوا نور الله} بِرِوَايَة مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي قَالَ: " لي خَمْسَة أَسمَاء: أَنا مُحَمَّد، وَأَنا أَحْمد، وَأَنا الماحي يمحو الله بِي الْكفْر، وَأَنا الحاشر الَّذِي يحْشر النَّاس على قدمي، وَأَنا العاقب الَّذِي لَا نَبِي بعدِي ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الشَّافِعِي، أخبرنَا [ابْن] فراس، أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الديبلي، أخبرنَا سعيد بن (جُبَير) عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، عَن سُفْيَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم، عَن أَبِيه. . الحَدِيث.
وَقَوله: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سحر مُبين} أَي: ظَاهر. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن اسْم الرَّسُول فِي الْإِنْجِيل فار قليطا، وَبشر عِيسَى بِهِ بِمَا أَخذ عَلَيْهِ من الْعَهْد، والعهد الْمَأْخُوذ هُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النبين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ ولتنصرنه} الْآيَة وَأما معنى اسْمه أَحْمد على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: لِأَنَّهُ كَانَ يحمد الله كثيرا.
وَالثَّانِي: لِأَن النَّاس حمدوه فِي فعاله.(5/426)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله الْكَذِب وَهُوَ يدعى إِلَى الْإِسْلَام وَالله(5/426)
{بأفواههم وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ (9) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا هَل أدلكم على تِجَارَة تنجيكم من عَذَاب أَلِيم (10) تؤمنون بِاللَّه وَرَسُوله وتجاهدون فِي سَبِيل الله بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (11) يغْفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار ومساكن طيبَة فِي جنَّات عدن ذَلِك الْفَوْز} لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين) قد بَينا من قبل.(5/427)
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُونَ ليطفئوا نور الله بأفواههم} يُقَال: هُوَ الْقُرْآن. وَيُقَال: هُوَ مُحَمَّد.
وَقَوله: {وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} أَي: يتم أَمر نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ.(5/427)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ} أَي: على جَمِيع الْأَدْيَان شرقا وغربا، ومصداق هَذِه الْآيَة على الْكَمَال إِنَّمَا يكون عِنْد نزُول عِيسَى ابْن مَرْيَم حَيْثُ لَا يبْقى إِلَّا دين الْإِسْلَام.(5/427)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا هَل أدلكم على تِجَارَة تنجيكم من عَذَاب أَلِيم} وَالتِّجَارَة أَن تبذل شَيْئا وَتَأْخُذ شَيْئا، فَكَأَنَّهُ جعل بذل النَّفس وَالْمَال وَأخذ الثَّوَاب تِجَارَة، وَهُوَ على طَرِيق الْمجَاز.(5/427)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {تؤمنون بِاللَّه وَرَسُوله} فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله " وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَجَوَابه: يغْفر لكم ذنوبكم.
وَقَوله: {وتجاهدون فِي سَبِيل الله بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(5/427)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
قَوْله: {يغْفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} أَي: بساتين، والأنهار هِيَ الْأَنْهَار الْأَرْبَعَة تجْرِي من غير أخدُود.
وَقَوله: {ومساكن طيبَة فِي جنَّات عدن} أَي: يسطيبونها، والعدن مَوضِع الْإِقَامَة، قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ بطْنَان الْجنَّة. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الله غرس جنَّة عدن(5/427)
{الْعَظِيم (12) وَأُخْرَى تحبونها نصر من الله وَفتح قريب وَبشر الْمُؤمنِينَ (13) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا أنصار الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم للحواريين من أَنْصَارِي إِلَى الله} بِيَدِهِ.
وَقَوله: {ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} أَي: النجَاة الْعَظِيمَة.(5/428)
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
قَوْله تَعَالَى: {وَأُخْرَى تحبونها} أَي: تودونها.
وَقَوله تَعَالَى: {وَأُخْرَى} أَي: خصْلَة أُخْرَى. وَقيل: تِجَارَة آخرى.
وَقَوله: {نصر من الله وَفتح قريب} هُوَ فتح مَكَّة. وَقيل: هُوَ فتح فَارس وَالروم.
وَقَوله: {وَبشر الْمُؤمنِينَ} أَي: بالنصر فِي الدُّنْيَا، وبالجنة فِي الْآخِرَة.(5/428)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا انصار الله} وَقُرِئَ: " أنصارا لله ".
وَقَوله: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم للحواريين} الحواريون صفوة الْأَنْبِيَاء وخالصتهم، وَمِنْه قَول النَّبِي للزبير: " هُوَ ابْن عَمَّتي وحواري من أمتِي ". وَمِنْه الْخبز الْحوَاري لبياضه ونفائه. وَالْعرب تسمي نسَاء الْأَمْصَار الحواريات، قَالَ الشَّاعِر:
(فَقل للحواريات يبْكين غَيرنَا ... وَلَا تبكنا إِلَّا الْكلاب النوابح)
وَفِي الْقِصَّة: أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام جمع الحواريين فِي بَيت وهم اثْنَا عشر رجلا وَقَالَ: إِن أحدكُم يكفر بِي الْيَوْم اثْنَتَيْ عشر مرّة، فَكَانَ كَمَا قَالَ: وَقَالَ: من يخْتَار مِنْكُم أَن يلقِي عَلَيْهِ شبهي فَيقْتل ويصلب؟ فَقَامَ شَاب مِنْهُم وَقَالَ: أَنا. فَقَالَ: اقعد. ثمَّ قَالَ ذَلِك ثَلَاث مَرَّات، وَفِي الْجَمِيع يقوم ذَلِك الشَّاب، فَقَالَ عِيسَى: أَنْت هُوَ. ثمَّ إِن الله تَعَالَى رَفعه من الروزنة إِلَى السَّمَاء، وَدخل الْيَهُود وَألقى الله تَعَالَى شبه عِيسَى على ذَلِك الرجل فَقَتَلُوهُ وصلبوه.(5/428)
{قَالَ الحواريون نَحن أنصار الله فآمنت طَائِفَة من بني إِسْرَائِيل وكفرت طَائِفَة فأيدنا الَّذين آمنُوا على عدوهم فَأَصْبحُوا ظَاهِرين (14) .}
وَقَوله: {من أَنْصَارِي إِلَى الله} أَي: مَعَ الله. وَقيل مَعْنَاهُ: من أَنْصَارِي ينصر مِنْهُ إِلَى: نصر أَي: مضموم إِلَيْهِ.
وَقَوله: {قَالَ الحواريون نَحن أنصار الله} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: {فآمنت طَائِفَة من بني إِسْرَائِيل وكفرت طَائِفَة} فِي التَّفْسِير: أَن عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ لما رَفعه الله تَعَالَى إِلَى السَّمَاء اخْتلف أَصْحَابه؛ فَقَالَ بَعضهم: كَانَ هُوَ الله فَنزل إِلَى الأَرْض ثمَّ رَفعه إِلَى السَّمَاء، وهم النسطورية. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ هُوَ ابْن الله أنزلهُ إِلَى الأَرْض فَفعل مَا شَاءَ ثمَّ إرتفع إِلَى السَّمَاء، وهم اليعقوبية. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ ثَالِث ثَلَاثَة، وَثَلَاثَة هُوَ أَب وَابْن وَزوج، وَقَالُوا: ثَلَاثَة قدما أقانيم، وَعِيسَى أحد الثَّلَاثَة، وهم الملكانية؛ وَعَلِيهِ أَكثر النَّصَارَى. وَقَالَ قوم: هُوَ عبد الله وَرَسُوله فَغلبَتْ الطَّائِفَة الثَّلَاثَة هَذ الطَّائِفَة قبل النَّبِي فَلَمَّا بعث عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام غلبت الطَّائِفَة المؤمنة الطوائف الثَّلَاث، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فأيدنا الَّذين آمنُوا على عدوهم} أَي: نصرنَا وقوينا.
وَقَوله: {فَأَصْبحُوا ظَاهِرين} أَي: غَالِبين. وَالله أعلم.(5/429)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يسبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض الْملك القدوس الْعَزِيز الْحَكِيم (1) هُوَ}
تَفْسِير سُورَة الْجُمُعَة
مَدَنِيَّة فِي قَول الْجَمِيع، وَذكر بَعضهم: أَنَّهَا مَكِّيَّة، وَلَيْسَ بِصَحِيح.(5/430)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {يسبح لله} قد بَينا معنى التَّسْبِيح، وَهُوَ تَنْزِيه الرب عَن كل مَا لَا يَلِيق بِهِ. وَيُقَال: التَّسْبِيح لله هُوَ ذكر الله. وَذكر الْقفال الشَّاشِي: أَن معنى تَسْبِيح الجمادات هُوَ مَا جعل فِيهَا من دَلَائِل حدثها، وَأَن لَهَا صانعا وخالقا. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، وَقد ذكرنَا من قبل مَا قَالَه أهل السّنة فِيهَا.
وَقَوله: {مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض الْملك القدوس} أَي: الطَّاهِر من كل عيب وَآفَة.
وَقَوله: {الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب فِي أمره، الْعدْل فِي فعله.(5/430)
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا} روى مَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم: أَن الْأُمِّي هُوَ الَّذِي لَا يكْتب وَلَا يقْرَأ. وروى ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ: " نَحن أمة أُميَّة لَا نكتب وَلَا نحسب الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ". وَأَشَارَ بأصابعه الْعشْر، وَحبس إبهامه فِي الْمرة الثَّالِثَة.
وَيُقَال: سمي الْأُمِّي أُمِّيا نِسْبَة إِلَى مَا وَلدته عَلَيْهِ أمه. وَيُقَال: سمي أُمِّيا لِأَنَّهُ الأَصْل فِي جبلة الْأمة، وَالْكِتَابَة لَا تكون إِلَّا بتَعَلُّم. وَعَن بَعضهم: سميت قُرَيْش أُمِّيين نِسْبَة إِلَى أم الْقرى وَهِي [مَكَّة] فَإِن قَالَ قَائِل: لم يكن كل قُرَيْش أُمِّيا، وَقد قَالَ: {فِي الْأُمِّيين} وَالْجَوَاب: أَن الله تَعَالَى سماهم أُمِّيين بِاعْتِبَار غَالب أَمرهم، وَقد كَانَت الْكِتَابَة نادرة فيهم، وَقد كَانَت الْعَرَب تسمي من علم الْكِتَابَة والسباحة وَالرَّمْي شَاعِرًا الْكَامِل. قَالَ ابْن عَبَّاس: تعلمت قُرَيْش الْكِتَابَة من أهل(5/430)
{الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين (2) وَآخَرين مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم وَهُوَ} لحيرة، وتعلمها أهل الْحيرَة من أهل الأنبار.
وَالْحكمَة فِي كَون الرَّسُول أُمِّيا انْتِفَاء التُّهْمَة عَنهُ فِي تعلم أَخْبَار الْأَوَّلين ودراستها من كتبهمْ. وَيُقَال: ليَكُون مُوَافقا لصفته فِي كتب الْأَوَّلين.
وَقَوله: {يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته} أَي: الْقُرْآن.
وَقَوله: {وَيُعلمهُم الْكتاب} أَي: كتاب الله. وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ الْخط بالقلم، فَإِن الْكِتَابَة كثرت فِي قُرَيْش وَسَائِر الْعَرَب بعد رَسُول الله، وَهَذَا مُوَافق لقَوْله تَعَالَى: {علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} .
وَقَوله: {وَالْحكمَة} أَي: السّنة. وَيُقَال: الْفِقْه فِي الدّين.
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين} أَي: فِي ضلال من الْحق بَين.(5/431)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
قَوْله تَعَالَى: {وَآخَرين مِنْهُم} قَالَ الْأَزْهَرِي: هُوَ فِي مَوضِع الْخَفْض يَعْنِي: بعث فِي الْأُمِّيين وَفِي آخَرين.
وَقَوله: {لما يلْحقُوا بهم} أَي: لم يلْحقُوا بهم وسيلحقون. وَيُقَال فِي قَوْله: {وَآخَرين} أَي: يعلمهُمْ الْكتاب وَالْحكمَة، وَيعلم آخَرين، أوردهُ النقاش.
وَاخْتلفت الْأَقْوَال فِي المُرَاد بالآخرين من هم؟ قَالَ عِكْرِمَة: هم التابعون. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هم الْعَجم. (وَقَائِل) هَذَا القَوْل مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة وَأَشَارَ إِلَى سلمَان، وَقَالَ: لَو كَانَ الدّين مُعَلّقا بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ رجال من قوم(5/431)
{الْعَزِيز الْحَكِيم (3) ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم (4) مثل الَّذين حملُوا التَّوْرَاة ثمَّ لم يحملوها كَمثل الْحمار يحمل أسفارا بئس مثل الْقَوْم} هَذَا " أَي: الْعَجم. وَقَالَ الضَّحَّاك: هُوَ كل من آمن وَعمل صَالحا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} قد بَينا.(5/432)
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء} أَي: النُّبُوَّة. وَيُقَال: مَا سبق ذكره من تَعْلِيم الْكتاب وَالْحكمَة.
وَقَوله: {وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} ظَاهر. وَقد ورد فِي الْخَبَر " أَن الْفُقَرَاء شكوا إِلَى النَّبِي وَقَالُوا: ذهب أهل الدُّثُور بِالْأُجُورِ، فَأَرْشَدَهُمْ الرَّسُول إِلَى التَّسْبِيح والتهليل وأنواع من الذّكر؛ فَسمع الْأَغْنِيَاء بذلك فَجعلُوا يَقُولُونَ مثل مَا يَقُول الْفُقَرَاء؛ فجَاء الْفُقَرَاء إِلَى رَسُول الله وَذكروا لَهُ ذَلِك؛ فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة، وَهُوَ وَقَوله: {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} وَهُوَ خبر مَشْهُور.(5/432)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {مثل الَّذين حملُوا التَّوْرَاة} أَي: حملُوا الْقيام بهَا (واستعمالها) ، وَهُوَ من الْحمالَة وَلَيْسَ من الْحمل أَي: ضمنُوا الْقيام بهَا وَالْعَمَل بِمَا فِيهَا.
وَقَوله: {ثمَّ لم يحملوها} أَي: ضيعوها وَلم يعملوا بِمَا فِيهَا {كَمثل الْحمار يحمل أسفارا} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " كَمثل حمَار يحمل أسفارا " والأسفار جمع سفر، وَالسّفر هُوَ الْكتاب، فَجعل الْكفَّار لما ضيعوا كتاب الله وَلم يعملوا بِمَا فِيهِ مثل الْحمر تحمل الْكتب وَلَا تَدْرِي مَا فِيهَا.(5/432)
{الَّذين كذبُوا بآيَات الله وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (5) قل يَا أَيهَا الَّذين هادوا إِن زعمتم أَنكُمْ أَوْلِيَاء لله من دون النَّاس فتمنوا الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين (6) وَلَا يتمنونه أبدا بِمَا قدمت أَيْديهم وَالله عليم بالظالمين (7) قل إِن الْمَوْت الَّذِي تفرون مِنْهُ فَإِنَّهُ}
وَقَوله: {بئس مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بآيَات الله} أَي: بئس الْمثل مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بآيَات الله وَقَوله: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: الْكَافرين.(5/433)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا الَّذين هادوا} وَفِي بعض التفاسير: أَن يهود الْمَدِينَة بعثوا إِلَى يهود خَيْبَر يَسْأَلُونَهُمْ عَن النَّبِي، فَكتب يهود خَيْبَر إِلَى يهود الْمَدِينَة، وَقَالُوا: إِنَّا لَا نَعْرِف نَبيا يخرج من الْعَرَب، وَإِن هَذَا الرجل يُرِيد أَن يضعكم ويصغر شَأْنكُمْ، وَأَنْتُم أَوْلِيَاء الله وأحباؤه فَلَا تَتبعُوهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {إِن زعمتم أَنكُمْ أَوْلِيَاء لله من دون النَّاس} هُوَ مَا قُلْنَا.
وَقَوله: {فتمنوا الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي: صَادِقين أَنكُمْ أَوْلِيَاء الله، فَإِنَّكُم إِذا متم وصلتم إِلَى كَرَامَة الله وجنته على زعمكم، فتمنوا لتصلوا. وَفِي أَكثر التفاسير: أَن الْآيَة معْجزَة للرسول، فَإِن الله كَانَ قد قضى أَنهم لَو تمنوا مَاتُوا فِي وقتهم ذَلِك، فَلم يتمن أحد مِنْهُم، فَفِي صرفهم عَن التَّمَنِّي مَعَ حرصهم على إِظْهَار كذب الرَّسُول، وَفِي علمهمْ أَنهم لَو تمنوا مَاتُوا، دَلِيل على صدق الرَّسُول.(5/433)
وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يتمنونه أبدا بِمَا قدمت أَيْديهم} أخبر أَنهم لَا يتمنون، وَلم يتمن أحد مِنْهُم.
وَقَوله: {وَالله عليم بالظالمين} أَي: بظلمهم على أنفسهم بكتمانهم وصف الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي كتبهمْ.(5/433)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِن الْمَوْت الَّذِي تفرون مِنْهُ فَإِنَّهُ ملاقيكم} فِي الْآيَة دَلِيل على أَنهم لَو تمنوا مَاتُوا، وَإِنَّهُم لم يتمنوا فِرَارًا من الْمَوْت.
وَقَوله: {فَإِنَّهُ ملاقيكم} أَي: الْمَوْت ملاقيكم.(5/433)
{ملاقيكم ثمَّ تردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع ذَلِكُم}
وَقَوله: {ثمَّ تردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} أَي: عَالم بِمَا ظهر وخفي.
وَقَوله: {فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: بِمَا عملتم.(5/434)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} أَي: لصَلَاة الْجُمُعَة من يَوْم الْجُمُعَة، وَسمي الْيَوْم جُمُعَة؛ لِأَنَّهُ جمع فِي هَذَا الْيَوْم خلق آدم. وَقد روى بَعضهم هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي.
وَقَوله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله} قَرَأَ عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن الزبير: " فامضوا إِلَى ذكر الله ". قَالَ ابْن مَسْعُود: لَو قَرَأت: " فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله " لسعيت حَتَّى يسْقط رِدَائي. وَالْمَعْرُوف: " فَاسْعَوْا " وَقد رُوِيَ عَن بعض التَّابِعين أَنهم كَانُوا يعدون. قَالَ ثَابت الْبنانِيّ: كنت عِنْد أنس بن مَالك: فَنُوديَ لصَلَاة الْجُمُعَة فَقَالَ: قُم نسع. وَالصَّحِيح أَن السَّعْي هَاهُنَا بِمَعْنى الْعَمَل وَالْفِعْل، قَالَه مُجَاهِد وَغَيره، وَحكي ذَلِك عَن الشَّافِعِي، وَاسْتشْهدَ بقوله تَعَالَى: {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} أَي: إِلَّا مَا عمل، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِن سعيكم لشتى} وأمثال هَذَا. وَقد قَالَ الشَّاعِر:
(أسعى على جلّ بني مَالك ... كل امْرِئ فِي شَأْنه ساعي)
فالسعي هَاهُنَا بِمَعْنى الْعَمَل وَالتَّصَرُّف. وَعَن الْحسن وَقَتَادَة: أَن المُرَاد من قَوْله: {فَاسْعَوْا} هُوَ النِّيَّة بِالْقَلْبِ والإرادة لَهَا. وَقَالَ عبد الله بن الصَّامِت: كنت أَمْشِي مَعَ أبي ذَر إِلَى الْجُمُعَة فسمعنا النداء للصَّلَاة، فَرفعت فِي مشي، فجذبني جذبة، وَقَالَ:(5/434)
{خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (9) فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله واذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون (10) وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا انْفَضُّوا} أَلسنا نسعى. وَقَوله: {إِلَى ذكر الله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْخطْبَة، وَالْآخر: أَنه الصَّلَاة. وَهُوَ الْأَصَح.
وَقَوله تَعَالَى: {وذروا البيع} أَي: واتركوا البيع. وَيُقَال المُرَاد مِنْهُ: إِذا دخل وَقت الصَّلَاة وَإِن لم يُؤذن لَهَا بعد، وَيُقَال: إِنَّه بعد سَماع النداء. وَالْأول أحسن. وَمن قَالَ بِالثَّانِي، قَالَ: النداء هُوَ الآذان إِذا جلس الإِمَام على الْمِنْبَر وَهُوَ الَّذِي كَانَ فِي زمَان رَسُول الله وَأما الْآذِن الأول أحدثه عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ حِين كثر النَّاس. وَالْمرَاد من قَوْله: {وذروا البيع} أَي: البيع وَالشِّرَاء وكل مَا يشغل عَن الْجُمُعَة. وَاخْتلف الْعلمَاء أَنه لَو بَاعَ هَل يجوز ذَلِك البيع؟ فَذهب أَكْثَرهم إِلَى أَن البيع جَائِز، وَالنَّهْي عَنهُ كَرَاهَة. وَذهب مَالك وَأحمد إِلَى أَن البيع لَا يجوز أصلا. وَحكى بَعضهم عَن مَالك أَنه رَجَعَ من التَّحْرِيم إِلَى الْكَرَاهَة، وَالْقَوْل الأول أولى؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ} جعل ترك البيع خيرا، وَهَذَا يُشِير إِلَى الْكَرَاهَة فِي الْفِعْل دون التَّحْرِيم، وَلِأَن النَّهْي عَن العقد للاشتغال عَن الْجُمُعَة لَا لعين العقد.(5/435)
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة} أَي: فرغ مِنْهَا.
قَوْله تَعَالَى: {فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله} هُوَ أَمر ندب لَا أَمر حتم وَإِيجَاب، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} وَعَن ابْن محيريز قَالَ: يُعجبنِي أَن يكون لي حَاجَة بعد الْجُمُعَة فأنصرف إِلَيْهَا، وابتغى من فضل الله مِنْهَا. وَعَن عبد الله [بن] بسر: أَنه كَانَ يخرج من الْمَسْجِد إِذا صلى الْجُمُعَة، ثمَّ يعود وَيجْلس إِلَى أَن يُصَلِّي الْعَصْر. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي فِي معنى قَوْله(5/435)
تَعَالَى: {فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله} قَالَ: " لَيْسَ هُوَ طلب دنيا، وَإِنَّمَا هُوَ عِيَادَة مَرِيض، أَو شُهُود جَنَازَة، أَو زياح أَخ فِي الله ". وَالْخَبَر غَرِيب.
وَقَوله: {واذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون} ظَاهر الْمَعْنى.(5/436)
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة أَن رَسُول الله كَانَ على الْمِنْبَر يخْطب، وَقد كَانَ أصَاب أهل الْمَدِينَة غلاء ومجاعة، فَقدمت عير تحمل الطَّعَام وَيُقَال: كَانَت لدحية بن خَليفَة الْكَلْبِيّ فنزلوا عِنْد أَحْجَار الزَّيْت، وضربوا بالطبل ليعلم النَّاس، فَسمع الْمُسلمُونَ ذَلِك فِي الْمَسْجِد فَذَهَبُوا إِلَيْهَا، وَبَقِي النَّبِي مَعَ اثْنَي عشر نَفرا فيهم أَبُو بكر وَعمر. وَأورد البُخَارِيّ خَبرا فِي هَذَا، وَأورد هَذَا الْعدَد. وَقيل: فِي [ثَمَانِيَة] رجال، وَالْأول أصح، فَانْزِل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَالتِّجَارَة مَعْلُومَة، وَهِي التِّجَارَة فِي الطَّعَام وتحصيلها، وَاللَّهْو هُوَ الطبل، قَالَه مُجَاهِد. وَيُقَال: هُوَ المزامير، وَكَانَ الْأَنْصَار يستعملون ذَلِك إِذا زفوا امْرَأَة إِلَى زَوجهَا، وَذَلِكَ مثل الدُّف والطبل وَمَا يُشبههُ، فعلى هَذَا القَوْل سمع الْمُسلمُونَ صَوتهَا فِي السُّوق وَكَانُوا يزفون امْرَأَة فَذَهَبُوا إِلَيْهَا، وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور، وَهُوَ الثَّابِت.
وَقَوله: {وَتَرَكُوك قَائِما} لِأَنَّهُ كَانَ يخْطب، وَفِيه دَلِيل على أَن السّنة أَن يخْطب قَائِما، وَأول من خطب قَاعِدا مُعَاوِيَة وَتَبعهُ على ذَلِك مَرْوَان. وَالسّنة مَا بَينا. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} وَقد تقدم سببان؛ التِّجَارَة وَاللَّهْو، وَلم يقل: " انْفَضُّوا إِلَيْهِمَا "؟ وَالْجَوَاب أَن مَعْنَاهُ: وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة انْفَضُّوا إِلَيْهَا، وَإِذا رَأَوْا لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهِ، فَاكْتفى بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر. وَقد ذكرنَا من قبل أَن الْعَرَب قد تذكر شَيْئَيْنِ وَترد الْكِنَايَة إِلَى أَحدهمَا، وَالْمرَاد كِلَاهُمَا، قَالَ الشَّاعِر:(5/436)
{إِلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِما قل مَا عِنْد الله خير من اللَّهْو وَمن التِّجَارَة وَالله خير الرازقين (11) .}
نَحن بِمَا عندنَا وَأَنت بِمَا ... عنْدك رَاض والرأي مُخْتَلف)
وَيُقَال: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير وَمَعْنَاهُ: وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة انْفَضُّوا إِلَيْهَا أَو لهوا والانفضاض هُوَ الذّهاب بِسُرْعَة.
وَقَوله: {قل مَا عِنْد الله خير من اللَّهْو وَمن التِّجَارَة} أَي: ذكر الله تَعَالَى والاشتغال فِي الصَّلَاة خير من اللَّهْو وَالتِّجَارَة، وَقَوله: {وَالله خير الرازقين} قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: أَنه يرزقكم وَلَا يمسِكهُ عَنْكُم فَلَا تشتغلوا بِطَلَبِهِ عَن الصَّلَاة وَعَن ذكر الله. وَيُقَال: الرزق مسجلة للبر والفاجر. وروى الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ أَن النَّبِي قَالَ حِين نفر النَّاس إِلَى العير وَبَقِي فِي اثْنَي عشر رجلا: " لَو لحق آخِرهم أَوَّلهمْ لاضطرم الْوَادي عَلَيْهِم نَارا ".
وَقد وَردت أَخْبَار كَثِيرَة فِي فضل الْجُمُعَة وثوابها مِنْهَا: مَا روى سعيد بن الْمسيب، عَن جَابر، عَن عبد الله أَن النَّبِي قَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس تُوبُوا إِلَى ربكُم من قبل أَن تَمُوتُوا، وَبَادرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة قبل أَن تشْغَلُوا، وصلوا الَّذِي بَيْنكُم وَبَين ربكُم بِكَثْرَة ذكركُمْ لَهُ وَالصَّدَََقَة فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة تنصرُوا وَتجبرُوا وترزقوا، وَاعْلَمُوا أَن الله تَعَالَى قد فرض عَلَيْكُم الْجُمُعَة فِي مقَامي هَذَا فِي يومي هَذَا فِي شَهْري هَذَا فِي عَامي هَذَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَمن تَركهَا فِي حَياتِي أَو بعد موتِي وَله إِمَام عَادل أَو جَائِر اسْتِخْفَافًا بهَا وجحودا لَهَا، أَلا فَلَا جمع الله شَمله، وَلَا بَارك لَهُ فِي أمره أَلا لَا ... ".(5/437)
وروى مَالك، عَن سمي، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، أَن النَّبِي قَالَ: " من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة ثمَّ رَاح فِي السَّاعَة الثَّالِثَة فَكَأَنَّمَا قرب بَدَنَة، وَمن رَاح فِي السَّاعَة الثَّانِيَة فَكَأَنَّمَا قرب بقرة، وَمن رَاح فِي السَّاعَة الثَّالِثَة فَكَأَنَّمَا قرب كَبْشًا أقرن، وَمن رَاح فِي السَّاعَة الرَّابِعَة فَكَأَنَّمَا قرب دجَاجَة، وَمن رَاح فِي السَّاعَة الْخَامِسَة فَكَأَنَّمَا قرب بَيْضَة، فَإِذا [شرع] الإِمَام طويت الصُّحُف، وَحَضَرت الْمَلَائِكَة يَسْتَمِعُون الذّكر ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو الْحُسَيْن بن النقور، أخبرنَا أَبُو طَاهِر المخلص أخبرنَا يحيى بن مُحَمَّد بن صاعد، أخبرنَا أَبُو مُصعب عَن مَالك الْخَبَر.
وَورد أَيْضا بِرِوَايَة عمرَان بن الْحصين، عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة غسلت ذنُوبه وخطاياه، فَإِذا رَاح كتب الله بِكُل قدم عمل عشْرين سنة، فَإِذا قضيت الصَّلَاة أُجِيز بِعَمَل مِائَتي سنة " وَالْخَبَر غَرِيب جدا.
وَالْخَبَر الثَّالِث أَن النَّبِي قَالَ: " من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة من الْجَنَابَة، وَلبس من صَالح ثِيَابه، وَمَسّ من طيب بَيته، وَلم يفرق بَين اثْنَيْنِ غفر لَهُ مَا بَينه وَبَين الْجُمُعَة(5/438)
الْأُخْرَى وَزِيَادَة ثَلَاثَة أَيَّام ". ذكره البُخَارِيّ فِي كِتَابه.
وَورد أَيْضا فِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " من ترك الْجُمُعَة ثَلَاث مَرَّات من غير عذر طبع الله على قلبه ". وَالله أعلم.(5/439)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم إِنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخذُوا أَيْمَانهم جنَّة}
تَفْسِير سُورَة الْمُنَافِقين
وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْجَمِيع. وَالله أعلم.(5/440)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك لرَسُول الله} قَالَ أهل التَّفْسِير: نزلت السُّورَة فِي شَأْن عبد الله بن أبي بن سلول وَأَصْحَابه، كَانُوا يأْتونَ النَّبِي وَيَقُولُونَ: نَحن مُؤمنُونَ بك، ونشهد إِنَّك لرَسُول الله، وَأَن مَا جِئْت بِهِ حق، ثمَّ إِذا رجعُوا إِلَى مَا بَينهم أظهرُوا الْكفْر. وَعَن بَعضهم: أَن قَوْله تَعَالَى: {نشْهد} مَعْنَاهُ: نحلف بِدَلِيل أَن الله تَعَالَى قَالَ بعد هَذِه الْآيَة: {اتَّخذُوا أَيْمَانهم جنَّة} .
قَالَ الشَّاعِر:
(وَأشْهد عِنْد الله أَنِّي أحبها ... فَهَذَا لَهَا عِنْدِي فَمَا عِنْدهَا ليا)
أَي: أَحْلف.
وَقَوله: {وَالله يعلم إِنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} هُوَ تطييب لقلب النَّبِي وتسلية لَهُ، وَمَعْنَاهُ: أَن علمي أَنَّك رَسُول الله وشهادتي لَك بذلك خير من شَهَادَتهم.
وَقَوله: {إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} قَالَ أَبُو عبيد: أَي: الْكَافِرُونَ، يُسَمِّي الْكفْر باسم الْكَذِب. وَقَالَ غَيره: هُوَ الْكَذِب حَقِيقَة. وَسمي قَوْلهم كذبا؛ لأَنهم كذبُوا على قُلُوبهم. وَقيل: لما أظهرُوا بألسنتهم خلاف مَا كَانَ فِي ضمائرهم سمي بذلك كذبا، كَالرّجلِ يخبر بالشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ.(5/440)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {اتَّخذُوا أَيْمَانهم جنَّة} أَي: ستْرَة لما أبطنوه من الْكفْر. وَقيل: جنَّة أَي: يترسوا بهَا عَن الْقَتْل، مثل الْمِجَن يتترس بهَا الْمقَاتل بهَا الْمقَاتل عَن سلَاح الْعَدو.(5/440)
{فصدوا عَن سَبِيل الله إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يعْملُونَ (2) ذَلِك بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا فطبع على قُلُوبهم فهم لَا يفقهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك أجسامهم وَإِن يَقُولُوا}
وَقَوله: {فصدوا عَن سَبِيل الله} أَي: منعُوا النَّاس عَن سَبِيل الْإِيمَان. وَمعنى صدهم النَّاس عَن سَبِيل الله أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ لضعفة الْمُسلمين: إِنَّا نشْهد عِنْد هَذَا الرجل ونظهر خلاف مَا نسر، فَلَو كَانَ نَبيا لعلم إسرارنا، ومنعنا من المخالطة مَعَ أَصْحَابه.
وَقَوله: {إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: بئس الْعَمَل عَمَلهم. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " اتَّخذُوا إِيمَانهم جنَّة " بِكَسْر الْألف، وَالْمَعْرُوف إِيمَانهم بِالْفَتْح جمع الْيَمين.(5/441)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا} أَي: آمنُوا بألسنتهم، وَكَفرُوا بقلوبهم.
وَقَوله: {فطبع على قُلُوبهم} أَي: ختم على قُلُوبهم فَلَا يدخلهَا الْإِيمَان وَقبُول الْحق.
وَقَوله: {فهم لَا يفقهُونَ} أَي: لَا يتدبرون، وَالْفِقْه هُوَ التدبر والتفهم. وَقيل: فهم لَا يفقهُونَ أَي: لَا يعْقلُونَ، كَأَنَّهُمْ لم يقبلُوا الدّين مَعَ ظُهُور الدَّلَائِل عَلَيْهِ بِمَنْزِلَة من لَا يعقل.(5/441)
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك أجسامهم} فِي التَّفْسِير: أَن عبد الله بن أبي بن سلول كَانَ رجلا جسيما فصيحا صبيحا ذلق اللِّسَان. قَالَ الزّجاج: أخبر الله تَعَالَى بِصِحَّة أجسامهم وَحسن مناظرهم وفصاحة ألسنتهم. وَهُوَ فِي قَوْله: {وَإِن يَقُولُوا تسمع لقَولهم} أَي: للسان الَّذِي لَهُم، ثمَّ قَالَ فِي شَأْنهمْ: {كَأَنَّهُمْ خشب مُسندَة} أَي: هم مناظر بِلَا مخابر، وصور بِلَا مَعَاني، وَإِنَّمَا مثلهم بالخشب؛ لِأَن الْخشب لَا قلب لَهُ وَلَا عقل، وَلَا يعي خَبرا وَلَا يفهمهُ. وَيُقَال فِي الْعَادة: فلَان خشب أَي: لَيْسَ لَهُ عقل وَلَا فهم. وَقُرِئَ: " خشب " بِسُكُون الشين، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد، يُقَال: بدن وبدنة وثمر وَثَمَرَة، فالخشب والخشب جمع، والواحدة خَشَبَة، ومثاله مَا ذكرنَا.(5/441)
{تسمع لقَولهم كَأَنَّهُمْ خشب مُسندَة يحسبون كل صَيْحَة عَلَيْهِم هم الْعَدو فَاحْذَرْهُمْ قَاتلهم الله أَنى يؤفكون (4) وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا يسْتَغْفر لكم رَسُول الله لووا}
وَقَوله تَعَالَى: {مُسندَة} أَي: ممالة إِلَى الْجِدَار. قَالَ عَليّ بن عِيسَى: جعلهم كخشب نخرة، متآكلة فِي الْبَاطِن، صَحِيحَة فِي الظَّاهِر.
وَقَوله: {يحسبون كل صَيْحَة عَلَيْهِم} يَعْنِي: إِذا سمعُوا نِدَاء أَو سمعُوا من ينشد ضَالَّة أَو أَي صَوت كَانَ، ظنُّوا أَنهم المقصودون بذلك الصَّوْت، وَأَن سرائرهم قد ظَهرت للْمُسلمين، وَهُوَ وصف لجبنهم وخوفهم من الْمُسلمين. وَفِي بعض التفاسير أَن مَعْنَاهُ: هُوَ أَن كل من سَار النَّبِي بِشَيْء كَانُوا يظنون أَن ذَلِك فِي أَمرهم وشأنهم. وَقيل: كَانَ كلما نزلت لآيَة أَو سُورَة ظنُّوا من الْخَوْف أَنَّهَا نزلت فيهم، قَالَه ابْن جريح. وأنشدوا لجرير فِي الْجُبْن:
(مَا زلت تحسب كل شَيْء بعدهمْ ... خيلا تكر عَلَيْهِم ورجالا)
وَقَالَ غَيره:
(لقد خفت حَتَّى لَو تمر كمامة ... لَقلت عدوا وطليعة معشر)
وَقَوله: {هم الْعَدو} أَي: الْأَعْدَاء.
وَقَوله: {فَاحْذَرْهُمْ} قَالَ ذَلِك لأَنهم يطلعون الْمُشْركين على أسرار الْمُسلمين، ويجبنون ضعفاء الْمُسلمين.
قَوْله: {قَاتلهم الله} أَي: أخزاهم وأهلكهم. وَقيل: نزلهم منزلَة من يقاتله عَدو قاهر لَهُ.
وَقَوله: {أَنى يؤفكون} أَي: كَيفَ يصرفون عَن الْحق مَعَ ظُهُوره؟ وَهُوَ يتَضَمَّن تقبيح فعلهم وتعجيب رَسُول الله مِنْهُم.(5/442)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا يسْتَغْفر لكم رَسُول الله} كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ لِلْمُنَافِقين: احضروا النَّبِي واعترفوا بذنوبكم يسْتَغْفر لكم، وَكَانُوا يهزون(5/442)
{رُءُوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون (5) سَوَاء عَلَيْهِم أَسْتَغْفَرْت لَهُم أم لم تستغفر لَهُم لن يغْفر الله لَهُم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين (6) هم الَّذين يَقُولُونَ لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا وَللَّه خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلَكِن} رُءُوسهم، وَيَنْظُرُونَ يمنة ويسرة استهزاء، قيل: هَذَا فِي عبد الله بن أبي بن سلول خَاصَّة. قَالَ بعض الصَّحَابَة لَهُ ذَلِك فَثنى رَأسه وحركه استهزاء، فَهُوَ معنى قَوْله: {لووا رُءُوسهم} وَيقْرَأ بِالتَّخْفِيفِ. وَمَعْنَاهُ: ثنوا رُءُوسهم، وَمن قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ تَأْكِيد.
وَقَوله: {ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون} أَي: يعرضون وهم ممتنعون عَن الْإِيمَان.(5/443)
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
وَقَوله: {سَوَاء عَلَيْهِم أَسْتَغْفَرْت لَهُم أم لم تستغفر لَهُم لن يغْفر الله لَهُم} وَمَعْنَاهُ: أَن استغفارك لَهُم لَا يَنْفَعهُمْ، وَعِنْدهم أَن وجوده وَتَركه وَاحِد. فَإِن قيل: كَيفَ أسْتَغْفر لَهُم رَسُول الله وَقد علم أَنهم مُنَافِقُونَ؟ وَالْجَوَاب: أَنه كَانَ يسْتَغْفر لَهُم لأَنهم كَانُوا يأْتونَ يطْلبُونَ الاسْتِغْفَار، ويسألون مِنْهُ الصفح وَالْعَفو، مثل مَا ذكرنَا فِي سُورَة التَّوْبَة، وَلم يكن يَنْفَعهُمْ؛ لأَنهم كَانُوا كفَّارًا عِنْد الله.
وَقَوله: {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} أَي: الْمُنَافِقين، وهم كفار وفساق ومنافقون. وَحكى بَعضهم عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان أَنه قيل لَهُ: من الْمُنَافِق؟ قَالَ: الَّذِي يصف الْإِيمَان وَلَا يعْمل بِهِ. وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إِنِّي لَا أَخَاف عَلَيْكُم مُؤمنا تبين إيمَانه، وَلَا كَافِرًا تبين كفره، وَإِنَّمَا أَخَاف عَلَيْكُم كل مُنَافِق عليم اللِّسَان.(5/443)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {هم الَّذين يَقُولُونَ لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا} وَقُرِئَ فِي الشاذ " حَتَّى يَنْفضوا " من النفض أَي: حَتَّى يَنْفضوا أوعيتهم فيفتقروا ويتفرقوا.
وَقَوله: {هم الَّذين يَقُولُونَ} يُقَال: الْوَاو محذوفة، وَمَعْنَاهُ: وهم الَّذين يَقُولُونَ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: {لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة} أَي: وَيَقُولُونَ، قَالَ الشَّاعِر:(5/443)
(لأمر مَا تصرفت اللَّيَالِي ... لأمر مَا تحركت النُّجُوم)
أَي: ولأمر.
وَقَوله: {لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله} نزلت الْآيَة على سَبَب، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن أُسَامَة بن زيد أَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ اسْتَأْجر رجلا من غفار يُقَال لَهُ: " جَهْجَاه " ليعْمَل لَهُ فِي بعض الْغَزَوَات، وَهِي غَزْوَة " الْمُريْسِيع " فجرت بَينه وَبَين رجل من الْأَنْصَار مُنَازعَة على رَأس بِئْر للإسقاء فَقَالَ الْأنْصَارِيّ: يَا للْأَنْصَار، وَقَالَ جَهْجَاه: يَا للمهاجرين، فَسمع النَّبِي ذَلِك فَقَالَ: " مَا بَال دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة دَعُوهَا فَإِنَّهَا ميتَة ". وَبلغ ذَلِك عبد الله بن أبي سلول فَغَضب وَقَالَ: هَذَا مثل مَا قَالَ الأول سمن كلبك، وَقَالَ: أما إِنَّكُم لَو أطعتموني لم تنفقوا على من اجْتمع عِنْد هَذَا الرجل وَكَانَ الْأَنْصَار يُنْفقُونَ على الْمُهَاجِرين، وَكَانُوا يَنْفضونَ عَنهُ وَقَالَ: لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل وعنى بالأعز نَفسه، وَبِالْأَذَلِّ مُحَمَّدًا فَبلغ ذَلِك النَّبِي وَقَالَ عمر: دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " لَا يبلغ النَّاس أَن مُحَمَّدًا يقتل أَصْحَابه " أَي: لَا أَقتلهُ لهَذَا قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس أخبرنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الديبلي، أخبرنَا أَبُو عبد الله سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، أخبرنَا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ ... الحَدِيث.
وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا الْخَبَر فِي كِتَابه بِرِوَايَة زيد بن أَرقم قَالَ: كنت مَعَ عمر فِي غزَاة فَسمِعت عبد الله بن أبي بن سلول يَقُول لأَصْحَابه: لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا، وَقَالَ: لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل. قَالَ فَجئْت إِلَى عمر وَذكرت لَهُ ذَلِك، وَذكر عمر ذَلِك لرَسُول الله، فجَاء ابْن أبي بن سلول إِلَى النَّبِي وَحلف أَنه مَا قَالَه فَصدقهُ وَكَذبَنِي، فَأَصَابَنِي من الْهم مَا لم يُصِبْنِي مثله قطّ حَتَّى جَلَست فِي بَيْتِي، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَالَّتِي قبلهَا،(5/444)
{الْمُنَافِقين لَا يفقهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل} فدعاني رَسُول الله وَقَالَ: " إِن الله تَعَالَى قد صدقك ".
وَفِي رِوَايَة سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر " أَن رجلا من الْمُهَاجِرين كسع رجلا من الْأَنْصَار، فَقَالَ الْأنْصَارِيّ: ياللأنصار، وَقَالَ الْمُهَاجِرِي: ياللمهاجرين وَكَانَ الْأَنْصَار أَكثر من الْمُهَاجِرين حِين قدم رَسُول الله الْمَدِينَة، ثمَّ كثر الْمُهَاجِرين من بعد فَلَمَّا سمع عبد الله بن أبي بن سلول ذَلِك قَالَ مَا ذَكرْنَاهُ، (وسَاق) الحَدِيث قَرِيبا من الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَولا ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذكرنَا عَن سُفْيَان.
وَقَوله: {حَتَّى يَنْفضوا} أَي: يتفرقوا.
وَقَوله تَعَالَى: {وَللَّه خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض} مَعْنَاهُ: أَنهم لَو لم تنفقوا فَللَّه خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض فَهُوَ يرزقكم. وَيُقَال: خَزَائِن السَّمَوَات بالمطر، وخزائن الأَرْض بالنبات. وَعَن بَعضهم: خَزَائِن السَّمَوَات مَا قَضَاهُ، وخزائن الأَرْض مَا أعطَاهُ. وَقَالَ بعض أَرْبَاب الخواطر: خَزَائِن السَّمَوَات: الغيوب، وخزائن الأَرْض: الْقُلُوب. وَالصَّحِيح الأول.
قَوْله: {وَلَكِن الْمُنَافِقين لَا يفقهُونَ} قد بَينا.(5/445)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل} قد ذكرنَا، والأعز هُوَ الأقدر على منع الْغَيْر، والأذل هُوَ الأعجز عَن نفع الْغَيْر. وَقيل مَعْنَاهُ: ليخرجن الْعَزِيز مِنْهَا الذَّلِيل. وَفِي أفعل بِمَعْنى فعيل قَالَ الفرزدق:
(إِن الَّذِي سمك السَّمَاء بنى لنا ... بَيْتا دعائمه أعز وأطول)(5/445)
{وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ وَلَكِن الْمُنَافِقين لَا يعلمُونَ (8) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تلهكم أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم عَن ذكر الله وَمن يفعل ذَلِك فَأُولَئِك هم الخاسرون (9) وأنفقوا من مَا رزقناكم من قبل أَن يَأْتِي أحدكُم الْمَوْت فَيَقُول رب لَوْلَا أخرتني} أَي: عَزِيز طَوِيلَة.
وَقَوله: {وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ} أَي: الْغَلَبَة والمنعة وَالْقُوَّة، والعزة لله لعزة فِي ذَاته، والعزة لرَسُوله وَلِلْمُؤْمنِينَ بِمَا أَعْطَاهُم الله تَعَالَى من الْغَلَبَة والمنعة وَالْقُوَّة.
وَقَوله: {وَلَكِن الْمُنَافِقين لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ أَن الْعِزَّة وَالْغَلَبَة لله وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ.(5/446)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تلهكم أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم} أَي: لَا تشغلكم، وَمَعْنَاهُ: لَا تشتغلوا بِالْقيامِ على أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فيشغلكم ذَلِك عَن ذكر الله كَمَا شغل الْمُنَافِقين. وَذكر الله هُوَ الْإِيمَان بِهِ هَاهُنَا.
وَقَوله: {وَمن يفعل ذَلِك فَأُولَئِك هم الخاسرون} أَي: المغبونون بحظوظهم. وَيُقَال: هم الَّذين غبنوا أنفسهم وخسروها فِي الْآخِرَة. وَعَن عَطاء: أَن ذكر الله هَاهُنَا هُوَ الصَّلَوَات الْخمس. وَقَالَ الضَّحَّاك: هُوَ جَمِيع مَا فَرْضه الله تَعَالَى.(5/446)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وأنفقوا مِمَّا رزقناكم} الْأَصَح أَنه الزَّكَاة، وَقيل: هُوَ صَدَقَة التَّطَوُّع، وكل مَا ندب الله تَعَالَى إِلَيْهِ من النَّفَقَة فِي الْخيرَات.
وَقَوله: {من قبل أَن يَأْتِي أحدكُم الْمَوْت فَيَقُول رب لَوْلَا أخرتني} أَي: هلا أخرتني.
قَوْله: {إِلَى أجل قريب} أَي: إِلَى مُدَّة قريبَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: كل من كَانَ لَهُ مَال وَلم يؤد زَكَاته يسْأَل الله الرّجْعَة إِذا حَضَره الْمَوْت. فَقَالُوا لَهُ: يَا ابْن عَبَّاس، اتَّقِ الله، فَإِنَّمَا الرّجْعَة للْكَافِرِ، فَقَالَ: اتْلُوا هَذِه الْآيَة: {وأنفقوا مِمَّا رزقناكم} الْآيَة. وَفِي رِوَايَة: أَن هَذَا فِي الْحَج بدل الزَّكَاة.(5/446)
{إِلَى أجل قريب فَأَصدق وأكن من الصَّالِحين (10) وَلنْ يُؤَخر الله نفسا إِذا جَاءَ أجلهَا وَالله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ (11) .}
وَقَوله: {فَأَصدق وأكن من الصَّالِحين} وَقُرِئَ: " وأكون " وَمن قَرَأَ " وأكون " فَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله فَأَصدق. وَقيل لِابْنِ عمر: وَكَيف خَالَفت الْمُصحف فِي قَوْله: {وأكون من الصَّالِحين} ؟ فَقَالَ: هُوَ مثل قَوْلهم فِي هجاء أبجد كلمن، وَهُوَ كلمون.
وَأما تَقْرِير الْآيَة على الْقِرَاءَة بِدُونِ الْوَاو: " وَإِن أخرتني أصدق وأكن من الصَّالِحين ". وَقيل: " أصدق " أَي: أزكي، " وأكن من الصَّالِحين " أَي: أحج.(5/447)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ يُؤَخر الله نفسا إِذا جَاءَ أجلهَا} أَي: لَا يتَقَدَّم وَلَا يتَأَخَّر إِذا جَاءَ الْأَجَل.
وَقَوله: {وَالله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(5/447)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يسبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير (1) هُوَ الَّذِي خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن}
تَفْسِير سُورَة التغابن
وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْأَكْثَرين. وَقَالَ الضَّحَّاك: مَكِّيَّة. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: مَكِّيَّة ومدنية. وَمَعْنَاهُ: أَن بَعْضهَا مَكِّيَّة، وَبَعضهَا مَدَنِيَّة. وَالله أعلم.(5/448)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
قَوْله تَعَالَى: {يسبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير} قد ذكرنَا مَعَاني هَذَا من قبل.(5/448)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن} قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة الْوَالِبِي: خَلقكُم كفَّارًا وخلقكم مُؤمنين، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقد أيد هَذَا الْمَعْنى قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يبشرك بِيَحْيَى مُصدقا بِكَلِمَة من الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} فَأخْبر أَن الله تَعَالَى خلقه كَذَلِك. وَفِي الْخَبَر أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ: " إِن الله تَعَالَى خلق يحيى سعيدا فِي بطن أمه، وَخلق فِرْعَوْن كَافِرًا فِي بطن أمه ".
وروى سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن [أبي] الطُّفَيْل قَالَ: سَمِعت ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يَقُول: الشقي من شقي فِي بطن أمه، والسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ. فَقلت: ثكلت أم الشقي من قبل أَن يعْمل، فَلَقِيت حُذَيْفَة بن أسيد وكنيته أَبُو شريحة الْغِفَارِيّ فَذكرت لَهُ ذَلِك فَقَالَ: أَلا أخْبرك بِأَعْجَب من هَذَا! سَمِعت رَسُول الله يَقُول: " إِذا اسْتَقَرَّتْ النُّطْفَة فِي رحم الْمَرْأَة أَرْبَعِينَ لَيْلَة أَو قَالَ: خمْسا(5/448)
{وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (2) خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ وصوركم فَأحْسن} وَأَرْبَعين لَيْلَة دخل عَلَيْهَا الْملك فَيَقُول: أَي رب، شقي أَو سعيد؟ فَيَقُول الله، وَيكْتب الْملك. فَيَقُول أذكر أم أُنْثَى فَيَقُول الله وَيكْتب الْملك فَيَقُول: يَا رب، مَا أَجله؟ مَا عمله؟ مَا رزقه؟ مَا مصيبته؟ فَيَقْضِي الله تَعَالَى، وَيكْتب الْملك، ثمَّ يطوي الصَّحِيفَة، فَلَا يُزَاد وَلَا ينقص إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وروى سُفْيَان أَيْضا عَن طَلْحَة بن يحيى، عَن عمته، عَن عَائِشَة بنت طَلْحَة، عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ أَن النَّبِي أَتَى بصبي من الْأَنْصَار ليُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقلت: طوباه عُصْفُور من عصافير الْجنَّة. فَقَالَ: " أَو غير ذَلِك يَا عَائِشَة؛ إِن الله تَعَالَى خلق الْجنَّة وَخلق لَهَا أَهلا خلقهمْ لَهَا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم، وَخلق النَّار وَخلق لَهَا أَهلا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس، أخبرنَا الديبلي، أخبرنَا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. . الْخَبَر كَمَا ذكرنَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة أَن مَعْنَاهَا: فمنكم كَافِر بِأَن الله خلقه، ومنكم مُؤمن ومنكم فَاسق. وَالْمَعْرُوف هُوَ القَوْل الأول.
وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ظَاهر.(5/449)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
قَوْله تَعَالَى: {خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} أَي: بِالْعَدْلِ. وَيُقَال: بإحكام الصَّنْعَة وَحسن (التَّقْدِير) ، وَيُقَال: للحق.
وَقَوله: {وصوركم فَأحْسن صوركُمْ} قَالَ مقَاتل: خلق آدم بِيَدِهِ، فَهُوَ معنى قَوْله: {وصوركم فَأحْسن صوركُمْ} وَعَن غَيره: أَنه فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم وَعَن بَعضهم قَالَ خلق الْإِنْسَان فِي أحسن(5/449)
{صوركُمْ وَإِلَيْهِ الْمصير (3) يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَيعلم مَا تسرون وَمَا تعلنون وَالله عليم بِذَات الصُّدُور (4) ألم يأتكم نبأ الَّذين كفرُوا من قبل فذاقوا وبال أَمرهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (5) ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَت تأتيهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا اُبْشُرْ يهدوننا فَكَفرُوا وتولوا وَاسْتغْنى الله وَالله غَنِي حميد (6) } صُورَة، وَلَو عرض الله عَلَيْهِ الصُّور مَا اخْتَار غير صورته.
وَقَوله: {وَإِلَيْهِ الْمصير} أَي: الْمرجع.(5/450)
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
قَوْله تَعَالَى: {يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَيعلم مَا تسرون وَمَا تعلنون وَالله عليم بِذَات الصُّدُور} أَي: بِمَا تكنه الصُّدُور.(5/450)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5)
قَوْله تَعَالَى: {ألم يأتكم نبأ الَّذين كفرُوا من قبل} هَذَا خطاب لمشركي قُرَيْش.
وَقَوله: {فذاقوا وبال أَمرهم} أَي: فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله: {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي: فِي الْآخِرَة.(5/450)
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَت تأتيهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات الواضحات.
وَقَوله: {فَقَالُوا أبشر يهدوننا} مثل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا منع النَّاس أَن يُؤمنُوا إِذْ جَاءَهُم الْهدى إِلَّا أَن قَالُوا أبْعث الله بشرا رَسُولا} .
وَقَوله: {فَكَفرُوا وتولوا} أَي: جَحَدُوا وأعرضوا.
وَقَوله: {وَاسْتغْنى الله} يَعْنِي: أَن الله غَنِي عَن طاعتهم وعبادتهم وتوحيدهم.
وَقَوله: {وَالله غَنِي حميد} أَي: مستغني عَن أَفعَال الْعباد، مستحمد إِلَى خلقه بالإنعام عَلَيْهِم. وَيُقَال: حميد أَي: مُسْتَحقّ للحمد. وَيُقَال حميد أَي: يحب أَن يحمد. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من أحد [أغير] من الله وَمَا أحب أحد إِلَيْهِ(5/450)
{زعم الَّذين كفرُوا أَن لن يبعثوا قل بلَى وربي لتبعثن ثمَّ لتنبؤن بِمَا عملتم وَذَلِكَ على الله يسير (7) فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله والنور الَّذِي أنزلنَا وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير (8) يَوْم يجمعكم ليَوْم الْجمع ذَلِك يَوْم التغابن} الْحَمد من الله، وَمَا أحد أحب إِلَيْهِ الْعذر من الله ".(5/451)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
وَقَوله تَعَالَى: {زعم الَّذين كفرُوا} حُكيَ عَن مُجَاهِد أَنه كَانَ يكره لَفْظَة زَعَمُوا، وَكَذَلِكَ حُكيَ عَن ابْن مَسْعُود. وَفِي بعض التفاسير عَن ابْن عمر قَالَ: كنية الْكَذِب. وَنَحْو ذَلِك عَن شُرَيْح. فزعموا هَاهُنَا بِمَعْنى قَالُوا وأخبروا، قَالَ الشَّاعِر:
(أَلا زعمت بسباسة الْيَوْم أنني ... كَبرت وَألا يحسن السِّرّ أمثالي)
وَقَوله: {أَن لن يبعثوا} يَعْنِي: بعد الْمَوْت.
وَقَوله: {قل بلَى وربي لتبعثن} قَوْله: {بلَى} فِي هَذَا الْموضع لتكذيب الْقَوْم فِيمَا زَعَمُوا، وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: وَقد أَمرتك بِكَذَا وَكَذَا، فَيَقُول الرجل: مَا سَمِعت وَمَا أَمرتنِي بِهِ، فَيَقُول: بلَى، أَي: وكذبت، قد سَمِعت وَقد أَمرتك.
وَقَوله: {ثمَّ لتنبؤن بِمَا عملتم وَذَلِكَ على الله يسير} أَي: هَين.(5/451)
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
قَوْله تَعَالَى: {فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله والنور الَّذِي أنزلنَا} أَي: الْقُرْآن الَّذِي أَنزَلْنَاهُ على مُحَمَّد {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} أَي: عليم.(5/451)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يجمعكم ليَوْم الْجمع} أَي: يَوْم الْقِيَامَة، وَسمي يَوْم الْجمع؛ لِأَنَّهُ يجْتَمع فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ، ويجتمع أهل السَّمَوَات وَأهل الأَرْض.
وَقَوله: {ذَلِك يَوْم التغابن} عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ اسْم ليَوْم الْقِيَامَة. وَفِي التغابن مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن أهل الْحق يغبنون أهل الْبَاطِل، وَأهل الْإِيمَان يغبنون أهل الْكفْر.(5/451)
{وَمن يُؤمن بِاللَّه وَيعْمل صَالحا يكفر عَنهُ سيئاته ويدخله جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم (9) وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار خَالِدين فِيهَا وَبئسَ الْمصير (10) مَا أصَاب من مُصِيبَة إِلَّا بِإِذن الله وَمن}
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الله تَعَالَى سمى لكل أحد من خلقه منزلا فِي النَّار ومنزلا فِي الْجنَّة، فَمن كَانَ مُؤمنا يَرث منزلَة الْكَافِر فِي الْجنَّة، وَمن كَانَ كَافِرًا يَرث منزل الْمُؤمن فِي النَّار، وَهُوَ معنى التغابن يَوْم الْقِيَامَة. وَعَن بَعضهم: أَن الْغبن هُوَ أَخذ الشَّيْء بِدُونِ قِيمَته، فبالتفاوت الَّذِي يَقع بَين الْقيمَة وَمَا دونهَا يحصل التغابن، فالمؤمنون لما عمِلُوا للجنة وللنعيم الْبَاقِي فقد غبنوا أهل النَّار، وَالْكفَّار لما اخْتَارُوا النَّعيم الْمُنْقَطع على النَّعيم الْبَاقِي، وَالدَّار الَّتِي تفنى على الدَّار الَّتِي لَا تفنى؛ فقد غبنوا. قَالَ زيد بن عَليّ: غبنوا أنفسهم. والغبن هَاهُنَا يَعْنِي الخسران فِي (غير) هَذَا الْموضع.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمن يُؤمن بِاللَّه وَيعْمل صَالحا يكفر عَنهُ سيئاته ويدخله جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم} ظَاهر الْمَعْنى.(5/452)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار خَالِدين فِيهَا وَبئسَ الْمصير} أَي: الْمرجع والمنقلب.(5/452)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
قَوْله تَعَالَى: {مَا أصَاب من مُصِيبَة إِلَّا بِإِذن الله} أَي: بِعِلْمِهِ وقضائه وَتَقْدِيره.
وَقَوله: {وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه} قَالَ عَلْقَمَة: وَمن يُؤمن بِاللَّه فِي الْمُصِيبَة أَي: يعلم أَنَّهَا من الله يهد قلبه للاسترجاع وَالتَّسْلِيم لأمر الله تَعَالَى. وَمثله عَن سعيد بن جُبَير. وَعَن بَعضهم: يهد قلبه أَي: للصبر إِذا ابْتُلِيَ، وللشكر إِذا انْعمْ عَلَيْهِ، وللعفو إِذا [ظلم] وَقَالَ عِكْرِمَة: يهد قلبه لليقين، فَيعلم أَن مَا أخطأه لم يكن ليصيبه، وَأَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه. وَذكر الْأَزْهَرِي فِي كِتَابه أَن معنى قَوْله: {يهد قلبه} أَي: يَجعله مهتديا، وَقد أيد هَذَا القَوْل مَا حُكيَ عَن ابْن جريج أَنه قَالَ: من عرف الله فَهُوَ مهتدي الْقلب.(5/452)
{يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه وَالله بِكُل شَيْء عليم (11) وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول فَإِن توليتم فَإِنَّمَا على رَسُولنَا الْبَلَاغ الْمُبين (12) الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن من أزواجكم وَأَوْلَادكُمْ عدوا لكم فاحذروهم وَإِن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فَإِن الله غَفُور رَحِيم (14) إِنَّمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة}
وَقَوله: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} .(5/453)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول فَإِن توليتم فَإِنَّمَا على رَسُولنَا الْبَلَاغ الْمُبين} أَي: الْبَين.(5/453)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
قَوْله تَعَالَى: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ} قد بَينا.(5/453)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن من أزواجكم وَأَوْلَادكُمْ عدوا لكم فاحذروهم} أَي: أَعدَاء لكم فاحذروهم. قَالَ ابْن عَبَّاس: نزلت الْآيَة فِي قوم أَسْلمُوا بِمَكَّة، وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَن يهاجروا إِلَى الْمَدِينَة فيمنعهم أَوْلَادهم وَأَهْلُوهُمْ وَيَقُولُونَ: فارقتمونا بدينكم فَلَا تفارقونا بِأَنْفُسِكُمْ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: نزلت الْآيَة فِي عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ، وَكَانَ قد لَقِي جفَاء من أَهله وَولده.
وَقَوله: {وَإِن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} قَالَ ابْن عَبَّاس: لما تخلف هَؤُلَاءِ بِسَبَب أَهْليهمْ ثمَّ هَاجرُوا من بعد فَرَأَوْا قوما قد أَسْلمُوا من قَومهمْ، وتقدموا فِي الْهِجْرَة وتفقهوا فِي الدّين، حزنوا لذَلِك حزنا شَدِيدا، وهموا أَن يعاقبوا أَهْليهمْ وبنيهم ويتركوا الْإِنْفَاق عَلَيْهِم، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {وَإِن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} .(5/453)
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة} أَي: بلَاء ومحنة، وَمعنى الْبلَاء والمحنة من الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد أَنه يشْتَغل بهم عَن طَاعَة الله تَعَالَى، ويحمله طلب المَال ورضا الْأَوْلَاد على مَعْصِيّة الله تَعَالَى. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْوَلَد مَبْخَلَة مَجْبَنَة مَحْزَنَة مجهلَة ". وَمَعْنَاهُ: أَنه يحمل على الْبُخْل والجبن والحزن(5/453)
{وَا لله عِنْده أجر عَظِيم (15) فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم واسمعوا وَأَطيعُوا وأنفقوا خيرا} وَالْجهل. وَعَن عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: من اتخذ أَهلا ومالا وَولدا كَانَ للدنيا عبدا.
وروى عبد الله بن بُرَيْدَة [عَن أَبِيه] " أَن النَّبِي كَانَ يخْطب فَدخل الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثرَانِ فِي ذَلِك، فَنزل النَّبِي عَن الْمِنْبَر وحملهما وَوَضعهمَا بَين يَدَيْهِ، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة} ثمَّ قَالَ: رَأَيْت هذَيْن الصَّبِيَّيْنِ يَعْثرَانِ فِي قميصهما، فَمَا ملكت نَفسِي حَتَّى نزلت وحملتهما ".
وأنشدوا فِي لفظ الْفِتْنَة لبَعْضهِم:
(قد فتن النَّاس فِي دينهم ... وخلى ابْن عُثْمَان شرا طَويلا)
يَعْنِي: قد ابْتُلِيَ النَّاس.
وَقَوله: {وَالله عِنْده أجر عَظِيم} أَي: كثير.(5/454)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} قَالَ ربيع بن أنس: بجهدكم وطاقتكم. وروى معمر، عَن قَتَادَة أَن هَذِه الْآيَة نسخت قَوْله تَعَالَى: {اتَّقوا الله حق تُقَاته} وَمثل هَذَا عَن جمَاعَة من التَّابِعين. وَقَالَ جمَاعَة من أهل الْعلم: الأولى أَن يُقَال: هَذِه الْآيَة رخصَة وَلَيْسَت بناسخة. وَذكر الْقفال أَن هَذِه الْآيَة مبينَة لقَوْله تَعَالَى: {اتَّقوا الله حق تُقَاته} لِأَن الله تَعَالَى لَا يُكَلف نفسا إِلَّا وسعهَا. وَذكر مثل ذَلِك على ابْن عِيسَى وَغَيره.(5/454)
{لأنفسكم وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون (16) إِن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم وَيغْفر لكم وَالله شكور حَلِيم (17) } وَالْمُخْتَار مَا عَلَيْهِ السّلف، وَهُوَ القَوْل الأول. وَقد ذكرنَا عَن ابْن مَسْعُود فِي قَوْله تَعَالَى: {اتَّقوا الله حق تُقَاته} هُوَ أَن يطاع فَلَا يعْصى، وَيذكر وَلَا ينسى، ويشكر فَلَا يكفر.
وَقَوله: {واسمعوا وَأَطيعُوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم} نصب قَوْله: {خيرا} على تَقْدِير: اتَّقوا فِي الْإِنْفَاق خيرا. وَمثله قَوْله تَعَالَى: {انْتَهوا خيرا لكم} .
وَقَوله: {وَمن يُوقَ شح نَفسه} أَي: بخل نَفسه، وَيُقَال: الشُّح هُوَ منع حُقُوق الله الْوَاجِبَة. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: الشُّح هَاهُنَا هُوَ الظُّلم دون الْبُخْل؛ لِأَن الله تَعَالَى قد قَالَ: {وَمن يبخل فَإِنَّمَا يبخل عَن نَفسه} .
وَقَوله: {فَأُولَئِك هم المفلحون} قد بَينا.(5/455)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
قَوْله تَعَالَى: {إِن تقرضوا الله قرضا حسنا} قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: هُوَ الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله. وَيُقَال: هُوَ جَمِيع حُقُوق المَال، وَسمي ذَلِك قرضا؛ لِأَن الله تَعَالَى يثيبهم عَلَيْهِ ويعطيهم عوضه، فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْقَرْض.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْإِقْرَاض هَاهُنَا هُوَ قَول الْقَائِل: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر. وَذكر الْقفال: أَن بعض السّلف كَانَ إِذا سمع سَائِلًا يَقُول: من يقْرض الله قرضا حسنا يَقُول: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر. وَأما قَوْله: {حسنا} أَي: طيبَة بهَا أَنفسكُم. وَيُقَال: من خِيَار المَال لَا من رذاله.
وَقَوله: {يضاعفه لكم} أَي: يَجْعَل الْوَاحِد عشرا. وَيُقَال: يُضَاعف لَا إِلَى عدد مَعْلُوم.
وَقَوله: {وَيغْفر لكم وَالله شكور حَلِيم} الشُّكْر من الله هُوَ جَزَاؤُهُ الْمُحْسِنِينَ جَزَاء(5/455)
{عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْعَزِيز الْحَكِيم (18) } من يشكرهم على إحسانهم. وَيُقَال: الشُّكْر من الله هُوَ الْعَفو عَن السَّيِّئَات وَقبُول الْحَسَنَات. وَيُقَال: هُوَ الْعَفو عَن الْكثير وَقبُول الْقَلِيل.
وَقَوله: {حَلِيم} مَعْنَاهُ: إمهال الْعباد وَترك معالجتهم بالعقوبة.(5/456)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قَوْله تَعَالَى: {عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْعَزِيز الْحَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى.(5/456)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لعدتهن}
تَفْسِير سُورَة الطَّلَاق
وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْجَمِيع(5/457)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} فَإِن قيل: كَيفَ خَاطب النَّبِي وَحده فِي الِابْتِدَاء ثمَّ قَالَ: {إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} ؟ وَالْجَوَاب من أوجه: أَحدهَا: أَن خطاب النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خطاب لأمته، مثل خطاب الرئيس يكون خطابا للأتباع وَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيهَا النَّبِي والمؤمنون إِذا طلّقْتُم النِّسَاء.
وَالْجَوَاب الثَّانِي أَن قَوْله: {إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} على تَحْويل الْخطاب إِلَى الْغَيْر مثل قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم برِيح طيبَة وفرحوا بهَا. .} .
وَالْجَوَاب الثَّالِث: أَن فِيهِ تَقْدِير مَحْذُوف، وَتَقْدِيره: يَا أَيهَا النَّبِي قل للْمُؤْمِنين إِذا طلّقْتُم النِّسَاء. وروى قَتَادَة عَن أنس أَن النَّبِي طلق حَفْصَة، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: يَقُول لَك رَبك: رَاجعهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَة قَوَّامَة، وَهِي من أَزوَاجك فِي الْجنَّة.
وَقَوله: {فطلقوهن لعدتهن} مَعْنَاهُ: لزمان عدتهن وَهُوَ الطُّهْر، وَفِيه دَلِيل على أَن الْأَقْرَاء الَّتِي تنقض بهَا الْعدة هِيَ الْأَطْهَار، وَهَذَا قَول أهل الْحجاز. وَأما من قَالَ: إِن الْأَقْرَاء هِيَ الْحيض، قَالَ معنى قَوْله: {لعدتهن} أَي: ليعتددن مثل قَوْله تَعَالَى: {فالتقطه آل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا} أَي: ليحزنوا، ذكره النّحاس، وَقَرَأَ فِي الشاذ: " فطلقوهن لقبل عدتهن " وَقيل: إِنَّهَا قِرَاءَة النَّبِي، فَمن قَالَ: إِن الْأَقْرَاء هِيَ الْحيض اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْقِرَاءَة، لِأَن هَذِه اللَّفْظَة تَقْتَضِي أَن يكون زمَان الطَّلَاق قبل(5/457)
{وأحصوا الْعدة وَاتَّقوا الله ربكُم} زمَان الْعدة، وَأَن زمَان الْعدة يتعقب زمَان الطَّلَاق.
وَأما من قَالَ: بِأَن الْأَقْرَاء هن الْأَطْهَار، قَالَ فَمَعْنَى قَوْله: " لقبل عدتهن " أَي: لوجه عدتهن؛ فَإِن قيل: إِن قبل الشَّيْء وَجهه، وَالْمرَاد فِي أول زمَان الطُّهْر، فَإِن قيل: أول زمَان الطُّهْر وَآخره وَاحِد فِي الطَّلَاق؛ فَلَيْسَ الْمَعْنى إِلَّا مَا ذكرنَا.
قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِك، بل الأولى أَن يُطلق فِي أول زمَان الطُّهْر إِذا أَرَادَ الطَّلَاق؛ لِأَنَّهُ إِذا أخر لم يَأْمَن أَن يُجَامِعهَا ثمَّ يُطلق، فَيكون قد طلق طَلَاق الْبِدْعَة.
وَقد رُوِيَ عَن عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَغَيره من التَّابِعين معنى قَوْله: {لعدتهن} أَي: طَاهِرا من غير جماع. وَقد ثَبت هَذَا اللَّفْظ عَن النَّبِي بِرِوَايَة نَافِع عَن ابْن عمر أَنه طلق امْرَأَته فِي حَال الْحيض، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: " رَاجعهَا ثمَّ أمْسكهَا حَتَّى تطهر ثمَّ تحيض ثمَّ تطهر ثمَّ إِن شِئْت طَلقهَا طَاهِرا من غير جماع ". وَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله تَعَالَى أَن يُطلق لَهَا النِّسَاء. وَفِي رِوَايَة: أَنه قَالَ لعمر: " مره فَلْيُرَاجِعهَا ". وَفِي رِوَايَة " ثمَّ إِذا طهرت إِن شَاءَ طَلقهَا طَاهِرا من غير جماع " وَلم يذكر ثمَّ تحيض ثمَّ تطهر. وَعَن أنس [و] ابْن سِيرِين أَنه قَالَ لِابْنِ عمر: " احتسبت بِتِلْكَ الطَّلقَة؟ قَالَ: نعم.
(وَفِي رِوَايَة: خَمْسَة) . وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة: قَالَ: نعم وَإِن عجزت واستحمقت.
وَقَوله: {وأحصوا الْعدة} هَذَا خطاب للأزواج، أَمرهم أَن يحصوا الْعدة ليعرفوا زمَان الرّجْعَة وَمُدَّة انقطاعها. وَيُقَال: ليعرفوا مُدَّة الْإِنْفَاق عَلَيْهِنَّ.
وَقَوله: {وَاتَّقوا الله ربكُم} يَعْنِي: طلقوا للسّنة، وَلَا تطلقوا للبدعة. وَيُقَال: اتَّقوا ربكُم فِي ترك إخراجهن من الْبيُوت، وَأما صفة طَلَاق السّنة فَهُوَ من حَيْثُ الْوَقْت أَن(5/458)
{لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة} يطلقهَا طَاهِرا من غير جماع، وَأما من حَيْثُ الْعدة، فمذهب مَالك وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَكثير من الْعلمَاء أَنه يكره الطَّلَاق ثَلَاثًا جملَة، وَالسّنة أَن يطلقهَا وَاحِدَة وَيَتْرُكهَا حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا، هَذِه هُوَ الأولى، قَالَه مَالك. وَإِن أَرَادَ أَن يُطلق ثَلَاثًا فرق على الْأَطْهَار، فيطلق لكل طهر طَلْقَة، وَأما مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنه لَيْسَ فِي الْجمع والتفريق سنة وَلَا بِدعَة. وَقد ذكر الْأَصْحَاب الأولى أَن يُطلق وَاحِدَة وَإِن لم يكره الْجمع بَين الثَّلَاث، قَالُوا: وَهُوَ الْمَذْهَب. وَفِي الْآيَة دَلِيل (الشَّافِعِي) على قَوْله؛ لِأَن الله تَعَالَى أَبَاحَ الطَّلَاق بقوله: {فطلقوهن لعدتهن} مُطلقًا وَلم يفرق بَين أَن يُطلق وَاحِدَة أَو أَكثر مِنْهَا، وَلِأَن الله تَعَالَى بَين وَقت الطَّلَاق وَلم يبين عدده، وَالْآيَة وَردت لبَيَان الْمسنون من الطَّلَاق، فَلَو كَانَ فِي عدد الطَّلَاق سنة لم يُؤَخر بَيَانهَا.
وَقَوله: {لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ} أَي: فِي زمَان الْعدة، وَنسب الْبيُوت إلَيْهِنَّ لأجل السُّكْنَى.
وَقَوله: {وَلَا يخْرجن} أَي: لَا يخْرجن بِأَنْفُسِهِنَّ.
وَقَوله: {إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة} اخْتلف القَوْل فِي معنى الْفَاحِشَة هَاهُنَا، فأظهر الْأَقَاوِيل: أَنَّهَا الزِّنَا، وَهَذَا قَول ابْن مَسْعُود وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ قَول الْحسن وَالشعْبِيّ وَعِكْرِمَة و (حَمَّاد بن أبي سَلمَة) وَاللَّيْث وَجَمَاعَة كَثِيرَة، وَالْمرَاد من الْآيَة على هَذَا إِلَّا أَن تَزني فَتخرج لإِقَامَة الْحَد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْفَاحِشَة هِيَ أَن تبذو على أَهلهَا، قَالَه ابْن عَبَّاس فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَيُقَال فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " إِلَّا أَن يفحشن " وَهَذِه الْقِرَاءَة تقَوِّي هَذَا القَوْل. وَرُوِيَ عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت لفاطمة بنت قيس: اتقِي الله فَإنَّك تعلمين أَن(5/459)
{وَتلك حُدُود الله وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا (1) فَإِذا بلغن أَجلهنَّ فأمسكوهن بِمَعْرُوف أَو فارقوهن} الرَّسُول أخرجك، يَعْنِي: من بَيت زَوجهَا، وَكَانَت تبذو بلسانها.
وَالْقَوْل الثَّالِث مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: الْفَاحِشَة نفس الْخُرُوج. وَهُوَ محكي عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. فعلى هَذَا تَقْدِير الْآيَة إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة بخروجهن.
وَقَالَ بَعضهم: الْفَاحِشَة هَاهُنَا جَمِيع الْمعاصِي. وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ الأول لِكَثْرَة من قَالَ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُوَافق لقَوْله: {واللاتي يَأْتِين الْفَاحِشَة} وَأَجْمعُوا على أَن المُرَاد بِهِ الزِّنَا.
وَقَوله: {وَتلك حُدُود الله} قَالَ السدى: هِيَ شُرُوط الله. وَيُقَال: شرع الله، وَقيل: أمره وَنَهْيه.
وَقَوله: {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه} أَي: أهلك نَفسه وأوبقها.
وَقَوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا} القَوْل الْمَعْرُوف فِي هَذَا أَنه الرَّغْبَة فِي الْمُرَاجَعَة، وَفِيه دَلِيل على أَن المُرَاد بقوله: {فطلقوهن} فِي ابْتِدَاء الْآيَة هُوَ الطَّلقَة والطلقتان دون الثَّلَاثَة، وَيُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ الْوَاحِدَة وَالثَّلَاث جَمِيعًا. قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا} قَالَ: هُوَ النّسخ؛ وَمَعْنَاهُ: لَعَلَّ الله ينْسَخ هَذَا الحكم وَيَرْفَعهُ. وَقيل: هُوَ الرَّغْبَة فِي ابْتِدَاء النِّكَاح بعد زوج آخر.(5/460)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
وَقَوله: {فَإِذا بلغن أَجلهنَّ} أَي: قاربن بُلُوغ أَجلهنَّ، وَهُوَ انْقِضَاء الْعدة.
وَقَوله: {فأمسكوهن بِمَعْرُوف} أَي: راجعوهن بِمَعْرُوف، وَمَعْنَاهُ: على أَمر الله تَعَالَى. وَيُقَال: الْمَعْرُوف هَاهُنَا: هُوَ أَن يُرَاجِعهَا ليمسكها لَا أَن يُرَاجِعهَا فيطلقها، فَيطول الْعدة عَلَيْهَا على مَا كَانَ يَفْعَله أهل الْجَاهِلِيَّة.
وَقَوله: {أَو فارقوهن بِمَعْرُوف} مَعْنَاهُ: أَن يَتْرُكهَا لتنقضي الْعدة فَتَقَع الْفرْقَة. وَالْمَعْرُوف: هُوَ مَا أَمر الله تَعَالَى بِهِ من إِيصَال حَقّهَا إِلَيْهَا من السُّكْنَى وَالنَّفقَة فِي(5/460)
{بِمَعْرُوف وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم وَأقِيمُوا الشَّهَادَة لله ذَلِكُم يوعظ بِهِ من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا (2) وَيَرْزقهُ من} مَوضِع الْوُجُوب، وَيُقَال: بِمَعْرُوف أَي: من غير قصد مضارة.
قَوْله: {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْإِشْهَاد وَاجِب فِي الطَّلَاق وَالرَّجْعَة بِظَاهِر الْآيَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْإِشْهَاد يجب فِي الرّجْعَة وَلَا يجب فِي الْمُفَارقَة وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ قَول طَاوس من التَّابِعين.
وَالْقَوْل (الثَّانِي) : أَنه ينْدب إِلَى الْإِشْهَاد فِي الرّجْعَة، وَلَا يجب، وَعَلِيهِ أَكثر أهل الْعلم، وَهُوَ قَول آخر الشَّافِعِي رَحمَه الله عَلَيْهِ.
وَأما الْعدْل هُوَ مُسْتَقِيم الْحَال فِي معاملات الشَّرْع وأوامره. وَقَالَ مَنْصُور: سَأَلت إِبْرَاهِيم عَن الْعدْل فَقَالَ: هُوَ الَّذِي لم يظْهر فِيهِ رِيبَة.
وَقَوله: {وَأقِيمُوا الشَّهَادَة لله} هُوَ خطاب للشهداء بأَدَاء الشَّهَادَات على وجوهها.
وَقَوله: {ذَلِكُم يوعظ بِهِ من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر}
وَقَوله: {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا} قَالَ ابْن عَبَّاس: من كل أَمر ضَاقَ على النَّاس. وَعنهُ قَالَ: إِذا اتَّقى الله فِي الطَّلَاق على وَجه السّنة بِأَن طلق وَاحِدَة، جعل لَهُ مخرجا مِنْهُ فِي جَوَاز الرّجْعَة وَرُوِيَ أَن رجلا أَتَاهُ وَقَالَ: إِن عمي طلق امْرَأَته ثَلَاثًا فَهَل لَهُ مخرج؟ فَقَالَ: إِن عمك عصى الله فأثم، وأطاع الشَّيْطَان فَلم يَجْعَل لَهُ مخرجا. وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ فِي قَوْله: " {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا} قَالَ: " من غموم الدُّنْيَا وغمرات الْمَوْت وشدائد الْآخِرَة ".(5/461)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
وَقَوله: {وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} أَي: من حَيْثُ لَا يَرْجُو وَلَا يأمل، وَقيل:(5/461)
{حَيْثُ لَا يحْتَسب وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه إِن الله بَالغ أمره قد جعل الله لكل شَيْء قدرا (3) واللائي يئسن من الْمَحِيض من نِسَائِكُم} يقنعه بِمَا رزقه. وَفِي التَّفْسِير: " أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ أسر ابْنه، فجَاء إِلَى النَّبِي يشكو إِلَيْهِ فَقَالَ: " اصبر وَاتَّقِ الله " فَرجع، ثمَّ إِن الْعَدو غفلوا عَن ابْنه، مرّة، فهرب مِنْهُم وسَاق مَعَ نَفسه إبِلا وَرجع إِلَى أَبِيه وَجَاء بِالْإِبِلِ، فَأتى النَّبِي وَأخْبرهُ بذلك، وَسَأَلَهُ عَمَّا سَاقه إِلَيْهِ ابْنه هَل يحل لَهُ ذَلِك؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة " فَالْمَعْنى بقوله: {وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} هُوَ مَا جَاءَ بِهِ ابْن عَوْف ابْن مَالك إِلَى أَبِيه من الْإِبِل.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} أَي: يَثِق بِاللَّه ويفوض أمره إِلَيْهِ: وَيُقَال: التَّوَكُّل على الله هُوَ الرِّضَا بِقَضَائِهِ. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من انْقَطع إِلَى الله كَفاهُ الله كل مُؤنَة، وَمن انْقَطع إِلَى الْخلق وَكله إِلَيْهِم ".
وَقَوله: {إِن الله بَالغ أمره} أَي: كل مَا يُريدهُ فِي خلقه.
وَقَوله: {قد جعل الله لكل شَيْء قدرا} أَي: مِقْدَارًا وأجلا يَنْتَهِي إِلَيْهِ.(5/462)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
قَوْله تَعَالَى: {واللائي يئسن من الْمَحِيض من نِسَائِكُم} الْآيَة مشكلة لقَوْله: {إِن ارتبتم} وَاخْتلفت الْأَقْوَال فِي قَوْله: {إِن ارتبتم} أظهر الْأَقَاوِيل: أَن الله تَعَالَى لما بَين عدَّة ذَوَات الْأَقْرَاء قَالَ جمَاعَة من أَصْحَاب رَسُول الله قد عرفنَا عدَّة ذَوَات(5/462)
{إِن ارتبتم فعدتهن ثَلَاثَة أشهر واللائي لم يحضن وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} الْأَقْرَاء، فَكيف عدَّة الآيسات والصغائر وَذَوَات الْأَحْمَال؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {إِن ارتبتم} خطاب لأولئك الْجَمَاعَة أَي: شَكَكْتُمْ فِي عدتهن فَلم تعرفوها. وَفِي بعض التفاسير: أم معَاذ بن جبل سَأَلَ رَسُول الله عَن ذَلِك. وَعَن بَعضهم: أَن أبي بن كَعْب سَأَلَ رَسُول الله عَن ذَلِك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله تَعَالَى: {إِن ارتبتم} أَي: لم تعرفوا أَنَّهَا تحيض، أَو لَا تحيض وَذَلِكَ فِي الْمَرْأَة الشَّابَّة إِذا ارْتَفع حَيْضهَا لعِلَّة. قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: تنْتَظر سَبْعَة أشهر، فَإِن لم تَرَ الْحيض اعْتدت بِثَلَاثَة أشهر، وَهَذَا قَول مَالك، وَحكي عَن مُجَاهِد نَحْو مَا ذكرنَا.
وَالْقَوْل الثَّالِث أَن قَوْله: {إِن ارتبتم} رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن} وَالْمعْنَى إِن ارتبتم فِي انْقِضَاء عدتهَا فَلَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن، ذكره النّحاس. وَأما الآيسة فَهِيَ الَّتِي لَا ترى أَمْثَالهَا الْحيض فعدتها ثَلَاثَة أشهر. وعَلى مَذْهَب أَكثر الْعلمَاء أَن الشَّابَّة وَإِن ارْتَفع حَيْضهَا لعِلَّة لَا تَنْقَضِي عدتهَا بالشهور مَا لم تيئس، قَالُوا: وَلَو شَاءَ الله لابتلاها بِأَكْثَرَ من ذَلِك.
وَقَوله: {واللائي لم يحضن} هن الصَّغَائِر.
وَقَوله: {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} هَذَا الحكم مُتَّفق عَلَيْهِ فِي المطلقات الْحَوَامِل، فَأَما الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا اخْتلف الصَّحَابَة فِي ذَلِك، فَقَالَ عَليّ وَابْن عَبَّاس: إِن عدتهَا أبعد الْأَجَليْنِ. وَقَالَ عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَأَبُو هُرَيْرَة: إِن عدتهَا بِوَضْع الْحمل، وَهَذَا هُوَ القَوْل الْمُخْتَار. وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: نزلت سُورَة(5/463)
{وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ من أمره يسرا (4) ذَلِك أَمر الله أنزلهُ إِلَيْكُم وَمن يتق الله يكفر عَنهُ سيئاته ويعظم لَهُ أجرا (5) أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من} النِّسَاء القصوى بعد قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا} فقد نقل ابْن مَسْعُود نسخ تِلْكَ الْآيَة بِهَذِهِ الْآيَة. وَفِي رِوَايَة عَنهُ أَنه قَالَ: هَذِه الْآيَة ناسخة لتِلْك الْآيَة. وَرُوِيَ أَن أَبَا هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس اخْتلفَا فِي هَذِه (الْمَسْأَلَة) ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: تَعْتَد بأبعد الْأَجَليْنِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: تَعْتَد بِوَضْع الْحمل؛ فَبعث ابْن عَبَّاس كريبا مَوْلَاهُ إِلَى أم سَلمَة يسْأَلهَا عَن ذَلِك، فروت أَن سبيعة الأسْلَمِيَّة توفّي عَنْهَا زَوجهَا وَهِي حَامِل فَوضعت لنصف شهر؛ فَسَأَلت رَسُول الله عَن ذَلِك فَقَالَ: " حللت للأزواج ". وَهَذَا خبر صَحِيح.
وَقَوله: {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ من أمره يسرا} أَي: يتق الله فِي أَمر الطَّلَاق فيطلب للسّنة.
وَقَوله: {يَجْعَل لَهُ من أمره يسرا} أَي: الرّجْعَة (وَقَالَ بَعضهم) : " وَمن يتق الله " أَي: يحذر من الْمعاصِي وَيعْمل بالطاعات " يَجْعَل لَهُ من أمره يسرا " أَي: يوفقه ويسدده وييسر عَلَيْهِ الْأُمُور.(5/464)
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك أَمر الله أنزلهُ إِلَيْكُم} أَي: مَا تقدم من الْأَمر وَالنَّهْي فِي الطَّلَاق وَأَحْكَامه.
وَقَوله: {وَمن يتق الله يكفر عَنهُ سيئاته ويعظم لَهُ أجرا} أَي: فِي الْقِيَامَة.(5/464)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
قَوْله تَعَالَى: {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من وجدكم} اخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب السُّكْنَى للمبتوتة مَعَ اتِّفَاقهم أَنَّهَا وَاجِبَة للرجعية؛ فمذهب الشَّافِعِي: أَن السُّكْنَى وَاجِبَة لَهَا دون النَّفَقَة إِلَّا الْحَامِل تجب لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى، وَهُوَ قَول مَالك.(5/464)
{وجدكم وَلَا تضاروهن لتضيقوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن حَملهنَّ فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} وَمذهب أَحْمد وَجَمَاعَة: أَن السُّكْنَى وَالنَّفقَة غير واجبين للمبتوتة لحَدِيث فَاطِمَة بنت قيس.
وَمذهب أبي حنيفَة رَحمَه الله: أَنَّهُمَا واجبتان.
وَقَوله: {من وجدكم} أَي: من سعتكم. وَقَالَ الْفراء: مِمَّا تَجِدُونَ. وَقَرَأَ الْأَعْرَج: " من وجدكم " وَهُوَ لحن لِأَن الوجد من الوجد من الْجدّة، وَالْجد من الْحزن والحث والعطف، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.
وَقَالَ: {وَلَا تضاروهن لتضيقوا عَلَيْهِنَّ} قَالَ مَنْصُور عَن [أبي] الضُّحَى: المضارة هُوَ أَن يرجعها حِين تشرف على انْقِضَاء الْعدة من غير رَغْبَة لطول عَلَيْهَا الْعدة. وَيُقَال: [إِن] المُرَاد من المضارة هَاهُنَا هُوَ المضارة فِي الْمنزل وَالسُّكْنَى، قَالَه مُجَاهِد.
وَقَوله: {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن حَملهنَّ}
من لم يُوجب النَّفَقَة للمبتوتة الْحَامِل اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة وَقَالَ: إِن الله تَعَالَى: شَرط فِي وجوب النَّفَقَة للمبتوتات أَن يكن حوامل. وَمن أوجب النَّفَقَة لَهُنَّ قَالَ: قَوْله: {وَلَا تضاروهن لتضيقوا عَلَيْهِنَّ} أَي: فِي ترك الْإِنْفَاق على الْعُمُوم فِي المبتوتات.
وَقَوله: {وَإِن كن أولات حمل} تَخْصِيص بعض مَا تنَاوله اللَّفْظ الأول بِالذكر مثل قَوْله تَعَالَى: {وَجِبْرِيل وميكال} بعد ذكر الْمَلَائِكَة. قَالَ بَعضهم: الْآيَة لبَيَان مُدَّة النَّفَقَة يَعْنِي: أَن النَّفَقَة تجب للحامل وَإِن طَالَتْ مُدَّة حملهَا إِلَى أَن تضع الْحمل.
وَقَوله: {فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} أَي: الْأُم إِذا أرضعت بعد الطَّلَاق(5/465)
{وأتمروا بَيْنكُم بِمَعْرُوف وَإِن تعاسرتم فسترضع لَهُ أُخْرَى (6) لينفق ذُو سَعَة من سعته وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه فلينفق مِمَّا آتَاهُ الله لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا مَا} يؤتيها الْأَب أجرهَا.
وَقَوله: {وأتمروا بَيْنكُم بِمَعْرُوف} أَي: لينفق الْوَالِد والوالدة على مَا هُوَ الأنفع للصَّبِيّ، فَلَا تمْتَنع الوالدة من الْإِرْضَاع، وَلَا يمْتَنع الْأَب من إِعْطَاء الْأجر. قَالَ السدى: " وأنتمروا بَيْنكُم بِمَعْرُوف " أَي: تشاوروا بَيْنكُم بِالْمَعْرُوفِ. وَهُوَ قَول ضَعِيف. وَقَالَ الْمبرد: ليأمر بَعْضكُم بَعْضًا بِالْمَعْرُوفِ.
وَقَوله: {وَإِن تعاسرتم} أَي: تضايقتم وتنازعتم فِي الْأجر.
وَقَوله: {فسترضع لَهُ أُخْرَى} أَي: إِذا لم ترض الْأُم بِأَجْر الْمثل وَطلبت أَكثر مِنْهُ يسلم الْوَلَد إِلَى غَيرهَا لترضع بِأَجْر الْمثل.
وَقَوله: {فسترضع لَهُ أُخْرَى} خبر بِمَعْنى الْأَمر أَي: لترضع، مثل قَوْله تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ} .(5/466)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
وَقَوله: {لينفق ذُو سَعَة من سعته} أَي: بِمِقْدَار سعته، وَهُوَ حث على التَّوَسُّع فِي النَّفَقَة لمن وسع الله عَلَيْهِ.
وَقَوله: {وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه} أَي: ضيق عَلَيْهِ رزقه، وَلم يكن لَهُ إِلَّا الْقُوت وَمَا يُشبههُ وَهُوَ قَوْله: {فلينفق مِمَّا آتَاهُ الله} أَي: على قدر ذَلِك. وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه سمع أَن أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح يلبس الثَّوْب الخشن، وَيَأْكُل الطَّعَام (الجشب) ، فَبعث إِلَيْهِ بِأَلف دِينَار من بَيت المَال، وَأمر الرَّسُول أَن يتعرف حَاله بعد ذَلِك، فتوسع وَأكل الطّيب من الطَّعَام، وَلبس اللين من الثِّيَاب، فَرجع الرَّسُول فَأخْبر عمر بذلك فَقَالَ: إِنَّه تَأَول قَوْله تَعَالَى: {لينفق ذُو سَعَة من سعته وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه فلينفق مِمَّا آتَاهُ الله} ذكره الْقفال فِي تَفْسِيره.
وَقَوله: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا مَا آتاها}(5/466)
{آتاها سَيجْعَلُ الله بعد عسر يسرا (7) وكأين من قَرْيَة عَتَتْ عَن أَمر رَبهَا وَرُسُله فحاسبناها حسابا شَدِيدا وعذبناها عذَابا نكرا (8) فذاقت وبال أمرهَا وَكَانَ عَاقِبَة أمرهَا خسرا (9) أعد الله لَهُم عذَابا شَدِيدا فَاتَّقُوا الله يَا أولي الْأَلْبَاب الَّذين آمنُوا قد أنزل الله إِلَيْكُم ذكرا (10) رَسُولا يَتْلُوا عَلَيْكُم}
وَقَوله: {سَيجْعَلُ الله بعد عسر يسرا} أَي: بعد ضيق سَعَة، وَبعد فقر غنى. قَالَ أهل التَّفْسِير: أَرَادَ بِهِ أَصْحَاب رَسُول الله كَانُوا فِي ضيق، ثمَّ وسع الله عَلَيْهِم.(5/467)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)
قَوْله تَعَالَى: {وكأين من قَرْيَة عَتَتْ عَن أَمر رَبهَا وَرُسُله} أَي: عتى أَهلهَا عَن أَمر رَبهَا، والعتو هُوَ الْمُبَالغَة فِي الْعِصْيَان. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى لم ينزل قَطْرَة من السَّمَاء إِلَّا بِوَزْن مَعْلُوم إِلَّا فِي زمَان نوح، وَلَا يُرْسل ريحًا إِلَّا بكيل مَعْلُوم إِلَّا فِي زمَان عَاد، فَإِنَّهَا عَتَتْ على خزانها.
وَقَوله: {فحاسبناها حسابا شَدِيدا} الْحساب الشَّديد هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ عَفْو وَلَا تجَاوز.
وَقَوله: {وعذبناها عذَابا نكرا} أَي: يُنكر، وَالْمُنكر: الفظيع.(5/467)
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)
قَوْله تَعَالَى: {فذاقت وبال أمرهَا} أَي: عَاقِبَة أمرهَا من الْمَكْرُوه، وَيُقَال: طَعَام وبيل أَي: مَكْرُوه، وَهُوَ ضد الهنيء من الطَّعَام. وَيَقُول: الوبيل من الطَّعَام: هُوَ الَّذِي تُؤدِّي عاقبته إِلَى الْهَلَاك.
وَقَوله: {وَكَانَ عَاقِبَة أمرهَا خسرا} أَي: هَلَاكًا، وَقيل: نُقْصَانا.(5/467)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)
وَقَوله تَعَالَى {أعد الله لَهُم عذَابا شَدِيدا} وَهُوَ النَّار.
وَقَوله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا الله يَا أولي الْأَلْبَاب} أَي: أولي الْعُقُول الَّذين آمنُوا، وَهَذَا يدل على أَن الْعقل إِنَّمَا ينفع مَعَ الْإِيمَان، وَأما بِدُونِ الْإِيمَان لَا ينفع.(5/467)
{آيَات الله مبينات ليخرج الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَمن يُؤمن بِاللَّه وَيعْمل صَالحا يدْخلهُ جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا قد أحسن الله لَهُ رزقا (11) الله الَّذِي خلق سبع سموات وَمن}
وَقَوله: {قد أنزل الله إِلَيْكُم ذكرا رَسُولا} فِيهِ وُجُوه: أَحدهَا: أنزل إِلَيْكُم ذكرا أَي: دَلِيلا، وَأنزل رَسُولا. وَيُقَال: الذّكر: الْقُرْآن،(5/468)
رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
وَقَوله: {رَسُولا} مَنْصُوب على الْبَدَل. وَقيل: " رَسُولا " أَي: رِسَالَة. فَمَعْنَاه: أنزل قُرْآنًا رِسَالَة.
وَقَوله: {يَتْلُو} يُقَال: هُوَ مُحَمَّد، (وَيُقَال) : هُوَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: {عَلَيْكُم آيَات مبينات} أَي: واضحات.
وَقَوله: {ليخرج الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} أَي: من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان، وَمن الْبَاطِل إِلَى الْحق، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَقَوله: {وَمن يُؤمن بِاللَّه وَيعْمل صَالحا يدْخلهُ جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا قد أحسن الله لَهُ رزقا} أَي: الْجنَّة.(5/468)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي خلق سبع سموات وَمن الأَرْض مِثْلهنَّ} لَيْسَ فِي الْقُرْآن آيَة تدل على عدد الْأَرْضين بِسبع مثل عدد السَّمَوَات سوى هَذِه الْآيَة، وَقد ثَبت أَيْضا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من غصب شبْرًا من أَرض طوقه الله من سبعين أَرضين ".
وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: سبع سموات بَعْضهَا فَوق بعض، وَسبع أَرضين بَعْضهَا تَحت بعض، وَبَين كل سَمَاء وسماء مسيرَة خَمْسمِائَة سنة، وَكَذَلِكَ بَين كل أَرض وَأَرْض. وَعنهُ أَنه قَالَ: خلق السَّمَاء الدُّنْيَا من موج مكفوف، وَالسَّمَاء الثَّانِيَة من صَخْرَة، وَالسَّمَاء الثَّالِثَة من حَدِيد، وَالرَّابِعَة من نُحَاس، وَالْخَامِسَة من فضَّة، وَالسَّادِسَة(5/468)
{الأَرْض مِثْلهنَّ يتنزل الْأَمر بَينهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَن الله على كل شَيْء قدير وَأَن الله قد أحَاط بِكُل شَيْء علما (12) } من ذهب، وَالسَّابِعَة من درة، وَخلق الْكُرْسِيّ فَوق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي جنب الْكُرْسِيّ كحلقة فِي فلاة وَيحمل الْكُرْسِيّ أَرْبَعَة أَمْلَاك لكل ملك أَرْبَعَة أوجه، وَجه على صُورَة الْآدَمِيّين يسْأَل الرزق للبشر، وَوجه على صُورَة سيد السبَاع وَهُوَ الْأسد يسْأَل الرزق للسباع، وَوجه على صُورَة سيد الطير وَهُوَ النسْر يسْأَل الرزق للطيور. وَوجه على صُورَة سيد الْأَنْعَام وَهُوَ الثور يسْأَل الرزق للأنعام.
قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا زَالَت على وَجهه الَّذِي هُوَ على صُورَة الثور عِمَامَة مُنْذُ عبد الْعجل من دون الله، فملكان يَقُولَانِ: اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على حملك بعد علمك، وملكان يَقُولَانِ: اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على عفوك بعد قدرتك.
وَعنهُ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: فِي كل ارْض آدم كآدم أبي الْبشر، ونوح مثل نوح، وَإِبْرَاهِيم كإبراهيم، ومُوسَى كموسى، وَعِيسَى كعيسى، وَمُحَمّد كمحمد. ذكر هَذِه الْآثَار عَن ابْن عَبَّاس أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن النقاش فِي تَفْسِيره. وَعَن قَتَادَة قَالَ: فِي كل سَمَاء وَفِي كل أَرض خلق من خلقه، وَأمر من أمره، وَقَضَاء من قَضَائِهِ.
وَقَوله تَعَالَى: {يتنزل الْأَمر بَينهُنَّ} أَي: بَين السَّمَوَات وَالْأَرضين، وَهُوَ معنى مَا بَينا.
وَقَوله: {لِتَعْلَمُوا أَن الله على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.
وَقَوله: {وَأَن الله قد أحَاط بِكُل شَيْء علما} ظَاهر الْمَعْنى، وَهُوَ مَنْصُوب على (التَّفْسِير) ، وَالله أعلم.(5/469)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك تبتغي مرضات أَزوَاجك وَالله غَفُور رَحِيم (1) }
تَفْسِير سُورَة التَّحْرِيم
وَهِي مَدَنِيَّة(5/470)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك تبتغي مرضات أَزوَاجك وَالله غَفُور رَحِيم} فِي الْآيَة قَولَانِ معروفان: أظهر الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهَا نزلت فِي تَحْرِيم رَسُول الله على نَفسه مَارِيَة الْقبْطِيَّة، وَسبب ذَلِك: أَن النَّبِي خلا بهَا فِي بَيت حَفْصَة، وَكَانَت حَفْصَة قد خرجت لزيارة أَبِيهَا، فَلَمَّا رجعت وَعرفت ذَلِك فوقفت على الْبَاب، وَخرج النَّبِي وَرَأى الكآبة فِي وَجههَا. وَفِي رِوَايَة: أَنَّهَا راجعته فِي ذَلِك بعض الْمُرَاجَعَة وَقَالَت هَذَا من حقارتي عنْدك وَصغر شأني وَلَو كَانَت فِي بَيت غَيْرِي لم تفعل ذَلِك، فَحرم مَارِيَة على نَفسه لطلب رِضَاهَا وَقَالَ لَهَا: " لَا تُخْبِرِي بذلك عَائِشَة ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: " أَن النَّبِي كَانَ يشرب عسلا فِي بَيت زَيْنَب بنت جحش وَفِي رِوَايَة: فِي بَيت سَوْدَة، وَفِي رِوَايَة: فِي بَيت أم سَلمَة فَتَوَاطَأت عَائِشَة وَحَفْصَة على أَن النَّبِي إِذا دخل على وَاحِدَة مِنْهُمَا أَيَّتهمَا كَانَت قَالَت: إِنِّي أجد مِنْك ريح مَغَافِير " وَقد روى أَن صَفِيَّة كَانَت مَعَهُمَا فِي هَذِه المواطأة، فَدخل النَّبِي على عَائِشَة فَقَالَت لَهُ ذَلِك، وَدخل على حَفْصَة فَقَالَت لَهُ ذَلِك، وَدخل على صَفِيَّة فَقَالَت لَهُ ذَلِك، فَكَانَ النَّبِي يكره أَن يُوجد مِنْهُ ريح لأجل الْمَلَائِكَة فَقَالَ: شربت عسلا عِنْد زَيْنَب. فَقُلْنَ لَهُ: جرست نَخْلَة العرقط والعرقط شَجَرَة يُوجد مِنْهَا ريح(5/470)
{قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} مَكْرُوه فَحرم الْعَسَل على نَفسه، وَقَالَ: لَا أَعُود إِلَى شربه أبدا ". حكى هَذَا القَوْل عبيد بن عُمَيْر عَن عَائِشَة. وَالْأول قَول عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعَامة الْمُفَسّرين.
وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَن الْآيَة وَردت فِي الواهبة نَفسهَا للنَّبِي، وَهُوَ قَول شَاذ، وَمعنى الْآيَة: هُوَ المعاتبة مَعَ النَّبِي فِي تَحْرِيم مَا أحل الله لَهُ لطلب رضَا أَزوَاجه.
وَقَوله: {وَالله غَفُور رَحِيم} قد بَينا.(5/471)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
قَوْله تَعَالَى: {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} أَي: كَفَّارَة أَيْمَانكُم، وَالْفَرْض هَا هُنَا بِمَعْنى الْبَيَان وَالتَّسْمِيَة وَيُقَال: بِمَعْنى التَّقْدِير؛ لِأَن الْكَفَّارَات مقدرَة مَعْدُودَة، فَإِن قيل: أَيْن الْيَمين فِي الْآيَة، وَالله تَعَالَى قَالَ: {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} ؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن النَّبِي كَانَ حرم وَحلف فَعَاتَبَهُ على التَّحْرِيم، وَأمره بالتفكير فِي الْيَمين، وَهَذَا قَول مَنْقُول عَن جمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم مَسْرُوق وَالشعْبِيّ وَغَيرهمَا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه كَانَ حرم وَلم يحلف إِلَّا أَن تَحْرِيم الْحَلَال يُوجب الْكَفَّارَة، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَغَيره.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَحْرِيم الْحَلَال، فَذهب ابْن مَسْعُود أَنه إِذا حرم حَلَالا أَي حَلَال كَانَ، فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة، وَهَذَا قَول جمَاعَة من التَّابِعين، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ والكوفيين. وَأما مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ أَن تَحْرِيم الْحَلَال فِي النِّسَاء يُوجب الْكَفَّارَة، وَفِي غير النِّسَاء لَا يُوجب شَيْئا. وَذهب جمَاعَة إِلَى أَن تَحْرِيم الْحَلَال لَيْسَ بِشَيْء، قَالَ مَسْرُوق: لَا أُبَالِي أَحرمت امْرَأَتي أَو قَصْعَة من ثريد يَعْنِي: أَنه لَيْسَ بِشَيْء. وَعَن بَعضهم: أَنه إِيلَاء. وَعَن بَعضهم: أَنه ظِهَار. وَعَن بَعضهم: أَنه يلْزمه الطَّلَاق الثَّلَاث بِتَحْرِيم الْحَلَال فِي النِّسَاء. وَعَن بَعضهم: أَنه على نِيَّته. وتحلة الْيَمين كَفَّارَة الْيَمين، وسماها تَحِلَّة؛ لِأَنَّهُ يتَحَلَّل بهَا عَن الْيَمين أَي: يخرج. وَعَن بَعضهم: أَن تَحِلَّة الْيَمين(5/471)
{وَالله مولاكم وَهُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم (2) وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا فَلَمَّا نبأت بِهِ وأظهره الله عَلَيْهِ عرف بعضه} هُوَ الِاسْتِثْنَاء؛ لِأَنَّهُ يخرج بِهِ عَن الْيَمين. وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف. وَبَيَان الْكَفَّارَة فِي سُورَة الْمَائِدَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} الْآيَة، فروى " أَن النَّبِي أعتق رَقَبَة ".
وَقَوله: {وَالله مولاكم} أَي: ولي أُمُوركُم، يهديكم إِلَى الأرشد والأقوم وَالْأولَى.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم} أَي: الْعَالم بِأَمْر خلقه، الْحَكِيم بِمَا يدبره لَهُم.(5/472)
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا} هِيَ حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا وَالَّذِي أسره إِلَيْهَا هُوَ تَحْرِيمه مَارِيَة. وَقَالَ مَيْمُون بن مهْرَان: أسر إِلَيْهَا هَذَا، وَأسر إِلَيْهَا أَن الْخلَافَة بعده لأبي بكر، ثمَّ لأَبِيهَا بعده، وَهَذَا مَذْكُور فِي كثير من التفاسير عَن مَيْمُون بن مهْرَان وَغَيره.
وَقَوله: {فَلَمَّا نبأت بِهِ} روى أَن النَّبِي قَالَ لحفصة: " لَا تُخْبِرِي بذلك أحدا " وَكَانَت لَا تكْتم شَيْئا عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَذَهَبت وأخبرت عَائِشَة بذلك؛ فَنزل جِبْرِيل وَأخْبرهُ بِمَا كَانَ بَينهمَا، وَذَلِكَ قَوْله: {وأظهره الله عَلَيْهِ} .
وَقَوله: {عرف بعضه} أَي: عرفهَا بعض مَا كَانَ بَينهمَا، وَأعْرض عَن الْبَعْض تكرما وصفحا، والتغافل عَن كثير من الْأُمُور من شِيمَة الْعُقَلَاء وَأهل الْكَرم. وَيُقَال: الْعَاقِل هم المتغافل. وَالَّذِي أظهره لَهَا هُوَ إخبارها بِتَحْرِيم مَارِيَة، وَالَّذِي أعرض عَنهُ هُوَ حَدِيث أبي بكر وَعمر كَرَامَة أَن يفشو ذَلِك بَين النَّاس. وَقَرَأَ الْكسَائي: " عرف بعضه " بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ الْفراء: أَي: جازى عَلَيْهِ، ومجازاته إِيَّاهَا أَنه طَلقهَا، ثمَّ إِنَّه نزل جِبْرِيل وَأمره بمراجعتها، وَقَالَ: إِنَّهَا صَوَّامَة قَوَّامَة. وَقَالَ الْفراء: وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: لأعرفن مَا عملت أَي: لأجازينك عَلَيْهِ. وَهُوَ أَيْضا مثل قَوْله تَعَالَى: {وأوحينا إِلَيْهِ(5/472)
{وَأعْرض عَن بعض فَلَمَّا نبأها بِهِ قَالَت من أَنْبَأَك هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيم الْخَبِير (3) إِن تَتُوبَا إِلَى الله فقد صغت قُلُوبكُمَا} لتنبئنهم بأمرهم) أَي: لتجازينهم.
وَقَوله: {وَأعْرض عَن بعض} أَي: لم يجاز عَلَيْهِ.
وَقَوله: {فَلَمَّا نبأها بِهِ} أَي: أخْبرهَا.
وَقَوله: {قَالَت من أَنْبَأَك هَذَا} أَي: من أخْبرك بِهَذَا.
وَقَوله: {قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيم الْخَبِير} أَي: الله، فَإِنَّهُ الْعَلِيم بالأمور، الْخَبِير بِمَا فِي الصُّدُور.(5/473)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
وَقَوله تَعَالَى: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله} هَذَا خطاب لعَائِشَة وَحَفْصَة، وَمَعْنَاهُ: إِن تَتُوبَا فقد فعلتما مَا عَلَيْكُمَا، التَّوْبَة فِي ذَلِك، وَالَّذِي فعلنَا: المظاهرة على النَّبِي بالمواطأة على مَا بَينا، وبالسرور بِمَا يكرههُ من تَحْرِيم مَا أحل الله لَهُ، وبشدة الْغيرَة عَلَيْهِ وأذاه بذلك.
وَقَوله: {فقد صغت قُلُوبكُمَا} أَي: مَالَتْ قُلُوبكُمَا عَن الصَّوَاب. وَقد روى " أَنه كَانَ يصغي الْإِنَاء للهرة " أَي: يمِيل.
وَقَوله: {قُلُوبكُمَا} أَي: قلباكما. قَالَ الْفراء: هُوَ مثل قَول الْعَرَب: ضربت ظهوركما، وهشمت رءوسكما أَي: رأسيكما وظهريكما. وَيُقَال: إِن أَكثر مَا فِي الْإِنْسَان من الْجَوَارِح اثْنَان اثْنَان، وَإِذا هِيَ تذكر باسم الْجمع، فَمَا كَانَ وَاحِدًا جرى ذَلِك المجرى، مثل: الرَّأْس وَالْقلب وَغير ذَلِك، ذكره النقاش.(5/473)
{وَإِن تظاهرا عَلَيْهِ فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل وَصَالح الْمُؤمنِينَ وَالْمَلَائِكَة بعد ذَلِك ظهير (4) عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن}
وَقَوله: {وَإِن تظاهرا عَلَيْهِ} ثَبت أَن ابْن عَبَّاس سَأَلَ عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تظاهرتا على النَّبِي أَي: توافقتا على فعل مَا يشْتَد عَلَيْهِ ويؤذيه غَيره عَلَيْهِ، فَقَالَ: هما حَفْصَة وَعَائِشَة.
وَقَوله: {فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ} أَي: ناصره وحافظه {وَجِبْرِيل} أَي: ينصره أَيْضا ويحفظه.
وَقَوله: {وَصَالح الْمُؤمنِينَ} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: قَالَ الْعَلَاء بن زِيَاد: هم الْأَنْبِيَاء، وَهُوَ قَول قَتَادَة فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ.
وَعَن قَتَادَة فِي رِوَايَة أُخْرَى قَالَ: هُوَ أَبُو بكر وَعمر، وهما أَبَوا الْمَرْأَتَيْنِ. قَالَ سعيد بن أبي عرُوبَة وَهُوَ الحاكي ذَلِك عَن قَتَادَة: ذكرت ذَلِك لسَعِيد بن جُبَير فَقَالَ: صدق قَتَادَة. وروى اللَّيْث عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: هُوَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ. وَعَن بَعضهم: هُوَ خِيَار الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: {وَالْمَلَائِكَة بعد ذَلِك ظهير} أَي: ظهراء وَأَعْوَان، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا} أَي: رُفَقَاء. قَالَ الشَّاعِر
(إِن العواذل لَيْسَ لي بأمير ... )
أَي: بأمراء. وَرُوِيَ أَن عمر عَاتب حَفْصَة وَقَالَ: لَو أَمرنِي رَسُول الله أَن أضْرب رقبتك لضَرَبْت.(5/474)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
قَوْله تَعَالَى: {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن} فَإِن قيل: كَيفَ خيرا مِنْكُن وَلم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت أحد من النِّسَاء خيرا مِنْهُنَّ؟ وَالْجَوَاب: أَن مَعْنَاهُ: إِن طَلَّقَكُن بإلجائكن إِيَّاه إِلَى الطَّلَاق، وَشدَّة آذاكن لَهُ، وَترك التَّوْبَة فيبدله خير مِنْكُن أَي: أطوع لَهُ مِنْكُن، وَيُقَال: أحب لَهُ مِنْكُن.(5/474)
{مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا (5) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا}
وَقَوله: {مسلمات} أَي: خاضعات منقادات.
وَقَوله: {مؤمنات} أَي: مصدقات.
وَقَوله: {قانتات} أَي: مطيعات.
وَقَوله: {تائبات} أَي: تائبات من كل الذُّنُوب، وَمن كل مَا يُؤْذِي النَّبِي.
وَقَوله: {عابدات} أَي: متذللات أَو فاعلات للطاعة كَمَا أمرهن الله تَعَالَى.
وَقَوله: {سائحات} أَي: صائمات، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: سمي الصَّائِم سائحا؛ لِأَن السائح يسيح بِغَيْر زَاد، فَإِن وجد شَيْئا أكل على جوع شَدِيد. وَيُقَال: سائحات أَي: مهاجرات.
وَقَوله: {ثيبات وأبكارا} ظَاهر الْمَعْنى. وَيُقَال: الثّيّب مثل آسِيَة، والأبكار مثل: مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام.(5/475)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا} أَي: بفعلكم طَاعَة الله، وأمركم إياهن بِطَاعَة الله. وَيُقَال: أدبوهن وعلموهن ودلوهن على الْخَيْر. وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: " علق السَّوْط حَيْثُ يرَاهُ أهلك " يَعْنِي: بالتأديب. وَعَن عَمْرو بن قيس الْملَائي قَالَ: " إِن الْمَرْأَة لتخاصم زَوجهَا يَوْم الْقِيَامَة عِنْد الله فَتَقول: إِنَّه كَانَ لَا يؤدبني، وَلَا يعلمني شَيْئا، كَانَ يأتيني بِخبْز السُّوق. وَقيل: قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا أى: قوا أَنفسكُم نَارا وقوا أهليكم نَارا بِمَا ذكرنَا، وَهُوَ تَقْدِير الْآيَة.(5/475)
{وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة عَلَيْهَا مَلَائِكَة غِلَاظ شَدَّاد لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون (6) يَا أَيهَا الَّذين كفرُوا لَا تعتذروا الْيَوْم إِنَّمَا تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (7) }
وَقَوله: {وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} قد بَينا فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَهُوَ حِجَارَة الكبريت.
وَقَوله: {عَلَيْهَا مَلَائِكَة غِلَاظ شَدَّاد} أَي: غِلَاظ الْقُلُوب، شَدَّاد الْأَيْدِي. وَفِي التَّفْسِير: أَن وَاحِدًا مِنْهُم يلقِي سبعين ألفا بدفعة وَاحِدَة فِي النَّار. وَفِي بعض الْآثَار: " أَن الله تَعَالَى لم يخلق فِي قُلُوب الزَّبَانِيَة شَيْئا من الرَّحْمَة ". وَعَن بَعضهم: أَنه يَأْخُذ العَبْد الْكَافِر بعنف شَدِيد، فَيَقُول ذَلِك العَبْد: أما ترحمني؟ ! فَيَقُول: كَيفَ أرحمك، وَلم يَرْحَمك أرْحم الرَّاحِمِينَ.
وَفِي بعض الْآثَار أَيْضا: أَن الله تَعَالَى يغْضب على الْوَاحِد من عبيده، فَيَقُول للْمَلَائكَة: خذوه فيبتدره مائَة ألف ملك، كلهم يغضبون بغضب الله تَعَالَى، فيجرونه إِلَى النَّار، وَالنَّار أَشد غَضبا عَلَيْهِ مِنْهُم بسبعين ضعفا.
وَقَوله: {لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون} ظَاهر الْمَعْنى.(5/476)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين كفرُوا لَا تعتذروا الْيَوْم} يَعْنِي: يُقَال لَهُم يَوْم الْقِيَامَة: لَا تعتذروا، أَي: لَا عذر لكم فتعتذروا.
وَقَوله: {إِنَّمَا تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: بعملكم فِي الدُّنْيَا.(5/476)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} قَالَ (الزُّهْرِيّ) : كل مَوضِع فِي الْقُرْآن {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} افعلوا كَذَا فالنبي عَلَيْهِ السَّلَام فيهم. وَعَن خَيْثَمَة قَالَ: كل مَا فِي الْقُرْآن {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فَهُوَ فِي التَّوْرَاة يَا أَيهَا الْمَسَاكِين. وَقد ذكرنَا عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: إِذا سَمِعت الله يَقُول: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فارعها سَمعك، فَإِنَّهُ شَيْء تُؤمر بِهِ، أَو شَيْء تنْهى عَنهُ.(5/476)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا عَسى ربكُم أَن يكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه نورهم يسْعَى بَين أَيْديهم وبأيمانهم يَقُولُونَ رَبنَا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إِنَّك على كل}
وَقَوله: {تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا} قَالَ عمر وَابْن مَسْعُود: هُوَ أَن يَتُوب من الذَّنب ثمَّ لَا يعود إِلَيْهِ أبدا، وَيُقَال: نصُوحًا أَي: صَادِقَة، وَيُقَال: خَالِصَة، وَقيل: محكمَة وَثِيقَة. وَهُوَ مَأْخُوذ من النصح وَهُوَ الْخياطَة، كَأَن التَّوْبَة ترقع خرق الذَّنب فيلتئم، كالخياط يخيط بالشَّيْء فيلتئم. وَقُرِئَ: " نصُوحًا " بِضَم النُّون أَي: ذَات نصح.
وَقَوله: {عَسى ربكُم أَن يكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} قد بَينا أَن عَسى من الله وَاجِبَة.
وَقَوله: {ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} أَي: بساتين.
وَقَوله: {يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي} أَي: لَا يهينه وَلَا يَفْضَحهُ، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى كَرَامَة فِي الْآخِرَة؛ يَعْنِي: يُكرمهُ ويشرفه فِي ذَلِك الْيَوْم، وَلَا يهينه، وَلَا يذله.
وَقَوله: {وَالَّذين آمنُوا مَعَه} أَي: كَذَلِك يَفْعَله بالذين آمنُوا مَعَه.
وَقَوله: {نورهم يسْعَى بَين أَيْديهم} هُوَ نور الْإِيمَان يكون قدامهم على الصِّرَاط يَمْشُونَ فِي ضوئه. وَفِي التَّفْسِير: أَن لأَحَدهم مثل الْجَبَل، وَلآخر على قدر ظفره ينطفئ مرّة ويتقد أُخْرَى.
وَقَوله: {وبأيمانهم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وبأيمانهم كتبهمْ، وَالْآخر: وبأيمانهم نورهم كالمصابيح.
وَقَوله: {يَقُولُونَ رَبنَا أتمم لنا نورنا} وَفِي [التَّفْسِير] : أَنهم يَقُولُونَ ذَلِك حِين يخمد وينطفئ نور الْمُنَافِقين، فَيَقُولُونَ ذَلِك إشفاقا على نورهم.
وَقَوله: {واغفر لنا إِنَّك على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.(5/477)
{شَيْء قدير (8) يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (9) ضرب الله مثلا للَّذين كفرُوا امرأت نوح وامرأت لوط كَانَتَا تَحت عَبْدَيْنِ من عبادنَا صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلم يغنيا عَنْهُمَا من الله شَيْئا}(5/478)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار} أَي: بِالسَّيْفِ.
وَقَوله: {وَالْمُنَافِقِينَ} أَي: بِاللِّسَانِ، وَيُقَال: بالغلظة عَلَيْهِم. قَالَ ابْن مَسْعُود: أَن يلقاهم بِوَجْه مكفهر. وَيُقَال: بِإِقَامَة الْحُدُود عَلَيْهِم، ذكره قوم من التَّابِعين.
وَقَوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِم ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} أَي: المنقلب.(5/478)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {ضرب الله مثلا للَّذين كفرُوا امْرَأَة نوح وَامْرَأَة لوط} فِي بعض التفاسير: أَن اسْم (إحديهما) كَانَت والهة، وَالْأُخْرَى كَانَت والغة.
وَقَوله: {كَانَتَا تَحت عَبْدَيْنِ من عبادنَا صالحين} أَي: نوح وَلُوط عَلَيْهِمَا السَّلَام.
وَقَوله تَعَالَى: {فَخَانَتَاهُمَا} اخْتلف القَوْل فِي هَذَا؛ فأحد الْأَقْوَال: أَنه الْخِيَانَة بالْكفْر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الْخِيَانَة بالنفاق، كَانَتَا تظهران الْإِيمَان وتسران الْكفْر.
وَالْقَوْل الثَّالِث: بالنميمة.
وَالْقَوْل الرَّابِع: بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُنُون لنوح، وَالدّلَالَة على الأضياف للوط، فَكَانَت امْرَأَة نوح تَقول لمن يقْصد نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، ليسمع كَلَامه: إِنَّه مَجْنُون، وَامْرَأَة لوط كَانَت تدل قَومهَا على أضياف لوط لقصد الْفَاحِشَة. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا كَانَت بِالنَّهَارِ ترسل، وبالليل تدخن وتوقد نَارا ليعلموا. قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا بَغت امْرَأَة نَبِي قطّ أَي: مَا زنت.
وَقَوله: {فَلم يغنيا عَنْهُمَا من الله شَيْئا} أَي: لم (يدْفَعَا) نوح وَلُوط عَنْهُمَا(5/478)
{وَقيل ادخلا النَّار مَعَ الداخلين (10) وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا امرأت فِرْعَوْن إِذْ قَالَت رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة ونجني من فِرْعَوْن وَعَمله ونجني من الْقَوْم الظَّالِمين (11) وَمَرْيَم ابنت عمرَان الَّتِي أحصنت فرجهَا فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا} أَي: عَن امرأتيهما. وَالْمرَاد تحذير عَائِشَة وَحَفْصَة، يَعْنِي: أنكما إِن عصيتما رَبكُمَا لم يدْفع رَسُول الله عنكما شَيْئا، كَمَا لم يدْفع نوح وَلُوط عَن امرأتيهما.
وَقَوله: {وَقيل ادخلا النَّار مَعَ الداخلين} أَي: قيل للمرأتين.(5/479)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
وَقَوله تَعَالَى: {وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا امْرَأَة فِرْعَوْن} وَهِي آسِيَة بنت مُزَاحم، وَكَانَت آمَنت بِاللَّه وبموسى عَلَيْهِ السَّلَام سرا ثمَّ أظهرت، فعذبها فِرْعَوْن وعاقبها، وَفِي الْقِصَّة: أَنه وتدها بأَرْبعَة أوتاد من حَدِيد، وَفِي الْقِصَّة: أَن أول من آمَنت امْرَأَة خَازِن فِرْعَوْن، وَيُقَال: ماشطة بنت فِرْعَوْن، فعذبها فِرْعَوْن فَصَبَرت على ذَلِك، فأظهرت حِينَئِذٍ آسِيَة إيمَانهَا.
وَقَوله: {إِذْ قَالَت رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة} أَي: دَارا.
وَقَوله: {ونجني من فِرْعَوْن وَعَمله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: من شركه، وَالْآخر: من المضاجعة مَعَه. وَيُقَال: من الْجِمَاع.
وَقَوله: {ونجني من الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: من قوم فِرْعَوْن.(5/479)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَرْيَم ابْنة عمرَان الَّتِي أحصنت فرجهَا} أشهر الْقَوْلَيْنِ أَنه الْفرج بِعَيْنِه. وَالْعرب تَقول: أحصنت فُلَانَة فرجهَا إِذا عفت عَن الزِّنَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْفرج هَاهُنَا هُوَ الجيب. قَالَ الْفراء: كل خرق فِي درع أَو غَيره فَهُوَ فرج، وَيُقَال: فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " فنفخنا فِي جيبها من رُوحنَا "
وَقَوله: {فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا} فِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام نفخ فِي جيب درعها فَحملت بِعِيسَى، وَرُوِيَ أَنه دخل عَلَيْهَا فِي صُورَة شَاب أَمْرَد جعد قطط، وَهِي فِي مدرعة صوف. قَالَ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ: فِي مدرعتها. وعَلى القَوْل الأول إِذا(5/479)
{وصدقت بِكَلِمَات رَبهَا وَكتبه وَكَانَت من القانتين (12) } قُلْنَا إِنَّه الْفرج بِعَيْنِه يصير النفخ فِي جيب درعها كالنفخ فِي فرجهَا بِعَيْنِه.
وَقَوله: {وصدقت بِكَلِمَات رَبهَا} وَقُرِئَ: " بِكَلِمَة رَبهَا " فَمَعْنَى الْكَلِمَات مَا أخبر الله تَعَالَى من الْبشَارَة بِعِيسَى وَصفته وكرامته على الله وَغير ذَلِك. وَيُقَال: بِكَلِمَات رَبهَا أَي: بآيَات رَبهَا. وَأما قَوْله: {بِكَلِمَة رَبهَا} هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: {وَكتابه} أَي: الْإِنْجِيل، وَقُرِئَ: " وَكتبه " أَي: التَّوْرَاة وَالزَّبُور وَالْإِنْجِيل.
وَقَوله: {وَكَانَت من القانتين} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ {من القانتين} وَلم يقل: " من القانتات "؟ قُلْنَا: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب مَعْنَاهُ: كَانَت من قوم قَانِتِينَ. والقنوت هُوَ الطَّاعَة على مَا بَينا. وَيُقَال: قنوتها هَاهُنَا هُوَ صلَاتهَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء، وَهُوَ أَيْضا فعل القانتين على هَذَا القَوْل، وَالله أعلم.(5/480)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك}
تَفْسِير سُورَة الْملك
وَهِي مَكِّيَّة
روى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - قَالَ: " إِن سُورَة من الْقُرْآن ثَلَاثُونَ آيَة شفعت لصَاحِبهَا حَتَّى غفر لَهُ، وَهِي {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} ".
وروى أَبُو الزبير عَن جَابر أَن النَّبِي كَانَ لَا ينَام حَتَّى يقْرَأ: {الم تَنْزِيل الْكتاب} ، و {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} قَالَ طَاوس: يفضلان سَائِر السُّور بسبعين حَسَنَة.
وروى أَبُو الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس أَن رجلا ضرب خباءه على قبر وَهُوَ لَا يحْسب أَنه قبر، فَسمع قَارِئًا: {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} حَتَّى ختم السُّورَة، فَأتى النَّبِي فَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: " هِيَ المنجية، هِيَ الْمَانِعَة، تنجيه من عَذَاب الْقَبْر " ذكر هَذِه الْأَخْبَار أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِإِسْنَادِهِ.
وَفِي غَيره أَن الزُّهْرِيّ روى عَن حميد ابْن عبد الرَّحْمَن أَن النَّبِي قَالَ: " سُورَة الْملك تجَادل عَن صَاحبهَا يَوْم الْقِيَامَة ".(6/5)
{وَهُوَ على كل شَيْء قدير (1) الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا}
وروى مرّة الْهَمدَانِي عَن عبد الله بن مَسْعُود: أَن رجلا أَتَى فِي قَبره من جوانبه، فَجلت سُورَة من الْقُرْآن تجَادل عَن صَاحبهَا حَتَّى الْجنَّة.
قَالَ مرّة: فَنَظَرت أَنا وخيثمة فَإِذا هِيَ سُورَة الْملك، وَالله أعلم.(6/6)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
قَوْله تَعَالَى: {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ} قد بَينا أَن تبَارك تفَاعل من الْبركَة، وَالْمعْنَى: أَن جَمِيع البركات مِنْهُ تَعَالَى.
وَيُقَال: تبَارك أَي: تعظم وتقدس وَتَعَالَى، وَمِنْه البرك فِي الصَّدْر.
وَقَوله {الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} أَي: ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَيُقَال: ملك النُّبُوَّة، يعز بِهِ من اتبعهُ، ويذل بِهِ من خَالفه، حكى ذَلِك عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق.
وَقَوله {وَهُوَ على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.(6/6)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
وَقَوله تَعَالَى: {الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة} أَي: الْمَوْت فِي الدُّنْيَا، والحياة فِي الْآخِرَة.
وَيُقَال: خلق الْمَوْت أَي: النُّطْفَة فِي الرَّحِم لِأَنَّهَا ميتَة، والحياة هُوَ أَنه نفخ فِيهَا الرّوح من بعد.
وَيُقَال: خلق الْمَوْت والحياة، أَي: الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَحكى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس: " أَن الله تَعَالَى خلق الْمَوْت على صُورَة كَبْش أغبر، لَا يمر بِشَيْء، وَلَا يطَأ على شَيْء وَلَا يجد رِيحه شَيْء إِلَّا مَاتَ، وَخلق الْحَيَاة على صُورَة فرس أُنْثَى بلقاء لَا تمر على شَيْء، وَلَا تطَأ على شَيْء وَلَا تَجِد [رِيحهَا] شَيْء إِلَّا حيى.
قَالَ: وَهِي دون البغلة وَفَوق الْحمار، خطوها مد الْبَصَر، وَكَانَ جِبْرِيل رَاكِبًا [عَلَيْهَا] يَوْم غرق فِرْعَوْن، وَمن تَحت حافرها أَخذ السامري القبضة.
وَقَالَ بَعضهم: خلق الدُّنْيَا للحياة ثمَّ للْمَوْت، وَخلق الْآخِرَة للجزاء ثمَّ للبقاء.
وَقَوله {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} أَي: ليختبركم فَيظْهر مِنْكُم أَعمالكُم الْحَسَنَة وَأَعْمَالكُمْ السَّيئَة ويجازكم عَلَيْهَا.
وَقَوله {أحسن عملا} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أتم عقلا وَأَوْرَع عَن محارم الله، وَهُوَ(6/6)
{وَهُوَ الْعَزِيز الغفور (2) الَّذِي خلق سبع سموات طباقا مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت فَارْجِع الْبَصَر هَل ترى من فطور (3) ثمَّ ارْجع الْبَصَر كرتين}
قَول مأثور.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أحسن عملا أخْلص عملا.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أحسن عملا أَي: أزهد فِي الدُّنْيَا وأترك لَهَا، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن الْحسن وسُفْيَان الثَّوْريّ.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أحسن عملا أَي: أَشدّكُم ذكرا للْمَوْت وَأَحْسَنُكُمْ لَهَا اسْتِعْدَادًا.
وَيُقَال: أَشدّكُم لله مَخَافَة.
وَيُقَال: أبصركم بعيوب نَفسه.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الغفور} قد بَينا.(6/7)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي خلق سبع سموات طباقا} أَي: بَعْضهَا فَوق بعض، بَين كل سماءين أَمر من أمره، وَخلق من خلقه.
وَقَوله {مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت} أَي: من خلل وعيب.
وَيُقَال: من اضْطِرَاب وتباين.
وَقُرِئَ " تفوت " وَاخْتَارَهُ أَبُو عبيد.
قَالَ الْفراء: تفوت وتفاوت بِمَعْنى وَاحِد كَمَا يُقَال: تعهد وتعاهد وَغير ذَلِك.
وَيُقَال: تفوت أَي: لَا تفوت بعضه بَعْضًا.
وَقَوله: {فَارْجِع الْبَصَر} أَي: رد الْبَصَر.
وَقَوله: {هَل ترى من فطور} أَي: صدوع وشقوق وخروق.
وَيُقَال: فطر نَاب الْبَعِير أَي: انْشَقَّ.(6/7)
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
وَقَوله: {ثمَّ ارْجع الْبَصَر كرتين} أَي: مرَّتَيْنِ، وَمَعْنَاهُ: مرّة بعد مرّة، وَإِن زَاد على الْمَرَّتَيْنِ، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: قد قلت لَك هَذَا القَوْل مرّة بعد مرّة، وَقد كَانَ قَالَ لَهُ مَرَّات، ذكر الْقفال.
وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا ذكر الْمَرَّتَيْنِ، لِأَن الْإِنْسَان فِي الْمرة الثَّانِيَة يكون أحد بصرا وَأكْثر بصرا وَأكْثر نظرا.
وَيُقَال: الكرة الأولى بِالْعينِ.
وَالْأُخْرَى بِالْقَلْبِ.
قَالَ الْفراء: يجوز أَن يكون معنى كرتين كرة وَاحِدَة وأنشدوا:(6/7)
{يَنْقَلِب إِلَيْك الْبَصَر خاسئا وَهُوَ حسير (4) وَلَقَد زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين}
(مهمهين قذفين مرَّتَيْنِ ... قطعته [بالسمت] لَا بالسمتين)
وَأَرَادَ مهمها وَاحِدًا.
وَقَوله: {يَنْقَلِب إِلَيْك الْبَصَر} أَي: يرجع إِلَيْك الْبَصَر {خاسئا} أَي: صاغرا {وَهُوَ حسير} أَي: كليل يَعْنِي ضَعِيف عَن إِدْرَاك مَا أَرَادَهُ من طلب الْعَيْب والخلل.
وَيُقَال: دَابَّة حسرى أَي: كالة.
قَالَ الشَّاعِر:
(بِهِ جيف الحسرى فَأَما عظامها ... فبيض وَأما جلدهَا فصليب)
قَالَ الزّجاج: معنى الْآيَة: أَنه يُبَالغ فِي النّظر، فَرجع الْبَصَر إِلَيْهِ خاسئا وَلم ينل مَا أَرَادَهُ، وَلم ير عَيْبا وخللا.
وَقَوله: {خاسئا} من ذَلِك قَوْلهم للكلب اخْسَأْ وابعد، قَالَ الفرزدق فِي جرير:
(اخْسَأْ إِلَيْك جَرِيرًا يَا معر ... نلنا السَّمَاء نجومها وهلالها)(6/8)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح} أَي: بسرج، وسمى النُّجُوم مصابيح لإضاءتها.
وَقَوله: {وجعلناها رجوما للشياطين} أَي: رجمنا بهَا الشَّيَاطِين عَن استراق السّمع.
قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: إِن النَّجْم لَا يطلع لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلكنه زِينَة الدُّنْيَا ورجوم الشَّيَاطِين.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: خلق الله النُّجُوم لثَلَاثَة أَشْيَاء: جعلهَا زِينَة للسماء الدُّنْيَا، ورجوما للشياطين، وهاديا للنَّاس فِي الطّرق، فَمن تكلّف غير ذَلِك فقد قَالَ مَا لَا علم لَهُ بِهِ.(6/8)
{وأعتدنا لَهُم عَذَاب السعير (5) وللذين كفرُوا برَبهمْ عَذَاب جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (6) إِذا ألقوا فِيهَا سمعُوا لَهَا شهيقا وَهِي تَفُور (7) تكَاد تميز من الغيظ كلما ألقِي فِيهَا فَوْج سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير (8) قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ظلال كَبِير (9) } .
وَقَوله تَعَالَى: {وأعتدنا لَهُم عَذَاب السعير} أَي: المسعرة.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن السعير هُوَ الطَّبَق الرَّابِع من جَهَنَّم.(6/9)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)
وَقَوله: {وللذين كفرُوا برَبهمْ عَذَاب جَهَنَّم} إِنَّمَا سمى جَهَنَّم جهنما لبعد قعرها، تَقول الْعَرَب: ركية جهنام أَي: بعيدَة القعر.
وَقَوله: {وَبئسَ الْمصير} أَي: الْمرجع.(6/9)
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)
قَوْله: {إِذا ألقوا فِيهَا سمعُوا لَهَا شهيقا} أَي: لِجَهَنَّم، والشهيق: أول صَوت الْحمار.
وَقيل: الشهيق.
أول صَوته، والزفير.
آخر صَوته.
وَقيل: الشهيق فِي الصَّدْر، والزفير فِي الْحلق.
وَقيل: إِن الشهيق من الْكفَّار حِين يدْخلُونَ جَهَنَّم.
وَالْقَوْل الأول أظهر فِي هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {وَهِي تَفُور} قَالَ ابْن مَسْعُود: تغلي غليان الْقدر بِمَا فِيهِ.
وَعَن مُجَاهِد: تغلي غليان المَاء الْكثير بالحب الْقَلِيل.(6/9)
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
وَقَوله: {تكَاد تميز من الغيظ} أَي: تتقد وتتفرق.
يُقَال: فلَان امْتَلَأَ غيظا حَتَّى يكَاد يتقد.
وغيظها حنقا على أَعدَاء الله وانتقامها.
وَقَوله: {كلما ألْقى فِيهَا فَوْج} أَي: قوم {سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير} أَي: رَسُول.
وَعَن مُجَاهِد قَالَ: الرُّسُل من الْإِنْس، وَالنّذر من الْجِنّ.
وَهُوَ قَول مهجور.(6/9)
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ظلال كَبِير} أَي: عَظِيم.
وَيُقَال: خاطئين.(6/9)
{وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير (10) فاعرفوا بذنبهم فسحقا لأَصْحَاب السعير (11) إِن الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ} .(6/10)
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل} أَي: نسْمع سَماع من يُمَيّز ويتفكر، ونعقل عقل من يتدبر وَينظر {مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} وَالْمعْنَى: أَنا لم نسْمع الْحق وَلم نعقله أَي: لم ننتفع بأسماعنا وعقولنا.
وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " لكل شَيْء دعامة، ودعامة الدّين الْعقل ".
وروى أَيْضا أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الرجل يكون من أهل الْجِهَاد وَأهل الصَّلَاة وَأهل الصّيام، وَيَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر، وَإِنَّمَا يجازى يَوْم الْقِيَامَة على قدر عقله " وَهُوَ حَدِيث حسن الْإِسْنَاد.(6/10)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَرفُوا بذنبهم} أَي: بِذُنُوبِهِمْ، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع، وَقَوله: {فسحقا لأَصْحَاب السعير} أَي: بعدا، يُقَال: مَكَان سحيق أَي: بعيد.
وَعَن مُجَاهِد: السحق اسْم وَاد فِي جَهَنَّم.(6/10)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ} أَي: بالوعد والوعيد الَّذِي غَابَ عَنهُ، وَيُقَال: بِالْجنَّةِ وَالنَّار، وَيُقَال: فِي الخلوات.(6/10)
{لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير (12) وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (13) أَلا يعلم من خلق وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير (14) هُوَ الَّذِي جعل لكم الأَرْض ذلولا} .
وَقَوله: {لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير} أَي: عَظِيم.(6/11)
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)
قَوْله تَعَالَى: {وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ} فِي التَّفْسِير: أَن الْكفَّار كَانَ بَعضهم يَقُول لبَعض: أَسرُّوا بقولكم حَتَّى لَا يسمع رب مُحَمَّد فيخبره قَوْلكُم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور} أَي: بِمَا فِي الصُّدُور.
قَالَ الْحسن: يعلم من السِّرّ مَا يعلم من الْعَلَانِيَة، وَيعلم من الْعَلَانِيَة مَا يعلم من السِّرّ.(6/11)
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
قَوْله تَعَالَى: {أَلا يعلم من خلق} اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار والتوبيخ، وَالْمعْنَى: أَلا يعلم من فِي الصُّدُور من خلق الصُّدُور.
وَيُقَال: أَلا يعلم مَا خلق " من " بِمَعْنى " مَا "، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء وَمَا بناها} أَي: وَمن بناها.
وَقَوله: {وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير} أَي: اللَّطِيف فِي علمه، يعلم مَا يظْهر وَمَا يسر وكل مَا دق، يُقَال لطيف، وَيُقَال: الْخَبِير هُوَ الْعَالم.(6/11)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جعل لكم الأَرْض ذلولا} أَي: مذللة، وتذليلها: تسهيل السّير فِيهَا والقرار عَلَيْهَا.
وَقَوله: {فامشوا فِي مناكبها} أَي: فِي جوانبها، وَيُقَال: فِي فجاجها، وَيُقَال: فِي طرقها، وَقيل: فِي جبالها.
وَعَن بشير بن كَعْب الْأنْصَارِيّ أَنه كَانَ يقْرَأ هَذِه السُّورَة فَبلغ هَذِه الْآيَة، فَقَالَ لجارية لَهُ: إِن عرفتي معنى قَوْله: {فِي مناكبها} فَأَنت حرَّة، فَقَالَت: فِي جبالها.
فشح الرجل بالجارية وَجعل يسْأَل أَبَا الدَّرْدَاء فَقَالَ: دع مَا يريبك إِلَى مَالا يريبك خلها.
وَحكى قَتَادَة عَن أبي الْجلد قَالَ: الأَرْض كلهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف فَرسَخ، اثْنَا عشر ألفا للسودان، وَثَمَانِية آلَاف للروم، وَثَلَاثَة آلَاف للعجم، وَألف للْعَرَب.(6/11)
{فامشوا فِي مناكبها وكلوا من رزقه وَإِلَيْهِ النشور (15) أأمنتم من فِي السَّمَاء أَن يخسف بكم الأَرْض فَإِذا هِيَ تمور (16) أم أمنتم من فِي السَّمَاء أَن يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا فستعلمون كَيفَ نَذِير (17) وَلَقَد كذب الَّذين من قبلهم فَكيف كَانَ نَكِير (18) أولم يرَوا إِلَى الطير فَوْقهم صافات ويقبضن مَا يمسكهن إِلَّا الرَّحْمَن إِنَّه بِكُل شَيْء بَصِير} .
وَقَوله: {وكلوا من رزقه وَإِلَيْهِ النشور} أَي: فِي الْآخِرَة.(6/12)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
قَوْله تَعَالَى: {أأمنتم من فِي السَّمَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس أَي: الله.
وَقَوله: {أَن يخسف بكم الأَرْض فَإِذا هِيَ تمور} أَي: تضطرب وتدور، وَيُقَال: تمور أَي: تخسف بكم حَتَّى تجعلكم فِي أَسْفَل الْأَرْضين، قَالَ الشَّاعِر:
(رمين فأقصدن الْقُلُوب وَلنْ ترى ... دَمًا مائرا إِلَّا جرى فِي الحيازم)
أَي: سَائِلًا.(6/12)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
قَوْله تَعَالَى: {أم أمنتم من فِي السَّمَاء} أَي: أأمنتم ربكُم {أَن يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا} أَي: ريحًا ذَات حَصْبَاء، وَيُقَال: حِجَارَة فيهلككم بهَا.
والحصباء الْحِجَارَة.
وَقَوله: {فستعلمون كَيفَ نَذِير} أَي: إنذاري، وَالْمعْنَى: كنت محقا فِي إنذاري إيَّاكُمْ الْعَذَاب.(6/12)
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد كذب الَّذين من قبلهم فيكف كَانَ نَكِير} أَي: إنكاري.(6/12)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
قَوْله تَعَالَى: {أولم يرَوا إِلَى الطير فَوْقهم صافات} يُقَال: صف الطير جنَاحه إِذا بَسطه، وَقَبضه إِذا ضربه، وَالْمرَاد من الْقَبْض: هُوَ ضرب الجناحين بالجنبين، وَهَذَا الْقَبْض والبسط فِي بعض الطُّيُور لَا فِي جَمِيع الطُّيُور، فَإِن بَعْضهَا يقبض بِكُل حَال، وَبَعضهَا يبسط تَارَة وَيقبض أُخْرَى.
وَقَوله: {مَا يمسكهن إِلَّا الرَّحْمَن} يَعْنِي: مَا يمسكهن عَن الْوُقُوع إِلَّا الرَّحْمَن.
قَالُوا: والهواء للطير بِمَنْزِلَة المَاء للسابح، فَهُوَ يسبح فِي الْهَوَاء بجناحيه كَمَا يسبح الْإِنْسَان فِي المَاء بأطرافه.
وَقَوله: {إِنَّه بِكُل شَيْء بَصِير} أَي: عليم.(6/12)
( {19) أَمن هَذَا الَّذِي هُوَ جند لكم ينصركم من دون الرَّحْمَن إِن الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غرور (20) أَمن هَذَا الَّذِي يرزقكم إِن أمسك رزقه بل لجوا فِي عتو ونفور (21) أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه أهْدى أَمن يمشي سويا على صِرَاط مُسْتَقِيم (22) } .(6/13)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)
قَوْله تَعَالَى: {أَمن هَذَا الَّذِي هُوَ جند لكم ينصركم} مَعْنَاهُ: أَيْن هَذَا الَّذِي هُوَ جند لكم يمنعكم من عَذَاب الله؟ وَهُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى التوبيخ وَالْإِنْكَار.
وَقَوله تَعَالَى: {إِن الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غرور} أَي: مَا الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غرور.(6/13)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
قَوْله تَعَالَى: {أَمن هَذَا الَّذِي يرزقكم} الْمَعْنى: أَن الله هُوَ الَّذِي يرزقكم إِن أمسك رزقه، فَمن ذَا الَّذِي يرزقكم سواهُ؟ .
وَقَوله: {بل لجوا فِي عتو ونفور} العتو هُوَ التَّمَادِي فِي الْكفْر، والنفور هُوَ التباعد عَن الْحق.
وَيُقَال الْمَعْنى: أَن اللجاج حملهمْ على الْكفْر والنفور عَن الْحق، فَإِن الدَّلَائِل أظهر وَأبين من أَن تخفى على أحد، وَالْعرب تسمي كل سَفِيه متمرد متماد فِي الْبَاطِل عاتيا.(6/13)
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه} فِي الضَّلَالَة لَا يبصر الْحق.
وَيُقَال: مكبا على وَجهه أَي: لَا ينظر من بَين يَدَيْهِ وَلَا عَن يَمِينه وَلَا عَن يسَاره وَلَا من خَلفه.
وَقيل: إِن هَذَا فِي الْآخِرَة، فَإِن الله تَعَالَى يحْشر الْكفَّار على وُجُوههم على مَا نطق بِهِ الْقُرْآن فِي غير هَذَا الْموضع، وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الَّذِي قدر أَن يُمشيهمْ على أَرجُلهم قَادر على أَن يُمشيهمْ على وُجُوههم ".
وَقَوله: {أهْدى أَمن يمشي سويا على صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: يمشي فِي طَرِيق الْحق بِنور الْهدى.
وَيُقَال: ينظر من بَين يَدَيْهِ وَعَن يَمِينه وَعَن يسَاره وَمن خَلفه.
وَقيل: هُوَ فِي الْآخِرَة.
وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: قَوْله {أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه} هُوَ أَبُو جهل، وَقَوله: {أم من يمشي سويا على صِرَاط مُسْتَقِيم} هُوَ عمار بن يَاسر.
وَحكى بَعضهم عَن ابْن عَبَّاس: أَنه حَمْزَة بن عبد الْمطلب وكنيته أَبُو عمَارَة.(6/13)
{قل هُوَ الَّذِي أنشأكم وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون (23) قل هُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض وَإِلَيْهِ تحشرون (24) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (25) قل إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زلفة سيئت وُجُوه الَّذين كفرُوا وَقيل هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تدعون (27) } .(6/14)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)
قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ الَّذِي أنشأكم وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون} أَي: قل شكركم لهَذِهِ النعم.(6/14)
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قَوْله تَعَالَى (قل هُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض) أَي: خَلقكُم فِي الأَرْض {وَإِلَيْهِ تحشرون} أَي: فِي الْآخِرَة.(6/14)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي: الْقِيَامَة.(6/14)
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله} أَي: علم السَّاعَة عِنْد الله.
وَقَوله: {وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين} أَي: مُنْذر بَين النذارة.(6/14)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
قَوْله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زلفة} قَالَ الْمبرد وثعلب: أَي: رَأَوْا الْعَذَاب حَاضرا.
وَقيل: قَرِيبا.
وَقَوله: {سيئت وُجُوه الَّذين كفرُوا} أَي: تبين السوء والكآبة فِي وجهوهم.
وَيُقَال: اسودت وُجُوههم.
قَوْله تَعَالَى: {وَقيل هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تدعون} وَقُرِئَ فِي الشاذ: " تدعون " بِغَيْر تَشْدِيد.
وَعَن بَعضهم: أَن تدعون وتدعون بِمَعْنى وَاحِد، فَقَوله: {تدعون} أَي: تدعون الله بِهِ.
وَقَوله: {تدعون} أَي: تتداعون بِهِ، وَهُوَ مثل قَوْله {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء} وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى: {قَالُوا رَبنَا عجل لنا قطنا} أَي: نصيبنا من الْعَذَاب.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: تدعون افتعال من الدُّعَاء.
وَعَن بَعضهم: تدعون أَي: تكذبون.
وَيُقَال: تَسْتَعْجِلُون(6/14)
{قل أَرَأَيْتُم إِن أهلكني الله وَمن معي أَو رحمنا فَمن يجير الْكَافرين من عَذَاب أَلِيم (28) قل هُوَ الرَّحْمَن آمنا بِهِ وَعَلِيهِ توكلنا فستعلمون من هُوَ فِي ظلال مُبين (29) قل أَرَأَيْتُم إِن أصبح ماؤكم غورا فَمن يأتيكم بِمَاء معِين (30) } . وتمترون وتختلفون.
وَقيل: تدعون تمنون.
تَقول الْعَرَب لغيره: ادْع مَا شِئْت أَي: تمن، وَهَذَا القَوْل يقرب من القَوْل الأول.(6/15)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)
قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن أهلكني الله وَمن معي أَو رحمنا} قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ الْكفَّار يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه أَكلَة رَأس، يهْلكُونَ عَن قريب، وكل يرجون الأباطيل فِي حق الرَّسُول وَأَصْحَابه، فَقَالَ الله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن أهلكني الله وَمن معي أَو رحمنا} يَعْنِي: إِن نجونا أَو هلكنا {فَمن يجير الْكَافرين من عَذَاب أَلِيم} أَي: فَمن يجيركم من عَذَاب الله تَعَالَى وَقد كَفرْتُمْ بِهِ.(6/15)
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)
قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ الرَّحْمَن آمنا بِهِ وَعَلِيهِ توكلنا فستعلمون من هُوَ فِي ظلال مُبين} أَي: خطأ بَين، وتباعد من الْحق وضلال عَنهُ.
قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن أصبح ماؤكم غورا} أَي: غائرا، وَمَعْنَاهُ: ذَاهِبًا.
قَالَ قَتَادَة: وَيُقَال: لَا تناله الدلاء، قَالَه سعيد بن جُبَير.
وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي بِئْر زَمْزَم وبئر مَيْمُون، وهما بِمَكَّة.(6/15)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
وَقَوله: {فَمن يأتيكم بِمَاء معِين} قَالَ ثَعْلَب: أَي ظَاهر.
وَهُوَ مَنْقُول عَن الْحسن وَقَتَادَة وَمُجاهد وَغَيرهم.
وَيُقَال: بِمَاء عذب، وَيُقَال: بِمَاء جَار.
يَعْنِي: أَن الله هُوَ الْقَادِر أَن يَأْتِي بِهِ، وَلَا تصلونَ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِكُمْ.(6/15)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْقَلَم
وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول الْأَكْثَرين.
وَعَن بَعضهم: أَن بَعْضهَا مَكِّيَّة، وَبَعضهَا مَدَنِيَّة.(6/16)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
قَوْله تَعَالَى: {ن} اخْتلف القَوْل فِيهِ؛ قَالَ مُجَاهِد: هِيَ السَّمَكَة الَّتِي عَلَيْهَا قَرَار الْأَرْضين.
وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن جَمِيع الْمِيَاه تنصب من شدقها.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه اسْم من أَسمَاء السُّورَة.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه حرف من حُرُوف التهجي.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن " الر " و " حم " و " ن " مَجْمُوع من اسْم الرَّحْمَن.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن النُّون هِيَ الدواة، وَهُوَ قَول الْحسن وَقَتَادَة، وَفِيه خبر مأثور بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله خلق أول مَا خلق الْقَلَم، ثمَّ خلق النُّون وَهِي الدواة، ثمَّ قَالَ للقلم: اكْتُبْ.
فَقَالَ: وَمَا أكتب؟ ! فَقَالَ: اكْتُبْ مَا يكون وَمَا كَانَ من عمل وَأجل ورزق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
فَكتب الْقَلَم وَختم الله على فيِّ الْقَلَم فَلم ينْطق، وَلَا ينْطق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ خلق الْعقل، وَقَالَ لَهُ: مَا خلقت خلقا أعجب إِلَيّ مِنْك، وَعِزَّتِي لأكملنك فِيمَن أَحْبَبْت، ولأنقصنك فِيمَن أبغضت، ثمَّ قَالَ النَّبِي: " أكمل النَّاس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بِطَاعَتِهِ، وأنقص النَّاس عقلا أطوعهم للشَّيْطَان وأعملهم بِطَاعَتِهِ ".(6/16)
{ن والقلم وَمَا يسطرون (1) مَا أَنْت بِنِعْمَة رَبك بمجنون (2) وَإِن لَك لأجرا} .
قَوْله {والقلم} فِي التَّفْسِير: أَنه خلق من نور، وَطوله مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض.
وَفِي خبر عبَادَة بن الصَّامِت أَن النَّبِي قَالَ: " أول مَا خلق الله الْقَلَم وَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ.
فَقَالَ: وَمَا أكتب؟ قَالَ: مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَاخْتلف القَوْل فِي هَذِه الدواة والقلم، الْأَكْثَرُونَ أَنه الدواة والقلم الَّذِي كتب بِهِ الذّكر فِي السَّمَاء.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الدواة والقلم الَّذِي يكْتب بِهِ بَنو آدم.
وَمعنى الْآيَة هُوَ الْقسم، وَللَّه أَن يقسم بِمَا شَاءَ من خلقه.
وَقَالَ قَتَادَة: لَوْلَا الْقَلَم مَا قَامَ لله دين، وَلَا كَانَ لِلْخلقِ عَيْش.
وَقَوله: {وَمَا يسطرون} أَي: مَا يَكْتُبُونَ من أَعمال بني آدم يَعْنِي: الْمَلَائِكَة.
وَحكى النقاش عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْكفَّار لَا يكْتب لَهُم حَسَنَات وَلَا سيئات، وَإِنَّمَا يكْتب ذَلِك للْمُؤْمِنين وَمَا يَفْعَلُونَ من الْحَسَنَات فِي الدُّنْيَا ويكافئون عَلَيْهَا، وَمَا يَفْعَلُونَ من السَّيِّئَات، فالشرك أعظم من ذَلِك كُله.(6/17)
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)
قَوْله تَعَالَى: {مَا أَنْت بِنِعْمَة رَبك بمجنون} هَذَا مَوضِع الْقسم، وَهُوَ جَوَاب لقَولهم على مَا حكى الله تَعَالَى عَنْهُم: {وَقَالُوا يَا أَيهَا الَّذِي نزل عَلَيْهِ الذّكر إِنَّك لمَجْنُون} .
وَقَوله: {بِنِعْمَة رَبك} أَي: برحمة رَبك.
وَيُقَال: بإنعامه عَلَيْك، كَأَنَّهُ نفى عَنهُ الْجُنُون بِمَا أنعم الله عَلَيْهِ، كَمَا يَقُول الْقَائِل لغيره: أَنْت عَاقل أَو غَنِي بِنِعْمَة الله عَلَيْك.(6/17)
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
وَقَوله: {وَإِن لَك لأجرا غير ممنون} أَي: غير مُنْقَطع.
وَيُقَال: غير مَحْسُوب.
وَيُقَال: غير ممتن بِهِ عَلَيْك.(6/17)
{غير ممنون (3) وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم (4) } .(6/18)
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
وَقَوله: {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} أَي: على الْخلق الَّذِي أدبك الله بِهِ مِمَّا نزل بِهِ الْقُرْآن من الْإِحْسَان إِلَى النَّاس، وَالْعَفو، والتجاوز، وصلَة الْأَرْحَام، وَإِعْطَاء النصفة، وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَفِي حَدِيث سعد بن هِشَام أَنه سَأَلَ عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن خلق النَّبِي فَقَالَت: " كَانَ خلقه الْقُرْآن ".
أَي: كَانَ مُوَافقا لما نزل بِهِ الْقُرْآن.
وَفِي رِوَايَة أَنَّهَا قَالَت: " لم يكن رَسُول الله فحاشا وَلَا متفحشا، وَلَا يُجزئ السَّيئَة بِمِثْلِهَا، وَلَكِن يعْفُو ويصفح ".
وَقَالَ السّديّ: وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم أَي: على الْإِسْلَام.
وَقَالَ زيد بن أسلم: على دين عَظِيم، وَهُوَ الدّين الَّذِي رضيه الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة، وَهُوَ أحب الْأَدْيَان إِلَى الله تَعَالَى.
وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى خلق مائَة وَسَبْعَة عشر خلقا، فَمن جَاءَ بِوَاحِدَة مِنْهَا دخل الْجنَّة ".
وَعنهُ أَنه قَالَ: " بعثت لأتمم مصَالح(6/18)
{فستبصر ويبصرون (5) بأيكم الْمفْتُون (6) } . الْأَخْلَاق ".
وَقيل: على خلق عَظِيم أَي: طبع كريم.(6/19)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
قَوْله: {فستبصر ويبصرون بأيكم الْمفْتُون} وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة الْبَاء صلَة.
وَمَعْنَاهُ: أَيّكُم الْمفْتُون، وَأنْشد شعرًا:
(نضرب بِالسَّيْفِ ونرجوا بالفرج ... )
أَي: الْفرج.
وَأما الْفراء والزجاج وَسَائِر النَّحْوِيين لم يرْضوا هَذَا القَوْل، وَذكروا قَوْلَيْنِ آخَرين: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {بأيكم الْمفْتُون} أَي: بأيكم الْفِتْنَة يُقَال: مَا لفُلَان مَعْقُول وَلَا مجلود أَي: عقل وَلَا جلد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: بأيكم الْمفْتُون أَي: فِي أَيّكُم الْمفْتُون (يَعْنِي) : فِي الْفرْقَة الَّتِي فِيهَا رَسُول الله وَأَصْحَابه، أَو فِي الْفرْقَة الَّتِي فِيهَا أَبُو جهل وذووه.
وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنكُمْ تبصرون يَوْم الْقِيَامَة، وتعلمون أَن الْمَجْنُون كَانَ فِيكُم، لَا فِي رَسُول الله وَأَصْحَابه أَي: فِي الْفرْقَة الَّتِي فِيهَا رَسُول الله وَأَصْحَابه.
وَذكر النّحاس قَوْلَيْنِ أَيْضا قَالَ: معنى قَوْله {بأيكم الْمفْتُون} أَي: بأيكم فتْنَة الْمفْتُون مثل قَوْله(6/19)
{إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين (7) فَلَا تُطِع المكذبين (8) ودوا لَو تدهن فيدهنون (9) وَلَا تُطِع كل حلاف مهين (10) هماز مشاء} . تَعَالَى: {واسأل الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة.(6/20)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين} ظَاهر الْمَعْنى.(6/20)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تُطِع المكذبين} يَعْنِي: المكذبين بآيَات الله.(6/20)
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
وَقَوله: {ودوا لَو تدهن فيدهنون} أَي: تضعف فِي أَمرك فيضعفون، أَو تلين لَهُم فيلينون.
والمداهنة معاشرة فِي الظَّاهِر، ومحالمة من غير مُوَافقَة الْبَاطِن.
وَقَالَ القتيبي فِي معنى الْآيَة: إِن الْكفَّار قَالُوا للنَّبِي نعْبد مَعَك إلهك مُدَّة، وَتعبد مَعنا إلهنا مُدَّة، فَهُوَ معنى قَوْله: {ودوا لَو تدهن فيدهنون} أَي: تميل إِلَى مُرَادهم فيميلون إِلَى مرادك.(6/20)
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُطِع كل حلاف مهين} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة.
وَعَن مُجَاهِد: هُوَ الْأسود بن عبد يَغُوث.
وَعَن بَعضهم: هُوَ الْأَخْنَس بن شريق.
وَقيل: هُوَ على الْعُمُوم.
وَقَوله: {كل حلاف} أَي: كثير الْحلف.
وَقَوله: {مهين} أَي: حقير، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا: قلَّة الرَّأْي والتمييز.(6/20)
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
وَقَوله: {هماز} أَي: (عتاب) مغتاب طعان فِي النَّاس.
وَقَوله: {مشاء بنميم} أَي: بالنميمة، وَهُوَ نقل الحَدِيث من قوم إِلَى قوم.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة حُذَيْفَة أَنه قَالَ: " لَا يدْخل الْجنَّة قَتَّات) أَي: نمام.
وَعنهُ(6/20)
{بنميم (11) مناع للخير مُعْتَد أثيم (12) عتل} . عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ: " شرار النَّاس المشاءون بالنميمة الباغون للبراء الْعَنَت ".
وَعَن يحيى بن أبي كثير قَالَ: يفْسد النمام فِي يَوْم مَا لَا يُفْسِدهُ السَّاحر فِي شهر.(6/21)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
وَقَوله: {مناع للخير} أَي: بخيل: وَيُقَال: مناع من الْإِسْلَام.
وَكَانَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة قَالَ لِبَنِيهِ وَأَهله: من أسلم مِنْكُم قطعت مِنْهُ رفدي ورفقي.
وَقَوله: {مُعْتَد} أَي: متجاوز فِي الظُّلم.
وَقَوله: {أثيم} أَي: كثير الْإِثْم.(6/21)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)
قَوْله: {عتل} أَي: الْفَاحِش الْخلق.
وَقيل: الجافي الغليظ.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: من يعْمل السوء وَيعرف بِهِ.
أوردهُ النقاش.
وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَلا أنبئكم بِأَهْل النَّار؟ كل جعظري جواظ صخاب بالأسواق، جيفة بِاللَّيْلِ حمَار بِالنَّهَارِ، وعالم بالدنيا جَاهِل بِالآخِرَة ".
فَمَعْنَى الجعظري: هُوَ الأكول الشروب الظلوم، وَهُوَ كالعتل.
والجواظ: هُوَ الْجِمَاع المناع، ذكره شَدَّاد بن أَوْس، وَقَالَ ثَعْلَب: الجواظ: هُوَ الْكثير اللَّحْم المختال فِي مشيته.
وَيُقَال: فلَان جظ، أَي: ضخم.(6/21)
{بعد ذَلِك زنيم (13) أَن كَانَ ذَا مَال وبنين (14) إِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا قَالَ أساطير الْأَوَّلين (15) سنسمه على الخرطوم (16) إِنَّا بلوناهم}
وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار أَن النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: " تبْكي السَّمَاء من عبد أصح الله جِسْمه، وأرحب جَوْفه، وَأَعْطَاهُ مقضما ثمَّ يكون ظلوما، وتبكي السَّمَاء من شيخ زَان، وتكاد الأَرْض لَا تقله ".
وَقَوله: {بعد ذَلِك زنيم} أَي: دعِي.
وَقيل: ملصق بالقوم وَلَيْسَ مِنْهُم.
وَيُقَال: الَّذِي لَهُ زنمة فِي الشَّرّ يعرف بهَا مثل زنمة الشَّاة.
قَالَ حسان فِي الزنيم:
(زنيم تداعاه الرِّجَال زِيَادَة ... كَمَا زيد فِي عرض الْأَدِيم الأكاريع)(6/22)
أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {أَن كَانَ ذَا مَال وبنين} وَقُرِئَ: " أأن كَانَ ".
فَقَوله: {أَن} أَي: لِأَن كَانَ ذَا مَال وبنين يفعل كَذَا وَيَقُول كَذَا أَي: لأجل أَنه.
وَقَوله: " أأن كَانَ " أَي: وَلَا تطعه، وَإِن كَانَ ذَا مَال وبنين.(6/22)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
وَقَوله: {إِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا قَالَ أساطير الْأَوَّلين} قد بَينا.
والأساطير وَاحِدهَا أسطورة.
وَقَالَ الْكسَائي: ترهات من الْكَلَام لَا نظام لَهَا.(6/22)
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
وَقَوله تَعَالَى: {سنسمه على الخرطوم} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة والمبرد وَغَيرهمَا: الخرطوم: الْأنف.
وَمَعْنَاهُ: يَجْعَل على أَنفه سمة يعرف بهَا أَنه من أهل النَّار.
قَالَ جرير:
(لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعَلى البعيث جدعت أنف الأخطل)
وَيُقَال: معنى قَوْله: {سنسمه على الخرطوم} أَي: سنسود وَجهه، (وَوصف) الْأنف مَوضِع الْوَجْه لِأَنَّهُ مِنْهُ.
وَقيل: يلصق بِهِ عارا ومسبة وشيئا لَا يُفَارِقهُ أبدا.(6/22)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا بلوناهم} أَي: أهل مَكَّة، وَذَلِكَ حِين دَعَا رَسُول الله(6/22)
{كَمَا بلونا أَصْحَاب الْجنَّة إِذْ أَقْسمُوا ليصرمنها مصبحين (17) وَلَا يستثنون (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طائف من رَبك وهم نائمون (19) } وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كسنى يُوسُف؛ فَأَصَابَهُمْ الْجُوع حَتَّى أكلُوا العلهز وَالْعِظَام الْمُحْتَرِقَة ".
وَقَوله: {كَمَا بلونا أَصْحَاب الْجنَّة} فِي أَكثر التفاسير أَن هَذَا رجل شيخ بِالْيمن كَانَ لَهُ بنُون، وَله بُسْتَان يتَصَدَّق مِنْهُ على الْمَسَاكِين، وَينْفق مِنْهُ على نَفسه وَأَوْلَاده.
وَيُقَال: كَانَ يتَصَدَّق بِالثُّلثِ، وَينْفق على نَفسه وَأَوْلَاده الثُّلُث، وَيرد الثُّلُث فِي عمَارَة الْجنَّة، فَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخ قَالَ بنوه: الْعِيَال كثير، والدخل قَلِيل وَلَا يَفِي بِإِعْطَاء الْمَسَاكِين، فتوافقوا على أَن يذهبوا إِلَى الْبُسْتَان حِين يُصْبِحُونَ على سدفة من اللَّيْل، فيصرموا ويقطعوا قبل أَن يعلم الْمَسَاكِين.
وَكَانَ الْمَسَاكِين قد اعتادوا الْحُضُور عِنْد الْجذاذ والصرام؛ فحين اتَّفقُوا على ذَلِك أرسل الله تَعَالَى نَارا من السَّمَاء فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَاحْتَرَقَ الْبُسْتَان وَالْأَشْجَار، وَيُقَال: إِن هَذَا الرجل هُوَ رجل من ثَقِيف.
وَقَوله: {إِذا أَقْسمُوا} أَي: حلفوا.
وَقَوله: {ليصرمنها مصبحين} أَي: يقطعون فِي الْوَقْت الَّذِي قُلْنَا.(6/23)
وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)
وَقَوله: {وَلَا يستثنون} أَي: لم يَقُولُوا: إِن شَاءَ الله.(6/23)
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)
وَقَوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طائف من رَبك} أَي: طرق طَارق من الْعَذَاب، وَهِي النَّار الَّتِي أرسلها الله تَعَالَى.
وَالْعرب لَا تسْتَعْمل الطَّائِف إِلَّا فِي الْعَذَاب.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى أَمر ملكا حَتَّى اقتلع تِلْكَ الْجنَّة بأشجارها وغروسها فوضعها فِي مَوضِع الطَّائِف الْيَوْم.
وَقَوله: {وهم نائمون} ذكرنَا.(6/23)
{فَأَصْبَحت كالصريم (20) فَتَنَادَوْا مصبحين (21) أَن اغدوا على حَرْثكُمْ إِن كُنْتُم صارمين (22) فَانْطَلقُوا وهم يتخافتون (23) أَن لَا يدخلنها الْيَوْم عَلَيْكُم مِسْكين (24) } .(6/24)
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
قَوْله: {فَأَصْبَحت كالصريم} أَي: كالليل المظلم.
وَيُقَال: كالنهار الَّذِي لَا شَيْء فِيهِ.
وَالْعرب تسمي العامر من الأَرْض نَهَارا لبياضه، والغامر لَيْلًا لسواده وخضرته.
والصريم من الأضداد، هُوَ اسْم لِليْل وَالنَّهَار جَمِيعًا؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يقطع عَن صَاحبه.
وَيُقَال: كالصريم أَي: المصروم فَاعل بِمَعْنى مفعول يَعْنِي: أَنه لم يبْق شَيْء فِيهَا.(6/24)
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
وَقَوله: {فَتَنَادَوْا مصبحين} أَي: نَادَى بَعضهم بَعْضًا عِنْد الصَّباح.(6/24)
أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)
وَقَوله: {أَن اغدوا على حَرْثكُمْ} أَي: اقصدوا حَرْثكُمْ.
وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَت لَهُم حروث وأعناب.
وَقَوله: {إِن كُنْتُم صارمين} أَي: قاطعين.
يُقَال: فِي الْعِنَب الصرام، وَفِي الزَّرْع الْحَصاد.
قَالَ الشَّاعِر:
(غَدَوْت عَلَيْهِ غدْوَة فَوَجَدته ... قعُودا عَلَيْهِ بالصريم عواذله)
والصريم هَا هُنَا: هُوَ الجرة السَّوْدَاء.
وَقد ذكره ابْن فَارس فِي معنى الصريم الَّذِي ذَكرْنَاهُ من قبل.
وَعَن ابْن جريج أَنه قَالَ: خرجت عنق من النَّار من جَوف وَادِيهمْ فأحرقت جنتهم.
وَقَوله: {إِن كُنْتُم صارمين} قَالَ مُجَاهِد: المُرَاد مِنْهُ صرام الْعِنَب.
وَكَانَ حرثهم الْعِنَب.(6/24)
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)
قَوْله: {فَانْطَلقُوا وهم يتخافتون} أَي: يَتَكَلَّمُونَ سرا وخفية، وَكَانَ كَلَامهم لَا يدخلنها الْيَوْم عَلَيْكُم مِسْكين أَي: لَا تتركوا الْمَسَاكِين [يدْخلُونَ] عَلَيْكُم.(6/24)
{وغدوا على حرد قَادِرين (25) فَلَمَّا رأوها قَالُوا إِنَّا لضالون (26) بل نَحن محرومون (27) قَالَ أوسطهم ألم أقل لكم لَوْلَا تسبحون (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبنَا إِن كُنَّا ظالمين} .(6/25)
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)
وَقَوله: {وغدوا على حرد قَادِرين} أشهر الْأَقَاوِيل أَن مَعْنَاهُ: على حسد، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَمُجاهد وَالْحسن وَجَمَاعَة.
وَعَن الشّعبِيّ وسُفْيَان أَنَّهُمَا قَالَا: على غضب.
أَي: على الْمَسَاكِين.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: " على حرد " أَي: على منع.
يُقَال: حاردت السّنة فَلَيْسَ فِيهَا مطر، وحاردت النَّاقة إِذا لم يكن بهَا لبن.
وَمعنى الْمَنْع هُوَ مَا عقدوه من منع الْمَسَاكِين.
وَعَن الْحسن فِي رِوَايَة: على حرص.
وَقيل: على قصد.
قَالَ الشَّاعِر:
(أقبل سيل جَاءَ من أَمر الله ... يحرد حرد الْجنَّة المغلة)
أَي: يقْصد.
وَعَن السّديّ: أَن الحرد اسْم جنتهم.
وَقَوله: {قَادِرين} أَي: قَادِرين عِنْد أنفسهم على الصرام.
وَقيل: " قَادِرين " أَي: على أَمر أسسوه بَينهم.(6/25)
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رأوها قَالُوا إِنَّا لضالون} يَعْنِي: أَنهم لما رَأَوْا مَوضِع الْجنَّة وَلَيْسَ فِيهَا شجر وَلَا نَبَات قَالُوا: إِنَّا لضالون أَي: أَخْطَأنَا طَرِيق جنتنا.(6/25)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
وَقَوله: {بل نَحن محرومون} مَعْنَاهُ: أَنهم تنبهوا على الْأَمر، وَعرفُوا أَنهم لم يخطئوا الطَّرِيق فَقَالُوا: بل نَحن محرومون أَي: نزل الْعَذَاب وحرمنا ثمار جنتنا.(6/25)
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أوسطهم} أَي: خَيرهمْ وأعدلهم.
وَمثله قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} أَي: عدلا خيارا.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: أعقلهم.
وَقَوله: {ألم أقل لكم لَوْلَا تسبحون} أَي: هلا قُلْتُمْ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَوضع التَّسْبِيح هَا هُنَا مَوضِع الْمَشِيئَة؛ لِأَن التَّسْبِيح هُوَ تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن كل سوء.
وَقَوله: إِن شَاءَ الله فِيهِ معنى التَّنْزِيه، وَهُوَ أَنه لَا يملك أحد فعل شَيْء إِلَّا بِمَشِيئَة، فينزه أَن(6/25)
( {29) فَأقبل بَعضهم على بعض يتلاومون (30) قَالُوا يَا ويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين (31) عَسى رَبنَا أَن يبدلنا خيرا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبنَا راغبون (32) كَذَلِك الْعَذَاب ولعذاب الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ (33) إِن لِلْمُتقين عِنْد رَبهم جنا النَّعيم (34) } .
يكون شَيْء فِي ملكه إِلَّا أَن يُريدهُ.
وَعَن عِكْرِمَة: أَنه كَانَ استثناؤهم هُوَ التَّسْبِيح يَعْنِي: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ مَكَان قَوْلنَا إِن شَاءَ الله: سُبْحَانَ الله.(6/26)
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)
وَقَوله: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين} أَي: بِمَنْع الْمَسَاكِين.(6/26)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30)
وَقَوله: {فَأقبل بَعضهم على بعض يتلاومون} أَي: يلوم بَعضهم بَعْضًا، فَيَقُول هَذَا لذاك: أَنْت فعلت والذنب لَك، وَيَقُول ذَلِك لصَاحبه مثله.(6/26)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31)
وَقَوله: {قَالُوا يَا ويلنا} دعوا بِالْوَيْلِ على أنفسهم.
وَقَوله: {إِنَّا طنا طاغين} أَي: ظالمين.(6/26)
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)
وَقَوله: {عَسى رَبنَا أَن يبدلنا خيرا مِنْهَا} هَذَا إِخْبَار عَن تَوْبَتهمْ وندامتهم، وسؤالهم من الله تَعَالَى أَن يبدلهم بجنتهم خيرا مِنْهَا فيعطوا حق الْمَسَاكِين.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى قبل تَوْبَتهمْ وَأَعْطَاهُمْ جنَّة خيرا مِنْهَا.
وَالله أعلم.
وَقَوله: {إِنَّا إِلَى رَبنَا راغبون} أَي: بسؤالنا.(6/26)
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
وَقَوله: {كَذَلِك الْعَذَاب} أَي: كَذَلِك عَذَاب الدُّنْيَا.
وَقَوله: {ولعذاب الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ} أَي: عَذَاب الْآخِرَة.
وَيُقَال: كَمَا عذبنا هَؤُلَاءِ وأنزلنا بهم، كَذَلِك نعذب قُريْشًا وننزله بهم.
وروى فِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى أنزل الْعَذَاب بهم يَوْم بدر، فَإِنَّهُم لما خَرجُوا إِلَى بدر قَالُوا: لنقتلنهم ولنقتلن مُحَمَّدًا ولنأسرنهم، وَنَرْجِع إِلَى مَكَّة فنطوف بِالْبَيْتِ ونحلق رءوسنا، وَنَشْرَب الْخمر، وتعزف على رءوسنا القيان، وحلفوا على ذَلِك، فأخلف الله ظنهم وَنزل بهم مَا نزل من الْقَتْل والأسر.(6/26)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)
قَوْله تَعَالَى: {إِن لِلْمُتقين عِنْد رَبهم جنَّات النَّعيم} لما ذكر عَذَاب الْكفَّار وَمَا ينزله بهم ذكر مَا وعده للْمُؤْمِنين من هَذِه الْآيَة؛ فروى أَن عتبَة بن ربيعَة قَالَ لما نزلت(6/26)
{أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين (35) مَا لكم كَيفَ تحكمون (36) أم لكم كتاب فِيهِ تدرسون (37) إِن لكم فِيهِ لما تخيرون (38) أم لكم أَيْمَان علينا بَالِغَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِن لكم لما تحكمون (39) سلهم أَيهمْ بذلك زعيم (40) أم لَهُم شُرَكَاء} . هَذِه الْآيَة: لَئِن أَعْطَاكُم الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة جنَّات النَّعيم فيعطينا مثل مَا يعطيكم أَو خيرا مِنْهَا،(6/27)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)
فَأنْزل الله تَعَالَى: {أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين} [أَي] : نسوي بَين الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين فِي إِعْطَاء جنَّات النَّعيم، وَهُوَ مَذْكُور على طَرِيق الْإِنْكَار أَي: لَا يفعل كَذَلِك.(6/27)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
وَقَوله: {مَا لكم كَيفَ تحكمون} أَي: كَيفَ تقضون؟ وَالْمرَاد من الحكم هُوَ حكمهم فِي أنفسهم بِالْجنَّةِ.(6/27)
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)
وَقَوله: {أم لكم كتاب فِيهِ تدرسون} أَي: تدرسون مَا تحكمون بِهِ.
وَقيل: ترددون النّظر فِيهِ، فتحكمون مِنْهُ لأنفسكم مَا حكمتم.(6/27)
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)
وَقَوله: {إِن لكم فِيهِ لما تخيرون} أَي: تختارون، وَهُوَ بَيَان لذَلِك الحكم.(6/27)
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)
وَقَوله تَعَالَى: {أم لكم أَيْمَان علينا بَالِغَة} أَي: مُؤَكدَة، وَمعنى الْبَالِغَة فِي كَلَام الْعَرَب فِي مثل هَذِه الْمَوَاضِع: هُوَ بُلُوغ النِّهَايَة، يُقَال: هَذَا شَيْء جيد بَالغ، أَي: بلغ النِّهَايَة فِي الْجَوْدَة.
وَقَوله: {إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} يَعْنِي: اللُّزُوم والثبات، وَقيل: ألكم أَيْمَان مُؤَكدَة أَلا نعذبكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {إِن لكم لما تحكمون} تَفْسِير لما وَقع عَلَيْهِ الْيَمين.(6/27)
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)
وَقَوله: {سلهم أَيهمْ بذلك زعيم} أَي: كَفِيل.(6/27)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
وَقَوله: {أم لَهُم شُرَكَاء} هَذَا على توسع الْكَلَام.
وَمَعْنَاهُ: عِنْدهم وَفِي زعمهم.
وَقيل: أم بِهَذَا شهد الشُّرَكَاء بِمَعْنى الشُّهَدَاء، ذكره النقاش.(6/27)
{فليأتوا بشركائهم إِن كَانُوا صَادِقين (41) يَوْم يكْشف عَن سَاق} .
وَقَوله: {فليأتوا بشركائهم إِن كَانُوا صَادِقين} أَي: بشركاء فيهم على زعمهم على القَوْل الأول، وعَلى القَوْل الثَّانِي بشهاداتهم إِن كَانُوا صَادِقين.(6/28)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يكْشف عَن سَاق} قَالَ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: عَن الْأَمر الشَّديد، وَفِي هَذِه الرِّوَايَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِذا أشكل عَلَيْكُم الْقُرْآن فالتمسوه فِي الشّعْر، فَإِنَّهُ ديوَان الْعَرَب، وَأنْشد:
(وَقَامَت الْحَرْب بِنَا على سَاق ... )
وَهَذَا قَول مَعْرُوف، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَت الْعَرَب إِذا اشْتَدَّ بهم الْأَمر عبروا بِهَذَا اللَّفْظ؛ لِأَن الْإِنْسَان إِذا وَقع لَهُ الْأَمر وَأَخذه بجد وَجهد يَقُول: شمر عَن سَاقه، فَوضعت السَّاق مَوضِع الشدَّة.
قَالَ الشَّاعِر:
(أَخُو الْحَرْب إِن عضت بِهِ الْحَرْب عضها ... وَإِن شمرت عَن سَاقهَا الْحَرْب شمرا)
وَقَالَ دُرَيْد بن الصمَّة:
(كميش الْإِزَار خَارج نصف سَاقه ... صبور على العوراء (طلاع) أنجد)
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن ابْن عَبَّاس: يَوْم يكْشف عَن سَاق أَي: عَن هول وكربة وَشدَّة، وَهُوَ بِمَعْنى الأول.
وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ أول سَاعَة من سَاعَات الْقِيَامَة، وَهِي أفظعها وأشدها على النَّاس.
هَذَا كُله قَول وَاحِد.
وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يكْشف رَبنَا عَن سَاقه فَيسْجد كل مُؤمن ومؤمنة، وَيذْهب المُنَافِقُونَ ليسجدوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ".
وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ نَحوا من هَذَا.
وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: يَوْم يكْشف عَن سَاق أَي: السّتْر بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَيُقَال: الغطاء بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، ومعناهما قريب.(6/28)
{وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشعة أَبْصَارهم ترهقهم ذلة وَقد كَانُوا يدعونَ إِلَى السُّجُود وهم سَالِمُونَ (43) }
وَقَوله: {وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} أَي: لَا يَسْتَطِيع المُنَافِقُونَ: السُّجُود.
وَفِي الْخَبَر: فيعقم أصلابهم أَي أصلاب الْمُنَافِقين وَقَوله: يعقم أَي: يصير طبقًا وَاحِدًا.
وَفِي رِوَايَة: تصير كسفا قيد الْحَدِيد.
وَفِي الْخَبَر بِرِوَايَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة مثل لكل قوم مَا كَانَ [يعبدونه] فِي الدُّنْيَا فيتبعونه، وَيبقى أهل التَّوْحِيد فَيُقَال لَهُم: قد ذهب النَّاس فَمَاذَا تنتظرون؟ فَيَقُولُونَ: إِن لنا رَبًّا كُنَّا نعبده.
فَيُقَال لَهُم: هَل تعرفونه لَو رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نعم.
فَيُقَال [لَهُم] : كَيفَ تعرفونه وَلم تروه؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّه لَا شبه لَهُ.
فَيكْشف لَهُم الْحجاب فَيسْجد كل مُؤمن ومؤمنة، وَيبقى المُنَافِقُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ السُّجُود، وَتصير ظُهُورهمْ كصياص الْبَقر.
فَيَقُول الله تَعَالَى للْمُؤْمِنين: ارْفَعُوا رءوسكم فقد جعلت بدل كل رجل [مِنْكُم رجلا] من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي النَّار ".(6/29)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
وَقَوله: {خاشعة أَبْصَارهم} أَي: ذليلة أَبْصَارهم، وَالْمرَاد مِنْهُ ذل الندامة وَالْحَسْرَة.
وَقَوله: {ترهقهم ذلة} أَي: يَغْشَاهُم الذل والهوان.
وَقَوله: {وَقد كَانُوا يدعونَ إِلَى السُّجُود وَهُوَ سَالِمُونَ} أَي: يدعونَ إِلَى صَلَاة الْجَمَاعَة وهم سَالِمُونَ أَي: معافون، والآن السُّجُود لَهُم (مهيات) .(6/29)
{فذرني وَمن يكذب بِهَذَا الحَدِيث سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ (44) وأملي لَهُم إِن كيدي متين (45) } .
وَظَاهر الْآيَة أَن مَعْنَاهَا السُّجُود فِي الصَّلَاة.
وَعَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ أَنه قَالَ: هُوَ الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: يدعونَ إِلَى السُّجُود بحي على الْفَلاح وهم سَالِمُونَ فَلَا يجيبون.(6/30)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)
قَوْله تَعَالَى: {فذرني وَمن يكذب بِهَذَا الحَدِيث} أَي: خَلِّنِي وإياه وَكله إِلَيّ لأجازيه بِعَمَلِهِ.
وَقيل ذَرْنِي أَي: لَا تشغل قَلْبك بِهِ، وَدعنِي وإياه فَإِنِّي مجازيه ومكافئه، وَهُوَ بِمَعْنى الأول.
وَالْعرب تَقول مثل هَذَا القَوْل، وَإِن لم يكن هُنَاكَ أحد يمنعهُ مِنْهُ، قَالَ الشَّاعِر:
(ذَرِينِي والثعلب أم سعد ... تُقِلني الأَرْض (أَو بَيْتك) أمالا)
وَقَوله: {سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ} الاستدراج فِي كَلَام الْعَرَب هُوَ الْأَخْذ قَلِيلا قَلِيلا، وَمِنْه درج الصَّبِي إِذا مَشى قَلِيلا قَلِيلا.
وروى عبد الرَّحْمَن بن دَاوُد الْخُرَيْبِي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ: الاستدراج هُوَ إسباغ النعم، وَمنع الشُّكْر.
وَقيل: هُوَ أَنه كلما جدد ذَنبا جدد الله لَهُ نعْمَة.
وَعَن عقبَة بن مُسلم قَالَ: إِذا كَانَ العَبْد على مَعْصِيّة الله ثمَّ أعطَاهُ الله مَا يحب، فَليعلم أَنه فِي اسْتِدْرَاج.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: كم من مستدرج يحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ، ومغرور يستر الله عَلَيْهِ.
(وَقيل) : سنستدرجهم أَي: نمكر بهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ.(6/30)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
وَقَوله: {وأملي لَهُم} أَي: أمهلهم وَلَا أباغتهم جَهرا، بل آخذهم وأمكر بهم قَلِيلا قَلِيلا.
وَقد بَينا معنى الْإِمْهَال والإملاء من قبل.
وَقَوله: {إِن كيدي متين} أَي: شَدِيد.(6/30)
{أم تَسْأَلهُمْ أجرا فهم من مغرم مثقلون (46) أم عِنْدهم الْغَيْب فهم يَكْتُبُونَ (47) فاصبر لحكم رَبك وَلَا تكن كصاحب الْحُوت إِذْ نَادَى وَهُوَ مكظوم (48) لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة من ربه لنبذ بالعراء وَهُوَ مَذْمُوم (49) فاجتباه ربه فَجعله من الصَّالِحين (59) وَإِن يكَاد الَّذين كفرُوا ليزلقونك بِأَبْصَارِهِمْ} .(6/31)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)
قَوْله تَعَالَى: {أم تَسْأَلهُمْ أجرا فهم من مغرم مثقلون} أَي: أجرا على تَبْلِيغ الرسَالَة فهم من الْغرم مثقلون.(6/31)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
وَقَوله: {أم عِنْدهم الْغَيْب فهم يَكْتُبُونَ} أَي: عِنْدهم اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَسَماهُ غيبا لِأَنَّهُ كتب فِيهِ مَا غَابَ عَن الْعباد.
وَقَوله: {فهم يَكْتُبُونَ} أَي: يَكْتُبُونَ مِنْهُ مَا يحكمون لأَنْفُسِهِمْ وَيَقَع بشهواتهم.(6/31)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
قَوْله تَعَالَى: {فاصبر لحكم رَبك وَلَا تكن كصاحب الْحُوت} أَي: فِي الضجر وَترك الصَّبْر.
وَيُقَال: لَا تغاضب كَمَا غاضب صَاحب الْحُوت، وَهُوَ ذُو النُّون، واسْمه يُونُس بن مَتى صلوَات الله عَلَيْهِ.
وَقَوله: {إِذْ نَادَى وَهُوَ مكظوم} أَي: مَمْلُوء كربا وغما.
وَيُقَال: كظم الْبَعِير بجرته إِذا حَبسهَا، وَالْمعْنَى: أَنه لم يجد للغم الَّذِي فِي قلبه نفاذا ومساغا فكظم عَلَيْهِ أَي: حَبسه.(6/31)
لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
وَقَوله: {لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة من ربه} أَي: رَحْمَة من ربه.
وَقَوله: {لنبذ بالعراء} العراء هُوَ وَجه الأَرْض.
وَيُقَال: الْمَكَان الْخَالِي البارز.
وَقَوله: {وَهُوَ مَذْمُوم} أَي: نبذ غير مَذْمُوم، وَلَوْلَا رَحْمَة ربه لَكَانَ مذموما.(6/31)
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
قَوْله تَعَالَى: {فاجتباه ربه} أَي: اصطفاه وَاخْتَارَهُ.
وَقَوله تَعَالَى: {فَجعله من الصَّالِحين} أَي: من عباده الصَّالِحين.
وَقد ذكرنَا قصَّته من قبل.(6/31)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يكَاد الَّذين كفرُوا ليزلقونك بِأَبْصَارِهِمْ} قَرَأَ ابْن عَبَّاس:(6/31)
{لما سمعُوا الذّكر وَيَقُولُونَ إِنَّه لمَجْنُون (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين (52) . " ليزهقونك بِأَبْصَارِهِمْ " والزلق هُوَ السُّقُوط، والإزلاق: الْإِسْقَاط.
وَفِي الْآيَة قَولَانِ معروفان: أَحدهمَا: ليزلقونك بِأَبْصَارِهِمْ أَي: يعتانونك، وَمَعْنَاهُ: يصيبونك بأعينهم.
ذكره الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل وَغَيرهمَا، وَذكره الْفراء أَيْضا فِي كِتَابه.
وروى أَن الرجل من الْعَرَب كَانَ يجوع نَفسه ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ يخرج فتمر عَلَيْهِ إبل جَاره أَو غنمه فَيَقُول: مَا أحْسنهَا، وَمَا أعظمها، وَمَا أسمنها وَمثل هَذَا؛ فَيسْقط (مِنْهَا} الْعدة فتهلك.
وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذَا كَانَ فِي بني أَسد من الْعَرَب وَكَانَ الرجل يعتان إبل الْوَاحِد مِنْهُم أَو الْغنم، ثمَّ يَقُول لغلامه: اذْهَبْ بمكتل وَدِرْهَم لتأْخذ لنا من لَحْمه، وَكَانَ يتَيَقَّن أَنه يسْقط فينحر.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة - وَهُوَ أحسن الْقَوْلَيْنِ - أَن المُرَاد مِنْهَا هُوَ أَنهم ينظرُونَ إِلَيْك نظر الْبغضَاء والعداوة فيكادون من شدَّة نظرهم أَي: يصرعونك ويسقطونك، وَهَذَا على مَذْهَب كَلَام الْعَرَب.
تَقول الْعَرَب: نظر فلَان نظرا يكَاد يصرعه أَو يَأْكُلهُ، أَو ينظر إِلَيّ فلَان نظرا يكَاد يصرعني أَو يكَاد يأكلني بِهِ أَي: لَو أمكنه أَن يصرعني بِهِ يصرعني أَو يأكلني بِهِ لأكلني.
وَهَذَا اخْتِيَار الزّجاج وَغَيره من أهل الْمعَانِي.
وأنشدوا:
(يتلاحظون إِذا الْتَقَوْا فِي موطن ... نظرا يزِيل (مَوَاطِن) الْأَقْدَام)
وَقَوله: {لما سمعُوا الذّكر} أَي: الْقُرْآن وَكَانَت عداوتهم وبغضاؤهم تشتد إِذا سَمِعُوهُ يقْرَأ الْقُرْآن.
وَقَوله: {وَيَقُولُونَ إِنَّه لمَجْنُون} اسْم سموهُ بِهِ.(6/32)
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
وَقَوله: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين} أَي: شرف للْعَالمين، وَهُوَ كِنَايَة عَن الرَّسُول.
وَالْأَظْهَر أَن الْقُرْآن ذكر للْعَالمين.
وَقيل: الرَّسُول مُذَكّر للْعَالمين، وَقد بَينا معنى الْعَالمين من قبل.(6/32)
تَفْسِير سُورَة الحاقة
وَهِي مَكِّيَّة
وَذكر النقاش فِي كِتَابه بروايته أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: تعرضت لرَسُول الله قبل أَن أسلم - فمضيت إِلَى الْمَسْجِد فَوَجَدته قد سبقني إِلَيْهِ، وَقَامَ يُصَلِّي فَقُمْت خَلفه - فَقَرَأَ سُورَة الحاقة، فَجعلت أتعجب من تأليف الْقُرْآن، وَأَقُول: هُوَ شَاعِر كَمَا يَقُوله قُرَيْش حَتَّى بلغ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم مَا هُوَ بقول شَاعِر} إِلَى آخر السُّورَة، فَعلمت أَنه لَيْسَ بشاعر، وَوَقع الْإِسْلَام فِي قلبِي.(6/33)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{الحاقة (1) مَا الحاقة (2) وَمَا أَدْرَاك مَا الحاقة (3) كذبت ثَمُود وَعَاد بالقارعة (4) فَأَما ثَمُود فأهلكوا بالطاغية (5) } .(6/34)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)
قَوْله تَعَالَى {الحاقة مَا الحاقة} هِيَ اسْم للقيامة.
وَسميت الْقِيَامَة حاقة؛ لِأَن فِيهَا حواق الْأُمُور، أَي: حقائقها.
وَيُقَال: لِأَنَّهَا حققت على كل إِنْسَان عمله من خير وَشر، وَتظهر جزاءه من الثَّوَاب وَالْعِقَاب.
قَالَ الْأَزْهَرِي: سميت حاقة؛ لِأَنَّهَا تحق الْكفَّار الَّذين حاقوا الْأَنْبِيَاء فِي الدُّنْيَا إنكارا لَهَا.
تَقول الْعَرَب: حاققت فلَانا فحققته، أَي خاصمته فَخَصمته.
وَقَوله: {مَا الحاقة} مَذْكُور على وَجه التَّعْظِيم والتفخيم.
قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(فدع عَنْك نهبا صِيحَ فِي حجراته ... وَلَكِن حَدِيث مَا حَدِيث الرَّوَاحِل)
فَمَا للاستفهام، وَهُوَ مَذْكُور فِي هَذَا الْموضع لتعظيم أَمر الرَّوَاحِل.
كَذَلِك هَاهُنَا.(6/34)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الحاقة} قَالَ ابْن عَبَّاس: كل مَا قَالَ " أَدْرَاك " فقد أعلم النَّبِي، وَمَا قَالَ: " وَمَا يدْريك " فَلم يُعلمهُ.
وَهُوَ مَذْكُور أَيْضا على طَرِيق التَّعْظِيم والتهويل.
وَمثله قَول أبي النَّجْم شعرًا:
(أَنا أَبُو النَّجْم وشعري شعري ... )(6/34)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)
قَوْله تَعَالَى: {كذبت ثَمُود وَعَاد بالقارعة} القارعة اسْم للقيامة أَيْضا.
قَالَ الْمبرد: سميت الْقِيَامَة قَارِعَة؛ لِأَنَّهَا تقرع الْقُلُوب، وتهجم عَلَيْهَا بالشدة وَالْكرب.(6/34)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)
وَقَوله: {فَأَما ثَمُود فأهلكوا بالطاغية} قَالَ مُجَاهِد: بطغيانهم، وَهُوَ قَول أبي(6/34)
{وَأما عَاد فأهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة (6) سخرها عَلَيْهِم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما فترى الْقَوْم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية (7) فَهَل ترى لَهُم من بَاقِيَة (8) } . عُبَيْدَة أَيْضا.
وَيُقَال: بالطاغية أَي: بالصيحة.
(وَقيل) : بالرجفة.
وسمى الصَّيْحَة طاغية؛ لِأَنَّهَا زَادَت على الْمِقْدَار الَّذِي تُطِيقهُ الأسماع.(6/35)
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
وَقَوله: {وَأما عَاد فأهلكوا برِيح صَرْصَر} أَي: ذَات برد شَدِيد.
وعَلى هَذَا القَوْل أَخذ من الصر وَهُوَ الْبرد.
وَقيل [هِيَ] ذَات صَيْحَة.
وعَلى هَذَا مَأْخُوذ من الصرة وَهِي الصَّيْحَة.
وَقَوله {عَاتِيَة} أَي: عَتَتْ على خزانها.
قَالَ قبيصَة بن ذُؤَيْب.
لم يُرْسل الله ريحًا إِلَّا بِقدر مَعْلُوم غير الرّيح الَّتِي أرسلها على عَاد، فَإِنَّهَا خرجت بِغَيْر قدر مَعْلُوم غَضبا بغضب الله تَعَالَى.
وَقد روى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس.
وَيُقَال: سمى هَذِه الرّيح عَاتِيَة؛ لِأَنَّهَا جَاوَزت الْمِقْدَار.(6/35)
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)
وَقَوله: {سخرها عَلَيْهِم} أَي: سلطها وأرسلها عَلَيْهِم {سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما} أَي: متتابعة.
وَقيل: مشائيم.
وَيُقَال: سَمَّاهَا حسوما؛ لِأَنَّهَا قَتلتهمْ وأفنتهم، من الحسم وَهُوَ الْقطع.
وَفِي التَّفْسِير: أَن ابتداءه كَانَ من غَدَاة يَوْم الْأَرْبَعَاء، وَيُقَال: من غَدَاة يَوْم الْأَحَد.
وَقَوله {فترى الْقَوْم فِيهَا صرعى} أَي: صرعوا وصاروا {كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل} أَي أصُول نخل مُنْقَطِعَة عَن أماكنها.
{خاوية} قَالَ الْأَزْهَرِي: سَمَّاهُ خاوية؛ لِأَنَّهَا إِذا (انقلعت) خلت أماكنها مِنْهَا.(6/35)
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
وَقَوله {فَهَل ترى لَهُم من بَاقِيَة} أَي: من نفس بَاقِيَة.
وَيُقَال: من بَقَاء.(6/35)
{وَجَاء فِرْعَوْن وَمن قبله والمؤتفكات بالخاطئة (9) فعصوا رَسُول رَبهم فَأَخذهُم أَخْذَة رابية (10) إِنَّا لما طغا المَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة (11) لنجعلها لكم تذكرة وَتَعيهَا أذن وَاعِيَة (12) } .(6/36)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَجَاء فِرْعَوْن وَمن قبله} وَقُرِئَ: " وَمن قبله " أَي: الْأُمَم الَّذين كَانُوا قبله.
وَقَوله: {والمؤتفكات} هِيَ قريات لوط.
فعلى هَذَا مَعْنَاهُ: وَأهل الْمُؤْتَفِكَات.
وَقيل الْمُؤْتَفِكَات: هم قوم لوط؛ لِأَنَّهُ ائتفك بهم.
وَقَوله: {بالخاطئة} أَي: بالْخَطَأ الْعَظِيم، أَي: بالذنب الْعَظِيم.(6/36)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)
وَقَوله: {فعصوا رَسُول رَبهم فَأَخذهُم أَخْذَة رابية} أَي: زَائِدَة على الأخذات.
وَيُقَال: زَاد الْعَذَاب على قدر أَعْمَالهم.(6/36)
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا لما طَغى المَاء} قَالَ سعيد بن جُبَير: غضب بغضب الله فطغى.
وَيُقَال: طَغى أَي: جَاوز الْمِقْدَار.
فَيُقَال: إِنَّه زَاد كل شَيْء فِي الْعَالم خَمْسَة [أَذْرع] .
وَقد قيل أَكثر من ذَلِك.
وَقَوله: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة} أَي: السَّفِينَة، وَجَمعهَا الْجَوَارِي وَهِي السفن.(6/36)
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
وَقَوله: {لنجعلها لكم تذكرة} أَي: عِبْرَة وعظة.
قَالَ قَتَادَة: أدْرك أَوَائِل هَذِه الْأمة سفينة نوح، وَكم من السفن قد هَلَكت، وَلَكِن الله تَعَالَى أبقى هَذِه السَّفِينَة تذكرة لهَذِهِ الْأمة وعبرة لَهَا.
وَيُقَال: جعلهَا لكم تذكرة، أَي: تَذكرُوا هَذِه الْقِصَّة فَتكون لكم وَلمن سَمعهَا عِبْرَة وعظة.
وَقَوله تَعَالَى: {وَتَعيهَا أذن وَاعِيَة} أَي: أذن عقلت أَمر الله وعملت بِهِ.
وروى مَكْحُول أَن هَذِه الْآيَة لما نزلت قَالَ النَّبِي لعَلي رَضِي الله عَنهُ: " سَأَلت الله أَن يَجْعَلهَا أُذُنك ".
قَالَ عَليّ: فَمَا سَمِعت بعد ذَلِك شَيْئا فَنسيته.(6/36)
{فَإِذا نفخ فِي الصُّور نفخة وَاحِدَة (13) وحملت الأَرْض وَالْجِبَال فدكتا دكة وَاحِدَة (14) فَيَوْمئِذٍ وَقعت الْوَاقِعَة (15) وانشقت السَّمَاء فَهِيَ يَوْمئِذٍ واهية (16) وَالْملك على أرجائها وَيحمل عرش رَبك فَوْقهم يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَة (17) يَوْمئِذٍ} .(6/37)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا نفخ فِي الصُّور} قد بَينا معنى الصُّور.
وَقَوله: {نفخة وَاحِدَة} أَي: النفخة الأولى.
وَقَوله: {وَاحِدَة} أَي: لَيست لَهَا مثنوية.(6/37)
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)
وَقَوله تَعَالَى: {وحملت الأَرْض وَالْجِبَال فدكتا دكة وَاحِدَة} أَي: زلزلتا زَلْزَلَة وَاحِدَة.
وَيُقَال: فتتا فتة وَاحِدَة.
وَقيل: ضرب أَحدهمَا بِالْآخرِ فانهدمتا وهلكتا.(6/37)
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)
وَقَوله: {فَيَوْمئِذٍ وَقعت الْوَاقِعَة} أَي: قَامَت الْقِيَامَة.(6/37)
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)
وَقَوله: {وانشقت السَّمَاء فَهِيَ يَوْمئِذٍ واهية} أَي: ضَعِيفَة.
قَالَ عَليّ بن أبي طَالب: تَنْشَق من المجرة.
يُقَال: شقا واه أَي: ضَعِيف متخرق.
وَمن أمثالهم:
(خل سَبِيل من وهى شقاؤه ... وَمن هريق بالفلاة مَاؤُهُ)
وَقيل: فَهِيَ يَوْمئِذٍ واهية، أَي: منشقة منخرقة، لِأَن مَا وهى ينشق ويتخرق.(6/37)
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
وَقَوله: {وَالْملك على أرجائها} أَي: على أطرافها.
قَالَ الْكسَائي: على حافتها.
وَقيل: على (مَوَاضِع) شقوقها ينظرُونَ إِلَى الدُّنْيَا.
وَقَوله: {وَيحمل عرش رَبك فَوْقهم يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَة يَوْمئِذٍ تعرضون} قيل: ثَمَانِيَة صُفُوف من الْمَلَائِكَة.
وَفِي جَامع أبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ بِرِوَايَة الْأَحْنَف بن قيس عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أَن النَّبِي كَانَ جَالِسا فِي عِصَابَة من أَصْحَابه، فمرت سَحَابَة فَقَالَ: " هَل تَدْرُونَ مَا اسْم هَذِه؟ قَالُوا: نعم، هَذَا السَّحَاب.
قَالَ رَسُول الله: المزن؟ قَالُوا: والمزن.
قَالَ رَسُول الله: والعنان؟ قَالُوا: والعنان.
قَالَ لَهُم رَسُول الله:(6/37)
تَدْرُونَ كم بعد مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض؟ قَالُوا: لَا، وَالله مَا نَدْرِي.
قَالَ: فَإِن بعد مَا بَينهمَا إِمَّا وَاحِدَة وَإِمَّا اثْنَتَانِ أَو ثَلَاث وَسَبْعُونَ سنة، وَالسَّمَاء الَّتِي فَوْقهَا كَذَلِك حَتَّى عدهن سبع سموات.
قَالَ: فَوق السَّمَاء السَّابِعَة بَحر بَين أَعْلَاهُ وأسفله كَمَا بَين السَّمَاء إِلَى السَّمَاء، وَفَوق ذَلِك ثَمَانِيَة أوعال بَين أظلافهن وركبهن مَا بَين سَمَاء إِلَى السَّمَاء، ثمَّ فَوق ظهورهن الْعَرْش بَين أَسْفَله وَأَعلاهُ مَا بَين السَّمَاء إِلَى السَّمَاء، وَالله فَوق ذَلِك.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك وَالِدي أَبُو مَنْصُور مُحَمَّد بن عبد الْجَبَّار السَّمْعَانِيّ، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن مَحْبُوب أخبرنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ أخبرنَا [عبد بن حميد] أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن سعد، عَن عَمْرو بن أبي قيس، عَن سماك بن حَرْب، عَن عبد الله بن عميرَة عَن الْأَحْنَف ابْن قيس، عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب ... الْخَبَر.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن من جملَة حَملَة الْعَرْش ملكا على صُورَة ديك، رِجْلَاهُ فِي تخوم الْأَرْضين وَرَأسه تَحت الْعَرْش، وَجَنَاح لَهُ بالمشرق وَجَنَاح لَهُ بالمغرب، إِذا سبح الله تَعَالَى سبح لَهُ كل شَيْء.
وروى الزُّهْرِيّ عَن أنس أَن النَّبِي قَالَ لجبريل " إِنِّي أُرِيد أَن أَرَاك فِي صُورَتك.
فَقَالَ: إِنَّك لَا تطِيق ذَلِك، فَقَالَ: أَنا أحب أَن تفعل، قَالَ: فَخرج رَسُول الله إِلَى الْبَطْحَاء، وَأرَاهُ جِبْرِيل نَفسه فِي صورته الَّتِي خلقه الله تَعَالَى عَلَيْهَا، وَجَنَاح لَهُ بالمشرق وَجَنَاح لَهُ بالمغرب، وَرَأسه فِي السَّمَاء، فغشى على النَّبِي ثمَّ أَفَاق وَرَأسه فِي حجر جِبْرِيل، وَقد وضع إِحْدَى يَدَيْهِ على صَدره وَالْأُخْرَى بَين كَتفيهِ، ثمَّ قَالَ: لَو رَأَيْت إسْرَافيل وَله اثْنَا عشر جنَاحا، وَالْعرش على كَاهِله، وَإنَّهُ لَيَتَضَاءَل أَحْيَانًا من خشيَة الله حَتَّى يصير مثل الْوَضع، فَلَا يحمل الْعَرْش(6/38)
{تعرضون لَا تخفى مِنْكُم خافية (18) فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَيَقُول هاؤم اقْرَءُوا كِتَابيه (19) إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي ملاق حسابيه (20) } . إِلَّا عَظمَة الله ".(6/39)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
وَقَوله تَعَالَى: {يَوْمئِذٍ تعرضون لَا تخفى مِنْكُم خافية} أَي: فعلة خافية وَالْمعْنَى: أَنه لَا يخفى شَيْء على الله تَعَالَى.
وَقد روى عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: حاسبوا أَنفسكُم قبل أَن تحاسبوا، وزنوا أَنفسكُم قبل أَن توزنوا، وتهيئوا للعرض الْأَكْبَر.
وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ: فِي الْقِيَامَة ثَلَاث عرضات: عرضتان جِدَال ومعاذير، والعرضة الثَّالِثَة فِيهَا تطاير الْكتب.
وَقد روى هَذَا مَرْفُوعا.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن عَائِشَة قَالَت: " يَا رَسُول الله، هَل تذكرُونَ أهاليكم يَوْم الْقِيَامَة؟ قَالَ: أما فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن فَلَا، وَذكر عِنْد تطاير الْكتب، وَعند الْمِيزَان، وعَلى الصِّرَاط ".(6/39)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)
قَوْله تَعَالَى: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَيَقُول هاؤم اقْرَءُوا كِتَابيه} أَي: تَعَالَوْا اقْرَءُوا كِتَابيه.
وَقيل: خُذُوا.
تَقول الْعَرَب للْوَاحِد: هَاء وللاثنين هاؤما، وللجماعة هاؤموا.
وَقد روى: " أَن رجل نَادَى رَسُول الله وَقَالَ: يَا مُحَمَّد.
فَقَالَ النَّبِي: هاؤم ".(6/39)
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)
وَقَوله: {إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي ملاق حسابيه} أَي: أيقنت.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِن(6/39)
{فَهُوَ فِي عيشة راضية (21) فِي جنَّة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أسلفتم فِي الْأَيَّام الخالية (24) وَأما من أُوتِيَ كِتَابه بِشمَالِهِ فَيَقُول يَا لَيْتَني لم أوت كِتَابيه (25) وَلم أدر مَا حسابيه (26) يَا ليتها كَانَت القاضية (27) مَا أغْنى عني مَالِيَّة (28) هلك عني سلطانيه (29) } . الْمُؤمن أحسن الظَّن بِاللَّه فَأحْسن الْعَمَل، وَإِن الْمُنَافِق أَسَاءَ الظَّن بِاللَّه فأساء الْعَمَل.(6/40)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
وَقَوله {فَهُوَ فِي عيشة راضية} أَي: ذَات رضَا.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مرضية.
وَيُقَال: عيشة راضية: الْجنَّة.(6/40)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22)
وَقَوله: {فِي جنَّة عالية} أَي: مُرْتَفعَة.(6/40)
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
وَقَوله تَعَالَى: {قطوفها دانية} قَالَ الْبَراء بن عَازِب: يَتَنَاوَلهَا قَائِما وَقَاعِدا ونائما، أَي: مُضْطَجعا.
وَمعنى دانية: قريبَة المتناول، لَا يمْنَع مِنْهَا بعد وَلَا شوك.(6/40)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
وَقَوله: {كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أسلفتم} أَي: قدمتم {فِي الْأَيَّام الخالية} أَي: الْمَاضِيَة، وَهِي فِي الدُّنْيَا.
وَعَن بَعضهم: أَن الْآيَة فِي الصائمين.(6/40)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25)
قَوْله تَعَالَى: {وَأما من أُوتِيَ كِتَابه بِشمَالِهِ فَيَقُول يَا لَيْتَني لم أوت كِتَابيه} أَي: كتابي(6/40)
وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)
{وَلم أدر مَا حسابيه} .
أَي: لم أتق حسابي، لِأَنَّهُ لَا يرى لحسابه حَاصِلا، وَيرى كل شَيْء عَلَيْهِ.(6/40)
يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)
وَقَوله: {يَا ليتها كَانَت القاضية} أَي: يَا لَيْت الْميتَة كَانَت قاضية أَي: لم أَحَي بعْدهَا، فقضت عَليّ الفناء أبدا.
وَقيل: يَا ليتها أَي: يَا لَيْتَني مت الْآن.(6/40)
مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)
وَقَوله: {مَا أغْنى عني مَالِيَّة} أَي: مَالِي.(6/40)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
وَقَوله: {هلك عني سلطانية} أَي: بطلت حجتي، وَلم يسمع عُذْري، وَإِنَّمَا لَا يسمع لِأَنَّهُ لَا عذر لَهُ.
وسمى السُّلْطَان سُلْطَانا؛ لِأَنَّهُ يُقَام عِنْده الْحجَج، أَو لِأَنَّهُ حجَّة على الْخلق ليقيموا أُمُورهم.
قَالَ قَتَادَة: لَيْسَ هُوَ أَن يَلِي قَرْيَة فيجيبها، وَلكنه أَرَادَ بِهِ سُلْطَانه على نَفسه، حَيْثُ ضيع مَا جعله الله لَهُ، وارتكب الْمعاصِي، وضيع الْأَوَامِر.(6/40)
{خذوه فغلوه (30) ثمَّ الْجَحِيم صلوه (31) ثمَّ فِي سلسلة ذرعها سَبْعُونَ ذِرَاعا فاسلكوه (32) إِنَّه كَانَ لَا يُؤمن بِاللَّه الْعَظِيم (33) وَلَا يحض على طَعَام الْمِسْكِين (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْم هَاهُنَا حميم (35) وَلَا طَعَام إِلَّا من غسلين (36) لَا يَأْكُلهُ إِلَّا الخاطئون (37) فَلَا أقسم بِمَا تبصرون (38) وَمَا لَا تبصرون (39) } .(6/41)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)
قَوْله تَعَالَى: {خذوه فغلوه} هُوَ من غل الْيَد إِلَى الْعُنُق.
وَقيل: يشد قدمه بِرَقَبَتِهِ ثمَّ يجر على وَجهه.(6/41)
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
وَقَوله: {ثمَّ الْجَحِيم صلوه} أَي: اشوه.(6/41)
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)
وَقَوله: {ثمَّ فِي سلسلة ذرعها سَبْعُونَ ذِرَاعا} قَالَ نوف الْبكالِي: كل ذِرَاع سَبْعُونَ باعا، وكل بَاعَ من هَاهُنَا إِلَى مَكَّة، وَكَانَ بِالْكُوفَةِ يَوْمئِذٍ.
وروى نَحوا من ذَلِك عَن سعيد بن جُبَير.
وَقَوله: (فاسلكوه) فِي التَّفْسِير: أَنَّهَا تدخل فِي فِيهِ حَتَّى تخرج من دبره، فَهُوَ معنى قَوْله {فاسلكوه} .(6/41)
إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
وَقَوله: {إِنَّه كَانَ لَا يُؤمن بِاللَّه الْعَظِيم وَلَا يحض على طَعَام الْمِسْكِين} أَي: لَا يحث.
قَالَ الْحسن: أدْركْت أَقْوَامًا يعزمون على أَهْليهمْ إِذا خَرجُوا أَن لَا يردوا سَائِلًا، وَأدْركت أَقْوَامًا كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يخلف أَخَاهُ فِي أَهله أَرْبَعِينَ عَاما.(6/41)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)
وَقَوله: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْم هَاهُنَا حميم} أَي: قريب.(6/41)
وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)
وَقَوله: {وَلَا طَعَام إِلَّا من غسلين} الغسلين: صديد أهل النَّار.
وَعَن الرّبيع بن أنس قَالَ: هُوَ شَجَرَة تخرج طَعَاما هُوَ أَخبث أَطْعِمَة أهل النَّار.
وَفِي الْخَبَر أَن دلوا من غسلين لَو صب فِي الدُّنْيَا لأنتن أهل الدُّنْيَا.(6/41)
لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
وَقَوله: {لَا يَأْكُلهُ إِلَّا الخاطئون} أَي: الْمُشْركُونَ.
وَيُقَال: أهل الْمعْصِيَة.(6/41)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38)
وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بِمَا تبصرون} أَي: أقسم، و " لَا " صلَة.(6/41)
وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)
وَقيل معنى (وَمَا لَا تبصرون) أَي: الْمَلَائِكَة.
وَفِي التَّفْسِير: أَن فِي الْآيَة ردا على الْمُشْركين(6/41)
{إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم (40) وَمَا هُوَ بقول شَاعِر قَلِيلا مَا تؤمنون (41) وَلَا بقول كَاهِن قَلِيلا مَا تذكرُونَ (42) تَنْزِيل من رب الْعَالمين (43) وَلَو تَقول علينا بعض الْأَقَاوِيل (44) لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) . حَيْثُ قَالَ بَعضهم: إِن مُحَمَّدًا سَاحر، وَهُوَ وليد بن الْمُغيرَة وَمن تبعه، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ شَاعِر، وَهُوَ أَبُو جهل وَمن تبعه، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ كَاهِن، وَهُوَ عقبَة بن أبي معيط وَمن تبعه.(6/42)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
وَقَوله: {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} أَي: رَسُول كريم على الله.
وَقيل: إِنَّه جِبْرِيل.
وَقيل: إِنَّه مُحَمَّد.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} وَإِنَّمَا هُوَ قَول الله تَعَالَى؟ .
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ تِلَاوَة رَسُول كريم، وَالثَّانِي: قَول الله وإبلاغ رَسُول كريم، فاتسع فِي الْكَلَام وَاكْتفى بالفحوى.(6/42)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)
وَقَوله: {وَمَا هُوَ بقول شَاعِر قَلِيلا مَا تؤمنون} أَي: لَا تؤمنون أصلا.
يَقُول الرجل لغيره: قَلِيلا مَا تَأتِينِي، أَي: لَا تَأتِينِي أصلا.(6/42)
وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)
وَقَوله: {وَلَا بقول كَاهِن} الكاهن هُوَ الَّذِي يخبر عَن الْغَيْب كذبا.
وَقيل: بِظَنّ وحدس لَا عَن علم.
وَقَوله تَعَالَى: {قَلِيلا مَا تذكرُونَ} أَي: لَا تتعظون أصلا كَمَا بَينا.(6/42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
وَقَوله: {تَنْزِيل من رب الْعَالمين} ظَاهر الْمَعْنى.(6/42)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو تَقول علينا بعض الْأَقَاوِيل} يَعْنِي: أَن مُحَمَّدًا لَو تَقول علينا بعض الْأَقَاوِيل، أَي: قَالَ مَا لم نَقله.(6/42)
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
وَقَوله: {لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أَي: بِالْقُوَّةِ.
أَي: انتقمنا مِنْهُ بقوتنا وقدرتنا، قَالَه مُجَاهِد. قَالَ الشماخ:(6/42)
{ثمَّ لقطعنا مِنْهُ الوتين (46) فَمَا مِنْكُم من أحد عَنهُ حاجزين (47) وَإنَّهُ لتذكرة لِلْمُتقين (48) وَإِنَّا لنعلم أَن مِنْكُم مكذبين (49) وَإنَّهُ لحسرة على الْكَافرين (50) وَإنَّهُ لحق الْيَقِين (51) فسبح باسم رَبك الْعَظِيم (52) } .
(رَأَيْت عرابة الأوسي يسمو ... إِلَى الْخيرَات مُنْقَطع القرين)
(إِذا مَا راية رفعت لمجد ... تلقاها [عرابة] بِالْيَمِينِ)
أَي: بِالْقُوَّةِ.
وَقَالَ مؤرخ: قَوْله: {لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} وَعَن ثَعْلَب: بِالْحَقِّ.
وَهُوَ مَرْوِيّ عَن السّديّ أَيْضا.
وَعَن الْحسن.
لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، أَي: أذهبنا قوته.
وَيُقَال: " لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ " هُوَ مثل قَول الْقَائِل: خُذ بِيَمِينِهِ إِذا فعل شَيْئا - أَي: بِالْقُوَّةِ - يسْتَحق الْعقُوبَة.(6/43)
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
وَقَوله: {ثمَّ لقطعنا مِنْهُ الوتين} أَي: نِيَاط الْقلب؛ فَإِذا انْقَطع لم يحي الْإِنْسَان بعده.
قَالَ الشماخ أَيْضا مُخَاطبا لناقته:
(إِذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بديم الوتين)(6/43)
فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
وَقَوله: {فَمَا مِنْكُم من أحد عَنهُ حاجزين} يَعْنِي.
إِنَّكُم تنسبونه إِلَى الْكَذِب عَليّ، وَلَو أَخَذته لم يقدر أحد مِنْكُم على دفعنَا عَنهُ.(6/43)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
وَقَوله: {وَإنَّهُ لتذكرة لِلْمُتقين} أَي: الْقُرْآن.(6/43)
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)
وَقَوله: {وَإِنَّا لنعلم أَن مِنْكُم مكذبين} أَي: بِالْقُرْآنِ وبالرسول.(6/43)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
وَقَوله: {وَإنَّهُ لحسرة على الْكَافرين} أَي: الْبَعْث حسرة على الْكَافرين.(6/43)
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)
وَقَوله: {وَإنَّهُ لحق الْيَقِين} أَي: الْبَعْث مَحْض الْيَقِين وَعين الْيَقِين.(6/43)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
وَقَوله: {فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} أَي: نزه رَبك الْعَظِيم، واذكره بأوصافه المحمودة اللائقة.
وَفِيه دَلِيل أَن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى، وَلَا فرق بَينهمَا.(6/43)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{سَأَلَ سَائل بِعَذَاب وَاقع (1) للْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافع (2) } .
تَفْسِير سُورَة المعارج
وَهِي مَكِّيَّة(6/44)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)
قَوْله تَعَالَى: {سَأَلَ سَائل بِعَذَاب وَاقع} أَي: وَاقع أَي: دَعَا دَاع.
وَالْآيَة نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة وَأَنه قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم فَنزلت هَذِه الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: {بِعَذَاب وَاقع} " الْبَاء " صلَة.
وَمَعْنَاهُ: دَعَا دَاع، وَالْتمس ملتمس عذَابا من الله تَعَالَى.
وَقَوله: {وَاقع} أَي: كَائِن حَاصِل فِي حق الْكَافرين، وَذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة يَقع بهم ذَلِك لَا محَالة.
وَقيل: هُوَ فِي الدُّنْيَا، وَقد وَقع ذَلِك بالنضر بن الْحَارِث، حَيْثُ قتل صبرا يَوْم بدر.
وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا معنى قَول مُجَاهِد وَغَيره.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: سَأَلَ سَائل عَن عَذَاب وَاقع، " فالباء " بِمَعْنى " عَن " قَالَه الْفراء وَغَيره.
وَالْمعْنَى: سَأَلَ سَائل بِمن يَقع الْعَذَاب؟ وعَلى من ينزل الْعَذَاب؟(6/44)
لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)
فَقَالَ الله تَعَالَى: {للْكَافِرِينَ} يَعْنِي: على الْكَافرين.
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " سَالَ سَائل " يُقَال: سَالَ بِمَعْنى سَأَلَ على الْهَمْز.
وَقيل: سَالَ سَائل أَي: وَاد فِي جَهَنَّم يسيل على الْكفَّار بِالْعَذَابِ.
وَقَوله تَعَالَى: {لَيْسَ لَهُ دَافع} أَي: لَا يدْفع الْعَذَاب على الْكَافرين أحد، وَلَا يمنعهُ مِنْهُم.(6/44)
{من الله ذِي المعارج (3) تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة (4) } .(6/45)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)
وَقَوله: {من الله ذِي المعارج} أَي: ذِي السَّمَوَات، وَسميت السَّمَوَات معارج، لِأَن الْمَلَائِكَة يعرجون إِلَيْهَا.
وَيُقَال: ذِي المعارج أَي: ذِي الفواضل.
وَيُقَال: ذِي الدَّرَجَات على معنى إكرامه الْمُؤمنِينَ بالدرجات وإعطائها إيَّاهُم.(6/45)
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
وَقَوله: {تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ} قد بَينا معنى الرّوح.
وَقيل: هم فِي خلق السَّمَاء يشبهون الْآدَمِيّين، وَلَيْسوا بآدميين.
وَقَوله: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ أصح الْقَوْلَيْنِ.
وروى الْحسن مُرْسلا وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ مُسْندًا فِي بعض الغرائب من الرِّوَايَات: " أَن الله تَعَالَى يخففه على الْمُؤمنِينَ، فَيَجْعَلهُ بِقدر صَلَاة مَكْتُوبَة خَفِيفَة ".
وَفِي بعض الْآثَار: " بِقدر مَا بَين الظّهْر إِلَى الْعَصْر ".
وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: من قَرَار الأَرْض إِلَى فَوق الْعَرْش خمسين ألف سنة.
وَقيل معنى قَوْله: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة} يَعْنِي: لَو عمل عَامل أَو حاسب محاسب مَا يعْمل الله تَعَالَى فِي سَاعَة أَو فِي يَوْم وَاحِد، لم يَنْقَطِع إِلَى خمسين ألف سنة.
وَعَن ابْن عَبَّاس فِي بعض الرِّوَايَات أَن قَوْله تَعَالَى: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة} وَقَوله: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره ألف سنة مِمَّا تَعدونَ} آيتان لَا يعلم مَعْنَاهُمَا إِلَّا الله.
وَمثله عَن قَتَادَة.(6/45)
{فاصبر صبرا جميلا (5) إِنَّهُم يرونه بَعيدا (6) ونراه قَرِيبا (7) يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ (8) وَتَكون الْجبَال كالعهن (9) وَلَا يسْأَل حميم حميما (10) يبصرونهم}
وَقَوله: إِن قَوْله: {ألف سنة} هُوَ مَسَافَة مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض صاعدا ونازلا.
وَقَوله: {خمسين ألف سنة} مَسَافَة مَا بَين الأَرْض إِلَى الْعَرْش صاعدا.
وَالله أعلم.(6/46)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)
وَقَوله: {فاصبر صبرا جميلا} أَي: صبرا لَا جزع فِيهِ وَلَا شكوى.
وَعَن قيس بن الْحجَّاج فِي قَوْله: {فاصبر صبرا جميلا} قَالَ: هُوَ أَن يكون صَاحب الْمُصِيبَة فِي الْقَوْم وَلَا يدرى من هُوَ، وَإِنَّمَا أمره بِالصبرِ؛ لِأَن الْمُشْركين كَانُوا يؤذونه، فَأمره بِالصبرِ إِلَى أَن ينزل بهم عَذَابه.(6/46)
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)
وَقَوله: {إِنَّهُم يرونه بَعيدا} أَي: الْعَذَاب.(6/46)
وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
وَقَوله: {ونراه قَرِيبا} لكَونه ووقوعه لَا محَالة.(6/46)
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ} أَي: كدردى الزَّيْت، وَيُقَال: كَعَكرِ القطران.
وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: هُوَ الْمُذَاب من جَوَاهِر الأَرْض مثل النّحاس والرصاص وَالْفِضَّة، فَالْكل مهل.(6/46)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَقَوله: {وَتَكون الْجبَال كالعهن} والعهن: الصُّوف الْمَصْبُوغ، وَشبهه بِهِ فِي ضعفه وَلينه.(6/46)
وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
وَقَوله: {وَلَا يسْأَل حميم حميما} أَي: لَا يسْأَل قريب عَن حَال قَرِيبه لشغله بِنَفسِهِ.
وَقُرِئَ: " وَلَا يسْأَل حميم حميما " أَي: لَا يسْأَل أحد أَيْن حميمك؟(6/46)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)
وَقَوله: {يبصرونهم} أَي: يعرفونهم.
وَمَعْنَاهُ: يعرف بَعضهم بَعْضًا، وَلَا يسْأَله عَن حَاله لشغله بِنَفسِهِ.
وَقيل: يعرف بَعضهم بَعْضًا بالسمات والعلامات، فَإِن لأهل الْجنَّة سمات وعلامات، وَكَذَلِكَ لأهل النَّار.(6/46)
{يود المجرم لَو يفتدي من عَذَاب يَوْمئِذٍ ببنيه (11) وصاحبته وأخيه (12) وفصيلته الَّتِي تؤويه (13) وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا ثمَّ ينجيه (14) كلا إِنَّهَا لظى (15) نزاعة للشوى (16) تَدْعُو من أدبر وَتَوَلَّى (17) وَجمع فأوعى}
وَقَوله: {يود المجرم لَو يفتدى من عَذَاب يَوْمئِذٍ ببنيه وصاحبته} أَي: امْرَأَته.
{وأخيه} هُوَ الْأَخ الْمَعْرُوف.(6/47)
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)
وَقَوله: {وفصيلته الَّتِي تؤويه} أَي: عشيرته الَّتِي يأوي إِلَيْهِم، وَقيل: أقربائه الأدنون.
والفصيلة أحضر وَأدنى من الْفَحْل.
وَيُقَال: الْعَبَّاس هُوَ من فصيلة الرَّسُول.(6/47)
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
وَقَوله: {وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا ثمَّ ينجيه} أَي: لَو يفتدى بِمن فِي الأَرْض جَمِيعًا لينجو فَلَا ينجو.(6/47)
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15)
وَقَوله: {كلا} هُوَ مَا بَينا من الْمَعْنى.
وَعَن عمر بن عبد الله مولى غفرة: أَن كل مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن " كلا " هُوَ بِمَعْنى كذبت.
وَقَوله: {إِنَّهَا لظى} اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم.
وَيُقَال: " إِنَّهَا لظى " عَذَاب لَازم لَا ينجو مِنْهَا أبدا.(6/47)
نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)
وَقَوله: {نزاعة للشوى} الْأَكْثَرُونَ أَن الشوى هُوَ الْأَطْرَاف مثل الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ وَغير ذَلِك.
وَذكر الْفراء أَنَّهَا جلدَة الرَّأْس.
وَقيل: قحف الرَّأْس.
وَيُقَال: الْجلد وَاللَّحم حَتَّى يبْقى الْعظم.
وَقيل: الْجلد وَاللَّحم والعظم إِلَى أَن يصل إِلَى الْقلب، وَهُوَ نضيج، ذكره مُجَاهِد.(6/47)
تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)
وَقَوله: {تَدْعُو من أدبر وَتَوَلَّى} أَي: تنادي من أدبر وَتَوَلَّى من الْكفَّار فَتَقول: يَا فلَان وتذكر اسْمه أقبل إِلَيّ وتأخذه.
وَقَالَ الْمبرد فِي قَوْله: {تَدْعُو} أَي: تعذب.
وروى عَن النَّضر عَن الْخَلِيل أَنه سمع أَعْرَابِيًا يَقُول لآخر: دعَاك الله، أَي: عذبك الله.
وَأما ثَعْلَب فَإِنَّهُ قَالَ: تناديهم وَاحِدًا وَاحِدًا بِأَسْمَائِهِمْ.
وَهُوَ الْأَظْهر.(6/47)
وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
وَقَوله: {وَجمع فأوعى} أَي: جمع المَال فأوعاه، أَي: جعله فِي وعَاء وأوكأ(6/47)
( {18) إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا (19) إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا (20) وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا (21) إِلَّا الْمُصَلِّين (22) الَّذين هم على صلَاتهم دائمون (23) وَالَّذين فِي أَمْوَالهم حق مَعْلُوم (24) للسَّائِل والمحروم (25) وَالَّذين} عَلَيْهِ، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْبُخْل وَمنع الْحق.(6/48)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)
قَوْله تَعَالَى {إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا} أَي: جزوعا.
قَالَ ثَعْلَب: سَأَلَني مُحَمَّد ابْن عبد الله بن طَاهِر عَن هَذِه الْآيَة، فَقلت: الْهَلَع أَسْوَأ الْجزع.
وَقيل: هلوعا: ضجرا.
وَعَن الْحسن: ضَعِيفا.
وَقَالَ الضَّحَّاك: بَخِيلًا.
وَعَن غَيرهم: حَرِيصًا.(6/48)
إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
وَيُقَال تَفْسِيره هُوَ قَوْله: {إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا} أَي: إِذا مَسّه الشَّرّ لم يصبر، وَإِذا مَسّه الْخَيْر لم يشْكر.(6/48)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
وَقَوله: {إِلَّا الْمُصَلِّين الَّذين هم على صلَاتهم دائمون} هَذَا الِاسْتِثْنَاء منصرف إِلَى ابْتِدَاء الْكَلَام، وَمَعْنَاهُ: أَن هَؤُلَاءِ ينجون من الْعَذَاب.
وروى سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: الْآيَة فِي الصَّلَوَات الْمَكْتُوبَة.
وَقيل: إدامتها هُوَ إِقَامَتهَا فِي أَوْقَاتهَا.
وَيُقَال: لَيست إدامتها أَن يُصَلِّي أبدا، وَلَكِن إدامتها أَنه إِذا صلى لم يلْتَفت يَمِينا وَلَا شمالا.
وَيُقَال: إدامة الصَّلَوَات: أَلا يَتْرُكهَا، وَهَذَا قَول حسن.
وَعَن بعض السّلف هُوَ أَلا يؤخرها عَن الْمَوَاقِيت؛ فَأَما إِذا تَركهَا كفرز(6/48)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
وَقَوله: {وَالَّذين فِي أَمْوَالهم حق مَعْلُوم للسَّائِل} وَهُوَ الطّواف الَّذِي يسْأَل (عَن) النَّاس.
وَقَوله: {والمحروم} هُوَ الَّذِي لَا يسْأَل، وَيُقَال: هُوَ المحارف، وَقيل: الْمَحْدُود.
وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد.
يُقَال: فلَان مجدود، وَفُلَان مَحْدُود، والمجدود الَّذِي يُوَافقهُ الْجد، والمحدود المحروم.
قَالَ ابْن عمر: المحروم هُوَ الْكَلْب.
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: أعياني أَن أعرف معنى المحروم.
وَقيل: هُوَ الْفَقِير الَّذِي لَا شَيْء لَهُ.(6/48)
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)
وَقَوله: {وَالَّذين يصدقون بِيَوْم الدّين} أَي: يُؤمنُونَ بِهِ.(6/48)
{يصدقون بِيَوْم الدّين (26) وَالَّذين هم من عَذَاب رَبهم مشفقون (27) إِن عَذَاب رَبهم غير مَأْمُون (28) وَالَّذين هم لفروجهم حافظون (29) إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين (29) فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون (31) وَالَّذين هم لأمانتهم وَعَهْدهمْ رَاعُونَ (32) } .(6/49)
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)
وَقَوله: {وَالَّذين هم من عَذَاب رَبهم مشفقون} أَي: خائفون.
وَعَن معَاذ بن جبل قَالَ: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُنَادي مُنَاد أَيْن الخائفون؟ فيحشرون فِي كنف الرَّحْمَن لَا يحتجب الله مِنْهُم.
ذكره أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره.
وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ حاكيا عَن الله تَعَالَى: " لَا أجمع على عَبدِي خوفين وَلَا أمنين، فَإِذا خافني فِي الدُّنْيَا أمنته فِي الْآخِرَة، وَإِذا أمنني فِي الدُّنْيَا خوفته فِي الْآخِرَة ".(6/49)
إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
قَوْله: {إِن عَذَاب رَبهم غير مَأْمُون} ظَاهر الْمَعْنى.(6/49)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)
وَقَوله: {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين} قَالَ ابْن عُيَيْنَة، من لَام أحدا فِيمَا ملكت يَمِينه وَإِن كثر، أَو لامه فِي نِسَائِهِ إِذا بلغ الْأَرْبَع، فقد عصى الله تَعَالَى؛ لقَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُم غير ملومين} وَقَالَ أَيْضا: من تزوج [بِأَرْبَع] نسْوَة، أَو تسرى بمماليك، فَلَا خلل فِي زهده فِي(6/49)
{وَالَّذين هم بشهاداتهم قائمون (33) وَالَّذين هم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جنَّات مكرمون (35) فَمَا للَّذين كفرُوا قبلك مهطعين (36) عَن الْيَمين وَعَن الشمَال عزين (37) } .
الدُّنْيَا، فَإِن عليا - رَضِي الله - عَنهُ قتل عَن أَربع عقائل [وتسع عشرَة] سَرِيَّة وَكَانَ أزهد الصَّحَابَة.
وَفِي الْآيَة دَلِيل على تَحْرِيم الْمُتْعَة.
وسئلت عَائِشَة عَن الْمُتْعَة فَقَالَت: بيني وَبَيْنكُم كتاب الله، وتلت هَذِه الْآيَة.
وَسُئِلَ ابْن عمر عَن ذَلِك فَقَالَ: هُوَ زنا.
فَقيل: إِن فلَانا يبيحها، فَقَالَ: أَفلا ترمرم بِهِ فِي زمَان عمر، وَالله لَو أَخذه فِيهَا لرجمه.(6/50)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
وَقَوله: {فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون} هُوَ دَلِيل على مَا بَينا.
والعادي والمتعادي وَاحِد.(6/50)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)
وَقَوله: {وَالَّذين هم لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدهمْ رَاعُونَ} أَي: حافظون.
وَقيل: أصل الْأَمَانَة أَن كلمة التَّوْحِيد ائْتمن الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ عَلَيْهَا.(6/50)
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)
وَقَوله: {وَالَّذين هم بِشَهَادَتِهِم قائمون} وَقُرِئَ: " بشهاداتهم " إِحْدَاهمَا بِمَعْنى الْجمع، وَالْأُخْرَى بِمَعْنى الوحدان.
وَمعنى {قائمون} أَي: يؤدونها على وَجههَا.(6/50)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)
وَقَوله: {وَالَّذين هم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ} قد بَينا الْمَعْنى.(6/50)
أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
وَقَوله: {أُولَئِكَ فِي جنَّات مكرمون} أَي: بساتين يكرمهم الله بأنواع النعم.(6/50)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)
وَقَوله تَعَالَى: {فَمَال الَّذين كفرُوا قبلك مهطعين} أَي: مُسْرِعين.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: وَالْآيَة فِي الْمَعْنى مشكلة، وَالْمرَاد وَالله أعلم: فَمَا للَّذين كفرُوا يسرعون إِلَيْك لاستماع الْقُرْآن، ثمَّ يتفرقون بِلَا قبُول لَهُ وَالْإِيمَان بِهِ.
وَفِي التَّفْسِير: أَنهم كَانُوا يأْتونَ ويجلسون حول النَّبِي وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ نظر الْبغضَاء والعداوة، ويستمعون الْقُرْآن اسْتِمَاع الِاسْتِهْزَاء والتكذيب.(6/50)
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)
وَقَوله: {عَن الْيَمين وَعَن الشمَال عزين} أَي: مُتَفَرّقين حلقا حلقا.
وروى أَن(6/50)
{أيطمع كل امْرِئ مِنْهُم أَن يدْخل جنَّة النَّعيم (38) كلا إِنَّا خلقناهم مِمَّا يعلمُونَ (39) فَلَا أقسم بِرَبّ الْمَشَارِق والمغارب إِنَّا لقادرون (40) على أَن نبدل خيرا مِنْهُم}
النَّبِي خرج إِلَى الْمَسْجِد وَأَصْحَابه متفرقون كل جمَاعَة فِي مَوضِع، فَقَالَ: " مَالِي أَرَاكُم عزين ".
وَالسّنة أَن يجلسوا حَلقَة وَاحِدَة، أَو بَعضهم خلف بعض، وَلَا يتفرقون فِي الْجُلُوس.(6/51)
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)
قَوْله تَعَالَى: {أيطمع كل امْرِئ مِنْهُم أَن يدْخل جنَّة نعيم} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما ذكر الله تَعَالَى الْجنَّة للْمُؤْمِنين قَالَ الْكفَّار: وَنحن أَيْضا ندخل مَعكُمْ؛(6/51)
كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
فَأنْزل الله تَعَالَى: {كلا} أَي: لَا يكون الْأَمر كَمَا يطْمع ويظن.
وَقَوله: {إِنَّا خلقناهم مِمَّا يعلمُونَ} أَي: من الأقذار والنجاسات.
وَالْمعْنَى: أَنه لَيْسَ إِدْخَال من يدْخل الْجنَّة بِكَوْنِهِ مخلوقا؛ لِأَنَّهُ خلق من شَيْء نجس قذر، فَلَا يسْتَحق دُخُول الْجنَّة، وَإِنَّمَا يسْتَحق دُخُول الْجنَّة بالتقوى وَالدّين.
وَيُقَال: إِنَّا خلقناهم من أجل مَا [يعلمُونَ] ، وَهُوَ عبَادَة الله وَالْإِيمَان بِهِ.
قَالَ الشَّاعِر:
(أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذِي هوى أَن تزارا)
أَي: من أجل آل ليلى.
وَقيل: {إِنَّا خلقناهم مِمَّا يعلمُونَ} أَي: مِمَّن يعلمُونَ.
وَالْقَوْل الْأَصَح هُوَ الأول.(6/51)
{وَمَا نَحن بمسبوقين (41) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي يوعدون (42) يَوْم يخرجُون من الأجداث سرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نصب يوفضون (43) خاشعة أَبْصَارهم ترهقهم ذلة ذَلِك الْيَوْم الَّذِي كَانُوا يوعدون (44) } .(6/52)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بِرَبّ الْمَشَارِق والمغارب} مَعْنَاهُ: أقسم، وَهُوَ على مَذْهَب الْعَرَب، وَكَانُوا يَقُولُونَ هَكَذَا.
وَذكر هَاهُنَا الْمَشَارِق والمغارب؛ لِأَن الشَّمْس فِي كل يَوْم تشرق من مَكَان آخر غير مَا كَانَ فِي الْيَوْم الأول، وَكَذَلِكَ فِي الْمغرب.
وَفِي التَّفْسِير: أَنَّهَا تطلع كل يَوْم من كوَّة أُخْرَى، وتغرب من كوَّة أُخْرَى.
وَقَوله: {إِنَّا لقادرون على أَن نبدل خيرا مِنْهُم} أَي: أطوع لله مِنْهُم، وأمثل مِنْهُم.
وَقَوله: {وَمَا نَحن بمسبوقين} أَي: معاجزين، وَقد بَينا من قبل.(6/52)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
قَوْله تَعَالَى: {فذرهم يخوضوا ويلعبوا حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي يوعدون} هُوَ يَوْم الْقِيَامَة.
وَهُوَ مَذْكُور على طَرِيق التهديد لَا على طَرِيق الْإِطْلَاق وَالْإِذْن.(6/52)
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم يخرجُون من الأجداث سرَاعًا} أَي: من الْقُبُور. والجدث: الْقَبْر، والأجداث الْجمع.
وَقَوله: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نصب يوفضون} أَي: يخرجُون سرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى علم نصب لَهُم يسرعون، وَقُرِئَ: " نصب يوفضون " بِضَم النُّون، والنُصُب والنَصَب بِمَعْنى الْأَصْنَام، وَقد كَانُوا يسرعون إِلَى أصنامهم إِذا ذَهَبُوا إِلَيْهَا، فيعظموها ويستلموها.(6/52)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
وَقَوله: {خاشعة أَبْصَارهم} أَي: ذليلة أَبْصَارهم {ترهقهم ذلة} أَي: مذلة.
وَقَوله: {ذَلِك الْيَوْم الَّذِي كَانُوا يوعدون} أَي: يُقَال لَهُم: هَذَا الْيَوْم هُوَ الْيَوْم الَّذِي وعدتم فِي الدُّنْيَا.
وَالله أعلم.(6/52)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِنَّا أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه أَن أنذر قَوْمك من قبل أَن يَأْتِيهم عَذَاب أَلِيم (1) قَالَ يَا قوم إِنِّي لكم نَذِير مُبين (2) أَن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون (3) يغْفر لكم}
تَفْسِير سُورَة نوح عَلَيْهِ السَّلَام
وَهِي مَكِّيَّة
وَهُوَ نوح بن لمك بن متوشلخ بن أَخْنُوخ.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه بعث وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة.
وَعَن عَوْف بن أبي شَدَّاد: أَنه بعث وَهُوَ ابْن ثلثمِائة وَخمسين سنة.
وَيُقَال: سمي نوحًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ ينوح على نَفسه.
وَالله أعلم.(6/53)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه أَن أنذر قَوْمك} مَعْنَاهُ: بِأَن أنذر قَوْمك إِلَّا أَنه حذف الْبَاء.
وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود {أنذر قَوْمك} من غير " أَن " وَمَعْنَاهُ: وَقُلْنَا لَهُ أنذر قَوْمك.
وَقَوله {من قبل أَن يَأْتِيهم عَذَاب أَلِيم} قيل: هُوَ الْغَرق فِي الدُّنْيَا.
وَقيل هُوَ النَّار فِي الْآخِرَة.(6/53)
قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم إِنِّي لكم نَذِير مُبين} أَي: بَين النذارة.(6/53)
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)
وَقَوله {أَن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} وَهَذَا هُوَ الَّذِي بعث الله لأَجله الرُّسُل، فَإِن الله تَعَالَى مَا بعث رَسُولا إِلَّا ليعبدوه ويتقوه ويطيعوا رَسُوله.(6/53)
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
وَقَوله: {يغْفر لكم من ذنوبكم} أَي: من ذنوبكم الَّتِي أوعدكم عَلَيْهَا الْعقُوبَة.
وَقد كَانَت لَهُم ذنُوب أخر عَفا الله عَنْهَا.
وَقَالَ الْفراء: " من " لَيست هَاهُنَا للتَّبْعِيض،(6/53)
{من ذنوبكم ويؤخركم إِلَى آجل مُسَمّى إِن أجل الله إِذا جَاءَ لَا يُؤَخر لَو كُنْتُم تعلمُونَ (4) قَالَ رب إِنِّي دَعَوْت قومِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلم يزدهم دعائي إِلَّا فِرَارًا (6) } . وَلكنهَا للتخصيص على معنى تَخْصِيص الذُّنُوب بالغفران.
وَقَوله: {ويؤخركم إِلَى آجل مُسَمّى} أَي: إِلَى الْمَوْت.
فَإِن قيل: هَذِه الْآيَة تدل على أَنه يجوز أَن يكون للْإنْسَان أجلان، وَأَن الْعقُوبَة تقع قبل الْأَجَل الْمَضْرُوب للْمَوْت.
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه يجوز أَن يُقَال: إِن الْأَجَل أجلان: أَحدهمَا: إِلَى سنة أَو سنتَيْن إِن عصوا الله، وَالْآخر: إِلَى عشر سِنِين أَو عشْرين سنة إِن أطاعوا الله، فعلى هَذَا قَوْله تَعَالَى: {إِن أجل الله إِذا جَاءَ لَا يُؤَخر} أَي: فِي حالتي الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْأَجَل وَاحِد بِكُل حَال.
وَقَوله {ويؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى} أَي: يميتكم غير ميتَة الاستئصال والعقوبة، وَهُوَ الْمَوْت الَّذِي يكون بِلَا غرق وَلَا قتل وَلَا حرق.
وَقيل: يؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى، أَي: عنْدكُمْ، وَهُوَ الْأَجَل الَّذِي تعرفونه، وَذَلِكَ موت من غير هَذِه الْوُجُوه.
وَهَذَا القَوْل أقرب إِلَى مَذْهَب أهل السّنة، فعلى هَذَا قَوْله: إِن أجل الله إِذا جَاءَ لَا يُؤَخر) هُوَ الْأَجَل الْمُسَمّى الْمَضْرُوب لكل إِنْسَان) .
وَقَوله {لَو كُنْتُم تعلمُونَ} [أَي] : إِن كُنْتُم تعلمُونَ.(6/54)
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب إِنِّي دَعَوْت قومِي لَيْلًا وَنَهَارًا} قَالَ الْفراء: أَي: من كل وَجه وَفِي كل زمَان أمكنت فِيهِ الدعْوَة من ليل أَو نَهَار.(6/54)
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)
وَقَوله تَعَالَى: {فَلم يزدهم دعائي إِلَّا فِرَارًا} أَي: فِرَارًا من الْإِيمَان.(6/54)
{وَإِنِّي كلما دعوتهم لتغفر لَهُم جعلُوا أَصَابِعهم فِي آذانهم واستغشوا ثِيَابهمْ وأصروا واستكبروا استكبارا (7) ثمَّ إِنِّي دعوتهم جهارا (8) ثمَّ إِنِّي أعلنت}(6/55)
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
وَقَوله: {وَإِنِّي كلما دعوتهم لتغفر لَهُم} أَي: ليؤمنوا فتغفر لَهُم، فكنى بالمغفرة عَن الْإِيمَان؛ لِأَن الْإِيمَان سَبَب الْمَغْفِرَة.
وَقَوله: {جعلُوا أَصَابِعهم فِي آذانهم} يَعْنِي: فعلوا ذَلِك لِئَلَّا يسمعوا.
وَقَوله: {واستغشوا ثِيَابهمْ} أَي: تغطوا بثيابهم لِئَلَّا يرَوا نوحًا، وَلَا يسمعوا كَلَامه، وَذكر النّحاس قولا آخر وَقَالَ: إِن معنى قَوْله: {واستغشوا ثِيَابهمْ} أَي: أظهرُوا الْعَدَاوَة.
وَيُقَال: لبس فلَان ثِيَاب الْعَدَاوَة على معنى إِظْهَار الْعَدَاوَة.
وَقَوله: {وأصروا} قَالَ (أَبُو عبيد) : [أَي] : أَقَامُوا عَلَيْهِ.
والإصرار أَن يفعل الْفِعْل ثمَّ لَا ينْدَم.
وَفِي بعض الغرائب من الْآثَار؛ " لَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار، وَلَا كَبِيرَة مَعَ الاسْتِغْفَار ".
وَقَوله: {واستكبروا استكبارا} أَي: تكبروا تكبرا.
وَقد بَينا أَن الشّرك وَترك الْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ استكبار.(6/55)
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِنِّي دعوتهم جهارا ثمَّ إِنِّي أعلنت لَهُم وأسررت لَهُم إسرارا} فَإِن قيل: أَلَيْسَ قد دخل هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: (رب إِنِّي دَعَوْت قومِي لَيْلًا وَنَهَارًا) ؟ قُلْنَا: كَلَام بِحَيْثُ يجوز أَن يكون قَالَ هَذَا على وَجه التَّأْكِيد، والإعلان والجهر بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ كَلَام بِحَيْثُ يسمع الْجَمَاعَة، وَأَن الْإِسْرَار هُوَ أَن يَقُوله مَعَ الْإِنْسَان وَحده فِي خلْوَة.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {إِنِّي دَعَوْت قومِي لَيْلًا وَنَهَارًا} إِلَى التَّوْحِيد، وَأما قَوْله: {ثمَّ إِنِّي دعوتهم جهارا ثمَّ إِنِّي أعلنت لَهُم وأسررت لَهُم إسرارا} هُوَ دعاؤه إيَّاهُم إِلَى الاسْتِغْفَار لما يتلوه من بعد، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَقلت اسْتَغْفرُوا(6/55)
{لَهُم وأسررت لَهُم إسرارا (9) فَقلت اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا (10) يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا (11) ويمددكم بأموال وبنين وَيجْعَل لكم جنَّات وَيجْعَل لكم أَنهَارًا (12) مَا لكم لَا ترجون لله وقارا (13) } . ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا) .(6/56)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
وَقَوله: {يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} أَي: ليرسل.
ومدرارا، أَي: مُتَتَابِعًا.
وَالسَّمَاء: الْمَطَر.
وَقيل هُوَ الْمَطَر فِي إبانه.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: إِذا أَرَادَ الله بِقوم خيرا أمطرهم فِي وَقت الزَّرْع، وَحبس عَنْهُم فِي وَقت الْحَصاد، وَإِذا أَرَادَ بِقوم سوءا أمطرهم فِي وَقت الْحَصاد وَحبس فِي وَقت الزَّرْع.
وروى الشّعبِيّ أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - خرج (مرّة) للاستسقاء فَلم يزدْ على الاسْتِغْفَار ثمَّ نزل.
فَقيل لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّك لم تستسق! فَقَالَ: لقد طلبت الْغَيْث بِمَجَادِيح السَّمَاء الَّتِي يسْتَنْزل بهَا الْمَطَر، وتلا قَوْله تَعَالَى: {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا} .(6/56)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
وَقَوله: {ويمددكم بأموال وبنين} قَالَ قَتَادَة: علم أَن الْقَوْم أَصْحَاب دنيا، فحركهم بهَا ليؤمنوا.
وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى أعقم أَرْحَام نِسَائِهِم أَرْبَعِينَ سنة، وَحبس عَنْهُم الْمَطَر أَرْبَعِينَ سنة، فَهُوَ معنى قَول نوح: {يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين} .
وَقَوله تَعَالَى: {وَيجْعَل لكم جنَّات وَيجْعَل لكم أَنهَارًا} أَي: بساتين وأنهارا تجْرِي فِيمَا بَينهَا.(6/56)
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)
قَوْله تَعَالَى: {مَا لكم لَا ترجون لله وقارا} أَي: تخافون لله عَظمَة وقدرة.
وَقَالَ قطرب: مالكم لَا تبالون من عَظمَة الله تَعَالَى.
وَقيل: وقارا، أَي: طَاعَة، وَمَعْنَاهُ: مالكم لَا ترجون طَاعَة الله، أَي: لَا تستعملونها.
وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَعْرُوف، ذكره الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا، وَقد يذكر الرَّجَاء بِمَعْنى الْخَوْف؛ لِأَنَّهُ لَا يكون الرَّجَاء إِلَّا وَمَعَهُ خوف الْفَوْت.(6/56)
{وَقد خَلقكُم أطوارا (14) ألم تروا كَيفَ خلق الله سبع سموات طباقا (15) وَجعل الْقَمَر}
قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا لسعته النَّحْل لم يرج لسعها ... وخالفها فِي بَيت نوب (عوامل))
وَقَالَ آخر:
(إِذا أهل الْكَرَامَة أكرموني ... فَلَا أَرْجُو الهوان من اللئام) .
أَي: لَا أَخَاف.(6/57)
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
وَقَوله: {وَقد خَلقكُم أطوارا} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الطّور: الْحَال.
وَذكره ابْن الْأَنْبَارِي أَيْضا.
قَالَ الشَّاعِر:
(والمرء يخلق طورا بعد (أطوار)
)
وَمعنى الْحَالَات هَاهُنَا: أَنه خلقه نُطْفَة ثمَّ علقَة ثمَّ مُضْغَة ثمَّ عظما ولحمها إِلَى أَن أتم خلقه.(6/57)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تروا كَيفَ خلق الله سبع سموات طباقا} قد بَينا.(6/57)
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)
وَقَوله: {وَجعل الْقَمَر فِيهِنَّ نورا} فَإِن قَالَ قَائِل: الْقَمَر إِنَّمَا خلق فِي سَمَاء الدُّنْيَا، فَكيف قَالَ: {فِيهِنَّ نورا} ؟
وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهمَا: أَنه يجوز فِي لِسَان الْعَرَب أَن (يُقَال) : فِيهِنَّ نورا، وَإِن كَانَ فِي إحديهن، كَالرّجلِ يَقُول: توارى فلَان فِي دور فلَان، وَإِن كَانَ توارى فِي إحديها.
وَيَقُول الْقَائِل: وَنزلت على بني تَمِيم، وَإِن كَانَ نزل عِنْد بَعضهم.(6/57)
{فِيهِنَّ نورا وَجعل الشَّمْس سِرَاجًا (16) وَالله أنبتكم من الأَرْض نباتا (17) ثمَّ يعيدكم فِيهَا ويخرجكم إخراجا (18) .
وَالْوَجْه الثَّانِي: مَا قَالَه عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَن وَجه الْقَمَر إِلَى السَّمَوَات السَّبع وَقَفاهُ إِلَى الأَرْض، وَكَذَا قَالَ فِي الشَّمْس، فعلى هَذَا قَوْله: {فِيهِنَّ نورا} أَي: نوره فِيهِنَّ.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن السَّمَوَات فِي الْمَعْنى كشيء وَاحِد، فَقَالَ: {فِيهِنَّ نورا} لهَذَا، وَإِن كَانَ فِي سَمَاء وَاحِد.
وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن معنى قَوْله: {فِيهِنَّ نورا} أَي: مَعَهُنَّ نورا.
قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(وَهل ينعمن من كَانَ آخر عَهده ... ثَلَاثِينَ شهرا فِي ثَلَاثَة أَحْوَال)
أَي: مَعَ ثَلَاثَة أَحْوَال.
وَقَوله: {وَجعل الشَّمْس سِرَاجًا} أَي: فِيهِنَّ، وَالْمعْنَى مَا بَينا.
وَعَن عبد الله بن عَمْرو أَيْضا قَالَ: مَا خلق الله شَيْئا أَشد حرارة من الشَّمْس، وَلَوْلَا أَن السَّمَاء تحول بَين الأَرْض وَبَين ضوئها وَإِلَّا (لأحرقت) كل شَيْء فِي الأَرْض.
وروى أَنه سُئِلَ لماذا يبرد الزَّمَان فِي الشتَاء، وَبِمَ يكون الْحر فِي الصَّيف؟ فَقَالَ: تكون الشَّمْس فِي الصَّيف فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَفِي الشتَاء فِي السَّمَاء السَّابِعَة.(6/58)
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)
قَوْله تَعَالَى: {وَالله أنبتكم من الأَرْض نباتا} يجوز فِي اللُّغَة إنباتا ونباتا.
وَقيل: أنبتكم فنبتم نباتا.(6/58)
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)
وَقَوله: {ثمَّ يعيدكم فِيهَا} أَي: بِالْمَوْتِ.
وَقَوله: {ويخرجكم إخراجا} عِنْد النشور.(6/58)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)
قَوْله تَعَالَى: (وَالله جعل لكم الأَرْض بساطا) أَي: بسطها بسطا.(6/58)
{وَالله جعل لكم الأَرْض بساطا (19) لتسلكوا مِنْهَا سبلا فجاجا (20) قَالَ نوح رب إِنَّهُم عصوني وَاتبعُوا من لم يزده مَاله وَولده إِلَّا خسارا (21) ومكروا مكرا كبارًا (22) وَقَالُوا لَا تذرن آلِهَتكُم لَا تذرن ودا وَلَا سواعا وَلَا يَغُوث ويعوق}(6/59)
لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
وَقَوله: {لتسلكوا مِنْهَا سبلا فجاجا} أَي: طرقا وَاسِعَة.
والسبيل قد يذكر وَيُؤَنث.
قَالَ الشَّاعِر:
(تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن أمت ... فَتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد)
أَي: بِوَاحِد.(6/59)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)
وَقَوله: {قَالَ نوح رب إِنَّهُم عصوني وَاتبعُوا من لم يزده مَاله وَولده إِلَّا خسارا} يَعْنِي: أَن الضُّعَفَاء اتبعُوا الْأَشْرَاف والأكابر والرءوس من الْكفَّار الَّذين لم تزدهم أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ إِلَّا خسارا.(6/59)
وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)
وَقَوله: {ومكروا مكرا كبارًا} أَي: كَبِيرا، وكبار فِي اللُّغَة أَشد من الْكَبِير.(6/59)
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
وَقَوله: {وَقَالُوا لَا تذرن آلِهَتكُم} أَي: لَا تذروا آلِهَتكُم، {وَلَا تذرن} أَي: وَلَا تذروا {ودا وَلَا سواعا وَلَا يَغُوث ويعوق ونسرا} هَذِه الْأَسْمَاء أَسمَاء أصنامهم الَّتِي كَانُوا يعبدونها.
وَفِي التَّفْسِير: أَن ودا كَانَت لكَلْب، والسواع كَانَت لهذيل، ويغوث كَانَت لبني غطيف بن دارم، ويعوق كَانَت لهمدان، ونسرا كَانَت لحمير، وَقد قيل على خلاف هَذَا.
وَكَانَت بَقِيَّة هَذِه الْأَصْنَام لَهُم من زمَان نوح قد غرقت، فاستخرجها لَهُم إِبْلِيس حَتَّى عبدوها.
وَعَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ قَالَ: كَانَت يَغُوث من رصاص رَأَيْته، وَكَانُوا يحملونه على جمل أجرد إِذا سافروا وَلَا يهيجون الْجمل ويجعلونه قدامهم، فَإِذا برك فِي مَوضِع نزلُوا، وَقَالُوا: رضى ربكُم بالمنزل.
وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: هَذِه الْأَسْمَاء أَسمَاء قوم صالحين قبل نوح، فَلَمَّا مَاتُوا زين الشَّيْطَان لأبنائهم ليتخذوا أشخاصا على صورهم، فَيكون نظرهم إِلَيْهَا حثا لَهُم على الْعِبَادَة، ثمَّ إِنَّهُم عبدوها من بعد لما تطاول لَهُم الزَّمَان.(6/59)
{ونسرا (23) وَقد أَضَلُّوا كثيرا وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا ضلالا (24) مِمَّا خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نَارا فَلم يَجدوا لَهُم من دون الله أنصارا (25) وَقَالَ نوح رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا (26) إِنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا (27) .(6/60)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
قَوْله تَعَالَى: {وَقد أَضَلُّوا كثيرا} أَي: ضل كثير من النَّاس بسببهم.
وَقَوله: {وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا ضلالا} دَعَا عَلَيْهِم هَذَا الدُّعَاء عُقُوبَة لَهُم، وَهُوَ مثل دُعَاء مُوسَى على قوم فِرْعَوْن {رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم} .(6/60)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
قَوْله تَعَالَى: {مِمَّا خطيئاتهم} أَي: من خطيئاتهم، {أغرقوا فأدخلوا نَارا} يَعْنِي: أغرقوا فِي الدُّنْيَا، وأدخلوا نَارا فِي الْآخِرَة.
وَقيل: هُوَ فِي الْقَبْر.
وَعَن الْحسن قَالَ: الْبَحْر طبق جَهَنَّم.
وَقيل: الْبَحْر نَار ثمَّ نَار.
وَقَوله: {فَلم يَجدوا لَهُم من دون الله أنصارا} أَي: أحدا يمنعهُم من عَذَاب الله.(6/60)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ نوح رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} أَي: أحدا.
وَقيل: ديارًا أَي: من ينزل دَارا، مَأْخُوذ من الدَّار.(6/60)
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
وَقَوله: {إِنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا} وَهَذَا على مَا أخبرهُ الله تَعَالَى عَنْهُم {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} وَعَن مُجَاهِد: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يَأْتِي نوحًا فيضربه حَتَّى يغشى عَلَيْهِ، فَإِذا أَفَاق قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لقومي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ.
ثمَّ إِنَّه لما أخبر الله تَعَالَى أَنه لَا يُؤمن أحد مِنْهُم دَعَا عَلَيْهِم.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يحمل ابْنه على كتفه إِلَيْهِ وَيَقُول: احذر هَذَا الشَّيْخ الْمَجْنُون، فَإِن أَبى أحذرني إِيَّاه كَمَا حذرتك، فَفَعَلُوا كَذَلِك حَتَّى مضى سَبْعَة قُرُون،(6/60)
{رب اغْفِر لي ولوالدي وَلمن دخل بَيْتِي مُؤمنا وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا تبارا (28) } . فروى أَن آخر من جَاءَهُ مِنْهُم قَالَ كَذَلِك لِابْنِهِ، فَقَالَ ذَلِك الصَّبِي: أنزلني فأنزله، فَجعل يرميه بِالْحجرِ حَتَّى شجه، فَغَضب حِينَئِذٍ ودعا عَلَيْهِم.(6/61)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
قَوْله تَعَالَى: {رب اغْفِر لي ولوالدي} قَرَأَ سعيد بن جُبَير: " لوالِدِي " وَفِي بعض الْقرَاءَات: " لِوالَدَيَّ ".
وَقَوله: {وَلمن دخل بَيْتِي مُؤمنا} أَي: سفينتي.
وَقيل: صومعتي.
وَقيل: بَيْتِي الَّذِي أسْكنهُ.
وَقَوله: {وَلِلْمُؤْمنِينَ} أَي: لكل الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا تبارا} أَي: هَلَاكًا.(6/61)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ}
تَفْسِير سُورَة الْجِنّ
وَهِي مَكِّيَّة(6/62)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
قَوْله تَعَالَى: {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ} سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة مَا روى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس " أَن النَّبِي انْطلق فِي نفر من أَصْحَابه عَامِدين إِلَى سوق عكاظ، فَمر بالنخلة، وَقد كَانَ الشَّيَاطِين منعُوا من السَّمَاء، وَأرْسلت الشهب عَلَيْهِم، فَقَالُوا لقومهم: قد حيل بَيْننَا وَبَين خبر السَّمَاء، فَقَالُوا: إِنَّمَا ذَلِك لأمر حدث فِي الأَرْض.
وروى أَنهم قَالُوا ذَلِك لإبليس، وَأَن إِبْلِيس قَالَ لَهُم: اضربوا فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا لتعرفوا مَا الْأَمر الَّذِي حدث؟ فَمر نفر مِنْهُم نَحْو تهَامَة فَرَأَوْا النَّبِي يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاة الْفجْر بِبَطن نَخْلَة، وَهُوَ يقْرَأ الْقُرْآن، فَقَالُوا: هَذَا هُوَ الْأَمر الَّذِي حدث، وَرَجَعُوا إِلَى قَومهمْ وأخبروهم بذلك، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ".
وَقد روى البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح نَحوا (من رِوَايَة) ابْن عَبَّاس.
وَذكر ابْن جريح فِي تَفْسِيره عَن أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود عَن ابْن مَسْعُود " أَن النَّبِي انْطلق إِلَى الْجِنّ ليقْرَأ عَلَيْهِم الْقُرْآن ويدعوهم إِلَى الله، فَقَالَ لأَصْحَابه: من يصحبني مِنْكُم؟ وَفِي رِوَايَة: ليقمْ مِنْكُم رجل معي لَيْسَ فِي قلبه حَبَّة خَرْدَل من كبر.
فَسكت الْقَوْم.
فَقَالَ ذَلِك ثَانِيًا وثالثا، فَقَامَ عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ ابْن مَسْعُود: فَانْطَلَقت مَعَ رَسُول الله قبل الْحجُون حَتَّى دَخَلنَا شعب أبي دب، فَقَالَ: فَخط لي خطا فَقَالَ: لَا تَبْرَح هَذَا الْخط، وَنزل عَلَيْهِ الْجِنّ مثل الحجل.
قَالَ فَقَرَأَ عَلَيْهِم(6/62)
الْقُرْآن وَعلا صَوته، فلصقوا بِالْأَرْضِ حَتَّى لَا أَرَاهُم " وَفِي رِوَايَة: انهم قَالُوا لَهُ: " مَا أَنْت؟ مَا أَنْت؟ قَالَ: نَبِي.
قَالُوا: وَمن يشْهد لَك؟ فَقَالَ: هَذِه الشَّجَرَة، قَالَ: فَدَعَا الشَّجَرَة فَجَاءَت تجر عروقها، لَهَا قعاقع، وَشهِدت الشَّجَرَة لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، ثمَّ عَادَتْ إِلَى مَكَانهَا " وَفِي هَذَا الْخَبَر: " أَنهم سَأَلُوهُ الزَّاد فَأَعْطَاهُمْ الْعظم والبعر، فَكَانُوا يَجدونَ الْعظم أوقر مَا يكون لَحْمًا، والبعر علفا لدوابهم، وَنهى الرَّسُول حِينَئِذٍ الِاسْتِنْجَاء بالعظم والروث ".
قَالَ جمَاعَة من أهل التَّفْسِير: أَن أَمر الْجِنّ كَانَ مرَّتَيْنِ، مرّة بِمَكَّة وَمرَّة بِبَطن نَخْلَة، فَالَّذِي رَوَاهُ ابْن عَبَّاس هُوَ الَّذِي كَانَ بِبَطن نَخْلَة، وَالَّذِي رَوَاهُ ابْن مَسْعُود هُوَ الَّذِي كَانَ بِمَكَّة، فَأَما الَّذِي كَانَ بِبَطن نَخْلَة فَإِنَّهُم مروا بِالنَّبِيِّ وَاسْتَمعُوا الْقُرْآن، وَأما الَّذِي كَانَ بِمَكَّة فَإِن الرَّسُول انْطلق إِلَيْهِم، وَقَرَأَ عَلَيْهِم الْقُرْآن ودعاهم إِلَى الْإِيمَان، فَهَذَا هُوَ الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقد روى أَن عبد الله بن مَسْعُود رأى بالعراق قوما من الزط، فَقَالَ: أشبههم بالجن لَيْلَة الْجِنّ.
وَفِي رِوَايَة عَلْقَمَة: أَنه قَالَ لعبد الله بن مَسْعُود: هَل كَانَ مِنْكُم أحد مَعَ رَسُول الله لَيْلَة الْجِنّ؟ قَالَ: لَا، مَا شهده منا أحد، وسَاق خَبرا ذكره مُسلم فِي كِتَابه.
وَفِي الْبَاب اخْتِلَاف كثير فِي الرِّوَايَات، وَأما مَا ذَكرْنَاهُ هُوَ الْمُخْتَصر مِنْهَا، وَيحْتَمل أَن ابْن مَسْعُود كَانَ مَعَ رَسُول الله لَيْلَة الْجِنّ إِلَّا أَنه لم يكن مَعَه عِنْد خطاب الْجِنّ وَقِرَاءَة الْقُرْآن، عَلَيْهِم، فَإِنَّهُ روى أَنه قَالَ: " خطّ رَسُول الله لي خطا وَقَالَ: لَا تَبْرَح هَذَا الْخط وَانْطَلق فِي الْجَبَل، قَالَ فَسمِعت لَغطا وصوتا عَظِيما، فَأَرَدْت أَن أذهب فِي أَثَره، فَذكرت قَول رَسُول الله: لَا تَبْرَح الْخط فَلم أذهب، فَلَمَّا رَجَعَ ذكرت لَهُ ذَلِك، فَقَالَ لي: لَو خرجت من الْخط لم ترني أبدا ".
قَوْله تَعَالَى: {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ} قَالَ الْفراء: النَّفر اسْم لما بَين الثَّلَاثَة إِلَى عشرَة.
وَحَكَاهُ ابْن السّكيت أَيْضا عَن ابْن زيد.
يَقُولُونَ: عشرَة نفر، وَلَا يَقُولُونَ: عشرُون نَفرا، وَلَا ثَلَاثُونَ نَفرا.
وَقد روى أَنهم كَانُوا تِسْعَة نفر، وَذكروا أَسْمَاءَهُم، وَقد بَينا.
وروى عَاصِم عَن زر أَنه كَانَ فيهم زَوْبَعَة.(6/63)
{فَقَالُوا إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا (1) يهدي إِلَى الرشد فَآمَنا بِهِ وَلنْ نشْرك بربنا أحدا (2) وَأَنه تَعَالَى جد رَبنَا}
وَقَوله تَعَالَى: {فَقَالُوا إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا} أَي: عجبا فِي نظمه وتأليفه وَصِحَّة مَعْنَاهُ، وَلَا يَصح قَوْله: {إِنَّا سمعنَا} إِلَّا بِالْكَسْرِ.(6/64)
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)
قَوْله: {يهدي إِلَى الرشد} أَي: إِلَى الصَّوَاب وَطَرِيق الْحق.
وَقَوله تَعَالَى: {فَآمَنا بِهِ وَلنْ نشْرك بربنا أحدا} أَي: لَا نجْعَل أحدا من خلقه شَرِيكا لَهُ.(6/64)
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
قَوْله تَعَالَى {وَأَنه تَعَالَى جد رَبنَا} قرئَ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ أَن الْجِنّ قَالُوا، وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح فنصبه على معنى: آمنا وَأَنه تَعَالَى جد رَبنَا، فانتصب بِوُقُوع الْإِيمَان عَلَيْهِ، وَالْقِرَاءَة بِالْكَسْرِ أحسن الْقِرَاءَتَيْن.
وَقَوله تَعَالَى: {جد رَبنَا} أَي: عَظمَة رَبنَا، هَذَا قَول قَتَادَة وَغَيره.
وَالْجد: العظمة، وَهُوَ البخت أَيْضا، وَهُوَ أَب الْأَب.
وَفِي حَدِيث أنس: كَانَ الرجل منا إِذا قَرَأَ الْبَقَرَة وَآل عمرَان جد فِينَا، أَي: عظم [فِينَا] .
وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد " أَي: لَا ينفع ذَا البخت مِنْك بخته إِذا أردْت بِهِ سوءا أَو مَكْرُوها.
وَعَن الْحسن قَالَ: تَعَالَى جد رَبنَا أَي: غَنِي رَبنَا.
وَعَن إِبْرَاهِيم وَالسُّديّ قَالَا: جد رَبنَا أَي: أَمر رَبنَا.(6/64)
{مَا اتخذ صَاحِبَة وَلَا ولدا (3) وَأَنه كَانَ يَقُول سفيهنا على الله شططا (4) وَأَنا ظننا أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ على الله كذبا (5) وَأَنه كَانَ رجال من}
وَقَوله تَعَالَى: {مَا اتخذ صَاحِبَة وَلَا ولدا} أَي: زَوْجَة وَولدا.(6/65)
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه كَانَ يَقُول سفيهنا على الله شططا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن السَّفِيه هُوَ إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة، وَهُوَ قَول مُجَاهِد، وَالْآخر: أَنه كل عَاص متمرد من الْجِنّ.
وَقَوله: {شططا} أَي: كذبا.
وَقيل: جورا.(6/65)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا ظننا أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ على الله كذبا} وَقَرَأَ يَعْقُوب: " أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ " أَي: لن تَقول، مَعْنَاهُ ظَاهر، كَأَنَّهُمْ ظنُّوا أَن كل من قَالَ على الله شَيْئا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَأَنه لَا (يجزى) الْكَذِب على الله.(6/65)
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه كَانَ رجال من الْإِنْس} فَإِن قَالَ قَائِل: قد قرئَ هَذَا كُله بِالنّصب، فَمَا وَجه النصب فِيهِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قد بَينا وَجه النصب فِيمَا سبق، وَبَاقِي الْآيَات نصبت بِحكم الْمُجَاورَة والعطف، أَو بِتَقْدِير آمنا أَو ظننا أَو شَهِدنَا، وَالْعرب قد تتبع الْكَلِمَة الْكَلِمَة فِي الْإِعْرَاب بِنَفس الْمُجَاورَة والعطف مثل قَوْلهم: جُحر ضَب خرب.
وَقَوله {يعوذون بِرِجَال من الْجِنّ} فِي التَّفْسِير: أَن الرجل كَانَ يُسَافر وَالْقَوْم كَانُوا يسافرون، فَإِذا بلغُوا مَكَانا قفرا من الْبَريَّة وأمسوا قَالُوا: نَعُوذ بِسَيِّد هَذَا الْوَادي من سُفَهَاء قومه.
وَحكى عَن بَعضهم - وَهُوَ السَّائِب بن أبي كردم - أَنه قَالَ: انْطَلَقت مَعَ أبي فِي سفر ومعنا قِطْعَة من الْغنم، فنزلنا وَاديا قَالَ: فجَاء ذِئْب وَأخذ حملا من الْغنم، فَقَامَ أبي وَقَالَ: يَا عَامر الْوَادي، نَحن فِي جوارك، فحين قَالَ ذَلِك أرسل الذِّئْب الْحمل، فَرجع الْحمل إِلَى الْغنم فَلم تصبه كدمة.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ بِرِجَال من(6/65)
{الْإِنْس يعوذون بِرِجَال من الْجِنّ فزادوهم رهقا (6) وَأَنَّهُمْ ظنُّوا كَمَا ظننتم أَن لن يبْعَث الله أحدا (7) وَأَنا لمسنا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا ملئت حرسا شَدِيدا وشهبا الْجِنّ، وَالْجِنّ لَا يسمون رجَالًا؟ وَالْجَوَاب: قُلْنَا يجوز على طَرِيق الْمجَاز، وَقد ورد فِي بعض أَخْبَار الْعَرَب فِي حِكَايَة أَن قوما من الْجِنّ قَالُوا: نَحن أنَاس من الْجِنّ، فَإِذا جَازَ أَن يسموا أُنَاسًا جَازَ أَن يسموا رجَالًا.
وَأما قَوْله: {فزادوهم رهقا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِلَّا أَن الْإِنْس زادوا الْجِنّ رهقا أَي: عَظمَة فِي أنفسهم، كَأَن الْإِنْس لما استعاذوا بالجن ازدادوا الْجِنّ فِي أنفسهم عَظمَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ أَن الْإِنْس ازدادوا رقها بالاستعاذة من الْجِنّ.
وَمَعْنَاهُ: طغيانا وإثما، كَأَن الْإِنْس لما استعاذوا بالجن وأمنوا على أنفسهم ازدادوا كفرا، وظنوا أَن أَمنهم كَانَ من الْجِنّ.
وَقيل: رهقا أَي: غشيانا للمحارم.
وَقيل: مُفَارقَة اللائم.
قَالَ الْأَعْشَى:
لَا شَيْء يَنْفَعنِي من دون رؤيتها ... هَل يشتفي عاشق مَا لم يصب رهقا)(6/66)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنَّهُمْ ظنُّوا كَمَا ظننتم أَن لن يبْعَث الله أحدا} فِي الْآيَة دَلِيل على أَنه كَانَ فِي الْجِنّ قوم لَا يُؤمنُونَ بِالْبَعْثِ كَمَا فِي الْإِنْس.(6/66)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا لمسنا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا ملئت حرسا شَدِيدا وشهبا} أَي: ملئت حرسا بِالْمَلَائِكَةِ.
وَقَوله: {شهبا} جمع شهَاب، وَهُوَ قِطْعَة من النَّار، وَقد ذكرنَا من قبل صُورَة كَيْفيَّة استراق الشَّيَاطِين السّمع من السَّمَاء، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يسمعُونَ الْكَلِمَة فيضمون إِلَيْهَا عشرَة ويلقونها إِلَى الكهنة، فَلَمَّا كَانَ فِي زمَان النَّبِي حرست السَّمَاء، وَرمى الشَّيَاطِين بِالشُّهُبِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم يزل هَذَا الْأَمر معهودا قبل الرَّسُول، وَهُوَ انقضاض الْكَوَاكِب، وَذكره شعراء الْجَاهِلِيَّة فِي أشعارهم، وَقَالَ بَعضهم.(6/66)
( {8) وَأَنا كُنَّا نقعد مِنْهَا مقاعد للسمع فَمن يستمع الْآن يجد لَهُ شهابا رصدا (9) وَأَنا لَا نَدْرِي أشر أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا (10) } .
(فانقض كالدري يتبعهُ ... نقع (يثور) تخاله طنبا)
(قَالَه لاقوه إِلَّا وروى) .
وَإِذا كَانَ هَذَا أمرا معهودا فِي الْجَاهِلِيَّة فَمَا معنى تَعْلِيقه بنبوة مُحَمَّد، وعندكم أَنه كَانَ معْجزَة لَهُ وأساسا لنبوته؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه لم يكن هَذَا من قبل، وَإِنَّمَا حدث فِي زمَان نبوة الرَّسُول، والأشعار كلهَا منحولة على الْجَاهِلِيَّة، أَو قالوها بعد مولده حِين قرب مبعثه.
وَذكر السّديّ: أَن أول من تنبه للرمي بِالشُّهُبِ هُوَ هَذَا الْحَيّ من ثَقِيف، فخافوا خوفًا شَدِيدا وظنوا أَن الْقِيَامَة قد قربت، فَجعلُوا يعتقون العبيد ويسيبون الْمَوَاشِي، فَقَالَ لَهُم ابْن عبد يَا ليل: لَا تعجلوا، وانظروا إِلَى النُّجُوم الْمَعْرُوفَة هَل هِيَ فِي أماكنها؟ فَقَالُوا: هِيَ فِي أماكنها.
قَالَ: فَإِن هَذَا لأمر هَذَا الرجل الَّذِي خرج بِمَكَّة.
وَالْجَوَاب الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح - أَن الرَّمْي بِالشُّهُبِ قد كَانَ من قبل، وَلكنه لما كَانَ فِي زمَان الرَّسُول كثر وَقَوي.
قَالَ معمر: قلت لِلزهْرِيِّ: أَكَانَ الرَّمْي بِالشُّهُبِ قبل الرَّسُول فِي الْجَاهِلِيَّة؟ قَالَ: نعم، وَلكنه لما كَانَ زمَان الرَّسُول كثر وَاشْتَدَّ.(6/67)
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا كُنَّا نقعد مِنْهَا مقاعد للسمع} أَي: مقاعد للاستماع.
وَقَوله: {فَمن يستمع الْآن يجد لَهُ شهابا رصدا} أَي: يجد شهابا أرصد لَهُ [وهيء] ليرمى بِهِ.(6/67)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا لَا نَدْرِي أشر أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا} أَي: أُرِيد بهم الصّلاح فِي ذَلِك أَو الْفساد أَو الْخَيْر أَو الشَّرّ.(6/67)
{وَأَنا منا الصالحون وَمنا دون ذَلِك كُنَّا طرائق قددا (11) وَأَنا ظننا أَن لن نعجز الله فِي الأَرْض وَلنْ نعجزه هربا (12) وَأَنا لما سمعنَا الْهدى آمنا بِهِ فَمن يُؤمن بربه فَلَا يخَاف بخسا وَلَا رهقا (13) وَأَنا منا الْمُسلمُونَ وَمنا القاسطون فَمن أسلم فَأُولَئِك تحروا رشدا (14) .(6/68)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا منا الصالحون وَمنا دون ذَلِك} أَي: سوى ذَلِك.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: فِي الْجِنّ قدرية ومرئجة وروافض وخوراج، وَغير ذَلِك من الْفرق، وَفِيهِمْ العَاصِي والمطيع والمصلح، وَغير ذَلِك من الْمُؤمن وَالْكَافِر.
وَقَوله: {كُنَّا طرائق قددا} أَي: ذَا أهواء مُخْتَلفَة.
وقددا مَعْنَاهُ: مُتَفَرِّقَة.
قَالَ الشَّاعِر:
(الْقَابِض الباسط الْهَادِي بِطَاعَتِهِ ... فِي فتْنَة النَّاس إِذْ أهواؤهم قدد)
أَي: مُتَفَرِّقَة.(6/68)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا ظننا أَن لن نعجز الله فِي الأَرْض} معنى الظَّن هَاهُنَا: الْيَقِين أَي: أيقنا أَن لن نعجزه فِي الأَرْض أَي: لن نفوته، وَلَا يعجز عَنَّا بِأَخْذِهِ إيانا.
وَقَوله: {وَلنْ نعجزه هربا} قد بَينا.(6/68)
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا لما سمعنَا الْهدى آمنا بِهِ} أَي: بِالْهدى، وَالْهدى هُوَ الْقُرْآن لِأَنَّهُ يهدي النَّاس.
وَقَوله: {فَمن يُؤمن بربه فَلَا يخَاف بخسا وَلَا رهقا} أَي: نُقْصَانا من حَسَنَاته وَلَا زِيَادَة فِي سيئاته.
وَقيل: أَي: ظلما.(6/68)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا منا الْمُسلمُونَ وَمنا القاسطون} أَي: الجائرون هم الْكفَّار.
يُقَال: أقسط إِذا عدل، وقسط إِذا جَار.
فَمن أقسط مقسط، وَمن قسط قاسط.
قَالَ الفرزدق:
(قومِي هم قتلوا ابْن هِنْد عنْوَة ... عمرا وهم قسطوا على النُّعْمَان)(6/68)
{وَأما القاسطون فَكَانُوا لِجَهَنَّم حطبا (15) وَأَن لَو استقاموا على الطَّرِيقَة لأسقيناهم مَاء غدقا (16) لنفتنهم فِيهِ وَمن يعرض عَن ذكر ربه يسلكه عذَابا} .
أَي: جاروا.
وَقَوله: {فَمن أسلم فَأُولَئِك تحروا رشدا} أَي: طلبُوا الرشد (وتوخوا) لَهُ.
والمتحري والمتوخي بِمَعْنى وَاحِد.(6/69)
وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
وَقَوله: {وَأما القاسطون فَكَانُوا لِجَهَنَّم حطبا} أَي: الْكَافِرُونَ، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} .(6/69)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَن لَو استقاموا على الطَّرِيقَة} فِي الطَّرِيقَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا الْإِيمَان، وَهَذَا قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة وَعِكْرِمَة وَجَمَاعَة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحتنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض وَلَكِن كذبُوا} .
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الطَّرِيقَة هَاهُنَا طَريقَة الْكفْر والضلالة، وَهَذَا قَول أبي مجلز لَاحق بن حميد من التَّابِعين، وَهُوَ قَول الْفراء وَجَمَاعَة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى {وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة} الْآيَة.
فَجعل تماديهم فِي الْكفْر سَببا لتوسيع النعم عَلَيْهِم، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء} الْآيَة، وَمَعْنَاهُ: أَبْوَاب كل شَيْء من الْخيرَات وَالنعَم.
قَالُوا: وَالْقَوْل الأول أولى؛ لِأَنَّهُ عرف الطَّرِيقَة بِالْألف وَاللَّام، فَيَنْصَرِف إِلَى الطَّرِيقَة الْمَعْرُوفَة الْمَعْهُودَة شرعا وَهِي الْإِيمَان.
وَقَوله: {لأسقيناهم مَاء غدقا} أَي: كثيرا.
تَقول الْعَرَب: فرس غيداق إِذا كَانَ كثير الجري وَاسِعَة.
وَمَعْنَاهُ: أكثرنا لَهُم المَال وَالنعْمَة؛ لِأَن كَثْرَة المَاء سَبَب لِكَثْرَة المَال.(6/69)
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
وَقَوله: {لنفتنهم فِيهِ} أَي: لنبتليهم فِيهِ، ونختبرهم فِيهِ.(6/69)
{صعدا (17) وَأَن الْمَسَاجِد لله فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا (18) } .
وَاسْتدلَّ بِهَذَا من قَالَ: إِن معنى الطَّرِيقَة هُوَ الْكفْر والضلالة؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {ولنفتنهم فِيهِ} وَهَذَا لَا يلْزم من قَالَ بالْقَوْل الأول؛ لِأَن كَثْرَة النعم فتْنَة للْمُؤْمِنين والكفرة جَمِيعًا.
وَقَوله: {وَمن يعرض عَن ذكر ربه} أَي: عَن الْإِيمَان بربه {يسلكه عذَابا صعدا} أَي: شاقا.
وَالْعَذَاب الشاق هُوَ النَّار، وَمَعْنَاهُ: يدْخلهُ النَّار.
وَمِنْه قَول عمر رَضِي الله عَنهُ: مَا تَصعَّدَنِي شَيْء مَا تَصَعَّدَتْنِي خطْبَة النِّكَاح.
أَي شقَّتْ.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن قَوْله: {صعدا} هُوَ جبل فِي جَهَنَّم.
وَقيل: هُوَ صَخْرَة من نَار يُكَلف الصعُود عَلَيْهَا، فَإِذا صعد عَلَيْهَا وَقع فِي الدَّرك الْأَسْفَل.(6/70)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَن الْمَسَاجِد لله فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا} اتّفق الْقُرَّاء على فتح الْألف فِي هَذِه الْآيَة، وَعلة النصب أَن مَعْنَاهُ: وَلِأَن الْمَسَاجِد لله، ثمَّ حذفت اللَّام فانتصب الْألف.
وَقيل: انتصبت لِأَن مَعْنَاهُ: أوحى إِلَيّ أَن الْمَسَاجِد لله. وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة أَن الْجِنّ قَالُوا للنَّبِي: نَحن نود أَن نصلي مَعَك، فَكيف نَفْعل وَنحن ناءون عَنْك؟ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {وَأَن الْمَسَاجِد لله} وَمَعْنَاهُ: أَنكُمْ إِن صليتم فمقصودكم حَاصِل من عبَادَة الله تَعَالَى، فَلَا تُشْرِكُوا بِهِ أحدا، وَهُوَ معنى قَوْله: {فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا} وَيُقَال: هُوَ ابْتِدَاء كَلَام.
وَالْمعْنَى: أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى يشركُونَ فِي البيع والصوامع، وَكَذَلِكَ الْمُشْركُونَ فِي عبَادَة الْأَصْنَام، فَأنْتم أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ اعلموا أَن الصَّلَوَات وَالسُّجُود والمساجد كلهَا لله، فَلَا تُشْرِكُوا مَعَه أحدا.
وَفِي الْمَسَاجِد أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا بِمَعْنى السُّجُود، وَهِي جمع مَسْجِد.
يُقَال: سجدت سجودا ومسجدا وَالْمعْنَى: أَن السُّجُود لله يَعْنِي: هُوَ الْمُسْتَحق للسُّجُود.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْمَسَاجِد هِيَ الْمَوَاضِع المبنية للصَّلَاة المهيأة لَهَا، وَهِي جمع مَسْجِد، وَمعنى قَوْله: {لله} نفي الْملك عَنْهَا، أَو مَعْنَاهُ: الْأَمر بإخلاص الْعِبَادَة فِيهَا لله.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْمَسَاجِد هِيَ الْأَعْضَاء الَّتِي يسْجد عَلَيْهَا الْإِنْسَان من جَبهته وَيَديه وركبتيه وقدميه، وَالْمعْنَى: أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يسْجد على هَذِه الْأَعْضَاء إِلَّا لله.(6/70)
{وَأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا (19) قل إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أشرك بِهِ أحدا (20) } .
وَقد روى ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أمرت أَن أَسجد على سَبْعَة أعظم، وَألا أكف ثوبا وَلَا شعرًا ".(6/71)
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه لما قَامَ عبد الله} فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ ينْصَرف إِلَى قَول الْجِنّ، وَمَعْنَاهُ: قَالَ الْجِنّ: {وَإنَّهُ} وَقيل: ينْصَرف إِلَى قَول الله أَي: قَالَ الله تَعَالَى: وَإنَّهُ لما قَامَ عبد الله وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح مَعْنَاهُ: أوحى إِلَيّ أَنه لما قَامَ عبد الله.
فعلى القَوْل الأول قَوْله: {كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا} ينْصَرف إِلَى أَصْحَاب النَّبِي وَعبد الله هُوَ الرَّسُول، وَالْمعْنَى: أَن الْجِنّ لما رأو النَّبِي وَأَصْحَابه خَلفه وشاهدوا طواعيتهم لَهُ قَالُوا: كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا أَي: يركب بَعضهم بَعْضًا من الطواعية.
وعَلى القَوْل الثَّانِي الْمَعْنى: هُوَ أَن الله تَعَالَى حكى عَن الْجِنّ أَن الرَّسُول لما قَرَأَ الْقُرْآن عَلَيْهِم - يَعْنِي: على الْجِنّ - كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا أَي: على الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أَي: يركب بَعضهم بَعْضًا لحب الإصغاء إِلَى قِرَاءَته وَالِاسْتِمَاع إِلَيْهَا.
وَيُقَال: إِن الرَّسُول كَانَ صلى بهم وازدحموا عَلَيْهِ، وَكَاد يركب بَعضهم بَعْضًا.
وَفِي بعض التفاسير: كَادُوا يسقطون عَلَيْهِ.
وَأما على قِرَاءَة الْفَتْح قَوْله: {كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا} ينْصَرف إِلَى الْجِنّ أَيْضا، و (هُوَ) أظهر الْقَوْلَيْنِ أَن الِانْصِرَاف إِلَى الْجِنّ.
وَمن اللبد قَالُوا: تلبد الْقَوْم إِذا اجْتَمعُوا، وَمِنْه اللبد، لِأَن بعضه على بعض.
وَقيل: كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا أَي: تلبدت الْجِنّ وَالْإِنْس واجتمعوا على أَن يطفئوا نور الله لما قَامَ الرَّسُول يَدعُوهُ أَي: يَدْعُو الله، وَقُرِئَ: " لبدا " أَي: كثيرا.
واللبد أَيْضا اسْم آخر نسر من نسور (نعْمَان) بن عَاد، وَكَانَ عَاشَ سَبْعمِائة سنة.
وَقيل فِي الْمثل: طَال لبد على أمد.(6/71)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِنَّمَا أدعوا رَبِّي} وَقُرِئَ: " قَالَ إِنَّمَا أدعوا رَبِّي " فِي التَّفْسِير: أَن(6/71)
{قل إِنِّي لَا أملك لكم ضرا وَلَا رشدا (21) قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد وَلنْ أجد من دونه ملتحدا (22) إِلَّا بلاغا من الله ورسالاته وَمن يعْص الله وَرَسُوله} النَّضر بن الْحَارِث قَالَ للنَّبِي: إِنَّك جِئْت بِأَمْر عَظِيم، وخالفت دين آبَائِك، وَأَن الْعَرَب لَا يوافقونك على هَذَا، فَارْجِع إِلَى دين آبَائِك فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {قل إِنَّمَا أدعوا رَبِّي} أَي: أوحد رَبِّي {وَلَا أشرك بِهِ أحدا} أَي: مَعَه أحدا.
وَيُقَال: إِن هَذَا قَالَه مَعَ الْجِنّ، وَهُوَ نسق على مَا تقدم.(6/72)
قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِنِّي لَا أملك لكم ضرا وَلَا رشدا} يَعْنِي: لَا أملك ذَلِك بنفسي، وَإِنَّمَا هُوَ من الله تَعَالَى وبعونه وتوفيقه) .(6/72)
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد} روى أَن النَّضر بن الْحَارِث قَالَ لَهُ: ارْجع إِلَى دين آبَائِك وَلَا تخف من أحد، فَإنَّا نجيرك ونمنعك، فَأنْزل الله تَعَالَى: {قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد} أَي: لن ينصرني ويمنعني من عَذَاب الله أحد.
وَيُقَال: إِنَّه خطاب الْجِنّ نسقا على مَا تقدم.
وروى أَبُو الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس: أَن ابْن مَسْعُود خرج مَعَ النَّبِي لَيْلَة الْجِنّ، فازدحم الْجِنّ على النَّبِي وتعاووا عَلَيْهِ، فَقَالَ وَاحِد مِنْهُم يُقَال لَهُ وردان: يَا مُحَمَّد، لَا تخف فَأَنا أجيرك مِنْهُم، فَأنْزل الله تَعَالَى: {قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد} .
وَقَوله: {وَلنْ أجد من دونه ملتحدا} أَي: ملْجأ.
وَقيل: مهربا.
وَيُقَال: متعرجا.(6/72)
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
وَقَوله: {إِلَّا بلاغا من الله} أَي: لَا أملك شَيْئا من الضّر والرشد إِلَّا أَن أبلغ رِسَالَة رَبِّي أَي: لَيْسَ بيَدي إِلَّا هَذَا وَهَذَا التَّبْلِيغ.
وَقد قيل: ضرا وَلَا رشدا أَي: لَا أدفَع عَنْكُم ضرا، وَلَا أسوق إِلَيْكُم خيرا، وَلَيْسَ بيَدي إِلَّا أَن أبلغ رِسَالَة رَبِّي.
وَقَوله: {وَمن يعْص الله وَرَسُوله فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا أبدا} أَي: دَائِما.(6/72)
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يوعدون} أَي: الْقِيَامَة، قَالَه سعيد بن جُبَير وَغَيره.
وَقيل: الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا، قَالَه قَتَادَة وَغَيره.(6/72)
{فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا أبدا (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يوعدون فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا (24) قل إِن أَدْرِي أَقَرِيب مَا توعدون أم يَجْعَل لَهُ رَبِّي أمدا (25) عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحدا (26) إِلَّا من ارتضى من رَسُول فَإِنَّهُ يسْلك من بَين يَدَيْهِ}
وَقَوله: {فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا} أَي: وَأَقل جندا وأعوانا.
وَيُقَال: معنى قَوْله: {وَأَقل عددا} أَي: فِي الْقِيَامَة.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى يُعْطي الْمُؤمنِينَ من الْأزْوَاج والولدان والحور والقهارمة (و) وَمَا يكثر عَددهمْ ويزيدوا على أهل بَلْدَة كَثِيرَة من بِلَاد الدُّنْيَا، فَهُوَ معنى قَوْله: {فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا} فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يعيرون النَّبِي وَالْمُؤمنِينَ بقلة النَّاصِر وَقلة الْعدَد، فَقَالَ: {فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا} أَي: فِي الْقِيَامَة، وَإِذا وصل كل أحد إِلَى مستقره.(6/73)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)
قَوْله تَعَالَى {قل إِن أَدْرِي أَقَرِيب مَا توعدون أم يَجْعَل لَهُ رَبِّي أمدا} أَي: مُدَّة وَغَايَة، وَالْمعْنَى: لَا أَدْرِي أَنه يعجل لكم الْعَذَاب أَو يُؤَخِّرهُ، ويعجل لكم مُدَّة ومهلة.
وَقد روى أَن الْمُشْركين كَانُوا يستعجلونه الْعَذَاب، وَيَقُولُونَ: إِلَى مَتى توعدنا الْعَذَاب؟ فَأَيْنَ الْعَذَاب؟ فَأمره الله تَعَالَى أَن يكل ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، وَأَن يَقُول: إِنَّه بيد الله لَا بيَدي.(6/73)
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)
قَوْله تَعَالَى: {عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحدا} أَي: هُوَ عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحدا(6/73)
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
{إِلَّا من ارتضى من رَسُول} فَإِنَّهُ يطلعه على غيبه بِمَا ينزله عَلَيْهِ من الْآيَات والبينات.
وَقَوله: {فَإِنَّهُ يسْلك من بَين يَدَيْهِ} أَي: يَجْعَل من بَين يَدَيْهِ {وَمن خَلفه رصدا} أَي: حفظَة.
وروى سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: مَلَائِكَة يحرسونه.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى مَا بعث وَحيا من السَّمَاء إِلَّا وَمَعَهُ مَلَائِكَة يحرسونه.
فَإِن قَالَ قَائِل: وَمن مَاذَا يَحْفَظُونَهُ ويحرسونه؟ وَالْجَوَاب: أَن الْحِفْظ والحراسة لخطر شَأْن(6/73)
{من خَلفه رصدا (27) ليعلم أَن قد أبلغوا رسالات رَبهم وأحاط بِمَا لديهم وأحصى كل شَيْء عددا (28) } . الْوَحْي ولتعظيمه فِي النُّفُوس، لَا بِحكم الْحَاجة إِلَى الحراسة والحفظة.
يُقَال: إِن الْحِفْظ والحراسة من المسترقين للسمع، لِئَلَّا يسرقوا شَيْئا من ذَلِك ويلقوه إِلَى الكهنة.
وَقد ورد فِي الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى لما أنزل سُورَة الْأَنْعَام بعث مَعهَا سبعين ألف ملك يحرسونها ".
وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن من قَالَ بالنجوم شَيْئا وَادّعى علما من الْغَيْب بجهتها فَهُوَ كَافِر بِالْقُرْآنِ.
وَقد قَالَ بَعضهم: الطّرق والجبت والكهان كلهم مضللون وَدون الْغَيْب أشاروا.
وَقد ورد فِي الْأَخْبَار: " أَن النَّبِي نهى عَن النّظر فِي النُّجُوم ".
وَالْمعْنَى هُوَ النّظر فِيهَا لِلْقَوْلِ بِالْغَيْبِ عَنْهَا، فَأَما النّظر فِيهَا للاهتداء أَو للاعتبار أَو لمعْرِفَة الْقبْلَة وَمَا أشبه ذَلِك مُطلق جَائِز.(6/74)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
وَقَوله تَعَالَى: {ليعلم أَن قد أبلغوا رسالات رَبهم} وَقُرِئَ: " رِسَالَة رَبهم " وَهِي وَاحِد الرسالات.
وَاخْتلف القَوْل فِي قَوْله تَعَالَى: {ليعلم} فأحد الْأَقْوَال هُوَ أَن مَعْنَاهُ: ليعلم مُحَمَّد أَن الرُّسُل الَّذين كَانُوا قبله قد أبلغوا رسالات رَبهم على مَا أنزل إِلَيْهِم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه منصرف إِلَى الْجِنّ.
وَقُرِئَ: " ليعلم الْجِنّ أَن قد أبلغ الرُّسُل رسالات رَبهم على مَا أنزل إِلَيْهِم ".
وَالْقَوْل الثَّالِث: ليعلم الْمُؤْمِنُونَ.
وَالْقَوْل الرَّابِع: ليعلم الله، أوردهُ الزّجاج وَغَيره.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: ليعلم الله، وَهُوَ عَالم(6/74)
بالأشياء قبل كَونهَا ووجودها؟ وَالْجَوَاب: أَنا قد بَينا الْجَواب فِيمَا سبق فِي مَوَاضِع كَثِيرَة.
وَقد قيل: ليعلم الله تَعَالَى أَن قد أبلغ الرُّسُل رسالات رَبهم شَهَادَة ووجودا، وَقد كَانَ يعلم ذَلِك غيبا.
وَقَوله: {وأحاط بِمَا لديهم} أَي: أحَاط علمه بِمَا عِنْدهم.
وَقَوله: {وأحصى كل شَيْء عددا} أَي: وأحصى كل شَيْء معدودا.
وَيُقَال: عد كل شَيْء عددا، وَهَذَا على معنى أَنه لَا يخفى على الله شَيْء كثير أَو قَلِيل، جليل أَو دَقِيق.
وَالله أعلم.(6/75)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يَا أَيهَا المزمل (1) قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا (2) } .
تَفْسِير سُورَة المزمل
وَهِي مَكِّيَّة.
وَعند بَعضهم هِيَ مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل} إِلَى آخر السُّورَة.(6/76)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المزمل} مَعْنَاهُ: يَا أَيهَا المتزمل، أدغمت التَّاء فِي الزَّاي، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر} أَي: يَا أَيهَا المتدثر، أدغمت التَّاء فِي الدَّال.
قَالَ ابْن عَبَّاس: لما تراء لَهُ جِبْرِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - فِي ابْتِدَاء الْوَحْي فرق مِنْهُ فرقا شَدِيدا، فَرجع إِلَى بَيته وتزمل بثيابه؛ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {يَا أَيهَا المزمل} ثمَّ إِن جِبْرِيل - عَليّ السَّلَام - أَكثر الْمَجِيء إِلَيْهِ حَتَّى أنس.
قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: وَكَانَ متزملا فِي قطيفة.
وَعَن الضَّحَّاك فِي قَوْله: {يَا أَيهَا المزمل} يَا أَيهَا النَّائِم.
وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - جَاءَ إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِم، فَقَالَ: يَا أَيهَا المزمل - أَي النَّائِم - قُم، وَاتخذ لنَفسك ظلا يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله.
وَفِي بعض التفاسير عَن عِكْرِمَة: {يَا أَيهَا المزمل} يَا أَيهَا المتزمل بِالنُّبُوَّةِ.
وَهُوَ غَرِيب.
وَأنْشد فِي المزمل:
(كَأَن ثبيرا فِي عرانين وبلة ... كَبِير أنَاس فِي بجاد مزمل) .
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يَا أَيهَا المزمل ".(6/76)
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)
وَقَوله: {قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا} أَي: إِلَّا شَيْئا يَسِيرا مِنْهُ.
قَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ الثُّلُث، وَمَعْنَاهُ: قُم (ثُلثي) اللَّيْل.
وَعَن وهب بن مُنَبّه: إِلَّا(6/76)
{نصفه أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا (3) أَو زد عَلَيْهِ ورتل الْقُرْآن ترتيلا (4) } . قَلِيلا هُوَ دون السُّدس.(6/77)
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)
وَقَوله: {نصفه} يدل على اللَّيْل أَي: قُم نصفه إِلَّا قَلِيلا.
وَقيل فِي الْقَلِيل على هَذَا القَوْل: نصفه السُّدس.
وَقَوله: {أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا} أَي: من النّصْف إِلَى الثُّلُث.(6/77)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
وَقَوله {أَو زد عَلَيْهِ} أَي: زد على النّصْف إِلَى الثُّلثَيْنِ.
وَالْمعْنَى من الْآيَة: إِيجَاب الْقيام عَلَيْهِ مَعَ توسيع الْأَمر فِي الْمِقْدَار.
وَذكر النقاش أَن قَوْله: " نصفه " مَعْنَاهُ: أَو نصفه.
وَقَوله: {ورتل الْقُرْآن ترتيلا} أَي: بَينه تبيينا.
قَالَ الضَّحَّاك: حرفا حرفا.
وَحَقِيقَة الترتيل هُوَ الترسل فِي الْقِرَاءَة وإلقاء الْحُرُوف حَقّهَا من الإشباع بِلَا عجل وَلَا (هذرمة) .
وروى أَبُو جَمْرَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لِأَن أَقرَأ سُورَة الْبَقَرَة أرتل ترتيلا أحب إِلَيّ من أَن أَقرَأ جَمِيع الْقُرْآن هذرمة.
وَعَن أنس أَنه سُئِلَ عَن قِرَاءَة النَّبِي فَقَالَ: " كَانَ يمد مدا ".
وَفِي الحكايات عَن صَدَقَة المقابري أَنه قَالَ: قُمْت لَيْلَة وقرأت أحدر حدرا فَرَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي أزرع شَعِيرًا، ثمَّ رتلت فَرَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي أزرع حِنْطَة، ثمَّ حققت فَرَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي أزرع سمسما.
وَقد صَحَّ بِرِوَايَة سعد بن هِشَام أَنه قَالَ: قلت لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: أَخْبِرِينِي عَن قيام رَسُول الله بِاللَّيْلِ.
فَقَالَت: أَلَسْت تقْرَأ سُورَة المزمل؟ قلت: نعم.
قَالَت:(6/77)
{إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا (5) إِن ناشئة اللَّيْل هِيَ أَشد وطئا}
" فرض الله تَعَالَى قيام اللَّيْل على النَّبِي وَأَصْحَابه، فَقَامُوا سنة حَتَّى تورمت أَقْدَامهم، ثمَّ أنزل الله تَعَالَى قَوْله: {إِن رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل} فنسخ قيام اللَّيْل ".
وَفِي هَذَا الْخَبَر أَنه أنزل أول السُّورَة وَأمْسك خاتمتها سنة.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: سِتَّة عشر شهرا.
وَفِي بعض الغرائب من الرِّوَايَات: عشر سِنِين.(6/78)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا} قَالَ الْحسن: ثقيلا الْعَمَل بِهِ.
وَقَالَ الزّجاج: هُوَ الصَّلَاة وَالصِّيَام وَسَائِر الْأَوَامِر والنواهي، لَا يَفْعَلهَا الْإِنْسَان إِلَّا بتكلف يثقل عَلَيْهِ.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: ثقيل وَالله حُدُوده وفرائضه.
وَقيل: ثقيلا فِي الْمِيزَان يَوْم الْقِيَامَة، قَالَه الْحسن فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقَالَ الْفراء: هُوَ قَول ثقيل، أَي: لَيْسَ بخفيف وَلَا بسفساف، وَهُوَ ثقيل، أَي: لَهُ وزن بِصِحَّتِهِ وَبَيَانه وتقشعه.
يُقَال: هَذَا كَلَام رزين صين أَي: لَيْسَ بقول لَا معنى لَهُ.(6/78)
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
قَوْله تَعَالَى: {إِن ناشئة اللَّيْل} رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَمُجاهد وَسَعِيد ابْن جُبَير: أَنه اللَّيْل كُله.
وَعَن ابْن عمر وَأنس: هُوَ مَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء.
وَعَن الْكسَائي: أول اللَّيْل.
وَعَن بَعضهم: من صَلَاة الْعشَاء الْأَخِيرَة إِلَى الصُّبْح، قَالَه الْحسن وَالْحكم بن عتيبة.
وَعَن ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ أَن يَسْتَيْقِظ بعد أَن ينَام.
وناشئة اللَّيْل: سَاعَات اللَّيْل، وَحَقِيقَته هِيَ أَن سَاعَات الناشئة من اللَّيْل، أَي: الَّتِي ينشأ بَعْضهَا فِي إِثْر بعض.
وَقَوله: {هِيَ أَشد وطئا} وَقُرِئَ: " وطاء " أما قَوْله: {وطأ} قَالَ الْأَخْفَش سعيد ابْن مسْعدَة: أَشد قيَاما.
وَالْوَطْء فِي اللُّغَة هِيَ الثّقل.
قَالَ النَّبِي " اشْدُد وطأتك على مُضر ".
يُقَال: اشْتَدَّ وَطْء السُّلْطَان فِي بلد كَذَا، أَي: ثقله.
فعلى هَذَا معنى(6/78)
{وأقوم قيلا (6) إِن لَك فِي النَّهَار سبحا طَويلا (7) } .
قَوْله: {أَشد وطئا} أَي: ثقلا.
وَالْمعْنَى: أَنه أثقل على الْبدن؛ لِأَنَّهُ وَقت الرَّاحَة والسكون، فَيكون الْقيام فِيهِ أثقل، وَإِذا كَانَ الْقيام أثقل فالثواب أعظم، فَإِن الْجهد إِذا كَانَ أَشد، وَالْعَمَل أتعب، فالثواب أكبر، وَهُوَ المُرَاد بِالْآيَةِ فِي هَذِه الْقِرَاءَة.
وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة أَي: أَشد مواطأة، وَمَعْنَاهُ: مُوَافقَة بَين السّمع وَالْبَصَر وَالْقلب، وَذَلِكَ لقلَّة الحركات وهدء الْأَصْوَات، فَإِن بِالنَّهَارِ تكون الْعين مشتغلة بِالنّظرِ، وَالْأُذن بِالسَّمْعِ، وَالْقلب مشتغل بالتصرفات، فَلَا تقع الْمُوَافقَة بالاستماع والتفهم.
قَالَ الْفراء: {أَشد وطأ} أَي أَجْدَر أَن تُحْصُوا مقادير قيامكم لفراغ قُلُوبكُمْ.
وَقَوله: {وأقوم قيلا} قَالَ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل: أبين قولا.
وَعَن أنس أَنه قَرَأَ قَوْله: {أَشد وطاء} " أهيأ وطاء " وَهُوَ قريب الْمَعْنى من الأول.
وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: ناشئة اللَّيْل هُوَ جَمِيع اللَّيْل بالحبشية، وَهِي معربة.(6/79)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
قَوْله تَعَالَى: {إِن لَك فِي النَّهَار سبحا طَويلا} أَي: فراغا طَويلا للاستراحة.
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: سبحا طَويلا، أَي: تَصرفا وإقبالا وإدبارا فِي أمورك.
وَقَرَأَ يحيى بن يعمر " سبخا طَويلا " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
قَالَ ثَعْلَب: السبح هُوَ الِاضْطِرَاب، والسبخ هُوَ السّكُون.
وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لعَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - فِي السَّارِق مِنْهَا: " لَا تستبخي بِرَأْيِك عَلَيْهِ "، أَي: لَا تخففي.(6/79)
{وَاذْكُر اسْم رَبك وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا (8) رب الْمشرق وَالْمغْرب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فاتخذه وَكيلا (9) واصبر على مَا يَقُولُونَ واهجرهم هجرا جميلا (10) وذرني}(6/80)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
وَقَوله: وَقَوله {وَاذْكُر اسْم رَبك} قَالَ مقَاتل: إِذا قَرَأت فَقل: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم عِنْد افْتِتَاح السُّورَة.
وَقيل: اذكر رَبك.
وَقَوله: {وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا} أَي: انْقَطع إِلَيْهِ انْقِطَاعًا.
وَمِنْه الْعَذْرَاء البتول لِمَرْيَم، أَي: المنقطعة إِلَى الله تَعَالَى فِي النّسك.
وَكَذَلِكَ الزهراء البتول لفاطمة، أَي: المنقطعة عَن أقرانها فِي الْفضل، وَمِنْه صَدَقَة بتلة، أَي: مُنْقَطِعَة خَارِجَة من مَال الْمُتَصَدّق بهَا.
وَقيل: {وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا} أَي: أخْلص لَهُ إخلاصا.
وَذكر النقاش عَن مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: أَنه رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة.
وَعَن زيد بن أسلم: أَنه رفض الدُّنْيَا، وَطلب مَا عِنْد الله تَعَالَى.(6/80)
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
قَوْله تَعَالَى: {رب الْمشرق وَالْمغْرب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فاتخذه وَكيلا} قَالَ الْفراء: كَفِيلا.
وَقيل: إِلَهًا.
وَقيل: كل أمورك.(6/80)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
قَوْله تَعَالَى: {واصبر على مَا يَقُولُونَ} وَهَذَا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام قبل نزُول آيَة السَّيْف، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {واهجرهم هجرا جميلا} وَقد نسخ بِآيَة السَّيْف.
والهجر الْجَمِيل قيل: هُوَ الَّذِي لَا جزع فِيهِ.(6/80)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)
قَوْله تَعَالَى {وذرني والمكذبين} فَإِن قَالَ قَائِل: أيش معنى قَوْله: {وذرني والمكذبين} وَلَا حَائِل يحول عَنْهُم؟
وَالْجَوَاب: أَن الْعَرَب تَقول ذَلِك وَإِن لم يكن ثمَّ حَائِل وَلَا مَانع على مَا بَينا.
وَقَوله: {أولي النِّعْمَة} أَي: التنعم.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " إِن(6/80)
{والمكذبين أولي النِّعْمَة ومهلهم قَلِيلا (11) إِن لدينا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّة وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) } . عباد الله لَيْسُوا بمتنعمين ".
وَقَوله: ومهلهم قَلِيلا) أَي: أمهلهم مُدَّة قَليلَة.
قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: لم يكن بَين نزُول هَذِه الْآيَة ووقعة بدر إِلَّا شَيْئا (يَسِيرا) .
وَقد قيل: إِن الْآيَة نزلت فِي بني الْمُغيرَة، وَهُوَ مُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم.
وَيُقَال: إِنَّهَا نزلت فِي اثْنَي عشر رهطا من قُرَيْش، هم المطعمون يَوْم بدر.(6/81)
إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)
قَوْله تَعَالَى: {إِن لدينا أَنْكَالًا} أَي: قيودا.
وَقَالَت الخنساء:
(دعَاك فَقطعت أنكاله ... ولولاك يَا صَخْر لم تقطع) .
وَقَالَ أَبُو عمرَان الْجونِي: إِن لدينا أَنْكَالًا أَي: اللجم من النَّار.
وَقَوله: {وَجَحِيمًا} قد بَينا.(6/81)
وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
وَقَوله: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّة} قَالَ مُجَاهِد: هُوَ الزقوم، وَقيل: هُوَ شوك يحصل فِي الْحلق، فَلَا ينزل وَلَا يخرج.
وَقيل: هُوَ الضريع.
وَفِي الحكايات أَن الْحسن الْبَصْرِيّ طوى ثَلَاث لَيَال وَلم يفْطر، وَكَانَ كلما قدم إِلَيْهِ الطَّعَام ذكر هَذِه الْآيَة فيأمر بِرَفْعِهِ، حَتَّى أكره من بعد على شربة سويق.
وَقد ورد فِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار " أَن النَّبِي قرئَ عِنْده هَذِه الْآيَة فَصعِقَ صعقة "،(6/81)
{يَوْم ترجف الأَرْض وَالْجِبَال وَكَانَت الْجبَال كثيبا مهيلا (14) إِنَّا أرسلنَا إِلَيْكُم رَسُولا شَاهدا عَلَيْكُم كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا (15) فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول فأخذناه أخذا وبيلا (16) فَكيف تَتَّقُون إِن كَفرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَل الْولدَان شيبا (17) } . وَهُوَ غَرِيب جدا.
قَوْله: {وَعَذَابًا أَلِيمًا} أَي: موجعا.
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن الله تَعَالَى يحب النكل على النكل.
أَي: الرجل الْقوي المجرب على الْفرس المجرب.(6/82)
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترجف الأَرْض وَالْجِبَال} أَي: تتزلزل، وَمِنْه الرجفة، أَي: الزلزلة.
وَقَوله: {وَكَانَت الْجبَال كثيبا مهيلا} أَي: رملا سَائِلًا.
وَيُقَال: المهيل هُوَ الَّذِي إِذا أَخذ الطّرف مِنْهُ انهال الطّرف الآخر.(6/82)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا إِلَيْكُم رَسُولا شَاهدا عَلَيْكُم} وَهُوَ مُحَمَّد.
وَقَوله تَعَالَى: {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا} هُوَ مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ.(6/82)
فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
وَقَوله: {فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول} أَي: خرج عَن أمره.
وَقَوله: {فأخذناه أخذا وبيلا} أَي: شَدِيدا.
يُقَال: طَعَام وبيل إِذا أكله الْإِنْسَان فَلم يستمرئه.
وَقيل وبيلا: ثقيلا.(6/82)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
قَوْله تَعَالَى: {فَكيف تَتَّقُون إِن كَفرْتُمْ يَوْمًا} أَي: كَيفَ تَتَّقُون [إِن كَفرْتُمْ من عَذَاب يَوْم؟] ثمَّ وصف الْيَوْم فَقَالَ: {يَجْعَل الْولدَان شيبا} وَهَذَا على طَرِيق كَلَام الْعَرَب فِي ذكر شدَّة الْيَوْم، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: هُوَ يَوْم تشيب [فِيهِ] النواصي، وَيَوْم يبيض فِيهِ القار.
فَالْمُرَاد من الْآيَة هُوَ الْإِخْبَار عَن شدَّة الْأَمر.
وَفِي التَّفْسِير: أَنه يشيب فِيهِ ولدان الْكفَّار لَا ولدان الْمُؤمنِينَ.(6/82)
{السَّمَاء منفطر بِهِ كَانَ وعده مَفْعُولا (18) إِن هَذِه تذكرة فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه سَبِيلا (19) إِن رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل وَنصفه وَثلثه وَطَائِفَة من}(6/83)
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
وَقَوله: {السَّمَاء منفطر بِهِ} قد ورد عَن كثير من السّلف أَن قَوْله: {منفطر بِهِ} أَي: بِاللَّه، وَهُوَ نزُول يَوْم الْقِيَامَة لفصل الْقَضَاء بِلَا كَيفَ.
وَقيل: السَّمَاء منفطر بِهِ أَي: فِيهِ، يَعْنِي أَن السَّمَاء منشقة فِي يَوْم الْقِيَامَة.
ذكره أَبُو جَعْفَر النّحاس، وَذكر أَنه أحسن الْمعَانِي.
وَقَوله: {كَانَ وعده مَفْعُولا} أَي: متحققا كَائِنا لَا محَالة.(6/83)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذِه تذكرة} أَي: السُّورَة تذكرة عِبْرَة عظة.
قَوْله: {فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه سَبِيلا} أَي: طَرِيقا ووجهة إِلَى الله تَعَالَى.(6/83)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل وَنصفه} وَقُرِئَ: " وَنصفه " فَمن قَرَأَ بِفَتْح الْفَاء نَصبه على تَفْسِير الْأَدْنَى، وَمن قَرَأَ بِكَسْر الْفَاء، أَي: أدنى من نصفه.
وَقَوله: {وَثلثه} مَعْطُوف [على] النّصْف فِي الْقِرَاءَتَيْن.
وَقَوله: {وَطَائِفَة من الَّذين مَعَك} قد بَينا أَن النَّبِي وَأَصْحَابه قَامُوا حولا حَتَّى تورمت أَقْدَامهم.
وَفِي التَّفْسِير: أَنهم كَانُوا يقومُونَ جَمِيع اللَّيْل مَخَافَة أَن ينقصوا من الْمِقْدَار الْمَفْرُوض.
وَاخْتلف القَوْل فِي أَنه كَانَ الْقيام مَفْرُوضًا على النَّبِي وَجَمِيع أَصْحَابه أَو على النَّبِي وَحده؟
فَفِي أحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ وعَلى جَمِيع أَصْحَابه.
وَفِي قَول آخر: كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ وَحده [ذكره] أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ، وَذكر أَيْضا قَوْلَيْنِ فِي أَنه هَل بَقِي عَلَيْهِ قيام اللَّيْل بعد النّسخ؟(6/83)
{الَّذين مَعَك وَالله يقدر اللَّيْل وَالنَّهَار علم أَن لن تحصوه فَتَابَ عَلَيْكُم فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن}
فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَن النّسخ كَانَ فِي حق الصَّحَابَة، وَأما فِي حَقه بَقِي إِلَى أَن توفاه الله تَعَالَى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه صَار مَنْسُوخا فِي حَقه وَالصَّحَابَة جَمِيعًا، وَإِنَّمَا بقى التَّنَفُّل والتطوع بِهِ فَحسب.
وَقَوله: {وَالله يقدر اللَّيْل وَالنَّهَار} أَي: لَا يفوت عَن علمه سَاعَات اللَّيْل وَالنَّهَار، فَيعلم مَا يقومُونَ من ذَلِك وَمَا يتركون.
وَقَوله: {علم أَن لن تحصوه} أَي: لن [تطيقوه] .
وَالْمعْنَى: أَنه يشق عَلَيْكُم معرفَة مِقْدَار الْمَفْرُوض وَالْقِيَام بِالْأَمر، وَذَلِكَ لِأَن الْإِنْسَان إِذا نَام ثمَّ اسْتَيْقَظَ لَا يدْرِي وَكم نَام وَكم بَقِي من اللَّيْل، وَقد كَانَ الله تَعَالَى فرض قيام اللَّيْل على مِقْدَار مَعْلُوم، وَهُوَ لَا ينقص من الثُّلُث، ويبلغ الثُّلثَيْنِ إِن أَرَادَ.
وَقَوله: {فَتَابَ عَلَيْكُم} أَي: نُسْخَة عَلَيْكُم ورفضه، وَمعنى التَّوْبَة هُوَ الرّفْع وَالْعَفو هَاهُنَا.
وَقَوله: {فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: صلوا مَا تيَسّر من (الصَّلَاة) ، وَهَذَا على طَرِيق النَّافِلَة والتطوع لَا على طَرِيق الْفَرْض.
وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: يجب قيام اللَّيْل وَلَو حلب شَاة لهَذِهِ الْآيَة. وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول؛ " لِأَنَّهُ قد ثَبت أَن النَّبِي جَاءَهُ أَعْرَابِي ثَائِر الرَّأْس يسمع دوِي صَوته، وَلَا يفهم مَا يَقُول ... الْخَبَر إِلَى أَن قَالَ: هَل على غَيْرهنَّ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَن(6/84)
{علم أَن سَيكون مِنْكُم مرضى وَآخَرُونَ يضْربُونَ فِي الأَرْض يَبْتَغُونَ من فضل الله وَآخَرُونَ يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله}
تطوع ".
فَدلَّ هَذَا الْخَبَر أَن قيام اللَّيْل لَيْسَ بمفروض، وَفِيه إِجْمَاع.
وَالْقَوْل الثَّانِي: [أَن] قَوْله: {فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} أَي: فاقرءوا فِي الصَّلَاة مَا تيسير من الْقُرْآن من غير تَوْقِيف وَلَا تَقْدِير.
وَهَذَا على قَول الشَّافِعِي وَعَامة الْعلمَاء فِيمَا وَرَاء الْفَاتِحَة.
وَقد ذكر أَبُو [الْحسن] الدَّارَقُطْنِيّ فِي كِتَابه بِإِسْنَادِهِ عَن قيس بن أبي حَازِم أَنه قَالَ: صليت خلف ابْن عَبَّاس فَقَرَأَ الْفَاتِحَة فِي الرَّكْعَة الأولى، وَقَرَأَ الْآيَة الأولى من سُورَة الْبَقَرَة، ثمَّ قَامَ فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة وَقَرَأَ الْفَاتِحَة وَالْآيَة الثَّانِيَة من سُورَة الْبَقَرَة، فَلَمَّا فرغ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} يَعْنِي: أَنه الَّذِي تيَسّر.
قَالَ عَليّ بن عمر وَهُوَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ دَلِيل على قَول من يَقُول أَن مَا تيسير هُوَ مَا وَرَاء الْفَاتِحَة.
وَقَوله: {علم أَن سَيكون مِنْكُم مرضى} أَي: (ذَوُو) مرض.
قَوْله: {وَآخَرُونَ يضْربُونَ فِي الأَرْض يَبْتَغُونَ من فضل الله} أَي: التُّجَّار وَسَائِر الْمُسَافِرين.
وَقَوله: {وَآخَرُونَ يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله} أَي: الْغُزَاة.
وَالْكل بَيَان وُجُوه الْمَشَقَّة فِي قيام اللَّيْل.(6/85)
{فاقرءوا مَا تيَسّر مِنْهُ وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وَمَا تقدمُوا لأنفسكم من خير تَجِدُوهُ عِنْد الله هُوَ خيرا وَأعظم أجرا وَاسْتَغْفرُوا الله إِن الله غَفُور رَحِيم (20) } .
وَقَوله: {فاقرءوا مَا تيَسّر مِنْهُ} مَعْنَاهُ على مَا بَينا.
وَقَوله: {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} أَي: الصَّلَوَات الْخمس الْمَفْرُوضَة، وَالزَّكَاة الْمَفْرُوضَة.
وَقيل بِأَن الزَّكَاة هَاهُنَا: زَكَاة الرُّءُوس، وَهِي زَكَاة الْفطر.
وَقيل: {وأقرضوا الله قرضا حسنا} قد ذكرنَا من قبل.
وَقيل: هُوَ جَمِيع النَّوَافِل ووجوه الصَّلَاة.
وَقيل: هُوَ قَوْله: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر.
وَيُقَال: إِنَّه النَّفَقَة على الْأَهْل.
وَقَوله: {وَمَا تقدمُوا لأنفسكم من خير تَجِدُوهُ عِنْد الله} أَي: ثَوَابه عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {هُوَ خيرا وَأعظم} نَصبه على أَنه مفعول ثَان من تَجِدُوهُ.
وَقيل: هُوَ فصل كَلَام، ذكره الْأَزْهَرِي.
وَقَوله: {وَأعظم أجرا} مَعْطُوف على الأول.
وَقَوله: {وَاسْتَغْفرُوا الله إِن الله غَفُور رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى وَالله أعلم.(6/86)
تَفْسِير سُورَة المدثر
وَهِي مَكِّيَّة
وَذكر جَابر بن عبد الله أَنَّهَا أول سُورَة أنزلت من الْقُرْآن.
وروى أَن النَّبِي قَالَ: " جَاوَرت بحراء شهرا، فَلَمَّا نزلت واستبطنت الْوَادي نوديت يَا مُحَمَّد، فَنَظَرت من قدامي وَخَلْفِي ويميني وشمالي فَلم أر أحدا، فنوديت ثمَّ نوديت ثمَّ نوديت، فَرفعت رَأْسِي فَإِذا هُوَ فِي الْعَرْش فِي الْهَوَاء.
يَعْنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، فجئثت مِنْهُ فرقا، فَرَجَعت إِلَى الْبَيْت وَقلت: زَمِّلُونِي دَثرُونِي ".
وَفِي رِوَايَة: " صبوا عَليّ مَاء بَارِدًا، ثمَّ جَاءَنِي جِبْرِيل فَقَالَ: {يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر} .
وَمن الْمَعْرُوف أَن أول مَا نزل من الْقُرْآن سُورَة اقْرَأ، ونبين من بعد وَيُمكن الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ فَيُقَال: إِن سُورَة اقْرَأ أول مَا نزل من الْقُرْآن حِين بُدِئَ بِالْوَحْي، وَسورَة المدثر أول مَا نزل بعد فتور الْوَحْي، وَالله أعلم.(6/87)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يَا أَيهَا المدثر (1) ثمَّ فَأَنْذر (2) } .(6/88)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر} مَعْنَاهُ: يَا أَيهَا المتدثر، مثل قَوْله: {يَا أَيهَا المزمل} أَي: المتزمل.
وَالْفرق بَين الشعار والدثار، أَن الشعار هُوَ الثَّوْب الَّذِي يَلِي جلد الْإِنْسَان، والدثار هُوَ الثَّوْب الَّذِي فَوق ذَلِك.
وَقد روى معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: سَمِعت رَسُول الله يحدث عَن فَتْرَة الْوَحْي، فَقَالَ فِي حَدِيثه: " بَيْنَمَا أَنا أَمْشِي سَمِعت صَوتا من السَّمَاء، فَرفعت رَأْسِي، فَإِذا الْملك الَّذِي جَاءَنِي بحراء [جَالِسا] على كرْسِي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، فجئثت مِنْهُ رعْبًا، فَرَجَعت وَقلت: زَمِّلُونِي دَثرُونِي، فَأنْزل الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر} ، وَهَذَا خبر مُتَّفق على صِحَّته.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهِ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد، أخبرنَا أَبُو سهل عبد الصَّمد بن عبد الرَّحْمَن الْبَزَّار، أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا [العذافري] ، أخبرنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الدبرِي أخبرنَا عبد الرَّزَّاق عَن معمر ... الْخَبَر.(6/88)
قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
قَوْله تَعَالَى: {قُم فَأَنْذر} قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس: الْقيام فِي لُغَة الْعَرَب على وَجْهَيْن: قيام جد وعزم، وَقيام انتصاب، فقيام الانتصاب مَعْلُوم، وَقيام الْجد والعزم فَهُوَ مثل قَول الشَّاعِر:
(قد رضيناه فَقُمْ فسمه ... )
قَالَه لبَعض الْخُلَفَاء فِي بعض وُلَاة الْعَهْد.
وَقَالَ الضَّحَّاك: كَانَ النَّبِي قَائِما فَنزل(6/88)
{وَرَبك فَكبر (3) وثيابك فطهر (4) } . {يَا أَيهَا المدثر} أَي: النَّائِم.
{قُم فَأَنْذر} أَي: قُم من النّوم وأنذر النَّاس.(6/89)
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)
وَقَوله: {وَرَبك فَكبر} أَي: عظمه، وَدخلت الْفَاء بِمَعْنى جَوَاب الْجَزَاء.
وَقيل: رَبك فَكبر، أَي قل: الله أكبر.(6/89)
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَقَوله: {وثيابك فطهر} قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة مَعْنَاهُ: لَا تلبسها على غدر وفجور.
وَقَالَ السّديّ: وعملك فَأصْلح.
وَقَالَ الشَّاعِر فِي القَوْل الأول:
(وَإِنِّي بِحَمْد الله لَا ثوب فَاجر ... لبست وَلَا من غدرة أتقنع)
وَقَالَ السّديّ: تَقول الْعَرَب فلَان نقي الثِّيَاب إِذا كَانَت أَعماله صَالِحَة، وَفُلَان دنس الثِّيَاب إِذا كَانَت أَعماله خبيثة.
وَقيل: " وثيابك فطهر " أَي: قَلْبك فَأصْلح.
قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(فَإِن يَك قد ساءتك مني خَلِيقَة ... فسلي ثِيَابِي من ثِيَابك تنسل)
وَقَالَ طَاوس: وثيابك فطهر، أَي: قصر، فَإِن الثَّوْب إِذا طَال انجر على الأَرْض فَيُصِيبهُ مَا يُنجسهُ.
وَقَالَ عمر فِي رجل يجر ثِيَابه: قصر من ثِيَابك فَإِنَّهُ أنقى وَأبقى وَأتقى.
وَعَن ابْن سِيرِين فِي قَوْله: {وثيابك فطهر} أَي: [اغسلها] ، من النَّجَاسَات.
وَهُوَ قَول مُخْتَار عِنْد الْفُقَهَاء.
وَذكر الزّجاج أَن التَّطْهِير هُوَ التَّقْصِير على مَا ذكرنَا عَن طَاوس.
وَقيل: ونساءك فَأصْلح، أَي: تزوج الْمُؤْمِنَات العفيفات.
وَقد بَينا أَن اللبَاس يكنى(6/89)
{وَالرجز فاهجر (5) وَلَا تمنن تستكثر (6) ولربك فاصبر (7) فَإِذا نقر فِي الناقور (8) فَذَلِك يَوْمئِذٍ يَوْم عسير (9) على الْكَافرين غير يسير (10) } . بِهِ عَن النِّسَاء، فَكَذَلِك يجوز فِي الثِّيَاب.(6/90)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
وَقَوله: {وَالرجز فاهجر} قَالَ مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم مَعْنَاهُ: فاهجر، أَي: ابعد، وَالْقَوْل الثَّانِي: فِي الْأَوْثَان فاهجر، وَهُوَ قَول مَعْرُوف.
وَقد قرئَ: " وَالرجز فاهجر " لهَذَا الْمَعْنى.
وَقَالَ الْفراء: الرجز وَالرجز بِمَعْنى وَاحِد.
وَقيل: الرجز هُوَ الرجس، يَعْنِي: اجْتنب الرجاسات والنجاسات.
وعَلى هَذَا القَوْل أبدلت السِّين بالزاي.
وَيُقَال: الرجز هُوَ الْعَذَاب، وَالْمعْنَى: اجْتنب مَا يُؤَدِّي إِلَى الْعَذَاب.(6/90)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
وَقَوله {وَلَا تمنن تستكثر} وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وَلَا تمنن أَن تستكثر ".
قَالَ الْكسَائي: سَقَطت " أَن " فارتفع.
وَقَالَ الْحسن مَعْنَاهُ: لَا تمن بِعَطَائِك على أحد.
وَذكر الاستكثار لِأَنَّهُ إِنَّمَا يمن إِذا رَآهُ كثيرا.
وَالْقَوْل الْمَعْرُوف: لَا تعط أحدا لتعطي أَكثر مِمَّا تُعْطِي.
قَالَ إِبْرَاهِيم: وَهَذَا فِي حق النَّبِي خَاصَّة؛ لِأَن الله تَعَالَى أمره بأشرف الْآدَاب وَأجل الْأَخْلَاق، فَأَما فِي حق غَيره فَلَا بَأْس بِهِ.
رَوَاهُ الْمُغيرَة بن مقسم الضَّبِّيّ عَن إِبْرَاهِيم.
وَقد حكى هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ عَن غير إِبْرَاهِيم.(6/90)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
وَقَوله: {ولربك فاصبر} قَالَ مُجَاهِد: على مَا أوذيت.
وَقيل: على الْحق وإبلاغ الرسَالَة.
وَعَن إِبْرَاهِيم قَالَ: ولربك فاصبر حَتَّى تثاب على عَمَلك.
أوردهُ النّحاس عَنهُ.(6/90)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)
قَوْله تَعَالَى {فَإِذا نقر فِي الناقور} أَي: الصُّور.
وَيُقَال: هُوَ النفخة الأولى.
وَيُقَال: هُوَ الثَّانِيَة.
وَقد روى أَن زُرَارَة بن أبي أوفى كَانَ يُصَلِّي بِقوم فَقَرَأَ: {فَإِذا نقر فِي الناقور} فَخر مغشيا [عَلَيْهِ] .
وَقيل: إِنَّه شبه البوق.(6/90)
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
وَقَوله: {فَذَلِك يَوْمئِذٍ يَوْم عسير} أَي: شَدِيد(6/90)
عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
{على الْكَافرين غير يسير} أَي:(6/90)
{ذَرْنِي وَمن خلقت وحيدا (11) وَجعلت لَهُ مَالا ممدودا (12) وبنين شُهُودًا (13) } . غير هَين وَلَا لين.(6/91)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)
{قَوْله تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمن خلقت وحيدا} قَوْله: {ذَرْنِي} مَعْنَاهُ: دَعْنِي.
وَقد بَينا وَجه ذَلِك.
وَقَوله: {وحيدا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: خلقته وَحده لَا مَال لَهُ وَلَا ولد.
وَالثَّانِي: خلقته وحدي لم يشركني فِي خلقه غَيْرِي، وَهُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة على قَول أَكثر الْمُفَسّرين.(6/91)
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)
وَقَوله: {وَجعلت لَهُ مَالا ممدودا} فِيهِ أَقْوَال كَثِيرَة: أَحدهَا: أَنه ألف دِينَار، قَالَه ابْن عَبَّاس
وَعَن سُفْيَان: أَرْبَعَة آلَاف دِينَار، وَقَالَ قَتَادَة: سِتَّة آلَاف دِينَار.
وَعَن مُجَاهِد فِي بعض الرِّوَايَات: مائَة ألف دِينَار.
وَالْقَوْل الأول مَعْرُوف؛ لِأَن الْحساب يَمْتَد إِلَيْهِ فَيقطع.
وَعَن عمر بن الْخطاب: غلَّة شهر بِشَهْر.
وَقد ورد أَنه كَانَ لَهُ بُسْتَان بِالطَّائِف لَا يَنْقَطِع دخله شتاء وَلَا صيفا.
وَيُقَال: هُوَ المَال الَّذِي يستوعب جَمِيع وُجُوه المكاسب من التِّجَارَة وَالزَّرْع والضرع وَغير ذَلِك.
وَعَن ابْن عَبَّاس فِي بعض الرِّوَايَات: كَانَت لَهُ الْإِبِل المؤبلة وَالْخَيْل المسومة والأنعام من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وَغير ذَلِك.(6/91)
وَبَنِينَ شُهُودًا (13)
قَوْله تَعَالَى: {وبنين شُهُودًا} فِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ لَهُ [عشرَة] بَنِينَ، وَقيل: ثَلَاثَة عشر.
وَقيل: غير ذَلِك.
وَقَوله: {شُهُودًا} أَي: حُضُور لَا يغيبون عَنهُ لحَاجَة أَو لخوف.
(رَوَاهُ مُسلم) .(6/91)
{ومهدت لَهُ تمهيدا (14) ثمَّ يطْمع أَن أَزِيد (15) كلا إِنَّه كَانَ لآياتنا عنيدا (16) سَأُرْهِقُهُ صعُودًا (17) } .
[و] من بنيه أسلم اثْنَان: خَالِد بن الْوَلِيد، وَهِشَام بن الْوَلِيد، وَالْبَاقُونَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّة.(6/92)
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)
وَقَوله: {ومهدت لَهُ تمهيدا} التَّمْهِيد هُوَ التهيئة والتوطئة.
وَقيل: وسعت عَلَيْهِ الْأَمر توسيعا.
(وَيُقَال) : بسطت لَهُ مَا بَين الْيمن وَالشَّام.
أَي: فِي التِّجَارَة.
وَقيل: التَّمْهِيد هُوَ تيسير أَسبَاب الْمَعيشَة، كَأَنَّهُ كَانَ يَتَيَسَّر عَلَيْهِ كل مَا كَانَ يَطْلُبهُ ويريده من أَسبَابهَا.(6/92)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
وَقَوله: {ثمَّ يطْمع أَن أَزِيد} وروى أَن النَّبِي لما ذكر مَا أعد الله تَعَالَى للْمُسلمين من نعيم الْجنَّة، قَالَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة: أَنا أيسركم وأكثركم بَنِينَ، فَأَنا أَحَق بِالْجنَّةِ مِنْكُم، فَأنْزل الله تَعَالَى: {ثمَّ يطْمع أَن أَزِيد كلا} أَي: لَا أَزِيد.
وَقيل هَذَا فِي الدُّنْيَا، وَقد أعْسر من بعد وَاحْتَاجَ.
وَقَوله: {إِنَّه كَانَ لآياتنا عنيدا} أَي: معاندا.
وَقيل: جاحدا.(6/92)
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
وَقَوله: {سَأُرْهِقُهُ صعُودًا} الإرهاق فِي اللُّغَة: هُوَ حمل الرجل على (الشَّيْء) .
وَقَوله: {صعُودًا} روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي قَالَ: " هُوَ جبل من نَار يتَصَعَّد فِيهِ سبعين خَرِيفًا ثمَّ يهوى بِهِ كَذَلِك فِيهِ أبدا ".
ذكره أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي كِتَابه، وروى أَنه صَخْرَة من نَار إِذا وضع يَده عَلَيْهَا ذَابَتْ، وَإِذا رَفعهَا عَادَتْ.(6/92)
{إِنَّه فكر وَقدر (18) فَقتل كَيفَ قدر (19) ثمَّ قتل كَيفَ قدر (20) ثمَّ نظر (21) ثمَّ عبس وَبسر (22) } .
قَالَ الْكَلْبِيّ: يجر من قدامه بالسلاسل وَيضْرب من خَلفه بالمقامع فَإِذا صعد عَلَيْهَا هوى هَكَذَا أبدا.
وَيُقَال الصعُود: الْعقبَة الشاقة.
وَهَذَا القَوْل قريب مِمَّا ذكرنَا.(6/93)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه فكر} أَي: تدبر.
وَقَوله: {وَقدر} هُوَ بِمَعْنى التفكر أَيْضا.(6/93)
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
وَقَوله: {فَقتل كَيفَ قدر} أَي: لعن كَيفَ قدر.
قَالَ صَاحب النّظم مَعْنَاهُ: لعن على أَي حَال قدر مَا قدر.(6/93)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
وَقَوله: {ثمَّ قتل كَيفَ قدر} على وَجه التَّأْكِيد، وَمَعْنَاهُ مَا بَينا.(6/93)
ثُمَّ نَظَرَ (21)
وَقَوله: {ثمَّ نظر} أَي: بِرَأْيهِ وعقله فِي أَمر النَّبِي.
وروى إِسْحَاق [بن] إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي فِي كِتَابه بِإِسْنَادِهِ عَن مُجَاهِد أَن الْمُشْركين اجْتَمعُوا عِنْد الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَقَالُوا: هَذَا الْمَوْسِم يَأْتِي وَيقدم فِيهِ النَّاس، ويسألوننا عَن هَذَا الرجل، فَإِن سألونا نقُول: إِنَّه شَاعِر.
فَقَالَ الْوَلِيد: إِنَّهُم يسمعُونَ كَلَامه ويعلمون أَنه لَيْسَ بشاعر.
فَقَالُوا: نقُول: إِنَّه مَجْنُون: فَقَالَ: إِنَّهُم يسمعُونَ حَدِيثه فيعلمون أَنه عَاقل.
فَقَالُوا: نقُول إِنَّه كَاهِن.
فَقَالَ: إِنَّهُم قد رَأَوْا الكهنة فيعلمون أَنه لَيْسَ بكاهن.
قَالُوا: فَمَاذَا نقُول؟ فَحِينَئِذٍ فكر وَقدر وَنظر.(6/93)
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)
وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ عبس وَبسر} أَي: قطب وَجهه.
يُقَال للقاطب: وَجهه باسر.
وَقيل: العبوس بعد المحاورة، والبسور قبل المحاورة.
وَالأَصَح أَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لِأَن الْإِنْسَان إِذا أهمه الْأَمر، وَجعل يتفكر فِيهِ، وَيُؤْتى بعبس وَجهه كالمتكاره بِشَيْء.
ثمَّ إِن الْوَلِيد لما فعل جَمِيع مَا فعل للْقَوْم [قَالَ] : قُولُوا: إِنَّه سَاحر؛ فَإِن السَّاحر يبغض بَين المتحابين، ويحبب بَين(6/93)
{ثمَّ أدبر واستكبر (23) فَقَالَ إِن هَذَا إِلَّا سحر يُؤثر (24) إِن هَذَا إِلَّا قَول الْبشر (25) سأصليه سقر (26) وَمَا أَدْرَاك مَا سقر (27) لَا تبقي وَلَا تذر (28) } .
المتباغضين، وَإِن مُحَمَّدًا كَذَلِك، فَخَرجُوا واجتمعوا على هَذَا القَوْل، وَجعلُوا يَقُولُونَ لكل من يلقاهم: إِنَّه سَاحر، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ إِن هَذَا إِلَّا سحر يُؤثر} أَي: الْقُرْآن.
وَقَوله: {يُؤثر} أَي: يأثره عَن غَيره.
كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه يتَعَلَّم من غُلَام ابْن الْحَضْرَمِيّ، وَقيل غَيره.
وَقَوله: {ثمَّ أدبر واستكبر} أَي: تولى وتكبر.(6/94)
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
قَوْله: {إِن هَذَا إِلَّا قَول الْبشر} أَي: الْقُرْآن قَول الْبشر، لَيْسَ بقول الله تَعَالَى.(6/94)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)
وَقَوله تَعَالَى: {سأصليه سقر} سأدخله، وسقر اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم.
قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الدَّرك الْخَامِس، والدركات سبع كلهَا فِي الْقُرْآن: جَهَنَّم لظى، والجحيم، وسقر، وسعير، والهاوية، والحطمة.(6/94)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا سقر} قَالَه تَعْظِيمًا لأمر السقر.(6/94)
لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)
وَقَوله: {لَا تبقي وَلَا تذر} قَالَ مُجَاهِد: لَا تبقى حَيا فيستريح، وَلَا مَيتا فيتخلص، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى} .
وَيُقَال: {لَا تبقى وَلَا تذر} أَي لَا تبقى لَحْمًا وَلَا عظما (وَلَا تذر) أَي: إِذا أحرقت الْكل لم تذر؛ لِأَنَّهُ يعود خلقا جَدِيدا.
وَقيل: لَا تبقى أحدا من الْكَافرين، أَي: تَأْخُذ جَمِيع الْكَافرين وَلَا تذرهم من الْعَذَاب وقتا مَا، أَي: تحرقهم أبدا.
وَفِي بعض التفاسير: أَن كل شَيْء يسأم ويمل سوى جَهَنَّم.(6/94)
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
وَقَوله: {لواحة للبشر} أَي محرقة.
قَالَ أَبُو رزين: تحرقهم حَتَّى يصيروا سُودًا(6/94)
{لواحة للبشر (29) عَلَيْهَا تِسْعَة عشر (30) وَمَا جعلنَا أَصْحَاب النَّار إِلَى مَلَائِكَة كالليل المظلم.
وَقيل: لواحة للبشر أَي: تحرق اللَّحْم حَتَّى تلوح الْعظم.
وَيُقَال مَعْنَاهُ: أَن بشرة أَجْسَادهم تلوح على النَّار، حكى هَذَا عَن مُجَاهِد.
وَقيل: لواحة للبشر، أَي: معطشة للبشر، قَالَ الشَّاعِر:
(سقتني على لوح من المَاء شربة ... سَقَاهَا بِهِ الله الربَاب والغواديا}(6/95)
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
وَقَوله: {عَلَيْهَا تِسْعَة عشر} أَي: من الزَّبَانِيَة وخزنة النَّار.
وَفِي التَّفْسِير: أَن من منْكب أحدهم إِلَى الْمنْكب الآخر مسيرَة سنة، وَيَأْخُذ بكفه مثل عدد ربيعَة وَمُضر، وَيدْفَع فِي النَّار بدفعة وَاحِدَة سبعين ألفا.
وَقيل: تسعين ألفا، وأعينهم كالبرق الخاطف، وأسنانهم كصياص الْبَقر.
وَذكر الْكَلْبِيّ أَن لَهُم من الأعوان والجند مَا لَا يعلم عَددهمْ إِلَّا الله تَعَالَى.(6/95)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا أَصْحَاب النَّار إِلَى مَلَائِكَة} سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة أَن النَّبِي لما أخبر بِعَدَد الزَّبَانِيَة، وَقَالَ أَبُو جهل: أرى مُحَمَّدًا يوعدكم بِتِسْعَة عشر وَأَنْتُم الدهم، أَفلا تقرنون مَعَهم ليعمد كل عشرَة مِنْكُم إِلَى وَاحِد فيدفعه.
وَقَالَ أَبُو الْأسد بن كلدة - وَكَانَ رجلا من بني جمح -: أَنا أتقدمكم على الصِّرَاط، فأدفع عشرَة بمنكبي الْأَيْمن، وَتِسْعَة بمنكبي الْأَيْسَر، ونمر إِلَى الْجنَّة.
وَقَالَ: كلدة بن أسيد: أَنا أكفيكم سَبْعَة عشر، فاكفوني أَنْتُم اثْنَيْنِ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا أَصْحَاب النَّار إِلَّا مَلَائِكَة} أَي: هَؤُلَاءِ التِّسْعَة عشر من الْمَلَائِكَة، وَكَيف تطيقونهم؟ وروى أَن الْمُسلمين لما سمعُوا مِنْهُم هَذَا قَالُوا: تقيسون الْمَلَائِكَة بالحدادين؟ أَي: (السجانين) .(6/95)
{وَمَا جعلنَا عدتهمْ إِلَّا فتْنَة للَّذين كفرُوا ليستقين الَّذين أُوتُوا الْكتاب ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا وَلَا يرتاب الَّذين أُوتُوا الْكتاب والمؤمنون وليقول الَّذين فِي قُلُوبهم مرض والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا كَذَلِك يضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء وَمَا يعلم جنود رَبك إِلَّا هُوَ}
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا عدتهمْ إِلَّا فتْنَة للَّذين كفرُوا} أَي: منحة وبلية حَتَّى قَالُوا مَا قَالُوا.
وَقَوله: {ليستيقن الَّذين أُوتُوا الْكتاب} أَي: ليستيقن الَّذين أُوتُوا الْكتاب أَن مُحَمَّدًا قَالَ مَا قَالَ من الله تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ وَافق هَذَا الْعدَد الَّذين (وعدوا) فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَقَوله: {ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا} أَي: يزْدَاد الَّذين آمنُوا من أهل الْكتاب إِيمَانًا.
وَقيل: يزْدَاد جَمِيع الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا إِذا رَأَوْا مَا قَالَه النَّبِي مُوَافقا لما حَكَاهُ أهل الْكتاب.
وَقَوله: {وَلَا يرتاب الَّذين أُوتُوا الْكتاب والمؤمنون} أَي: لَا يشكوا فِي الْعدَد إِذا وجدوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن متفقة على هَذَا الْعدَد.
وَقَوله: {وليقول الَّذين فِي قُلُوبهم مرض والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا} أَي: كَيفَ ذكر الله هَذَا الْعدَد وَخص الزَّبَانِيَة بِهِ؟ وَهُوَ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا فتْنَة للَّذين كفرُوا} .
وَقَوله: {كَذَلِك يضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} يَعْنِي: كَمَا أضلّ الْكفَّار بِهَذَا الْعدَد، وَهدى الْمُؤمنِينَ لقبوله، كَذَلِك يضل الله من يَشَاء، وَيهْدِي من يَشَاء بِمَا ينزل من الْقُرْآن.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا يعلم جنود رَبك إِلَّا هُوَ} روى أَن الْكفَّار لما سمعُوا هَذَا الْعدَد(6/96)
{وَمَا هِيَ إِلَّا ذكرى للبشر (31) كلا وَالْقَمَر (32) وَاللَّيْل إِذا أدبر (33) وَالصُّبْح إِذا أَسْفر (34) إِنَّهَا لإحدى الْكبر (35) نذيرا للبشر (36) } . قَالُوا: مَا أقل هَذَا الْعدَد؛ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا يعلم جنود رَبك إِلَّا هُوَ} أَي: لَهُ من الْجنُود سوى هَذَا الْعدَد مَا لَا يعلم عَددهَا إِلَّا هُوَ.
وَقَوله: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذكرى للبشر} أَي: هَذِه الْآيَة عظة وعبرة للبشر.(6/97)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32)
قَوْله تَعَالَى: {كلا وَالْقَمَر} كلا: هُوَ رد لما قَالُوا.
وَقَوله: {وَالْقَمَر} ابْتِدَاء قسم.(6/97)
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)
وَقَوله: {وَاللَّيْل إِذا أدبر} وَقُرِئَ: {إِذا أدبر} أَي: تولى وَذهب.
وَقَوله: {إِذا أدبر} أَي: إِذا جَاءَ خلف النَّهَار.
وروى أَن عبد الله بن عَبَّاس سُئِلَ عَن قَوْله: {وَاللَّيْل إِذا أدبر} فَقَالَ للسَّائِل: امْكُث.
فَلَمَّا أذن الْمُؤَذّن للصبح قَالَ: هَذَا حِين دبر اللَّيْل.
وَقد أنكر بَعضهم هَذِه الْقِرَاءَة.
وَقَالُوا: إِذا دبر، إِنَّمَا يُقَال فِي ظهر الْبَعِير.
وَالصَّحِيح مَا بَينا، وهما قراءتان معروفتان.
وَقَالَ الْكسَائي وَالْفراء: دبر وَأدبر بِمَعْنى وَاحِد.(6/97)
وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)
وَقَوله: {وَالصُّبْح إِذا أَسْفر} أَي: تبين وأضاء.
يُقَال: سفرت الْمَرْأَة عَن وَجههَا، (وسفر) الرجل بَيته إِذا كنسه حَتَّى كشف عَن تُرَاب الْبَيْت.(6/97)
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
وَقَوله: {إِنَّهَا لإحدى الْكبر} أَي: الْقِيَامَة لإحدى العظائم.
وَيُقَال: الْكبر دركات جَهَنَّم.
وَقَوله: {إِنَّهَا لإحدى الْكبر} أَي: سقر إِحْدَى دركات جَهَنَّم، فَيَنْصَرِف (إِلَى مَا) ذكرنَا.(6/97)
نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)
وَقَوله: {نذيرا للبشر} أَي: إنذارا للبشر.
وَذكر النّحاس أَنه رَجَعَ إِلَى قَوْله:(6/97)
{لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يتَقَدَّم أَو يتَأَخَّر (37) كل نفس بِمَا كسبت رهينة (38) إِلَّا أَصْحَاب الْيَمين (39) فِي جنَّات يتساءلون (40) عَن الْمُجْرمين (41) مَا سلككم فِي سقر (42) قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين (43) وَلم نك نطعم الْمِسْكِين (44) وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين (45) وَكُنَّا نكذب بِيَوْم الدّين (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين (47) فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين (48) } .
{قُم} أَي: قُم نذيرا للبشر.(6/98)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
وَقَوله: {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يتَقَدَّم أَو يتَأَخَّر} أَي: يتَقَدَّم إِلَى الْإِيمَان أَو يتَأَخَّر عَنهُ.(6/98)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)
وَقَوله: {كل نفس بِمَا كسبت رهينة} أَي: مرتهنة.(6/98)
إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)
وَقَوله: {إِلَّا أَصْحَاب الْيَمين} فليسوا بمرتهنين؛ لِأَنَّهُ لَيست لَهُم ذنُوب.
قَالَ زَاذَان عَن عَليّ: هم ولدان الْمُسلمين.
وَقيل: هم الْأَنْبِيَاء.
وَقيل: هم الَّذين يُعْطون الْكتاب بأيمانهم.
وَقيل: هم الَّذين أخذُوا من صلب آدم من الْجَانِب الْأَيْمن، وَقَالَ الله تَعَالَى لَهُم: هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَلَا أُبَالِي.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنهم الْمَلَائِكَة.(6/98)
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
وَقَوله: {فِي جنَّات} أَي: بساتين.
وَقَوله: {يتساءلون عَن الْمُجْرمين مَا سلككم فِي سقر} أَي: مَا أدخلكم فِي سقر، وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَن ذَلِك؛ لأَنهم لم يعرفوا الذُّنُوب، وَهَذَا يَصح إِذا حملنَا على الْمَلَائِكَة وولدان الْمُسلمين، وَأما إِذا حملنَا على غَيرهم، فَهُوَ سُؤال مَعَ الْمعرفَة، وَيجوز أَن يسْأَل الْإِنْسَان عَن غَيره مَعَ معرفَة حَاله.(6/98)
قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين} قَالَ قَتَادَة: كلما غوى قوم غوينا مَعَهم.
وَقيل: كُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين فِي أَمر مُحَمَّد، وننسبه إِلَى السحر وَالشعر وَغير ذَلِك.(6/98)
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
وَقَوله: {وَكُنَّا نكذب بِيَوْم الدّين حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين} أَي: الْمَوْت.(6/98)
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
وَقَوله: {فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين} لأَنهم كفرة، فَلَا يكون لَهُم شَفِيع وَلَو(6/98)
{فَمَا لَهُم عَن التَّذْكِرَة معرضين (49) كَأَنَّهُمْ حمر مستنفرة (50) فرت من قسورة (51) بل يُرِيد كل امْرِئ مِنْهُم أَن يُؤْتى صحفا منشرة (52) كلا بل لَا يخَافُونَ الْآخِرَة (53) كلا إِنَّه تذكرة (54) فَمن شَاءَ ذكره (55) } . كَانَ لم يَنْفَعهُمْ.
وَفِي التَّفْسِير: أَن هَذَا حِين يخرج قوم من الْمُؤمنِينَ من النَّار بشفاعة الْأَنْبِيَاء وَالرسل وَالْمَلَائِكَة وَالْعُلَمَاء وَالصديقين، وكل هَذَا مَرْوِيّ [فِي] الْأَخْبَار، وَيبقى الْكفَّار فِي النَّار على الْخُصُوص.(6/99)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
وَقَوله: {فَمَا لَهُم عَن التَّذْكِرَة معرضين} أَي: العظة وَالْعبْرَة.(6/99)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
وَقَوله: {كَأَنَّهُمْ حمر مستنفرة} وَقُرِئَ: {مستنفَرة} بِفَتْح الْفَاء.
وَقَوله: {مستنفرة} نافرة.
وَقَوله: {مستنفَرة} أَي: مَذْعُورَة.(6/99)
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
وَقَوله: {فرت من قسورة} قَالَ ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة: هُوَ الْأسد.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يُقَال بِالْعَرَبِيَّةِ الْأسد، وبالحبشية القسورة، وبالفارسية شير، وبالنبطية أريا.
وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فرت من قسورة: هم النقابون.
وَقيل: هم رُمَاة النبل.(6/99)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)
وَقَوله: {بل يُرِيد كل امْرِئ مِنْهُم أَن يُؤْتى صحفا منشرة} روى أَن الْكفَّار قَالُوا: لَا نؤمن بك يَا مُحَمَّد حَتَّى تَأتي كل وَاحِد منا كتابا من الله أَن آمن بِمُحَمد فَإِنَّهُ رَسُولي.(6/99)
كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53)
وَقَوله: {كلا} أَي: لَا يُؤْتونَ هَذِه الصُّحُف.
وَقيل: كلا أَي: لَو أُوتُوا هَذِه الصُّحُف لم يُؤمنُوا.
وَقَوله: {بل لَا يخَافُونَ الْآخِرَة} أَي: لَو خَافُوا لم يطلبوا هَذِه الْأَشْيَاء.(6/99)
كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)
وَقَوله: {كلا إِنَّه تذكرة} أَي: الْقُرْآن عظة وعبرة.(6/99)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)
وَقَوله: {فَمن شَاءَ ذكره} أَي: اتعظ بِهِ وَاعْتبر بِهِ، ثمَّ رد الْمَشِيئَة إِلَى نَفسه فَقَالَ:(6/99)
{وَمَا يذكرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء الله هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة (56) } .(6/100)
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
{وَمَا يذكرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء الله} أَي: لَا يعتبرون وَلَا يتعظون إِلَّا بمشيئتي.
وَقَوله: {هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة} أَي: أهل أَن أبقى خَالِدا فِي الْجنَّة من اتَّقى، وَلم يَجْعَل معي إِلَهًا.
{وَأهل الْمَغْفِرَة} أَي: من اتَّقى وَلم يَجْعَل معي إِلَهًا فَأَنا أهل أَن أَغفر لَهُ.
وَفِي هَذَا خبر مُسْند بِرِوَايَة أنس عَن النَّبِي على نَحْو هَذَا الْمَعْنى ذكره أَبُو عِيسَى فِي كِتَابه.
وَعَن مُحَمَّد بن النَّضر بن الْحَارِث فِي هَذِه الْآيَة أَن قَوْله: {هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة} الْمَعْنى: أَنا أهل أَن أتقي بترك الذُّنُوب {وَأهل الْمَغْفِرَة} أَي: وَأَنا أهل أَن أَغفر للمذنبين إِن لم يتقوا.
وَذكر الْأَزْهَرِي فِي قَوْله {بل يُرِيد كل امْرِئ مِنْهُم أَن يُؤْتى صحفا منشرة} قولا آخر: هُوَ أَن الْمُشْركين قَالُوا: كَانَت بَنو إِسْرَائِيل إِذا أذْنب الْوَاحِد مِنْهُم ذَنبا ظهر ذَنبه مَكْتُوبًا على بَاب دَاره، فَمَا بالنا لَا يكون لنا ذَلِك إِن كُنَّا مذنبين؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأخْبر على هَذَا الْمَعْنى، وَأخْبر أَنه لَا يفعل ذَلِك لهَذِهِ الْأمة، وَأَن ذَلِك كَانَ مَخْصُوصًا ببني إِسْرَائِيل.
وَالله أعلم.(6/100)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{لَا أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة (1) .
تَفْسِير سُورَة الْقِيَامَة
وَهِي مَكِّيَّة
وَعَن عمر - رَضِي الله - عَنهُ أَنه قَالَ: من أَرَادَ أَن يُشَاهد الْقِيَامَة فليقرأ سُورَة الْقِيَامَة.
وَعَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَنه قَالَ: يَقُولُونَ الْقِيَامَة وَمن مَاتَ فقد قَامَت قِيَامَته.
أورد هذَيْن الأثرين النقاش فِي تَفْسِير.(6/101)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {لَا أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة} قَالَ سعيد بن جُبَير مَعْنَاهُ: أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة.
وَعنهُ أَيْضا أَنه سَأَلَ ابْن عَبَّاس عَن قَوْله: {لَا أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة} فَقَالَ: إِن رَبنَا تَعَالَى يقسم بِمَا شَاءَ من خلقه.
وَاخْتلفُوا فِي قَوْله: " لَا " على أَقْوَال: أحد الْأَقْوَال: أَنَّهَا صلَة، أَي: زَائِدَة على مَا هُوَ مَذْهَب كَلَام الْعَرَب، وَأنكر الْفراء هَذَا وَقَالَ: الصِّلَة إِنَّمَا تكون فِي أثْنَاء الْكَلَام، فَأَما فِي ابْتِدَاء الْكَلَام فَلَا، وَمعنى قَوْله: {لَا} أَي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا يَزْعمُونَ أَن لَا بعث وَلَا جنَّة وَلَا نَار، ثمَّ ابْتَدَأَ بقوله: {أقسم} وَأجَاب من قَالَ بالْقَوْل الأول أَن الْقُرْآن كُله مُتَّصِل بعضه بِالْبَعْضِ فِي الْمَعْنى، فيصلح أَن تكون " لَا " صلَة فِي هَذَا الْموصل وَإِن كَانَ (عِنْد) ابْتِدَاء السُّورَة.
وَالْقَوْل الثَّالِث أَن معنى قَوْله: {لَا} على معنى التَّنْبِيه، كَأَنَّهُ قَالَ: أَلا فَتنبه ثمَّ أقسم، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(أَلا وَأَبِيك ابْنة العامري ... لَا يَدعِي قوم أَنِّي أفر)
وَقَرَأَ ابْن كثير: " لأقسم بِيَوْم الْقِيَامَة " وَهِي قِرَاءَة الْحسن والأعرج.
وَأنكر النحويون(6/101)
{وَلَا أقسم بِالنَّفسِ اللوامة (2) أيحسب الْإِنْسَان أَن لن نجمع عِظَامه (3) بلَى قَادِرين على أَن نسوي بنانه (4) } . من الْبَصرِيين هَذِه الْقِرَاءَة وَزَعَمُوا أَنَّهَا لحن، وَقَالُوا: لَا بُد من دُخُول النُّون إِذا كَانَ على هَذَا الْوَجْه، وَالصَّحِيح هِيَ الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَأكْثر الْقُرَّاء على هَذَا.
وَقَوله: {بِيَوْم الْقِيَامَة} سميت الْقِيَامَة؛ لِأَن النَّاس يقومُونَ فِي هَذَا الْيَوْم لِلْحسابِ وَجَزَاء الْأَعْمَال.(6/102)
وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)
وَقَوله: {وَلَا أقسم بِالنَّفسِ اللوامة} أَي: أقسم.
وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة، وَلم يقسم بِالنَّفسِ اللوامة.
وَالأَصَح أَن الْقسم بهما.
وَفِي اللوامة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا الْفَاجِرَة تلام يَوْم الْقِيَامَة، فَمَعْنَى اللوامة: الملومة هَاهُنَا على هَذَا القَوْل.
وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح -: أَنَّهَا المؤمنة تلوم نَفسهَا على مَا تفعل من الْمعاصِي.
قَالَ مُجَاهِد: الْمُؤمن يلوم نَفسه على الْمعاصِي، وَالْكَافِر يمْضِي قدما قدما فِي الْمعاصِي وَلَا يفكر فِيهِ.
وَفِي التَّفْسِير: أَنه مَا من أحد إِلَّا وَيَلُوم نَفسه يَوْم الْقِيَامَة؛ إِن كَانَ محسنا يلوم أَلا ازْدَادَ واستكثر من الْإِحْسَان، وَإِن كَانَ مسيئا يلوم نَفسه أَلا أقلع عَن الْإِسَاءَة والمعاصي.(6/102)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)
وَقَوله {أيحسب الْإِنْسَان أَن لن نجمع عِظَامه} أَي: لن نحيي عِظَامه (فنجمعها) للإحياء بعد تفرقها.(6/102)
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
وَقَوله: {بلَى} هُوَ جَوَاب الْقسم، وَعَلِيهِ وَقع الْقسم.
وَقَوله: {قَادِرين} أَي: بلَى لنجمعنكم قَادِرين.
وَقيل: بلَى نقدر قَادِرين.
وَقَوله: {على أَن نسوي بنانه} أَي: على تَسْوِيَة بنانه، وَهِي أَطْرَاف الْأَصَابِع، وفيهَا عِظَام صغَار، وخصها بِالذكر؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذا قدر على جمع الْعِظَام الصغار فعلى الْكِبَار أقدر على جمعهَا وإحيائها.
وَعَن قَتَادَة فِي قَوْله: {على أَن نسوي بنانه} أَن(6/102)
{بل يُرِيد الْإِنْسَان ليفجر أَمَامه (5) يسْأَل أَيَّانَ يَوْم الْقِيَامَة (6) فَإِذا برق الْبَصَر (7) وَخسف الْقَمَر (8) } . نجْعَل أَصَابِعه بِمَنْزِلَة خف الْبَعِير وحافر الْحمار، وَهَذَا قَول مَشْهُور فِي التفاسير.(6/103)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
قَوْله تَعَالَى: {بل يُرِيد الْإِنْسَان ليفجر أَمَامه} فِي التَّفْسِير: أَن مَعْنَاهُ: يقدم الذَّنب وَيُؤَخر التَّوْبَة.
وَهُوَ بِمَعْنى التسويف فِي ترك الْمعاصِي وَالتَّوْبَة إِلَى الله.
وروى عَليّ بن أبي طَلْحَة الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس أَن مَعْنَاهُ: هُوَ التَّكْذِيب بالقيامة، والفجور هُوَ الْميل عَن الْحق، والكاذب مائل عَن الصدْق فَهُوَ فَاجر.
وَحكى ابْن قُتَيْبَة أَن أَعْرَابِيًا جَاءَ إِلَى عمر - رَضِي الله - عَنهُ وَقَالَ: إِن بَعِيري قد دبر فَاحْمِلْنِي على بعير، فَلم يحملهُ عمر، فولى الْأَعرَابِي وَهُوَ يَقُول:
(أقسم بِاللَّه أَبُو حَفْص عمر ... مَا مَسّه من نقب وَلَا دبر)
(اغْفِر لَهُ اللَّهُمَّ إِن كَانَ فجر ... )
أَي: كذب.
قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {يفجر أَمَامه} أَي: يمْضِي أَمَامه رَاكِبًا هَوَاهُ لَا يفكر فِي ذَنْب، وَلَا يَتُوب عَن مَعْصِيّة.(6/103)
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)
قَوْله تَعَالَى: {يسْأَل أَيَّانَ يَوْم الْقِيَامَة} أَي: مَتى يَوْم الْقِيَامَة، وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِك على وَجه الِاسْتِهْزَاء، وَهُوَ دَلِيل على صِحَة القَوْل الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس.(6/103)
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا برق الْبَصَر} وَقُرِئَ: " برق " بِالْفَتْح، فَقَوله: " برق الْبَصَر " أَي: شخص من الهول فَلم يطرف.
وَقَوله: " برق " أَي: تحير وجزع، وَيُقَال: غشيه مثل الْبَرْق.(6/103)
وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)
وَقَوله: {وَخسف الْقَمَر} أَي: ذهب ضوءه.
وَمِنْه يُقَال: بِئْر منخسفة وَغير منخسفة.
وَعَن أبي حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الرَّازِيّ أَنه قَالَ: الْكُسُوف أَن يذهب بعض(6/103)
{وَجمع الشَّمْس وَالْقَمَر (9) يَقُول الْإِنْسَان يَوْمئِذٍ أَيْن المفر (10) كلا لَا وزر (11) إِلَى رَبك يَوْمئِذٍ المستقر (12) ينبأ الْإِنْسَان يَوْمئِذٍ بِمَا قدم وَأخر (13) } . الضَّوْء، والخسوف أَن يذهب جَمِيع الضَّوْء.
وَهُوَ قَول مَرْوِيّ عَن غَيره أَيْضا.(6/104)
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
وَقَوله: {وَجمع الشَّمْس وَالْقَمَر} أَي: فِي الخسفة وإذهاب الضَّوْء.
قَالَ ابْن مَسْعُود: يصيران كالبعيرين القرينين، ثمَّ يلقيان فِي النَّار فيصيران نَارا على الْكفَّار، وَهَذَا على معنى قَوْله.
وَعَن مُجَاهِد: وَجمع الشَّمْس وَالْقَمَر أَي: كور كِلَاهُمَا.(6/104)
يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
وَقَوله: {يَقُول الْإِنْسَان يَوْمئِذٍ أَيْن المفر} أَي: أَيْن الْمَهْرَب؟ وَقُرِئَ: " أَيْن الْمقر " أَي: أَيْن مَوضِع الْقَرار.(6/104)
كَلَّا لَا وَزَرَ (11)
وَقَوله: {كلا لَا وزر} أَي: لَا مهرب وَلَا فرار.
وَأما قَوْله: {لَا وزر} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ سعيد بن جُبَير: لَا محيص.
وَقَالَ عِكْرِمَة: لَا مَنْعَة.
وَعَن مُجَاهِد: لَا منجا.
وَقَالَ مطرف بن عبد الله بن الشخير، وَالضَّحَّاك: لَا جبل.
وَهُوَ قَول مَشْهُور، وَقد كَانَت الْعَرَب إِذا طرقتهم الْخَيل قَالُوا: الْوزر الْوزر، أَي: الْجَبَل الْجَبَل.
قَالَ الشَّاعِر:
(لعمرك مَا للفتى من وزر ... إِذا الْمَوْت يُدْرِكهُ وَالْكبر)
وَهَذَا على الْمَعْنى المنجا.(6/104)
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)
وَقَوله: {إِلَى رَبك يَوْمئِذٍ المستقر} أَي: يظْهر مُسْتَقر الْعباد فِي الْجنَّة أَو النَّار.(6/104)
يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
وَقَوله: {ينبأ الْإِنْسَان يَوْمئِذٍ بِمَا قدم وَأخر} قَالَ ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس: بِمَا قدم من طاعه فَعمل بهَا، وَأخر من (سنة) سَيِّئَة، فَعمل بهَا بعده.
وَيُقَال: {بِمَا قدم وَأخر} بِأول عمله وَآخره.
وَهُوَ محكي عَن مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم.
وَقيل: {بِمَا قدم وَأخر}(6/104)
{بل الْإِنْسَان على نَفسه بَصِيرَة (14) وَلَو ألْقى معاذيره (15) لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ (16) . أَي: يلقى جَزَاء جَمِيع أَعماله من طَاعَة ومعصية.
وَعَن زيد بن أسلم: بِمَا قدم من المَال للصدقة، وَأخر من المَال للْوَرَثَة.(6/105)
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَقَوله: {بل الْإِنْسَان على نَفسه بَصِيرَة} أَي: شَاهد، وَالْمعْنَى: هُوَ لُزُوم الْحجَّة عَلَيْهِ كَمَا يلْزم بِالشَّهَادَةِ، وَمَا من أحد إِلَّا وَله من نَفسه على نَفسه حجَّة.
وَقيل: هُوَ شَهَادَة الْجَوَارِح عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة.
قَالَ ابْن عَبَّاس: تشهد عَلَيْهِ يَدَاهُ وَرجلَاهُ وفرجه وَغير ذَلِك.
وَدخلت التَّاء فِي قَوْله {بَصِيرَة} للْمُبَالَغَة مثل قَوْلهم: عَلامَة وَرِوَايَة وَمَا يشبهها.(6/105)
وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
وَقَوله: {وَلَو ألْقى معاذيره} فِيهِ قَولَانِ معروفان: أَحدهمَا: وَلَو جَاءَ بِكُل عذر، وأدلى بِكُل حجَّة أَي: لَا يقبل مِنْهُ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لَا عذر لَهُ وَلَا حجَّة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَلَو ألْقى معاذيره} أَي: ستوره، وَاحِدهَا معذار، قَالَ الزّجاج: وَهُوَ السّتْر.
وَقيل: هُوَ لُغَة يَمَانِية.
وَالْمعْنَى: أَنه وَإِن ستر جَمِيع أعمله بالستور، فَإِنَّمَا تظهر يَوْم الْقِيَامَة ويجازى عَلَيْهِ.(6/105)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)
قَوْله تَعَالَى: {لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ} روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن مُوسَى ابْن أبي عَائِشَة، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس " أَن النَّبِي كَانَ إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي يُحَرك بِهِ لِسَانه يُرِيد أَن يحفظه فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ} قَالَ: وحرك سعيد بن جُبَير شَفَتَيْه، وحرك ابْن عَبَّاس شَفَتَيْه ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الشَّافِعِي، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن (فراس) ، أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الديبلي، أخبرنَا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي عَن ابْن عُيَيْنَة.
الحَدِيث.(6/105)
{إِن علينا جمعه وقرآنه (17) فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه (18) ثمَّ إِن علينا بَيَانه (19) كلا بل تحبون العاجلة (20) وتذرون الْآخِرَة (21) وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة (22) إِلَى رَبهَا ناظرة (23) } . وَاخْتلف القَوْل أَن النَّبِي لماذا كَانَ يُحَرك لِسَانه؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه كَانَ يحركه مَخَافَة الانفلات لكيلا ينساه، وَهُوَ الْمَعْرُوف.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه كَانَ يُحَرك لِسَانه حبا للوحي، ذكره الضَّحَّاك.(6/106)
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)
وَقَوله: {إِن علينا جمعه وقرآنه} أَي: جمعه فِي صدرك.
و" قرآنه " أَي: نيسر قِرَاءَته عَلَيْك؛ فالقرآن هَاهُنَا بِمَعْنى الْقِرَاءَة.
وَقَالَ قَتَادَة: إِن علينا جمعه وقرآنه فِي صدرك وتآليفه على مَا أَنزَلْنَاهُ.(6/106)
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
وَقَوله: {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه} أَي: إِذا أَنزَلْنَاهُ فاستمع لَهُ.
وَيُقَال: إِذا قَرَأَهُ جِبْرِيل عَلَيْك فَاتبع قرآنه، وَقيل: فَاتبع قرآنه أَي: فَاتبع الْقُرْآن بِالْعَمَلِ بِهِ فِي الْحَلَال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي.(6/106)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
وَقَوله: {ثمَّ إِن علينا بَيَانه} أَي: علينا أَن نجمعه فِي صدرك لتبينه للنَّاس وتقرأه عَلَيْهِم، وَهُوَ مَذْكُور بِمَعْنى تيسير الْحِفْظ عَلَيْهِ وتسهيله بمعونة: الله تَعَالَى، وَقد كَانَ يلقى من الْحِفْظ شدَّة قبل ذَلِك، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة كَانَ إِذا قَرَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيل أطرق، فَإِذا ذهب قَرَأَ كَمَا أنزل.(6/106)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
قَوْله تَعَالَى: {كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الْآخِرَة} هِيَ خطاب للْكفَّار؛ لأَنهم كَانُوا يعْملُونَ للدنيا وَلَا يعْملُونَ للآخرة، فَهَذَا هُوَ معنى الْآيَة.(6/106)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
وَقَوله: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} قَوْله: {ناضرة} بالضاد أَي: مسرورة طَلْقَة هشة بشة.
والنضرة: هِيَ النِّعْمَة والبهجة فِي اللُّغَة.
وَقَوله: {إِلَى رَبهَا ناظرة} هُوَ النّظر إِلَى الله تَعَالَى بالأعين، وَهُوَ ثَابت للْمُؤْمِنين فِي الْجنَّة بوعد الله تَعَالَى وبخبر الرَّسُول.(6/106)
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا أَبُو الْحسن بن النقور، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا هدبة [بن] خَالِد عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت الْبنانِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن صُهَيْب عَن النَّبِي قَالَ: " إِذا دخل أهل الْجنَّة الْجنَّة يَقُول الله تَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئا أَزِيدكُم؟ فَيَقُولُونَ: ألم تبيض وُجُوهنَا؟ ألم تُدْخِلنَا الْجنَّة وتنجنا من النَّار؟ قَالَ: فَيكْشف الْحجاب، فَمَا أعْطوا شَيْئا أحب إِلَيْهِم من النّظر إِلَى الله تَعَالَى ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس بِإِسْنَادِهِ عَن إِسْرَائِيل عَن ثُوَيْر بن أبي فَاخِتَة عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي قَالَ: " إِن أدنى أهل الْجنَّة منزلَة لمن ينظر فِي ملكه ألف سنة يرى أقصاه كَمَا يرى أدناه، وَإِن أفضلهم منزلَة لمن ينظر إِلَى الله تَعَالَى كل يَوْم مرَّتَيْنِ ".
وَفِي رِوَايَة: " غدْوَة وعشيا، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وجود يَوْمئِذٍ ناضرة} ".(6/107)
{ووجوه يَوْمئِذٍ باسرة (24) تظن أَن يفعل بهَا فاقرة (25) كلا إِذا بلغت التراقي (26) } .
وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ من النّظر إِلَى الله هُوَ قَول عَامَّة الْمُفَسّرين، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَيْضا أَنه حمل الْآيَة على هَذَا، وَذكره سَائِر الروَاة.
وَحكى بَعضهم عَن مُجَاهِد: إِلَى ثَوَاب رَبهَا ناظرة، وَلَيْسَ يَصح؛ لِأَن الْعَرَب لَا تطلق هَذَا اللَّفْظ فِي مثل هَذَا الْموضع إِلَّا وَالْمرَاد مِنْهُ النّظر بِالْعينِ، وَلَعَلَّ القَوْل المحكي عَن مُجَاهِد لَا يثبت؛ لِأَنَّهُ لم يُورد من يوثق بروايته.
وَحمل بَعضهم قَوْله: {ناظرة} أَي: منتظرة، وَهَذَا أَيْضا تَأْوِيل بَاطِل؛ لِأَن الْعَرَب لَا تصل قَوْله: " ناظرة " بِكَلِمَة " إِلَى " إِلَّا بِمَعْنى النّظر بِالْعينِ، قَالَ الشَّاعِر:
(نظرت إِلَيْهَا بالمحصب من منى ... ولي نظر وَلَوْلَا التحرج عَارِم)
فَأَما إِذا [أَرَادَ] الِانْتِظَار فَإِنَّهُم لَا يصلونها بإلى، قَالَ الشَّاعِر:
(فإنكما إِن تنظراني سَاعَة ... من الدَّهْر تنفعني لَدَى أم جُنْدُب)
أَي: تنتظراني، وعَلى الْمَعْنى لَا يَصح أَيْضا هَذَا التَّأْوِيل؛ لِأَن الطلاقة والهشاشة وَالسُّرُور إِنَّمَا يكون بالوصول إِلَى الْمَطْلُوب فَأَما مَعَ الِانْتِظَار فَلَا، فَإِن فِي الِانْتِظَار تنغصا ومشقة.(6/108)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)
وَقَوله: {ووجوه يَوْمئِذٍ باسرة} أَي: كالحة عابسة.(6/108)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
وَقَوله: {تظن أَن يفعل بهَا فاقرة} أَي: تتيقن أَن الَّذِي يفعل بهَا فاقرة، والفاقرة هُوَ الْأَمر الشَّديد الَّذِي ينكسر مَعَه فقار الظّهْر.
وَقيل: فاقرة: واهية، أَو أَمر عَظِيم.(6/108)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)
قَوْله تَعَالَى: {كلا إِذا بلغت التراقي} الْمَعْنى: أَنه لَيْسَ الْأَمر كَمَا يظنون ويتوهمون، (ويستعملون) ذَلِك إِذا بلغت النَّفس التراقي.
والتراقي جمع ترقوة،(6/108)
{وَقيل من راق (27) وَظن أَنه الْفِرَاق (28) والتفت السَّاق بالساق (29) إِلَى رَبك يَوْمئِذٍ المساق (30) فَلَا صدق وَلَا صلى (31) وَلَكِن كذب وَتَوَلَّى (32) ثمَّ ذهب إِلَى أَهله يتمطى (33) } . وَهُوَ مقدم الْحلق الْمُتَّصِل بالصدر، وَهُوَ مَوضِع الحشرجة، ذكره أَبُو عِيسَى.(6/109)
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)
وَقَوله: {وَقيل من راق} أَي: هَل من طَبِيب يشفي ويداوي، قَالَه قَتَادَة.
وَقيل مَعْنَاهُ: أَن الْمَلَائِكَة يَقُولُونَ من يرقي بِرُوحِهِ أَي: تصعد مَلَائِكَة الرَّحْمَة أَو مَلَائِكَة الْعَذَاب.(6/109)
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)
وَقَوله: {وَظن أَنه الْفِرَاق} قَرَأَ ابْن عَبَّاس: " وأيقن أَنه الْفِرَاق ".
وَهُوَ صَحِيح عَنهُ، وَهُوَ المعني.(6/109)
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
وَقَوله: {والتفت السَّاق بالساق} أَي: [اتَّصَلت] شدَّة الدُّنْيَا بِشدَّة الْآخِرَة.
وَقيل: يجْتَمع عَلَيْهِ كرب الْمَوْت وهول المطلع.
قَالَ الضَّحَّاك: هُوَ فِي أَمر عَظِيم، النَّاس يجهزون بدنه، وَالْمَلَائِكَة يجهزون روحه.
وَعَن الْحسن: " والتفت السَّاق بالساق " أَي: فِي الْكَفَن، وَهُوَ السَّاق الْمَعْرُوف، وعَلى القَوْل الأول السَّاق بِمَعْنى الشدَّة.
وَقد ذكرنَا من قبل.(6/109)
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)
وَقَوله: {إِلَى رَبك يَوْمئِذٍ المساق} أَي: السُّوق، فَإِنَّهُ يساق إِمَّا فِي الْجنَّة، وَإِمَّا إِلَى النَّار بِأَمْر الله تَعَالَى.(6/109)
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا صدق وَلَا صلى} مَعْنَاهُ: فَلَا صدق الْكَافِر وَلَا صلى مَعْنَاهُ: لم يصدق الْكَافِر وَلم يصل.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نزلت الْآيَة فِي أبي جهل بن هِشَام.(6/109)
وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)
قَوْله: {وَلَكِن كذب وَتَوَلَّى} أَي: كذب بآيَات الله، وَأعْرض عَن الْحق.(6/109)
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
وَقَوله: {ثمَّ ذهب إِلَى أَهله يتمطى} أَي: يتبختر.
ومشية الْمُطَيْطَاء هِيَ مشْيَة التَّبَخْتُر.
وَقيل: هُوَ أَن يولي مطاؤه، والمطا الظّهْر.
وَفِي بعض التفاسير: أَنه مشْيَة بني مَخْزُوم.
وَقيل: التمطي: هُوَ التمدد من كسل أَو مرض، فَأَما من الْمَرَض فَهُوَ غير مَذْمُوم، وَأما من الكسل إِذا كَانَ تثاقلا عَن الْحق فَهُوَ مَذْمُوم.(6/109)
{أولى لَك فَأولى (34) ثمَّ أولى لَك فَأولى (35) أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى (36) ألم يَك نُطْفَة من مني يمنى (37) } .(6/110)
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)
وَقَوله: {أولى لَك فَأولى} اخْتلف القَوْل فِي هَذِه اللَّفْظَة، فأحد الْأَقْوَال: أَن مَعْنَاهَا: الويل لَك ثمَّ الويل لَك.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهَا: وليك الْمَكْرُوه وقارب مِنْك، وَهَذَا قَول قَتَادَة وَجَمَاعَة.
وَالْقَوْل الثَّالِث: الذَّم أولى لَك، ثمَّ طرحت لفظ الذَّم للاستغناء عَنْهَا وَلِأَنَّهُ مَعْلُوم، ذكره عَليّ بن عِيسَى.
وَفِي التَّفْسِير: " أَن النَّبِي لَقِي أَبَا جهل وَهُوَ يخرج من بَاب بني مَخْزُوم يتبختر، فَأخذ بِيَدِهِ وهزه مرّة أَو مرَّتَيْنِ، ثمَّ قَالَ لَهُ: أولى لَك فَأولى، فَأخْبر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن قَول الرَّسُول على مَا قَالَ "، وَهَذَا قَول حسن؛ لِأَن أولى فِي لُغَة الْعَرَب بِمَعْنى كَاد وهم، وَلَفْظَة كَاد بالخلق أليق؛ فَهُوَ حِكَايَة من الله تَعَالَى لقَوْل الرَّسُول.
وأنشدوا فِي كلمة أولى قَول الخنساء:
(هَمَمْت بنفسي بعض الهموم ... فَأولى لنَفْسي أولى لَهَا)
(سأحمل نَفسِي على آلَة ... فإمَّا عَلَيْهَا وَإِمَّا لَهَا)
آلَة أَي: حَالَة.(6/110)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)
قَوْله تَعَالَى: {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدا} أَي: مهملا لَا يُؤمر وَلَا ينْهَى.
قَالَه مُجَاهِد.
وَقيل: لَا يبْعَث وَلَا يُحَاسب وَلَا يُعَاقب، قَالَ الشَّاعِر:
(فأقسم بِاللَّه جهد الْيَمين ... مَا ترك الله شَيْئا سدى)(6/110)
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)
وَقَوله: {ألم يَك نُطْفَة من مني يمنى} وَقُرِئَ بِالتَّاءِ: " تمنى ".
والمني مَاء مَعْرُوف يخلق مِنْهُ الْإِنْسَان، فالقراءة بِالْيَاءِ تتصرف إِلَى المنى، وَالتَّاء تَنْصَرِف إِلَى مَعْنَاهُ، وَهُوَ النُّطْفَة.
وَقَوله: {يمنى} أَي: يقذف فِي الرَّحِم.
وَقيل: يقدر.(6/110)
{ثمَّ كَانَ علقَة فخلق فسوى (38) فَجعل مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِك بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى (40) } .
قَالَ الشَّاعِر:
(مَا يمنى لَك الماني ... )
أَي: مَا يقدر لَك الْقدر.(6/111)
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ كَانَ علقَة} أَي: الْمَنِيّ علقَة، وَهُوَ الدَّم المنعقد.
وَقَوله: {فخلق فسوى} أَي: فخلق مِنْهُ الْإِنْسَان فسوى خلقه.(6/111)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)
وَقَوله: {فَجعل مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى} وَقيل: من الْمَنِيّ الذّكر وَالْأُنْثَى.(6/111)
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
وَقَوله: {أَلَيْسَ ذَلِك بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى} مَعْنَاهُ: أَلَيْسَ الله الَّذِي خلق الْإِنْسَان من النُّطْفَة بِقَادِر على أَن يحيى الْمَوْتَى؟ يَعْنِي: هُوَ قَادر.
وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ إِذا بلغ هَذِه الْآيَة قَالَ: اللَّهُمَّ بلَى.
وَفِي رِوَايَة: سُبْحَانَكَ بلَى.
وَقد روى هَذَا مَرْفُوعا فِي بعض المسانيد.
وَالله أعلم وَأحكم.(6/111)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر لم يكن شَيْئا مَذْكُورا (1) إِنَّا خلقنَا الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج} .
تَفْسِير سُورَة الْإِنْسَان
وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول بَعضهم.
مَدَنِيَّة فِي قَول بَعضهم، وَقيل: بَعْضهَا مَكِّيَّة وَبَعضهَا مَدَنِيَّة.(6/112)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر} مَعْنَاهُ: قد أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر، قَالَه الْفراء.
وَقيل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر، وَالْإِنْسَان هُوَ آدم على قَول أَكثر الْمُفَسّرين.
وَعَن ابْن جريج: أَنه كل إِنْسَان من الْآدَمِيّين.
وَقَوله تَعَالَى: {حِين من الدَّهْر} هم أَرْبَعُونَ سنة.
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: صور الله آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - ثمَّ تَركه أَرْبَعِينَ سنة ينظر إِلَيْهِ، ثمَّ نفخ فِيهِ الرّوح.
وَفِي رِوَايَة: خلقه من طين ثمَّ بعد أَرْبَعِينَ سنة صَار صلصالا من غير أَن تمسه النَّار.
وَفِي رِوَايَة: كَانَ أَرْبَعِينَ سنة طينا، وَأَرْبَعين سنة حمأ مسنونا، وَأَرْبَعين سنة صلصالا.
وَقَوله: {لم يكن شَيْئا مَذْكُورا} أَي: كَانَ شَيْئا إِلَّا أَنه لم يكن شَيْئا يذكر.
وروى أَنه قَرَأت هَذِه الْآيَة عِنْد عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: يَا ليتها تمت، أَي: تِلْكَ الْحَالة.(6/112)
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا خلقنَا الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج} أَي: أخلاط.
قَالَ ابْن مَسْعُود: أمشاجها عروقها الَّتِي فِي النُّطْفَة.
وَفِي اللُّغَة: أَن الأمشاج وَاحِدهَا مشيج، وَهُوَ الْخَلْط.
(وَالْمعْنَى) : هُوَ اخْتِلَاط مَاء الرجل بِمَاء الْمَرْأَة، أَو اخْتِلَاط الدَّم بالنطفة.(6/112)
{نبتليه فجعلناه سميعا بَصيرًا (2) إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا للْكَافِرِينَ سلاسل وأغلالا وسعيرا (4) } .
وَقيل: إِن الله تَعَالَى خلق الطبائع الَّتِي فِي الْإِنْسَان فِي النُّطْفَة من الْحَرَارَة والبرودة والرطوبة واليبوسة، فَهِيَ الأمشاج، ثمَّ عدلها ثمَّ بنى البنية الحيوانية على هَذِه الطبائع المعدلة، ثمَّ نفح فِيهَا الرّوح، ثمَّ شقّ لَهَا السّمع وَالْبَصَر، فسبحان من خلق هَذَا الْخلق من نُطْفَة مهينة أَو علقَة نَجِسَة.
وَقيل: أمشاج أَي: أطوار، فالنطفة طور، والعلقة طور، والمضغة طور، وَكَذَلِكَ مَا بعْدهَا.
وَقيل: أمشاج أَي: ألوان.
وَفِي الْخَبَر: " أَن مَاء الرجل أَبيض غليظ، وَمَاء الْمَرْأَة أصفر رَقِيق، فَإِذا علا مَاء الْمَرْأَة مَاء الرجل آنثتت، وَإِذا علا مَاء الرجل مَاء الْمَرْأَة أذكرت ".
وَقَوله: {نبتليه} أَي: نختبره ونمتحنه.
وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهَا: فجعلناه سمعيا [بَصيرًا] نبتليه ونختبره.(6/113)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا هديناه السَّبِيل} أَي: الْخَيْر وَالشَّر، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وهديناه النجدين} .
وَقيل بَينا لَهُ طَرِيق الْإِيمَان وَالْكفْر.
وَقَوله تَعَالَى: {إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا} عِنْد الْبَصرِيين أَن " إِمَّا " بِمَعْنى " أَو " وَعند الْكُوفِيّين أَن مَعْنَاهُ: إِمَّا كَانَ شاكرا وَإِمَّا كَانَ كفورا.
وَقيل: إِمَّا شقيا، وَإِمَّا سعيدا.(6/113)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)
قَوْله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا للْكَافِرِينَ سلاسلا وأغلالا وسعيرا} وَقُرِئَ: " سلاسل "، وَالْأَصْل سلاسل لَا تَنْصَرِف، وَأما صرفه على (قِرَاءَة) من قَرَأَ " سلاسلا وأغلالا(6/113)
{إِن الْأَبْرَار يشربون من كأس كَانَ مزاجها كافورا (5) } . وسعيرا " على مُوَافقَة قَوْله: {أغلالا} وَذَلِكَ جَائِز على مَذْهَب الْعَرَب.
والأغلال جمع غل.
وروى جُبَير بن نفير عَن أبي الدَّرْدَاء أَنه قَالَ: ارْفَعُوا أَيْدِيكُم إِلَى الله قبل أَن تغل بالأغلال.
وَقَوله: {سعيرا} أَي: نَارا موقدة.
وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة عَطِيَّة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: أَن الله تَعَالَى يبْعَث سَحَابَة فتقف على رُءُوس أهل النَّار، وَيُقَال لَهُم: مَا تُرِيدُونَ: فَيَقُولُونَ: الشَّرَاب، فيمطرهم الله مِنْهَا السلَاسِل والأغلال وَالْحَمِيم.
قَالَ الْحسن: إِن الله لَا يغل الْكفَّار عَجزا عَن حفظهم، وَلَكِن حَتَّى إِذا خبت النَّار عَنْهُم أرسبتهم [أغلالهم] فِي أَسْفَل النَّار.(6/114)
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار يشربون} الْأَبْرَار: هم المطيعون.
وَقيل: هم الَّذين بروا الْآبَاء وَالْأَبْنَاء.
وَعَن الْحسن: هم الَّذين لَا يُؤْذونَ الذَّر.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " مَا من ولد ينظر إِلَى وَالِده نظر بر وَعطف إِلَّا كتب الله لَهُ بِهِ حجَّة، فَقيل: يَا رَسُول الله، وَإِن نظر فِي الْيَوْم مائَة مرّة! قَالَ: الله أكبر وَأطيب ".
وَقَوله: {من كأس} قَالَ الزّجاج: الْعَرَب لَا تذكر الكأس إِلَّا إِذا كَانَت فِيهَا الْخمر.
قَالَ الشَّاعِر:
(صرفت الكأس عَنَّا أم عَمْرو ... وَكَانَ الكأس مجْراهَا اليمينا)(6/114)
{عينا يشرب بهَا عباد الله يفجرونها تفجيرا (6) يُوفونَ بِالنذرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَره مُسْتَطِيرا (7) .
وَقَوله: {كَانَ مزاجها كافورا} أَي: يمزج بالكافور، وَهُوَ مزاج وجود الرَّائِحَة لَا مزاج وجود الطّعْم.
وَقيل: إِن الكافور والزنجبيل اسمان لعينين من عُيُون الْجنَّة.(6/115)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
وَقَوله: {عينا يشرب بهَا عباد الله} النصب على الْمَدْح، أَعنِي عينا {يشرب بهَا عباد الله} أَي: مِنْهَا - عباد الله.
وَقَوله: {يفجرونها تفجيرا} أَي: يجرونها [جراء] على مَا يُرِيدُونَ ويشتهون.
وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي أبي بكر وَعمر وَعلي وَالزُّبَيْر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد وَأبي عُبَيْدَة.
وَفِي بعض التفاسير: وَابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وسلمان وَأبي ذَر.(6/115)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)
قَوْله تَعَالَى: {يُوفونَ بِالنذرِ} أَي: يُوفونَ بأقوالهم.
وَقيل: هُوَ نفس النّذر.
وَالْأولَى أولى؛ لِأَن النّذر مَكْرُوه على مَا ورد فِي بعض الْأَخْبَار: " أَن النّذر يسْتَخْرج بِهِ من الْبَخِيل ".
وَالْمعْنَى: أَن الْجواد لَا يحْتَاج إِلَى النّذر، وعَلى الْجُمْلَة الْوَفَاء بِالنذرِ مَحْمُود.
وَقَوله: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَره مُسْتَطِيرا} أَي: فاشيا.
وَقيل: ممتدا.
وَقيل: منتشرا.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَهَان على سراة بَين لؤَي ... حريق بالبويرة مستطير)
أَي: منتشر، وانتشار شَرّ يَوْم الْقِيَامَة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، أما فِي السَّمَوَات فبتكوير شمسها، وخسوف قمرها، وانتشار كواكبها، وطي السَّمَوَات كطي السّجل،(6/115)
{ويطعمون الطَّعَام على حبه مِسْكينا ويتيما وأسيرا (8) إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله لَا نُرِيد مِنْكُم جزاءا وَلَا شكُورًا (9) } . وَمَا أشبه ذَلِك.
وَأما شَره فِي الأَرْض فبقلع جبالها، وطم أنهارها، وإخراب نباتها، وَكسر بَعْضهَا على بعض، وَمَا شبه ذَلِك من تَبْدِيل الأَرْض وإهلاك الْخلق وَغَيره.(6/116)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
وَقَوله: {ويطعمون الطَّعَام على حبه مِسْكينا} أَي: على حب الطَّعَام وشهوتهم إِيَّاه وحاجتهم إِلَيْهِ.
وَقَوله: {مِسْكينا} هُوَ الْمُحْتَاج (ويتيما) هُوَ الَّذِي لَا أَب لَهُ {وأسيرا} قَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الْمَحْبُوس المسجون.
وَعَن مُجَاهِد وَقَتَادَة وَجَمَاعَة: هُوَ الْأَسير من الْمُشْركين.
وَعَن أبي (سُلَيْمَان) الدَّارَانِي: على حب الله.
وَاخْتلف القَوْل فِيمَن نزلت هَذِه الْآيَة، فأصح الْأَقَاوِيل: أَن الْآيَة على الْعُمُوم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا نزلت فِي عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن، رَوَاهُ عمر بن عبيد، عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَحكى عَن ابْن عَبَّاس ذَلِك فِي بعض الرِّوَايَات.
وَفِي الْقِصَّة: أَن عليا وَفَاطِمَة أصبحا صَائِمين، فهيأت فَاطِمَة ثَلَاثَة أَقْرَاص من شعير لتأكل قرصا بِنَفسِهَا، وَيَأْكُل عَليّ قرصا، وللحسن وَالْحُسَيْن قرص؛ فَلَمَّا كَانَ الْمسَاء جَاءَ مِسْكين فَأَعْطوهُ أحد الأقراص، ثمَّ جَاءَ يَتِيم فَأَعْطوهُ القرص الثَّانِي، ثمَّ جَاءَ أَسِير فَأَعْطوهُ القرص الثَّالِث وطووا.
وَفِي رِوَايَة: أَن عليا كَانَ أجر نَفسه من يَهُودِيّ يَسْتَقِي لَهُ بِشَيْء من شعير، وَحمل ذَلِك الشّعير إِلَى فَاطِمَة، وَأخذت مِنْهُ الأقراص الثَّلَاثَة.
وَفِي بعض الرِّوَايَات؟ أَن ذَلِك كَانَ فِي ثَلَاث لَيَال.
وَالله أعلم.
وَفِي هَذِه الْقِصَّة خبط كثير تركنَا ذكره.
وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي أبي الدَّرْدَاء.(6/116)
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله لَا نُرِيد مِنْكُم جزاءا وَلَا شكُورًا} أَي: جَزَاء بِالْفِعْلِ، وَلَا ثَنَاء بالْقَوْل.
وَفِي التَّفْسِير: أَنهم لم يَقُولُوا هَذَا القَوْل، وَلكنه كَانَ فِي(6/116)
{إِنَّا نَخَاف من رَبنَا يَوْمًا عبوسا قمطريرا (10) فوقاهم الله شَرّ ذَلِك الْيَوْم ولقاهم نَضرة وسرورا (11) وجزاهم بِمَا صَبَرُوا جنَّة وَحَرِيرًا (12) متكئين} . ضميرهم فَأخْبر الله تَعَالَى على مَا كَانَ فِي ضميرهم.(6/117)
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
قَوْله: {إِنَّا نَخَاف من رَبنَا يَوْمًا عبوسا قمطريرا} لِأَن الْوُجُوه تنعبس فِيهِ، وأضاف العبوس إِلَى الْيَوْم على طَرِيق مجَاز.
وَمعنى " نَخَاف من رَبنَا يَوْمًا " أَي: من عَذَاب يَوْم.
وَقَوله: {قمطريرا} أَي: شَدِيدا.
يُقَال: يَوْم قمطرير وقماطر إِذا اشْتَدَّ فِيهِ الْأَمر.
قَالَ الشَّاعِر:
(بنى عمنَا هَل تذكرُونَ بلاءنا ... عَلَيْكُم إِذا مَا كَانَ يَوْم قماطر)(6/117)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)
وَقَوله تَعَالَى: {فوقاهم الله شَرّ ذَلِك الْيَوْم ولقاهم نَضرة وسرور} أَي: نَضرة فِي الْوَجْه، وسرورا فِي الْقُلُوب.
والنضرة: هِيَ الْحسن فِي الْوُجُوه من النِّعْمَة، وَهِي التنعم.(6/117)
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
وَقَوله: {وجزاهم بِمَا صَبَرُوا} على الْأَمر وَالنَّهْي.
وَقيل: على المحن والشدائد، وعَلى الْجُوع مَعَ الإيثار.
وَقَوله: {جنَّة وَحَرِيرًا} أَي: الْبَسَاتِين وَالثيَاب من الديباج.(6/117)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
وَقَوله تَعَالَى: {متكئين فِيهَا على الأرائك} الأرائك: هِيَ [السرر] فِي الحجال عَلَيْهَا الْفرش، وَالْعرب لَا تسميها أريكة إِلَّا إِذا كَانَت فِي حجلة.
وَقَوله تَعَالَى: {لَا يرَوْنَ فِيهَا شمسا وَلَا زمهريرا} أَي: حرا وَلَا بردا.
قَالَ الشَّاعِر:
(منعمة طفلة مهاة ... لم تَرَ شمسا وَلَا زمهريرا)(6/117)
{فِيهَا على الأرائك لَا يرَوْنَ فِيهَا شمسا وَلَا زمهريرا (13) ودانية عَلَيْهِم ضلالها وذللت قطوفها تذليلا (14) وَيُطَاف عَلَيْهِم بآنية من فضَّة وأكواب كَانَت قَوَارِير (15) قَوَارِير من فضَّة قدروها تَقْديرا (16) ويسقون فِيهَا كأسا كَانَ مزاجها زنجبيلا (17) عينا فِيهَا تسمى سلسبيلا (18) } .(6/118)
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)
قَوْله تَعَالَى: {ودانية عَلَيْهِم} نصب " ودانية " عطفا على قَوْله: {متكئين} .
وَقَوله: {عَلَيْهِم ظلالها} أَي: ظلال الحجال.
وَقَوله: {وذللت قطوفها تذليلا} أَي: أدنيت قطوفها إِلَيْهِم.
وَفِي التَّفْسِير: أَنهم إِذا قَامُوا ارْتَفَعت إِلَيْهِم، وَإِذا قعدوا نزلت إِلَيْهِم، وَإِذا اضطجعوا دنت مِنْهُم، وَقيل: لَا يمنعهُم مِنْهَا بعد وَلَا شوك.(6/118)
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)
وَقَوله تَعَالَى: {وَيُطَاف عَلَيْهِم بآنية من فضَّة وأكواب} والأكواب هِيَ الأباريق الَّتِي لَا خراطيم لَهَا، وَاحِدهَا كوب.
وَقَوله تَعَالَى: {كَانَت قَوَارِير} قَالَ الشّعبِيّ: لَهَا صفاء الْقَوَارِير وَبَيَاض الْفضة.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه لَو أخذت قِطْعَة من فضَّة وَجعلت فِي الرقة كجناح ذُبَاب لم ير من دَاخله، وَفِضة الْجنَّة يرى من داخلها، فَهُوَ فِي صفاء الْقَوَارِير على هَذَا الْمَعْنى.
وَعنهُ أَيْضا: أَن الْقَوَارِير فِي الدُّنْيَا أَصْلهَا من الرمل، فَإِذا كَانَ أَصْلهَا من الْفضة فِي الْجنَّة فَكيف تكون فِي الْحسن والصفاء.
وَعنهُ أَيْضا: أَنه لَا يشبه شَيْء فِي الْجنَّة شَيْئا فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا فِي الدُّنْيَا الْأَسَامِي مِمَّا فِي الْجنَّة فَحسب.(6/118)
قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
وَقَوله: {قَوَارِير من فضَّة قدروها تَقْديرا} أَي: مقدرَة على قدر الرّيّ لَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان.
وَقيل: على قدر الْكَفّ أَي: على مَا يَسعهُ.
وَقيل: ممتلئة.(6/118)
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)
وَقَوله: {ويسقون فِيهَا كأسا} أَي: من كأس.
وَقَوله: {كَانَ مزاجها زنجبيلا} كَانَت الْعَرَب تستطيب طعم الزنجبيل، فَذكر ذَلِك على مَا [اعتادوه] .
وَقيل: الزنجبيل اسْم الْعين لَا أَنه زنجبيل مَعْرُوف فِي الطّعْم(6/118)
{وَيَطوف عَلَيْهِم ولدان مخلدون} . والرائحة.
فعلى هَذَا قَوْله: {مزاجها زنجبيلا} أَي: مزاجه من عين الزنجبيل.(6/119)
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
وَقَوله: {عينا فِيهَا تسمى سلسبيلا} يُقَال: إِن السلسبيل هِيَ عين الزنجبيل أَيْضا، وَنصب على الْمَدْح، وَمَعْنَاهُ: أَعنِي عينا.
وَقَوله: {تسمى سلسبيلا} أَي: سلسبيل الجري فِي حُلُوقهمْ.
وَفِي بعض الْآثَار: أَنَّهَا إِذا أدنيت من أَفْوَاههم تسلسلت فِي حُلُوقهمْ.
وَمن قَالَ فِي قَوْله {سلسبيلا} سلني سَبِيلا إِلَيْهَا فقد أبعد، وَهُوَ تَأْوِيل بَاطِل، وَلَيْسَ هُوَ من قَول أهل الْعلم.
وَعَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: لم أسمع سلسبيلا إِلَّا فِي الْقُرْآن.
وَقيل: هُوَ اسْم الْعين على مَا ذكرنَا.
فَإِن قيل: إِذا جعلتهم سلسبيل اسْم الْعين فَكيف ينْصَرف؟ وَالْجَوَاب: إِنَّمَا انْصَرف؛ لِأَنَّهُ رَأس آيَة، وَقد بَينا من قبل.
وروى سُفْيَان، عَن ابْن أبي نجيح، عَن مُجَاهِد قَالَ: سلسبيلا أَي: شَدِيدَة الجري.
وَقَالَ قَتَادَة: سلسة أَي: تجْرِي فِي حُلُوقهمْ على غَايَة السهولة.
وَقَالَ ثَعْلَب: سلسبيلا أَي: لينًا.
وَعَن سعيد بن الْمسيب: السلسبيل عين تجْرِي تَحت الْعَرْش فِي قضيب من ذهب.
وَفِي قَوْله: {كَانَ مزاجها زنجبيلا} كَلَام آخر، وَهُوَ أَنه تمزج لسَائِر أهل الْجنَّة، ويشربه المقربون صرفا، وَهُوَ مثل التسنيم على مَا يَأْتِي من بعد.
وأنشدوا فِي الزنجبيل:
{وَكَأن طعم الزنجبيل بِهِ ... إِذْ دقته وسلافة الْخمر}
وَهَذَا يدل على أَنهم كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ طعم الزنجبيل.
وَقيل فِي السلسبيل أَيْضا: إِنَّه يسيل عَلَيْهِم فِي قصورهم وغرفهم وعَلى مجَالِسهمْ.(6/119)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَطوف عَلَيْهِم ولدان مخلدون} أَي: غلْمَان مخلدون.
وَقَوله: {مخلدون} أَي: لَا يبلون وَلَا يفنون.
وَقيل: مخلدون مقرطون مسورون.
قَالَ الشَّاعِر:(6/119)
{إِذا رَأَيْتهمْ حسبتهم لؤلؤا منثورا (19) وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت نعيما وملكا كَبِيرا (20) عاليهم ثِيَاب سندس خصر} .
(ومخلدات باللجين كَأَنَّمَا ... أعجازهن أقاوز الكثبان)
وَقَوله: {إِذا رَأَيْتهمْ حسبتهم لؤلؤا منثورا} إِنَّمَا شبه باللآلئ فِي الصفاء وَالْحسن وَالْكَثْرَة.
وَذكر منثورا لِأَن اللُّؤْلُؤ المنثور فِي الْمجْلس أحسن مِنْهُ منظوما.
وَفِي تَفْسِير النقاش: أَنهم ينشرون فِي الْخدمَة، فَلهَذَا قَالَ: {لؤلؤا منثورا} فَلَو كَانَ صفا وَاحِدًا لقَالَ منظوما.(6/120)
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت} فِيهِ حذف، وَالْمعْنَى: إِذا رَأَيْت مَا ثمَّ رَأَيْت {نعيما وملكا كَبِيرا} قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: بلغنَا أَنه تَسْلِيم الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم.
وَعَن الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل وَغَيرهمَا أَنهم قَالُوا: هُوَ اسْتِئْذَان الْمَلَائِكَة للتسليم عَلَيْهِم، فَهُوَ الْملك الْكَبِير.
وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن أدنى أهل الْجنَّة منزلَة يكون لَهُ ثَمَانُون ألف خَادِم وَاثْنَتَانِ وَسِتُّونَ زَوْجَة ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا: للْوَاحِد مِنْهُم سَبْعُونَ قصرا، فِي كل قصر سَبْعُونَ دَارا، فِي كل دَار سَبْعُونَ بَيْتا، فِي كل بَيت خيمة طولهَا فِي السَّمَاء فَرسَخ، وعرضها فَرسَخ فِي فَرسَخ لَهَا أَرْبَعَة آلَاف مصراع من ذهب.(6/120)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
قَوْله تَعَالَى: {عاليهم} وَقُرِئَ: " عَالِيَهُم " فَمن قَرَأَ بِفَتْح الْيَاء أَي: فَوْقهم، وَمن قَرَأَ بِسُكُون الْيَاء فَمَعْنَاه: عَلَيْهِم.
وَيُقَال: عَلَيْهِم أَي: عَال الحجال الْمَذْكُور من قبل.
وَقَوله: {ثِيَاب سندس خضر} وخضر أَي: ألوانها خضر.
فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَيَنْصَرِف إِلَى الثِّيَاب، وَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ نعت السندس.
والسندس هُوَ مَا رق من(6/120)
{وإستبرق وحلو أساور من فضَّة وسقاهم رَبهم شرابًا طهُورا (21) إِن هَذَا كَانَ لكم جَزَاء وَكَانَ سعيكم مشكورا (22) } . الديباج والإستبرق مَا غلط مِنْهُ.
وَقَوله: {وإستبرق} وَقُرِئَ: " وإستبرق " فعلى الرّفْع ينْصَرف إِلَى الثِّيَاب، وعَلى الْخَفْض على تَقْدِير من إستبرق.
وَقَوله: {وحلو أساور من فضَّة} الأساور والأسورة جمع السوار، فَإِن قيل: وَأي زِينَة فِي السوار والأغنياء لَا يبالون بهَا؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه قد ذكر الذَّهَب واللؤلؤ فِي مَوضِع آخر، فيحلون من ذهب تَارَة، وَمن فضَّة (تَارَة) ، وَمن لُؤْلُؤ تَارَة؛ ليَكُون أجمع لمحاسن الزِّينَة.
وَيُقَال: الذَّهَب للنِّسَاء، وَالْفِضَّة للرِّجَال.
وَقيل: إِن الذَّهَب إِنَّمَا يفضل الْفضة فِي الدُّنْيَا لِكَثْرَة الْفضة وَعزة الذَّهَب، وَهَذَا التَّفَاوُت لَا يُوجد فِي الْجنَّة، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود عين الزِّينَة، والزينة تُوجد فيهمَا جَمِيعًا.
وَقَوله: {وسقاهم رَبهم شرابًا طهُورا} قَالَ الزّجاج: لَيْسَ برجس كخمر الدُّنْيَا.
وَعَن أبي قلَابَة وَإِبْرَاهِيم أَنَّهُمَا قَالَا: إِذا فرغ أهل الْجنَّة من الطَّعَام يُؤْتونَ بِالشرابِ الطّهُور، فيطهر أَجْوَافهم، ويضمر بطونهم، وَيُوجد مِنْهُم جشاء وَرشح لَهُ رَائِحَة الْمسك فيشتهون الطَّعَام مرّة أُخْرَى.
وَقيل: إِن الشَّرَاب الطّهُور من عين على بَاب الْجنَّة، فَإِذا شرب مِنْهَا الْمُسلمُونَ طهرت أَجْوَافهم من كل غل وخيانة وحسد، وَهَذَا قَول لِأَن الطّهُور هُوَ الطَّاهِر المطهر على مَا ذكر فِي الْقِصَّة.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام [حِين] سُئِلَ عَن التَّوَضُّؤ بِمَاء الْبَحْر فَقَالَ: " هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ " أَي: المطهر مَاؤُهُ.(6/121)
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا كَانَ لكم جزاءا وَكَانَ سعيكم مشكورا} الشُّكْر الْمُضَاف(6/121)
{إِنَّا نَحن نزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن تَنْزِيلا (23) فاصبر لحكم رَبك وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا (24) وَاذْكُر اسْم رَبك بكرَة وَأَصِيلا (25) وَمن اللَّيْل فاسجد لَهُ وسبحه} . إِلَى الرب تَعَالَى هُوَ بِمَعْنى قبُول الْحَسَنَات وَالْعَفو عَن السَّيِّئَات.(6/122)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا نَحن نزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن تَنْزِيلا} ظَاهر الْمَعْنى.(6/122)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)
وَقَوله: {فاصبر لحكم رَبك وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} فِي التَّفْسِير: أَن الآثم هُوَ عتبَة بن ربيعَة، والكفور هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة.
وَقيل: إِن الآثم هُوَ أَبُو جهل.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة قَالَ للنَّبِي: لَو تركت دين آبَائِك؟ ولعلك إِنَّمَا تركت للفقر، فَارْجِع إِلَى دين آبَائِك وَأُعْطِيك نصف مَالِي.
وَقَالَ أَبُو البخْترِي بن هِشَام: أَنا أزَوجك ابْنَتي، وَهِي أحسن النِّسَاء جمالا، وأفصحهن منطقا، وأعذبهن لِسَانا.
وَقد علمت قُرَيْش ذَلِك.
فَسكت النَّبِي فَقَالَ: أَبُو مَسْعُود الثَّقَفِيّ: إِن كنت تخَاف من الله فَأَنا أجيرك مِنْهُ.
فحين سمع النَّبِي ذَلِك قَامَ وَذهب؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَهُوَ قَوْله {إِنَّا نَحن نزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن تَنْزِيلا} إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ.
فَإِن قيل: هلا قَالَ: آثِما وكفورا؟ وأيش معنى " أَو " هَاهُنَا؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن لكلمة " أَو " هَاهُنَا زِيَادَة معنى لَا تُوجد فِي الْوَاو، وَهُوَ الْمَنْع من طَاعَة كل وَاحِد مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد، فَإِن الرجل إِذا قَالَ لغيره: لَا تُطِع فلَانا وَفُلَانًا، فَإِذا أطَاع أَحدهمَا مَا كَانَ عَاصِيا على الْكَمَال، وَإِذا قَالَ: لَا تُطِع فلَانا وَلَا فلَانا أَو فلَانا فَإِذا أطَاع أَحدهمَا كَانَ عَاصِيا على الْكَمَال.
وَهُوَ مثل قَوْلهم: جَالس الْحسن أَو ابْن سِيرِين مَعْنَاهُ: أَيهمَا جالسته فَأَنت مُصِيب، وَإِذا قَالَ: جَالس الْحسن وَابْن سِيرِين فَلَا تكون مصيبا إِلَّا إِذا جالستهما.
وَكَذَلِكَ يُقَال: اقتد بِمَالك أَو الشَّافِعِي على هَذَا الْمَعْنى.(6/122)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)
قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر اسْم رَبك بكرَة وَأَصِيلا} أَي: بِالْغُدُوِّ والعشي.
وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار أَن النَّبِي كَانَ إِذا صلى الْغَدَاة قَالَ: " الله أكبر ثَلَاثًا، وَإِذا صلى الْعَصْر قَالَ: الله أكبر ثَلَاثًا ".(6/122)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن اللَّيْل فاسجد لَهُ} أَي: صل لَهُ.
وَقيل: هُوَ صَلَاة الْمغرب(6/122)
{لَيْلًا طَويلا (26) إِن هَؤُلَاءِ يحبونَ العاجلة ويذرون وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثقيلا (27) نَحن خلقناهم وشددنا أسرهم وَإِذا شِئْنَا بدنا أمثالهم تبديلا (28) إِن هَذِه تذكرة فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه سَبِيلا (29) } .
وَقَوله: {وسبحه لَيْلًا طَويلا} هُوَ التَّطَوُّع من بعد صَلَاة الْعشَاء الْأَخِيرَة إِلَى الصُّبْح، وَهَذَا على النّدب والاستحباب.(6/123)
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)
قَوْله تَعَالَى: {إِن هَؤُلَاءِ يحبونَ العاجلة} مَعْنَاهُ: إِن هَؤُلَاءِ الْكفَّار يحبونَ العاجلة أَي: الدُّنْيَا.
وَقَوله تَعَالَى: {ويذرون وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثقيلا} هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، وتركهم لَهُ هُوَ تَركهم الْعَمَل وَالسَّعْي لَهُ.
وَقَوله: {ثقيلا} يجوز أَن يكون سَمَّاهُ ثقيلا لشدَّة الهول والفزع فِيهِ، وَيجوز أَن يكون سَمَّاهُ ثقيلا لفصل الْقَضَاء فِيهِ بَين الْعباد وعدله مَعَهم، وَهُوَ فِي غَايَة الثّقل عَلَيْهِم إِلَّا من تَدَارُكه الله بفضله.(6/123)
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
قَوْله تَعَالَى: {نَحن خَلَقْنَاكُمْ وشددنا أسرهم} أَي: قوينا خلقهمْ.
وَقيل شددنا مفاصلهم.
وَقيل: هِيَ الأوصال فشددها بالعروق والأعصاب.
وَعَن مُجَاهِد: أَن الْأسر هُوَ الشرج، وَذَلِكَ مصر الْإِنْسَان (تسترخيان) عِنْد الْغَائِط ليسهل خُرُوج الْأَذَى، فَإِذا خرج انقبضا.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا شِئْنَا بدلنا أمثالهم تبديلا} أَي: أهلكناهم وخلقنا خلقا غَيرهم.(6/123)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)
قَوْله: {إِن هَذِه تذكرة} أَي: الْآيَات الَّتِي أنزلناها تذكرة أَي: موعظة وعبرة.
قَوْله تَعَالَى: {فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه سَبِيلا} أَي: من شَاءَ مِنْكُم أَيهَا المخاطبون أَن يتَّخذ إِلَى ربه سَبِيلا فيسهل ذَلِك عَلَيْهِ لوُجُود الدَّلَائِل وَرفع الْأَعْذَار، فَلْيفْعَل.(6/123)
{وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله إِن الله كَانَ عليما حكيما (30) يدْخل من يَشَاء فِي رَحمته والظالمين أعد لَهُم عذَابا أَلِيمًا (31) } .
وَقيل: هُوَ بِمَعْنى الْأَمر.(6/124)
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)
وَقَوله: {وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله} رد مشيئتهم إِلَى مَشِيئَته، وَالْمعْنَى: لَا يُرِيدُونَ إِلَّا بِإِرَادَة الله، وَهُوَ مُوَافق لعقائد أهل السّنة، أَنه لَا يفعل أحد شَيْئا وَلَا يختاره وَلَا يشاؤه إِلَّا بِمَشِيئَة الله.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن رجلا كَانَ يَقُول: إِلَّا مَا شَاءَ الله وَشاء مُحَمَّد؛ فَسمع النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - ذَلِك فَقَالَ: " أمثلان؟ ثمَّ قَالَ: قل إِلَّا مَا شَاءَ الله ثمَّ شَاءَ مُحَمَّد ".
وَقَوله: {إِن الله كَانَ عليما حكيما} قد بَينا.(6/124)
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
قَوْله تَعَالَى: {يدْخل من يَشَاء فِي رَحمته} أَي: فِي جنته، وَقيل: فِي الْإِسْلَام.
وَالْأول أفضل فِي هَذَا الْموضع، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ عَقِيبه: {والظالمين أعد لَهُم عذَابا أَلِيمًا} أَي: النَّار، وَنصب الظَّالِمين؛ لِأَن تَقْدِيره: وَأعد للظالمين عذَابا أَلِيمًا.
وَأورد أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره فِي آخر السُّورَة بِرِوَايَة جَابر الْجعْفِيّ عَن قيس مولى عَليّ أَن الْحسن وَالْحُسَيْن مَرضا مَرضا شَدِيدا، فَنَذر عَليّ صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام، ونذرت فَاطِمَة كَذَلِك، وَنذر الْحسن وَالْحُسَيْن كَذَلِك، فَلَمَّا شفاهما الله تَعَالَى ابتدءوا جَمِيعًا الصَّوْم، فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الأول خبزت فَاطِمَة ثَلَاثَة أَقْرَاص من شعير، وقدموها عِنْد إفطارهم لِيُفْطِرُوا، فجَاء مِسْكين، وَقَالَ: يَا أهل بَيت رَسُول الله، مِسْكين على الْبَاب أطعموا مِمَّا أطْعمكُم الله.
فَأَعْطوهُ الأقراص وطووا، ثمَّ (إِنَّه) لما كَانَ فِي الْيَوْم الثَّانِي اتَّخذت فَاطِمَة - رَضِي الله عَنْهَا - مثل مَا اتَّخذت فِي الْيَوْم الأول، وقدموه عِنْد الْمسَاء لقطروا، فجَاء يَتِيم ودعا كَمَا ذكرنَا، فَأَعْطوهُ وطووا، ثمَّ لما كَانَ فِي الْيَوْم الثَّالِث اتَّخذت فَاطِمَة مَا بَينا وقدموه [فِي] الْمسَاء لِيُفْطِرُوا فجَاء أَسِير وَقَالَ: يَا(6/124)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{والمرسلات عرفا (1) فالعاصفات عصفا (2) والناشرات نشرا (3)
تَفْسِير سُورَة المرسلات
وَهِي مَكِّيَّة
وَعَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة: قَالَا: هِيَ مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} وروى إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: نزلت سُورَة والمرسلات على رَسُول الله وَنحن مَعَه على جبل حراء، فأخذتها رطبا من فيِّ رَسُول الله، فَخرجت حَيَّة من جحرها فقصدناها فَدخلت حجره، فَقَالَ النَّبِي: " وقيت شركم كَمَا وقيتم شَرها ".
وَالله أعلم.(6/125)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)
قَوْله تَعَالَى: {والمرسلات عرفا} قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين: على أَنَّهَا الرِّيَاح ترسل عرفا أَي: تتبع بَعْضهَا بَعْضًا كعرف الْفرس.
وَعَن ابْن مَسْعُود وَأبي هُرَيْرَة قَالَا: هِيَ الْمَلَائِكَة ترسل بِالْعرْفِ أَي: الْمَعْرُوف.(6/125)
فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)
وَقَوله: {فالعاصفات عصفا} هِيَ الرِّيَاح، وعصفها: شدَّة هبوبها، يُقَال: عصفت الرّيح وأعصفت إِذا اشتدت، قَالَه ابْن السّكيت.
يُقَال: الرِّيَاح عاصفات لِأَنَّهَا تَأتي بالعصف أَي: بورق الزَّرْع.
وَقيل: إِنَّهَا الْمَلَائِكَة تعصف بأرواح الْكفَّار.(6/125)
وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3)
وَقَوله: {والناشرات نشرا} وَهِي الرِّيَاح أَيْضا تنشر السَّحَاب.
وَقيل: إِنَّهَا الْمَلَائِكَة تنشر الصُّحُف على الْعباد يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَالَ أَبُو صَالح: هِيَ الأمطار تنشر النَّبَات.
قَالَ الْأَعْشَى:(6/125)
{فالفارقات فرقا (4) فالملقيات ذكرا (5) عذرا أَو نذرا (6) إِنَّمَا توعدون لوَاقِع (7) } .
(لَو (أسندت) مَيتا إِلَى صدرها ... عَاشَ وَلم ينْقل إِلَى قابر)
(حَتَّى يَقُول النَّاس (مِمَّا) رَأَوْا ... يَا عجبا للْمَيت الناشر)(6/126)
فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)
وَقَوله: {فالفارقات فرقا} فِي قَول أَكثر الْمُفَسّرين: هم الْمَلَائِكَة يأْتونَ بِالْفرقِ بَين الْحق وَالْبَاطِل والحلال وَالْحرَام.
وَقَالَ قَتَادَة: هِيَ آي الْقُرْآن فرقت بَين الْحق وَالْبَاطِل والحلال وَالْحرَام.(6/126)
فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)
وَقَوله: {فالملقيات ذكرا} هِيَ الْمَلَائِكَة تلقي الْوَحْي على الْأَنْبِيَاء وَالرسل.
وَقيل: إِنَّهُم الْأَنْبِيَاء، وَكَذَلِكَ فسرت الْآيَة الأولى، وَهِي مثل قَوْله: {فالفارقات فرقا} فِي بعض الْأَقْوَال: وَالْإِلْقَاء طرح الشَّيْء على الشَّيْء، وَهُوَ فِي هَذَا الْموضع للتبيين والإفهام؛ فالملائكة يلقون على الْأَنْبِيَاء، والأنبياء يلقون على الْأُمَم، وَالْعُلَمَاء يلقون على المتعلمين.(6/126)
عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)
وَقَوله: {عذرا أَو نذرا} وَقُرِئَ: " عذرا " بتسكين الذَّال.
قَالَ الْفراء: إعذارا أَو إنذارا.
وَقيل: للإعذار والإنذار.
وَقَالَ الْحسن: ليقيم عذره [على خلقه] بِإِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِم، وَأَنه عذبهم حِين استحقوا الْعَذَاب بإنكارهم بعد إِقَامَة الْحجَج.
والعذر ظُهُور معنى يوضع اللوم عَن الْإِنْسَان، وَهَذَا الْحَد فِي حق الْخلق، فَأَما فِي حق الله فَلَا.
وَنصب " عذرا " على أَنه بدل من قَوْله: " ذكرا " وَكَأَنَّهُ قَالَ: فالملقيات عذرا أَو نذرا.(6/126)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا توعدون لوَاقِع} إِلَى هَذَا الْموضع كَانَ قسما.
وَقَوله: {إِنَّمَا توعدون لوَاقِع} عَلَيْهِ وَقع الْقسم.
وَقيل: إِن الله تَعَالَى أقسم بِهَذِهِ(6/126)
{فَإِذا النُّجُوم طمست (8) وَإِذا السَّمَاء فرجت (9) وَإِذا الْجبَال نسفت (10) وَإِذا الرُّسُل أقتت (11) لأي يَوْم أجلت (12) ليَوْم الْفَصْل (13) وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْم الْفَصْل (14) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (15) } . الْأَشْيَاء، [و] لَهُ أَن يقسم بِمَا شَاءَ من خلقه.
وَقيل: فِي الْآيَات إِضْمَار، وَمَعْنَاهُ: وَرب المرسلات عرفا، وَرب العاصفات ... إِلَى آخِره، فَيكون قد أقسم بِنَفسِهِ.(6/127)
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا النُّجُوم طمست} أَي: محيت وأذهب ضوءها.(6/127)
وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)
وَقَوله: {وَإِذا السَّمَاء فرجت} أَي: شقَّتْ.(6/127)
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)
وَقَوله: {وَإِذا الْجبَال نسفت} أَي: قلعت من أماكنها.(6/127)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
وَقَوله: {وَإِذا الرُّسُل أقتت} أَي: جمعت لوَقْتهَا، وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة؛ ليشهدوا على الْأُمَم.
وَقيل: التَّوْقِيت تَقْدِير الْوَقْت لوُقُوع الْفِعْل، فَلَمَّا كَانَت الرُّسُل - عَلَيْهِم السَّلَام - قد قدر إرسالهم لأوقات مَعْلُومَة بِحَسب صَلَاح الْعباد (بهَا) ، كَانَت قد وقتت بِكُل الْأَوْقَات.
وَقُرِئَ: " وُقِّتَتْ " و " وُقِتَت " و " أوقتت " بِمَعْنى وَاحِد، وَالْوَاو إِذا ضمت وابتدأ بهَا الْكَلِمَة أبدلت بِالْهَمْز، تَقول الْعَرَب: ووجوه وأجوه، ووجدانا وأجدانا.
وَقيل: " وَإِذا الرُّسُل وقتت " أَي: أجلت.(6/127)
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)
وَقَوله: {لأي يَوْم أجلت} أَي: لأي يَوْم أخرت.(6/127)
لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
وَقَوله: {ليَوْم الْفَصْل} أَي: أخرت ليَوْم الْفَصْل، وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة.(6/127)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْم الْفَصْل} قَالَ الْحسن: وَالله مَا درى حَتَّى أعلمهُ الله تَعَالَى.(6/127)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
وَقَوله: {ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين} قَالَ النُّعْمَان بن بشير: الويل وَاد فِي جَهَنَّم فِيهِ ألوان من الْعَذَاب.
وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن مَسْعُود أَيْضا.(6/127)
{ألم نهلك الْأَوَّلين (16) ثمَّ نتبعهم الآخرين (17) كَذَلِك نَفْعل بالمجرمين (18) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (19) ألم نخلقكم من مَاء مهين (20) فجعلناه فِي قَرَار مكين (21) إِلَى قدر مَعْلُوم (22) فقدرنا فَنعم القادرون (23) } .(6/128)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)
قَوْله تَعَالَى: {ألم نهلك الْأَوَّلين} أَي: قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَمن قرب من زمانهم.(6/128)
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)
وَقَوله: {ثمَّ نتبعهم الآخرين} أَي: الَّذين كَانُوا بعد ذَلِك من فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون وَمن بعدهمْ.(6/128)
كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)
وَقَوله: {كَذَلِك نَفْعل بالمجرمين} أَي: مُشْركي مَكَّة ننزل بهم مثل مَا نزل بهم، لأَنهم عمِلُوا مثل عَمَلهم.
وَقيل: " ثمَّ نتبعهم الآخرين " هم كفار قُرَيْش.
وَقَوله: {كَذَلِك نَفْعل بالمجرمين} هم الَّذين يأْتونَ بعدهمْ من الْكفَّار إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " ثمَّ سنتبعهم الآخرين " وَقَرَأَ الْأَعْرَج: " ثمَّ نتبعهم " بجزم الْعين.(6/128)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)
وَقَوله: {ألم نخلقكم من مَاء مهين} قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة: ضَعِيف.(6/128)
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21)
وَقَوله: {فجعلناه فِي قَرَار مكين} قَالَ عَطاء وَابْن جريج وَالربيع بن أنس: هُوَ الرَّحِم، وَالْمَاء المهين هُوَ النُّطْفَة.(6/128)
إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)
وَقَوله: {إِلَى قدر مَعْلُوم} أَي: إِلَى وَقت مَعْلُوم، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى مُدَّة مكثه فِي الْبَطن فِي رحم الْأُم.(6/128)
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)
قَوْله: {فقدرنا فَنعم القادرون} وَقُرِئَ: " فَقَدَّرنا " بتَشْديد الدَّال.
قَالَ القتيبي: هما بِمَعْنى وَاحِد.
وَالْعرب تَقول: قَدَر وقَّدَّر.
وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " فَإِن غم عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ " أَي: قدرُوا لَهُ.
(وَقد اعْترض على هَذَا القَوْل، فَقيل: لَو كَانَ قَدرنَا(6/128)
{ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (24) ألم نجْعَل الأَرْض كفاتا (25) أَحيَاء وأمواتا (26) وَجَعَلنَا فِيهَا رواسي شامخات} . بِمَعْنى قَدرنَا) لقَالَ.
فَنعم المقدرون.
وَالْجَوَاب: أَنه جمع بَين اللغتين، وَقَالَ الشَّاعِر فِي مثل هَذَا:
(وأنكرتني وَمَا كَانَ الَّذِي نكرت ... من الْحَوَادِث إِلَّا الشيب والصلعا)
وَقيل: فِي الْفرق بَين قَدرنَا وقدرنا، بِالتَّخْفِيفِ مَعْنَاهُ: ملكنا فَنعم المالكون، وَمعنى قَدرنَا بِالتَّشْدِيدِ أَي: قَدرنَا خلق الْإِنْسَان على تارات مُخْتَلفَة من نُطْفَة وعلقة ومضغة، وَمَا بعد ذَلِك إِلَى أَن جَعَلْنَاهُ إنْسَانا سويا.
وَقيل: قَدرنَا شقيا وسعيدا، وصغيرا وكبيرا، وأسود وأبيض وَغير ذَلِك.(6/129)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)
قَوْله تَعَالَى: {ألم نجْعَل الأَرْض كفاتا} أَي: كفتا.
وَقيل: مجمعا، فالكفت هُوَ الضَّم، وَمعنى الكفات هَاهُنَا: هُوَ أَن الأَرْض تضم الْخلق أَحيَاء وأمواتا، فالضم فِي حَال الْحَيَاة هُوَ باكتنانهم واستقرارهم على ظهرهَا، وَبعد الْمَمَات باكتنانهم فِي بَطنهَا وَهُوَ الْقُبُور، وَكَانَ بَقِيع الفرقد يُسمى الكفتة
وَعَن (ابْن) يحيى بن سعيد وَرَبِيعَة: أَن اللبَاس يقطع إِذا أخرج الْكَفَن وَمن الْحِرْز، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {ألم لنجعل الأَرْض كفاتا أَحيَاء وأمواتا} رَوَاهُ سُلَيْمَان بن (بلَيْل) .
وَعَن الْخَلِيل بن أَحْمد: أَن الكفت هُوَ التقلب.
وَقَوله: {كفاتا} أَي: متقلبا.(6/129)
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27)
قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا فِيهَا رواسي شامخات} أَي: مرتفعات: يُقَال: شمخ فلَان بِأَنْفِهِ إِذا رفع قدره، قَالَ بَعضهم:
(إِذا كَانَت الْأَحْرَار أُصَلِّي ومنصبي ... وَقَامَ بأَمْري خازم وَابْن خازم)(6/129)
{وأسقيناكم مَاء فراتا (27) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (28) انْطَلقُوا إِلَى مَا كُنْتُم بِهِ تكذبون (29) انْطَلقُوا إِلَى ظلّ ذِي ثَلَاث شعب (30) لَا ظَلِيل وَلَا يُغني من اللهب (31) } .
(عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قَاعِدا غير قَائِم)
وَقَوله: {وأسقيناكم مَاء فراتا} أَي: عذبا.
وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: أصُول الْأَنْهَار العذبة أَرْبَعَة: جيحان وَهُوَ نهر بَلخ، ودجلة وفرات للكوفة، ونيل مصر.
وَذكر الْكَلْبِيّ أَن فِي الدُّنْيَا ثَلَاثَة فِي الْجنَّة [الدجلة] ، والفرات، ونهر الْأُرْدُن، وَأنْشد الشَّاعِر:
(إِذا غَابَ عَنَّا غَابَ فراتنا ... وَإِن شهد إِحْدَى نبله وفواضله)(6/130)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
قَوْله: {انْطَلقُوا إِلَى مَا كُنْتُم بِهِ تكذبون} فِي التَّفْسِير: أَن النَّاس يقفون على رُءُوس قُبُورهم أَرْبَعِينَ عَاما إِذا بعثوا، وتدنوا الشَّمْس من رُءُوسهم وَيُزَاد فِي حرهَا حَتَّى يَأْخُذهُمْ الكرب الْعَظِيم وَحَتَّى تَأْخُذ بِأَنْفَاسِهِمْ ثمَّ إِن الله تَعَالَى يُنجي الْمُؤمنِينَ إِلَى ظلّ من ظله برحمته، وَيبقى الْكفَّار فَيخرج لَهُم دُخان من النَّار ويتشعب ثَلَاث شعب فَيُقَال لَهُم: انْطَلقُوا إِلَى ذَلِك الدُّخان فاستظلوا بِهِ فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {انْطَلقُوا إِلَى مَا كُنْتُم بِهِ تكذبون} وَإِنَّمَا قَالَ: {مَا كُنْتُم بِهِ تكذبون} لأَنهم كَانُوا يكذبُون بالنَّار.
وَهَذَا دُخان النَّار.(6/130)
انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30)
وَقَوله تَعَالَى: {انْطَلقُوا إِلَى ظلّ ذِي ثَلَاث شعب} فَهُوَ مَا ذكرنَا وَهُوَ بَيَان الأول.(6/130)
لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)
وَقَوله: ( [لَا] ظَلِيل) الظل: حجاب عَال يدْفع أَذَى الْحر عَن الْإِنْسَان فَقَوله: {لَا ظَلِيل} أَي: لَا يدْفع الْأَذَى فَهُوَ فِي صُورَة ظلّ وَلَيْسَ لَهُ معنى الظل.
وَقَوله: {وَلَا يُغني من اللهب} أَي: لَا يدْفع عَنْهُم أَذَى اللهب، واللهب لَهب النَّار.
وَعَن قطرب قَالَ: اللهب هُوَ الْعَطش.(6/130)
{إِنَّهَا ترمي بشرر كالقصر (32) كَأَنَّهُ جمالت صفر (33) } .(6/131)
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
وَقَوله: {إِنَّهَا ترمي بشرر} أَي: يتطاير مِنْهَا الشرر.
وَقَوله: {كالقصر} قَالَ أَبُو عَمْرو: كالبناء الْعَظِيم.
وَقيل: كالخيمة من خيام الْعَرَب، وَالْعرب تسمي ذَلِك قصرا.
وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " كالقَصَر " بتحريك الصَّاد.
وَقيل: إِنَّهَا أَعْنَاق النخيل.
وَقيل: أصُول النخيل.
وَعَن بَعضهم أَنه خَشَبَة كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتنضدون بهَا نَحْو ثَلَاثَة أَذْرع يسمونها الْقصر.
وَعَن مُجَاهِد: أَن الْقصر بتسكين الصَّاد هُوَ الْجَبَل.
وَعَن قَتَادَة: أَعْنَاق الدَّوَابّ وَهُوَ بِنصب الصَّاد.
(وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة هُوَ قلوس السفن) .
وَقيل: [حبال السفن] .
وَعَن (الْمبرد) قَالَ: هُوَ الجزل الْعَظِيم من الْخطب.(6/131)
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)
وَقَوله: {كَأَنَّهُ جمالات صفر} أَي: نُوق سود، والجمالات جمع جمل.
وَقيل: إِنَّهَا جمع الْجمع كَأَنَّهُمْ قَالُوا جمل وجمال وجمالات، وَهُوَ مثل قَوْلهم: رجال وَرِجَال ورجالات.
وَقُرِئَ بِضَم الْجِيم، وَهِي جُمال.
وَقُرِئَ: " جُمَالَة " على الوحدان مثل حجر وحجارة وَحمل وحمالة.
وَقَوله: {صفر} أَي: سود وَإِنَّمَا سَمَّاهَا صفرا لِأَنَّهُ يشوبها لون من السود وَإِن كَانَت صفرا.
وَمِنْه يُقَال: [الْبيض الظباء] أَدَم لِأَنَّهُ يشوبها شَيْء من الكدورة وَإِن كَانَت بَيْضَاء.
وَقَالَ الشَّاعِر:
(تِلْكَ خيلي مِنْهَا وَتلك ركابي ... هن صفر (ألوانها) كالزبيب)(6/131)
{ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (34) هَذَا يَوْم لَا ينطقون (35) وَلَا يُؤذن لَهُم فيعتذرون (36) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (37) هَذَا يَوْم الْفَصْل جمعناكم والأولين (38) فَإِن كَانَ لكم كيد فكيدون (39) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (40) إِن الْمُتَّقِينَ فِي ظلال وعيون (41) وفواكه مِمَّا يشتهون (42) كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (43) إِن كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ (44) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (45) كلوا وتمتعوا قَلِيلا إِنَّكُم مجرمون (46) } .
أَي: سود(6/132)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)
قَوْله تَعَالَى: {هَذَا يَوْم لَا ينطقون} فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَأَقْبل بَعضهم على بعض يتساءلون} فَكيف الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب: بَينا أَن ليَوْم الْقِيَامَة مَوَاطِن ومواقف.(6/132)
وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)
وَقَوله: {وَلَا يُؤذن لَهُم فيعتذرون} لِأَنَّهُ لَا عذر لَهُم فيعتذرون.(6/132)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
وَقَوله: {هَذَا يَوْم الْفَصْل جمعناكم والأولين فَإِن كَانَ لكم كيد فكيدون} أَي: إِن كَانَ لكم حِيلَة فاحتالوا.(6/132)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُتَّقِينَ فِي ظلال وعيون} قيل: ظلال الْقُصُور وَالْأَشْجَار.
وَقيل: إِن الظل هُوَ مَا يدْفع أَذَى الْحر عَن الْإِنْسَان.
وهواء الْجنَّة يُنَافِي كل أَذَى فَهُوَ ظلّ على هَذَا الْمَعْنى وَإِن لم يكن هُنَاكَ شمس.(6/132)
وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)
وَقَوله: {وفواكه مِمَّا يشتهون} أَي: يتمنون.(6/132)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
وَقَوله: {كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} قد بَينا من قبل.(6/132)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)
وَقَوله: {إِنَّا كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: المحسن من أدّى جَمِيع فَرَائض الله واجتنب جَمِيع مناهي الله.(6/132)
{ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (47) وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (49) فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ (50) } [المرسلات: 1 - 50](6/133)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)
قَوْله تَعَالَى: {كلوا وتمتعوا قَلِيلا إِنَّكُم مجرمون} هَذَا على طَرِيق التهديد والوعيد لَا على طَرِيق الْأَمر.
وَمَعْنَاهُ: افعلوا مَا أَنْتُم فاعلون فسينالكم رعب ذَلِك وعاقبته.(6/133)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)
وَقَوله: {وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} مَعْنَاهُ: إِذا قيل لَهُم: صلوا لَا يصلونَ.
وَقيل: إِنَّهَا نزلت فِي ثَقِيف استعفوا من الصَّلَاة.
وَقيل: كَانُوا استعفوا من الرُّكُوع وَالسُّجُود فَقَالَ النَّبِي: " لَا خير فِي دين لَيْسَ لَهُ رُكُوع وَلَا سُجُود ".(6/133)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
وَقَوله: {فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ} أَي: بِأَيّ كتاب بعد الْقُرْآن يُؤمنُونَ إِن لم يُؤمنُوا بِهَذَا الحَدِيث بعد ظُهُور براهينه وَقيام الدَّلَائِل على أَنه من عِنْد الله؟ ! فَإِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه التّكْرَار فِي قَوْله: {ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين} فِي هَذِه السُّورَة والمرة الْوَاحِدَة تغني عَن المُرَاد بِهِ؟ وَالْجَوَاب قد بَينا هَذَا فِي سُورَة الرَّحْمَن.
وَوجه ذَلِك أَنه لما كرر ذكر النعم فِي تِلْكَ السُّورَة كرر الزّجر عَن كفرانها وَالنَّهْي عَنْهَا بقوله: {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} وَلما كرر ذكر الْآيَات فِي هَذِه السُّورَة لإِقَامَة الحجيج عَلَيْهِم كرر ذكر الْعقُوبَة عَلَيْهِم بِذكر الويل ليَكُون أبلغ فِي الْإِنْذَار والإعذار وَهُوَ على عَادَة كَلَام الْعَرَب فَإِن الرجل يَقُول لغيره: ألم أحسن إِلَيْك بِأَن فعلت لَك كَذَا؟ ألم أحسن بِأَن خلصتك من المكاره؟ ألم أحسن بِأَن تشفعت لَك إِلَّا فلَان؟ وَغير ذَلِك فَيحسن مِنْهُ التكرير لاخْتِلَاف مَا يقرره بِهِ.
قَالَ مهلهل بن ربيعَة يرثي أَخَاهُ كليبا على هَذَا الْمَعْنى:
(عليّ أَن لَيْسَ عدلا من كُلَيْب ... إِذا طرد (اللَّئِيم) عَن الْجَزُور)
(عليّ أَن لَيْسَ عدلا من كُلَيْب ... إِذا مَا ضيم جيران المجير)(6/133)
(عليّ أَن لَيْسَ عْدلاً من كُلَيْب ... إِذا خرجت مخبأة الْخُدُور)
(على أَن لَيْسَ عْدلاً من كُلَيْب ... غَدَاة بلائك الْأَمر الْكَبِير)
(عَليّ أَن لَيْسَ عْدلاً من كُلَيْب ... إِذا مَا ضام جَار المستجير)
وَالله أعلم.(6/134)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{عَم يتساءلون (1) عَن النبأ الْعَظِيم (2) الَّذِي هم فِيهِ مُخْتَلفُونَ (3) كلا سيعلمون (4) ثمَّ كلا سيعلمون (5) ألم نجْعَل الأَرْض مهادا (6) } .
تَفْسِير سُورَة النبأ
وَهِي مَكِّيَّة(6/135)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)
قَوْله تَعَالَى: {عَم يتساءلون عَن النبأ الْعَظِيم} مَعْنَاهُ: عَن مَا يتساءلون فأدغمت النُّون فِي الْمِيم، وأسقطت الْألف فَصَارَ عَم.
قَالَ الزّجاج: لَفظه لفظ الِاسْتِفْهَام، وَالْمعْنَى تفخيم الْقِصَّة مثل الْقَائِل: أَي شَيْء زيد؟
وَفِي التَّفْسِير: أَن رَسُول الله لما بعث ودعا الْمُشْركين إِلَى التَّوْحِيد جعل بَعضهم يسْأَل بَعْضًا فبماذا بعث مُحَمَّد؟ وَإِلَى مَاذَا يَدْعُو؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَمعنى يتساءلون أَي: يسْأَل بَعضهم بَعْضًا.
وَقَوله: {عَن النبأ الْعَظِيم} قيل مَعْنَاهُ: عَن النبأ الْعَظِيم: وَاخْتلف القَوْل فِي النبأ الْعَظِيم: روى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس: أَنه الْقُرْآن، وَعَن قَتَادَة: أَنه الْبَعْث، وَهُوَ قَول أبي الْعَالِيَة وَالربيع بن أنس وَجَمَاعَة، وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: هُوَ النُّبُوَّة، وَالْقَوْلَان الْأَوَّلَانِ معروفان.(6/135)
الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
وَقَوله: {الَّذِي هم فِيهِ مُخْتَلفُونَ} أَي: مِنْهُم الْمُصدق، وَمِنْهُم المكذب.(6/135)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)
وَقَوله: {كلا سيعلمون ثمَّ كلا سيعلمون} قَالَ الْحسن: هُوَ تهديد بعد تهديد.
وَعَن الضَّحَّاك قَالَ: قَوْله: {كلا سيعلمون} أَي: الْكفَّار.
وَقَوله: {ثمَّ كلا سيعلمون} أَي: الْمُؤْمِنُونَ، وَالظَّاهِر أَنَّهُمَا جَمِيعًا للْكفَّار.(6/135)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)
قَوْله تَعَالَى: {ألم نجْعَل الأَرْض مهادا} لما أخبر الله تَعَالَى باختلافهم فِي الْقُرْآن وَالْقِيَامَة - وَكَانَ اخْتلَافهمْ فِي الْبَعْث بالتصديق والتكذيب - وَاخْتِلَافهمْ فِي الْقُرْآن(6/135)
{وَالْجِبَال أوتادا (7) وخلقناكم أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلنَا نومكم سباتا (9) وَجَعَلنَا اللَّيْل لباسا (10) } . أَنه سحر أَو شعر أَو كهَانَة، فَذكر الله تَعَالَى الدَّلَائِل عَلَيْهِم فِي التَّوْحِيد، وَأَن مَا أنزلهُ حق وَصدق، وَعدد نعمه عَلَيْهِم، ليعترفوا بِهِ ويشكروه.
قَوْله تَعَالَى: {مهادا} أَي: بساطا وفراشا وَالنعْمَة فِي تذليلها وتوطئتها لَهُم.(6/136)
وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)
وَقَوله: {وَالْجِبَال أوتادا} قَالَ ابْن عَبَّاس: لما خلق الله تَعَالَى الأَرْض جعلت تكفأ - وحرك ابْن عَبَّاس يَده - فخلق الله الْجبَال وأرساها بهَا - أَي: أثبتها - فَهِيَ أوتاد الأَرْض، كَمَا يثبت الشَّيْء على الْحَائِط بالوتد.(6/136)
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)
وَقَوله: {وخلقناكم أَزْوَاجًا} أَي: أصنافا وَمَوْضِع النِّعْمَة هِيَ سُكُون بَعضهم إِلَى بعض، فالرجل وَالْمَرْأَة زوج، وَكَذَلِكَ السَّمَاء وَالْأَرْض، وَاللَّيْل وَالنَّهَار، وَغير ذَلِك من الْخلق، وَقيل: أَزْوَاجًا أَي: متآلفين، تألفون أزواجكم، وتألفكم أزواجكم.(6/136)
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)
وَقَوله: {وَجَعَلنَا نومكم سباتا} قَالَ ثَعْلَب: قطعا لأعمالكم، وأصل السبات هُوَ التمدد والسكون.
وَالْمعْنَى: أَنهم ينقطعون عَن الْحَرَكَة بِاللَّيْلِ فيسكنون ويستريحون، وَقيل: سباتا أَي: رَاحَة.
وَقَالَ الشَّاعِر:
ومطوية (الأقتاب) أما نَهَارهَا ... فسبت وَأما لَيْلهَا فزميل)
أَي قطيع.(6/136)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)
وَقَوله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا اللَّيْل لباسا} أَي: سترا لكم، وَهُوَ مَذْكُور على طَرِيق الْمجَاز، وَوَجهه أَن ظلمَة اللَّيْل لما غشيت كل إِنْسَان كَمَا يَغْشَاهُ اللبَاس، سَمَّاهُ لباسا(6/136)
{وَجَعَلنَا النَّهَار معاشا (11) وبنينا فَوْقكُم سبعا شدادا (12) وَجَعَلنَا سِرَاجًا وهاجا (13) وأنزلنا من المعصرات مَاء ثجاجا (14) على طَرِيق الْمجَاز.(6/137)
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
وَقَوله: {وَجَعَلنَا النَّهَار معاشا} أَي: مبتغى معاش ومطلب معاش، وَالْمعْنَى: أَنه الزَّمَان الَّذِي يعيشون وينصرفون فِيهِ.(6/137)
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)
وَقَوله: {وبنينا فَوْقكُم سبعا شدادا} أَي: السَّمَاوَات السَّبع.
وَقَوله: {شَدَّاد} أَي: صلبة، وَفِي الْآثَار: أَن غلط كل سَمَاء مسيرَة خَمْسمِائَة عَام.(6/137)
وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)
وَقَوله: {وَجَعَلنَا سِرَاجًا وهاجا} أَي: جعلنَا الشَّمْس وقادا متلألئا.(6/137)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)
وَقَوله: {وأنزلنا من المعصرات مَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ الرِّيَاح، وتسميتها بِهَذَا الِاسْم؛ لِأَن الرِّيَاح تلقح السَّحَاب ليَكُون فِيهِ الْمَطَر، فَكَأَن الْمَطَر كَانَ من الرِّيَاح، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المعصرات هِيَ السَّحَاب، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَهُوَ قَول مُجَاهِد وَجَمَاعَة.
قَالَ الْمبرد: تَسْمِيَته بالمعصرات، لِأَنَّهُ ينعصر بالمطر شَيْئا فَشَيْئًا، وَقيل: من المعصرات أَي: بالمعصرات مَاء ثجاجا.
وَقَوله: {ثجاجا} أَي: منصبا بعضه فِي إِثْر بعض.
وَعَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أفضل الْحَج العج والثج " فالعج رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ، والثج إِرَاقَة الدِّمَاء.
وَعَن(6/137)
{لنخرج بِهِ حبا ونباتا (15) وجنات ألفافا (16) إِن يَوْم الْفَصْل كَانَ ميقاتا (17) يَوْم ينْفخ فِي الصُّور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفتحت السَّمَاء فَكَانَت أبوابا (19) وسيرت الْجبَال فَكَانَت سرابا (20) إِن جَهَنَّم كَانَت مرصادا (21) قَتَادَة: أَن المعصرات هُوَ السَّمَاء، وَهُوَ قَول غَرِيب.(6/138)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
قَوْله: {لنخرج بِهِ حبا ونباتا وجنات ألفافا} أَي: ملتفة، وَوَاحِد الألفاف لف، والملتفة هِيَ الدَّاخِل بَعْضهَا فِي بعض.(6/138)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)
قَوْله تَعَالَى: {إِن يَوْم الْفَصْل كَانَ ميقاتا} أَي: ميعادا لِلْخَلَائِقِ، وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة.(6/138)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
وَقَوله: {يَوْم ينْفخ فِي الصُّور} ذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن إسْرَافيل - عَلَيْهِ السَّلَام - ينزل فيجلس على صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس، وَتجْعَل الْأَرْوَاح فِي الصُّور كأمثال النَّحْل، واستدارة فَم الصُّور كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض مسيرَة خَمْسمِائَة عَام، ثمَّ ينْفخ فَتخرج الْأَرْوَاح مِنْهَا، وَترجع إِلَى أجسادها.
وَقَوله: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} قَالَ مُجَاهِد: زمرا زمرا.(6/138)
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)
وَقَوله: {وَفتحت السَّمَاء} أَي: جعلت طرقا، وَقيل: فتحت أَبْوَاب السَّمَاء لنزول الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: {فَكَانَت أبوابا} أَي كَانَت طرقا على مَا بَينا.(6/138)
وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
وَقَوله: {وسيرت الْجبَال فَكَانَت سرابا} أَي: هباء منبثا، وَقيل: هُوَ يصير كالسراب ترى أَنه شَيْء وَلَيْسَ بِشَيْء.(6/138)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)
وَقَوله: {إِن جَهَنَّم كَانَت مرصادا} قَالَ أهل اللُّغَة: كل شَيْء كَانَ أمامك فَهُوَ رصد، وَالْمرَاد أَنه الْمَكَان الَّذِي يرصد فِيهِ الْكفَّار لنزول الْعَذَاب بهم.
وَعَن بَعضهم: يَا صَاحب الرصد، اذكر الرصد، وَقيل: مرصادا أَي: يرصدون بِالْعَذَابِ أَي: على معنى أَنه يعد لَهُم.(6/138)
لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)
وَقَوله: {للطاغين مآبا} أَي: منقلبا، يُقَال: آب إِلَى مَكَان كَذَا أَي: رَجَعَ وانقلب.(6/138)
{للطاغين مآبا (22) لابثين فِيهَا أحقابا (23) لَا يذوقون فِيهَا بردا وَلَا شرابًا (24) } .(6/139)
لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
وَقَوله: {لابثين فِيهَا أحقابا} الحقبة فِي اللُّغَة قِطْعَة من الزَّمَان مثل الْحِين.
قَالَ متمم بن نُوَيْرَة يرثي أَخَاهُ مَالِكًا:
(وَكُنَّا كندماني جذيمة حقبة ... من الدَّهْر حَتَّى قيل لن يتصدعا)
أَي: قِطْعَة، وَأما الْمَنْقُول فِي التفاسير عَن السّلف فِي معنى الحقب: فأظهر الْأَقْوَال أَنه ثَمَانُون سنة، كل سنة ثلثمِائة وَسِتُّونَ يَوْمًا، كل يَوْم ألف سنة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَقَتَادَة وَغَيرهم، وَمثله عَن أبي هُرَيْرَة.
وَعَن بَعضهم: أَنه ثلثمِائة سنة، كل سنة ثلثمِائة وَسِتُّونَ يَوْمًا، كل يَوْم مثل مُدَّة الدُّنْيَا، وَعَن بَعضهم: بضع وَثَمَانُونَ عَاما، فَإِن قيل: هَذِه الْآيَة تدل على أَن عَذَاب الْكفَّار يَنْقَطِع عِنْد مُضِيّ الأحقاب؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: (أَحدهَا) : أَن مَعْنَاهُ لابثين فِيهَا أحقابا لَا يذوقون فِيهَا بردا وَلَا شرابًا أَي: يُعَذبُونَ بِهَذَا النَّوْع من الْعَذَاب أحقابا، وَثمّ أحقاب أخر لسَائِر أَنْوَاع الْعَذَاب، قَالَه الْمبرد.
وَالْوَجْه الثَّانِي: وَهُوَ أَن معنى لابثين فِيهَا أحقابا لَا تخبو عَنْهُم النَّار، فَإِذا خبت النَّار وزيدوا سعيرا لَبِثُوا أبدا وَالْوَجْه الثَّالِث: مَا قَالَه ابْن كيسَان، وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ لابثين فِيهَا أحقابا إِلَى أحقاب لَا تَنْقَطِع أبدا.
قَالَ النّحاس: وَهُوَ أبين الْأَقْوَال.(6/139)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)
وَقَوله: {لَا يذوقون فِيهَا بردا} قَالَ ثَعْلَب، نوما، وَتقول الْعَرَب: منع الْبرد، وَالْبرد أَي: نوم، وَقَالَ الشَّاعِر:
(فَإِن شِئْت حرمت النِّسَاء سواكم ... وَإِن شِئْت لم أطْعم نقاخا وَلَا بردا)
النقاخ المَاء الزلَال وَقيل: " بردا " أَي: (رَاحَة) ، وَقيل: " بردا " لَا يبرد عَنْهُم حر السعير ولهبه.
وَقَوله: {وَلَا شرابًا} أَي: لَا يسكن مِنْهُم الْعَطش.(6/139)
{إِلَّا حميما وغساقا (25) جزاءا وفَاقا (26) إِنَّهُم كَانُوا لَا يرجون حسابا (27) وكذبوا بِآيَاتِنَا كذابا (28) وكل شَيْء أحصيناه كتابا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدكُمْ إِلَّا عذَابا (30) } .(6/140)
إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
وَقَوله: {إِلَّا حميما وغساقا} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْحَمِيم المَاء الْحَار، وَمِنْه الْحمى، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وظل من يحموم} وَقيل: الْحَمِيم هُوَ أَنه تجمع دموعهم فيسقون.
وَقَوله: {وغساقا} أَي: الْقَيْح الغليظ، وَقيل: [هُوَ] صديد أهل النَّار، وَقيل: الْحَمِيم مَا هُوَ فِي نِهَايَة الْحر، والغساق مَا هُوَ فِي نِهَايَة الْبرد وَهُوَ الزَّمْهَرِير، فيعذبون بِكُل وَاحِد من العذابين.(6/140)
جَزَاءً وِفَاقًا (26)
وَقَوله: {جزاءا وفَاقا} أَي: جَزَاء يُوَافق أَعْمَالهم.
قَالَ ابْن زيد: عمِلُوا شرا، فجوزوا شرا.(6/140)
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم كَانُوا لَا يرجون حسابا} أَي: لَا يخَافُونَ، وَقد بَينا الرَّجَاء بِمَعْنى الْخَوْف فِيمَا سبق.(6/140)
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)
وَقَوله: {وكذبوا بِآيَاتِنَا كذابا} أَي: تَكْذِيبًا، قَالَ الْفراء: هِيَ لُغَة فصيحة يَمَانِية.(6/140)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
وَقَوله: {وكل شَيْء أحصيناه كتابا} هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وكل شَيْء أحصيناه فِي إِمَام مُبين} أَي: بَيناهُ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ.(6/140)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
وَقَوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدكُمْ إِلَّا عذَابا} أَي: يُقَال لَهُم: فَذُوقُوا الْعَذَاب فَهُوَ غير مُنْقَطع عَنْكُم، وَلَا تزادون إِلَّا الْعَذَاب.
قَالَ الشَّاعِر:(6/140)
{إِن لِلْمُتقين مفازا (31) حدائق وأعنابا (32) وكواعب أَتْرَابًا (33) وكأسا دهاقا (34) لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا وَلَا كذابا (35) جَزَاء من رَبك عَطاء حسابا} .
(فصدقتها وكذبتها ... والمرء يَنْفَعهُ كذابه)(6/141)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)
قَوْله تَعَالَى: {إِن لِلْمُتقين مفازا} أَي: فوزا، والمفاز: مَوضِع الْفَوْز.(6/141)
حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)
وَقَوله: {حدائق وأعنابا} ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا.(6/141)
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)
وَقَوله: {وكواعب أَتْرَابًا} الكواعب: هِيَ النواهد، يُقَال: جَارِيَة كاعب أَي خرج ثديها مثل الكعب وَهِي ناهد.
وَقَوله: {أَتْرَابًا} أَي لدات، وَقيل: بَنَات ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة.(6/141)
وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)
وَقَوله: {وكأسا دهاقا} أَي ممتلئة، قَالَه مُجَاهِد، وَقَالَ عِكْرِمَة: صَافِيَة، وَعَن بَعضهم: متتابعة، وَالْقَوْل الأول أظهر، وَهُوَ محكي عَن ابْن عَبَّاس، وَعنهُ أَنه قَالَ: كثيرا سَمِعت الْعَبَّاس يَقُول: اسقيني يَا جَارِيَة الكأس وادهقي، وَعنهُ أَيْضا: أَنه دَعَا بكأس فَجَاءَت بِهِ الْجَارِيَة ملآن فَقَالَ: هَذَا هُوَ الدهاق.(6/141)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)
وَقَوله: {لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا وَلَا كذابا} اللَّغْو: هُوَ الْكَلَام المطرح.
وَقَوله: {كذابا} أَي: لَا يكذب بَعضهم بَعْضًا، وَقُرِئَ " كذابا " بِالتَّخْفِيفِ وَمَعْنَاهُ: الْكَذِب لَا غير، قَالَ الشَّاعِر:
(فصدقتها وكذبتها ... والمرء يَنْفَعهُ كذابه)
أَي: كذبه.(6/141)
جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
وَقَوله تَعَالَى: {جَزَاء من رَبك عَطاء حسابا} أَي: عَطاء كَافِيا يُقَال: أَعْطَانِي فلَان حَتَّى أحسبني، يَعْنِي: حَتَّى قلت حسبي، وَقَالَ قَتَادَة: عَطاء حسابا أَي: كثيرا، وَقَالَ الشَّاعِر فِي الْمَعْنى الأول.
(ونقفي وليد الْحَيّ إِن كَانَ جائعا ... ونحسبه إِن كَانَ لَيْسَ بجائع)
وَقَوله: {جَزَاء من رَبك عَطاء} أَي: جوزوا جَزَاء، وأعطوا عَطاء.(6/141)
( {36) رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرَّحْمَن لَا يملكُونَ مِنْهُ خطابا (37) يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة صفا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صَوَابا (38) ذَلِك الْيَوْم الْحق} .(6/142)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
قَوْله تَعَالَى: {رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرَّحْمَن} كِلَاهُمَا بِالرَّفْع، وَقُرِئَ: " رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرَّحْمَن " الأول بِالْجَرِّ، وَالْآخر بِالرَّفْع.
وَقُرِئَ كِلَاهُمَا بِالْكَسْرِ: " رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرَّحْمَن " فَوجه الْقِرَاءَة الأولى أَن قَوْله: {رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض} رفع بِالِابْتِدَاءِ والرحمن خَبره، وَوجه الْقِرَاءَة الثَّانِيَة أَن قَوْله: {رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض} مخفوض اتبَاعا لقَوْله: {من رَبك} وَقَوله: {الرَّحْمَن} ابْتِدَاء، وَوجه الْقِرَاءَة الثَّالِثَة، أَن كليهمَا مخفوض اتبَاعا لقَوْله: {من رَبك} .
وَقَوله تَعَالَى: {لَا يملكُونَ مِنْهُ خطابا} أَي: لَا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ الله، وَيمْنَعُونَ من الْكَلَام مَعَه، وَقيل: لَا يملكُونَ مِنْهُ خطابا أَي: لَا يشفعون لأحد إِلَّا بِإِذْنِهِ، على مَا قَالَ من بعد(6/142)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يقوم الرّوح} قَالَ مُجَاهِد: الرّوح خلق يشبهون بني آدم، وَلَيْسوا بني آدم، وَقيل: هُوَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقيل: هُوَ خلق من خلق الله لم يخلق بعد الْعَرْش أعظم مِنْهُ يقوم يَوْم الْقِيَامَة صفا وَجَمِيع الْمَلَائِكَة صفا، وَقيل: صفا، أَي: صُفُوفا وَمَوْضِع صَلَاة العَبْد يُسمى صفا، لِأَنَّهُ مَوضِع الصُّفُوف.
وَقَوله: {لَا يَتَكَلَّمُونَ} أَي: لَا يشفعون، أَي: الْمَلَائِكَة وَقيل: لَا يَتَكَلَّمُونَ مُطلقًا.
قَوْله: {إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن} أَي: بالشفاعة وَالْكَلَام.
وَقَوله: {وَقَالَ صَوَابا} أَي: حَقًا، وَقيل: هُوَ لَا إِلَه إِلَّا الله، وَالْمعْنَى: أَنهم لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِالْإِذْنِ أَو كلَاما صَوَابا، وَهُوَ لَا إِلَه إِلَّا الله.(6/142)
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك الْيَوْم الْحق} أَي: الْقِيَامَة هُوَ الْيَوْم الْحق، وَمعنى الْحق هَاهُنَا: أَنه(6/142)
{فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه مآبا (39) إِنَّا أنذرناكم عذَابا قَرِيبا يَوْم ينظر الْمَرْء مَا قدمت يَدَاهُ وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا (40) } . كَائِن لَا محَالة.
وَقَوله: {فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه مآبا} أَي منقلبا حسنا بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَة.(6/143)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
وَقَوله تَعَالَى {إِنَّا أنذرناكم عذَابا قَرِيبا} أَي النَّار وكل آتٍ فَهُوَ قريب.
وَقَوله {يَوْم ينظر الْمَرْء مَا قدمت يَدَاهُ} أَي مَا قدمت يَدَاهُ من الْخَيْر وَالشَّر.
وَقَوله {وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} روى [جَعْفَر بن برْقَان] عَن ابْن الأحم عَن ابْن عَبَّاس أَن الله تَعَالَى يجمع الْخلق يَوْم الْقِيَامَة من الدَّوَابّ والطيور وَالنَّاس وَالْجِنّ فرذا نزل الثقلَيْن مَنَازِلهمْ، قَالَ للطيور والبهائم وَالدَّوَاب: كوني تُرَابا، فَتكون تُرَابا فَحِينَئِذٍ يَقُول الْكَافِر: يَا لَيْتَني كنت تُرَابا.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد أخبرنَا أَبُو سهل عبد الصَّمد بن عبد الرَّحْمَن البرَاز أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الغدافري أخبرنَا الدبرِي هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أخبرنَا عبد الرازق عَن معمر عَن جَعْفَر بن برْقَان. . الحَدِيث.
وَقيل: إِن الْكَافِر هَاهُنَا هُوَ أَبُو جهل.
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره عَن الْحسن بن وَاقد قَالَ: إِن الْكَافِر يَقُول: يَا لَيْتَني كنت خنزيرا فأصير تُرَابا، فَيَقُول التُّرَاب لَهُ: لَا وَلَا كَرَامَة لَك - يَعْنِي لَا يكون مثلي.
وَحكى مثل هَذَا عَن السّديّ أَيْضا.
وَعَن بَعضهم أَن معنى قَوْله {يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} أَي يَا لَيْتَني لم أبْعث.
وَقد ورد فِي الحقب الَّذِي ذكرنَا أثران عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: ليعْمَل أحدكُم بِالطَّاعَةِ وَلَا يتكلمن على أَنه يدْخل النَّار ثمَّ يخرج مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا يدْخل النَّار أحد فَيخرج مِنْهَا إِلَّا بعد أَن يمْكث أحقابا وَذكر الحقب كَمَا بَينا من ذكر الثَّمَانِينَ.(6/143)
والأثر الثَّانِي مَا روى عَن ابْن مَسْعُود فِي بَقَاء النَّعيم لأهل الْجنَّة وَالْعَذَاب لأهل النَّار وَهُوَ مَا روى السّديّ عَن مرّة عَن عبد الله أَنه قَالَ: لَو علم أهل النَّار أَنهم يمكثون فِي النَّار عدد الْحَصَى سِنِين ثمَّ يخرجُون مِنْهَا لفرحوا وَلَو علم أهل الْجنَّة أَنهم يمكثون عدد الْحَصَى سِنِين ثمَّ يخرجُون مِنْهَا لحزنوا.
والأثران غَرِيبَانِ.(6/144)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{والنازعات غرقا (1) والناشطات نشطا (2) } .
تَفْسِير سُورَة والنازعات
وَهِي مَكِّيَّة، وَالله أعلم.(6/145)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
قَوْله تَعَالَى: {والنازعات غرقا} فِيهِ أَقْوَال: أظهرها: أَنَّهَا الْمَلَائِكَة تنْزع أَرْوَاح الْكفَّار بِشدَّة، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة وَرُوِيَ مثله عَن ابْن مَسْعُود فِي رِوَايَة مَسْرُوق.
قَوْله: {غرقا} أَي: إغراقا يُقَال: أغرق فِي النزع إِذا بلغ الْغَايَة.
وَعَن الْحسن: أَنَّهَا النُّجُوم تنْزع من أفق إِلَى أفق، أَي: تطلع وتغرب، وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح: أَنَّهَا القسي وَهُوَ من نزع الْقوس والإغراق فِيهِ.(6/145)
وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)
وَقَوله: {والناشطات نشطا} على القَوْل الأول هِيَ الْمَلَائِكَة أَيْضا تنشط أَرْوَاح الْكفَّار أَي: تجذبها بِسُرْعَة، قَالَ الشَّاعِر:
(أمست همومي تنشط المناشطا ... الشَّام بِي طورا وطورا واسطا)
والنشط فِي اللُّغَة: هُوَ الجذب، وَيُقَال: تجذب روح الْكفَّار كَمَا يجذب السفود من الصُّوف الرطب، وَقيل: إِن معنى الناشطات أَخذ الْمَلَائِكَة أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بسهولة كَمَا ينشط الْبَعِير من العقال.
وَفِي الْأَخْبَار: أَن الْمَلَائِكَة تَأْخُذ روح الْكفَّار بغاية الشدَّة، فَإِذا بلغت ترقوته ردوا الرّوح فِي جسده، ثمَّ نَزَعته هَكَذَا مَرَّات عُقُوبَة لَهُ، وَتَأْخُذ روح الْمُؤمن سرعَة وسهولة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الناشطات هِيَ النُّجُوم على مَا ذكرنَا عَن الْحسن، وَالْمرَاد سرعَة(6/145)
{والسابحات سبحا (3) فالسابقات سبقا (4) فالمدبرات أمرا (5) } . سَيرهَا، وَيُقَال: رُجُوعهَا من الْمغرب إِلَى مطالعها، وَذَلِكَ فِي السَّبع السيارة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بالخنس الْجوَار الكنس} على مَا سنبين، ذكره النقاش.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الأوهاق.(6/146)
وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)
وَقَوله تَعَالَى: {والسابحات سبحا} على القَوْل الأول هِيَ الْمَلَائِكَة، وسبحها سَيرهَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، وعَلى القَوْل الثَّانِي أَنَّهَا النُّجُوم، وسبحها فِي الْفلك، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الْخَيل، وسبحها سرعَة جريها، يُقَال للْفرس الْجواد: سابح.(6/146)
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)
وَقَوله: {فالسابقات سبقا} على القَوْل الأول هِيَ الْمَلَائِكَة، وسبقها مبادرتها إِلَى الْأَعْمَال الصَّالِحَة والخيرات.
وَيُقَال: سبقها: هُوَ الْمُسَابقَة إِلَى تَبْلِيغ الْوَحْي قبل استراق الشَّيَاطِين السّمع، وعَلى القَوْل الثَّانِي هِيَ النُّجُوم تسبق بَعْضهَا بَعْضًا فِي السّير، وعَلى القَوْل الثَّالِث هِيَ الْخَيل أَيْضا يسْبق بَعْضهَا بَعْضًا عِنْد الْمُسَابقَة، وَيُقَال: إِنَّهَا النُّفُوس تسبق إِلَى الْخُرُوج عِنْد الْمَوْت.
وَقد ذكر السّديّ أَيْضا أَن معنى النازعات: هِيَ النُّفُوس والأرواح تنْزع عِنْد الْمَوْت.(6/146)
فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
وَقَوله تَعَالَى: {فالمدبرات أمرا} هِيَ الْمَلَائِكَة فِي قَول الْجَمِيع، إِلَّا مَا روى فِي رِوَايَة غَرِيبَة بِرِوَايَة خَالِد بن معدان، عَن معَاذ بن جبل: أَنَّهَا النُّجُوم.
فَمَعْنَى التَّدْبِير من الْمَلَائِكَة هُوَ مَا جعل الله إِلَيْهَا من الْأُمُور.
قَالَ عبد الرَّحْمَن بن سابط: فَإلَى جِبْرِيل الْجنُود، وَإِلَى مِيكَائِيل الْقطر والنبات، وَإِلَى عزرائيل قبض الْأَرْوَاح، وَإِلَى إسْرَافيل إِنْزَال(6/146)
{يَوْم ترجف الراجفة (6) تتبعها الرادفة (7) قُلُوب يَوْمئِذٍ واجفة (8) أبصارها خاشعة (9) يَقُولُونَ} . لأمور إِلَيْهِم فِي هَذِه الْأَشْيَاء [إِلَى] : الْمَلَائِكَة، وَأما إِذا حملناه على النُّجُوم، فَيجوز أَن يعلق الله تَعَالَى على مطالعها وَمَغَارِبهَا وسيرها أَشْيَاء، وأضاف التَّدْبِير إِلَيْهَا على طَرِيق الْمجَاز.
وَاخْتلف القَوْل فِي الْمقسم بِهِ والمقسم عَلَيْهِ: فأحذ الْقَوْلَيْنِ: أَنه أقسم بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، وَللَّه أَن يقسم من خلقه بِمَا شَاءَ، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: وَرب النازعات، فَذكر الرب مُضْمر فِي هَذِه الْكَلِمَات، وَإِنَّمَا أقسم بِنَفسِهِ لَا بِهَذِهِ الْأَشْيَاء.
وَأما الَّذِي وَقع عَلَيْهِ الْقسم فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه مَحْذُوف، وَالْمعْنَى: لتبعثن ولتحاسبن، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الَّذِي وَقع عَلَيْهِ الْقسم هُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يغشى} .(6/147)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترجف الراجفة} الرجف والراجفة هِيَ الِاضْطِرَاب والزلزال الشَّديد، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا} وَقيل: الراجفة هِيَ الصَّيْحَة الأولى الَّتِي يُمِيت بهَا الْخَلَائق.(6/147)
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
وَقَوله: {تتبعها الرادفة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا الْقِيَامَة، وَالْآخر: أَنَّهَا الصَّيْحَة الثَّانِيَة.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن بَينهمَا أَرْبَعِينَ سنة، وتمطر السَّمَاء فِي هَذِه الْأَرْبَعين فتهتز الأَرْض، وتنبت النَّاس فِي الْقُبُور، ثمَّ ترد إِلَيْهِم أَرْوَاحهم فِي الصَّيْحَة الثَّانِيَة.(6/147)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
وَقَوله تَعَالَى: {قُلُوب يَوْمئِذٍ واجفة} أَي: مضطربة، يُقَال: وجف يجِف، وَوَجَب يجب بِمَعْنى وَاحِد وَقيل: واجفة أَي: وَجلة.(6/147)
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)
وَقَوله: {أبصارها خاشعة} أَي: ذليلة.(6/147)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
وَقَوله: {يَقُولُونَ} هَذَا إِخْبَار عَن قَوْلهم فِي الدُّنْيَا أَي: يَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا: {أئنا(6/147)
{أئنا لمردودون فِي الحافرة (10) أءذا كُنَّا عظاما نخرة (11) قَالُوا تِلْكَ إِذا كرة خاسرة (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة (13) فَإِذا هم بالساهرة (14) } . لمردودون فِي الحافرة) أَي: إِلَى أول أمرنَا، وَالْمعْنَى: أنرد أَحيَاء بعد أَن متْنا على طَرِيق الْإِنْكَار، يُقَال: رَجَعَ فلَان على حافرته إِذا رَجَعَ من حَيْثُ جَاءَ.
الْعَرَب تَقول: النَّقْد عِنْد الحافرة أَي: عِنْد أول كلمة، أَي: فِي السّوم.
وَقَالَ الشَّاعِر:
(أحافرة على صلع وشيب ... معَاذ الله من سفه وعار)
وَقَالَ السّديّ: {أئنا لمردودون فِي الحافرة} أَي: إِلَى الْحَيَاة، وَهُوَ على مَا قُلْنَا وَقيل: إِلَى النَّار.(6/148)
أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)
وَقَوله تَعَالَى: {أئذا كُنَّا عظاما نخرة} وَقُرِئَ: " ناخرة "، قَالَ الْفراء: هما وَاحِدَة، وَهِي البالية الفانية.
وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء: أَن النخرة هِيَ الَّتِي قد بليت، والناخرة هِيَ الَّتِي لم تبل بعد، وَعَن وَكِيع قَالَ: هِيَ الَّتِي تدخل الرّيح فِي جوفها فتنخر، وَهُوَ مَنْقُول أَيْضا عَن أهل اللُّغَة.(6/148)
قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
وَقَوله: {قَالُوا تِلْكَ إِذا كرة خاسرة} أَي: رَجْعَة ذَات خسران، وَالْمعْنَى: أَنا نَكُون فِي خسار إِن رَجعْنَا، وَيجوز أَن يكون المُرَاد أَنهم يخسرون إِذا رجعُوا.
وَعَن الْحسن قَالَ: خاسرة أَي: كَاذِبَة يَعْنِي: لَيست بكائنة.(6/148)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
وَقَوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة} هُوَ إِخْبَار عَن سهولة الْأَمر على الله فِي الْفَهم، والزجرة: الصحية.(6/148)
فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
وَقَوله: {فَإِذا هم بالساهرة} القَوْل الْمَعْرُوف أَنَّهَا وَجه الأَرْض يَعْنِي: أَنهم يخرجُون من بَطنهَا إِلَى ظهرهَا، وَسميت الأَرْض ساهرة، لِأَن عَلَيْهَا سهر الْخلق ونومهم، وَقَالَ النَّخعِيّ " فَإِذا هم بالساهرة " أَي: فَوق الأَرْض.
وَعَن وهب بن مُنَبّه أَنه قَالَ: الساهرة جبل بِجنب بَيت الْمُقَدّس، قَالَ الشَّاعِر فِي الساهرة:
(فَإِنَّمَا قصرك ترب الساهرة ... ثمَّ تعود بعْدهَا فِي الحافرة)(6/148)
{هَل أَتَاك حَدِيث مُوسَى (15) إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى (17) فَقل هَل لَك إِلَى أَن تزكّى (18) وأهديك إِلَى رَبك فتخشى (19) فَأرَاهُ الْآيَة الْكُبْرَى (20) } .
(من بعد مَا كُنَّا عظاما ناخرة ... )(6/149)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)
قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَاك حَدِيث مُوسَى} أَي: قد أَتَاك.(6/149)
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
وَقَوله: {إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس} أَي: المطهر.
وَقَوله: {طوى} أَي: طوى بِالْبركَةِ وَالتَّقْدِيس مرَّتَيْنِ، وَقيل: سَمَّاهُ طوى لِأَن مُوسَى وَطئه بقدمه، وَقيل: إِنَّه اسْم الْوَادي وَقيل: هُوَ الأَرْض الَّتِي بَين الْمَدِينَة ومصر.
وَقَرَأَ الْحسن: " طوى " بِكَسْر الطَّاء، وَالْمَعْرُوف طوى، وَهُوَ غير مَصْرُوف لِأَنَّهُ اسْم الْبقْعَة من الْوَادي وَهُوَ مَعْرُوف وَعَن الزّجاج قَالَ: يجوز أَن يكون معدولا من طاو، فَلهَذَا لم يصرف مثل: عَمْرو معدول عَامر، وَقُرِئَ: مصروفا وأنشدوا:
{أعاذل إِن اللوم فِي غير كنهه ... على طوى من غيك المتردد} .(6/149)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)
وَقَول: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى} قد بَينا، والطغيان هُوَ مُجَاوزَة الْحَد.(6/149)
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)
وَقَوله: {فَقل هَل لَك إِلَى أَن تزكّى} وَقُرِئَ: " تزكّى " بالتشديدين.
قَالَ أَبُو عَمْرو ابْن الْعَلَاء: لَا يجوز بالتشديدين، وَيجوز بِالتَّخْفِيفِ؛ لِأَن تزكّى هُوَ من إِعْطَاء الزَّكَاة.
وَقَوله: {تزكّى} هُوَ الدُّخُول فِي طَهَارَة الْإِسْلَام، وَتَابعه أَبُو عبيد على هَذَا [وَذكر] النّحاس فِي تَفْسِيره: أَن هَذَا غلط، وتزكى وتزكى بِمَعْنى وَاحِد، فتزكى مدغم، وتزكى مَحْذُوف مِنْهُ يُقَال: زَكَّاهُ الله أَي: طهره بِالْإِسْلَامِ فتزكى وَيُقَال أَيْضا لمن أعْطى زَكَاة مَاله: تزكّى.(6/149)
وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)
وَقَوله: {وأهديك إِلَى رَبك فتخشى} أَي: إِذا أصبت الْهِدَايَة حسنت مِنْك.(6/149)
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)
وَقَوله: {فَأرَاهُ الْآيَة الْكُبْرَى} يُقَال: (هِيَ) الْعَصَا، وَقيل: إِنَّهَا الْيَد الْبَيْضَاء، وَيُقَال: كِلَاهُمَا.(6/149)
{فكذب وَعصى (21) ثمَّ أدبر يسْعَى (22) فحشر فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنا ربكُم الْأَعْلَى (24) فَأَخذه الله نكال الْآخِرَة وَالْأولَى (25) إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى (26) أأنتم أَشد خلقا أم السَّمَاء بناها (27) } .(6/150)
فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22)
وَقَوله: {فكذب وَعصى ثمَّ أدبر يسْعَى} أَي: أعرض وَجعل يسْعَى فِي إبِْطَال أَمر مُوسَى.(6/150)
فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
وَقَوله: {فحشر فَنَادَى} الْحَشْر هُوَ الْجمع من كل جِهَة.
وَقَوله: {فَنَادَى} أَي ناداهم، وَقَالَ لَهُم {أَنا ربكُم الْأَعْلَى} أَي: لَا رب فَوقِي.
قَالَ الْحسن: كَانَ فِرْعَوْن علجا من أهل أَصْبَهَان طوله أَرْبَعَة أشبار، وَعَن مُجَاهِد: علج من أهل همذان، وَعَن بَعضهم: أَنه من أهل اصطخر.
وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى قَالَ لفرعون: لَك ملك لَا يَزُول، وشباب لَا هرم فِيهِ، وَلَك الْجنَّة فِي الْآخِرَة فَقل: هُوَ رَبِّي وَأَنا عَبده فَقَالَ: حَتَّى استشير هامان، فَلَمَّا اسْتَشَارَ هـ قَالَ: أتصير عبدا بعد أَن كنت معبودا، لَا تقل هَذَا.
فَأبى أَن يَقُول.
ذكره النقاش فِي تَفْسِيره.(6/150)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
وَقَوله: {فَأَخذه الله نكال الْآخِرَة وَالْأولَى} أَي: أَخذه أخذا نكالا لمقالته الْآخِرَة وَالْأولَى، فمقالته الأولى قَوْله: {مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي} ، ومقالته الْآخِرَة، قَوْله {أَنا ربكُم الْأَعْلَى} وَيُقَال: نكل بِهِ وعاقبه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَفِي الدُّنْيَا هُوَ الْغَرق، وَفِي الْآخِرَة هُوَ النَّار.(6/150)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى} أَي: اعْتِبَارا لمن يخَاف الله تَعَالَى.(6/150)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)
قَوْله تَعَالَى: {أأنتم أَشد خلقا} اسْتدلَّ عَلَيْهِم بِهَذِهِ الْآيَات فِي قدرته على الْبَعْث، وَالْمعْنَى بِأَن إعادتكم خلقا جَدِيدا أَشد أم خلق السَّمَاء؟ وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {لخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق النَّاس} .
وَقَوله: {أم السَّمَاء بناها} مَعْنَاهُ: أم السَّمَاء الَّتِي بناها؟ وَقيل الْمَعْنى: أأنتم أَشد(6/150)
{رفع سمكها فسواها (28) وأغطش لَيْلهَا وَأخرج ضحاها (29) وَالْأَرْض بعد ذَلِك} . خلقا أم السَّمَاء؟ وَتمّ الْكَلَام ثمَّ قَالَ: {بناها} أَي: بناها الله تَعَالَى.(6/151)
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)
وَقَوله: {رفع سمكها فسواها} هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {هَل ترى من فطور} أَي: من شقوق وفروج، وَقيل: معنى التَّسْوِيَة هَاهُنَا هُوَ أَنه لَيْسَ بَعْضهَا أرفع من بعض وَلَا أَخفض من بعض، والسمك الِارْتفَاع.(6/151)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
وَقَوله: {وأغطش لَيْلهَا وَأخرج ضحاها} أَي: أظلم لَيْلهَا.
وَقَوله: {وَأخرج ضحاها} أَي: أبرز نَهَارهَا، وَقيل: أظهر ضوءها، وأضاف الظلمَة والضوء إِلَى السَّمَاء لِأَنَّهُمَا يظهران من جَانب السَّمَاء عِنْد طُلُوع الشَّمْس وغروبها(6/151)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)
{وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها} أَي: بسطها.
قَالَ أُميَّة بن أبي الصَّلْت:
(وَبث الْخلق فِيهَا إِذْ دحاها ... فهم قطانها حَتَّى التنادي)
وَقَالَ سعيد بن زيد:
(أسلمت بوجهي لمن أسلمت ... لَهُ الأَرْض تحمل صخرا ثقالا)
دحاها فَلَمَّا اسْتَوَت شدها ... وأرسى عَلَيْهَا جبالا)
وَقَوله: {بعد ذَلِك} أَي: مَعَ ذَلِك، وَقيل: إِنَّه خلق الأَرْض قبل السَّمَاء على مَا قَالَ فِي " حم السَّجْدَة "، ثمَّ بسطها بعد خلق السَّمَاء.
وَفِي الْأَثر عَن ابْن عَبَّاس: أَنه لم يكن إِلَّا الْعَرْش وَالْمَاء، فخلق على المَاء حجرا كالفهر، ثمَّ خلق عَلَيْهِ دخانا ملتصقا بِهِ، ثمَّ خلق موجا على المَاء، ثمَّ رفع الدُّخان من الْحجر، وَخلق من الْحجر الأَرْض، وَمن الدُّخان السَّمَاء، وَمن الموج الْجبَال.(6/151)
{دحاها (30) أخرج مِنْهَا ماءها ومرعاها (31) وَالْجِبَال أرساها (32) مَتَاعا لكم ولأنعامكم (33) فَإِذا جَاءَت الطامة الْكُبْرَى (34) يَوْم يتَذَكَّر الْإِنْسَان مَا سعى (35) وبرزت الْجَحِيم لمن يرى (36) فَأَما من طَغى (37) وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا (38) فَإِن الْجَحِيم هِيَ المأوى (39) } .(6/152)
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)
وَقَوله: {أخرج مِنْهَا ماءها ومرعاها} أَي: أخرج من الأَرْض المَاء لحياة النُّفُوس، والمرعى للأنعام.(6/152)
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)
وَقَوله: {وَالْجِبَال أرساها} أَي: أثبتها.(6/152)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
وَقَوله: {مَتَاعا لكم} أَي: إمتاعا لكم {ولأنعامكم} وَإِنَّمَا انتصب لِأَن مَعْنَاهُ: للإمتاع، ثمَّ نزعت اللَّام الخافضة فانتصب.(6/152)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا جَاءَت الطامة الْكُبْرَى} الطامة فِي اللُّغَة: هِيَ الداهية الْعَظِيمَة، وَقيل: هِيَ الْأَمر الَّذِي لَا يُسْتَطَاع وَلَا يُطَاق، يُقَال: طم الْوَادي إِذا جَاءَ مِنْهُ مَا لَا يُطَاق وَعلا كل شَيْء، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الطامة اسْم الْقِيَامَة، وَسميت الْقِيَامَة طامة؛ لِأَنَّهَا تطم كل شَيْء أَي: فَوق كل شَيْء.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من طامة إِلَّا وفوقها طامة " وَهُوَ خبر غَرِيب.(6/152)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)
وَقَوله: {يَوْم يتَذَكَّر الْإِنْسَان مَا سعى} أَي: يذكر.(6/152)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
قَوْله: {وبرزت الْجَحِيم لمن يرى} وَفِي التَّفْسِير: أَن الْحِكْمَة فِي إِظْهَار الْجَحِيم مُشَاهدَة الْكفَّار مَكَان عقوبتهم، وليعلم الْمُؤْمِنُونَ من أَي عَذَاب نَجوا.(6/152)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)
وَقَوله: {فَأَما من طَغى وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: على الْآخِرَة.
وَحكى أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره عَن حُذَيْفَة: أَن من أكل على مائدة ثَلَاثَة ألوان من الطَّعَام، فقد آثر الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَأورد فِي خبر مَرْفُوع أَن النَّبِي قَالَ: " من آثر الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة شتت الله عَلَيْهِ همه، ثمَّ لم يبال بأيها هلك ".(6/152)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)
وَقَوله: {فَإِن الْجَحِيم هِيَ المأوى} أَي: مَأْوَاه الْجَحِيم، وَهُوَ مُعظم النَّار.(6/152)
{وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى (40) فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى (41) يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها (42) فيمَ أَنْت من ذكرَاهَا (43) إِلَى رَبك مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشاها (45) } .(6/153)
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)
وَقَوله: {وَأما من خَافَ مقَام ربه} أَي: قِيَامه عِنْد ربه لِلْحسابِ.
وَقَوله: {وَنهى النَّفس عَن الْهوى} أَي: عَمَّا هَوَاهُ ويشتهيه على خلاف الشَّرْع.(6/153)
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
وَقَوله: {فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} أَي: منزلَة ومأواه الْجنَّة، وَفِي بعض التفاسير: أَن الْآيَة الأولى نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث وَأُميَّة بن خلف وَعقبَة وَعتبَة ابْني أبي لَهب وَجَمَاعَة، وَالْآيَة الثَّانِيَة نزلت فِي مُصعب بن عُمَيْر، وَكَانَ قد وقِي رَسُول الله بِنَفسِهِ يَوْم أحد حَتَّى دخلت المشاقص فِي جَوْفه، وَاسْتشْهدَ فِي ذَلِك الْيَوْم، وَكَانَ صَاحب لِوَاء الْمُهَاجِرين.(6/153)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42)
قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها} أَي: مَتى قِيَامهَا؟ وَمرْسَاهَا: مُنْتَهَاهَا، وَالْمعْنَى عَن ماهيتها.(6/153)
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)
وَقَوله: {فيمَ أَنْت من ذكرَاهَا} أَي: مَالك وَمَعْرِفَة وَقت قيام السَّاعَة؟ وَفِي بعض التفاسير: " أَن النَّبِي كَانَ يسْأَل كثيرا جِبْرِيل مَتى السَّاعَة، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، ارتدع وكف وَلم يسْأَل بعد ذَلِك " وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: مَالك وَهَذَا الْأَمر؟ وَفِيه زجر إِيَّاه عَن السُّؤَال.(6/153)
إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)
قَوْله: {إِلَى رَبك مُنْتَهَاهَا} أَي: مُنْتَهى علم قِيَامهَا، وَقيل مَعْنَاهُ: أَن كل من يسْأَل عَنهُ يَقُول: الله أعلم، فَيرد علمهَا إِلَى الله.(6/153)
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)
وَقَوله: {إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشاها} أَي: تنذر بِعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة من يخْشَى الْقِيَامَة.(6/153)
{كَأَنَّهُمْ يَوْم يرونها لم يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها (46) } .(6/154)
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
وَقَوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْم يرونها لم يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها} أَي: أول نَهَار أَو آخر نَهَار، فَأول النَّهَار من طُلُوع الشَّمْس إِلَى ارتفاعها، وَآخر النَّهَار من الْعَصْر إِلَى غُرُوبهَا، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من نَهَار بَلَاغ} فَإِن قيل: كَيفَ أضَاف ضحى النَّهَار إِلَى عشيته، وَإِنَّمَا ضحى النَّهَار يُضَاف إِلَى النَّهَار فَبِأَي وَجه تستقيم هَذِه الْإِضَافَة؟ وَالْجَوَاب: أَنه يجوز مثل هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب، وهم يَفْعَلُونَ كَذَلِك ويريدون بِمثل هَذِه الْإِضَافَة، الْإِضَافَة إِلَى النَّهَار.
قَالَ الشَّاعِر:
(نَحن صبحنا عَامِرًا فِي دارها ... عيشة الْهلَال أَو سرارها)
وَقيل معنى ذَلِك: كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها أَي: يَوْمًا من الْأَيَّام، فَالْمُرَاد من العشية هُوَ الْيَوْم، وَالضُّحَى هُوَ الْيَوْم أَيْضا، فَإِن قيل: كَيفَ يَصح هَذَا الظَّن، وعندكم أَنهم يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم؟ وَالْجَوَاب: أَنهم يخفتون خفتة بَين النفختين، فَإِذا بعثوا ظنُّوا مَا بَينا، لأَنهم نسوا الْعَذَاب فِي تِلْكَ الخفتة، وَالله أعلم.(6/154)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{عبس وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) } .
تَفْسِير سُورَة عبس
وَهِي مَكِّيَّة، وَالله أعلم.(6/155)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
قَوْله تَعَالَى: {عبس وَتَوَلَّى} هُوَ الرَّسُول فِي قَول الْجَمِيع، وَمعنى عبس: كلح وَجهه، وَتَوَلَّى أَي: أعرض، وَالْمعْنَى: أظهر الْكَرَاهَة.(6/155)
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
وَقَوله: {أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى} قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: لِأَن جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَنصب على أَنه مفعول، وَهُوَ عبد الله بن أم مَكْتُوم فِي قَول [الْجَمِيع] .
وَسبب نزُول الْآيَة " هُوَ أَن النَّبِي كَانَ يكلم رجلا من أَشْرَاف الْمُشْركين، ويدعوه إِلَى الْإِسْلَام - قَالَ عَطاء: كَانَ عتبَة بن ربيعَة، وَقَالَ قَتَادَة: كَانَ أبي بن خلف، وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ عتبَة وَشَيْبَة ابْني ربيعَة وَأبي بن خلف - وَكَانَ يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام، وَيقْرَأ عَلَيْهِم الْقُرْآن، وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه كَانَ عِنْده جمَاعَة من أَشْرَاف قُرَيْش، وَكَانَ يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام، وَاشْتَدَّ طمعه فيهم، فجَاء عبد الله بن أم مَكْتُوم، وَجعل يَقُول: يَا رَسُول الله، عَلمنِي مِمَّا علمك الله، أَرْشدنِي.
وَفِي رِوَايَة، أَنه جَاءَ مَعَ قائده، فَأَشَارَ النَّبِي إِلَى قائده أَن كَفه، فَدفع فِي ظهر قائده، وَأَقْبل النَّبِي ".(6/155)
{وَمَا يدْريك لَعَلَّه يزكّى (3) أَو يذكر فتنفعه الذكرى (4) أما من اسْتغنى (5) فَأَنت لَهُ تصدى (6) وَمَا عَلَيْك أَلا يزكّى (7) وَأما من جَاءَك يسْعَى (8) وَهُوَ يخْشَى (9) } .
وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَن الَّذِي كَانَ يكلمهُ ويدعوه إِلَى الْإِسْلَام كَانَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، فَلَمَّا دخل ابْن أم مَكْتُوم فِي خطابه، وَجعل يُكَرر عَلَيْهِ قَوْله: عَلمنِي أَرْشدنِي، كره رَسُول الله ذَلِك حَتَّى ظَهرت الْكَرَاهَة فِي وَجهه، وَعَبس وَأعْرض عَنهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة معاتبا لَهُ فِيمَا فعله.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَامَ وَذهب.(6/156)
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
وَقَوله: {وَمَا يدْريك لَعَلَّه يزكّى} أَي: يتزكى، وَالْمرَاد مِنْهُ ابْن أم مَكْتُوم.
وَقَوله: {يزكّى} أَي: يقبل مَا تذكره بِهِ وتعلمه، وَقيل: يتَطَهَّر.(6/156)
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
وَقَوله: {أَو يذكر} مَعْنَاهُ: أَو يتَذَكَّر.
وَقَوله: {فتنفعه الذكرى} أَي: تَنْفَعهُ التَّذْكِرَة والعظة.
وَالْمعْنَى: أَنَّك تعرض عَنهُ إِعْرَاض من لَا يَنْفَعهُ تَعْلِيمه وتذكيره، وَلَا تَدْرِي لَعَلَّه يَنْفَعهُ التَّعْلِيم والتذكير، فَعَلَيْك أَن تعلمه وتذكره.(6/156)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)
وَقَوله: {أما من اسْتغنى} يَعْنِي: من أظهر الِاسْتِغْنَاء عَنْك.(6/156)
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
وَقَوله: {فَأَنت لَهُ تصدى} أَي: تتعرض وَتقبل عَلَيْهِ، وَقيل: إِن أَصله تصدد فقلبت إِحْدَى الدالين يَاء.(6/156)
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)
قَوْله: {وَمَا عَلَيْك أَلا يزكّى} أَي: وَمَا عَلَيْك أَلا يسلم، وَالْمعْنَى أَنه لَو لم يسلم ذَلِك الَّذِي أَقبلت عَلَيْهِ، لم يكن عَلَيْك من ذَلِك شَيْء.(6/156)
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)
وَقَوله: {وَأما من جَاءَك يسْعَى} أَي: يطْلب الْخَيْر.(6/156)
وَهُوَ يَخْشَى (9)
وَقَوله: {وَهُوَ يخْشَى} أَي: يخَاف الله تَعَالَى.(6/156)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
وَقَوله: {فَأَنت عَنهُ تلهى} أَي: تعرض، وَقيل: تشتغل عَنهُ بِغَيْرِهِ.
وَمن هَذَا مَا(6/156)
{فَأَنت عَنهُ تلهى (10) كلا إِنَّهَا تذكرة (11) فَمن شَاءَ ذكره (12) فِي صحف مكرمَة (13) } . روى عَن عمر بن عبد الْعَزِيز - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: إِذا رَأَيْت الله اسْتَأْثر عَلَيْك بِشَيْء فاله عَنهُ - أَي: اتركه وَأعْرض عَنهُ، وَقد قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: " كَانَ النَّبِي بعد ذَلِك إِذا جَاءَهُ عبد الله بن أم مَكْتُوم بسط رِدَاءَهُ وَقَالَ: يَا من عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي ".
واستخلفه على الْمَدِينَة مرَّتَيْنِ، وَقيل مَرَّات حِين خرج إِلَى الْغَزْو.
وَفِي بعض التفاسير: " أَن النَّبِي مَا رئى بعد ذَلِك متصديا لغنى، وَلَا معرضًا عَن فَقير ".(6/157)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)
قَوْله تَعَالَى: {كلا} قَالَ الْحسن: حَقًا، وَقيل: الْمَعْنى هُوَ للردع والزجر يَعْنِي: لَيْسَ يَنْبَغِي أَن يكون الْأَمر على هَذَا، وَهُوَ مَا سبق ذكره.
وَقَوله: {إِنَّهَا تذكرة} أَي: هَذِه السُّورَة تذكرة، وَقيل: الأنباء والقصص تذكرة.(6/157)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)
وَقَوله: {فَمن شَاءَ ذكره} أَي: فَمن شَاءَ الله ألهمه وَذكره.(6/157)
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)
وَقَوله: {فِي صحف} يَعْنِي: الْقُرْآن، وَقيل: الأنباء والقصص، فعلى القَوْل الأول قَوْله {فَمن شَاءَ ذكره} ينْصَرف إِلَى الْقُرْآن.
والصحف جمع صحيفَة.
وَقَوله: {مكرمَة} أَي: كَرِيمَة على الله، وَقيل: مكرمَة لِأَنَّهَا نزلت من رب كريم.(6/157)
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
وَقَوله: {مَرْفُوعَة} يجوز أَن يكون الْمَعْنى مَرْفُوعَة فِي الْمَكَان، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى مَرْفُوعَة الْقدر والمنزلة عِنْد الله تَعَالَى.
وَقَوله تَعَالَى: {مطهرة} قَالَ الْحسن: مطهرة من كل دنس، وَقيل: مطهرة أَي: مصونة من أَن تنالها أَيدي الْكفَّار الأنجاس.(6/157)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
وَقَوله: {بأيدي سفرة} السّفر هِيَ الْمَلَائِكَة الَّذين يسفرون بِالْوَحْي بَين الله وَبَين رَسُوله، وَيُقَال للْكتاب سفر، وللمصلح بَين الْجَمَاعَة سفير، وَهُوَ مَأْخُوذ من تبين الْأَمر وإيضاحه، يُقَال: سفرت الْمَرْأَة عَن وَجههَا إِذا كشفته، وَيُقَال: أَسْفر الصُّبْح إِذا أَضَاء،(6/157)
{مَرْفُوعَة مطهرة (14) بأيدي سفرة (15) كرام بررة (16) قتل الْإِنْسَان مَا أكفره (17) } .
وَمِنْه قَول نوبَة بن حمير:
{إِذا مَا جِئْت ليلى تبرقعت فقد ... رَابَنِي مِنْهَا الْغَدَاة سفورها} .
أَي: ظُهُورهَا.
وَقَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك: {بأيدي سفرة} : هم الْقُرَّاء الَّذين يقرءُون الْآيَات.
وَقَالَ الْفراء فِي قَوْله: {مَرْفُوعَة مطهرة} سَمَّاهَا مَرْفُوعَة مطهرة؛ لِأَنَّهَا أنزلت من اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَقيل: سفرة هم مَلَائِكَة موكلون بالأسفار من كتب الله تَعَالَى، وَمِنْه أسفار مُوسَى، وَاحِدهَا سفر. وَقَالَ الشَّاعِر:
(فَمَا أدع السفارة بَين قومِي ... وَمَا أَمْشِي بغش إِن مشيت)
وَسمي التَّفْسِير بَين الِاثْنَيْنِ سفيرا؛ لِأَنَّهُ يظْهر عَمَّا فِي قلب هَذَا وَعَما فِي قلب الآخر ليصلح بَينهمَا.(6/158)
كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
وَقَوله: {كرام بررة} فَقَوله: {كرام} صفة الْمَلَائِكَة أَي: كرام على الله، وَقَوله: {بررة} أَي: مُطِيعِينَ، وَهُوَ فِي معنى قَوْله: {لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون} وَفِي بعض الْكتب أَن فِي السَّمَاء مَلَائِكَة بِأَيْدِيهِم الصُّحُف يقرءُون الْقُرْآن وعبادتهم ذَلِك، وَهَذَا رَاجع إِلَى مَا بَينا من قبل قَول الضَّحَّاك.(6/158)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
قَوْله تَعَالَى: {قتل الْإِنْسَان مَا أكفره} ثمَّ بَين الله تَعَالَى من العبر والآيات فِي الْآدَمِيّ مَا لَا يَنْبَغِي أَن يكفر مَعهَا.
وَقَوله: {قتل} أَي: لعن، وَالْإِنْسَان هُوَ الْكَافِر، وَقيل: هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَقيل: أُميَّة بن خلف.
وروى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس " أَن الْآيَة نزلت فِي عتبَة بن أبي لَهب لما أنزل الله تَعَالَى سُورَة " والنجم " قَالَ عتبَة: أَنا أكفر بِالنَّجْمِ إِذا هوى، فَقَالَ النَّبِي: " اللَّهُمَّ سلط عَلَيْهِ كَلْبا من كلابك "، وروى أَنه قَالَ: " اللَّهُمَّ سلط عَلَيْهِ أَسد الغاضرة " - والغاضرة مَوضِع - ثمَّ إِنَّه خرج بعد ذَلِك فِي رفْقَة، فَلَمَّا بلغ ذَلِك(6/158)
{من أَي شَيْء خلقه (18) من نُطْفَة خلقه فقدره (19) ثمَّ السَّبِيل يسره (20) ثمَّ أَمَاتَهُ فأقبره (21) ثمَّ إِذا شَاءَ أنشره (22) } . الْموضع ذكر قَول الرَّسُول، فَأمر أهل الرّفْقَة أَن يحرسوه تِلْكَ اللَّيْلَة فَفَعَلُوا، وَجَاء الْأسد وثب وثبة وَصَارَ على ظَهره وافترسه ".
وَقَوله: {مَا أكفره} وَيجوز أَن يكون أَيْضا على وَجه التوبيخ، وَإِن كَانَ اللَّفْظ لفظ الِاسْتِفْهَام فَالْمَعْنى: أَي شَيْء أكفره بِاللَّه، وَقد أرَاهُ من قدرته مَا أرَاهُ.(6/159)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)
وَقَوله: {من أَي شَيْء خلقه} مَعْنَاهُ: أَفلا يتفكر هَذَا الْكَافِر من أَي شَيْء خلقه الله تَعَالَى، ثمَّ بَين من أَي شَيْء خلقه،(6/159)
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
وَقَوله: {من نُطْفَة خلقه} ، وَقَوله تَعَالَى: {فقدره} قَالَ الْكَلْبِيّ: سوى خلقه من يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَسَائِر جوارحه الظَّاهِرَة والباطنة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {خلقك فسواك} وَقيل: فقدره أَي: وضع كل شَيْء مَوْضِعه، وهيأ لَهُ مَا يصلحه.(6/159)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
وَقَوله: {ثمَّ السَّبِيل يسره} أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن المُرَاد مِنْهُ هُوَ الْخُرُوج من الرَّحِم، وَقيل مَعْنَاهُ: يسر لَهُ سَبِيل الْخَيْر، وَقيل: بَين لَهُ سَبِيل الشقاوة والسعادة، قَالَه مُجَاهِد، وَالَّذِي تقدمه قَول الْحسن.(6/159)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
وَقَوله: {ثمَّ أَمَاتَهُ فأقبره} أَي: جعل لَهُ قبرا يدْفن فِيهِ، يُقَال: قبرت فلَانا إِذا دَفَنته، وأقبرته إِذا جعلت لَهُ موضعا يدْفن فِيهِ.
قَالَ الْأَعْشَى:
(لَو أسندت مَيتا إِلَى نحرها ... عَاشَ وَلم ينْقل إِلَى قابر)(6/159)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)
وَقَوله: {ثمَّ إِذا شَاءَ أنشره} أَي: أَحْيَاهُ وَبَعثه.
قَالَ الْأَعْشَى:
(حَتَّى يَقُول النَّاس مِمَّا رَأَوْا ... يَا عجبا للْمَيت الناشر)(6/159)
{كلا لما يقْض مَا أمره (23) فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه (24) أَنا صببنا المَاء صبا (25) ثمَّ شققنا الأَرْض شقا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حبا (27) } .(6/160)
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
وَقَوله: {كلا لما يقْض مَا أمره} يَعْنِي: لم يفعل مَا أمره الله تَعَالَى.
قَالَ مُجَاهِد: لَيْسَ أحد من الْخلق يفعل كل مَا أمره الله تَعَالَى.
وَعَن ابْن عَبَّاس: {كلا لما يقْض مَا أمره} أَي: مَا أَخذ عَلَيْهِ من الْعَهْد يَوْم الْمِيثَاق.(6/160)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
وَقَوله تَعَالَى: {فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه} أَي: فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى الطَّعَام والعلف الَّذِي خلقه الله تَعَالَى لحياة الْخلق، وَعَن ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه أَي: إِلَى مَا يخرج مِنْهُ كَيفَ انْقَلب من الطّيب إِلَى الْخَبيث.
وَعَن الْحسن: أَن الله تَعَالَى وكل ملكا فَإِذا جلس الْإِنْسَان على حَاجته ثنى رقبته لينْظر إِلَى مَا يخرج مِنْهُ ذكره النقاش.
وَأورد أَيْضا: أَن أَبَا الْأسود الدؤَلِي سَأَلَ عمرَان بن الْحصين لم ينظر الْإِنْسَان إِلَى مَا يخرج مِنْهُ؟ فَلم يدر عمرَان مَا يجِيبه بِهِ، ثمَّ ذهب عمرَان إِلَى الْمَدِينَة، فَذكر ذَلِك لأبي بن كَعْب فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة: {فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه} ثمَّ قَالَ: ينظر ليعلم إِلَى مَا صَار مَا بخل بِهِ.(6/160)
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)
وَقَوله: {أَنا صببنا المَاء صبا} قرئَ بِكَسْر الْألف وَفتحهَا؛ فَقَوله بِالْكَسْرِ " إِنَّا " على الِابْتِدَاء، وَقَوله: {أَنا} بِالْفَتْح مَنْصُوب على الْبَدَل من الطَّعَام كَأَنَّهُ قَالَ: فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى أَنا صببنا، ذكره الْفراء.
وَقيل مَعْنَاهُ: فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه لأَنا صببنا.
وَقَوله: {صببنا المَاء صبا} أَي: أجريناه إِجْرَاء.(6/160)
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
وَقَوله: {ثمَّ شققنا الأَرْض شقا} أَي: بِخُرُوج النَّبَات.(6/160)
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27)
وَقَوله: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حبا} هُوَ الْبر وَالشعِير، وكل مَا هُوَ قوت النَّاس.(6/160)
وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)
وَقَوله: {وَعِنَبًا} هُوَ الْعِنَب الْمَعْرُوف.
وَقَوله: {وَقَضْبًا} هُوَ القت بلغَة أهل مَكَّة، وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ الرّطبَة - وَهُوَ(6/160)
{وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِق غلبا (30) وَفَاكِهَة وَأَبا (31) مَتَاعا لكم ولأنعامكم (32) فَإِذا جَاءَت الصاخة (33) } . قَول مَعْرُوف - وَسمي قضبا؛ لِأَنَّهُ يقضب أَي: يقطع وينبت، ثمَّ يقطع وينبت هَكَذَا.(6/161)
وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)
وَقَوله: {وَزَيْتُونًا} وَهُوَ الزَّيْتُون الْمَعْرُوف.
وَقَوله: {وَنَخْلًا وَحَدَائِق غلبا} الحديقة كل بُسْتَان يتحوط عَلَيْهِ، وَمَا لَا يكون محوطا عَلَيْهِ لَا يكون حديقة.
وَقَوله: {غلبا} أَي: غِلَاظ الْأَعْنَاق، يُقَال: رجل أغلب إِذا كَانَ شَدِيدا غليظ الرَّقَبَة.
وَقيل: " غلبا " ملتفة أَي: دخل بَعْضهَا فِي بعض.(6/161)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)
وَقَوله: وَفَاكِهَة وَأَبا) الْفَاكِهَة هِيَ الثِّمَار، وَالْأَب هِيَ الْكلأ.
قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: الْأَب مرعى الْأَنْعَام، وَقيل: الْأَب للبهائم بِمَنْزِلَة الْفَاكِهَة للنَّاس.
وَقَالَ (الضَّحَّاك) : الْأَب التِّين، وَعَن الْحسن: أَن الْفَاكِهَة مَا طَابَ واحلو لي من الثِّمَار.
وَمن الْمَعْرُوف أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَفَاكِهَة وَأَبا} ثمَّ قَالَ: قد عرفت الْفَاكِهَة فَمَا الْأَب؟ ثمَّ قَالَ: يَا ابْن الْخطاب، هَذَا وَالله هُوَ (التَّكْذِيب) ، وَألقى الْعَصَا من يَده.(6/161)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
وَقَوله: {مَتَاعا لكم ولأنعامكم} أَي: مَنْفَعَة لكم ولأنعامكم.(6/161)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
وَقَوله: {فَإِذا جَاءَت الصاخة} هِيَ اسْم من أَسمَاء يَوْم الْقِيَامَة، ذكره ابْن عَبَّاس مثل الطامة والحاقة وَالْقَارِعَة وأشباهها، وَقيل: الصاخة هِيَ الداهية الَّتِي يعجز عَنْهَا الْخلق، وَقيل: الصاخة الصاكة، يُقَال: صخ فلَانا إِذا صَكه.(6/161)
{يَوْم يفر الْمَرْء من أَخِيه (34) وَأمه وَأَبِيهِ (35) وصاحبته وبنيه (36) لكل امْرِئ مِنْهُم يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه (37) وُجُوه يَوْمئِذٍ مسفرة (38) } .
قَالَ الشَّاعِر:
(يَا جارتي هَل لَك أَن تجالدي ... جلادة كالصخ بالجلامد)
أَي: كالصك، وَقيل: إِن الصاخة صَيْحَة إسْرَافيل تصك الأسماع، وَعَن بَعضهم: أَن الصاخة مَا يصخ لَهُ كل شَيْء أَي: ينصت يُقَال: رجل أصخ أَي أَصمّ.(6/162)
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
وَقَوله: {يَوْم يفر الْمَرْء من أَخِيه وَأمه وَأَبِيهِ وصاحبته وبنيه} يفر مِنْهُم لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ أَن يَنْفَعهُمْ وَينْتَفع بهم.
قيل: يفر لِئَلَّا يرَوا الهوان الَّذِي ينزل فِيهِ، وَقيل: يفر مِنْهُم ضجرا لعظم مَا هُوَ فِيهِ، وَفِي بعض التفاسير: أَن قَوْله: {من أَخِيه} قابيل من هابيل.
وَقَوله: {وَأمه} هُوَ الرَّسُول من أمه.
وَقَوله: {وَأَبِيهِ} هُوَ إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - من أَبِيه.
وَقَوله: {وصاحبته} هُوَ لوط - عَلَيْهِ السَّلَام - من زَوجته.
وَقَوله: {وبنيه} هُوَ آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - من بنيه المفسدين، وَقيل: هُوَ نوح - عَلَيْهِ السَّلَام - من ابْنه.(6/162)
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وَقَوله: {لكل امْرِئ مِنْهُم يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه} أَي: شَيْء يَكْفِيهِ ويشغله، وَقَالَ القتيبي: شَيْء يصرفهُ عَن غَيره، والشأن: هُوَ الْأَمر الْعَظِيم، يُقَال: فلَان فِي شَأْن، أَي: فِي أَمر عَظِيم.
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يعنيه " من عَنى يَعْنِي بِالْعينِ غير مُعْجمَة.(6/162)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)
قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ مسفرة} أَي: [ذَات] فرحة مسرورة، وَقيل: نيرة، وَقيل: هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تبيض وُجُوه} أَي: وُجُوه يَوْمئِذٍ تبيض.(6/162)
{ضاحكة مستبشرة (39) ووجوه يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا غبرة (40) ترهقها قترة (41) أُولَئِكَ هم الْكَفَرَة الفجرة (42) } .(6/163)
ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
وَقَوله: {ضاحكة مستبشرة} أَي: من السرُور والفرح.(6/163)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)
وَقَوله: {ووجوه يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا غبرة} أَي: كسوف وَسَوَاد.(6/163)
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)
وَقَوله: {ترهقها قترة} أَي: تعلوها الكآبة والحزن، وَقيل: هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَتسود وُجُوه} عَن عَطاء الخرساني: {وُجُوه يَوْمئِذٍ مسفرة} لِكَثْرَة مَا أغبرت فِي الدُّنْيَا بِالْحَقِّ.
وَقَوله: {ووجوه يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا غبرة} من كَثْرَة مَا ضحِكت فِي الْبَاطِل.(6/163)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
وَقَوله: {أُولَئِكَ هم الْكَفَرَة الفجرة} يَعْنِي: أَصْحَاب الْوُجُوه هم الَّذين كفرُوا بِاللَّه وفجروا، وَالله أعلم.(6/163)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِذا الشَّمْس كورت (1) وَإِذا النُّجُوم انكدرت (2) } .
تَفْسِير سُورَة (كورت)
وَهِي مَكِّيَّة
روى عبد الرَّزَّاق، عَن عبد الله بن بجير، عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد الصَّنْعَانِيّ قَالَ: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: قَالَ رَسُول الله: " من سره أَن ينظر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كَأَنَّهُ رأى عين ذَلِك الْيَوْم فليقرأ: {إِذا الشَّمْس كورت} و {إِذا السَّمَاء انفطرت} و (إِذا السَّمَاء انشقت) .
قَالَ رَضِي الله عَنهُ أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد الْقفال، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس السنجي الطَّحَّان، أخبرنَا الْعَبَّاس بن عبد الْعَظِيم الْعَنْبَري، أخبرنَا عبد الرَّزَّاق.(6/164)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا الشَّمْس كورت} قَالَ ابْن عَبَّاس: ذهب ضوؤها.
وروى سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن أَبِيه، عَن الرّبيع بن خثيم قَالَ: كورت رمى بهَا.
وَعَن سعيد بن جُبَير كور الْعِمَامَة، وَالْمعْنَى: أَنَّهَا لفت وجمعت وَطرح بهَا.(6/164)
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
وَقَوله: {إِذا النُّجُوم انكدرت} أَي: تناثرت وتساقطت، وَفِي بعض التفاسير: أَن النُّجُوم فِي قناديل من نور معلقَة بالسماء الدُّنْيَا بسلاسل فِي أَيدي الْمَلَائِكَة، فَإِذا جَاءَ(6/164)
{وَإِذا الْجبَال سيرت (3) وَإِذا العشار عطلت (4) وَإِذا الوحوش حشرت (5) وَإِذا الْبحار سجرت (6) } . يَوْم الْقِيَامَة تساقطت السلَاسِل من أَيدي الْمَلَائِكَة، وانتثرت النُّجُوم.
وروى أَن أهل الْأَرْضين يسمعُونَ إدة عَظِيمَة من وُقُوع النُّجُوم على الأَرْض.(6/165)
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)
وَقَوله: {وَإِذا الْجبَال سيرت} أَي: سيرت وَكَانَت سرابا، وَقيل: دقَّتْ دقا، وَصَارَت بِمَنْزِلَة الهباء، وَالْآيَة فِي معنى قَوْله تَعَالَى {وَترى الْجبَال تحسبها جامدة وَهِي تمر مر السَّحَاب} .(6/165)
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)
وَقَوله: {وَإِذا العشار عطلت} العشار وَاحِدهَا عشراء، وَهِي النَّاقة الَّتِي أَتَت عشرَة أشهر على حملهَا، وَهِي أحسن مَا يكون من النوق، وأعزها على أَرْبَابهَا، وتعطيلها إهمالها وَتركهَا بِلَا رَاع يرعاها، وَلَا يفعل ذَلِك إِلَّا يَوْم الْقِيَامَة، وَالْمعْنَى: أَن كل إِنْسَان يشْتَغل بِنَفسِهِ عَن كل شَيْء، وَإِن كَانَ عَزِيزًا عِنْده.(6/165)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
وَقَوله: {وَإِذا الوحوش حشرت} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْمَعْنى مَاتَت، والحشر هُوَ الْجمع، فَكَأَنَّهَا جمعت فِي الْمَوْت، وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهر أَن حشرها إحياؤها يَوْم الْقِيَامَة.
وَقد ورد فِي الْخَبَر الْمَشْهُور عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يقْتَصّ للجماء من القرناء ".
وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: يحْشر كل شَيْء حَتَّى الذُّبَاب.(6/165)
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)
وَقَوله: {وَإِذا الْبحار سجرت} قَالَ الْحسن: يَبِسَتْ، وَعنهُ أَنه قَالَ: فاضت أَي: أَدخل بَعْضهَا فِي بعض.
وَعَن كَعْب الْأَحْبَار سجرت أَي: ملئت نَارا.
وَقَالَ شمر بن عَطِيَّة: تسجر كَمَا يسجر التَّنور.(6/165)
{وَإِذا النُّفُوس زوجت (7) وَإِذا الموءودة سُئِلت (8) بِأَيّ ذَنْب قتلت (9) } .
وَعَن سعيد بن الْمسيب أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - سَأَلَ رجلا من الْيَهُود عَن جَهَنَّم؟ فَقَالَ: هُوَ الْبَحْر، فَقَالَ: مَا أرَاهُ إِلَّا صَادِقا، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا الْبحار سجرت} .
وَعَن بَعضهم: أَن بَحر الرّوم وسط الأَرْض، وَفِي أَسْفَله آبار من نُحَاس مطبقة، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة سجرت نَارا، وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَالْبَحْر الْمَسْجُور} وَقد بَينا، وَيجوز أَن يجمع بَين هَذِه الْأَقَاوِيل، فَيُقَال: إِن الْبحار يدْخل بَعْضهَا فِي بعض فَتَصِير بحرا وَاحِدًا، ثمَّ يفِيض وييبس ثمَّ يمْلَأ نَارا.(6/166)
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
وَقَوله: {وَإِذا النُّفُوس زوجت} قَالَ الشّعبِيّ: الْأَبدَان بالأرواح، وَقيل: قرنت بأعمالها.
وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: الصَّالح مَعَ الصَّالح، والفاجر مَعَ الْفَاجِر.
وَعَن بَعضهم: الْمُؤْمِنُونَ يقرنون بالحور الْعين، وَالْكفَّار بالشياطين.(6/166)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
{وَإِذا الموءودة سُئِلت بِأَيّ ذَنْب قتلت} الموءودة: هِيَ الْوَلَد، كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يقتلونه، وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم إِذا ولد لَهُ ابْن تَركه، وَإِذا ولد لَهُ بنت دَفنهَا حَيَّة.
وَذكر بَعضهم.
أَن الْمَرْأَة كَانَت إِذا أَخذهَا الْمَخَاض حُفْرَة حفيرة، وَجَلَست عَلَيْهَا فَإِن ولدت ابْنا حَبسته، وَإِن ولدت بِنْتا ألقتها فِي الحفيرة، وَقد كَانَ بَعضهم يتْرك الْجَارِيَة حَتَّى تصير شَدِيدَة، ثمَّ يَقُول لأمها: طيبيها زينيها، وَقد حفر بِئْرا فِي الصَّحرَاء، ويحملها مَعَ نَفسه، ويأمرها أَن تطلع فِي الْبِئْر، ثمَّ يَدْفَعهَا من خلفهَا فِي الْبِئْر، ويهيل التُّرَاب، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك إِمَّا خشيَة الإملاق، أَو [دفعا] للعار وأنفة عَن أنفسهم.
وَقَوله: {سُئِلت بِأَيّ ذَنْب قتلت} هُوَ سُؤال توبيخ للوائد؛ لِأَن من جَوَاب هَذَا السُّؤَال أَن يَقُول: قتلت بِغَيْر ذَنْب.
وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَجَمَاعَة: " وَإِذا الموءودة سَأَلت بِأَيّ ذَنْب قتلت " وَالْمعْنَى مَعْلُوم.
وَذكر بَعضهم فِي تَفْسِيره: أَنَّهَا تَأتي متلطخة بالدماء، وتتعلق بثدي أمهَا وَتقول: يَا رب، هَذِه أُمِّي وَقد قتلتني.
واعم أَنه ورد كثير من الْأَخْبَار فِي أَن أَوْلَاد الْمُشْركين خدم أهل الْجنَّة.(6/166)
وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول: من قَالَ الموءودة فِي النَّار فقد كذب، وتلا هَذِه الْآيَة.
وَعَن النَّبِي أَنه قَالَ: " سَأَلت رَبِّي عَن اللاهين من ذُرِّيَّة الْبشر فأعطانيهم ".
وَعنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " أَنه سُئِلَ عَن أَطْفَال الْمُشْركين؟ فَقَالَ: هم خدم أهل الْجنَّة.
وَقد وَردت أَخْبَار أخر أَن أَوْلَاد الْمُشْركين فِي النَّار، وَقد ذكرنَا بعض ذَلِك فِيمَا سبق، وَعنهُ أَنه قَالَ لعَائِشَة: " لَو شِئْت أسمعتك تضاغيهم فِي النَّار "، وَعنهُ عَلَيْهِ - الصَّلَاة وَالسَّلَام - أَنه قَالَ: " الوائدة والموءودة فِي النَّار "، وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي سُئِلَ عَن أَطْفَال الْمُشْركين؟ فَقَالَ: " الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين ".
فَالْأولى أَن يتَوَقَّف، ويوكل علم ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، وهم على مَشِيئَته يفعل بهم مَا يَشَاء.
وَاعْلَم أَنه قد كَانَ فِي الْعَرَب من يحيي الْأَطْفَال الموءودة، وَذَلِكَ بِأَنَّهُم (يفرون) من آبَائِهِم.
وَقَالَ الفرزدق يفتخر:
(وَمنا الَّذِي منع لوائدات ... فأحيا الوئيد فَلم يوأد)
قَالَه فِي جده صعصعة بن مجاشع.(6/167)
{وَإِذا الصُّحُف نشرت (10) وَإِذا السَّمَاء كشطت (11) وَإِذا الْجَحِيم سعرت (12) وَإِذا الْجنَّة أزلفت (13) علمت نفس مَا أحضرت (14) فَلَا أقسم} .(6/168)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا الصُّحُف نشرت} يَعْنِي: على الْخَلَائق، فَمنهمْ من يُعْطي بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُم من يُعْطي بِشمَالِهِ.(6/168)
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)
وَقَوله: {وَإِذا السَّمَاء كشطت} وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " قشطت " وهما بِمَعْنى وَاحِد، كالكافور والقافور.
وَقَوله: {كشطت} أَي: قلعت، وَقيل: نزعت.(6/168)
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)
وَقَوله: {وَإِذا الْجَحِيم سعرت} أَي: أوقدت، وَهِي توقد مرّة بعد مرّة فاستقام على هَذَا الْكَلَام.
قَالَ قَتَادَة: سعره غضب الله وخطايا بني آدم.(6/168)
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)
وَقَوله: {وَإِذا الْجنَّة أزلفت} أَي: قربت وأدنيت، وَهِي لِلْمُتقين.(6/168)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
وَقَوله: {علمت نفس مَا أحضرت} قَالَ الرّبيع بن خثيم: إِلَى هَذَا جرى الْكَلَام، وَحكى معنى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس.
وَالْمعْنَى: أَنه إِذا كَانَت هَذِه الْأَشْيَاء علمت نفس مَا أحضرت يَعْنِي: من الْخَيْر وَالشَّر.(6/168)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بالخنس} قَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - هِيَ خَمْسَة كواكب: بهْرَام، وَعُطَارِد، وزحل، والزهرة، وَالْمُشْتَرِي، وَذكر بَعضهم الشَّمْس وَالْقَمَر فِي ذَلِك.
وَعَن بَعضهم: أَنَّهَا جَمِيع النُّجُوم.
وَقَوله: {الخنس} أَي: تغيب فِي سَيرهَا، وَقيل: تغيب فِي النَّهَار، وَتظهر بِاللَّيْلِ، وَقيل: ترجع فِي مسيرها من الْمغرب، وَذَلِكَ ظَاهر فِي الْكَوَاكِب الْخَمْسَة.(6/168)
الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)
وَقَوله: {الْجوَار الكنس} أَي: النِّسَاء السائرات الكنس، والكنس المستترات عَن الْأَبْصَار.
وَقيل: بالغروب، وَقيل: بِالنَّهَارِ.
وَهَذِه الْكَوَاكِب هِيَ الْكَوَاكِب الَّتِي يسميها المنجمون الْمُتَحَيِّرَة، وَقد تفردت حَيْثُ تسير بِخِلَاف سَائِر الْكَوَاكِب؛ لِأَن سَائِر الْكَوَاكِب تسير من الْمشرق إِلَى الْمغرب، وَهِي تسير من الْمغرب إِلَى الْمشرق، ويحيلون(6/168)
{بالخنس (15) الْجوَار الكنس (16) وَاللَّيْل إِذا عسعس (17) وَالصُّبْح إِذا تنفس (18) إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم (19) ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين (20) } . عَلَيْهَا الْأَفْعَال فِي الْعَالم، وَنحن نتبرأ إِلَى الله تَعَالَى من هَذَا الِاعْتِقَاد، ونحيل الْجَمِيع على الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا النُّجُوم آيَات وَدَلَائِل ومسخرات خلقت لمعاني ذَكرنَاهَا من قبل، وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن الخنس هِيَ بقر الوحوش.
قَالَ عَمْرو بن شُرَحْبِيل: قَالَ لي عبد الله بن مَسْعُود: أَنْتُم قوم عرب، فَمَا معنى {الخنس الْجوَار الكنس} ؟ قَالَ عَمْرو: هِيَ بقر الْوَحْش، قَالَ ابْن مَسْعُود: وَأَنا أرى ذَلِك وَهُوَ أَيْضا إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَشْهُور.
والخنس على هَذَا القَوْل: هِيَ صغَار الْأنف، والكنس من استتارها فِي كنسها.(6/169)
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)
وَقَوله: {وَاللَّيْل إِذا عسعس} أَي: أقبل بظلامه، وَقيل: أدبر، وَهُوَ من الأضداد.
وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف.(6/169)
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)
وَقَوله: {وَالصُّبْح إِذا تنفس} أَي: ظهر وطلع، وَقيل: ارْتَفع.(6/169)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
وَقَوله: {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} أَي قَول أنزلهُ رَسُول كريم أَي كريم على مرسله وَهُوَ جِبْرِيل صلوَات الله عَلَيْهِ.
وَحمل الْآيَة على مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على الرَّسُول من غير الْقُرْآن.
فعلى هَذَا يجوز أَن يُقَال: هُوَ قَول جِبْرِيل.
وَقيل: إِن قَوْله {رَسُول كريم} وَهُوَ مُحَمَّد وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَشْهُور.(6/169)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
وَقَوله: {ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين} فِي الْخَبَر أَن النَّبِي سَأَلَ جِبْرِيل عَن قوته وأمانته؟ .
فَقَالَ: " أما قوتي فَإِن الله تَعَالَى أَرْسلنِي إِلَى مَدَائِن لوط، وَهِي أَربع مَدَائِن فِي كل مَدِينَة أَرْبَعمِائَة ألف مقَاتل سوى الذُّرِّيَّة فأدخلت جناحي تحتهَا ورفعتها إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حَتَّى سمع أهل السَّمَاء الدُّنْيَا نباح الْكلاب وصياح الديكة ثمَّ قلبتها.
وَأما أمانتي فَإِنِّي لم أعد مَا أمرت بِهِ إِلَى غَيره.(6/169)
{مُطَاع ثمَّ أَمِين (21) وَمَا صَاحبكُم بمجنون (22) وَلَقَد رَآهُ بالأفق الْمُبين (23) وَمَا هُوَ على الْغَيْب بضنين (24) وَمَا هُوَ بقول شَيْطَان رجيم (25) فَأَيْنَ تذهبون (26) } .
وَقَوله: {مكين} هُوَ بِمَعْنى المكانة أَو الْمنزلَة عِنْد الله تَعَالَى.
وَذي الْعَرْش: هُوَ الله تَعَالَى.(6/170)
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
وَقَوله: {مُطَاع ثمَّ أَمِين} فِي التَّفْسِير أَن الْمَلَائِكَة يطيعونه فِيمَا يَأْمُرهُم بِهِ.
وَقد قيل: إِن مَعْنَاهُ أَنه قَالَ: لرضوان خَازِن الْجنان لَيْلَة الْمِعْرَاج: افْتَحْ الْبَاب لمُحَمد ففتحه.
وَقَالَ لمَالِك خَازِن النَّار: افْتَحْ اللّبَاب لمُحَمد ففتحه.
وَقَوله: {أَمِين} قد ذكرنَا.
وَقيل فِي معنى الْأَمَانَة، أَنه يرفع سبعين سرادقا من غير اسْتِئْذَان.
وَقيل: يلج سبعين حِجَابا من نور من غير اسْتِئْذَان.(6/170)
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
وَقَوله تَعَالَى {وَمَا صَاحبكُم بمجنون} معنى الرَّسُول.
وَعَن عَطِيَّة أَن نَبِي الله سَأَلَ جِبْرِيل أَن يرِيه نَفسه على مَا يكون فِي السَّمَاء؟ فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِك إِلَيّ حَتَّى اسْتَأْذن رَبِّي، فَأذن الله تَعَالَى لَهُ فِي ذَلِك.
فَلَمَّا رأى جِبْرِيل على مَا خلقه الله من العظمة وَكَثْرَة الأجنحة على مَا ذكرنَا غشي عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ قُرَيْش مغشيا عَلَيْهِ قَالُوا: مَجْنُون مَجْنُون فَأنْزل الله تَعَالَى {وَمَا صَاحبكُم بمجنون} .(6/170)
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
وَقَوله: {وَلَقَد رَآهُ بالأفق الْمُبين} فِي التَّفْسِير أَنه عِنْد مطلع الشَّمْس، وَالَّذِي رَآهُ جِبْرِيل، وَقد بَينا هَذَا فِي سُورَة والنجم.(6/170)
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَقَوله: {وَمَا هُوَ على الْغَيْب بضنين} قرئَ بالضاد والظاء.
قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: بظنين بالظاء، بمتهم، وبضنين بالضاد، ببخيل.
أوردهُ النّحاس وَهُوَ قَول جمَاعَة من الْمُفَسّرين والغيب: هُوَ الْوَحْي.(6/170)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
وَقَوله {وَمَا هُوَ بقول شَيْطَان رجيم} قَالَ: هَذَا لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ أَن مُحَمَّدًا يَقُول مَا يَقُول عَن الشَّيْطَان.(6/170)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
وَقَوله: {فَأَيْنَ تذهبون} أَي: أَيْن تذهبون عَن هَذَا الْحق الَّذِي ظهر بدلائله؟ .(6/170)
{إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين (27) لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم (28) وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين (29) } .(6/171)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)
وَقَوله: {إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين} أَي: تذكرة وعظة للْعَالمين.(6/171)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
وَقَوله: {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم} فِي التَّفْسِير أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة، قَالَ أَبُو جهل: الْأَمر إِلَيْنَا إِن شِئْنَا استقمنا، وَإِن شِئْنَا لم نستقم، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله، {وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين} ردا عَلَيْهِ.
وَفِي الْبَاب أَحَادِيث كَثِيرَة مِنْهَا مَا رُوِيَ عَن مَالك عَن زيد بن أبي أنيسَة أَن عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب أخبرهُ عَن مُسلم بن يسَار الْجُهَنِيّ أَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ} إِلَى أَن قَالَ: {أَلَسْت بربكم} الْآيَة.
فَقَالَ عمر بن الْخطاب: سَمِعت رَسُول الله سُئِلَ عَنْهَا؟ فَقَالَ: " إِن الله خلق آدم فَمسح ظَهره بِيَمِينِهِ فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة، فَقَالَ: خلقت هَؤُلَاءِ للجنة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ، ثمَّ مسح ظَهره فاستخرج، فَقَالَ: خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ، فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، فَفِيمَ الْعَمَل؟ فَقَالَ رَسُول الله: إِن الله تَعَالَى إِذا خلق العَبْد للجنة اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى يَمُوت على عمل أهل الْجنَّة، فيدخله بِهِ الْجنَّة، وَإِذا خلق العَبْد للنار اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى يَمُوت، وَهُوَ على عمل أهل النَّار فيدخله بِهِ النَّار، وَقَالَ الله تَعَالَى {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله} .
وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله} قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مُحَمَّد هياج بن عبيد الخطيبي بِمَكَّة قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن جَمِيع، أخبرنَا جدي، أخبرنَا مُحَمَّد بن عَبْدَانِ الْقَزاز، أخبرنَا أَبُو مُصعب عَن مَالك الحَدِيث.
وَالله أعلم.(6/171)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِذا السَّمَاء انفطرت (1) وَإِذا الْكَوَاكِب انتثرت (2) وَإِذا الْبحار فجرت (3) وَإِذا الْقُبُور بعثرت (4) علمت نفس مَا قدمت وأخرت (5) يَا أَيهَا} .
تَفْسِير سُورَة (انفطرت)
وَهِي مَكِّيَّة(6/172)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا السَّمَاء انفطرت} مَعْنَاهُ: انشقت، وَمِنْه انفطر نَاب الْبَعِير.(6/172)
وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)
وَقَوله: {وَإِذا الْكَوَاكِب انتثرت} أَي: تساقطت.(6/172)
وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)
وَقَوله: {وَإِذا الْبحار فجرت} قَالَ الْحسن: يَبِسَتْ.
وَعَن غَيره: ملئت، وَالْمَعْرُوف فجر بَعْضهَا فِي بعض، العذب فِي المالح، والمالح فِي العذب، وَقيل: فجرت أَي: جعلت بحرا وَاحِدًا، وَذَلِكَ بتفجير بَعْضهَا فِي بعض.(6/172)
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
وَقَوله: {وَإِذا الْقُبُور بعثرت} أَي: بحثرت وبحثت، وَالْمعْنَى: قلبت ترابها، وَأخرج مَا فِيهَا من الْمَوْتَى.
وَفِي الْخَبَر: أَن الأَرْض تلقى أفلاذ كَبِدهَا يَوْم الْقِيَامَة، فَتخرج كنوزها وموتاها وكل مَا فِيهَا.
وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " يُوشك أَن يحسر الْفُرَات على جبل من ذهب، فيقتتل النَّاس عَلَيْهِ ".
قَالَ الْقفال: يجوز أَن يكون مَا ذكره الله تَعَالَى من هَذِه الْأَشْيَاء قبل قيام السَّاعَة، وَيجوز أَن يكون بعد قيام السَّاعَة.(6/172)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
وَقَوله: {علمت نفس مَا قدمت وأخرت} أَي: {مَا قدمت} فَعمِلت من عمل {وأخرت} أَي: ترك من الْعَمَل، وَقيل: مَا قدمت وأخرت أَي: مَا عملت من قديم(6/172)
الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم (6)) . وَحَدِيث، وَقيل فِي قَوْله: {وأخرت} أَي: من سنة سَيِّئَة عمل بهَا بعده.(6/173)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} قيل: نزلت الْآيَة فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَقيل: فِي أبي جهل، وَقيل: فِي غَيرهمَا.
وَقَوله: {مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} أَي: أَي شَيْء غَرَّك وجرأك وسول لَك حَتَّى ارتكبت مَا ارتكبت؟
وَقَوله: {بِرَبِّك الْكَرِيم} يتَجَاوَز عَنْك، وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الْآيَة نزلت فِي أبي الْأسد، وَكَانَ قد ضرب النَّبِي، فَلم يُعَاقِبهُ الله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ معنى قَوْله: {بِرَبِّك الْكَرِيم} الَّذِي تجَاوز عَنْك، وَلم يعاقبك فِي الدُّنْيَا.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الجنوجردي: أخبرنَا أَبُو إِسْحَاق الثعالبي: أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن فَنْجَوَيْهِ: أخبرنَا أَبُو عَليّ بن حبش الْمُقْرِئ: أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن الْفضل الْمُقْرِئ: أخبرنَا أَبُو عَليّ بن الْحُسَيْن: أخبرنَا الْمقدمِي، أخبرنَا كثير بن هِشَام: أخبرنَا جَعْفَر بن برْقَان قَالَ: حَدثنِي صَالح بن مِسْمَار، قَالَ: " بَلغنِي أَن النَّبِي تَلا هَذِه الْآيَة: {يَا أَيهَا الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} قَالَ: جَهله ".
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا سيخلو الله بِهِ يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُول: يَا ابْن آدم، مَا غَرَّك بِي؟ يَا ابْن آدم، مَاذَا عملت فِيمَا عملت؟ يَا ابْن آدم، مَاذَا أجبْت الْمُرْسلين؟ وَعَن السّديّ (بن الْمُفلس) قَالَ: غره رفقه بِهِ.
وَعَن إِبْرَاهِيم بن الْأَشْعَث أَن الفضيل بن عِيَاض قيل لَهُ: لَو قَالَ الله تَعَالَى لَك: مَا غَرَّك بِي فَمَاذَا تَقول لَهُ؟ قَالَ: أَقُول ستورك المرخاة.
ونظم ذَلِك بَعضهم:(6/173)
{الَّذِي خلقك فسواك فعدلك (7) فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك (8) } .
(يَا كاتم الذَّنب أما تَسْتَحي ... وَالله فِي الْخلْوَة ثأنيكا)
(غَرَّك من رَبك إمهاله ... وستره طول مساويكا)
وَعَن يحيى بن معَاذ قَالَ: لَو يَقُول الله تَعَالَى: مَا غَرَّك بِرَبِّك؟ فَأَقُول: تَركك لي سالفا وآنفا.
وَعَن أبي بكر الْوراق قَالَ: أَقُول غرني كرم الْكَرِيم.
وَعَن مَنْصُور بن عمار قَالَ: أَقُول غرني مَا علمت من سَابق أفضالك.
وَقَالَ بَعضهم:
(يَا من خلا فِي الغي والتيه ... وغره طول تماديه)
أمل لَك الله فبارزته ... وَلم تخف غب مَعَاصيه)(6/174)
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
وَقَوله: {الَّذِي خلقك فسواك فعدلك فِي أَي صُورَة} قَالَ عَطاء: جعلك قَائِما معتدلا حسن الصُّورَة، وَقيل: سواك أَي: سوى بَين يَديك ورجليك وعينيك وأذنيك، [و] وَوضع كل شَيْء مَوْضِعه، وَهُوَ أَيْضا معنى قَوْله: {فعدلك} ذكره الْكَلْبِيّ وَغَيره.
وَقيل: عدلك أَي عدل خلقك، وَهُوَ على مَا بَينا.
وَقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ أَي: صرفك فِي أَي صُورَة شَاءَ من حسن وقبيح، وطويل وقصير.
وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ خلق عبد أحضر خلقه كل عرق كَانَ بَينه وَبَين آدم، فيخلقه على مَا يُرِيد من الشّبَه بِمن شَاءَ ".
وَقد قيل: فَعدل فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك أَي: من شبه أَب وَأم وَعم وخال، وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: معنى عدلك(6/174)
{كلا بل تكذبون بِالدّينِ (9) وَإِن عَلَيْكُم لحافظين (10) كراما كاتبين (11) يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِن الْأَبْرَار لفي نعيم (13) وَإِن الْفجار لفي جحيم} . بِالتَّخْفِيفِ أَي: فِي عدل بعضك بِبَعْض، فَكنت معتدل الْخلق مناسبها فَلَا تفَاوت فِيهَا.(6/175)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
قَوْله تَعَالَى: {كلا بل تكذبون بِالدّينِ} أَي: بِيَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: بِالْحِسَابِ.(6/175)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)
وَقَوله: {وَإِن عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين} فِي بعض الْأَحَادِيث " أَن النَّبِي قَالَ: أكْرمُوا الْكِرَام الْكَاتِبين فَإِنَّهُم مَعكُمْ، إِلَّا عِنْد الْجَنَابَة والتبرز للْحَاجة ".
وَقد ورد عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {كرام بررة} أَنهم الْمَلَائِكَة، يكرموا أَن يَكُونُوا مَعَ ابْن آدم عِنْد خلوته بأَهْله، وَعند حَاجته.
وَقَوله: {كاتبين} هم الْمَلَائِكَة يَقْعُدُونَ عَن يَمِين الْإِنْسَان ويساره، فيكتبون مَا عَلَيْهِ وَله، وَقيل: وَاحِد عَن يَمِينه، وَوَاحِد عَن يسَاره، فَالَّذِي عَن يَمِينه يكْتب الْحَسَنَات، وَالَّذِي عَن يسَاره يكْتب السَّيِّئَات، وَقيل: إِن الَّذِي عَن يَمِينه أَمِين على الَّذِي على يسَاره لَا يكْتب إِلَّا بِإِذْنِهِ.
وَفِي الْخَبَر بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي: " إِن العَبْد إِذا هم بحسنة يكْتب لَهُ الْملك حَسَنَة، فَإِذا عَملهَا كتب لَهُ عشر حَسَنَات، وَإِذا هم بسيئة لم تكْتب عَلَيْهِ شَيْئا، فَإِذا عَملهَا كتب سَيِّئَة ".(6/175)
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
وَقَوله: {يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(6/175)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم} فِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " هم الَّذين بروا آبَاءَهُم وأبناءهم ".
وَظَاهر الْمَعْنى أَنهم المطيعون.(6/175)
( {14) يصلونها يَوْم الدّين (15) وَمَا هم عَنْهَا بغائبين (16) وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدّين (17) ثمَّ مَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدّين (18) يَوْم لَا تملك نفس لنَفس شَيْئا وَالْأَمر يَوْمئِذٍ لله (19) } .(6/176)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
وَقَوله: {وَإِن الْفجار لفي جحيم} هِيَ النَّار، نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا.
وَفِي الحكايات: أَن سُلَيْمَان بن عبد الْملك حج، فلقي أَبَا حَازِم سَلمَة بن دِينَار فَقَالَ: يَا أَبَا حَازِم، كَيفَ الْقدوم على الله؟ فَقَالَ: أما المحسنون فكالغائب يقدم على أَهله، وَأما الْمُسِيء فكالعبد الْآبِق يرد إِلَى سَيّده، فَبكى سُلَيْمَان، ثمَّ قَالَ: لَيْت شعري نعلم مَا حَالنَا عِنْد الله؟ فَقَالَ أَبُو حَازِم: اعرضها على كتاب الله تَعَالَى، فَقَالَ: وعَلى أَي ذَلِك أعرض؟ فَقَالَ على قَوْله تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي جحيم} قَالَ سُلَيْمَان: فَأَيْنَ رَحْمَة الله؟ قَالَ: قريب من الْمُحْسِنِينَ.(6/176)
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)
قَوْله تَعَالَى: {يصلونها يَوْم الدّين} أَي: يدْخلُونَهَا يَوْم الْقِيَامَة.(6/176)
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)
وَقَوله: {وَمَا هم عَنْهَا بغائبين} أَي: مبعدين.(6/176)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدّين ثمَّ مَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدّين} هُوَ على معنى تفخيم الْأَمر وتعظيمه.(6/176)
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
وَقَوله: {يَوْم لَا تملك نفس لنَفس شَيْئا} أَي: لَا تغني نفس عَن نفس شَيْئا.
وَيَوْم مَنْصُوب على الظّرْف، وَقُرِئَ " يَوْم " بِالرَّفْع، وَهُوَ ظَاهر.
وَقَوله: {وَالْأَمر يَوْمئِذٍ لله} أَي: الْأَمر يَوْم الْقِيَامَة لله لَيْسَ لأحد مَعَه أَمر، وَالله أعلم.(6/176)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{ويل لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذين إِذا اكتالوا على النَّاس يستوفون (2) وَإِذا كالوهم أَو وزنوهم يخسرون (3) } .
سُورَة المطففين
وَهِي مَدَنِيَّة
قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ أول سُورَة نزلت بِالْمَدِينَةِ، قدم رَسُول الله الْمَدِينَة، وهم أَخبث النَّاس كَيْلا ووزنا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، فاستقاموا، فهم أوفى النَّاس كَيْلا ووزنا إِلَى (الْيَوْم) .(6/177)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {ويل لِلْمُطَفِّفِينَ} الويل: هُوَ الدُّعَاء بالشدة والهلاك.
وَعَن السّديّ هُوَ وَاد فِي جَهَنَّم، يسيل فِيهِ صديد أهل النَّار.
وَقَوله: {لِلْمُطَفِّفِينَ} هم الَّذين لَا يُوفونَ الْكَيْل وَالْوَزْن ويبخسون.
قَالَ الزّجاج: سمى مطففا، لِأَنَّهُ لَا يطف بِهَذَا الْفِعْل بالشَّيْء الطفيف أَي: الْيَسِير وَقد بَينا أَنَّهَا نزلت فِي أهل الْمَدِينَة، وَقيل: نزلت فِي أبي جُهَيْنَة، كَانَ رجلا من أهل الْمَدِينَة لَهُ صَاعَانِ يَكِيل بِأَحَدِهِمَا على النَّاس أَي: عَن النَّاس وَيُقَال: اكتلت على فلَان أَي: استوفيت مَا عَلَيْهِ.
وَقَوله: {يستوفون} أَي: يستوفون حُقُوقهم على الْكَمَال، وَقيل: يستوفونه راجحا.(6/177)
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
وَقَوله: {وَإِذا كالوهم} كالوا لَهُم.
وَكَذَلِكَ: {أَو وزنوهم} أَي: وزنوا لَهُم.
[قَالَه] أَبُو عُبَيْدَة والأخفش وَالْفراء - والأخفش هُوَ سعيد بن [مسْعدَة] ، وَهُوَ الْأَخْفَش الْكَبِير - وَقَالَ الْفراء: هُوَ لُغَة حجازية سَمِعت بَعضهم بِمَكَّة يَقُول: إِذا(6/177)
{أَلا يظنّ أُولَئِكَ أَنهم مبعوثون (4) ليَوْم عَظِيم (5) يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين (6) } . صدر النَّاس أَتَيْنَا التَّاجِر، فكال الْمَدّ والمدين إِلَى الْعَام الْمقبل أَي: كال لنا.
و {يخسرون} أَي: ينقصُونَ.(6/178)
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
وَقَوله: {أَلا يظنّ أُولَئِكَ أَنهم مبعوثون} أَي: أَلا يستيقنوا أُولَئِكَ أَنهم مبعوثون.
وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: خمس بِخمْس: مَا نقص قوم الْعَهْد إِلَّا سلط الله عَلَيْهِم عدوهم، وَمَا حكم قوم بِغَيْر مَا أنزل الله إِلَّا فَشَا فيهم الْفقر، وَمَا ظَهرت فيهم الْفَاحِشَة إِلَّا فَشَا فيهم الْمَوْت، وَمَا نَقَصُوا من الْمِكْيَال وَالْمِيزَان إِلَّا منعُوا النَّبَات وأجدبوا بِالسِّنِينَ، وَمَا منع قوم الزَّكَاة إِلَّا حبس عَنْهُم الْقطر.
وَعَن مَالك بن دِينَار قَالَ: دخلت على جَار لي أعوده، وَقد نزل بِهِ الْمَوْت، فَجعلت ألقنه كلمة الشَّهَادَة، وَهُوَ يَقُول: جبلان من نَار، جبلان من نَار.
فَمَا زَالَ يَقُول حَتَّى مَاتَ، فسالت عَنهُ؟ قَالُوا: كَانَ لَهُ مكيال وميزان يطفف بهما.
وَقيل فِي قَوْله: {أَلا يظنّ} يَعْنِي: أَنهم لَا يعْملُونَ عمل من يظنّ أَنهم مبعوثون.(6/178)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
وَقَوله: {ليَوْم عَظِيم} هُوَ يَوْم الْقِيَامَة.
سَمَّاهُ عَظِيما لعظم مَا فِيهِ وشدته.(6/178)
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
وَقَوله: {يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين} روى ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يقومُونَ مائَة سنة على رُءُوس قُبُورهم "، وَعَن بعض الصَّحَابَة: ثلثمِائة سنة، وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: يقومُونَ ألف عَام فِي الظلمَة.
وروى حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين} قَالَ: " يقومُونَ حَتَّى يبلغ الرشح(6/178)
{كلا إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين (7) } . أَطْرَاف آذانهم ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن بن النقور، أخبرنَا أَبُو طَاهِر المخلص.
أخبرنَا ابْن بنت منيع - هُوَ أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ - أخبرنَا أَبُو نصر التمار، أخبرنَا حَمَّاد بن سَلمَة، الحَدِيث.
خرجه مُسلم فِي صَحِيحه عَن أبي نصر التمار، وَذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث بِإِسْنَادِهِ، وَذكر أَنهم يقومُونَ حَتَّى يبلغ الرشح أَنْصَاف آذانهم، وروى سليم بن عَامر، عَن الْمِقْدَاد بن الْأسود أَن النَّبِي قَالَ: " تدنى الشَّمْس من رُءُوس الْخَلَائق، حَتَّى تكون على قدر ميل من رُءُوسهم " قَالَ سليم: فَلَا أَدْرِي أَرَادَ ميل الْمسَافَة أم ميل الَّذِي يكتحل بِهِ - قَالَ: " فتصهرهم الشَّمْس، فيكونون فِي الْعرق على قدر أَعْمَالهم، فَمنهمْ من يَأْخُذهُ الْعرق إِلَى كعبيه، وَمِنْهُم إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُم إِلَى حقوه، وَمِنْهُم من يلجمه إلجاما، وَوضع رَسُول الله يَده على (فَمه) ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الْعرق يذهب فِي الأَرْض سبعين ذِرَاعا " وَالله أعلم.(6/179)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
قَوْله تَعَالَى: {كلا إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين} كلا ردع وزجر وتنبيه، كَأَنَّهُ يَقُول: لَيْسَ الْأَمر كَمَا تَزْعُمُونَ فَارْتَدَعُوا.
وَقَوله: {إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه كتاب الْأَعْمَال، وَالْآخر: أَنه أَرْوَاح الْكفَّار، وَالْأَظْهَر هُوَ الأول.(6/179)
{وَمَا أَدْرَاك مَا سِجِّين (8) كتاب مرقوم (9) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (10) الَّذين يكذبُون بِيَوْم الدّين (11) وَمَا يكذب بِهِ إِلَّا كل مُعْتَد أثيم (12) إِذا تتلى عَلَيْهِ} .
وَقَوله: {لفي سِجِّين} هُوَ فعيل من السجْن، قَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي: هُوَ الأَرْض السفلي فِيهَا إِبْلِيس وَذريته.
وَعَن مُجَاهِد: صَخْرَة تَحت الأَرْض السَّابِعَة تقلب، وَيجْعَل تحتهَا كتاب الْفجار.
وَعَن الحبر أَنه قَالَ فِي قَوْله: {إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين} : هُوَ روح الْكَافِر تقبض ويصعد بِهِ إِلَى السَّمَاء، فتأبى السَّمَاء أَن تقبله، ثمَّ يهْبط بِهِ إِلَى الأَرْض، فتأبى الأَرْض أَن تقبله، فيهبط بِهِ تَحت الْأَرْضين، فَيجْعَل تَحت خد إِبْلِيس.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " أَن الفلق جب فِي جَهَنَّم مغطى، والسجين جب فِي جَهَنَّم مَفْتُوح ".(6/180)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا سِجِّين} قَالَ الزّجاج: لم يُعلمهُ رَسُول الله حَتَّى أعلمهُ الله.(6/180)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
وَقَوله: {كتاب مرقوم} أَي كتاب الْفجار، وَقَالَ بَعضهم: كتاب مرقوم يرجع إِلَى السجين، وَالأَصَح مَا بَينا.(6/180)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)
قَوْله: {ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين} قد بَينا.(6/180)
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
وَقَوله: {الَّذين يكذبُون بِيَوْم الدّين وَمَا يكذب بِهِ إِلَّا كل مُعْتَد أثيم إِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا قَالَ أساطير الْأَوَّلين} أَي: أباطيل الْأَوَّلين وأكاذيبهم.(6/180)
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {كلا بل ران على قُلُوبهم} أَي: غلب على قُلُوبهم.
قَالَ الْفراء: استكثروا من الْمعاصِي والذنُوب فأحاطت بقلوبهم.
وروى الْقَعْقَاع بن حَكِيم، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن العَبْد إِذا أَخطَأ خَطِيئَة نكتت فِي قلبه نُكْتَة، فَإِن هُوَ نزع واستغفر وَتَابَ صقلت، وَإِن عَاد زيد فِيهَا حَتَّى يغلق قلبه، فَهُوَ(6/180)
{آيَاتنَا قَالَ أساطير الْأَوَّلين (13) كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون (15) ثمَّ إِنَّهُم لصالوا الْجَحِيم (16) ثمَّ} . لرين الَّذِي قَالَ الله تَعَالَى: {كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الشريف أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَليّ الزَّيْنَبِي، أخبرنَا أَبُو طَاهِر المخلص، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا زغبة، عَن اللَّيْث، عَن ابْن عجلَان، عَن الْقَعْقَاع بن حَكِيم الحَدِيث.
وَيُقَال: ران أَي: غطى وغشى، وَهُوَ قريب من الأول.
قَالَ الْحسن: هُوَ الذَّنب على الذَّنب حَتَّى يسود قلبه، وروى نَحْو هَذَا عَن مُجَاهِد.(6/181)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يؤمئذ لمحجوبون} فِي الْآيَة دَلِيل على أَن الْمُؤمنِينَ يرَوْنَ الله تَعَالَى، وَقد نقل هَذَا الدَّلِيل عَن مَالك وَالشَّافِعِيّ - رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا - قَالَ مَالك: لما حجب الله الْفجار عَن رُؤْيَته دلّ أَنه ليتجلى للْمُؤْمِنين حَتَّى يروه.
وَمثل هَذَا رَوَاهُ الرّبيع بن سُلَيْمَان، عَن الشَّافِعِي، قَالَ الرّبيع: قلت للشَّافِعِيّ: أيرى الله بِهَذَا؟ فَقَالَ: لَو لم أوقن أَن الله يرى فِي الْجنَّة لم أعبده فِي الدُّنْيَا.
وَقد رُوِيَ هَذَا الدَّلِيل عَن (أَحْمد بن يحيى بن ثَعْلَب الشَّيْبَانِيّ ابْن عَبَّاس) .
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لَو عرف الْمُؤْمِنُونَ أَنهم لَا يرَوْنَ الله فِي الْآخِرَة، لانزهقت أَرْوَاحهم فِي الدُّنْيَا.
وَفِي الْآيَة أبين دَلِيل من حَيْثُ الْمَعْنى على مَا قُلْنَا، لِأَنَّهُ ذكر قَوْله: {كلا إِنَّهُم عَن(6/181)
{يُقَال هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تكذبون (17) كلا إِن كتاب الْأَبْرَار لفي عليين (18) وَمَا أَدْرَاك مَا عليون (19) كتاب مرقوم (20) يشهده المقربون (21) إِن الْأَبْرَار لفي نعيم (22) على الأرائك ينظرُونَ (23) تعرف فِي وُجُوههم نَضرة النَّعيم} . رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون) فِي حق الْكفَّار عُقُوبَة لَهُم، فَلَو قُلْنَا: إِن الْمُؤمنِينَ يحجبون، لم يَصح عُقُوبَة الْكفَّار بِهِ.
وَقد ذكر الْكَلْبِيّ فِي تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذِه الْآيَة: أَن الْمُؤمنِينَ يرونه فِي الْجنَّة، ويحجب الْكفَّار.
وَعَن الْحُسَيْن بن الْفضل قَالَ: كَمَا حجبهم فِي الدُّنْيَا عَن توحيده، كَذَلِك فِي الْآخِرَة عَن رُؤْيَته.(6/182)
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)
وَقَوله: {ثمَّ إِنَّهُم لصالوا الْجَحِيم} أَي: لداخلوا الْجَحِيم.(6/182)
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
وَقَوله: {ثمَّ يُقَال هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تكذبون} يُقَال لَهُم ذَلِك على طَرِيق التوبيخ وَالتَّعْبِير.(6/182)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {كلا إِن كتاب الْأَبْرَار لفي عليين} قَالَ الْفراء: ارْتِفَاع بعد ارْتِفَاع.
وَقَالَ كَعْب: يقبض روح الْمُؤمن فيصعد بِهِ إِلَى السَّمَاء، فتتلقاه الْمَلَائِكَة إِلَى أَن تبلغ السَّمَاء السَّابِعَة، فَيُوضَع تَحت الْعَرْش.
يُقَال: إِن الْكتاب هُوَ كتاب الْأَعْمَال، وَقد بَينا أَنه أظهر الْقَوْلَيْنِ، وَالْمعْنَى: أَنه يوضع فِي أَعلَى الْأَمْكِنَة إِظْهَارًا لخسة عمل الْفجار.(6/182)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا عليون} قَالَ الزّجاج: لم يدر حَتَّى أعلمهُ الله.(6/182)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
وَقَوله: {كتاب مرقوم يشهده المقربون} أَي كتاب مَكْتُوب، أَو كتاب عَلَيْهِ عَلامَة الْقبُول، يشهده الْمَلَائِكَة، وَقيل: يشهده مقربو كل سَمَاء.(6/182)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم} أَي: فِي نعيم الْجنَّة.(6/182)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)
وَقَوله: {على الأرائك ينظرُونَ} الأرائك جمع أريكة، وَهِي السرر فِي الحجال كَمَا بَينا.(6/182)
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
وَقَوله: {تعرف فِي وُجُوههم نَضرة النَّعيم} أَي: بهجة النَّعيم وحسنها.
وَهُوَ(6/182)
( {24) يسقون من رحيق مختوم (25) ختامه مسك وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ (26) ومزاجه من تسنيم (27) عينا يشرب بهَا المقربون (28) إِن} . مثل قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} .(6/183)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
وَقَوله: (يسقون من رحيق مختوم) روى مَسْرُوق عَن ابْن مَسْعُود، وَسَعِيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا قَالَا: الرَّحِيق هُوَ الْخمر وَقيل: هُوَ الشَّرَاب الَّذِي لَا غش فِيهِ.
وَقَوله: {مختوم} أَي: لم تمسسه الْأَيْدِي.(6/183)
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
وَقَوله: {ختامه مسك} قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير: آخِره رَائِحَة الْمسك، وطعمه طعم ألذ الْأَشْرِبَة.
وَعَن جمَاعَة من الْمُفَسّرين أَنهم قَالُوا: إِذا بلغ آخر الشّرْب وجد رَائِحَة الْمسك وَالْمعْنَى: أَن الشَّرَاب الَّذِي يكون فِي الدُّنْيَا يكون فِي آخِره الكدر، وَمَا تكرههُ النَّفس، فَذكر الله تَعَالَى أَن شراب الْآخِرَة على خِلَافه.
وَقَرَأَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - " خَاتِمَة مسك " وَقَرَأَ عِيسَى بن عمر " خاتِمة مسك " بِكَسْر التَّاء، وَقيل فِي معنى قَوْله تَعَالَى: " خاتَمَهُ مسك " بِفَتْح التَّاء أَي: (طينته) مسك وَفِي قَوْله: " خاتِمَهُ مسك " بِكَسْر التَّاء أَي: آخِره وعاقبته.
وَقَوله: {وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ} أَي: فليتبادر المتبادرون، والمنافسة إِظْهَار شدَّة الطّلب، وَقيل: هِيَ الْمُسَابقَة إِلَى التَّحْصِيل.(6/183)
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
وَقَوله: {ومزاجه من تسنيم} قَالَ سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، وعلقمة عَن ابْن مَسْعُود: هُوَ أشرف شراب لأهل الْجنَّة يشربه المقربون صرفا، ويمزج للأبرار، وَمثله رَوَاهُ مَنْصُور عَن مَالك بن الْحَارِث.
وَقيل فِي التسنيم: هُوَ عين تتسنم على أهل الْجنَّة من الغرف، وَقيل: هُوَ عين من مَاء.(6/183)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
وَقَوله: {عينا يشرب بهَا المقربون} قد بَينا، وَنصب عينا بِمَعْنى: أَعنِي عينا، أَو أُرِيد عينا.(6/183)
{الَّذين أجرموا كَانُوا من الَّذين آمنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مروا بهم يتغامزون (30) وَإِذا انقلبوا إِلَى أهلهم انقلبوا فكهين (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِن هَؤُلَاءِ لضالون (32) وَمَا أرْسلُوا عَلَيْهِم حافظين (33) فاليوم الَّذين آمنُوا من الْكفَّار يَضْحَكُونَ (34) } .
وَقَوله: {بهَا} أَي: مِنْهَا.(6/184)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين أجرموا} هم الْكفَّار.
وَقيل: هَذَا فِي قوم مخصوصين من قُرَيْش، مِنْهُم أَبُو جهل والوليد بن الْمُغيرَة، وَالْأسود بن عبد يَغُوث، وَالنضْر بن الْحَارِث وَغَيرهم.
وَقَوله: {كَانُوا من الَّذين آمنُوا يَضْحَكُونَ} قيل: إِنَّه فِي قوم مخصوصين من الْمُؤمنِينَ مِنْهُم خباب وبلال وَأَبُو ذَر وعمار وَغَيرهم من فُقَرَاء الصَّحَابَة.(6/184)
وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)
وَقَوله: {وَإِذا مروا بهم يتغامزون} أَي: يشيرون بالأعين والحواجب.(6/184)
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
وَقَوله: {وَإِذا انقلبوا إِلَى أهلهم انقلبوا فاكهين} أَي معجبين بأفعالهم.
وَقيل: طيبين الْأَنْفس مستبشرين.
وَالْعرب تَقول: رجل فكه وفاكه إِذا كَانَ ضحوكا طيب النَّفس.(6/184)
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)
وَقَوله: {وَإِذا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِن هَؤُلَاءِ لضالون} أَي: أخطأوا الْحق وَطَرِيق الرشد وَاتبعُوا الْبَاطِل.(6/184)
وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
وَقَوله: {وَمَا أرْسلُوا عَلَيْهِم حافظين} أَي مَا أرْسلُوا عَلَيْهِم ليحفظوا أَعْمَالهم.
أَي مَا أرسل الْكفَّار على الْمُؤمنِينَ، وَالْمعْنَى: أَنهم مَا وكلوا بِالْمُؤْمِنِينَ ليحفظوا عَلَيْهِم مَا يَفْعَلُونَ.
وَقيل: إِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي الْمُنَافِقين.
وَقيل: إِنَّهَا نزلت فِي أبي جهل وَأَصْحَابه.
وَقَوله: {من الَّذين آمنُوا} على رضى الله عَنهُ وَأَصْحَابه.
وَهُوَ قَول بعيد.(6/184)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35)
وَقَوله: {فاليوم الَّذين آمنُوا} هم الْمُؤْمِنُونَ من أَصْحَاب الرَّسُول.(6/184)
{على الأرائك ينظرُونَ (35) هَل ثوب الْكفَّار مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) } .
وَقَوله: {من الْكفَّار يَضْحَكُونَ على الأرائك ينظرُونَ} فِي بعض التفاسير إِن للجنة كوى إِلَى أهل النَّار مَتى شَاءَ أهل الْجنَّة فتحُوا الكوى ونظروا إِلَى النَّار وَضَحِكُوا مِنْهُم.
وَقد بَينا معنى الأرائك من قبل.(6/185)
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
وَقَوله: {هَل ثوب الْكفَّار مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أَي هَل جوزي الْكفَّار مَا كَانُوا - أَي بِمَا كَانُوا - يَفْعَلُونَ.(6/185)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِذا السَّمَاء انشقت (1) وأذنت لِرَبِّهَا وحقت (2) وَإِذا الأَرْض مدت (3) } .
تَفْسِير سُورَة الكدح
وَهِي مَكِّيَّة، وَالله أعلم(6/186)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا السَّمَاء انشقت} هُوَ فِي معنى قَوْله: {إِذا السَّمَاء انفطرت} وَيُقَال: انشقت بالغمام، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم تشقق السَّمَاء بالغمام} وَقد ذكرنَا، وَقيل: انشقت لنزول الْمَلَائِكَة.
وَفِي تَفْسِير النقاش: انشقت لنزول الرب عز اسْمه، وَهُوَ بِلَا كَيفَ، وَقيل: (مزقت) .
وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: تَنْشَق السَّمَاء من المجرة، وَيُقَال: هِيَ بَاب السَّمَاء.(6/186)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)
وَقَوله: {وأذنت لِرَبِّهَا وحقت} أَي: واستمعت لأمر رَبهَا، وَحقّ لَهَا أَن تستمع.
قَالَ الشَّاعِر:
(الْقلب تعلل بددن ... إِن همي فِي سَماع وَأذن)
وَقَالَ بَعضهم: صم إِذا سمعُوا خيرا ذكرت بِهِ، وَإِن ذكرت بِسوء عِنْدهم أذنوا، أَي: اسْتَمعُوا.
وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " مَا أذن الله بِشَيْء كَإِذْنِهِ لنَبِيّ يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ ".
وَأما اسْتِمَاع السَّمَاء فَيجوز أَن يكون على الْحَقِيقَة، وَيجوز أَن يكون استماعها انقيادها لما تُؤمر بِهِ، وَالله أعلم.(6/186)
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)
وَقَوله: {وَإِذا الأَرْض مدت} أَي: مدت مد الْأَدِيم لَا يبْقى عَلَيْهَا جبل وَلَا شَيْء إِلَّا(6/186)
{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وتخلت (4) وأذنت لِرَبِّهَا وحقت (5) يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبك كدحا فملاقيه (6) } . دخل فِي جوفها، وَقيل: زيد فِي سعتها لتسعهم.
وَعَن بَعضهم: غيرت عَن هيئتها بالتبديل، وَغير ذَلِك، فَهُوَ معنى قَوْله: {مدت} .(6/187)
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)
وَقَوله: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وتخلت} أَي: وَأَلْقَتْ مَا فِي جوفها، من الْكُنُوز والموتى فخلى جوفها، وَيُقَال: أَلْقَت بِمَا اسْتوْدعت، وتخلت عَمَّا استحفظت، وَكَأَنَّهَا أَلْقَت مَا على ظهرهَا، وتخلت عَمَّا فِي جوفها.(6/187)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
وَقَوله: {وأذنت لِرَبِّهَا وحقت} قد بَينا.
فَإِن قيل: أَيْن جَوَاب قَوْله: {إِذا السَّمَاء انشقت} وَهُوَ يَقْتَضِي جَوَابا؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: قَالَ الْفراء: جَوَابه مَحْذُوف، وَالْمعْنَى: إِذا السَّمَاء انشقت وَكَانَ كَذَا، رأى كل إِنْسَان مَا وجد من الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَيُقَال: علم كل مُنكر للبعث أَنه كَانَ فِي ضَلَالَة وَخطأ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْجَواب قَوْله: {وأذنت} وَالْوَاو زَائِدَة، فَالْجَوَاب: أَذِنت.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن الْجَواب قَوْله: {فملاقيه} أَي: يلقى عمله من خير وَشر.
وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن فِي الْآيَة تَقْدِيمًا وتأخيرا، وَالْمعْنَى: يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبك كدحا فملاقيه إِذا السَّمَاء انشقت.(6/187)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبك كدحا فملاقيه} قَالَ قَتَادَة: عَامل لِرَبِّك عملا.
والكدح هُوَ السَّعْي بتعب وَنصب.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَمَضَت بشاشة كل عَيْش صَالح ... وَبقيت أكدح للحياة وأنصب)
وَيجوز أَن يكون ذكر الْوَاحِد هَاهُنَا بِمَعْنى الْجمع، فَيكون بِمَعْنى يَا أَيهَا النَّاس.
وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يَقُول: يَا أَيهَا الرجل، وكلكم ذَلِك الرجل.(6/187)
{فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ (7) فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا (8) } .
وَقَوله تَعَالَى: {فملاقيه} قَالَ قَتَادَة: أَي: فملاق عَمَلك من خير وَشر.
وَيُقَال: ملاق رَبك.(6/188)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)
وَقَوله: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} .
أَي هينا، وَقيل فِي الْيَسِير: هُوَ أَن يقبل الْحَسَنَات، ويتجاوز عَن السَّيِّئَات.
وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي مليكَة عَن عَائِشَة أَن النَّبِي قَالَ: " من نُوقِشَ فِي الْحساب هلك، قلت: يَا رَسُول الله، فَإِن الله عز وَجل يَقُول: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} قَالَ: ذَلِك الْعرض " قَالَ رَضِي الله عَنهُ أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن ابْن النقور، أخبرنَا أَبُو طَاهِر (بن) المخلص، أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد يحيى بن صاعد، أخبرنَا الْحسن بن الْحُسَيْن الْمروزِي، عَن عبد الله بن الْمُبَارك، عَن عُثْمَان بن الْأسود، عَن ابْن أبي مليكَة الْخَبَر.
وَأورد أَبُو عِيسَى بِرِوَايَة (ابْن عمر) أَن النَّبِي قَالَ: " من حُوسِبَ عذب "، وَهُوَ بِإِسْنَاد غَرِيب.
وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي رَآهَا، وَقد رفعت يَديهَا وَهِي تَقول: اللَّهُمَّ حاسبني حسابا يَسِيرا.
فَقَالَ: " يَا عَائِشَة، أَتَدْرِينَ(6/188)
{وينقلب إِلَى أَهله مَسْرُورا (9) وَأما من أُوتِيَ كِتَابه وَرَاء ظَهره (10) } . مَا ذَلِك الْحساب؟ قَالَت عَائِشَة: فَقلت ذكر الله فِي كِتَابه: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يسير} فَقَالَ رَسُول الله: من حُوسِبَ خصم، وَذَلِكَ الْمَمَر بَين يَدي الله تَعَالَى ".
وَذكر الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ فِي الْمُسْتَدْرك على الصَّحِيحَيْنِ بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " ثَلَاث من كن فِيهِ حَاسبه الله حسابا يَسِيرا، وَأدْخلهُ الْجنَّة برحمته.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قلت يَا رَسُول الله، لمن ذَلِك؟ قَالَ: " أَن تصل من قَطعك، وَتَعْفُو عَمَّن ظلمك، وَتُعْطِي من حَرمك ".(6/189)
وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)
وَقَوله: {وينقلب إِلَى أَهله مَسْرُورا} أَي: فَرحا مُسْتَبْشِرًا، وَيجوز أَن يَنْقَلِب إِلَى أَهله من الْحور الْعين، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى يَنْقَلِب إِلَى أَهله الَّذين كَانُوا لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَقيل: نزلت فِي أبي سَلمَة بن عبد الْأسد، وَكَانَ زوج أم سَلمَة، وَهُوَ أول من هَاجر إِلَى الْمَدِينَة.
وَقَوله: {وَأما من أُوتِيَ كِتَابه وَرَاء ظَهره} نزلت فِي الْأسود بن عبد الْأسد.
قَوْله تَعَالَى: {وَأما من أُوتِيَ كِتَابه وَرَاء ظَهره} قَالَ مُجَاهِد: يخلع يَده الْيُمْنَى، وَيجْعَل يَده الْيُسْرَى وَرَاء ظَهره، فَيُوضَع كِتَابه فِيهَا.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: تغل يَده الْيُمْنَى، وَيُوضَع كِتَابه فِي شِمَاله من وَرَاء ظَهره.
وروى أَبُو(6/189)
{فَسَوف يَدْعُو ثبورا (11) وَيصلى سعيرا (12) إِنَّه كَانَ فِي أَهله مَسْرُورا (13) إِنَّه ظن أَن لن يحور (14) } . مُوسَى الْأَشْعَرِيّ - وَهُوَ عبد الله بن قيس - أَن النَّبِي قَالَ: " يكون فِي الْقِيَامَة ثَلَاث عرضات: فعرضتان جِدَال ومعاذير، والعرضة الثَّالِثَة عِنْد تطاير الصُّحُف، فآخذ بِيَمِينِهِ وآخذ بِشمَالِهِ ".
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره بِإِسْنَادِهِ أَن النَّبِي قَالَ: " من حاسب نَفسه فِي الدُّنْيَا هون الله عَلَيْهِ الْحساب فِي الْآخِرَة ".(6/190)
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)
{فَسَوف يَدْعُو ثبورا} مَعْنَاهُ: يَقُول واثبوراه، وَمعنى قَوْله: واثبوراه: واهلاكاه.
يُقَال: رجل مثبور أَي: هَالك.(6/190)
وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
وَقَوله: {وَيصلى سعيرا} أَي: يقاسي النَّار، وَيُقَال: يدْخل، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {اصلوها} أَي: ادخلوها، وَقُرِئَ: " وَيصلى سعيرا " أَي: يكثر عَذَابه بِنَار جَهَنَّم، ذكره الْأَزْهَرِي.(6/190)
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه كَانَ فِي أَهله مَسْرُورا} أَي: لم يحزن للتقصير فِي أوَامِر الله تَعَالَى، وَلم يتعب، وَلم ينصب فِي الْعَمَل بِطَاعَة الله، ذكره الْقفال.
وَيُقَال: كَانَ فِي أَهله مَسْرُورا، أَي: رَاكِبًا هَوَاهُ، مُتبعا شَهْوَته.(6/190)
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
وَقَوله: {إِنَّه ظن أَن لن يحور} أَي: أَن لن يرجع إِلَى الله تَعَالَى، وَهُوَ إِخْبَار عَن إِنْكَاره بِالْبَعْثِ.
وَقَوله: {يحور} يرجع، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " أعوذ بِاللَّه من الْحور بعد الكور " أَي: النُّقْصَان بعد الزِّيَادَة.
وَفِي رِوَايَة: " من الْحور بعد الكور " أَي: من انتشار أمره بعد أَن كَانَ مجتمعا، أَو من فَسَاد أمره بعد أَن كَانَ صَالحا.(6/190)
{بلَى إِن ربه كَانَ بِهِ بَصيرًا (15) فَلَا أقسم بالشفق (16) وَاللَّيْل وَمَا وسق (17) وَالْقَمَر إِذا اتسق (18) } .
وَقَالَ الشَّاعِر:
(وَمَا الْمَرْء إِلَّا كالشهاب وضوئِهِ ... يحور رَمَادا بعد إِذْ هُوَ سَاطِع)(6/191)
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
وَقَوله: {بلَى إِن ربه كَانَ بِهِ بَصيرًا} أَي: عَالما.(6/191)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)
وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بالشفق} أَي: أقسم بالشفق، قَالَ مُجَاهِد: هُوَ النَّهَار كُله.
وَالْمَعْرُوف أَن الشَّفق هُوَ الْحمرَة من عِنْد غرُوب الشَّمْس إِلَى الْعشَاء الْآخِرَة.
قَالَ الْفراء: سَمِعت الْعَرَب تَقول على فلَان ثوب كَأَنَّهُ الشَّفق، وَكَانَ عَلَيْهِ ثوب مصبوغ بالحمرة.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الشَّفق هُوَ الْحمرَة ".
وَهُوَ قَول جمَاعَة من الصَّحَابَة وَجَمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم: ابْن عمر، وَسَعِيد بن الْمسيب، وَغَيرهمَا.
وَعَن أبي هُرَيْرَة: أَن الشَّفق هُوَ الْبيَاض، وَهُوَ قَول عمر بن عبد الْعَزِيز.(6/191)
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)
قَوْله: {وَاللَّيْل وَمَا وسق} أَي: وَمَا جمع ولف، وَضم الْأَشْيَاء بعد انتشارها، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ اللَّيْل آوى كل شَيْء إِلَى مَأْوَاه، وَرجع كل إِنْسَان إِلَى منزله، وَإِذا كَانَ النَّهَار انتشروا فِي التَّصَرُّف.(6/191)
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
وَقَوله: {وَالْقَمَر إِذا اتسق} أَي: إِذا اجْتمع ضوءه، وَيُقَال: امْتَلَأَ نورا، وَهُوَ لَيْلَة الثَّالِث عشر من الشَّهْر وَالرَّابِع عشر وَالْخَامِس [عشر] .(6/191)
{لتركبن طبقًا عَن طبق (19) فَمَا لَهُم لَا يُؤمنُونَ (20) وَإِذا قرئَ عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ (21) } .
قَالَ الشَّاعِر:
(إِن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات (لَو) يجدن سائقا)(6/192)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
وَقَوله: {لتركبن طبقًا عَن طبق} وَقُرِئَ: " لتركبن " على الوحدان، فَمن قَرَأَ على الْجمع فَمَعْنَاه: لتركبن أَيهَا النَّاس حَالا بعد حَال، وَالْحَال هُوَ بِمَعْنى الطَّبَق.
قَالَ الشَّاعِر:
(فَبينا الْمَرْء فِي عَيْش لذيذ ناعم ... خفض أَتَاهُ طبق يَوْمًا على مُنْقَلب دحض)
وَمعنى حَال بعد حَال: هُوَ أَنه يكون نُطْفَة ثمَّ علقَة ثمَّ مُضْغَة ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح، وَبعد ذَلِك تتبدل أَحْوَاله، وَيخْتَلف على الْمَعْهُود الْمَعْلُوم من طفولية، وشباب، وهرم، وَغير ذَلِك.
وَيُقَال: لتركبن طبقًا عَن طبق أَي: شدَّة على شدَّة، وَالْمعْنَى: أَنه حَيَاة ثمَّ موت ثمَّ بعث ثمَّ جَزَاء.
فَأَما الْقِرَاءَة على الوحدان فَفِيهِ قَولَانِ.
أَحدهمَا: أَن المُرَاد مِنْهُ السَّمَاء، وَالْمعْنَى: أَنه ينشق وَيكون مرّة كالدهان، وَمرَّة كَالْمهْلِ، وَمرَّة مشقوقة، وَمرَّة صَحِيحَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن مَسْعُود وَغَيره.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه خطاب للنَّبِي، وَالْمعْنَى لتركبن أطباق السَّمَاء طبقًا على طبق، وَذَلِكَ لَيْلَة الْإِسْرَاء، وَيُقَال: لتركبن طبقًا عَن طبق يَعْنِي: أصلاب الْآبَاء، وَذَلِكَ للرسول.
قَالَ الْعَبَّاس فِي مدح النَّبِي:
(من قبلهَا طبت فِي الصلاب ... وَفِي مستودع حِين يخصف الْوَرق)
(تنقل من صالب إِلَى رحم ... إِذا مضى عَالم بدا طبق)(6/192)
{بل اللَّذين كفرُوا يكذبُون (22) وَالله أعلم بِمَا يوعون (23) فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم (24) إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم أجر غير ممنون (25) } .(6/193)
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
وَقَوله {فَمَا لَهُم لَا يُؤمنُونَ وَإِذا قرئَ عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ} فِي التَّفْسِير: أَن النَّبِي سجد وَأَصْحَابه، وَالْكفَّار على رؤوسهم يصفقون ويصفرون فَأنْزل الله تَعَالَى {فَمَا لَهُم لَا يُؤمنُونَ وَإِذا قرئَ عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ} وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة " أَن النَّبِي سجد سجد فِي هَذَا الْموضع ".(6/193)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)
وَقَوله: {بل الَّذين كفرُوا يكذبُون وَالله أعلم بِمَا يوعون} أَي: يكتمون ويجمعون فِي صُدُورهمْ.(6/193)
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)
قَوْله: {فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم} أَي أجعَل لَهُم النَّار مَوضِع الْبشَارَة للْمُؤْمِنين بِالْجنَّةِ.(6/193)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم أجر غير ممنون} أَي غير مَنْقُوص وَلَا مَقْطُوع.
وَيُقَال: لَا يمتن عَلَيْهِم أحد غير الله تَعَالَى فيكدره عَلَيْهِم الْمِنَّة وَالله أعلم.(6/193)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَالسَّمَاء ذَات البروج (1) وَالْيَوْم الْمَوْعُود (2) وَشَاهد ومشهود (3) } .
تَفْسِير سُورَة البروج
وَهِي مَكِّيَّة(6/194)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء ذَات البروج} أَي: النُّجُوم الْعِظَام.
قَالَ عِكْرِمَة: ذَات الْقُصُور.
وَيُقَال: ذَات الْخلق الْحسن، وَيُقَال: ذَات الْمنَازل، وَهِي منَازِل الْقَمَر، وَهِي ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا ذَكرنَاهَا من قبل.(6/194)
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)
وَقَوله: {وَالْيَوْم الْمَوْعُود} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة بالِاتِّفَاقِ.(6/194)
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
وَقَوله: {وَشَاهد ومشهود} فِيهِ أَقْوَال: روى أَبُو إِسْحَاق، عَن الْحَارِث، عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن الشَّاهِد هُوَ يَوْم الْجُمُعَة، والمشهود يَوْم عَرَفَة.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْأَثر أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الصريفيني، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ، عَن عَليّ بن الْجَعْد، عَن شريك، عَن [أبي] إِسْحَاق.
الْأَثر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: الشَّاهِد يَوْم النَّحْر، والمشهود يَوْم عَرَفَة، قَالَه إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الشَّاهِد هُوَ الْمَلَائِكَة، والمشهود هُوَ الْإِنْسَان، قَالَه السّديّ، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن الشَّاهِد هُوَ مُحَمَّد، والمشهود يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن الْحسن بن عَليّ، وَابْن عمر، وَابْن الزبير - رَضِي الله عَنْهُم - وَالْقَوْل الْخَامِس: الشَّاهِد هُوَ الله،(6/194)
{قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود (4) } . والمشهود هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل السَّادِس: أَن الشَّاهِد هُوَ عِيسَى ابْن مَرْيَم، والمشهود يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل السَّابِع: أَن الشَّاهِد هُوَ الْجَوَارِح، والمشهود هُوَ نفس الْإِنْسَان، وَالْقَوْل الثَّامِن: أَن الشَّاهِد يَوْم الِاثْنَيْنِ، والمشهود يَوْم الْجُمُعَة، وَشَهَادَة الْأَيَّام شهادتها على الْأَعْمَال وَمعنى الْمَشْهُود فِي الْأَيَّام هُوَ أَنه يشهدها النَّاس، وَهُوَ فِي يَوْم الْقِيَامَة على معنى أَنه تشهده الْمَلَائِكَة وَجَمِيع الْخَلَائق.(6/195)
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
قَوْله تَعَالَى: {قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود} وَالْأُخْدُود جمع خد، وَهُوَ شقّ فِي الأَرْض، وَاخْتلفُوا فِيمَن نزلت هَذِه الْآيَة؟ .
قَالَ عَليّ: فِي قوم من الْحَبَشَة، وَعَن مُجَاهِد: فِي قوم من نَجْرَان، وَعَن ابْن عَبَّاس: فِي قوم من الْيمن، وَعَن بَعضهم قوم بالروم، وَقيل غير ذَلِك.
وَفِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ بِنَجْرَان قوم على شَرِيعَة عِيسَى بن مَرْيَم - صلوَات الله عَلَيْهِ - يدينون بِالتَّوْحِيدِ، فَجَاءَهُمْ ذُو نواس وأحضرهم - وَهُوَ ملك من مُلُوك الْيمن - وَخَيرهمْ بَين الْيَهُودِيَّة والإحراق بالنَّار، فَاخْتَارُوا الإحراق بالنَّار، فَخدَّ لَهُم أُخْدُودًا، وأضرم فِيهَا النَّار، وَأمرهمْ بالتهود أَو يلْقوا أنفسهم فِيهَا، فَألْقوا أنفسهم فِيهَا حَتَّى احترقوا.
وَفِي بعض التفاسير: أَنه كَانَ فِي آخِرهم امْرَأَة وَمَعَهَا صبي رَضِيع، فَلَمَّا بلغت النَّار توقفت فَتكلم الصَّبِي وَقَالَ: يَا أُمَّاهُ، سيري وَلَا تُنَافِقِي، فَإِنَّمَا هِيَ غُمَيْضَة.
وَقد ذكر مُسلم فِي الصَّحِيح فِي هَذَا قصَّة طَوِيلَة، وَكَذَلِكَ أَبُو عِيسَى على غير هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا، وذكرا فِيهِ حَدِيث الْملك والراهب والساحر، وَهُوَ مَا روى عَن ثَابت الْبنانِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، عَن صُهَيْب قَالَ: " كَانَ رَسُول الله إِذا صلى الْعَصْر هَمس، والهمس فِي بعض قَوْلهم تحرّك شَفَتَيْه كَأَنَّهُ يتَكَلَّم، فَقيل لَهُ: إِنَّك يَا رَسُول الله إِذا صليت الْعَصْر همست قَالَ: إِن نَبيا من الْأَنْبِيَاء كَانَ أعجب بأمته، من يقوم لهَؤُلَاء؟ فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن خَيرهمْ بَين أَن أنتقم مِنْهُم وَبَين أَن أسلط(6/195)
عَلَيْهِم عدوهم، فَاخْتَارُوا النقمَة، فَسلط عَلَيْهِم الْمَوْت فَمَاتَ مِنْهُم فِي يَوْم سَبْعُونَ ألفا قَالَ: وَكَانَ إِذا حدث بِهَذَا الحَدِيث حدث بِهَذَا الحَدِيث الآخر، قَالَ: كَانَ ملك من الْمُلُوك، وَكَانَ لذَلِك الْملك كَاهِن يكهن لَهُ، فَقَالَ (الكاهن) : انْظُرُوا لي غُلَاما (فهما) - أَو قَالَ فطنا لقفا - فَأعلمهُ علمي هَذَا، فَإِنِّي أَخَاف أَن أَمُوت فَيَنْقَطِع مِنْكُم هَذَا الْعلم، وَلَا يكون فِيكُم من يُعلمهُ.
قَالَ: فنظروا لَهُ على مَا وصف، وأمروه أَن يحضر ذَلِك الكاهن وَأَن يخْتَلف إِلَيْهِ.
قَالَ: فَجعل يخْتَلف إِلَيْهِ، وَكَانَ على طَرِيق الْغُلَام رَاهِب فِي صومعة - قَالَ معمر: أَحسب أَن أَصْحَاب الصوامع كَانُوا يَوْمئِذٍ مُسلمين - قَالَ: فَجعل الْغُلَام يسْأَل ذَلِك الراهب كلما مر بِهِ، فَلم يزل بِهِ حَتَّى أخبرهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أعبد الله. قَالَ: فَجعل الْغُلَام يمْكث عِنْد الراهب، ويبطئ عَن الكاهن، فَأرْسل الكاهن إِلَى أهل الْغُلَام إِنَّه لَا يكَاد يحضرني، فَأخْبر الْغُلَام الراهب بذلك، فَقَالَ لَهُ الراهب: إِذا قَالَ لَك الكاهن: أَيْن كنت؟ فَقل: عِنْد أَهلِي، فَإِذا قَالَ لَك أهلك: أَيْن كنت؟ (فَأخْبرهُم أَنَّك) كنت عِنْد الكاهن.
قَالَ فَبَيْنَمَا الْغُلَام على ذَلِك إِذْ مر بِجَمَاعَة من النَّاس كثير قد حبستهم دَابَّة - وَقَالَ بَعضهم: إِن الدَّابَّة كَانَت أسدا - قَالَ: فَأخذ الْغُلَام صخرا وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ مَا يَقُول الراهب حَقًا فأسألك أَن أَقتلهُ، ثمَّ رمى فَقتل الدَّابَّة.
فَقَالَ النَّاس: من قَتلهَا؟ فَقَالُوا: الْغُلَام، فَفَزعَ النَّاس وَقَالُوا: قد علم هَذَا الْغُلَام علما لم يُعلمهُ أحد.
قَالَ: فَسمع بِهِ أعمى، وَقَالَ لَهُ: إِن أَنْت رددت بَصرِي فلك كَذَا كَذَا.
فَقَالَ لَهُ: لَا أُرِيد مِنْك هَذَا، وَلَكِن إِن أَنْت شرطت إِن رَجَعَ إِلَيْك بَصرك أَن تؤمن بِالَّذِي رده عَلَيْك فعلت؟ قَالَ: فَدَعَا الله فَرد عَلَيْهِ بَصَره، فَآمن الْأَعْمَى، فَبلغ الْملك أَمرهم، فَبعث إِلَيْهِم، فَأتي بهم فَقَالَ: لأقتلن كل وَاحِد مِنْكُم قتلة لَا أقتل [بهَا] صَاحبه، فَأمر بِالرَّاهِبِ وَالرجل الَّذِي كَانَ أعمى فَوضع الْمِنْشَار على مفرق أَحدهمَا فَقتله، وَقتل الآخر بقتلة أُخْرَى، ثمَّ أَمر بالغلام فَقَالَ: انْطَلقُوا بِهِ إِلَى جبل كَذَا وَكَذَا فألقوه من رَأسه، فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى ذَلِك الْمَكَان الَّذِي أَرَادوا أَن يلقوه مِنْهُ جعلُوا يتهافتون من ذَلِك الْجَبَل ويتردون، حَتَّى لم يبْق مِنْهُم إِلَّا(6/196)
الْغُلَام.
قَالَ: ثمَّ رَجَعَ، فَأمر بِهِ الْملك أَن ينطلقوا بِهِ إِلَى الْبَحْر فَيُلْقُوهُ فِيهِ، فَانْطَلقُوا إِلَى الْبَحْر، فغرق الله الَّذين كَانُوا مَعَه وأنجاه، فَقَالَ الْغُلَام: إِنَّك لَا تقتلني حَتَّى تصلبني وترميني، وَتقول إِذا رميتني: باسم الله رب هَذَا الْغُلَام.
قَالَ: فَأمر بِهِ فصلب ثمَّ رَمَاه، وَقَالَ: باسم الله رب هَذَا الْغُلَام.
قَالَ: فَوضع الْغُلَام يَده على صُدْغه حِين رمى بِهِ ثمَّ مَاتَ، فَقَالَ النَّاس: لقد علم هَذَا الْغُلَام علما مَا علمه أحد، فَإنَّا نؤمن بِرَبّ الْغُلَام.
قَالَ: فَقيل للْملك: [أجزعت] إِن خالفك ثَلَاثَة، فَهَذَا الْعَالم كلهم قد خالفوك.
قَالَ: فَخدَّ أُخْدُودًا، ثمَّ ألْقى فِيهَا الْحَطب وَالنَّار، ثمَّ جمع النَّاس.
فَقَالَ: من رَجَعَ عَن دينه تَرَكْنَاهُ، وَمن لم يرجع ألقيناه فِي هَذِه النَّار، فَجعل يُلقيهِمْ فِي تِلْكَ الْأُخْدُود.
قَالَ: يَقُول الله تَعَالَى: {قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود النَّار ذَات الْوقُود} حَتَّى بلغ {ذُو الْعَرْش الْمجِيد} قَالَ: فَأَما الْغُلَام فَإِنَّهُ دفن.
قَالَ: فَذكر أَنه أخرج فِي زمن عمر بن الْخطاب، وأصبعه على صُدْغه كَمَا وَضعهَا حِين قتل ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث حسن غَرِيب (صَحِيح) .
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله بن أَحْمد، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن سراج، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس [المحبوبي] ، أخبرنَا عبد الرَّزَّاق، عَن معمر ... الْخَبَر.
وَذكر مُسلم هَذَا الْخَبَر فِي كِتَابه، وَخَالف فِي مَوَاضِع أخر مِنْهُ.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن اسْم ذَلِك الْغُلَام كَانَ عبد الله بن التامر.
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: حفر فِي زمن عمر - رَضِي الله عَنهُ - حفيرة، فوجدوا عبد الله بن التامر، وَيَده على صُدْغه فَكَانَ كلما أخروا يَده عَن ذَلِك الْموضع (انثعب) دَمًا، وَإِذا تركُوا(6/197)
{النَّار ذَات الْوقُود (5) إِذْ هم عَلَيْهَا قعُود (6) وهم على مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود (7) وَمَا نقموا مِنْهُم إِلَّا أَن يُؤمنُوا بِاللَّه الْعَزِيز الحميد (8) } . الْيَد ارْتَدَّت إِلَى مَكَانهَا، وَكَانَ فِي أُصْبُعه خَاتم حَدِيد مَكْتُوب عَلَيْهِ: رَبِّي الله، فَأمر عمر أَن يرد إِلَى ذَلِك الْموضع كَمَا وجد.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَن النَّبِي كَانَ إِذا ذكر هَذِه الْقِصَّة قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من جهد الْبلَاء ".
وَقد ذكر بعض أهل الْمعَانِي أَن قَوْله: {قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود} هُوَ جَوَاب الْقسم.(6/198)
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
قَوْله: {النَّار ذَات الْوقُود} على قَول الْبَدَل من الْأُخْدُود كَأَنَّهُ قَالَ: " قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود النَّار ذَات الْوقُود، والوقود " مَا يُوقد بِهِ النَّار، وَقيل: ذَات الْوقُود أَي: ذَات التوقد، وَهُوَ الْأَصَح.(6/198)
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)
قَوْله: {إِذْ هم عَلَيْهَا قعُود} أَي: جُلُوس، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْملك وَأَصْحَابه كَانُوا قد قعدوا على كراسي عِنْد الأخاديد.(6/198)
وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)
وَقَوله: {وهم على مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود} فعل مَا فعل بِالْمُؤْمِنِينَ بحضورهم.(6/198)
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
وَقَوله: {وَمَا نقموا مِنْهُم} قَالَ ابْن عَبَّاس: وَمَا كَرهُوا.
وَعَن غَيره: وَمَا عابوا.
وَذكر الزّجاج: مَا أَنْكَرُوا.
قَالَ عبد الله بن قيس (بن) الرقيات:
(مَا نقموا من بني أُميَّة إِلَّا ... أَنهم يحملون إِن غضبوا)
(وَأَنَّهُمْ سادة الْمُلُوك ... فَلَا يصلح إِلَّا عَلَيْهِم الْعَرَب)
وَقَوله: {إِلَّا أَن يُؤمنُوا بِاللَّه الْعَزِيز الحميد} وَالْمعْنَى أَنهم مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِم إِلَّا إِيمَانهم بِاللَّه.(6/198)
{الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالله على كل شَيْء شَهِيد (9) إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ثمَّ لم يتوبوا فَلهم عَذَاب جَهَنَّم وَلَهُم عَذَاب الْحَرِيق (10) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار ذَلِك الْفَوْز الْكَبِير (11) إِن بَطش رَبك لشديد (12) إِنَّه هُوَ يبدئ وَيُعِيد (13) وَهُوَ الغفور} .
وَقَوله: {الْعَزِيز الحميد} أَي: الْغَالِب بقدرته، الحميد فِي أَفعاله.(6/199)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالله على كل شَيْء شَهِيد} ظَاهر الْمَعْنى.
قَالَ الزّجاج: وَالْمرَاد من الْآيَة أَن الله تَعَالَى ذكر قوما بلغت بصيرتهم فِي الدّين أَن خيروا بَين الْكفْر وَبَين الإحراق بالنَّار، فصبروا حَتَّى أحرقوا بالنَّار.
وَقد ورد فِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " لَا تشرك بِاللَّه وَإِن قتلت وأحرقت ".(6/199)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} أَي: أحرقوا، يُقَال: فتنت الذَّهَب بالنَّار إِذا أدخلته فِيهَا، وَيُقَال: حرَّة فتين إِذا كَانَت سَوْدَاء كالمحترقة {ثمَّ لم يتوبوا فَلهم عَذَاب جَهَنَّم وَلَهُم عَذَاب الْحَرِيق} بكفرهم ونوعا من الْعَذَاب بإحراقهم الْمُؤمنِينَ.
وَعَن الرّبيع بن أنس: أَن النَّار الَّتِي أحرقوا الْمُؤمنِينَ فِيهَا ارْتَفَعت من الْأُخْدُود، فأحرقت الْملك وَأَصْحَابه، فَهُوَ معنى قَوْله: {وَلَهُم عَذَاب الْحَرِيق} .(6/199)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار ذَلِك الْفَوْز الْكَبِير} أَي: الْعَظِيم، وَهَذَا على مَا جرى أَمر الْقُرْآن، فَإِنَّهُ إِذا ذكر الْوَعْد للْكفَّار يذكر الْوَعْد للْمُؤْمِنين بجنبه، وَهُوَ ظَاهر فِي أَكثر الْقُرْآن.(6/199)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
قَوْله تَعَالَى: {إِن بَطش رَبك لشديد} الْبَطْش هُوَ الْأَخْذ بعنف وشده.(6/199)
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه هُوَ يبدئ وَيُعِيد} أَي: يبدئ الْخلق فِي الدُّنْيَا، ثمَّ يعيدهم فِي الْآخِرَة.(6/199)
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الغفور الْوَدُود} الغفور هُوَ الستور بذنوب عباده، الْوَدُود هُوَ(6/199)
{الْوَدُود (14) ذُو الْعَرْش الْمجِيد (15) فعال لما يُرِيد (16) هَل أَتَاك حَدِيث الْجنُود (17) فِرْعَوْن وَثَمُود (18) } . الْمُحب للْمُؤْمِنين، وَقيل: المتودد إِلَى الْمُؤمنِينَ بجميل أَفعاله وَكثير إحسانه.
وَذكر الْأَزْهَرِي: أَنه يجوز أَن يكون الْوَدُود، بِمَعْنى المودود كالحلوب وَالرُّكُوب بِمَعْنى المحلوب والمركوب، فعلى هَذَا فِي قَوْله: {الْوَدُود} مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَنه الْمُحب لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ.
وَالْآخر: الَّذِي يُحِبهُ الْمُؤْمِنُونَ.(6/200)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)
وَقَوله: {ذُو الْعَرْش الْمجِيد} قَرَأَ أَكثر الْقُرَّاء بِالرَّفْع، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ بالخفض.
وَالْعرش هُوَ السرير فِي اللُّغَة، وَأما فِي الْقُرْآن هُوَ الْعَرْش الْمَعْرُوف فَوق السَّمَوَات.
وَفِي التَّفْسِير: أَنه لَا يقدر قدره.
وَعَن بَعضهم: ذُو الْعَرْش ذُو الْملك، يُقَال: كل عرش فلَان أَي: ملك فلَان، وَيُقَال: تبوأ فلَان على سَرِير ملكه أَي: اسْتَقر ملكه، وَإِن لم يكن ثمَّ سَرِير فِي ذَلِك الْوَقْت، حَكَاهُ الْقفال، وَالْقَوْل الصَّحِيح الأول.
وَأما قِرَاءَة الرّفْع فَهُوَ صفة الله تَعَالَى، وَذَلِكَ بِمَعْنى الْعُلُوّ وَالْعَظَمَة، وَأما قِرَاءَة الْخَفْض فَفِيهِ أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنه صفة الْعَرْش، وَمعنى الْمجِيد فِيهِ العالي الرفيع، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه صفة الله تَعَالَى إِلَّا أَنه خفض بالجوار، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه رَاجع إِلَى قَوْله: {إِن بَطش رَبك} كَأَنَّهُ قَالَ: إِن بَطش رَبك الْمجِيد لشديد، أوردهُ النّحاس.
وَعَن بَعضهم: أَن جَوَاب الْقسم قَوْله: {إِن بَطش رَبك لشديد} وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين.(6/200)
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
وَقَوله تَعَالَى: {فعال لما يُرِيد} أَي: مَا يَشَاء ويختار.
وَفِي بعض الْآثَار أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ مرض فَدخل الْقَوْم يعودونه فَقَالُوا لَهُ: أَلا نَدْعُو لَك طَبِيبا؟ فَقَالَ: قد دَعوته.
فَقَالُوا: فَمَاذَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو بكر: فَقَالَ أَنا فَاعل لما أُرِيد.(6/200)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)
قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَاك حَدِيث الْجنُود} أَي قد آتِيك حَدِيث الْجنُود.(6/200)
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
وَقَوله: {فِرْعَوْن وَثَمُود} أَي جنود فِرْعَوْن وَثَمُود.
وَذكر النقاش أَن فِرْعَوْن لما أتبع بني إِسْرَائِيل كَانُوا خَمْسَة آلَاف وَخَمْسمِائة ألف.(6/200)
{بل الَّذين كفرُوا فِي تَكْذِيب (19) وَالله من ورائهم مُحِيط (20) بل هُوَ قُرْآن مجيد (21) فِي لوح مَحْفُوظ (22) } .(6/201)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
وَقَوله: {بل الَّذين كفرُوا فِي تَكْذِيب} أَي فِي تَكْذِيب الرُّسُل.(6/201)
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
وَقَوله: {وَالله من وَرَاءَهُمْ مُحِيط} أَي مُحِيط بأفعالهم وأقوالهم.(6/201)
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
وَقَوله: {بل هُوَ قُرْآن مجيد} فِي بعض التفاسير أَن الرَّسُول لما قَرَأَ عَلَيْهِم مَا ذكرنَا من الْآيَات قَالُوا لَهُ: لَعَلَّك غَلطت أَو سَهَوْت؟ وَلَعَلَّ الَّذِي ينزل عَلَيْك لَيْسَ من قبل الله؟ فَأنْزل الله تَعَالَى {بل هُوَ قُرْآن مجيد} هُوَ المتجمع بخصال الْخَيْر.
وَقَرَأَ مُحَمَّد اليمامي: " بل هُوَ قُرْآن مجيد " على الْإِضَافَة معنى قُرْآن رب مجيد.(6/201)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
وَقَوله: {فِي لوح مَحْفُوظ} قرئَ بِالرَّفْع والخفض مَعَ التَّنْوِين فيهمَا، فَفِي الرّفْع ينْصَرف إِلَى الْقُرْآن، وَفِي الْخَفْض ينْصَرف إِلَى اللَّوْح.
وروى سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس أَن اللَّوْح الْمَحْفُوظ من درة بَيْضَاء دفتاه ياقوت أَحْمَر كِتَابَته نور وقلمه نور ينظر الله فِيهِ كل يَوْم ثلثمِائة وَسِتِّينَ نظرة يُمِيت ويحيي، ويعز ويذل، ويفقر ويغني، وَيفْعل مَا يَشَاء.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَنه مَكْتُوب فِي صَدره لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله.
وَذكر الْحِفْظ هَاهُنَا ليبين أَن مَا يُوحى إِلَيْهِ من الْقُرْآن هُوَ مَحْفُوظ من السَّهْو والغلط، وَأَن مَا يَقُوله النَّبِي يَقُوله عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَعَن فرقد السبخي: أَن قَوْله: {فِي لوح مَحْفُوظ} هُوَ قلب الْمُؤمن، وَهُوَ قَول ضَعِيف، وَالله أعلم.(6/201)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَالسَّمَاء والطارق (1) وَمَا أَدْرَاك مَا الطارق (2) النَّجْم الثاقب (3) } .
تَفْسِير سُورَة الطارق
وَهِي مَكِّيَّة(6/202)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء والطارق} الطارق هَاهُنَا هُوَ النَّجْم، وَأما فِي لُغَة الْعَرَب فالطارق هُوَ كل مَا يطْرق لَيْلًا، وَقد قيل: هُوَ الَّذِي يطْرق لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا.
وَأما قَول الْقَائِل:
(نَحن بَنَات طَارق ... )
أَي: بَنَات النُّجُوم شرفا وعلوا.
وَقَالَ جرير:
(طرقتك صائدة الْقُلُوب وَلَيْسَ ذَا ... وَقت المقامة فارجعي بِسَلام)(6/202)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الطارق} إِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لِأَن الطارق يتَنَاوَل النَّجْم وَغَيره، فَذكر هَاهُنَا قَوْله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الطارق} لِأَن الرَّسُول لم يدر أَي طَارق أَرَادَ.(6/202)
النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
وَقَوله: {النَّجْم الثاقب} قَالَ ابْن عَبَّاس: المضيء.
وَعَن مُجَاهِد: هُوَ المتوهج.
وَعَن بَعضهم: هُوَ المستدير.
وَعَن بَعضهم: الثاقب النَّجْم الَّذِي يثقب الشَّيَاطِين بالنَّار.
وَذكر الْفراء: أَنه زحل، وَهُوَ أكبر النُّجُوم.
وَقد حكى هَذَا القَوْل عَن عَليّ.
وَعَن بَعضهم: أَنه نجم خلقه الله فِي السَّمَاء السَّابِعَة، لم يخلق فِيهَا غَيره، يطْرق(6/202)
{إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ (4) فَلْينْظر الْإِنْسَان مِم خلق (5) خلق من مَاء دافق (6) يخرج من بَين الصلب والترائب (7) إِنَّه على رجعه لقادر (8) } . السَّمَوَات ثمَّ يرجع إِلَى مَكَانَهُ.
وعَلى القَوْل الَّذِي قُلْنَا [أَن زحل هُوَ الثاقب] ، يَعْنِي أَنه يثقب السَّمَوَات بضيائه.
وَعَن ابْن زيد: أَنه الثريا.
وَالْعرب إِذا أطلقت النَّجْم عنت بِهِ الثريا.(6/203)
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
وَقَوله: {إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} هُوَ جَوَاب الْقسم.
وَقد قرئَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، فَمَعْنَى التَّشْدِيد: إِلَّا عَلَيْهَا حَافظ، وَمعنى التَّخْفِيف: لَعَلَّهَا حَافظ، و " مَا " زَائِدَة، والحافظ: هُوَ الْملك، وَعَن بَعضهم: قرينه الَّذِي يحفظ عَلَيْهِ عمله، وَقيل: الْحَافِظ هُوَ الله تَعَالَى يحفظ عَلَيْهِم أَعْمَالهم.(6/203)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
وَقَوله تَعَالَى: {فَلْينْظر الْإِنْسَان مِم خلق} أَي: من أَي شَيْء خلق.(6/203)
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)
وَقَوله: {خلق من مَاء دافق} أَي: مدفوق مثل قَوْله تَعَالَى: {فِي عيشة راضية} أَي: مرضية، وَقيل: {مَاء دافق} أَي: منصب جَار.(6/203)
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
وَقَوله: {يخرج من بَين الصلب والترائب} أَي: من صلب الرجل، وترائب الْمَرْأَة.
وَفِي الْخَبَر: أَنه يخرج من كل خرزة من صلبه، والترائب ثَمَانِيَة أضلاع: أَرْبَعَة يمنة، وَأَرْبَعَة يسرة، وَقيل: هُوَ الصَّدْر، وَقيل: بَين الثديين، وَقيل: مَا دون الترقوة.(6/203)
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
وَقَوله: {إِنَّه على رجعه لقادر} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: على رد النُّطْفَة فِي الإحليل لقادر، قَالَه مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم وَعِكْرِمَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ قَادر أَن يردهُ إِلَى حَالَة الطفولية، وَقيل: يرد من (الشيخوخة) إِلَى الكهولة، وَمن الكهولة إِلَى الشَّبَاب، وَمن الشَّبَاب إِلَى الصغر، وَمن الصغر إِلَى الطفولية، وَمن الطفولية إِلَى رحم الْمَرْأَة، وَمن الرَّحِم إِلَى الصلب، فَهُوَ معنى قَوْله: {إِنَّه على رجعه لقادر} .
وَالْقَوْل الثَّالِث - وَهُوَ أولى الْأَقَاوِيل - أَن المُرَاد مِنْهُ، أَنه على إحيائه بعد الإماتة لقادر، ذكره الْفراء والزجاج وَغَيرهَا.(6/203)
{يَوْم تبلى السرائر (9) فَمَا لَهُ من قُوَّة وَلَا نَاصِر (10) وَالسَّمَاء ذَات الرجع (11) وَالْأَرْض ذَات الصدع (12) إِنَّه لقَوْل فصل (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُم يكيدون كيدا (15) وأكيد كيدا (16) } .(6/204)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تبلى السرائر} أَي: تختبر وتمتحن، وَقيل: تظهر، وَهُوَ الأولى.
وَفِي التَّفْسِير: أَنه يظْهر سر كل إِنْسَان، ويبدو أَثَره على وَجهه، فتبيض بعض الْوُجُوه، وَتسود بعض الْوُجُوه.(6/204)
فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
وَقَوله: {فَمَا لَهُ من قُوَّة وَلَا نَاصِر} أَي: قُوَّة يتقوى بهَا، وناصر ينصره، فَيدْفَع بِهِ الْعَذَاب عَن نَفسه.(6/204)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)
وَقَوله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء ذَات الرجع} أَي: الْمَطَر، وَهُوَ القَوْل الْمَعْرُوف، وسمى الْمَطَر رجعا؛ لِأَنَّهُ يرجع مرّة بعد أُخْرَى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم، وَسميت رجعا؛ لِأَنَّهَا تطلع وتغيب، وَترجع من الْمغرب إِلَى الْمشرق.(6/204)
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)
وَقَوله: {وَالْأَرْض ذَات الصدع} أَي: النَّبَات، وَهُوَ قَول الْجَمِيع، وسمى صدعا؛ لِأَن الأَرْض تنصدع بِهِ.(6/204)
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)
وَقَوله: {إِنَّه لقَوْل فصل} أَي: ذُو فصل، وَهُوَ الْفَصْل بَين الْحق وَالْبَاطِل.(6/204)
وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
وَقَوله: {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أَي: باللعب، والعبث، وَالْمعْنَى: أَنه قَول جد.(6/204)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم يكيدون كيدا} أَي: يمكرون مكرا، والكيد فِي اللُّغَة هُوَ صنع يصل بِهِ إِلَى الشَّيْء على الْخفية والاستتار.(6/204)
وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)
{وأكيد كيدا} الكيد من الله هُوَ الاستدراج من حَيْثُ لَا يعلمُونَ الْكفَّار، والاستدراج هُوَ الْأَخْذ قَلِيلا قَلِيلا، وَقيل: هِيَ الْأَخْذ من حَيْثُ يخفى عَلَيْهِم، وَقيل: {وأكيد كيدا} أَي: أعاقبهم عُقُوبَة كيدهم.(6/204)
فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
وَقَوله: {فمهل الْكَافرين} أَي: أمْهل الْكَافرين، وَهَذَا قبل آيَة السَّيْف.(6/204)
{فمهل الْكَافرين أمهلهم رويدا (17) } .
وَقَوله: {أمهلهم رويدا} أَي: أمهلهم قَلِيلا، وَالْعرب تَقول: رويدك يَا فلَان أَي: كن على أودة ورفق، وَأما هَاهُنَا فَهُوَ بِمَعْنى الْقَلِيل على مَا بَينا.
وَقد أَخذهم يَوْم بدر بِالسَّيْفِ، وسيأخذهم بِعَذَاب الْآخِرَة عَن قريب.(6/205)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى (1) } .
تَفْسِير سُورَة الْأَعْلَى
وَهِي مَكِّيَّة
وَفِي رِوَايَة الضَّحَّاك أَنَّهَا مَدَنِيَّة، وَالأَصَح هُوَ الأول، وَالله أعلم.(6/206)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
قَوْله تَعَالَى: {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} أَي: عظم رَبك الْأَعْلَى، وَقيل: نزه، وتنزيه الله - عز اسْمه - أَلا يُوصف بِوَصْف لَا يَلِيق بِهِ.
وروى أَبُو صَالح، عَن ابْن عَبَّاس أَن مَعْنَاهُ: صل بِأَمْر رَبك، وَقيل: صل لِرَبِّك المتعالي.
وَفِي الْآيَة دَلِيل أَن الِاسْم والمسمى وَاحِد؛ لِأَن الْمَعْنى سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى وَفِي قِرَاءَة أبي: " سُبْحَانَ رَبك الْأَعْلَى ".
وَقَالَ الشَّاعِر:
(إِلَى الْحول ثمَّ اسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا ... وَمن يبك حولا كَامِلا فقد اعتذر)
أَي: ثمَّ السَّلَام عَلَيْكُمَا.
وروى إِسْرَائِيل، عَن ثُوَيْر بن أبي فَاخِتَة، عَن أَبِيه، عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - " أَن الني كَانَ يحب سُورَة سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الصَّمد الترابي، أخبرنَا عبد الله بن أَحْمد بن حمويه، أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن خُزَيْمٌ الشَّاشِي، أخبرنَا عبد ابْن حميد، أخبرنَا وَكِيع، عَن إِسْرَائِيل الْخَبَر.(6/206)
{الَّذِي خلق فسوى (2) وَالَّذِي قدر فهدى (3) } .
وَفِي حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - " أَن رَسُول الله كَانَ يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى من الْوتر {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} ، وَفِي الثَّانِيَة: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} فِي الثَّالِثَة: سُورَة الْإِخْلَاص والمعوذتين ".
وَعَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر أَنهم كَانُوا إِذا قرءوا سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى قَالُوا: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى امتثالا لِلْأَمْرِ.
[وَالْأولَى] أَن يَقُول كَذَلِك.
[و] من الْمَعْرُوف عَن عقبَة بن عَامر أَنه قَالَ: لما نزل قَوْله تَعَالَى: {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} قَالَ النَّبِي: " اجعلوه فِي سُجُودكُمْ، وَلما نزل قَوْله: " سبح اسْم رَبك الْعَظِيم " قَالَ: اجعلوه فِي ركوعكم ".
وَقَوله: {الَّذِي خلق فسوى} أَي: خلقك وجعلك رجلا سويا.(6/207)
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)
وَهُوَ فِي معنى قَوْله: {الَّذِي خلقك فسواك} على مَا بَينا.(6/207)
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)
وَقَوله: {الَّذِي قدر فهدى} قَالَ السّديّ: قدر خلق الذّكر وَالْأُنْثَى، وَهدى أَي:(6/207)
{وَالَّذِي أخرج المرعى (4) فَجعله غثاء أحوى (5) سنقرئك فَلَا تنسى (6) } . هدى الذّكر إِلَى الْأُنْثَى.
وَقيل: قدر خلق كل شَيْء، وهداه إِلَى مَا يصلحه، وَهَذَا فِي الْحَيَوَانَات.
وَقيل: هداه إِلَى رزقه، كالطفل يَهْتَدِي إِلَى الثدي، وَيفتح فَاه حِين يُولد طلبا للثدي، والفرخ يطْلب الرزق من أمه وَأَبِيهِ وَكَذَلِكَ كل شَيْء.
وَقَالَ مُجَاهِد: هدى الْإِنْسَان لسبيل الْخَيْر، وَالشَّر والسعادة والشقاوة.
وَيُقَال: فِي الْآيَة حذف، وَالْمعْنَى: وَهدى وأضل.(6/208)
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)
وَقَوله: {وَالَّذِي أخرج المرعى} أَي: مرعى للأنعام.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَقد ينْبت المرعى على دِمنِ الثرى ... وَتبقى حزازات النُّفُوس كَمَا هيا)(6/208)
فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
وَقَوله: {فَجعله غثاء أحوى} فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالْمعْنَى: أخرج المرعى أحوى.
{فَجعله غثاء} أَي: يَابسا.
والغثاء هُوَ مَا حمله السَّيْل من النَّبَات الْيَابِس والحشيش، والطفاط مَا أَلْقَاهُ الْقدر من الزّبد، والأحوى الْأسود، والحوة (السوَاد) .
وَإِنَّمَا سَمَّاهُ أحوى؛ لِأَن كل أَخْضَر يضْرب إِلَى السوَاد إِذا اشتدت خضرته.
قَالَ ذُو الرمة:
(لمياء فِي شفتيها حوة لعس ... وَفِي اللثات وَفِي أنيابها شنب)
وَيُقَال: أخرج المرعى أَخْضَر، ثمَّ جعله أحوى، ثمَّ جعله غثاء.(6/208)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)
قَوْله: {سنقرئك فَلَا تنسى} ذكر [ابْن] أبي نجيح بروايته عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي: " كَانَ إِذا قَرَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيل سُورَة من الْقُرْآن فيحرك شَفَتَيْه بِقِرَاءَتِهَا مَخَافَة أَن(6/208)
{إِلَّا مَا شَاءَ الله إِنَّه يعلم الْجَهْر وَمَا يخفى (7) ونيسرك لليسرى (8) فَذكر إِن نَفَعت الذكرى (9) } . يتفلت مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {سنقرئك فَلَا تنسى} .
وَالْمعْنَى: أَنَّك كفيت النسْيَان، (فَلم ينس) بعد ذَلِك.(6/209)
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
وَقَوله: {إِلَّا مَا شَاءَ الله} يَعْنِي: إِلَّا مَا شَاءَ الله أَن ينساه، وَالْمرَاد مِنْهُ نسخ التِّلَاوَة، وَقيل: النسْيَان هَاهُنَا بِمَعْنى التّرْك، أَي: لَا يتْرك إِلَّا مَا شَاءَ الله أَن يتْرك بالنسخ.
وَعَن بَعضهم: أَن قَوْله: {إِلَّا مَا شَاءَ الله} ذكر مَشِيئَته على التَّعْلِيم حَتَّى يقرن لفظ الْمَشِيئَة بِجَمِيعِ أَقْوَاله مثل قَوْله: {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله [آمِنين] } قد قَالَ: {إِلَّا مَا شَاءَ الله} يَعْنِي: أَن تنسى، وَلم يَشَأْ.
مثل قَوْله تَعَالَى: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} وَلم يَشَأْ، ذكره ابْن فَارس.
وَقَوله: {إِنَّه يعلم الْجَهْر وَمَا يخفى} أَي: السِّرّ والعلن، وَيُقَال: مَا فِي الْقلب، وَمَا على اللِّسَان.(6/209)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)
وَقَوله: {ونيسرك لليسرى} الْيُسْرَى فعلى من الْيُسْر، وَمَعْنَاهُ: للأيسر من الْأُمُور.(6/209)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)
وَقَوله: {فَذكر إِن نَفَعت الذكرى} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: إِن نَفَعت الذكرى، وَهُوَ مَأْمُور بالتذكير على الْعُمُوم نَفَعت أَو لم تَنْفَع؟
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {إِن نَفَعت الذكرى} إِذْ نَفَعت الذكرى، مثل قَوْله تَعَالَى: {وخافون إِن كُنْتُم مُؤمنين} وَمَعْنَاهُ: إِذْ كُنْتُم مُؤمنين.(6/209)
{سَيذكرُ من يخْشَى (10) ويتجنبها الأشقى (11) الَّذِي يصلى النَّار الْكُبْرَى (12) ثمَّ لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى (13) قد أَفْلح من تزكّى (14) وَذكر اسْم ربه فصلى} .
وَالْوَجْه الثَّانِي: ذكر بِكُل حَال، فقد نَفَعت الذكرى، فَهُوَ تَعْلِيق بمتحقق وَالْمعْنَى: إِن نَفَعت، وَقد نَفَعت.(6/210)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)
قَوْله تَعَالَى: {سَيذكرُ من يخْشَى} يُقَال: نزل هَذَا فِي عبد الله بن أم مَكْتُوم.
وَقيل: هُوَ على الْعُمُوم وَالْمعْنَى: من يخْشَى الله.(6/210)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)
وَقَوله: {ويتجنبها الأشقى الَّذِي يصلى النَّار الْكُبْرَى} يُقَال: هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَعتبَة بن ربيعَة.
وَقَوله: {يصلى النَّار الْكُبْرَى} أَي: يدْخل النَّار الْكُبْرَى.
قَالَ سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: هُوَ الطَّبَق الْأَسْفَل من جَهَنَّم.(6/210)
ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
وَقَوله: {ثمَّ لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى} أَي: لَا يَمُوت فيستريح، وَلَا يحيا حَيَاة فِيهَا رَاحَة، وَيُقَال: لَا يَمُوت، وَلَا يجد (روح الْحَيَاة) .(6/210)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
قَوْله تَعَالَى: {قد أَفْلح من تزكّى} أَي: تطهر بِالْعَمَلِ الصَّالح، وَيُقَال: فلَان تزكّى بقول لَا إِلَه إِلَّا الله.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: آمن ووحد ربه.
وَعَن عَطاء: أَي أعْطى زَكَاة مَاله.
[و] قَالَ ابْن مَسْعُود من لم يزك لم تقبل الصَّلَاة مِنْهُ.
وَعَن ابْن عمر: أَنَّهَا صَدَقَة الْفطر.
وَهُوَ قَول عمر بن عبد الْعَزِيز.
وَكَانَ ابْن عمر يَقُول لنافع حِين يصبح يَوْم الْعِيد: أخرجت زَكَاة الْفطر؟ فَإِن قَالَ: نعم، توجه إِلَى الصَّلَاة، وَإِن قَالَ: لَا، يَأْمُرهُ بِالْإِخْرَاجِ، ثمَّ يتَوَجَّه، وَهَذَا على القَوْل الَّذِي قُلْنَا أَن السُّورَة مَدَنِيَّة، فَأَما إِذا قُلْنَا: مَكِّيَّة، وَهُوَ الْأَصَح، فَلَا يرد هَذَا القَوْل؛ لِأَن صَدَقَة الْفطر لم تكن وَاجِبَة بِمَكَّة، وَإِنَّمَا وَجَبت بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ صَلَاة الْعِيد، إِنَّمَا صليت بِالْمَدِينَةِ.(6/210)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
وَقَوله: {وَذكر اسْم ربه فصلى} أَي: ذكر ربه فصلى، وَيُقَال: الذّكر هُوَ التَّكْبِير،(6/210)
( {15) بل تؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَة خير وَأبقى (17) إِن هَذَا لفي الصُّحُف الأولى (18) صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى (19) } . وَالصَّلَاة هِيَ الصَّلَاة الْمَعْرُوفَة، وَقيل: صَلَاة الْعِيد.(6/211)
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)
قَوْله تَعَالَى: {بل تؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: تختارون.
قَالَ ابْن مَسْعُود: عجلت لَهُم الدُّنْيَا، وغيبت عَنْهُم الْآخِرَة، فَاخْتَارُوا الدُّنْيَا على الْآخِرَة، وَلم عاينوا الْآخِرَة مَا اخْتَارُوا عَلَيْهَا شَيْئا.
وروى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أحب دُنْيَاهُ أضرّ بآخرته، وَمن أحب آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا مَا يبْقى على مَا يفنى ".(6/211)
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)
وَقَوله: {وَالْآخِرَة خير وَأبقى} أَي: أدوم [وَأبقى] .(6/211)
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)
وَقَوله: {إِن هَذَا لفي الصُّحُف الأولى} أَي: مَا ذكره الله فِي هَذِه السُّورَة، وَقيل: من قَوْله - تَعَالَى -: {قد أَفْلح من تزكّى} إِلَى قَوْله: {وَأبقى} قَالَ قَتَادَة: فِي جَمِيع كتب الْأَوَّلين أَن الْآخِرَة خير وَأبقى.(6/211)
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
وَقَوله: {صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى} أَي: الْكتب الَّتِي أنزلهَا الله تَعَالَى على إِبْرَاهِيم ومُوسَى، وَقد أنزل على إِبْرَاهِيم صحفا، وَأنزل على مُوسَى التَّوْرَاة، فَهِيَ المُرَاد بِالْآيَةِ، وَالله أعلم.(6/211)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية (1) وُجُوه يَوْمئِذٍ خاشعة (2) عاملة ناصبة (3) تصلى نَارا حامية (4) } .
تَفْسِير سُورَة الغاشية
وَهِي مَكِّيَّة بِالْإِجْمَاع(6/212)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} أَي: الْقِيَامَة، وَسميت غاشية؛ لِأَنَّهَا تغشى كل شَيْء بالأهوال، وَيُقَال: تغشى كل كَافِر وَفَاجِر بِالْعَذَابِ، والغاشية هِيَ المجللة، وَمعنى هَل أَتَاك: قد أَتَاك.(6/212)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)
وَقَوله: {وُجُوه يَوْمئِذٍ خاشعة} أَي: ذليلة لما ترى من سوء الْعَاقِبَة، وَالْمعْنَى: ركبهَا الذل.(6/212)
عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)
وَقَوله: {عاملة ناصبة} أَي: عملت فِي الدُّنْيَا لغير الله، فَنصبت وتعبت فِي الْآخِرَة بِعَذَاب الله.
وَعَن السّديّ وَجَمَاعَة: أَنهم الرهبان وَأَصْحَاب الصوامع من النَّصَارَى وَالْيَهُود.
وَقد روى عَن عمر أَنه لما قدم الشَّام فَمر بصومعة رَاهِب فناداه فَاطلع عَلَيْهِ، وَقد تنْحَل من الْجُوع والضر وَالْعِبَادَة، وَعَلِيهِ برنس، فَبكى عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَمَا يبكيك؟ ! فَقَالَ: مِسْكين طلب أمرا، وَلم يصل إِلَيْهِ، وسلك طَرِيقا وأخطأه، ثمَّ قَرَأَ قَوْله: {عاملة ناصبة} الْآيَة.(6/212)
تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)
وَقَوله: {تصلى نَارا حامية} أَي: تقاسي حرهَا.(6/212)
تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
وَقَوله: {تسقى من عين آنِية} أَي: انْتَهَت فِي الْحر.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: أوقدت عَلَيْهَا جَهَنَّم مُنْذُ خلقت، فدفعوا إِلَيْهَا وردا، أَي: عطاشا.(6/212)
{تسقى من عين آنِية (5) لَيْسَ لَهُم طَعَام إِلَّا من ضَرِيع (6) لَا يسمن وَلَا يُغني من جوع (7) وُجُوه يَوْمئِذٍ ناعمة (8) لسعيها راضية (9) فِي جنَّة عالية} ) .
قَالَ النَّابِغَة:
(ويخضب نحبة (غدرت) وهانت ... بأحمر من جَمِيع الْجوف آن)
وَفِي بعض التفاسير: أَنهم إِذا دنوا ذَلِك من وُجُوههم سلخت وُجُوههم، فَإِذا شربوا مِنْهَا قطعت أمعاءهم.(6/213)
لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)
وَقَوله: {لَيْسَ لَهُم طَعَام إِلَّا من ضَرِيع} هُوَ شجر يُسمى بالحجاز: الشبرق، لَهُ شوك كثير، فَإِذا يبس يُسمى الضريع.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الضريع شَيْء إِذا وَقعت عَلَيْهَا الْإِبِل فأكلته هَلَكت هزلا.
وَيُقَال: الضريع هُوَ الْحِجَارَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن سعيد بن جُبَير وَغَيره، وَهُوَ قَول غَرِيب.
وَيُقَال: نبت فِيهِ سم.
وَفِي التَّفْسِير: أَن أهل النَّار سلط الله عَلَيْهِم الْجُوع حَتَّى يعدل بِمَا هم فِيهِ من الْعَذَاب، فَيَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بالضريع، ثمَّ يستغيثون فَيُغَاثُونَ بِطَعَام [ذِي] غُصَّة، ثمَّ يذكرُونَ أَنهم كَانُوا فِي الدُّنْيَا يدْفَعُونَ الغصة بِالْمَاءِ، فَيَسْتَغِيثُونَ فيتركون ألف سنة يستسقون ثمَّ يسقون الْحَمِيم(6/213)
لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
وَقَوله: {لَا يسمن وَلَا يُغني من جوع} روى أَن الْمُشْركين قَالُوا: إِن إبلنا تسمن على الضريع، وَقد كذبُوا فِي ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا يسمن وَلَا يُغني من جوع} .(6/213)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)
قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناعمة} أَي: ذَات نعْمَة.(6/213)
لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)
وَقَوله: {لسعيها راضية} أَي: مرضية.(6/213)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
وَقَوله: {فِي جنَّة عالية لَا تسمع فِيهَا لاغية} أَي: لَغوا فاعلة بِمَعْنى الْمصدر، وَهُوَ(6/213)
( {10) لَا تسمع فِيهَا لاغية (11) فِيهَا عين جَارِيَة (12) فِيهَا سرر مَرْفُوعَة (13) وأكواب مَوْضُوعَة (14) ونمارق مصفوفة (15) وزرابي مبثوثة (16) أَفلا} .
فِي معنى قَوْله: {لَا تسمع فِيهَا لَغوا وَلَا تأثيما} .(6/214)
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)
وَقَوله: {فِيهَا عين جَارِيَة} قد قد بَينا من قبل.(6/214)
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
وَقَوله: {فِيهَا سرر مَرْفُوعَة} أَي: مُرْتَفعَة عَن أَرض الْجنَّة.
وَيُقَال فِي التَّفْسِير: السرر مُرْتَفعَة، عَلَيْهَا فرش محشوة، كل فرش كجنبذ.
وَفِيه أَيْضا أَنَّهَا تتطامن لِلْمُؤمنِ، فَإِذا صعد عَلَيْهَا ارْتَفَعت.(6/214)
وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَقَوله: {وأكواب مَوْضُوعَة} قد بَينا معنى الأكواب، وَهِي الأباريق الَّتِي لَا خراطيم لَهَا.(6/214)
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
وَقَوله: {ونمارق مصفوفة} أَي: وسائد صف بَعْضهَا إِلَى بعض، قَالَ الشَّاعِر:
(وَإِنَّا لنجري الكأس بَين شروبنا ... وَبَين أبي قَابُوس فَوق النمارق)(6/214)
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
وَقَوله: {وزرابي مبثوثة} أَي: بسط، وَاحِدهَا زربية.
وَقَوله: {مبثوثة} مُتَفَرِّقَة، وَمعنى المتفرقة: أَنَّهَا قد فرقت فِي الْمجَالِس، وفرشت الْمجَالِس بهَا.(6/214)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
وَقَوله تَعَالَى: {أَفلا ينظرُونَ} فَإِن قيل: كَيفَ يَلِيق هَذَا بِالْأولِ؟ .
وَالْجَوَاب: أَن النَّبِي لما ذكر لَهُم مَا أوعده الله للْكفَّار ووعده للْمُؤْمِنين استبعدوا ذَلِك غَايَة الاستبعاد.
وَقَالُوا: لَا نفهم حَيَاة بعد الْمَوْت، وَلَا نَدْرِي وَعدا وَلَا وعيدا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَذكر لَهُم من الدَّلَائِل مَا هِيَ مجْرى أَبْصَارهم.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ - رَضِي الله عَنْهُم - ذكر الله تَعَالَى هَذِه الْأَرْبَع وَهِي الْإِبِل، وَالسَّمَاء، وَالْأَرْض، وَالْجِبَال، وخصها بِالذكر من بَين سَائِر الْأَشْيَاء؛ لِأَن الْأَعرَابِي إِذا ركب بعيره، وَخرج إِلَى الْبَريَّة،(6/214)
{ينظرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيفَ رفعت (18) وَإِلَى الْجبَال كَيفَ نصبت (19) وَإِلَى الأَرْض كَيفَ سطحت (20) فَذكر إِنَّمَا أَنْت مُذَكّر (21) لست عَلَيْهِم بمسيطر (22) إِلَّا من تولى وَكفر (23) فيعذبه الله} فَلَا يرى إِلَّا بعيره الَّذِي هُوَ رَاكِبه، وَالسَّمَاء الَّتِي فَوْقه، وَالْأَرْض الَّتِي تَحْتَهُ، وَالْجِبَال الَّتِي هِيَ نصب عينه.
وَقَوله: {إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت} فِي الْإِبِل من أعجوبة الْخلق مَا لَيْسَ فِي غَيرهَا؛ لِأَنَّهَا مَعَ كبرها وعظمها تنقاد لكل وَاحِد يَقُودهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا تبرك وَيحمل عَلَيْهِ الْحمل الثقيل، وَتقوم من بروكها، وَلَا يُوجد هَذَا فِي غَيره، والطفل الصَّغِير يَقُودهُ فينقاد، وينخه فيستنخ.
وَفِي بعض الحكايات أَن فارة جرت بزمام بعير، وَدخلت جحرها، فَنزل الْبَعِير، وَجَرت الْفَأْرَة الزِّمَام، فَوضع فاها على الْجُحر.(6/215)
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى السَّمَاء كَيفَ رفعت وَإِلَى الْجبَال كَيفَ نصبت وَإِلَى الأَرْض كَيفَ سطحت} أَي: بسطت.
وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء: أَن قَوْله: {إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت} أَنَّهَا السَّحَاب، وَهُوَ قَول شَاذ، وَيجوز أَن يحمل هَذَا على هَذَا إِذا شدد وَمد.
وَقُرِئَ فِي الشاذ بِالتَّشْدِيدِ.
وَقَالَ الْمبرد: قد قيل الْإِبِل: الْقطع الْعِظَام من السَّحَاب، يُقَال: فلَان يوبل على فلَان أَي: يكبر عَلَيْهِ ويعظم.(6/215)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
قَوْله تَعَالَى: {فَذكر إِنَّمَا أَنْت مُذَكّر} فِي التَّفْسِير: أَنه عظة لِلْمُؤمنِ، وَحجَّة على الْكَافِر، وَيُقَال: ذكر أَي: اذكر دَلَائِل تَوْحِيد الله تَعَالَى، وَمَا أنعم عَلَيْهِ من النِّعْمَة.(6/215)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
وَقَوله: {لست عَلَيْهِم بمسيطر} أَي: بمسلط، وَقيل: إِن هَذَا قبل آيَة السَّيْف، فَأَما بعد نُزُولهَا فقد سلط عَلَيْهِم.(6/215)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)
وَقَوله: {إِلَّا من تولى وَكفر} اسْتثِْنَاء مُنْقَطع كَأَنَّهُ قَالَ: لَكِن من تولى وَكفر {فيعذبه الله الْعَذَاب الْأَكْبَر} .(6/215)
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)
وَقَوله: {إِن إِلَيْنَا إيابهم} أَي: رجوعهم، يُقَال: آب يئوب إِذا رَجَعَ، قَالَ الشَّاعِر:
(وكل ذِي غيبَة يئوب ... وغائب الْمَوْت لَا يؤوب)(6/215)
{الْعَذَاب الْأَكْبَر (24) إِن إِلَيْنَا إيابهم (25) ثمَّ إِن علينا حسابهم (26) } .(6/216)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
وَقَوله: (ثمَّ إِن علينا حسابهم) أَي: فِي الْقِيَامَة.
فَإِن قيل: قَالَ: {لَيْسَ لَهُم طَعَام إِلَّا من ضَرِيع} ، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْم هَاهُنَا حميم وَلَا طَعَام إِلَّا من غسلين} فَكيف وَجه الْجمع بَينهمَا؟ .
وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن الضريع والغسلين وَاحِد.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن هَذَا لقوم، وَذَاكَ لقوم آخَرين.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن الغسلين طَعَام لَا ينفع، وَلَا يغنيهم من شَيْء، فَوضع الضريع مَوضِع ذَلِك؛ أَن الْكل بِمَعْنى وَاحِد، ذكره النّحاس، وَالله أعلم.(6/216)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَالْفَجْر (1) وليال عشر (2) وَالشَّفْع وَالْوتر (3) }
تَفْسِير سُورَة الْفجْر
وَهِي مَكِّيَّة(6/217)
وَالْفَجْرِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {وَالْفَجْر} روى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس: أَنه فجر الْمحرم، وَذَلِكَ أول يَوْم مِنْهُ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ: أَنه فجر يَوْم النَّحْر، وَيُقَال: هُوَ الْفجْر فِي كل الْأَيَّام.(6/217)
وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
وَقَوله: {وليال عشر} أَكثر الْأَقَاوِيل: أَنَّهَا عشر ذِي الْحجَّة، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَنَّهَا الْعشْر الْأَخير من رَمَضَان، وَعَن مَسْرُوق: أَنَّهَا الْعشْر الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى: {وأتممناها بِعشر} وَعَن بَعضهم: أَنَّهَا الْعشْر الأول من الْمحرم.(6/217)
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
وَقَوله: {وَالشَّفْع وَالْوتر} روى عمرَان بن حُصَيْن عَن النَّبِي: " (أَنه) الصَّلَاة، مِنْهَا شفع، وَمِنْهَا وتر " رَوَاهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامعه.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الشفع هُوَ يَوْم نحر، وَالْوتر يَوْم عَرَفَة، وروى بَعضهم هَذَا مَرْفُوعا(6/217)
{وَاللَّيْل إِذا يسر (4) هَل فِي ذَلِك قسم لذِي حجر (5) } إِلَى النَّبِي.
وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا.
وَهُوَ قَول مَعْرُوف.
وَعَن ابْن الزبير: أَن الشفع هُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ} فاليومان الْأَوَّلَانِ من أَيَّام الرَّمْي شفع، وَالْيَوْم الثَّالِث وتر.
وروى هشيم، عَن مُغيرَة، عَن إِبْرَاهِيم أَن الشفع هُوَ الزَّوْج، وَالْوتر هُوَ الْفَرد.
قَالَ مُجَاهِد: هُوَ الْعدَد كُله، مِنْهُ الشفع، وَمِنْه الْوتر، وَهُوَ قريب من قَول إِبْرَاهِيم.
وَعَن عَطاء قَالَ: الشفع هُوَ عشر ذِي الْحجَّة، وَالْوتر أَيَّام التَّشْرِيق.
وَعَن جمَاعَة أَنهم قَالُوا: الشفع هُوَ الْخلق، وَالْوتر هُوَ الله تَعَالَى.
وَيُقَال: الشفع هُوَ آدم وحواء، وَالْوتر هُوَ الله.
وَقُرِئَ " وَالْوتر " بِالْفَتْح، وَقَالَ أهل اللُّغَة: بِالْفَتْح وَالْكَسْر بِمَعْنى وَاحِد.(6/218)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
وَقَوله: {وَاللَّيْل إِذا يسر} قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: إِذا أقبل، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِذا اسْتَوَى، وَعَن بَعضهم: " إِذا يسر " يَعْنِي: إِذا يُسرى فِيهِ، فَيذْهب بعضه فِي إِثْر بعض، وَقيل يُسرى فِيهِ.
وَقد أول بليلة جمع، وَهِي لَيْلَة يَوْم النَّحْر.(6/218)
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
وَقَوله: {هَل فِي ذَلِك قسم لذِي حجر} أَي: لذِي عقل.
وَقَالَ الْفراء: " لذِي حجر " أَي: لمن كَانَ ضابطا لنَفسِهِ قاهرا لهواه.
وَيُقَال: " لذِي حجر " أَي لذِي حكم، والحَجْر فِي اللُّغَة: هُوَ الْمَنْع، والحِجْر مَأْخُوذ مِنْهُ، وسمى(6/218)
{ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بعاد (6) إرم ذَات الْعِمَاد (7) } الْعقل حِجرا؛ لِأَنَّهُ يمْنَع الْإِنْسَان من القبائح، وَهَذَا لتأكيد الْقسم، وَلَيْسَ بمقسم عَلَيْهِ.(6/219)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بعاد إرم} هُوَ أَبُو عَاد؛ لأَنهم قَالُوا: هُوَ عَاد ابْن إرم بن عوص بن سَام بن نوح، وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ اسْم بَلْدَة، وَلِهَذَا لم يصرف، فَإِن قُلْنَا: هُوَ اسْم رجل، فَلم نصرفه؛ لِأَنَّهَا اسْم أعجمي.
وَعَن مَالك بن أنس: أَن إرم كورة دمشق.
وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: أَنه الْإسْكَنْدَريَّة.
وَقَوله: {ذَات الْعِمَاد} أَي: ذَات الْبناء الرفيع، هَذَا إِذا قُلْنَا: إِن إرم اسْم بَلْدَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله {ذَات الْعِمَاد} أَي: ذَات الْأَجْسَام الطوَال.
يُقَال: رجل معمد إِذا كَانَ طَويلا، فعلى هَذَا عَاد اسْم الْقَبِيلَة، فَقَوله: {ذَات الْعِمَاد} منصرف إِلَى الْقَبِيلَة.
وَفِي الْقِصَّة: أَن طول الطَّوِيل مِنْهُم كَانَ خَمْسمِائَة ذِرَاع، والقصير ثلثمِائة.
وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يتَّخذ المصراع من الْحجر، فَلَا يَنْقُلهُ خَمْسمِائَة نفر مِنْكُم، وَقَالَ مُجَاهِد: ذَات عماد أَي: ذَات عَمُود، وَالْمعْنَى: أَنهم أهل خيام لَا يُقِيمُونَ فِي مَوضِع وَاحِد، بل ينتجعون لطلب الْكلأ أَي: ينتقلون من مَوضِع إِلَى مَوضِع، وَقَالَ الضَّحَّاك: ذَات الْعِمَاد أَي: ذَات الْقُوَّة، مَأْخُوذ من قُوَّة الأعمدة.
وَفِي الْقِصَّة: أَن عاج بن عوج كَانَ مِنْهُم.
وَذكر النقاش: أَن طول مُوسَى كَانَ سَبْعَة أَذْرع، وَعَصَاهُ سَبْعَة أَذْرع، ووثب سَبْعَة أَذْرع، فَأصَاب كَعْب عاج بن عوج فَقتله.
وَفِيمَا نقل فِيهِ أَيْضا فِي الْقَصَص: أَن ضلعا من أضلاعه جسر أهل مصر كَذَا كَذَا سنة أَي: كَانَ جِسْرًا لَهُم وَهُوَ على النّيل، وَفِي التَّفْسِير أَن عادا اثْنَان: عادا الأولى، وعادا الْأُخْرَى، فَعَاد الأولى عَاد إرم، وَعَاد الثَّانِيَة هُوَ عَاد الْمَعْرُوفَة، وَهُوَ الَّذِي أرسل إِلَيْهِم هود النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام.
قَالَ ابْن قيس الرقيات:(6/219)
{الَّتِي لم يخلق مثلهَا فِي الْبِلَاد (8) وَثَمُود الَّذين جابوا الصخر بالواد (9) وَفرْعَوْن ذِي الْأَوْتَاد (10) الَّذين طغوا فِي الْبِلَاد (11) فَأَكْثرُوا فِيهَا الْفساد (12) فصب عَلَيْهِم رَبك سَوط عَذَاب (13) إِن رَبك لبالمرصاد (14) }
(مجدا تليدا بناه أَوله ... أدْرك عادا وَقَبله إرما)(6/220)
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
وَقَوله: {الَّتِي لم يخلق مثلهَا فِي الْبِلَاد} أَي: لم يخلق مثل (أجسامهم) فِي الْبِلَاد.
وَفِي رِوَايَة أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود: " الَّذين لم يخلق مثلهم فِي الْبِلَاد ".(6/220)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)
وَقَوله: {وَثَمُود الَّذين جابوا الصخر بالواد} قطعُوا ونقبوا، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَكَانُوا ينحتون من الْجبَال بُيُوتًا آمِنين} .(6/220)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
وَقَوله: {وَفرْعَوْن ذِي الْأَوْتَاد} يُقَال: كَانَ لَهُ أَرْبَعَة أوتاد، فَإِذا غضب على إِنْسَان وعذبه زند يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ على الأَرْض بِتِلْكَ الْأَوْتَاد.
فِي الْقِصَّة: أَنه عذب امْرَأَته آسِيَة بِمثل هَذَا الْعَذَاب، وَوضع على صدرها صَخْرَة حَتَّى مَاتَت، وَعَن بَعضهم: أَنه كَانَ لَهُ أَربع أساطين، يشد الرجل بيدَيْهِ وَرجلَيْهِ بهَا.
وَقيل: ذِي الْأَوْتَاد أَي: ذِي الْملك الشَّديد، قَالَ الشَّاعِر:
(فِي ظلّ ملك ثَابت الْأَوْتَاد ... )(6/220)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)
وَقَوله: {الَّذين طغوا فِي الْبِلَاد} أَي: جاوزوا الْحَد بِالْمَعَاصِي، وَيُقَال: تَمَادَوْا فِيهَا.(6/220)
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)
وَقَوله: {فَأَكْثرُوا فِيهَا الْفساد فصب عَلَيْهِم رَبك سَوط عَذَاب} أَي: عذبهم وَقيل: إِنَّه جعل عَذَابهمْ مَوضِع السَّوْط فِي الْعُقُوبَات، وَعَن بَعضهم: أَنهم كَانُوا يعدون الضَّرْب بالسياط إِلَى أَن يَمُوت أَشد الْعَذَاب، فَذكر الْعَذَاب بِذكر السَّوْط هَاهُنَا، على معنى أَنه بلغ النِّهَايَة فِي عَذَابهمْ.(6/220)
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
وَقَوله: {إِن رَبك لبالمرصاد} أَي: إِلَيْهِ مرجع الْخلق ومصيرهم، وَالْمعْنَى: أَنه(6/220)
{فَأَما الْإِنْسَان إِذا مَا ابتلاه ربه فَأكْرمه ونعمه فَيَقُول رَبِّي أكرمن (15) وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه فَيَقُول رَبِّي أهانن (16) كلا بل لَا تكرمون الْيَتِيم (17) وَلَا تحاضون على طَعَام الْمِسْكِين (18) } لَا يفوت مِنْهُ أحد، وَعَن الْحسن: أَنه بمرصاد أَعمال الْعباد، وَعَن ابْن عَبَّاس أَن قَوْله: {إِن رَبك لبالمرصاد} أَي: يسمع وَيرى، وَعنهُ أَيْضا: أَن على جَهَنَّم سبع قناطر، فَيسْأَل على القنطرة الأولى عَن الْإِيمَان، وَعَن الثَّانِيَة عَن الصَّلَاة، وعَلى الثَّالِثَة عَن الزَّكَاة، وعَلى الرَّابِعَة عَن صِيَام رَمَضَان، وعَلى الْخَامِسَة عَن الْحَج وَالْعمْرَة، وعَلى السَّادِسَة عَن صلَة الرَّحِم، وعَلى السَّابِعَة عَن الْمَظَالِم.
وَقَوله: {إِن رَبك لبالمرصاد} وَقع الْقسم.(6/221)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الْإِنْسَان إِذا مَا ابتلاه ربه فَأكْرمه ونعمه فَيَقُول رَبِّي أكرمن} نزلت الْآيَة فِي أُميَّة بن خلف الجُمَحِي، وَيُقَال: هَذَا على الْعُمُوم.
وَقَوله: {فَيَقُول رَبِّي أكرمن} أَي: أَنا كريم عَلَيْهِ حَيْثُ أَعْطَانِي هَذِه النعم.(6/221)
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
وَقَوله: {وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه} أَي: ضيق عَلَيْهِ.
[وَقَوله] {فَيَقُول رَبِّي أهانن} أَي: فعل مَا فعل بِي لهواني عَلَيْهِ، وَالْمعْنَى: أَنهم زَعَمُوا أَن الله يكرم بالغني، ويهين بالفقر.(6/221)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
وَقَوله: {كلا} رد لما قَالُوا يعْنى: أَن الله لَا يكرم بالغنى، وَلَا يهين بالفقر، وَإِنَّمَا يكرم بِالطَّاعَةِ، ويهين بالمعصية، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار قَالَ: إِنِّي لأجد فِي بعض الْكتب أَن الله تَعَالَى يَقُول: لَوْلَا أَنه يحزن عَبدِي الْمُؤمن، لكللت رَأس الْكَافِر بالأكاليل، فَلَا يصدع، وَلَا ينبض مِنْهُ عرق يوجع.
وَقَوله: {بل لَا تكرمون الْيَتِيم} ذكر مَا يَفْعَله الْكفَّار، واستحقوا بِهِ الْعَذَاب فِي قَوْله: {لَا تكرمون الْيَتِيم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: هُوَ أكل مَالهم أَي: الْيَتَامَى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه ترك الْإِحْسَان إِلَيْهِم.(6/221)
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
وَقَوله: {وَلَا تحضون على طَعَام الْمِسْكِين} أَي: لَا يحثون، وَقُرِئَ: " وَلَا تحاضون(6/221)
{وتأكلون التراث أكلا لما (19) وتحبون المَال حبا جما (20) كلا إِذا دكت الأَرْض دكا دكا (21) وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا (22) وَجِيء يَوْمئِذٍ بجهنم يَوْمئِذٍ يتَذَكَّر الْإِنْسَان وأنى لَهُ الذكرى (23) يَقُول يَا لَيْتَني قدمت لحياتي (24) } على طَعَام الْمِسْكِين " أَي: لَا يحض بَعضهم بَعْضًا.(6/222)
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)
وَقَوله: {وتأكلون التراث أكلا لما} التراث وَالْوَارِث بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ الْمِيرَاث.
وَقَوله: {أكلا لما} أَي: بخلط الْحَلَال بالحرام.
وَقَالَ مُجَاهِد: {لما} أَي: سفا، فَيجمع الْبَعْض إِلَى الْبَعْض ويسف سفا.(6/222)
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
وَقَوله: {وتحبون المَال حبا جما} أَي: كثيرا، وَقُرِئَ بِالتَّاءِ وَالْيَاء، فَمن قَرَأَ بِالْيَاءِ فعلى الْخَبَر، وَمن قَرَأَ بِالتَّاءِ فَهُوَ على الْخطاب.(6/222)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
قَوْله تَعَالَى: {كلا إِذا دكت الأَرْض دكا دكا} أَي: فتت ودقت.(6/222)
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
وَقَوله: {وَجَاء رَبك} وَهُوَ من الْمُتَشَابه الَّذِي يُؤمن بِهِ وَلَا يُفَسر، وَقد أول بَعضهم: وَجَاء أَمر رَبك، وَالصَّحِيح مَا ذكرنَا.
وَقَوله: {وَالْملك صفا صفا} أَي: صُفُوفا.(6/222)
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
وَقَوله: {وَجِيء يَوْمئِذٍ بجهنم} وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " أَنه يجاء بجهنم مزمومة بسبعين ألف زِمَام، ويقودها الْمَلَائِكَة، فتقام على سَائِر الْعَرْش فَحِينَئِذٍ يجثوا الْأَنْبِيَاء على ركبهمْ، وَيَقُول كل وَاحِد: نَفسِي، نَفسِي ".
وَالْخَبَر غَرِيب، وَهُوَ مَعْرُوف عَن غير الرَّسُول.
قَوْله: {يَوْمئِذٍ يتَذَكَّر الْإِنْسَان وأنى لَهُ الذكرى} أَي: يتعظ، وأنى لَهُ الاتعاظ، أَي: نفع الاتعاظ.(6/222)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)
وَقَوله: {يَقُول يَا لَيْتَني قدمت لحياتي} أَي: لآخرتي، وَهُوَ فِي معنى قَوْله: {وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان} أَي الْحَيَاة الدائمة، وَالْمعْنَى هَاهُنَا: لحياتي فِي الْآخِرَة.(6/222)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
وَقَوله: {فَيَوْمئِذٍ لَا يعذب عَذَابه أحد وَلَا يوثق وثَاقه أحد} بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْأَشْهر(6/222)
{فَيَوْمئِذٍ لَا يعذب عَذَابه أحد (25) وَلَا يوثق وثَاقه أحد (26) يَا أيتها النَّفس المطمئنة (27) ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية (28) فادخلي فِي عبَادي (29) } من الْقِرَاءَتَيْن، وَمَعْنَاهُ: لَا يعذب أحد فِي الدُّنْيَا بِمثل مَا يعذبه الله فِي الْآخِرَة، وَلَا يوثق أحد فِي الدُّنْيَا مثل مَا يوثقه الله فِي الْآخِرَة، وَقُرِئَ: " فَيَوْمئِذٍ لَا يعذب عَذَابه أحد " بِفَتْح الذَّال، وَمَعْنَاهُ: لَا يعذب أحد مثل عَذَاب هَذَا الْكَافِر، أَو لَا يعذب أحد مثل عَذَاب هَذَا الصِّنْف من الْكفَّار، وَكَذَلِكَ قَوْله: {يوثق} بِفَتْح الثَّاء.(6/223)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أيتها النَّفس المطمئنة} أَي: المؤمنة الساكنة، وَيُقَال: المطمئنة إِلَى وعد رَبهَا، وَقيل: إِن المُرَاد بِالنَّفسِ هُوَ الرّوح هَاهُنَا، وَيُقَال: هُوَ جملَة الْإِنْسَان إِذا كَانَ مُؤمنا.(6/223)
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
وَقَوله: {ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية} أَي: رضيت عَن الله، وأرضاها الله تَعَالَى عَن نَفسه.
وَفِي بعض الْآثَار: أَن ملكَيْنِ يأتيان الْمُؤمن عِنْد قبض روحه، فَيَقُولَانِ: أخرج أَيهَا الرّوح إِلَى روح وَرَيْحَان، وَرب غير غَضْبَان.(6/223)
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
وَقَوله: {فادخلي فِي عبَادي} أَي: مَعَ عبَادي.(6/223)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
{وادخلي جنتي} وَهَذَا القَوْل يَوْم الْقِيَامَة.
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " فادخلي فِي عَبدِي " أَي: يُقَال للنَّفس - أَي: الرّوح - ادخلي فِي عَبدِي أَي: فِي جسده، وادخلي فِي جنتي، وَذَلِكَ عِنْد الْبَعْث.
وَعَن عِكْرِمَة: أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ أَبُو بكر: إِن هَذَا لخير كثير، فَقَالَ النَّبِي: " أما إِن الْملك سيقولها لَك ".
وَعَن (أبي بُرَيْدَة) : أَن الْآيَة نزلت فِي حَمْزَة بن عبد الْمطلب.(6/223)
{وادخلي جنتي (30) }
وَعَن بَعضهم: أَنَّهَا نزلت فِي خبيب بن عدي، وَهُوَ الَّذِي أسر وصلب بِمَكَّة، وَهُوَ أول من سنّ الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ عِنْد الصلب، وَهُوَ الْقَائِل:
(فلست أُبَالِي حِين أقتل مُسلما ... على أَي جنب كَانَ فِي الله مصرعي)
(وَذَلِكَ فِي ذَات الْإِلَه وَإِن يَشَأْ
(يُبَارك فِي شلو الْأَدِيم الممزع))
وَعَن عَامر بن قيس: أَنه وَفد على عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - فَجَلَسَ على بَابه، فَخرج عَلَيْهِ عُثْمَان فَرَأى أَعْرَابِيًا فِي بت، فَلم يعرفهُ، فَقَالَ: أَيْن رَبك يَا أَعْرَابِي؟ قَالَ: بالمرصاد.
فأفحم عُثْمَان، وَهَذَا على قَوْله: {إِن رَبك لبالمرصاد} وَالله أعلم.(6/224)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{لَا أقسم بِهَذَا الْبَلَد (1) وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد (2)
تَفْسِير سُورَة الْبَلَد
وَهِي مَكِّيَّة(6/225)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {لَا أقسم بِهَذَا الْبَلَد} مَعْنَاهُ: أقسم، و " لَا " صلَة.
قَالَ الْفراء: وَهُوَ على مَذْهَب كَلَام الْعَرَب يَقُولُونَ: لَا وَالله لَا أفعل كَذَا.
أَي: وَالله، وَكَذَلِكَ لَا وَالله لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَي: وَالله، فَيجوز أَن تكون " لَا " صلَة، وَيجوز أَن يكون ردا لقَوْل سَابق، وَابْتِدَاء الْقسم من قَوْله وَالله، فَكَذَلِك قَوْله: {لَا أقسم} يجوز أَن يكون " لَا " صلَة، وَيجوز أَن يكون ردا لزعمهم من إِنْكَار الْبَعْث أَو إِنْكَار نبوة الرَّسُول، وَالْقسم من قَوْله: {أقسم} وَقَالَ الْفراء: هَذَا الثَّانِي أولى.
وَقَوله: {بِهَذَا الْبَلَد} هُوَ مَكَّة فِي قَول الْجَمِيع، ذكره مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَقَتَادَة وَغَيرهم.(6/225)
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)
وَقَوله: {وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَي: حَلَال لَك أَن تقَاتل فِي هَذَا الْبَلَد، وَلم يحل لأحد قبلك، وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " إِن مَكَّة حرَام، حرمهَا الله يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، لم تحل لأحد قبلي، وَلَا تحل لأحد بعدِي، وَإِنَّمَا أحلّت لي سَاعَة من نَهَار ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد} أَي: استحلوا مِنْك مَا حرمه الله من الْأَذَى، وإيصال الْمَكْرُوه إِلَيْك مَعَ اعْتِقَادهم حُرْمَة الْحرم، ذكره الْقفال.
وَالْقَوْل الثَّالِث: {وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد} أَي: نَازل بِهَذَا الْبَلَد، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى زِيَادَة حُرْمَة وَشرف للبلد لمَكَان النَّبِي فِيهِ.(6/225)
{ووالد وَمَا ولد (3) }(6/226)
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)
وَقَوله: {ووالد وَمَا ولد} قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير وَأَبُو صَالح مَعْنَاهُ: آدم وَولده، وَعَن أبي عمرَان [الْجونِي] : هُوَ إِبْرَاهِيم وَولده.
وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن قَوْله: {ووالد وَمَا ولد} هُوَ الْوَالِد والعاقر، معنى الَّذِي يلد، وَالَّذِي لَا يلد، فَتكون مَا للنَّفْي.(6/226)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
وَقَوله: {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي كبد} على هَذَا وَقع الْقسم، (وَمعنى الْقسم) وَمعنى الكبد: الشدَّة.
وروى شريك، عَن عَاصِم، عَن زر عَن عَليّ فِي قَوْله: {ووالد وَمَا ولد} آدم وَذريته، على مَا ذكرنَا.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو مُحَمَّد الصريفيني، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ، أخبرنَا عَليّ بن الْجَعْد، عَن شريك ... الْأَثر.
وَأما الكبد بَينا أَنه الشدَّة.
وروى عَليّ بن الْجَعْد، عَن عَليّ بن عَليّ الرِّفَاعِي، عَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لَيْسَ أحد يكابد من الشدَّة مَا يكابده الْإِنْسَان.
وَقَالَ سعيد " خلقنَا الْإِنْسَان فِي كبد " أَي: فِي مضائق الدُّنْيَا وشدائد الْآخِرَة.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِمَا ذكرنَا عَن الْحسن: الصريفيني، عَن [ابْن] حبابة، عَن الْبَغَوِيّ، عَن عَليّ ابْن الْجَعْد.
وَقيل فِي تَفْسِير الكبد: هُوَ أَنه يكابد ضيق الرَّحِم، وعسر الْخُرُوج من بطن الْأُم، ثمَّ يكون فِي الرِّبَاط والقماط، ثمَّ نَبَات الْأَسْنَان، ثمَّ الْخِتَان، ثمَّ إِذا بلغ التكليفات والأوامر والنواهي، ثمَّ يكابد أَمر معيشته، وَالْأَحْوَال المنقلبة عَلَيْهِ إِلَى أَن(6/226)
{لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي كبد (4) أيحسب أَن لن يقدر عَلَيْهِ أحد (5) يَقُول أهلكت مَالا لبدا (6) أيحسب أَن لم يره أحد (7) } يَمُوت، ثمَّ بعد ذَلِك مَا يعود إِلَى أهوال الْقَبْر وأهوال الْقِيَامَة، إِلَى أَن يسْتَقرّ فِي إِحْدَى المنزلتين.
وَقَالَ لبيد فِي الكبد.
{يَا عين هلا بَكَيْت أَرْبَد إِذْ ... قمنا وَقَامَ الْخُصُوم فِي كبد}
أَي: فِي شدَّة.
وَقَالَ إِبْرَاهِيم وَمُجاهد وَعبد الله بن شَدَّاد: فِي كبد أَي: فِي انتصاب، وَالْمعْنَى: أَنه خلق منتصبا فِي بطن أمه، غير منْكب على وَجهه بِخِلَاف سَائِر الْحَيَوَانَات.
وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الله تَعَالَى وكل ملكا بِالْوَلَدِ فِي بطن الْأُم فَإِذا قَامَت الْمَرْأَة، أَو اضطجعت رفع رَأس الْوَلَد؛ لِئَلَّا يغرق فِي الدَّم.(6/227)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
قَوْله تَعَالَى: {أيحسب الْإِنْسَان أَن لن يقدر عَلَيْهِ أحد} نزلت الْآيَة فِي [أبي] الأشدين، فَكَانَ رجلا من بني جمح من أقوى قُرَيْش وأشدهم، وَكَانَ يبسط لَهُ الْأَدِيم العكاظي، فَيقوم عَلَيْهِ، ويجتمع الْقَوْم على الْأَدِيم، فيجذبونه من تَحت قدمه فَيَنْقَطِع وَلَا تَزُول قدمه، وَكَانَ شَدِيدا فِي عَدَاوَة النَّبِي، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة فِيهِ.
وَمَعْنَاهُ: أيظن أَن لن يقدر عَلَيْهِ الله، وَقَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ مغترا بقوته وشدته.(6/227)
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)
وَقَوله: {يَقُول أهلكت مَالا لبدا} أَي: أنفقت مَالا كثيرا فِي عَدَاوَة مُحَمَّد، و " لبدا " أَي: بعضه على بعض.
قَالَ الْكَلْبِيّ: (وَكَانَ يكذب فِي ذَلِك،(6/227)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
فَقَالَ الله تَعَالَى: {أيحسب أَن لم يره أحد} أيحسب أَن الله لم ير مَا أنفقهُ، وَيُقَال: أيحسب أَن لم يطلع الله على فعله فيكذب، وَلَا يعلم الله كذبه.
قَالَ معمر: قُرِئت هَذِه الْآيَة عِنْد قَتَادَة، فَقَالَ: أيحسب أَن لن يسْأَله الله تَعَالَى من أَيْن جمعه، وَأَيْنَ أنفقهُ؟ .
وَعَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يُؤْتى بِالْعَبدِ يَوْم(6/227)
{ألم نجْعَل لَهُ عينين (8) وَلِسَانًا وشفتين (9) وهديناه النجدين (10) } الْقِيَامَة، فَيُقَال لَهُ: مَاذَا عملت بِمَالك؟ فَيَقُول: أنفقت، وزكيت طلبا لرضاك، فَيَقُول: كذبت إِنَّمَا أنفقت وَأعْطيت، ليقال: فلَان سخي، وَقد قيل ذَلِك، فجروه إِلَى النَّار ".
وَالْخَبَر طَوِيل صَحِيح خرجه مُسلم.
وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تَزُول قدما ابْن آدم يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يسْأَل عَن أَرْبَعَة: عَن عمره فِيمَا أفناه، وَعَن جسده فِيمَا أبلاه، وَعَن مَاله من أَيْن كَسبه وَأَيْنَ وَضعه ".(6/228)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)
قَوْله تَعَالَى: {ألم نجْعَل لَهُ عينين} قَالَ أهل التَّفْسِير: ثمَّ إِن الله تَعَالَى ذكر نعمه عَلَيْهِ وعظيم قدرته، ليعرف أَن الله تَعَالَى قَادر على إِعَادَته يَوْم الْقِيَامَة خلقا جَدِيدا، وَأَنه مسئول عَمَّا يَفْعَله.(6/228)
وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)
وَقَوله: {وَلِسَانًا وشفتين} ظَاهر الْمَعْنى.(6/228)
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
وَقَوله: {وهديناه النجدين} قَالَ ابْن مَسْعُود: سَبِيل الْخَيْر وسبيل الشَّرّ.
وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن قَوْله: {وهديناه النجدين} أَي: الْيَدَيْنِ.
وَالْقَوْل الأول أشهر، وَهُوَ قَول أَكثر الْمُفَسّرين.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِنَّمَا هما نجدان، نجد خير، ونجد شَرّ، فَلَا تجْعَل نجد الشَّرّ أحب السَّبِيل من نجد الْخَيْر ".(6/228)
{فَلَا اقتحم الْعقبَة (11) وَمَا أَدْرَاك مَا الْعقبَة (12) فك رَقَبَة (13) }(6/229)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
وَقَوله: {فَلَا اقتحم الْعقبَة} أَي: فَهَلا أنْفق مَاله الَّذِي أنفقهُ فِي عَدَاوَة مُحَمَّد فِي اقتحام الْعقبَة، وَيُقَال: {فَلَا اقتحم الْعقبَة} أَي: لم يقتحم الْعقبَة، وَمَعْنَاهُ: لم يجاوزها، وَقيل: إِن الْعقبَة جبل فِي النَّار، وَيُقَال: هبوط وصعود، مصعد سَبْعَة آلَاف سنة، ومهبط ألف سنة.
وَقيل: مصعد ألف عَام، وفيهَا غِيَاض ممتلئة من الأفاعي والحيات والعقارب.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي الْعقبَة: إِنَّهَا مجاهدة النَّفس والهوى والشيطان.
فعلى هَذَا ذكر الْعقبَة تَمْثِيل؛ لِأَن الْعقبَة يشق صعدوها، كَذَلِك الْإِنْسَان يشق عَلَيْهِ مجاهدة النَّفس والشيطان.(6/229)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الْعقبَة} أَي: فَمَا أَدْرَاك (مَا تجَاوز بهَا) الْعقبَة، ثمَّ فسر فَقَالَ: {فك رَقَبَة} وَفك الرَّقَبَة إعْتَاقهَا.
وروى عقبَة بن عَامر: أَن النَّبِي قَالَ: " من أعتق رَقَبَة، كَانَت فكاكه من النَّار ".
وَمن الْمَعْرُوف أَن رجلا أَتَى النَّبِي فَقَالَ: " يَا رَسُول الله، عَلمنِي عملا يدخلني الْجنَّة، فَقَالَ: لَئِن أقصرت الْخطْبَة فقد أَعرَضت فِي الْمَسْأَلَة، أعتق النَّسمَة، وَفك الرَّقَبَة، فَقَالَ: أوليسا وَاحِدًا يَا رَسُول؟ قَالَ: لَا، عتق النَّسمَة أَن تنفرد بِعتْقِهَا، وَفك الرَّقَبَة أَن تعين فِي ثمنهَا، وَعَلَيْك بالفيء على ذِي الرَّحِم الظَّالِم، فَإِن لم يكن ذَلِك، فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وَأمر بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنه(6/229)
{أَو إطْعَام فِي يَوْم ذِي مسغبة (14) يَتِيما ذَا مقربة (15) } . عَن الْمُنكر، فَإِن لم تطق ذَلِك، فَكف لسَانك إِلَّا من خير ".
وَورد - أَيْضا - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أعتق رَقَبَة مسلمة، أعتق الله بِكُل عُضْو مِنْهَا عضوا مِنْهُ من النَّار ".
وَالْخَبَر صَحِيح.
وَقُرِئَ: " فك رَقَبَة "، فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَمَعْنَاه: هِيَ فك رَقَبَة، وَمن قَرَأَ بِالنّصب فَمَعْنَاه: لَا يقتحم الْعقبَة إِلَّا من فك رَقَبَة.(6/230)
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
وَقَوله: {أَو إطْعَام فِي يَوْم ذِي مسغبة} أَي: إطْعَام مِسْكين فِي يَوْم ذِي جوع والسغب: الْجُوع، والمسغبة: المجاعة.
قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَو كنت جارا يَابْنَ قيس بن عَاصِم ... لما بت شبعانا وجارك ساغب)
أَي: جَائِع.(6/230)
يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)
وَقَوله: تَعَالَى: {يَتِيما ذَا مقربة} أَي: ذَا قرَابَة، واليتيم هُوَ الَّذِي لَا وَالِد لَهُ، وَيُقَال: هُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَبَوَانِ.
قَالَ قيس بن الملوح:
(إِلَى الله أَشْكُو فقد ليلِي كَمَا شكا ... إِلَى الله فقد الْوَالِدين يَتِيم)(6/230)
أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)
وَقَوله: {أَو مِسْكينا ذَا مَتْرَبَة} أَي: لصق بِالتُّرَابِ من الْفقر.
قَالَ مُجَاهِد: لَا يحول بَينه وَبَين التُّرَاب شَيْء.
وَقيل: ذَا مَتْرَبَة، أَي: ذَا زمانة، وَقيل ذَا مَتْرَبَة أَي: لَيْسَ لَهُ أحد من النَّاس.(6/230)
{أَو مِسْكينا ذَا مَتْرَبَة (16) ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَتَوَاصَوْا بالمرحمة (17) أُولَئِكَ أَصْحَاب الميمنة (18) وَالَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا هم أَصْحَاب المشأمة (19) عَلَيْهِم نَار مؤصدة (20) } .(6/231)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
وَقَوله: {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} يَعْنِي: يقتحم الْعقبَة من فعل هَذِه الْأَشْيَاء، فَكَانَ من الَّذين آمنُوا.
فَإِن قيل: كلمة " ثمَّ " للتراخي بِاتِّفَاق أهل اللُّغَة، فَكيف وَجه الْمَعْنى فِي الْآيَة، وَقد ذكر الْإِيمَان متراخيا عَن هَذِه الْأَشْيَاء؟
وَالْجَوَاب: قَالَ النّحاس: هُوَ مُشكل، وَأحسن مَا قيل فِيهِ أَن مَعْنَاهُ: ثمَّ أخْبركُم أَنه كَانَ من الَّذين آمنُوا حِين فعل هَذِه الْأَشْيَاء، وَقد قيل: إِن " ثمَّ " بِمَعْنى الْوَاو، وَلَيْسَ يَصح.
وَقَوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} أَي: بِالصبرِ عَن معاصي الله، وَقيل: بِالصبرِ على طَاعَة الله، وَقيل: بِالصبرِ عَن لذات الدُّنْيَا وشهواتها.
وَقَوله: {وَتَوَاصَوْا بالمرحمة} أَي: مرحمة بَعضهم على بعض، وَتَوَاصَوْا بالمرحمة هُوَ وَصِيَّة البعضِ البعضَ.(6/231)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
وَقَوله: {أُولَئِكَ أَصْحَاب الميمنة} أَي: أَصْحَاب الْيَمين، وهم الَّذين اسْتخْرجُوا من شقّ آدم الْأَيْمن، وَيُقَال: الَّذين [يُعْطون] الْكتاب بأيمانهم، وَقيل: الميامين على أنفسهم.(6/231)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
وَقَوله: {وَالَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا هم أَصْحَاب المشأمة} أَي: المشائيم على أنفسهم، وَيُقَال: هم الَّذين يُعْطون الْكتاب بشمالهم، وَكَذَلِكَ القَوْل الأول.(6/231)
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
وَقَوله: {عَلَيْهِم نَار مؤصدة} أَي: مطبقة، يُقَال: وصدت الْبَاب، وأصدته إِذا أطبقته، وَيُقَال: مؤصدة أَي: مُبْهمَة لَا بَاب لَهَا.
قَالَ الشَّاعِر:
(قوم يُصَالح شدَّة أبنائهم ... وسلاسلا حلقا وبابا مؤصدا) أَي مطبقاً(6/231)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَر إِذا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَار إِذا جلالها (3) وَاللَّيْل إِذا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بناها (5) وَالْأَرْض وَمَا طحاها (6) وَنَفس وَمَا} .
تَفْسِير سُورَة وَالشَّمْس
وَهِي مَكِّيَّة(6/232)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا} أَي: وضوئها، وَقيل: هُوَ النَّهَار كُله.(6/232)
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)
وَقَوله: {وَالْقَمَر إِذا تَلَاهَا} أَي: تبعها، وَهُوَ قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة وَعَامة الْمُفَسّرين، وَهُوَ مَرْوِيّ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس، وَمعنى تبعها: يَعْنِي أَن الشَّمْس إِذا غربت يَليهَا الْقَمَر فِي الضَّوْء، وَيُقَال: هُوَ فِي الْأَيَّام الْبيض إِذا غربت الشَّمْس طلع الْقَمَر، وَقيل: هُوَ فِي أول لَيْلَة من الشَّهْر، إِذا غربت الشَّمْس رئي الْهلَال، وعَلى الْجُمْلَة الْقَمَر أحد النيرين، وَهُوَ يَتْلُو الشَّمْس إِذا اسْتَدَارَ واستتمه فِي إضاءة الدُّنْيَا.(6/232)
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)
وَقَوله: {وَالنَّهَار إِذا جلاها} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: جلا الظلمَة فكنى عَن الظلمَة من غير ذكرهَا، وَهُوَ كثير فِي كَلَام الْعَرَب، وَالْقَوْل الآخر: جلاها أَي: جلا الشَّمْس؛ لِأَن النَّهَار إِذا ارْتَفع أَضَاءَت الشَّمْس وانبسطت.(6/232)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
وَقَوله: {وَاللَّيْل إِذا يَغْشَاهَا} يَعْنِي: إِذا يغشى الشَّمْس أَي: يستر ضوءها.(6/232)
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)
وَقَوله: {وَالسَّمَاء وَمَا بناها} مَعْنَاهُ: وَمن بناها، وَقيل: وَالَّذِي بناها.
وَعَن ابْن الزبير أَنه سمع صَوت الرَّعْد فَقَالَ: سُبْحَانَ مَا سبحت لَهُ، أَي: الَّذِي سبحت لَهُ، وَيُقَال: وَمَا بناها أَي: وبنائها.(6/232)
وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)
وَقَوله: {وَالْأَرْض وَمَا طحاها} أَي: وَمن بسطها، وَقيل: الأَرْض وطحوها أَي: وبسطها.(6/232)
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
وَقَوله: {وَنَفس وَمَا سواهَا} أَي: وَمن سواهَا، وَقد بَينا معنى التَّسْمِيَة، وَقيل: هُوَ(6/232)
{سواهَا (7) فألهمها فجورها وتقواها (8) قد أَفْلح من زكاها (9) وَقد خَابَ من دساها (10) } . اعْتِدَال الْقَامَة.(6/233)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
وَقَوله: {فألهمها فجورها وتقواها} أَي: عرفهَا وأعلمها، وَقَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَغَيرهمَا: جعل فِي قلبه فجورها وتقواها، وَهُوَ أولى من القَوْل الأول؛ لِأَن الإلهام فِي اللُّغَة فَوق التَّعْرِيف والإعلام.
وَقَالَ الزّجاج: عدلها للفجور، ووفقها للتقوى(6/233)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
{قد أَفْلح من زكاها} على هَذَا وَقع الْقسم، وَالْمعْنَى: قد أفلحت نفس زكاها الله.(6/233)
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
وَقَوله: {وَقد خَابَ من دساها} أَي: وخاب نفس دساها الله، وَقيل: أَفْلح من زكى نَفسه وَأَصْلَحهَا، وخاب من أخمد نَفسه ودسها، فعلى هَذَا قَوْله: {دساها} أَي: دسيها.
يَقُول الشَّاعِر:
(يقْضِي الْبَازِي إِذا الْبَازِي انْكَسَرَ ... )
أَي: يقضض الْبَازِي.
قَالَ الْفراء: الْعَامِل بِالْفُجُورِ خامل عِنْد النَّاس غامض الشَّخْص، منكسر الرَّأْس، والمتقي عَال مُرْتَفع.
وَقَالَ ثَعْلَب: " من دساها " أَي: أغواها، وَعنهُ أَنه قَالَ: دساها أَي: دس نَفسه فِي أهل الْخَيْر وَلَيْسَ مِنْهُم.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَأَنت الَّذِي دسيت عمرا فَأَصْبَحت ... حلائله مِنْهُ أرامل ضيعا)
وَقَوله: " دساها " هَاهُنَا: أهلكت، فعلى هَذَا معنى قَوْله: {وَقد خَابَ من دساها} أَي: أهلكها بِالْمَعَاصِي.
وروى نَافِع بن عمر الجُمَحِي، عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: قَالَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - انْتَبَهت لَيْلَة فَوجدت رَسُول الله وَهُوَ يَقُول: " أعْط نفس تقواها، وزكها أَنْت خير من زكاها، أَنْت وَليهَا ومولاها ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو(6/233)
{كذبت ثَمُود بطغواها (11) إِذْ انْبَعَثَ أشقاها (12) فَقَالَ لَهُم رَسُول الله نَاقَة الله وسقياها (13) فَكَذبُوهُ فَعَقَرُوهَا} . الْغَنَائِم عبد الصَّمد بن عَليّ العباسي، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن عَليّ بن عِيسَى، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا دَاوُد بن عَمْرو الضَّبِّيّ، عَن نَافِع بن عمر ... الحَدِيث.(6/234)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)
وَقَوله: {كذبت ثَمُود بطغواها} أَي: بطغيانها، وَيُقَال: بأجمعها.(6/234)
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)
وَقَوله: {إِذْ انْبَعَثَ أشقاها} هُوَ قدار بن سالف، وَقد بَينا من قبل.
وروى رشدين، عَن يزِيد بن عبد الله بن سَلامَة، عَن عُثْمَان بن صُهَيْب، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله لعَلي: " من أَشْقَى الْأَوَّلين؟ قَالَ: عَاقِر النَّاقة، قَالَ: صدقت، قَالَ: فَمن أَشْقَى الآخرين؟ قَالَ: قلت: لَا أعلم يَا رَسُول الله.
قَالَ: الَّذِي يَضْرِبك على هَذِه، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى يَافُوخه ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا كَرِيمَة بنت أَحْمد قَالَت: أخبرنَا أَبُو عَليّ زَاهِر بن أَحْمد، أخبرنَا مُحَمَّد بن إِدْرِيس [السَّامِي] ، أخبرنَا سُوَيْد بن سعيد، عَن رشدين. . الْخَبَر وَهُوَ غَرِيب.(6/234)
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
وَقَوله: {فَقَالَ لَهُم رَسُول الله} ، وَهُوَ صَالح.
وَقَوله: {نَاقَة الله وسقياها} أَي: ذَروا نَاقَة الله وسقياها، وَمعنى سقياها: شربهَا على مَا قَالَ فِي مَوضِع آخر: {لَهَا شرب وَلكم شرب يَوْم مَعْلُوم} .(6/234)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
وَقَوله: {فَكَذبُوهُ فَعَقَرُوهَا} أَي: فكذبوا صَالحا، وعقروا النَّاقة.(6/234)
{فدمدم عَلَيْهِم رَبهم بذنبهم فسواها (14) وَلَا يخَاف عقباها (15) } .
وَقَوله: {فدمدم عَلَيْهِم رَبهم بذنبهم} عَن ابْن الزبير: أَنه " فرمرم عَلَيْهِم رَبهم "، وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَيُقَال: دمدم أَي: غضب عَلَيْهِم رَبهم، يُقَال: فلَان يدمدم إِذا كَانَ يتَكَلَّم بغضب.
وَالْقَوْل الْمَعْرُوف أَن معنى قَوْله: {فدمدم عَلَيْهِم} أَي: أطبق عَلَيْهِم بِالْعَذَابِ يَعْنِي: عمهم وَلم يبْق مِنْهُم أحدا، وَيُقَال: الدمدمة هُوَ الْهَلَاك باستئصال.
وَقَوله: {بذنبهم فسواها} أَي: سواهُم بِالْأَرْضِ، فَلم يبْق مِنْهُم أحدا صَغِيرا وَلَا كَبِيرا.
وَيُقَال: سوى بَينهم بِالْعَذَابِ.(6/235)
وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
وَقَوله: {وَلَا يخَاف عقبيها} وَقُرِئَ: " فَلَا يخَاف عقباها " وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الله تَعَالَى لَا يخَاف أَن يتبعهُ أحد بِمَا فعل، قَالَه الْحسن وَغَيره، وَالْقَوْل الثَّانِي: لم يخف عَاقِر النَّاقة عَاقِبَة فعله، وَالله أعلم.(6/235)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَاللَّيْل إِذا يغشى (1) وَالنَّهَار إِذا تجلى (2) وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى (3) إِن سعيكم لشتى (4) } .
تَفْسِير سُورَة وَاللَّيْل
وَهِي مَكِّيَّة(6/236)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)
قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّيْل إِذا يغشى} قَالَ قَتَادَة: يغشى الْأُفق بظلمته، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: يغشى مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض بظلمته.
وَقيل: {وَاللَّيْل إِذا يغشى} أَي: أظلم.
وَيُقَال: يغشى النَّهَار.(6/236)
وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)
وَقَوله: {وَالنَّهَار إِذا تجلى} مَعْنَاهُ: إِذا أَضَاء وانكشف، وَيُقَال: جلّ الظلمَة فَكَأَنَّهُ قَالَ: تجلت الظلمَة بهَا.(6/236)
وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)
وَقَوله: {وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى} قَرَأَ ابْن مَسْعُود وَأَبُو الدَّرْدَاء: " وَالذكر وَالْأُنْثَى " وَقد صَحَّ هَذَا بروايتهما عَن النَّبِي أَنه قَرَأَ كَذَلِك، وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: {وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى} وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى مثل قَوْله: {وَالسَّمَاء وَمَا بناها} أَي: فَمن بناها.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى.
وَذكر الْفراء والزجاج: أَن الذّكر وَالْأُنْثَى هُوَ آدم وحواء.
وَقد قيل: إِنَّه على الْعُمُوم، وَللَّه أَن يقسم بِمَا شَاءَ من خلقه، وَقد ذكرنَا أَن الْقسم على تَقْدِيره ذكر الرب، وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَرب اللَّيْل، وَرب النَّهَار إِلَى آخِره.(6/236)
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
وَقَوله: {إِن سعيكم لشتى} على هَذَا وَقع الْقسم، وَالْمعْنَى: إِن عَمَلكُمْ(6/236)
{فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى (5) وَصدق بِالْحُسْنَى (6) فسنيسره لليسرى (7) وَأما من بخل وَاسْتغْنى (8) } . مُخْتَلف، وَقيل: إِن سعيكم لشتى أَي: مِنْكُم الْمُؤمن وَالْكَافِر، والصالح والطالح، والشكور والكفور، وأمثال هَذَا.
قَالَ الشَّاعِر:
(سعى الْفَتى لأمور لَيْسَ يُدْرِكهَا ... فَالنَّفْس وَاحِدَة والهم منتشر)
(والمرء مَا عَاشَ مَمْدُود لَهُ أثر ... لَا يَنْتَهِي الْعُمر حَتَّى يَنْتَهِي الْأَثر)(6/237)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)
قَوْله تَعَالَى: {فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى} ذهب أَكثر الْمُفَسّرين إِلَى أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق، رَضِي الله عَنهُ.
وَقَوله تَعَالَى: {أعْطى وَاتَّقَى} أَي: بذل المَال بِالصَّدَقَةِ، وحاذر من الله تَعَالَى.(6/237)
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)
وَقَوله تَعَالَى: {وَصدق بِالْحُسْنَى} أَي: بالخلق من الله تَعَالَى [قَالَه] عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ أشهر الْأَقَاوِيل.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَصدق بِالْحُسْنَى أَي: بِالْجنَّةِ، قَالَه مُجَاهِد.
وَقيل: بالثواب، وَقَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَعَطَاء: صدق بِالْحُسْنَى أَي: بِلَا إِلَه إِلَّا الله.(6/237)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)
وَقَوله: {فسنيسره لليسرى} أَي: للحالة الْيُسْرَى وَالْمعْنَى: يسهل عَلَيْهِ طَرِيق (الطَّاعَات) ، والأعمال الصَّالِحَة، قَالَ الْأَزْهَرِي: ييسر عَلَيْهِ مَا لَا ييسر إِلَّا على الْمُسلمين.(6/237)
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)
قَوْله تَعَالَى: {وَأما من بخل وَاسْتغْنى} يُقَال: نزلت الْآيَة فِي أُميَّة بن خلف، وَقيل: فِي أبي سُفْيَان بن حَرْب.(6/237)
{وَكذب بِالْحُسْنَى (9) فسنيسره للعسرى (10) } .
وَقَوله: {بخل} أَي: بخل بِمَالِه، وَاسْتغْنى أَي: عَن ثَوَاب ربه.(6/238)
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)
وَقَوله: {وَكذب بِالْحُسْنَى} هُوَ مَا بَينا.(6/238)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
وَقَوله: {فسنيسره للعسرى} أَي: يسهل عَلَيْهِ طَرِيق الشَّرّ، وروى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: يحول بَينه وَبَين الْإِيمَان بِاللَّه وبرسوله.
قَالَ الْفراء: فَإِن سَأَلَ سَائل قَالَ: كَيفَ يستقم قَوْله: {فسنيسره للعسرى} وَكَيف ييسر العسير؟ أجَاب عَن هَذَا: أَن هَذَا مثل قَوْله تَعَالَى {فبشر الَّذين كفرُوا بِعَذَاب أَلِيم} فَوضع الْبشَارَة مَوضِع الْوَعيد بالنَّار، وَإِن لم تكن بِشَارَة على الْحَقِيقَة، كَذَلِك وضع التَّيْسِير فِي هَذَا الْموضع، وَإِن كَانَ تعسيرا فِي الْحَقِيقَة.
وَقد ذكر عَطاء الْخُرَاسَانِي أَن الْآيَة نزلت فِي رجل من الْأَنْصَار كَانَ لَهُ حَائِط، وَله نَخْلَة تتدلى فِي دَار جَاره، وَيَأْكُل جَاره مِمَّا يسْقط من ثمارها، فَمَنعه الْأنْصَارِيّ، فَشكى ذَلِك الْفَقِير إِلَى رَسُول الله، فَقَالَ النَّبِي للْأَنْصَارِيِّ: " بِعني هَذِه النَّخْلَة بنخلة لَك فِي الْجنَّة، فَأبى أَن يَبِيع، فاشتراها مِنْهُ أَبُو الدحداح بحائط لَهُ، وَأَعْطَاهَا ذَلِك الْفَقِير، فَأنْزل الله تَعَالَى فيهمَا هَذِه الْآيَات.
وَالأَصَح أَن الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة على قَول الْجَمِيع، فَلَا يَسْتَقِيم أَن تكون الْآيَة منزلَة فِي أحد من الْأَنْصَار.
وَقد (ورد) فِي الْآيَتَيْنِ خبر صَحِيح، وَهُوَ مَا روى مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، عَن سعد بن عُبَيْدَة، عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، عَن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ: " كُنَّا فِي جَنَازَة بِالبَقِيعِ، فَأتى النَّبِي فَجَلَسَ وَجَلَسْنَا مَعَه، وَمَعَهُ عود ينكت بِهِ فِي الأَرْض، فَرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء وَقَالَ: مَا من نفس منفوسة إِلَّا وَقد كتب مدخلها، فَقَالَ الْقَوْم: يَا رَسُول الله، أَفلا نَتَّكِل على كتَابنَا، فَمن كَانَ من أهل السَّعَادَة فَإِنَّمَا يعْمل للسعادة، وَمن كَانَ من أهل الشَّقَاء فَإِنَّهُ يعْمل للشقاء، قَالَ:(6/238)
{وَمَا يُغني عَنهُ مَاله إِذا تردى (11) إِن علينا للهدى (12) وَإِن لنا للآخرة وَالْأولَى (13) فأنذرتكم نَارا تلظى (14) لَا يصلاها إِلَى الأشقى (15) الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} . بل اعْمَلُوا فَكل ميسر، أما من كَانَ من أهل السَّعَادَة فَإِنَّهُ ييسر لعمل السَّعَادَة، وَأما من كَانَ من أهل الشَّقَاء فَإِنَّهُ ييسر بِعَمَل الشَّقَاء، ثمَّ قَرَأَ: {فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى وَصدق بِالْحُسْنَى فسنيسره لليسرى وَأما من بخل وَاسْتغْنى وَكذب بِالْحُسْنَى فسنيسره للعسرى} .
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس، أخبرنَا الديبلي أخبرنَا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن مَنْصُور الحَدِيث.(6/239)
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُغني عَنهُ مَاله إِذا تردى} مَعْنَاهُ: إِذا هلك، يُقَال: تردى أَي: سقط فِي النَّار، وَهُوَ الْأَصَح؛ لِأَن التردي فِي اللُّغَة هُوَ السُّقُوط، يُقَال: تردى من مَكَان كَذَا أَي: سقط.(6/239)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)
وَقَوله: {إِن علينا للهدى} قَالَ الزّجاج: علينا بَيَان الْحَلَال وَالْحرَام، وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة.
وَيُقَال: من سلك سَبِيل الْهدى، فعلينا هداه مثل قَوْله {وعَلى الله قصد السَّبِيل} أَي: بَيَان السَّبِيل لمن قصد.(6/239)
وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)
وَقَوله: {وَإِن لنا للآخرة وَالْأولَى} أَي: ملك الْآخِرَة وَالْأولَى، وَقيل: ثَوَاب الْآخِرَة وَالْأولَى.(6/239)
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
وَقَوله: {فأنذرتكم نَارا تلظى} أَي: تتلظى، وَمَعْنَاهُ: تتوهج.(6/239)
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
وَقَوله: {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} أَي: كذب بِاللَّه، وَأعْرض عَن طَاعَته.
وَفِي الْآيَة سُؤال للمرجئة والخوارج، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى} أَي: لَا يقاسي حرهَا، وَلَا يدخلهَا إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى، فَدلَّ أَن(6/239)
( {16) وسيجنبها الأتقى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَاله يتزكى (18) } .
الْمُؤمن وَإِن ارْتكب الْكَبَائِر لَا يدْخل النَّار، هَذَا للمرجئة، وَأما الْخَوَارِج قَالُوا: قد وافقتمونا أَن صَاحب الْكَبَائِر يدْخل النَّار، فَدلَّ أَنه كفر بارتكاب الْكَبِيرَة، والتحق بِمن كذب وَتَوَلَّى حَيْثُ قَالَ الله تَعَالَى: {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} .
وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن مَعْنَاهُ: لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى، فالأشقى هم أَصْحَاب الْكَبَائِر، وَالَّذِي كذب وَتَوَلَّى هم الْكفَّار.
وَالْعرب تَقول: أكلت خبْزًا لَحْمًا تَمرا.
أَي: وَلَحْمًا وَتَمْرًا، وحذفوا الْوَاو، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَأنْشد أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ:
(كَيفَ أَصبَحت كَيفَ أمسيت فَمَا ... يثبت الود فِي فؤاد الْكَرِيم)
أَي: وَكَيف أمسيت؟
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن للنار دركات، وَالْمرَاد من الْآيَة دركة بِعَينهَا، لَا يدخلهَا إِلَّا الْكفَّار، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} دلّت الْآيَة أَنه مَخْصُوص لِلْمُنَافِقين، وَهَذَا جَوَاب مَعْرُوف.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن الْمَعْنى: لَا يصلاها، لَا يدخلهَا خَالِدا فِيهَا إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى، وَصَاحب الْكَبِيرَة وَإِن دَخلهَا لَا يخلد فِيهَا.(6/240)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
وَقَوله: {وسيجنبها الأتقى الَّذِي يُؤْتِي مَاله يتزكى} أَي: يُعْطي مَاله ليصير زاكيا طَاهِرا، وَهُوَ وَارِد فِي أبي بكر الصّديق على قَول أَكثر الْمُفَسّرين، وَيُقَال: إِن الْآيَة الأولى نزلت فِي أُميَّة بن خلف، وَأما إيتاؤه المَال فَهُوَ أَنه أعتق سَبْعَة نفر كَانُوا يُعَذبُونَ فِي الله، مِنْهُم بِلَال الْخَيْر، وعامر بن فهَيْرَة، والنهدية، وزنيرة، وَغَيرهم.
وروى أَنه لما اشْترى الزنيرة وأعتقها - وَكَانَت قد أسلمت - عميت عَن قريب، فَقَالَ الْمُشْركُونَ: أعماها اللات والعزى، فَقَالَت: أَنا أكفر بِاللات والعزى، فَرد الله عَلَيْهَا بصرها.
وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي مر على بِلَال، وَهُوَ يعذب فِي رَمْضَاءُ مَكَّة، وَهُوَ يَقُول: أحد أحد، فَقَالَ النَّبِي: " سينجيك أحد، ثمَّ إِنَّه أَتَى أَبَا بكر وَقَالَ: رَأَيْت بِلَالًا(6/240)
{وَمَا لأحد عِنْده من نعْمَة تجزى (19) إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى (20) ولسوف يرضى (21) } . يعذب فِي الله، فَذهب أَبُو بكر إِلَى بَيته، وَأخذ رطلا من ذهب، وَجَاء إِلَى أُميَّة بن خلف وَاشْتَرَاهُ مِنْهُ وَأعْتقهُ، فَقَالَت قُرَيْش: إِنَّمَا أعْتقهُ ليد لَهُ عِنْده،(6/241)
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)
فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا لأحد عِنْده من نعْمَة تجزى إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى} أَي: إِلَّا طلب رِضَاء ربه المتعالى.(6/241)
وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
وَقَوله: {ولسوف يرضى} أَي: يرضى ثَوَابه فِي الْآخِرَة، وَالْمعْنَى: يُعْطِيهِ الله حَتَّى يرضى.
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: " أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - أَتَى النَّبِي فَقَالَ: قل لأبي بكر يَقُول الله تَعَالَى: أَنا عَنْك رَاض، فَهَل أَنْت عني رَاض؟ ، فَذكر ذَلِك لأبي بكر [فَبكى] وخر سَاجِدا، وَقَالَ: أَنا عَن رَبِّي رَاض، أَنا عَن رَبِّي رَاض ".
وروى عَليّ أَن النَّبِي قَالَ: " رحم الله أَبَا بكر، زَوجنِي ابْنَته، وحملني إِلَى دَار الْهِجْرَة، وَاشْترى بِلَالًا وَأعْتقهُ ".(6/241)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْل إِذا سجى (2) مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى (3) } .
تَفْسِير سُورَة الضُّحَى
وَهِي مَكِّيَّة(6/242)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
قَوْله تَعَالَى: {وَالضُّحَى} أقسم بِالنَّهَارِ كُله، وَقيل: بِوَقْت الضحوة، وَهُوَ وَقت ارْتِفَاع الشَّمْس.
قَالَ مُجَاهِد: سجى: اسْتَوَى، وَقَالَ عِكْرِمَة: سكن الْخلق فِيهِ، وَقيل: اسْتَقَرَّتْ ظلمته.
قَالَ الْأَصْمَعِي: سجو اللَّيْل: تَغْطِيَة النَّهَار، يُقَال: ليل داج، وبحر سَاج، وسماء ذَات أبراج، قَالَ الراجز:
(يَا حبذا القمراء وَاللَّيْل (الداج)
وطرق مثل ملاء النساج)
وَقَالَ آخر:
(فَمَا ذنبنا أَن جاش بَحر ابْن عمكم ... وبحرك سَاج (مَا) يواري الدعامصا)(6/242)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)
وَقَوله: {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} قَالَ أهل التَّفْسِير: أَبْطَأَ جِبْرِيل عَن الرَّسُول مرّة؛ فَقَالَت قُرَيْش: ودعه ربه وقلاه.
وَرُوِيَ أَن امْرَأَة قَالَت لَهُ: يَا مُحَمَّد، أرى أَن شَيْطَانك قد تَركك؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، وَأقسم بِمَا ذكرنَا أَنه مَا ودعه وَمَا قلاه.
وروى زُهَيْر، عَن الْأسود بن قيس، عَن جُنْدُب البَجلِيّ قَالَ: كنت مَعَ النَّبِي فِي غَازِيَة، فدميت أُصْبُعه، فَقَالَ النَّبِي.(6/242)
{هَل أَنْت إِلَّا أصْبع دميت ... وَفِي سَبِيل الله مَا لقِيت}
قَالَ: فَأَبْطَأَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فَقَالَ الْمُشْركُونَ: قد ودع مُحَمَّد؛ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مُحَمَّد الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق الْكشميهني، أخبرنَا جدي أَبُو الْهَيْثَم الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا أَحْمد بن يُونُس، عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة بن حديج الحَدِيث.
وَذكر بَعضهم: أَن الْآيَة نزلت حِين سَأَلَ الْيَهُود رَسُول الله عَن خبر أَصْحَاب الْكَهْف وَعَن ذِي القرنين، وَعَن الرّوح فَقَالَ: سأخبركم غَدا، وَلم يقل: إِن شَاءَ الله، فَتَأَخر جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - سَبْعَة عشر يَوْمًا، وَقيل: أقل أَو أَكثر، فَقَالَ الْمُشْركُونَ: قد ودعه ربه وقلاه؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة ".
وَقد قرئَ فِي الشاذ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْمَعْرُوف بِالتَّشْدِيدِ أَي: مَا قطع عَنْك الْوَحْي، (وَقيل) : مَا أعرض عَنْك.
وبالتخفيف مَعْنَاهُ: مَا تَركك، تَقول الْعَرَب: دع هَذَا، وذر هَذَا، واترك هَذَا بِمَعْنى وَاحِد.
وَقَوله: {وَمَا قلى} أَي: مَا قلاك بِمَعْنى: مَا أبغضك، (وَقيل) : مَا تَركك مُنْذُ قبلك، وَمَا أبغضك مُنْذُ أحبك.
قَالَ الأخطل:
(المهديات هُوَ من بَيته ... والمحسنات لمن قلين مقَالا)
أَي: أبغضن.(6/243)
{وللآخرة خير لَك من الأولى (4) ولسوف يعطيك رَبك فترضى (5) ألم يجدك يَتِيما فآوى (6) ووجدك ضَالًّا فهدى (7) } .(6/244)
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
وَقَوله: {وللآخرة خير لَك من الأولى} يَعْنِي: ثَوَاب الله خير لَك من نعيم الدُّنْيَا، وَقد روى أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - دخل على النَّبِي فَرَآهُ مضجعا على حَصِير، قد أثر الْحَصِير فِي جنبه، فَبكى عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ رَسُول الله: " وَمَا يبكيك يَا عمر؟ فَقَالَ: ذكرت كسْرَى وَقَيْصَر وَمَا هما فِيهِ من النَّعيم، وَذكرت حالك وَأَنت رَسُول الله.
فَقَالَ لَهُ النَّبِي: أما ترْضى أَن تكون لَهُم الدُّنْيَا ".(6/244)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
وَقَوله: {ولسوف يعطيك رَبك فترضى} أَي: من الثَّوَاب والكرامة والمنزلة حَتَّى [ترْضى] ، وَفِي بعض التفاسير: هُوَ ألف قصر من اللُّؤْلُؤ وترابها الْمسك، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه الشَّفَاعَة لأمته، وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ الباقر قَالَ: إِنَّكُم تَقولُونَ: إِن أَرْجَى آيَة فِي كتاب الله تَعَالَى قَوْله: {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله} الْآيَة، وَنحن نقُول: أَرْجَى آيَة فِي كتاب الله تَعَالَى هُوَ قَوْله: {ولسوف يعطيك رَبك فترضى} يَعْنِي: أَنه يشفعه فِي أمته حَتَّى يرضى.(6/244)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
قَوْله تَعَالَى: {ألم يجدك يَتِيما فآوى} سَمَّاهُ يَتِيما؛ لِأَن أَبَاهُ توفّي وَهُوَ حمل، وَقيل: بعد وِلَادَته بشهرين، وَتوفيت أمه وَهُوَ ابْن سِتّ سِنِين، وكفله جده عبد الْمطلب، ثمَّ مَاتَ وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين، وكفله عَمه أَبُو طَالب، وَمعنى قَوْله: {فأوى} أَي: جعل لَك مأوى، وَهُوَ أَبُو طَالب، وَالْمعْنَى: يأوي إِلَيْهِ، وَتُوفِّي أَبُو طَالب قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين.(6/244)
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
وَقَوله: {ووجدك ضَالًّا فهدى} أَي: عَن الشَّرَائِع وَالْإِسْلَام فهداك إِلَيْهَا، وَيُقَال: عَن النُّبُوَّة، وَقيل: ووجدك ضَالًّا أَي: غافلا عَمَّا يُرَاد بك فهداك إِلَيْهِ، وَهُوَ أحسن(6/244)
{ووجدك عائلا فأغنى (8) فَأَما الْيَتِيم فَلَا تقهر (9) } الْأَقَاوِيل.
وَقيل: ضَالًّا عَن طَرِيق الْحق فهداك إِلَيْهِ.
وَعَن بَعضهم: وَجدك فِي قوم ضال، وَأولى الْأَقَاوِيل أَن يكون مَحْمُولا على الشَّرَائِع، وَمَا أنزل الله مثل قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان} أَو يكون الْمَعْنى وَجدك ضَالًّا أَي: غافلا عَن النُّبُوَّة وَالْوَحي الَّذِي أنزل إِلَيْهِ مثل قَوْله فِي قصَّة مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ -: {قَالَ فعلتها إِذا وَأَنا من الضَّالّين} أَي: من الغافلين.(6/245)
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
وَقَوله: {ووجدك عائلا فأغنى} أَي: فَقِيرا فأغناك بِمَال خَدِيجَة.
[وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل] : أَغْنَاك بِالرِّضَا والقناعة بِمَا أَعْطَاك، وَهُوَ أولى الْقَوْلَيْنِ، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَيْسَ الْغنى عَن كَثْرَة الْعرض، إِنَّمَا الْغنى غنى الْقلب "، وَأنْشد بَعضهم:
(فَمَا يدْرِي الْفَقِير مَتى غناهُ ... وَمَا يدْرِي الْغَنِيّ مَتى يعيل)
أَي: يفْتَقر.
وَيُقَال: {ووجدك عائلا} أَي: ذَا عِيَال، فأغنى أَي: كَفاك مؤنتهم، وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " يَا رب، إِنَّك اتَّخذت إِبْرَاهِيم خَلِيلًا ومُوسَى كليما، وسخرت مَعَ دَاوُد الْجبَال، وَفعلت كَذَا وَكَذَا، فَمَا فعلت بِي؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {ألم يجدك يَتِيما فآوى} وَالسورَة الْأُخْرَى، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {ألم نشرح لَك(6/245)
{وَأما السَّائِل فَلَا تنهر (10) وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث (11) } صدرك) وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن الرَّسُول قَالَ: " وددت أَنِّي لم أقل مَا قلت ".(6/246)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)
قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَما الْيَتِيم فَلَا تقهر} أَي لَا تحتقره، وَالْمَعْرُوف: لَا تظلمه أَي: تَأْخُذ حَقه وتتقوى بِهِ، وَقد كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَفْعَلُونَ ذَلِك فِي أَمْوَال الْيَتَامَى.
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " فَلَا تَكْهَر " أَي: لَا تزجره.(6/246)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
وَقَوله: {وَأما السَّائِل فَلَا تنهر} أَي: رد بِرِفْق ولين، فإمَّا أَن تعطيه، وَإِمَّا أَن ترده بالرفق وَتَدْعُو لَهُ، وَحكى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: مَحْمُول على سَائل الْعلم دون سَائل الطَّعَام، وَعَن أبي الدَّرْدَاء - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ إِذا جَاءَهُ طَالب علم قَالَ: مرْحَبًا بأحبة رَسُول الله، وَعَن إِبْرَاهِيم بن أدهم - قدس الله روحه - قَالَ: إِنِّي أَظن أَن الله تَعَالَى يصرف الْعقُوبَة عَن أهل الدُّنْيَا برحلة أَصْحَاب الحَدِيث فِي طلب الْعلم.(6/246)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
وَقَوله تَعَالَى: {وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث} أَي: بِالنُّبُوَّةِ.
وَقَوله: {فَحدث} أَي: ادْع النَّاس إِلَيْهَا، وَقد كَانَ يكتم زَمَانا ثمَّ أظهرها، وَقيل: هُوَ الْقُرْآن فعلى هَذَا قَوْله: {فَحدث} أَي: اتله على النَّاس، وَيُقَال: جَمِيع النعم.
وَقَوله: {فَحدث} أَي: أظهر بالشكر، وَعَن الْحسن بن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: إِذا أصبت خيرا أَو نعْمَة فَحدث بِهِ الثِّقَات من إخوانك.
وَعَن عَمْرو بن مَيْمُون أَنه قَالَ: من قَامَ لورده فِي اللَّيْل فَلَا بَأْس أَن يحدث بِهِ الثِّقَة من إخوانه، وَيَقُول: رَزَقَنِي الله كَذَا وَكَذَا.
وَفِي(6/246)
بعض الْأَخْبَار: " أَن إِظْهَار النِّعْمَة شكر، وَالسُّكُوت عَنْهَا كفر " وَالله أعلم.
وَقَرَأَ ابْن كثير - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - من هَذَا الْموضع بِالتَّكْبِيرِ فِي خَوَاتِم السُّور إِلَى آخر الْقُرْآن، وَذكر أَنه قَرَأَ على مُجَاهِد فَأمره بذلك، وَقَرَأَ مُجَاهِد على ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَأمره بذلك، وقرأن ابْن عَبَّاس على أبي بن كَعْب - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَأمره بذلك، وَقَرَأَ (ابْن مَسْعُود) على النَّبِي فَأمره بذلك.
وَالتَّكْبِير هُوَ قَوْله: الله أكبر، قَالُوا: وَسبب هَذَا أَن الْمُشْركين لما قَالُوا للنَّبِي إِن ربه ودعه وقلاه، وَفِي رِوَايَة أَنهم قَالُوا: قد هجره شَيْطَانه، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة وفيهَا قَوْله تَعَالَى: {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} كبر النَّبِي فَرحا بنزول هَذِه السُّورَة، فَصَارَ سنة إِلَى آخر الْقُرْآن.
وَالله أعلم.(6/247)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{ألم نشرح لَك صدرك}
تَفْسِير سُورَة ألم نشرح
وَهِي مَكِّيَّة(6/248)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
قَوْله تَعَالَى: {ألم نشرح لَك صدرك} مَعْنَاهُ: ألم نفتح لَك صدرك؟ وَقيل: ألم نوسع لَك صدرك، وَالْقَوْل الأول، قَالَه مُجَاهِد وَالْحسن.
وَقَالَ السّديّ: ألم نلين لَك قَلْبك، وَقَالَ الْحسن فِي رِوَايَة أُخْرَى: {ألم نشرح لَك صدرك} مَعْنَاهُ: أَنه ملئ حِكْمَة وإيمانا.
وَقد ورد فِي الْأَخْبَار بِرِوَايَة قَتَادَة، عَن أنس، [عَن] مَالك بن صعصعة، أَن نَبِي الله قَالَ: " بَيْنَمَا أَنا عِنْد الْبَيْت بَين النَّائِم وَالْيَقظَان إِذْ سَمِعت قَائِلا يَقُول: هُوَ بَين الثَّلَاثَة، فَأتيت بطست من ذهب فِيهِ مَاء زَمْزَم، فشرح الله صَدْرِي إِلَى كَذَا وَكَذَا.
قَالَ قَتَادَة: قلت: مَا تَعْنِي؟ قَالَ: إِلَى أَسْفَل بَطْني، فاستخرج قلبِي وغسله بِمَاء زَمْزَم، ثمَّ أَعَادَهُ إِلَى مَكَانَهُ، ثمَّ حشاه إِيمَانًا وَحِكْمَة ".
وَفِي الحَدِيث قصَّة طَوِيلَة، قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث القَاضِي الإِمَام أَبُو الدَّرْدَاء، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن سراج، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن مَحْبُوب أخبرنَا أَبُو عِيسَى الْحَافِظ، أخبرنَا مُحَمَّد بن بشار، أخبرنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَابْن أبي عدي، عَن سعيد بن أبي (عرُوبَة) ، عَن قَتَادَة، عَن أنس بن مَالك الحَدِيث.
وَهُوَ حَدِيث صَحِيح.
وَورد أَيْضا فِي الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا دخل النُّور فِي قلب الْمُؤمن انْشَرَحَ وانفسخ.
فَقيل يَا رَسُول الله وَهل لذَلِك من عَلامَة؟ قَالَ التَّجَافِي عَن دَار الْغرُور، والإنابة إِلَى دَار الخلود، والاستعداد للْمَوْت قبل حُلُول الْمَوْت ".(6/248)
{ووضعنا عَنْك وزرك (2) الَّذِي أنقض ظهرك (3) ورفعنا لَك ذكرك (4) }(6/249)
وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
وَقَوله: {ووضعنا عَنْك وزرك} قَالَ مُجَاهِد: أَي غفرنا لَك، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} .
وَقَوله: {وزرك} قَالَ مُجَاهِد: أَي: ثقلك.
وَعَن بَعضهم: ووضعنا عَنْك وزرك، أَي: حططنا عَنْك ثقلك.
وَفِي رِوَايَة ابْن مَسْعُود: وحللنا عَنْك وقرك.(6/249)
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)
وَقَوله: {الَّذِي أنقض ظهرك} قَالَ الزّجاج، أَي: أثقلك ثقلا، يسمع مِنْهُ نقيض ظهرك: وَهَذَا على طَرِيق التَّشْبِيه والتمثيل، يَعْنِي: لَو كَانَ شَيْئا يثقل، يسمع من ثقله نقيض ظهرك.
فَإِن قَالَ قَائِل: وأيش كَانَ وزره؟ وَهل كَانَ على دين قومه قبل النُّبُوَّة أَو لَا؟
وَالْجَوَاب: قد ورد فِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ على دين قومه قبل ذَلِك، وَمعنى ذَلِك: أَنه كَانَ يشْهد مشاهدهم، ويوافقهم فِي بعض أُمُورهم من غير أَن يعبد صنما أَو يعظم وثنا، وَقد كَانَ الله عصمه عَن ذَلِك، فَمَا ذكرنَا هُوَ الْوزر الَّذِي أنقض ظَهره.(6/249)
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
وَقَوله: {ورفعنا لَك ذكرك} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: ورفعنا لَك ذكرك بِالنُّبُوَّةِ والرسالة.
وَالْآخر: رفعنَا لَك ذكرك أَي: جعلت طَاعَتك طَاعَتي، ومعصيتك معصيتي، وَالْقَوْل الْمَعْرُوف فِي هَذَا أَنِّي لَا أذكر إِلَّا ذكرت معي، قَالَ ابْن عَبَّاس: فِي الْأَذَان وَالْإِقَامَة وَالتَّشَهُّد وعَلى المنابر فِي الْجمع والخطب فِي الْعِيدَيْنِ وَيَوْم عَرَفَة وَغير ذَلِك.
وَقَالَ قَتَادَة: مَا من متشهد وَلَا خطيب وَلَا صَاحب صَلَاة إِلَّا وَهُوَ يُنَادي أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله.
وَقد ورد فِي بعض الْأَخْبَار هَذَا مَرْفُوعا إِلَى جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - بِرِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي قَالَ لي: " إِن جِبْرِيل قَالَ: قَالَ الله عز وَجل: إِذا ذكرت(6/249)
{فَإِن مَعَ الْعسر يسرا (5) إِن مَعَ الْعسر يسرا (6) }
وَقَالَ حسان بن ثَابت يمدح النَّبِي:
(أغر عَلَيْهِ للبنوة خَاتم ... من الله مشهود يلوح وَيشْهد)
(وَضم الْإِلَه اسْم النَّبِي مَعَ اسْمه ... إِذا قَالَ فِي الْخمس الْمُؤَذّن أشهد)
(وشق لَهُ من اسْمه ليجله ... فذو الْعَرْش مَحْمُود وَهَذَا مُحَمَّد)(6/250)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِن من الْعسر يسرا} أَي: مَعَ الْعسر يسرا.
فِي التَّفْسِير أَن الْمُشْركين عيروا النَّبِي وَأَصْحَابه، وَقَالُوا: لَو شِئْت جَمعنَا لَك شَيْئا من المَال لترجع عَن هَذَا القَوْل، فأكربه ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَالْمعْنَى: إِن مَعَ الْفقر غنى، وَمَعَ الضّيق سَعَة، وَإِن مَعَ الحزونة سهولة، وَمَعَ الشدَّة رخاء.
وَقد حقق الله ذَلِك فِي الدُّنْيَا بِمَا فتح على النَّبِي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - وعَلى أَصْحَابه، فَإِن الله تَعَالَى فتح للنَّبِي الْحجاز، وتهامة، وَمَا والاها، وَعَامة بِلَاد الْيمن، وَكَثِيرًا من الْبَوَادِي إِلَى [قريب] من الْعرَاق وَالشَّام، وَفتح على أَصْحَابه مَا فتح وأغنمهم كنوز كسْرَى وَقَيْصَر، وَقد صَار حَال النَّبِي فِي آخر أمره أَنه كَانَ يهب المائين من الْإِبِل، والألوف من الْغنم، ويدخر لِعِيَالِهِ قوت سنة، فَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ معنى الْآيَة.
وَقد روى معمر (عَن أَيُّوب) عَن الْحسن " أَن النَّبِي خرج يَوْمًا مَسْرُورا إِلَى أَصْحَابه وَقَالَ: أَبْشِرُوا لن يغلب عسر يسرين، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِن مَعَ الْعسر يسرا إِن مَعَ الْعسر يسرا} قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد، أخبرنَا سهل بن عبد الصَّمد بن عبد الرَّحْمَن البرَاز أخبرنَا العذافري، أخبرنَا الدبرِي، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر ... الحَدِيث.(6/250)
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: لن يغلب عسر يسرين، وَقد كرر كِلَاهُمَا؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْفراء ذكر أَن النكرَة إِذا كررت نكرَة، فَالثَّانِي غير الأول، والنكرة إِذا أُعِيدَت معرفَة فَالثَّانِي هُوَ الأول تَقول الْعَرَب: كسبت الْيَوْم درهما، وأنفقت الدِّرْهَم.
فَالثَّانِي هُوَ الأول.
ونقول: وعَلى معنى هَذَا ورد قَوْله تَعَالَى: {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول} وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: لَو دخل الْعسر فِي جُحر لتَبعه الْيُسْر حَتَّى يَسْتَخْرِجهُ.
وَفِي معنى اليسرين قَولَانِ: أَحدهمَا: يسر الدُّنْيَا، وَالْآخر يسر الْآخِرَة، فعلى هَذَا معنى الْخَبَر، إِن غلب الْعسر يسر الدُّنْيَا، فَلَا يغلب يسر الْآخِرَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْيُسْر الأول هُوَ للرسول، واليسر الثَّانِي لأَصْحَابه.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الجنوجردي قَالَ: أخبرنَا أَبُو إِسْحَاق الثَّعْلَبِيّ الْحسن بن مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي قَالَ: سَمِعت مُحَمَّد بن عَامر الْبَغْدَادِيّ قَالَ سَمِعت عبد الْعَزِيز بن يحيى قَالَ: سَمِعت عمر قَالَ الْعُتْبِي يَقُول: كنت ذَات لَيْلَة فِي الْبَادِيَة، فَألْقى فِي روعي بَيت من شعر، فَقلت:
(أرى الْمَوْت لمن أصبح ... مغموما أروح)
فَلَمَّا جن اللَّيْل سَمِعت هاتفا يَهْتِف من الْهَوَاء:
(أَلا أَيهَا الْمَرْء الَّذِي ... الْهم بِهِ يبرح)
(وَقد أنْشد بَيْتا ... لم يزل فِي فكره يسنح)
(إِذا اشتدت بك العسرى ... ففكر فِي ألم نشرح)
(فعسر بَين يسرين ... إِذا أبصرته فافرح)
قَالَ: فَحفِظت الأبيات، وَفرج الله غمي.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: وأنشدنا أَبُو بكر قَالَ: أنشدنا أَبُو إِسْحَاق قَالَ أنشدنا الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن قَالَ: أنشدنا أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْحِيرِي قَالَ: أنشدنا(6/251)
{فَإِذا فرغت فانصب (7) وَإِلَى رَبك فارغب (8) } إِسْحَاق بن بهْلُول القَاضِي:
(فَلَا تيأس وَإِن أعسرت يَوْمًا ... فقد أَيسَرت فِي دهر طَوِيل)
(وَلَا تَظنن بِرَبِّك ظن سوء ... فَإِن الله أولى بالجميل)
(وَإِن الْعسر يتبعهُ يسَار ... وَقَول الله أصدق كل قيل)
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: وأنشدنا أَبُو بكر قَالَ: أنشدنا أَبُو إِسْحَاق قَالَ: أنشدنا الْحسن قَالَ: أنشدنا الْحسن بن مُحَمَّد قَالَ: أَنْشدني مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن معَاذ (الْكَرْخِي) قَالَ أنشدنا أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي:
(إِذا بلغ الْعسر مجهوده ... فثق عِنْد ذَاك بيسر سريع)
(ألم تَرَ نحس الشتَاء النطيع ... يتلوه سعد الرّبيع البديع)
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: وأنشدنا أَبُو بكر، أنشدنا أَبُو إِسْحَاق، أَنْشدني عِيسَى بن زيد الطفيلي أَنْشدني سُلَيْمَان بن أَحْمد الرقي:
(توقع إِذا مَا عدتك الخطوب ... سُرُورًا يسردها عنْدك فسرا)
(ترى الله يخلف ميعاده ... وَقد قَالَ إِن مَعَ الْعسر يسرا)(6/252)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا فرغت فانصب} قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك والكلبي وَمُقَاتِل: إِذا فرغت من الصَّلَاة فانصب للدُّعَاء، وارغب إِلَى الله فِي الْمَسْأَلَة.
وَقَالَ الشّعبِيّ: إِذا فرغت من التَّشَهُّد فَادع لدنياك وآخرتك.
وروى نَحْو ذَلِك عَن الزُّهْرِيّ وَعَن ابْن مَسْعُود: إِذا فرغت من الْفَرَائِض فانصب لقِيَام اللَّيْل.
وَعَن بَعضهم إِذا فرغت من تَبْلِيغ الرسَالَة فانصب لجهاد الْكفَّار.(6/252)
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
وَقَوله: {وَإِلَى رَبك فارغب} هُوَ الْحَث على الدُّعَاء [و] الْمَسْأَلَة.
وَقَالَ الزّجاج: إِلَى رَبك فارغب وَحده، وَلَا تكن رغبتك إِلَى أحد سواهُ.
وَالله أعلم.(6/252)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{والتين وَالزَّيْتُون (1) وطور سينين (2) وَهَذَا الْبَلَد الْأمين (3) لقد خلقهَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم (4) ثمَّ رددناه أَسْفَل سافلين (5) }
تَفْسِير سُورَة التِّين
وَهِي مَكِّيَّة
وَقد ثَبت بِرِوَايَة الْبَراء بن عَازِب أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه السُّورَة فِي صَلَاة الْمغرب خرجه مُسلم فِي كِتَابه.(6/253)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {والتين وَالزَّيْتُون} قَالَ مُجَاهِد وَالْحسن: هُوَ التِّين الَّذِي يُؤْكَل وَالزَّيْتُون الَّذِي يعصر.
وَالْمعْنَى: وَرب التِّين وَالزَّيْتُون.
وَقَالَ قَتَادَة: التِّين هُوَ الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ دمشق، وَالزَّيْتُون هُوَ الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ بَيت الْمُقَدّس.
وَقَالَ كَعْب: هُوَ دمشق وَبَيت الْمُقَدّس.
وَحكى الْفراء أَنَّهُمَا جبلان مَا بَين حلوان إِلَى همذان.
وَيُقَال: أَرَادَ منابت التِّين وَالزَّيْتُون.
قَالَ النّحاس: وَهَذَا قَول يُخَالف ظَاهر الْآيَة، وَلم ينْقل عَمَّن يكون قَوْله حجَّة.(6/253)
وَطُورِ سِينِينَ (2)
وَقَوله: {وطور سِنِين} أَكثر الْمُفَسّرين أَنه الْجَبَل الَّذِي كلم الله عَلَيْهِ مُوسَى.
وَقد ثَبت عَن عمر أَنه قَرَأَ: " وطور سَيْنَاء "، وَفِي حرف ابْن مَسْعُود: " وطور سِيْنَاء " بِكَسْر السِّين.
وَقَالَ الْحسن: الطّور هُوَ الْجَبَل، وسنين: الْمُبَارك.
وَعَن الْأَخْفَش: طور: اسْم الْجَبَل وسنين: اسْم الشّجر.(6/253)
وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
وَقَوله: {وَهَذَا الْبَلَد الْأمين} هُوَ مَكَّة بِالْإِجْمَاع، وَمعنى الْأمين أَي: آمن من فِيهِ.(6/253)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
وَقَوله: {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم} هُوَ جَوَاب الْقسم.
قَالَ مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم وَجَمَاعَة: فِي أحسن تَقْوِيم أَي: فِي أحسن صُورَة.
وَقيل: فِي أحسن تَقْوِيم: هُوَ اعتداله واستواؤه.(6/253)
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
وَقَوله: {ثمَّ رددناه أَسْفَل سافلين} قَالَ مُجَاهِد وَالْحسن: إِلَى النَّار إِلَّا من آمن.
فعلى هَذَا تكون الْآيَة فِي الْكفَّار.
وَقد قيل: إِنَّه ورد فِي كَافِر بِعَيْنِه فَيُقَال: إِنَّه أَبُو(6/253)
{إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فَلهم أجر غير ممنون (6) فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ (7) أَلَيْسَ الله بِأَحْكَم الْحَاكِمين (8) } جهل.
وَقيل: إِنَّه الْوَلِيد بن الْمُغيرَة.
وَقيل غَيرهمَا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيم وَالضَّحَّاك وَجَمَاعَة: ثمَّ رددناه أَسْفَل سافلين: هُوَ أرذل الْعُمر، والسافلون هم الضُّعَفَاء والمرضى والشيوخ العجزة.(6/254)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا} الِاسْتِثْنَاء مُشكل فِي هَذِه السُّورَة، فعلى قَول الْحسن وَمُجاهد يكون الِاسْتِثْنَاء ظَاهرا وَالْمعْنَى: رد النَّاس إِلَى النَّار إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا فَإِنَّهُ لَا يرد إِلَى النَّار، وَمعنى الْإِنْسَان: النَّاس.
وَأما على قَول إِبْرَاهِيم وَالضَّحَّاك فالاستثناء مُشكل على هَذَا القَوْل، قَالَه النّحاس.
وَالْمعْنَى على هَذَا إِلَّا الَّذين آمنُوا فَلَا يردون إِلَى أرذل الْعُمر، وَمَعْنَاهُ: أَنه يكْتب لَهُم أَعْمَالهم الصَّالِحَة بعد الْهَرم على مَا كَانُوا يعملونها فِي حَالَة الشَّبَاب وَإِن عجزوا عَنْهَا، فكأنهم لم يردوا إِلَى أرذل الْعُمر، وَقد حكى معنى هَذَا عَن إِبْرَاهِيم، وروى ذَلِك مَرْفُوعا فِي بعض الْأَخْبَار إِلَى الرَّسُول.
وَقَوله: {فَلهم أجر غير ممنون} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا يمتن بِهِ عَلَيْهِم أحد - سوى الله - منَّة تكدر النِّعْمَة عَلَيْهِم.
وَالْقَوْل الْمَعْرُوف: غير مَقْطُوع وَهُوَ مؤيد لما ذَكرْنَاهُ من التَّأْوِيل.(6/254)
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
قَوْله تَعَالَى: {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} الْمَعْنى: فَمَا يكذبك أَيهَا الشاك بِيَوْم الْحساب بعد مَا شاهدت من قدرَة الله تَعَالَى مَا شاهدت، هَذَا هُوَ القَوْل الْمَعْرُوف.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن مَعْنَاهُ: فَمن يكذبك بعد بِالدّينِ على خطاب النَّبِي أَي: من الَّذِي يكذبك بِيَوْم الْحساب بعد أَن ظهر من الْبَرَاهِين والآيات مَا ظهر، ذكره أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ، القَوْل الأول أولى؛ لِأَن مَا بِمَعْنى من، يبعد فِي اللُّغَة.(6/254)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
وَقَوله: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَم الْحَاكِمين} هُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى التَّحْقِيق وَهُوَ مثل قَول جرير:
(ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى الْعَالمين بطُون رَاح)
أَي: أَنْتُم كَذَلِك.
وَقد ورد عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة أَنهم كَانُوا إِذا ختموا السُّورَة قَالُوا: اللَّهُمَّ بلَى، وَفِي رِوَايَة: بلَى، وَأَنا على ذَلِك من الشَّاهِدين؛ مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا.(6/254)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق (1) }
تَفْسِير سُورَة العلق
وَهِي مَكِّيَّة(6/255)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
قَوْله تَعَالَى: {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} أَكثر أهل الْعلم [أَن] هَذِه السُّورَة أول سُورَة أنزلت من الْقُرْآن، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ، وَابْن عَبَّاس، وَعَائِشَة، وَابْن الزبير.
وروى مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة " أَن أول سُورَة أنزلت من الْقُرْآن، سُورَة اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي ... " قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الْحَاكِم أَبُو عَمْرو وَمُحَمّد بن عبد الْعَزِيز الْقَنْطَرِي، أخبرنَا أَبُو الْحَارِث عَليّ بن الْقَاسِم الْخطابِيّ أخبرنَا أَبُو لبَابَة مُحَمَّد بن الْمهْدي، أخبرنَا أَبُو عماد بن الْحُسَيْن بن بشر، عَن [سَلمَة] بن الْفضل عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق.
الْخَبَر.
وَعَن جَابر: أَن أول سُورَة أنزلت سُورَة المدثر، [و] قد بَينا، وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول، وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " أول مَا بُدِئَ بِهِ رَسُول الله من الْوَحْي الرُّؤْيَا (الصادقة) فِي النّوم، فَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح، ثمَّ حبب إِلَيْهِ الْخَلَاء، فَكَانَ يَأْتِي حراء فَيَتَحَنَّث فِيهِ اللَّيَالِي ذَوَات الْعدَد - وَهُوَ التَّعَبُّد - ويتزود لذَلِك، ثمَّ يرجع إِلَى خَدِيجَة فتزوده لمثلهَا، حَتَّى (فجئه) الْحق وَهُوَ فِي غَار حراء، فَجَاءَهُ الْملك فَقَالَ: اقر، فَقَالَ النَّبِي قلت: مَا أَنا بقارئ.
قَالَ:(6/255)
{خلق الْإِنْسَان من علق (2) اقْرَأ وَرَبك الأكرم (3) الَّذِي علم بالقلم (4) علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم (5) كلا إِن الْإِنْسَان ليطْغى (6) } فأخذني فغطني حَتَّى بلغ مني الْجهد، ثمَّ، أَرْسلنِي، فَقَالَ: اقْرَأ، فَقلت مَا أَنا بقارئ، فأخذني فغطني الثَّانِيَة حَتَّى بلغ مني الْجهد، ثمَّ أَرْسلنِي، فَقَالَ اقْرَأ، فَقلت مَا أَنا بقارئ فأخذني فغطني الثَّالِثَة حَتَّى بلغ مني الْجهد، ثمَّ أَرْسلنِي، فَقَالَ: " اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق ... حَتَّى بلغ مَا لم يعلم ".
وَالْخَبَر طَوِيل مَذْكُور فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَوله: {باسم رَبك} أَي: اقْرَأ مفتتحا باسم رَبك، وَقيل: اقْرَأ اسْم رَبك، وَالْبَاء زَائِدَة، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(هن الْحَرَائِر لأرباب أخمرة ... سود المحاجر لَا يقْرَأن بالسور)
أَي: السُّور، وَالْبَاء زَائِدَة.
وَقيل: اقْرَأ على اسْم رَبك، كَمَا يُقَال: سر باسم الله أَي: على اسْم الله، وَالْقَوْلَان الْأَوَّلَانِ هما المعروفان.
وَقَوله: {الَّذِي خلق} يَعْنِي: خلق النَّاس.(6/256)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
وَقَوله: {خلق الْإِنْسَان من علق} أَي: الْعلقَة وَهِي الدَّم، وَذكرهَا هُنَا الْعلقَة؛ لِأَنَّهَا من الأمشاج، فَدلَّ بهَا على غَيرهَا.(6/256)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)
وَقَوله: {اقْرَأ وَرَبك الأكرم} أَي كريم، وَمن كرمه أَن يحلم عَن ذنُوب الْعباد، وَيُؤَخر عقوبتهم، وَعَن بَعضهم: من كرمه أَن يعبد الْآدَمِيّ غَيره، وَلَا يقطع عَنهُ رزقه.(6/256)
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
وَقَوله: {الَّذِي علم بالقلم} أَي: الْكِتَابَة بالقلم، وَهِي نعْمَة عَظِيمَة، قَالَ قَتَادَة: الْقَلَم نعْمَة من الله عَظِيمَة، لَوْلَا ذَلِك لم يقم دين، وَلم يصلح عَيْش، وَاخْتلف القَوْل فِي المُرَاد بالتعليم، فأحد الْقَوْلَيْنِ هُوَ آدم صلوَات الله عَلَيْهِ، وَالْقَوْل الآخر: كل آدَمِيّ يخط بالقلم.(6/256)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
وَقَوله: {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} قد بَينا، وَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى.(6/256)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)
قَوْله: {كلا إِن الْإِنْسَان ليطْغى} نزل فِي أبي جهل، وَقد ورد فِي بعض الْأَخْبَار(6/256)
{أَن رَآهُ اسْتغنى (7) إِن إِلَى رَبك الرجعى (8) أَرَأَيْت الَّذِي ينْهَى (9) عبدا إِذا صلى (10) أَرَأَيْت إِن كَانَ على الْهدى (11) أَو أَمر بالتقوى (12) أَرَأَيْت إِن كذب وَتَوَلَّى (13) ألم يعلم بِأَن الله يرى (14) كلا لَئِن لم ينْتَه لنسفعا بالناصية} عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن لكل أمة فِرْعَوْن، وَفرْعَوْن هَذِه الْأمة أَو جهل ".
وَهُوَ خبر غَرِيب.
وَقَوله: {ليطْغى} أَي: يُجَاوز الْحَد فِي الْعِصْيَان، قَالَ الْكَلْبِيّ: من الطغيان أَن يتنقل من منزلَة إِلَى منزلَة فِي اللبَاس وَالطَّعَام.
وَفِي بعض التفاسير: هُوَ أَنه إِذا كثر مَاله زَاد فِي طَعَامه وَشَرَابه وثيابه (ومركبه) .
وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: منهومان لَا يشبعان طَالب علم، وطالب مَال لَا يستويان، أما طَالب الْعلم فيبتغي رضَا الرَّحْمَن، وَأما طَالب المَال فيطلب رضَا الشَّيْطَان.(6/257)
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)
وَقَوله: {أَن رَآهُ اسْتغنى} أَي: رأى نَفسه غَنِيا.(6/257)
إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
وَقَوله: {إِن إِلَى رَبك الرجعى} أَي: الرُّجُوع والمرجع.(6/257)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)
وَقَوله تَعَالَى: {أَرَأَيْت الَّذِي ينْهَى عبدا إِذا صلى} هُوَ أَبُو جهل أَيْضا، وَالْعَبْد الَّذِي يُصَلِّي هُوَ الرَّسُول، وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس: أَن أَبَا جهل قَالَ: إِن رَأَيْت مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَأَطَأَن على رقبته، فَذكر لَهُ أَنه يُصَلِّي فجَاء ليَطَأ على رقبته، فَلَمَّا قرب مِنْهُ نكص على عَقِبَيْهِ، فَقيل لَهُ: مَا لَك يَا أَبَا الحكم؟ فَقَالَ: رَأَيْت بيني وَبَينه خَنْدَقًا من نَار، وَهَؤُلَاء ذَوُو أَجْنِحَة، فَقَالَ النَّبِي: لَو دنى مني لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَة عضوا عضوا " خرجه مُسلم فِي كِتَابه.
وَقَوله: {أَرَأَيْت} هُوَ تعجيب للسامع، وَقيل(6/257)
( {15) نَاصِيَة كَاذِبَة خاطئة (16) فَليدع نَادِيَةَ (17) سَنَدع الزَّبَانِيَة (18) كلا لَا تطعه واسجد واقترب (19) } مَعْنَاهُ: أَرَأَيْت الَّذِي ينْهَى عبدا إِذا صلى، كَيفَ يَأْمَن عَذَابي؟ وَقيل مَعْنَاهُ أمصيب هُوَ؟ يَعْنِي: لَيْسَ بمصيب، وَفِي قَول سِيبَوَيْهٍ مَعْنَاهُ: أَرَأَيْت من كَانَ هَذَا عمله، أَخْبرنِي عَن أمره فِي الْآخِرَة؟ وَهُوَ إِشَارَة إِلَى أَنه يصير إِلَى عُقُوبَة الله فِي الْآخِرَة.(6/258)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)
قَول تَعَالَى: {أَرَأَيْت إِن كَانَ على الْهدى أَو أَمر بالتقوى} يَعْنِي: مُحَمَّدًا.(6/258)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
وَقَوله: {أَرَأَيْت إِن كذب وَتَوَلَّى} يَعْنِي: أَبَا جهل، وَالْمعْنَى: أَن من كذب وَتَوَلَّى وَنهى عبدا إِذا صلى، كَيفَ يكون كمن آمن بربه وَاتَّقَى وَصلى! .(6/258)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)
وَقَوله: {ألم يعلم بِأَن الله يرى} هُوَ تهديد ووعيد.(6/258)
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)
قَوْله تَعَالَى: {كلا لَئِن لم ينْتَه لنسفعا بالناصية} أَي: لنجرن بناصيته إِلَى النَّار، وَقيل: لنسودن وَجهه، وَذكر الناصية ليدل على الْوَجْه، وَقيل: لنسمن مَوضِع الناصية بِالسَّوَادِ، فَاكْتفى بِهِ من سَائِر الْوَجْه.
وَفِي اللُّغَة: الأسفع: الثور الوحشي الَّذِي فِي خديه سَواد، وأنشدوا على القَوْل:
(قوم إِذا سمعُوا الصَّرِيخ رَأَيْتهمْ ... من بَين ملجم مهرَة أَو سافع)
أَرَادَ وَأخذ بناصيته.
وأنشدوا على القَوْل الثَّانِي:
(وَكنت (إِلَى) نفس الغوى نزت بِهِ ... سفعت على الْعرنِين مِنْهُ بميسم)
أَرَادَ وسمته على عرنينه.(6/258)
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)
وَقَوله: {نَاصِيَة كَاذِبَة خاطئة} أَي: نَاصِيَة صَاحبهَا كَاذِب خاطئ.(6/258)
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)
وَقَوله تَعَالَى: {فَليدع نَادِيَةَ} روى: " أَن أَبَا جهل لما أنكر على النَّبِي صلَاته،(6/258)
انتهره النَّبِي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - فَقَالَ لَهُ أَبُو جهل: أتنهرني يَا مُحَمَّد، وَمَا بهَا أَكثر نَادِيًا مني؛ أعمر مَجْلِسا وَأكْثر قوما، فَأنْزل الله تَعَالَى: {فَليدع نَادِيَةَ} أَي قومه الَّذِي يتعزز بهم، وهم أهل مَجْلِسه.(6/259)
سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)
وَقَوله: {سَنَدع الزَّبَانِيَة} هم الْمَلَائِكَة الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فِي وَصفهم: {عَلَيْهَا مَلَائِكَة غِلَاظ شَدَّاد} وَقيل: هم أعوان ملك الْمَوْت.
(وَوَاحِد الزَّبَانِيَة زبنية فِي قَول الْكسَائي زباني، وَعَن بَعضهم: زبان) .(6/259)
كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
وَقَوله: {كلا لَا تطعه واسجد واقترب} أَي: واسجد لله واقترب مِنْهُ بِالطَّاعَةِ، وَقيل: واسجد يَا مُحَمَّد واقترب يَا أَبَا جهل، لترى عُقُوبَة الله وَهُوَ قَول غَرِيب.(6/259)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر (1)
تَفْسِير سُورَة الْقدر
وَهِي مَدَنِيَّة(6/260)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} أَي: الْقُرْآن، وَقد ذكرنَا أَن الله تَعَالَى أنزل جَمِيع الْقُرْآن فِي لَيْلَة الْقدر إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، ثمَّ أنزلهُ تفاريق على الرَّسُول، بعضه فِي إِثْر بعض وَالْهَاء كِنَايَة عَن الْقُرْآن، وَإِن لم يكن الْقُرْآن مَذْكُورا، وَصَحَّ ذَلِك لِأَنَّهُ مَعْلُوم.
وَلَيْلَة الْقدر: هِيَ لَيْلَة الحكم.
قَالَ مُجَاهِد فِي التَّفْسِير: إِن الله تَعَالَى يقسم فِيهَا [الأرزاق] والأعمال.
وَاخْتلفُوا فِي لَيْلَة الْقدر، فَحكى عَن بَعضهم: أَنَّهَا رفعت حِين توفّي النَّبِي وَلَيْسَ بِصَحِيح، بل هِيَ بَاقِيَة إِلَى قيام السَّاعَة.
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: فِي الْحول، وَمن يقم حولا يُصِيبهَا.
وَالصَّحِيح أَنَّهَا فِي الْعشْر الْأَخير من رَمَضَان، وَقد ثَبت بِرِوَايَة زر بن حُبَيْش أَنه قَالَ لأبي بن كَعْب: " إِن أَخَاك عبد الله بن مَسْعُود يَقُول: إِنَّهَا فِي الْحول، فَقَالَ أبي بن كَعْب: يرحم الله أَبَا عبد الرَّحْمَن! لقد علم أَنَّهَا فِي الْعشْر الْأَخير من رَمَضَان، وَعلم أَنَّهَا لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين، وَلَكِن أَرَادَ أَن لَا يتكل النَّاس على ذَلِك، ثمَّ حلف أبي بن كَعْب، وَلم يسْتَثْن أَنَّهَا لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين، قَالَ زر: فَلَمَّا رَأَيْته يحلف: قلت: يَا أَبَا الْمُنْذر، بِمَ تعرف ذَلِك؟ قَالَ بالعلامة الَّذِي ذكرهَا لنا رَسُول الله، وَهِي أَن تطلع الشَّمْس فِي صبيحتها وَلَا شُعَاع لَهَا ".(6/260)
{وَمَا أَدْرَاك مَا لَيْلَة الْقدر (2) لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر (3) } وَقد ثَبت أَيْضا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " تحروها فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان ".
أَي: اطلبوها، وَفِي بعض الرِّوَايَات: " اطلبوها فِي الْأَفْرَاد "، وَفِي رِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ: " أَنَّهَا لَيْلَة الْحَادِي وَالْعِشْرين ".
وَقيل غير ذَلِك، وَأَصَح الْأَقَاوِيل وأشهرها أَنَّهَا لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين، وَمن قَامَ الْعشْر أدْركهَا قطعا وَحَقِيقَة.(6/261)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا لَيْلَة الْقدر} قد بَينا أَن مَا ورد فِي الْقُرْآن على هَذَا اللَّفْظ، فقد أعلمهُ الله تَعَالَى.(6/261)
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
وَقَوله: {لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر} أَي: ثَوَاب الْعَمَل فِيهَا أَكثر من ثَوَاب الْعَمَل فِي ألف شهر لَيْسَ فِيهَا لَيْلَة الْقدر، وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِرِوَايَة يُوسُف بن سعد، أَن الْحسن بن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - لما بَايع مُعَاوِيَة، وَسلم إِلَيْهِ الْخلَافَة، قَالَ لَهُ رجل: يَا مسود وُجُوه الْمُؤمنِينَ، أَو يَا مذل الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ: لَا تقل بهَا، فَإِن رَسُول الله أرِي بني أُميَّة على منبره، فساءه ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى عَلَيْهِ: {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} ، وَأنزل أَيْضا: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} ، وَقَالَ {لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر} أَي: خير من ألف شهر يملك فِيهَا بَنو أُميَّة ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: وَهُوَ غَرِيب.
وَفِي بعض التفاسير: أَن النَّبِي قَالَ: " إِن رجلا من بني(6/261)
{تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح فِيهَا بِإِذن رَبهم من كل أَمر (4) سَلام هِيَ حَتَّى مطلع الْفجْر (5) } إِسْرَائِيل جَاهد أَعدَاء الله ألف شهر، وَكَانَ مَعَ ذَلِك يقوم بِاللَّيْلِ، ويصوم النَّهَار، فَاغْتَمَّ من ذَلِك لقصر أَعمار أمته، وَقلة أَعْمَالهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، وَأخْبر أَنه أعطَاهُ لَيْلَة يكون الْعَمَل فِيهَا خيرا من عمل ذَلِك الرجل ألف شهر ".
وَقد ثَبت فِي فَضلهَا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من قَامَ لَيْلَة الْقدر إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه ".(6/262)
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
وَقَوله: {تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح فِيهَا} أَي: جِبْرِيل فِيهَا.
وَقَوله: {بِإِذن رَبهم من كل أَمر} أَي: لكل أَمر، وَهُوَ مَا ذكرنَا من مقادير الْأَشْيَاء.(6/262)
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
وَقَوله: {سَلام هِيَ} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن المُرَاد مِنْهُ تَسْلِيم الْمَلَائِكَة على من يذكر الله تَعَالَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: {سَلام} أَي: سَلامَة، وَالْمعْنَى: أَنه لَا يعْمل فِيهَا دَاء وَلَا سحر وَلَا شَيْء من عمل الشَّيَاطِين والكهنة.
وَقَوله: {حَتَّى مطلع الْفجْر} وَقُرِئَ: " مطلع الْفجْر " بِكَسْر اللَّام، فالبفتح على الْمصدر وبالكسر على وَقت الطُّلُوع.(6/262)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين منفكين حَتَّى تأتيهم الْبَيِّنَة (1) رَسُول من الله يَتْلُو صحفا مطهرة (2) فِيهَا كتب قيمَة (3) وَمَا تفرق الَّذين}
تَفْسِير سُورَة لم يكن
وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول بَعضهم، (مَدَنِيَّة فِي قَول بَعضهم، وَالله أعلم)(6/263)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
قَوْله تَعَالَى: {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب} قَرَأَ أبي بن كَعْب: " مَا كَانَ الَّذين كفرُوا " وَهُوَ شَاذ، وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول.
وَقَوله تَعَالَى: {من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين منفكين} أَي: منتهين، وَمَعْنَاهُ: أَن الْكفَّار من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين مَا كَانُوا منتهين عَن كفرهم حَتَّى تأتيهم الْبَيِّنَة أَي: حَتَّى أَتَاهُم الرَّسُول، مُسْتَقْبل بِمَعْنى الْمَاضِي، وَقيل: الْبَيِّنَة هِيَ الْقُرْآن، وَهَذَا قَول مَعْرُوف مُعْتَمد، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين الَّذين سمعُوا مِنْهُم لم يزَالُوا على إِقْرَار بِالنَّبِيِّ قبل ظُهُوره، فَلَمَّا ظهر اخْتلفُوا، فَأقر بَعضهم، وَأنكر الْبَعْض،(6/263)
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)
وَقَوله: {رَسُول من الله} أَي: هُوَ رَسُول من الله، وَقيل: حَتَّى أَتَاهُم رَسُول من الله.
وَقَوله: {يَتْلُو صحفا مطهرة} أَي: مَا فِي الصُّحُف، وَقَوله: {مطهرة} أَي: من التَّغْيِير والتبديل والإدناس والإنجاس.(6/263)
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)
وَقَوله: {فِيهَا كتب قيمَة} أَي: أَحْكَام مُسْتَقِيمَة عادلة، وَالْكتاب يَأْتِي بِمَعْنى الحكم، والكتب بِمَعْنى الْأَحْكَام، وَفِي قصَّة العسيف أَن النَّبِي قَالَ: " لأقضين بَيْنكُمَا بِكِتَاب الله " أَي: بِحكم الله.(6/263)
{أُوتُوا الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَيِّنَة (4) وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة وَذَلِكَ دين الْقيمَة (5) إِن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين فِي نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا أُولَئِكَ هم شَرّ الْبَريَّة (6) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ هم خير الْبَريَّة (7) }(6/264)
وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَقَوله: {وَمَا تفرق الَّذين أُوتُوا الْكتاب} أَي: فِي أَمر النَّبِي وَمَا جَاءَ بِهِ.
وَقَوله: {إِلَّا من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَيِّنَة} أَي: الْبَينَات والبراهين والدلائل.(6/264)
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء} قد ذكرنَا معنى الحنيف، وَقيل: إِذا كَانَ مُسلما فَهُوَ الْحَاج، وَإِذا كَانَ غير مُسلم فَهُوَ الْإِسْلَام، وَالْمعْنَى: أمروا أَن يَكُونُوا حنفَاء، فَإِن كَانَ الْخطاب مَعَ الْمُسلمين فَالْمُرَاد مِنْهُ أَن يَكُونُوا حجاجا وَإِن كَانَ الْخطاب مَعَ الْكفَّار فَالْمُرَاد أَن يَكُونُوا مُسلمين.
وَقَوله: {ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة وَذَلِكَ دين الْقيمَة} أَي: ذَلِك الْملَّة الْقيمَة، وَقيل: دين الْأمة المستقيمة على الْحق، وَقيل: دين الْملَّة الْقيمَة.(6/264)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين فِي نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا أُولَئِكَ هم شَرّ الْبَريَّة} قرئَ بِالْهَمْز وَترك الْهَمْز، فالقراءة بِالْهَمْز من برأَ الله الْخلق، وبترك الْهمزَة من البرى، وَهُوَ التُّرَاب أَي: شَرّ من خلق من البرى، وَالْعرب تَقول: بفيك البرى وَالثَّرَى.(6/264)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
وَقَوله: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ هم خير الْبَريَّة} قد ذكرنَا، وروى سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن الْمُخْتَار بن فلفل، عَن أنس بن مَالك: " أَن رجلا قَالَ للنَّبِي يَا خير الْبَريَّة قَالَ: ذَاك إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ " أوردهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه، وَقَالَ: هُوَ صَحِيح غَرِيب.(6/264)
{جزاؤهم عِنْد رَبهم جنَّات عدن تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ ذَلِك لمن خشِي ربه (8) }(6/265)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
وَقَوله: {جزاؤهم عِنْد رَبهم جنَّات عدن تجْرِي} قَالَ ابْن عمر: خلق الله أَرْبَعَة أَشْيَاء بِيَدِهِ: الْقَلَم، وَالْعرش، وجنة عدن، وآدَم - صلوَات الله عَلَيْهِ، وَقَالَ لسَائِر الْأَشْيَاء كوني فَكَانَت.
وَقَوله: {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} أَي: رَضِي أَعْمَالهم، وَرَضوا ثَوَابه.
وَقَوله: {ذَلِك لمن خشِي ربه} أَي: خَافَ ربه.(6/265)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا (1) }
تَفْسِير سُورَة إِذا زلزلت
وَهِي مَكِّيَّة، وَقل: مَدَنِيَّة.
وَقد روى أنس أَن النَّبِي قَالَ: " من قَرَأَ: {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا} عدلت لَهُ بِنصْف الْقُرْآن، وَمن قَرَأَ: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} عدلت لَهُ بِربع الْقُرْآن، وَمن قَرَأَ: {قل هُوَ الله أحد} عدلت بِثلث الْقُرْآن " أوردهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامعه وَقَالَ: هُوَ حَدِيث غَرِيب.
وَأورد - أَيْضا - بِرِوَايَة سَلمَة بن وردان عَن أنس بن مَالك قَالَ: إِن النَّبِي قَالَ لرجل من أَصْحَابه: " هَل تزوجت يَا فلَان؟ قَالَ: لَا وَالله، وَلَا عِنْدِي مَا أَتزوّج بِهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ مَعَك {قل هُوَ الله أحد} ؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: ثلث الْقُرْآن، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَك {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} ؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: ربع الْقُرْآن، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَك {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} ؟ قَالَ: بلَى.
قَالَ: ربع الْقُرْآن، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَك {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا} ؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: ربع الْقُرْآن، قَالَ: تزوج تزوج ".(6/266)
{وأخرجت الأَرْض أثقالها (2) وَقَالَ الْإِنْسَان مَا لَهَا (3) يَوْمئِذٍ تحدث أَخْبَارهَا (4) }(6/267)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا} قَالَ ابْن عَبَّاس: حركت من أَسْفَلهَا.
والزلزال هُوَ التحريك الشَّديد، وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه عقيب النفخة الأولى.
وَفِي التَّفْسِير: أَن إسْرَافيل إِذا نفخ فِي الصُّور النفخة الأولى يكسر كل شَيْء على وَجه الأَرْض من شدَّة نفخته، وَيدخل فِي جَوف الأَرْض، فَإِذا نفخ النفخة الثَّانِيَة أخرجت جَمِيع مَا فِي جوفها، وألقتها على (وَجههَا) .(6/267)
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)
وَقَوله: {وأخرجت الأَرْض أثقالها} هُوَ مَا ذكرنَا، وَذَلِكَ عقيب النفخة الثَّانِيَة، قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة: كنوزها وموتاها.(6/267)
وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)
وَقَوله: {وَقَالَ الْإِنْسَان مَا لَهَا} أَي: وَقَالَ الْكَافِر مَا لَهَا؟ يَعْنِي: مَا للْأَرْض أخرجت أثقالها.
وَإِنَّمَا قَالَ الْكَافِر ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لم يكن يُؤمن بِالْبَعْثِ.(6/267)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)
وَقَوله: {يَوْمئِذٍ تحدث أَخْبَارهَا} أَي: تحدث بِمَا عمل عَلَيْهَا من خير وَشر - يَعْنِي الأَرْض - وروى سعيد بن أبي أَيُّوب، عَن يحيى بن أبي سُلَيْمَان، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَرَأَ رَسُول الله هَذِه الْآيَة: {يَوْمئِذٍ تحدث أَخْبَارهَا} قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارهَا؟ فَقَالُوا: الله وَرَسُوله أعلم، قَالَ: فَإِن أَخْبَارهَا أَن تشهد على كل عبد وَأمة بِمَا عمل على ظهرهَا، أَن تَقول: عمل كَذَا وَكَذَا فِي يَوْم كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَهَذِهِ أَخْبَارهَا.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن بن النقور أخبرنَا أَبُو طَاهِر (بن) المخلص، أخبرنَا يحيى بن مُحَمَّد بن صاعد، أخبرنَا [الْحُسَيْن(6/267)
{بِأَن رَبك أوحى لَهَا (5) يَوْمئِذٍ يصدر النَّاس أشتاتا ليروا أَعْمَالهم (6) فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره (7) وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره (8) } بن الْحسن] الْمروزِي، أخبرنَا عبد الله بن الْمُبَارك، عَن سعيد بن أبي أَيُّوب. . الحَدِيث، وَيُقَال: الْمَعْنى: وَقَالَ الْإِنْسَان مَا لَهَا؟ أَي: مَا للْأَرْض تحدث أَخْبَارهَا.(6/268)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)
قَوْله: {بِأَن رَبك أوحى لَهَا} أَي: أوحى إِلَيْهَا أَن تحدث.
قَالَ الشَّاعِر:
(أوحى لَهَا الْقَرار فاستقرت ... )
أَي: إِلَيْهَا.
وَالْمعْنَى: أَن الأَرْض أخْبرت بِوَحْي الله إِلَيْهَا.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: الْوَحْي على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: وَحي الله إِلَى أنبيائه عَلَيْهِم السَّلَام، وَالْآخر: بِمَعْنى الإلهام، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل} ، وَمثل هَذِه الْآيَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {بِأَن رَبك أوحى لَهَا} أَي: ألهمها أَن تحدث.(6/268)
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْمئِذٍ يصدر النَّاس أشتاتا} أَي: مُتَفَرّقين.
يُقَال: شتان مَا بَين فلَان وَفُلَان أَي: مَا أَشد التَّفْرِقَة بَينهمَا.
وَقَوله: {ليروا أَعْمَالهم} أَي: أَعْمَالهم الَّتِي عملوها.(6/268)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
وَقَوله: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} قَالَ ابْن مَسْعُود: هَذِه الْآيَة أحكم آيَة فِي الْقُرْآن.
وروى أَن عمر بن الْخطاب سَأَلَ قوما: أَي آيَة فِي كتاب الله أحكم؟ فَقَالُوا: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} فَقَالَ: أفيكم ابْن أم عبد؟ فَقَالُوا: نعم، وَأَرَادَ أَن هَذَا جَائِز مِنْهُ.
وروى أَن صعصعة عَم الفرزدق أَتَى النَّبِي فَأسلم، فَسمع هَذِه الْآيَة: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} قَالَ: حسبي لَا أُبَالِي أَلا اسْمَع من الْقُرْآن غَيرهَا.
رَوَاهُ الْحسن مُرْسلا.(6/268)
وروى الْمُغيرَة بن قيس عَن ابْن الزبير، عَن جَابر قَالَ: " قلت يَا رَسُول الله، إِلَى مَا يَنْتَهِي النَّاس يَوْم الْقِيَامَة؟ قَالَ: إِلَى أَعْمَالهم؛ من عمل مِثْقَال ذرة خيرا يره، وَمن عمل مِثْقَال ذرة شرا يره ".
وَفِي الذّرة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا النملة الْحَمْرَاء الصَّغِيرَة - وَهُوَ قَول مَعْرُوف، وَالْآخر: هِيَ مَا يعلق بيد الْإِنْسَان إِذا وضع يَده على الأَرْض، وَقيل: هِيَ الذّرة الَّتِي ترى فِي الكوة منبثا فِي الْهَوَاء فِي ضوء الشَّمْس، وَذكر النقاش عَن بَعضهم: أَن الذّرة جُزْء من ألف وَأَرْبَعَة و (عشْرين) جُزْءا من شعيرَة.
وَعَن بَعضهم: أَنه بسط ذرات كَثِيرَة على وَجه إِحْدَى كفتي الْمِيزَان، فَلم تمل عين الْمِيزَان.
وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: [يرى الْمُؤمن حَسَنَاته وسيئاته فَيرد عَلَيْهِ حَسَنَاته وَتَأَخر سيئاته] .
وَعَن بَعضهم: أَن ذكر الذّرة على طَرِيق التَّمْثِيل والتشبيه، وَالْمعْنَى أَنه يلقى عمله الصَّغِير وَالْكَبِير، فَمَا أحب الله أَن يغْفر غفر، وَمَا أحب الله أَن يُؤَاخذ بِهِ أَخذ وَالله أعلم.(6/269)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَالْعَادِيات ضَبْحًا (1) فالموريات قدحا (2) فالمغيرات صبحا (3) فأثرن بِهِ نقعا (4) فوسطن بِهِ جمعا (5) إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود (6) }
تَفْسِير سُورَة العاديات
وَهِي مَكِّيَّة(6/270)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَادِيات ضَبْحًا} قَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود: هِيَ الْإِبِل.
قَالَ عَليّ: لم يكن يَوْم بدر إِلَّا فرسَان: أَحدهمَا لِلْمِقْدَادِ، وَالْآخر للزبير.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ الْخَيل.
وَهَذَا القَوْل أظهر.
وَأقسم بِالْخَيْلِ العادية فِي سَبِيل الله، وضبيحها.
صَوت أجوافها، وَقيل: صَوت أنفاسها عِنْد الْعَدو.
قَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ بصهيل وَلَا حَمْحَمَة.(6/270)
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)
وَقَوله: {فالموريات قدحا} قَالَ ابْن مَسْعُود: هِيَ الْإِبِل تقدح بمناسمها، وعَلى قَول ابْن عَبَّاس: هِيَ الْخَيل تقدح الْأَحْجَار بحوافرها، فتورى النَّار.(6/270)
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)
وَقَوله: {فالمغيرات صبحا} قَالَ ابْن مَسْعُود: هِيَ الْإِبِل حِين يفيضون من جمع، وعَلى قَول ابْن عَبَّاس: هِيَ الْخَيل تغير فِي سَبِيل الله، قَالَ قَتَادَة: أغارت حِين أَصبَحت.(6/270)
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)
قَوْله تَعَالَى: {فأثرن بِهِ نقعا} على قَول ابْن مَسْعُود أثرن بالوادي فكنى عَنهُ وَإِن لم يكن مَذْكُورا، وعَلى قَول ابْن عَبَّاس بِالْمَكَانِ المغار.
قَالَ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: النَّقْع التُّرَاب، وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ الْغُبَار.(6/270)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
وَقَوله تَعَالَى: {فوسطن بِهِ جمعا} فعلى قَول ابْن مَسْعُود أَي: جمع الْمزْدَلِفَة، وعَلى قَول ابْن عَبَّاس جمع الْعَدو، فأقسم الله تَعَالَى بِرَبّ هَذِه الْأَشْيَاء، وَقيل: بِهَذِهِ الْأَشْيَاء بِأَعْيَانِهَا، وَقيل: إِن النَّبِي كَانَ بعث سَرِيَّة إِلَى بني كنَانَة فَأَغَارُوا عِنْد الصَّباح، وتوسطوا جمع الْعَدو، وَكَانُوا أَصْحَاب خيل، فأقسم الله تَعَالَى بهم.(6/270)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
وَقَوله: {إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود} على هَذَا وَقع الْقسم.(6/270)
{وَإنَّهُ على ذَلِك لشهيد (7) وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد (8) }
وَقَوله: {لكنود} أَي: لكفور، وَقيل: هُوَ الْبَخِيل السيء الْخلق.
وَفِي بعض الْأَخْبَار مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي بِرِوَايَة أبي أُمَامَة عَن النَّبِي فِي قَوْله: {إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود} قَالَ: " هُوَ الَّذِي يَأْكُل وَحده، وَيمْنَع رفده وَيضْرب عَبده ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الْحَاكِم مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْقَنْطَرِي، أخبرنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن [الحدادي] ، أخبرنَا مُحَمَّد بن يحيى، أخبرنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، أخبرنَا (المؤتمن) بن سُلَيْمَان، عَن جَعْفَر بن الزبير، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة الحَدِيث.(6/271)
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
وَقَوله: {وَإنَّهُ على ذَلِك لشهيد} أَي: وَإِن الله على ذَلِك لشهيد أَي: على كفره.
وَقَالَ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس:(6/271)
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
وَقَوله: {وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد} مَعْنَاهُ: إِن الْإِنْسَان لأجل حب المَال لبخيل.
يُقَال: شَدِيد ومشدد أَي: بخيل.
قَالَ طرفَة:
(أرى الْمَوْت يعتام الْكِرَام ويصطفى ... عقيلة مَال الْفَاحِش المتشدد)
أَي: الْبَخِيل(6/271)
{أَفلا يعلم إِذا بعثر مَا فِي الْقُبُور (9) وَحصل مَا فِي الصُّدُور (10) إِن رَبهم بهم يَوْمئِذٍ لخبير (11) }(6/272)
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)
قَوْله تَعَالَى: {أَفلا يعلم إِذا بعثر مَا فِي الْقُبُور} أَي: أخرج، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " بحث " وَعَن غَيره وَهُوَ أبي بن كَعْب: " بحثر " أَي: قلب.(6/272)
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)
قَوْله: {وَحصل مَا فِي الصُّدُور} أَي: أظهر مَا فِيهَا.
وَقيل: جمع يَعْنِي: مَا فِي صَحَائِف الْأَعْمَال.(6/272)
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
وَقَوله: {إِن رَبهم بهم يَوْمئِذٍ لخبير} أَي: عَالم، وَيُقَال: أَي: يجازيهم بأعمالهم، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين يعلم الله مَا فِي قُلُوبهم} أَي: يجازيهم الله بِمَا فِي قُلُوبهم.
وَكَذَلِكَ قَوْله: {وَمَا تَفعلُوا من خير يُعلمهُ الله} أَي: يجازي عَلَيْهِ، وَقيل فِي قَوْله: {وَحصل مَا فِي الصُّدُور} أَي: ميز مَا فِيهَا من الْخَيْر وَالشَّر، وَالله أعلم.(6/272)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{القارعة (1) مَا القارعة (2) وَمَا أَدْرَاك مَا القارعة (3) يَوْم يكون النَّاس كالفراش المبثوث (4) وَتَكون الْجبَال كالعهن المنفوش (5) فَأَما من ثقلت}
تَفْسِير سُورَة القارعة
وَهِي مَكِّيَّة(6/273)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)
قَوْله تَعَالَى: {القارعة مَا القارعة} هِيَ الْقِيَامَة، سميت قَارِعَة؛ لِأَنَّهَا تقرع الْقُلُوب بالهول والشدة.
وَقَوله: {مَا القارعة} مَذْكُور على وَجه التَّعْظِيم والتهويل، وَكَذَلِكَ {وَمَا أَدْرَاك مَا القارعة} .(6/273)
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يكون النَّاس كالفراش المبثوث} الْفراش هُوَ صغَار الْحَيَوَان من البق والبعوض وَالْجَرَاد وَمَا يجْتَمع عِنْد ضوء السراج، والمبثوث سَمَّاهُ مبثوثا؛ لِأَنَّهُ يركب بعضه بَعْضًا، وَقيل: يمرج بعضه فِي بعض، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ جَراد منتشر} وَشبه النَّاس عِنْد الْحَشْر بِهِ؛ لِأَنَّهُ يمرج بَعضهم فِي بعض.(6/273)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
وَقَوله: {وَتَكون الْجبَال كالعهن} أَي: الصُّوف الَّذِي يدف، والعهن هُوَ الصُّوف الْمَصْبُوغ، وَهُوَ أرْخى مَا يكون من الصُّوف، وَذكر هَذَا على معنى أَن الْجبَال من هول يَوْم الْقِيَامَة مَعَ صلابتها وقوتها تصير كالعهن المنفوش.(6/273)
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)
قَوْله تَعَالَى: {فَأَما من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية} .
قَالَ الْفراء والزجاج: أَي ذَات رضَا.
وَقيل: مرضية.(6/273)
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)
وَقَوله: {وَأما من خفت مَوَازِينه} فِي بعض التفاسير: أَن لكل إِنْسَان ميزانا على حِدة لعمله من الْخَيْر وَالشَّر.(6/273)
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)
وَقَوله: {فأمه هاوية} أَي مرجعه إِلَى الهاوية، وسماها أمه؛ لِأَن الْإِنْسَان يأوي إِلَى(6/273)
{مَوَازِينه (6) فَهُوَ فِي عيشة راضية (7) وَأما من خفت مَوَازِينه (8) فأمه هاوية (9) وَمَا أَدْرَاك مَا هية (10) نَار حامية (11) } أمه؛ فالهاوية تؤوي الْكفَّار، فَهِيَ أمّهم، وَفِي بعض الْأَخْبَار فِي نعت النَّار: فبئست الْأُم، وبئست المربية، وَيُقَال: الهاوية كل مَوضِع يهوى فِيهِ الْإِنْسَان وَيهْلك.(6/274)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا هية} الْهَاء فِي قَوْله: {مَا هية} هَاء الْوَقْف على فَتْحة الْيَاء.(6/274)
نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
وَقَوله: (نَار حامية) أَي: حامية على الْكفَّار محرقة لَهُم، وَالله أعلم.(6/274)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{أَلْهَاكُم التكاثر (1) حَتَّى زرتم الْمَقَابِر (2) كلا سَوف تعلون (3) ثمَّ كلا سَوف تعلمُونَ (4) كلا لَو تعلمُونَ علم الْيَقِين (5) لترون الْجَحِيم (6) ثمَّ}
تَفْسِير سُورَة التكاثر
وَهِي مَكِّيَّة(6/275)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)
قَول تَعَالَى: {أَلْهَاكُم التكاثر} أَي: شغلكم التكاثر بالأموال وَالْأَوْلَاد عَمَّا أمرْتُم بِهِ.(6/275)
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)
وَقَوله: {حَتَّى زرتم الْمَقَابِر} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: حَتَّى متم، وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ أَنه تفاخر حَيَّان من قُرَيْش، وهما بَنو عبد منَاف، وَبَنُو الزهرة، وَقيل: بَنو زهرَة وَبَنُو جمح - وَهُوَ الْأَصَح - فعدوا الْأَحْيَاء فكثرتهم بَنو زهرَة فعدوا الْأَمْوَات فكثرتهم بَنو جمح، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى زرتم الْمَقَابِر} أَي: عددتم من فِي الْقُبُور.
وروى شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عَن أَبِيه قَالَ: انْتَهَيْت إِلَى رَسُول الله وَهُوَ يَقُول: " أَلْهَاكُم التكاثر " قَالَ: يَقُول ابْن آدم: مَالِي مَالِي، وَمَا لَك من مَالك إِلَّا مَا أكلت فأفنيت، أَو لبست فأبليت، أَو تَصَدَّقت فأمضيت؟ ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الصريفيني الْمَعْرُوف بِابْن هزارمرد، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا عَليّ بن الْجَعْد، عَن شُعْبَة. . الحَدِيث، خرجه مُسلم عَن بنْدَار، عَن غنْدر، عَن شُعْبَة.(6/275)
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)
وَقَوله تَعَالَى: {كلا سَوف تعلمُونَ} تهديد ووعيد.(6/275)
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
وَقَوله: {ثمَّ كلا سَوف تعلمُونَ} تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وَعِيد، وَالْمعْنَى: ستعلمون عَاقِبَة تفاخركم وتكاثركم إِذا نزل بكم الْمَوْت.(6/275)
{لترونها عين الْيَقِين (7) }(6/276)
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
قَوْله تَعَالَى: {كلا لَو تعلمُونَ عل الْيَقِين} جَوَابه مَحْذُوف، وَالْمعْنَى: كلا لَو تعلمُونَ علم الْيَقِين لارتدعتم عَمَّا تَفْعَلُونَ، وَقيل: مَا أَلْهَاكُم التكاثر.(6/276)
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
وَقَوله: {لترون الْجَحِيم ثمَّ لترونها عين الْيَقِين} قَالَ بَعضهم: الثَّانِي تَأْكِيد للْأولِ، وَالْمعْنَى فيهمَا وَاحِد، وَقَالَ بَعضهم: لترون الْجَحِيم عَن بعد إِذا أبرزت، ثمَّ لترونها عين الْيَقِين إِذا دخلتموها.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: كُنَّا نتحدث أَن علم الْيَقِين أَن يعلم أَن الله باعثه بعد الْمَوْت.
وَيُقَال: لترون الْجَحِيم فِي الْقَبْر، ثمَّ لترونها عين الْيَقِين فِي الْقِيَامَة.(6/276)
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
وَقَوله: {ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم} قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: النَّعيم صِحَة الْأَبدَان والأسماع والأبصار، يسْأَل الله تَعَالَى عباده يَوْم الْقِيَامَة فيمَ استعملوها؟ وَهُوَ أعلم بذلك مِنْهُم.
وَعَن ابْن مَسْعُود: أَنه الْأَمْن وَالصِّحَّة.
وَعَن قَتَادَة: هُوَ الْمطعم الهني وَالْمشْرَب الروي.
وروى أَبُو هُرَيْرَة مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي " أَنه الظل الْبَارِد وَالْمَاء الْبَارِد ".
وروى عمر بن أبي سَلمَة أَن النَّبِي وَأَبا بكر وَعمر أَتَوا منزل أبي الْهَيْثَم بن التيهَان، وأكلوا عِنْده لَحْمًا وَتَمْرًا، ثمَّ قَالَ النَّبِي: " هَذَا من النَّعيم الَّذِي تسْأَلُون عَنهُ ".
وروى أَن عمر قَالَ: " يَا رَسُول الله، نسْأَل عَن هَذَا؟ قَالَ: نعم إِلَّا كسرة يسد الرجل بهَا جوعه، وخرقة يستر بهَا عَوْرَته، وحجرا يدْخل فِيهِ من الْحر والقر ".
وروى ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد قَالَ: كل لذات الدُّنْيَا.
وَعَن بَعضهم: النّوم مَعَ الْعَافِيَة.(6/276)
{ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم (8) }
وَذكر أَبُو عِيسَى أَخْبَارًا فِي هَذِه، مِنْهَا مَا روينَا من حَدِيث مطرف، وَقَالَ: هُوَ حَدِيث حسن صَحِيح، وَمِنْهَا حَدِيث الْمنْهَال بن عَمْرو، عَن زر بن حُبَيْش، عَن عَليّ قَالَ: مَا زلنا نشك فِي عَذَاب الْقَبْر حَتَّى نزلت {أَلْهَاكُم التكاثر} .
قَالَ أَبُو عِيسَى: وَهُوَ حَدِيث غَرِيب.
وَمِنْهَا حَدِيث يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب، عَن عبد الله بن الزبير بن الْعَوام، عَن أَبِيه قَالَ: " لما نزلت {ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم} قَالَ الزبير: يَا رَسُول الله، وَأي النَّعيم يسْأَل عَنهُ، وَإِنَّمَا هما الأسودان: التَّمْر وَالْمَاء؟ قَالَ: أما إِنَّه سَيكون " قَالَ: وَهُوَ حَدِيث حسن.
وروى عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: " لما نزلت هَذِه الْآيَة: {ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم} قَالَ النَّاس: يَا رَسُول الله، عَن أَي النَّعيم نسْأَل، وَإِنَّمَا هما الأسودان، والعدو حَاضر، وسيوفنا على عواتقنا؟ قَالَ: إِن ذَلِك سَيكون ".
روى عَن الضَّحَّاك بن عبد الرَّحْمَن [بن] عَرْزَم الْأَشْعَرِيّ قَالَ: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله: " إِن أول مَا يسْأَل عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة - يَعْنِي العَبْد من النَّعيم - أَن يُقَال لَهُ: ألم نصحح لَك جسمك، ونروك من المَاء الْبَارِد ".
قَالَ: وَهُوَ حَدِيث غَرِيب، وَالله أعلم.(6/277)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَالْعصر (1) إِن الْإِنْسَان لفي خسر (2) إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ (3) }
تَفْسِير سُورَة الْعَصْر
وَهِي مَكِّيَّة(6/278)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
قَوْله تَعَالَى: {وَالْعصر إِن الْإِنْسَان} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الدَّهْر، وَفِيه الْعبْرَة لمرور اللَّيْل وَالنَّهَار أَنَّهُمَا على تَرْتِيب وَاحِد.
وَعَن الْحسن وَقَتَادَة: أَنه الْعشي.
قَالَ الشَّاعِر:
(تروح بِنَا عمر وَقد قصر الْعَصْر ... وَفِي الروحة الأولى المثوبة وَالْأَجْر)
والعصران: هما اللَّيْل وَالنَّهَار، وَيُقَال: هما الْغَدَاة والعشي.
وَقَالَ مقَاتل: الْعَصْر هُوَ صَلَاة الْعَصْر.
وَعَن بَعضهم: أَنه عصر النَّبِي أقسم بِهِ، وَحكى أَن فِي حرف عَليّ: " الْعَصْر ونوائب الدَّهْر إِن الْإِنْسَان لفي خسر.
وَهُوَ فِيهِ إِلَى آخر الْعُمر ".
وَقَالَ الزّجاج: وَالْمعْنَى: وَرب الْعَصْر.
وَقَوله: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} مَعْنَاهُ: لفي غبن، وَيُقَال: فِي شَرّ، وَيُقَال: فِي هَلَاك، والخسران هُوَ ذهَاب رَأس المَال، وَرَأس مَال الْآدَمِيّ هُوَ عمره وَنَفسه، فَإِذا كفر فقد ذهب رَأس مَاله، وَالْإِنْسَان هُوَ الْكَافِر، وَقيل: وَاحِد بِمَعْنى الْجمع، وَقيل: هُوَ فِي كَافِر بِعَيْنِه، فَقيل: إِنَّه أبي بن خلف، وَقيل: وليد بن الْمُغيرَة، وَقيل: أَبُو جهل بن هِشَام.(6/278)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} أَي: بالطاعات.
وَقَوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} قَالَ الْحسن وَقَتَادَة: أَي بِالْقُرْآنِ واتباعه، وَقيل: بِالتَّوْحِيدِ.
وَعَن السّديّ: بِاللَّه أَي: تواصوا بِاللَّه، وَعَن الفضيل بن عِيَاض قَالَ: يحث بَعضهم بَعْضًا على طَاعَة الله.(6/278)
وَقَوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} عَن الْمعاصِي، وَقيل: بِالصبرِ على الطَّاعَة، وَقد ورد خبر غَرِيب بِرِوَايَة أبي أُمَامَة أَن قَوْله: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} هُوَ أَبُو جهل بن هِشَام.
وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا} هُوَ أَبُو بكر {وَعمِلُوا الصَّالِحَات} هُوَ عمر {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} هُوَ عُثْمَان {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} هُوَ عَليّ، رَضِي الله عَنْهُم.(6/279)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{ويل لكل همزَة لُمزَة (1) الَّذِي جمع مَالا وعدده (2) يحْسب أَن مَاله أخلده (3) كلا لينبذن فِي الحطمة (4) وَمَا أَدْرَاك مَا الحطمة (5) نَار الله الموقدة}
تَفْسِير سُورَة الْهمزَة
وَهِي مَكِّيَّة، وَالله أعلم(6/280)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
قَوْله تَعَالَى: {ويل لكل همزَة} قد بَينا معنى الويل.
وَقَوله: {همزَة لُمزَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: الْهمزَة الَّذِي يطعن فِي النَّاس ويعيبهم، واللمزة هُوَ الَّذِي يغتابهم وَمثله عَن مُجَاهِد، وَقيل على الْعَكْس، فالهمزة هُوَ المغتاب، واللمزة الَّذِي يطعن فِي النَّاس، قَالَه السّديّ وَغَيره، وَعَن بَعضهم: أَن الْهمزَة هُوَ الَّذِي يُؤْذِي النَّاس بِلِسَان أَو يَد، واللمزة هُوَ الَّذِي يؤذيهم بحاجب (وَعين) ، وَهُوَ قَول غَرِيب، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَن الْآيَة نزلت فِي الْأَخْنَس بن شريق الزُّهْرِيّ، وَهُوَ قَول مَعْرُوف، وأنشدوا فِي الْهمزَة واللمزة:
(تدلى بودي إِذا لاقيتني كذبا ... وَإِن تغيبت كنت الهامز اللمزة)(6/280)
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
وَقَوله: {الَّذِي جمع مَالا وعدده} بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، فَقَوله: {جمع} بِالتَّخْفِيفِ مَعْلُوم، وبالتشديد فَالْمَعْنى: أَنه جمع من كل وَجه شَيْئا فَشَيْئًا.
وَقَوله: {وعدده} أَي أعده لنَفسِهِ ولحوادثه، وَقُرِئَ: " وعدده " بِالتَّخْفِيفِ، وَمَعْنَاهُ: جمع عددا أَي: قوما وأنصارا يتقوى بهم.(6/280)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
وَقَوله: {يحْسب أَن مَاله أخلده} أَي: يبْقى حَتَّى بَقِيَّته، قَالَه الْحسن، وَقَالَ بَعضهم: أَي: يمْنَع الْمَوْت عَنهُ.(6/280)
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَقَوله: {كلا لينبذن فِي الحطمة} هُوَ اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم، وَقَرَأَ ابْن مصرف:(6/280)
( {6) الَّتِي تطلع على الأفئدة (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤصدة (8) فِي عمد ممددة (9) " لينبذن فِي الحطمة " يَعْنِي: نَفسه وَمَاله، وَسميت النَّار حِكْمَة؛ لِأَنَّهَا تَأْكُل كل شَيْء.
يُقَال: رجل حُطَمة أَي: أكول، وَقيل: لِأَنَّهَا تكسر كل شَيْء من الحطم وَهُوَ الْكسر.(6/281)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)
وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الحطمة} قد بَينا.(6/281)
نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
وَقَوله: {نَار الله الموقدة الَّتِي تطلع على الأفئدة} يَعْنِي: يصل ألمها ووجعها إِلَى الْفُؤَاد.
قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: تَأْكُل النَّار أَجْسَادهم، فَإِذا وصلت النَّار إِلَى الْقلب أعيدوا كَمَا كَانُوا، وتعود النَّار إِلَى أكلهم فَهَكَذَا أبدا.(6/281)
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)
وَقَوله: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤصدة} قَالَ ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة: مطبقة، وَقيل: مغلقة.
يُقَال: أصدت الْبَاب أَي أغلقته.(6/281)
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
وَقَوله: {فِي عمد} وَقُرِئَ " فِي عمد ممددة " بِفَتْح الْعين وَرَفعه، وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَطَلْحَة وَيحيى بن وثاب: " بعمد ممدة " وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَعَن بَعضهم: أَن الْعمد الممدة هِيَ الأغلال فِي أَعْنَاقهم، وَعَن بَعضهم: [هُوَ] الْقُيُود فِي أَرجُلهم، وَعَن بَعضهم: قيود على قبرهم من نَار يُعَذبُونَ فِيهَا، وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ أَنَّهَا مطبقة بعمد يَعْنِي: مسدودة لَا يخرج مِنْهَا غمر، وَلَا يدخلهَا روح.
وَعَن قَتَادَة: يُعَذبُونَ بالعمد، وَهِي جمع عَمُود.
وَعَن أبي جَعْفَر الْقَارئ: أَنه بَكَى مرّة حِين قُرِئت هَذِه السُّورَة عَلَيْهِ، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك يَا أَبَا جَعْفَر؟ قَالَ: أَخْبرنِي زيد بن أسلم أَن أهل النَّار لَا يتنفسون فَذَلِك أبكاني.
وَقَوله: {ممدة} وَقيل: مُطَوَّلَة، وَيُقَال: ممدودة.
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَنه يبْقى رجل من الْمُؤمنِينَ فِي النَّار ألف سنة يَقُول: يَا حنان، يَا منان، وَهُوَ فِي شعب من شعاب النَّار، فَيَقُول الله لجبريل: أخرج عَبدِي من النَّار، فَيَجِيء جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فيجد النَّار مؤصدة أَي: مطبقة، فَيَعُود وَيَقُول: يَا رب، إِنِّي وجدت النَّار مؤصدة،(6/281)
فَيَقُول: يَا جِبْرِيل عد وَفَكهَا، وَأخرج عَبدِي من النَّار، فَيَعُود جِبْرِيل ويخرجه، وَهُوَ مثل الْخلال (أسود) فيلقيه على سَاحل الْجنَّة حَتَّى ينْبت الله لَهُ شعرًا وَلَحْمًا ودما ويدخله الْجنَّة.
رَوَاهُ عَن سعيد بن جُبَير، وَذكر أَن النَّار تطبق عَلَيْهِم لييأسوا من الْخُرُوج مِنْهَا، وَالله أعلم.(6/282)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل (1) }
تَفْسِير سُورَة الْفِيل
وَهِي مَكِّيَّة(6/283)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل} الْفِيل دَابَّة مَعْلُومَة، وَمعنى قَوْله: {ألم تَرَ} أَي: ألم تعلم؟ وَقيل: ألم تَرَ آثَار مَا فعل رَبك بأصحاب الْفِيل. وَأَصْحَاب الْفِيل هم جند من الْحَبَشَة أَمِيرهمْ أَبْرَهَة بن الصَّباح أَبُو يكسوم وَقيل: غَيره.
غزوا الْكَعْبَة، وقصدوا تخريبها وهدمها، وَأَصَح مَا حكى فِي سَببه أَن أَبْرَهَة كَانَ نَصْرَانِيّا بني بيعَة بِصَنْعَاء الْيمن، وزينها بالفاخر من الثِّيَاب والجواهر، وَقَالَ: بنيت هَذَا، يحجه الْعَرَب وأكفهم عَن حج الْكَعْبَة، وَأمر النَّاس بذلك وأجبرهم عَلَيْهِ، فجَاء رجل من الْعَرَب - وَقيل: إِنَّه كَانَ من بني كنَانَة - وَدخل الْبيعَة، وأحدث فِيهَا وهرب، فَذكر ذَلِك لأبرهة فَغَضب غَضبا شَدِيدا وَحلف بالنصرانية والمسيح ليغزون الْكَعْبَة، وليهدمنها حجرا حجرا، ثمَّ إِنَّه غزا الْكَعْبَة مَعَ جَيش عَظِيم.
وَفِيه قصَّة طَوِيلَة، وسَاق مَعَ نَفسه فيلا يُقَال لَهُ: مَحْمُود، وَقيل: كَانَت ثَمَانِيَة من الفيلة أكبرها هَذَا الْفِيل، وَلَقي فِي الطَّرِيق جندا من الْعَرَب وَهَزَمَهُمْ، وَقتل مِنْهُم حَتَّى أَتَى الطَّائِف، ثمَّ إِنَّه توجه من الطَّائِف إِلَى مَكَّة، وَدَلِيله أَبُو رِغَال، فَمَاتَ أَبُو رِغَال فِي الطَّرِيق فقبره هُوَ الْقَبْر الَّذِي تَرْجمهُ الْعَرَب، وَهُوَ بَين مَكَّة والطائف، وَنزل أَبْرَهَة والجند بالمغمس، وَسمع أهل مَكَّة بذلك، وسيدهم يَوْمئِذٍ عبد الْمطلب بن هَاشم، وأغار الْجند على مَا وجدوا من أَمْوَال أهل مَكَّة وإبلهم، وَأخذُوا مِائَتي بعير لعبد الْمطلب ثمَّ إِنَّه جَاءَ عبد الْمطلب، إِلَى أَبْرَهَة فِي طلب بعيره - وَكَانَ رجلا جسيما وسيما - فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَة أعجبه حسنه وجماله فَقَالَ: مَا حَاجَتك؟ فَقَالَ: أَن ترد على إبلي.
فَقَالَ لِترْجُمَانِهِ: قل(6/283)
{ألم يَجْعَل كيدهم فِي تضليل (2) } لَهُ: أعجبني مَا رَأَيْت من هيئتك، ثمَّ رغبت عَنْك حِين سَمِعت كلامك، فَقَالَ عبد الْمطلب: وَمَا الَّذِي رغب الْملك عني؟ فَقَالَ: جِئْت لأهدم شرفك وَشرف آبَائِك، فَتركت ذكره وَسَأَلتنِي إبِلا أخذت لَك! فَقَالَ لَهُ عبد الْمطلب: أَنا رب الْإِبِل، وَإِن للبيت رَبًّا يمنعهُ، فَأمر برد الْإِبِل عَلَيْهِ، فَعَاد عبد الْمطلب، وَأمر أهل مَكَّة حَتَّى تَنْصَرِف فِي رُءُوس الْجبَال، وَقَالَ: قد جَاءَكُم مَالا قبل لكم بِهِ.
ثمَّ أَخذ عبد الْمطلب بِحَلقَة الْكَعْبَة وَقَالَ:
(يَا رب: لَا أَرْجُو لَهُم سواكا ... يَا رب، فامنع مِنْهُم حماكا)
(إِن عَدو الْبَيْت من عاداك ... )
وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا أَنه قَالَ:
(يَا رب إِن الْمَرْء يمْنَع ... حلّه فامنع حلالك)
(لَا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبدا محالك)
والمحال: الْعقُوبَة.
(إِن كنت تاركهم وكعبتنا ... فامر مَا بدالك)
ثمَّ خرج مَعَ الْقَوْم وخلوا مَكَّة، فروى أَن الْفِيل كَانَ إِذا أحس التَّوَجُّه قبل مَكَّة امْتنع، فَإِذا وَجه نَحْو الْيمن أسْرع وهرول، وَحبس الله الْفِيل عَن الْبَيْت، وَهُوَ معنى مَا ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ يَوْم الْحُدَيْبِيَة حِين بَركت نَاقَته - وَهِي الْقَصْوَاء - وَقَالَ النَّاس: خلأت الْقَصْوَاء فَقَالَ النَّبِي: " لَا، لَكِن حَبسهَا حَابِس الْفِيل " ثمَّ إِن الله تَعَالَى بعث عَلَيْهِم طيرا خرجت من قبل الْبَحْر، قَالَ ابْن عَبَّاس: لَهَا خراطيم الطير وأنف الْكلاب، وَقيل: كَانَت سَوْدَاء، وَقيل: حَمْرَاء، وَمَعَ كل طير ثَلَاثَة أَحْجَار: حجران فِي كفيه، وَحجر فِي منقاره، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْحجر كَانَ دون الحمص وَفَوق(6/284)
{وَأرْسل عَلَيْهِم طيرا أبابيل (3) ترميهم بحجارة من سجيل (4) فجعلهم كعصف مَأْكُول (5) العدس، فَجَاءَت الطير ورمتهم بالأحجار، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْحجر كَانَ يُصِيب رَأس الْإِنْسَان، فَيخرج من دبره، فَيسْقط وَيَمُوت، وَكَانَ إِذا وَقع على جَانب مِنْهُ خرج من الْجَانِب الآخر، وهرب الْقَوْم وتساقطوا فِي الطَّرِيق.
وَقيل: إِن الْحجر إِذا أصَاب الْوَاحِد مِنْهُم نفط مَوْضِعه وأصابه الجدري، فَهُوَ أول مَا رئى الجدري فِي ديار الْعَرَب، وَالله أعلم.
وَأما أَبْرَهَة فتساقط فِي الطَّرِيق أُنْمُلَة أُنْمُلَة، ثمَّ إِنَّه انصدع صَدره عَن قلبه وَمَات.
وعام الْفِيل هُوَ الْعَام الَّذِي ولد فِيهِ النَّبِي، وَقد قيل: إِنَّه ولد بعد ذَلِك بِسنتَيْنِ، وَالصَّحِيح هُوَ الأول، وَقَالَ أهل الْعلم: كَانَ ذَلِك إرهاصا لنبوة النَّبِي وتأسيسا بهَا.(6/285)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
قَوْله تَعَالَى: {ألم يَجْعَل كيدهم فِي تضليل} أَي: أبطل مَكْرهمْ وسعيهم، وَيُقَال: قَوْله: {فِي تضليل} أَي: ضل عَنْهُم، وفاتهم مَا قصدُوا.(6/285)
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
وَقَوله: {وَأرْسل عَلَيْهِم طيرا أبابيل} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: جماعات فِي تَفْرِقَة، وَعند أبي عُبَيْدَة وَالْفراء: لَا وَاحِد لَهَا، وَعند الْكسَائي: وَاحِدهَا: أبول مثل عجاجيل وعجول.
وَيُقَال: طيرا أبابيل أَي: كَثِيرَة، وَيُقَال: أقاطيع يتبع بَعْضهَا بَعْضًا.(6/285)
تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
وَقَوله: {ترميهم بحجارة من سجيل} قَالَ ابْن عَبَّاس: السجيل بِالْفَارِسِيَّةِ (سنك) كل، وَيُقَال: من سجيل من السَّمَاء، وَهُوَ اسْم سَمَاء الدُّنْيَا.(6/285)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
وَقَوله: {فجعلهم كعصف مَأْكُول} العصف: هُوَ ورق الزَّرْع، وَمَعْنَاهُ: كعصف قد أكل مَا فِيهِ، وَقيل: كل ثمره.
وَالْمعْنَى: أَن الله تَعَالَى شبههم بالزرع الَّذِي أَكلته الدَّوَابّ وراثته وَتَفَرَّقَتْ، وَلم يبْق من ذَلِك شَيْء فَشبه هلاكهم بذلك، وَالله أعلم.(6/285)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{لِإِيلَافِ قُرَيْش (1)
تَفْسِير سُورَة لِإِيلَافِ
وَهِي مَكِّيَّة(6/286)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
قَوْله تَعَالَى: {لِإِيلَافِ قُرَيْش} روى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {لِإِيلَافِ قُرَيْش} قَالَ: نعمتي على قُرَيْش بإيلافهم رحْلَة الشتَاء والصيف.
والإيلاف فِي اللُّغَة هُوَ ضد الإيجاش، وَهُوَ نَظِير الإيناس، فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى ابْتِدَاء السُّورَة بِاللَّامِ؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن مَعْنَاهُ: اعجبوا لِإِيلَافِ قُرَيْش وتركهم الْإِيمَان بِي، كَأَنَّهُ يذكر نعْمَته عَلَيْهِم، وَيذكر كفرانهم لنعمته بترك الْإِيمَان، وَالْوَجْه الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: أَن هَذَا مُتَّصِل فِي الْمَعْنى بالسورة الْمُتَقَدّمَة، وَكَأَنَّهُ قَالَ: {فجعلهم كعصف مَأْكُول لِإِيلَافِ قُرَيْش} أَي: ليبقى لَهُم مَا ألفوه من رحلتي الشتَاء والصيف.
وَذكر القتيبي فِي معنى السُّورَة: أَن الْقَوْم لم يكن لَهُم زرع وَلَا ضرع إِلَّا الْقَلِيل، وَكَانَت مَعَايشهمْ من التِّجَارَة وَكَانَت لَهُم رحلتان: رحْلَة فِي الصَّيف إِلَى الشَّام، ورحلة فِي الشتَاء إِلَى الْيمن، وَقيل: غير هَذَا، وَكَانُوا إِذا خَرجُوا من مَكَّة لَا يتَعَرَّض لَهُم أحد، فَإِذا لَقِيَهُمْ قوم قَالُوا: نَحن أهل الله فيكفون عَنْهُم وَلَا يحاجون.
وروى أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: نَحن من حرم الله، فَتَقول الْعَرَب: هَؤُلَاءِ أهل الله فيكفون عَنْهُم، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا أَنا جعلنَا حرما آمنا وَيُتَخَطَّف النَّاس من حَولهمْ} فَذكر الله تَعَالَى فِي هَذِه السُّورَة وَالسورَة الْمُتَقَدّمَة منته عَلَيْهِم فِي دفع أَصْحَاب الْفِيل عَنْهُم، ليبقى لَهُم مَا ألفوه من التِّجَارَة فِي رحلتي الشتَاء والصيف.
وَأما قُرَيْش: فهم أَوْلَاد النَّضر بن كنَانَة، فَكل من كَانَ من أَوْلَاد النَّضر بن كنَانَة فَهُوَ(6/286)
{إيلافهم رحْلَة الشتَاء والصيف (2) فليعبدوا رب هَذَا الْبَيْت (3) الَّذِي أطْعمهُم من جوع وآمنهم من خوف (4) } قرشي وَاخْتلفُوا فِي اشتقاق هَذَا الِاسْم، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: سموا قُريْشًا للتِّجَارَة، وَكَانُوا أهل تِجَارَة، والقرش: الْكسْب، يُقَال: كَانَ فلَان يقرش لِعِيَالِهِ ويقترش أَي: يكْتَسب.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه سميت قُرَيْش قُريْشًا بِدَابَّة تكون فِي الْبَحْر، يُقَال لَهَا: القرش، لَا تمر بغث وَلَا سمين إِلَّا أَكلته وأنشدوا فِي ذَلِك:
(وقريش هِيَ الَّتِي تسكن الْبَحْر ... وَبهَا سميت قُرَيْش قُريْشًا)
(تَأْكُل الغث والسمين وَلَا تتْرك ... فِيهِ لذِي الجناحين ريشا)
(هَكَذَا فِي الْبِلَاد هِيَ قُرَيْش ... يَأْكُلُون الْبِلَاد أكلا كميشا)
(وَلَهُم آخر الزَّمَان نَبِي ... يكثر الْقَتْل فيهم والخموشا)(6/287)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
وَقَوله: {فليعبدوا رب هَذَا الْبَيْت الَّذِي أطْعمهُم من جوع} قَالَ ذَلِك لأَنهم كَانُوا يجلبون الطَّعَام من الْمَوَاضِع الْبَعِيدَة وَكَانَ هُوَ الَّذِي يسهل لَهُم ذَلِك، ويرزقهم إِيَّاهَا بتيسير أَسبَابهَا لَهُم.
وَقَوله: {وآمنهم من خوف} أَي: من خوف الْغَارة وَالْقَتْل على مَا قُلْنَا، وَقيل: من خوف الجذام، وَالأَصَح هُوَ الأول.
وَفِي بعض التفاسير: أَن أول من جمع قُريْشًا على رحلتي الشتَاء والصيف هَاشم بن عبد منَاف، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ فِي بضائعهم باسم الْفُقَرَاء شَيْئا مَعْلُوما فَإِذا رجعُوا أعطوهم ذَلِك تقربا إِلَى الله.
وَقَالَ الشَّاعِر فِي هَاشم:
(عَمْرو الْعلَا هشم الثَّرِيد لِقَوْمِهِ ... وَرِجَال مَكَّة مسنتون عجاف)
(الخالطين فقيرهم بغنيهم ... حَتَّى يصير فقيرهم كالكاف)(6/287)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{أَرَأَيْت الَّذِي يكذب بِالدّينِ (1) فَذَلِك الَّذِي يدع الْيَتِيم (2) وَلَا يحض على طَعَام الْمِسْكِين (3) فويل للمصلين (4) }
تَفْسِير سُورَة أَرَأَيْت
وَهِي مَكِّيَّة
وَقيل: إِنَّهَا مَدَنِيَّة، وَقيل: نصفهَا مَكِّيَّة، وَنِصْفهَا مَدَنِيَّة، فالنصف الأول إِلَى قَوْله {فويل للمصلين} مَكِّيَّة، وَالنّصف الْبَاقِي مَدَنِيَّة، وَالله أعلم.(6/288)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {أَرَأَيْت الَّذِي يكذب بِالدّينِ} أَي: بالجزاء، وَقيل: بِالْحِسَابِ، قَالَه مُجَاهِد، وَالْمعْنَى: أَرَأَيْت من يكذب بِالدّينِ أمخطئ هُوَ أم مُصِيب؟ يَعْنِي: أَنه مُخطئ فَلَا توافقه وَلَا تتبعه.(6/288)
فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
وَقَوله: {فَذَلِك الَّذِي يدع الْيَتِيم} وَورد فِي الحَدِيث أَن النَّبِي قَالَ: " من ضم يَتِيما من بَين الْمُسلمين إِلَى نَفسه، وَجَبت لَهُ الْجنَّة ".
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يَدعُ الْيَتِيم " أَي: يتْرك الْعَطف عَلَيْهِ وَالرَّحْمَة لَهُ.(6/288)
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يحض على طَعَام الْمِسْكِين} قيل: لَا يطعم بِنَفسِهِ، وَلَا يَأْمر بِهِ غَيره.(6/288)
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {فويل للمصلين الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون} قَالَ قَتَادَة: غافلون.
وروى الْمُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: مضيعون للْوَقْت، وَهَذَا قَول مَعْرُوف، وَهُوَ وَارِد عَن جمَاعَة من التَّابِعين، وَذكروا أَن المُرَاد بالسهو هَاهُنَا هُوَ تَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقتهَا، وَالْقَوْل الثَّالِث: وَهُوَ أَن الْآيَة وَردت فِي الْمُنَافِقين.
وَمعنى قَوْله: {الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون} يَعْنِي: أَنهم إِن صلوها لم يرجوا(6/288)
{الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون (5) الَّذين هم يراءون (6) وَيمْنَعُونَ الماعون (7) } ثَوابًا، وَإِن تركوها لم يخَافُوا عقَابا.
قَالَ ابْن زيد: هم المُنَافِقُونَ صلوها، وَلَيْسَت الصَّلَاة من شَأْنهمْ.
وروى الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هم المُنَافِقُونَ، كَانُوا إِذا حَضَرُوا صلوها رِيَاء، وَإِذا غَابُوا تركوها.
وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: هُوَ الْمُنَافِق، إِذا رأى النَّاس صلى، وَإِذا لم ير النَّاس لم يصل.
وَقيل: ساهون أَي: لاهون، وَالْمعْنَى أَنهم يشتغلون بِغَيْرِهِ عَنْهَا.(6/289)
الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
وَقَوله: {الَّذين هم يراءون} قد بَينا.(6/289)
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
وَقَوله: {وَيمْنَعُونَ الماعون} قَالَ عَليّ: هُوَ الزَّكَاة، حَكَاهُ مُجَاهِد عَنهُ، وَهَذَا القَوْل محكي أَيْضا عَن الْحسن وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الْعَارِية، وَسميت ماعونا: لِأَن النَّاس يعين بَعضهم بَعْضًا.
وَقد ورد فِي الْخَبَر: أَنه مثل المَاء وَالْملح والفأس وَالْقدر والمقدحة وَمَا أشبه ذَلِك.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي مَا الَّذِي لَا يحل مَنعه؟ قَالَ: " المَاء وَالْملح وَالنَّار ".
وَفِي بعض الرِّوَايَات زِيَادَة: " وَالْحجر والدلو ".
وَحكى أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس عَن أَبِيه فَارس، أَن الماعون هُوَ المَاء، حَكَاهُ عَن أهل اللُّغَة، وَقد ذكره النّحاس أَيْضا فِي كِتَابه.
وأنشدوا:
(يمج صبيرة الماعون مجا ... )
وأنشدوا فِي الماعون بِمَعْنى الزَّكَاة:
(قوم على الْإِسْلَام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا)(6/289)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر (1) }
تَفْسِير سُورَة الْكَوْثَر
وَهِي مَكِّيَّة
روى الْمُخْتَار بن فلفل عَن أنس قَالَ: " بَينا رَسُول الله ذَات يَوْم بَين أظهرنَا، إِذا أغفى إغْفَاءَة، ثمَّ رفع رَأسه مُتَبَسِّمًا، فَقلت: مَا أضْحكك يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: أنزلت عليَّ آنِفا سُورَة " فَقَرَأَ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر فَصلي لِرَبِّك وانحر إِن شانئك هُوَ الأبتر} ثمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَر؟ قُلْنَا: الله وَرَسُوله أعلم.
قَالَ: فَإِنَّهُ نهر وعدنيه رَبِّي خيرا كثيرا، هُوَ حَوْضِي ترد عَلَيْهِ أمتِي يَوْم الْقِيَامَة، آنيته عدد نُجُوم السَّمَاء، فيختلج العَبْد مِنْهُم، فَأَقُول: رب إِنَّه من أمتِي، فَيَقُول: إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بعْدك ".
رَوَاهُ مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، عَن عَليّ بن مسْهر عَن الْمُخْتَار بن فلفل.(6/290)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} قد بَينا.
وروى همام، عَن قَتَادَة عَن أنس أَن رَسُول الله قَالَ: " بَينا أَنا أَسِير فِي الْجنَّة إِذا بنهر حافتاه قباب اللُّؤْلُؤ المجوف، فَقلت: مَا هَذَا يَا جِبْرِيل؟ فَقَالَ: هَذَا الْكَوْثَر الَّذِي أَعْطَاك رَبك، فَضرب الْملك بِيَدِهِ، فَإِذا طينه مسك أذفر ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ:(6/290)
{فصل لِرَبِّك وانحر (2) } أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحسن بن النقور، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا هدبة، عَن همام. . الحَدِيث.
وَأخرجه البُخَارِيّ عَن هدبة، وَذكره أَبُو عِيسَى فِي كِتَابه بروايته عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله: " بَينا أَنا أَسِير فِي الْجنَّة إِذا عرض [لي] نهر حافتاه قباب اللُّؤْلُؤ، قلت للْملك: مَا هَذَا؟ قَالَ هَذَا الْكَوْثَر الَّذِي أعطاكه الله، قَالَ: ثمَّ ضرب بِيَدِهِ إِلَى طينه فاستخرج مسكا، ثمَّ رفعت لي (سِدْرَة الْمُنْتَهى) فَرَأَيْت عِنْدهَا نورا عَظِيما ".
قَالَ: وَهُوَ حَدِيث حسن صَحِيح، وروى أَيْضا بطرِيق [محَارب] بن دثار عَن عبد الله بن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله: " الْكَوْثَر نهر فِي الْجنَّة، حافتاه من ذهب وَمَجْرَاهُ على الدّرّ والياقوت، [و] ترتبه أطيب من الْمسك، وماؤه أحلى من الْعَسَل، وأبيض من الثَّلج ".
قَالَ: هُوَ حَدِيث حسن.
وَفِي بعض التفاسير بِرِوَايَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي قَالَ: " من أَرَادَ أَن يسمع خرير الْكَوْثَر، فَلْيدْخلْ أُصْبُعه فِي أُذُنه ".
وَهُوَ غَرِيب جدا.
وَفِي الْكَوْثَر قَول آخر، وَهُوَ أَنه الْخَيْر الْكثير، فَهُوَ فوعل من الْكَثْرَة، وَقد أعْطى الله(6/291)
{إِن شانئك هُوَ الأبتر (3) } رَسُوله مُحَمَّدًا من الْخَيْر مَا لَا يُحْصى وَلَا يعد كَثْرَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الْقُرْآن، وَقيل: الْعلم وَالْقُرْآن.(6/292)
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
وَقَوله: {فصل لِرَبِّك وانحر} أَي: صل الصَّلَوَات الْخمس، وانحر الْبدن، وَقيل: صل بِجمع، وانحر بمنى، قَالَه مُجَاهِد وَعَطَاء، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن معنى قَوْله: {وانحر} هُوَ وضع الْيَمين على الشمَال فِي الصَّلَاة على النَّحْر.
وَقيل: وانحر واستقبل الْقبْلَة بنحرك.
قَالَ الشَّاعِر:
(أَبَا حكم هَل أَنْت عَم مجَالد ... وَسيد أهل الأبطح المتناحر)
أَي: المتقابل.
وروى مقَاتل بن حَيَّان، عَن الْأَصْبَغ بن نباتة، عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لما نزلت على النَّبِي {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر فصل لِرَبِّك وانحر} قَالَ النَّبِي لجبريل - عَلَيْهِ السَّلَام -: مَا هَذِه النحيرة الَّتِي أَمرنِي بهَا رَبِّي؟ قَالَ: إِنَّهَا لَيست بنحيرة، وَلكنه يَأْمُرك إِذا (تحرمت) بِالصَّلَاةِ، أَن ترفع يَديك إِذا كَبرت، وَإِذا ركعت، وَإِذا رفعت رَأسك من الرُّكُوع، فَإِنَّهَا من صَلَاتنَا وَصَلَاة الْمَلَائِكَة فِي السَّمَوَات السَّبع.
وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: أَن قوما كَانُوا يصلونَ وينحرون(6/292)
لغير الله، فَقَالَ الله تَعَالَى: {فصل لِرَبِّك وانحر} أَي: اجْعَل صَلَاتك ونحرك لله.(6/293)
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
وَقَوله: {إِن شانئك هِيَ الأبتر} أَكثر الْمُفَسّرين أَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْعَاصِ بن وَائِل السَّهْمِي، كَانَ إِذا ذكر لَهُ رَسُول الله قَالَ: دعوا ذكره، فَإِنَّهُ أَبتر يَعْنِي: أَنه لَا ولد لَهُ، فَإِذا مَاتَ انْقَطع ذكره، وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ، وَكَانَت قُرَيْش تَقول لمن مَاتَ ابْنه، أَو لم يكن لَهُ ابْن: أَبتر.
فَقَالَ الله تَعَالَى: {إِن شانئك هُوَ الأبتر} يَعْنِي: مبغضك هُوَ الأبتر أَي: الَّذِي انْقَطع خَيره وَذكره فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة والبتر هُوَ الْقطع.
وَقيل إِن الْآيَة فِي عقبَة بن أبي معيط وَقيل: إِن المُرَاد بِهِ كَعْب بن الْأَشْرَف، قدم مَكَّة، فَقَالَت لَهُ قُرَيْش: مَا تَقول أَيهَا الحبر فِي هَذَا (الصنبور) ؟ أهوَ خير أم نَحن؟ إِنَّه سبّ ألهتنا، وَفرق جَمعنَا، وَنحن أهل حرم الله وحجيج بَيته وسدنته، فَقَالَ: بل أَنْتُم خير مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِن شانئك هُوَ الأبتر} فِيهِ.(6/293)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أعبد مَا تَعْبدُونَ (2) وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد (3) وَلَا أَنا عَابِد مَا عَبدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد (5) لكم دينكُمْ}
تَفْسِير سُورَة {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ}
وَهِي مَكِّيَّة(6/294)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما قَرَأَ رَسُول الله سُورَة والنجم، وَألقى الشَّيْطَان على لِسَانه عِنْد ذكر أصنامهم: وَإِن شفاعتهن لترتجى، فَقَالَ الْكفَّار: يَا مُحَمَّد، نصطلح تعبد آلِهَتنَا سنة، ونعبد إلهك سنة، ونعظم إلهك، وتعظم آلِهَتنَا، وَذكروا من هَذَا النَّوْع شَيْئا كثيرا، فَحزن النَّبِي لمقالتهم، وَرجع إِلَى بَيته حَزينًا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، وَهِي {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ لَا أعبد مَا تَعْبدُونَ} أَي: الْيَوْم.(6/294)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
{وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد} الْيَوْم.(6/294)
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)
{وَلَا أَنا عَابِد مَا عَبدْتُمْ} فِي الْمُسْتَقْبل.(6/294)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
{وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد} فِي الْمُسْتَقْبل.(6/294)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
{لكم دينكُمْ ولي دين} لكم جَزَاء عَمَلكُمْ، ولي جَزَاء عَمَلي.
قَالُوا: وَهَذَا فِي قوم بأعيانهم، مِنْهُم الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَأُميَّة بن خلف، وَالْعَاص بن وَائِل، وَالْأسود بن الْمطلب، وَقد كَانَ الله أخبر أَنهم يموتون على الْكفْر.
وَقيل: إِن هَذِه السُّورَة نزلت قبل آيَة السَّيْف، ثمَّ نسخت بأية السَّيْف.
وَقد ورد فِي الْخَبَر: أَن قِرَاءَة هَذِه السُّورَة بَرَاءَة من الشّرك.
روى أَبُو خَيْثَمَة، عَن ابْن إِسْحَاق، عَن فَرْوَة بن نَوْفَل، عَن أَبِيه أَنه أَتَى النَّبِي وَقَالَ: جِئْت يَا رَسُول الله لتعلمني شَيْئا أقوله عِنْد مَنَامِي، فَقَالَ: " إِذا أخذت مضجعك فاقرأ: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} ثمَّ نم على خاتمتها، فَإِنَّهَا بَرَاءَة من الشّرك ".
وَعَن(6/294)
{ولي دين (6) } بَعضهم قَالَ: " كنت أَمْشِي مَعَ النَّبِي فِي لَيْلَة ظلماء، فَسمع رجلا يقْرَأ: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} فَقَالَ: أما هَذَا فقد برِئ من الشّرك، وَسمع رجلا يقْرَأ: {قل هُوَ الله أحد} فَقَالَ: أما هَذَا فقد غفر لَهُ ".
وَفِي السُّورَة سُؤال مَعْرُوف، وَهُوَ السُّؤَال عَن معنى التكرير؟ وَقد أجبنا، وَيُقَال: إِنَّهُم كرروا عَلَيْهِ الْكَلَام مرّة بعد مرّة، فكرر الله تَعَالَى عَلَيْهِم الْإِجَابَة.
وَفِي السُّورَة سُؤال آخر، وَهُوَ فِي قَوْله: {قل} كَيفَ قُرِئت هَذِه الْكَلِمَة، وَهِي أمره بِالْقِرَاءَةِ؟ وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: {قل هُوَ الله أحد} .
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن قَوْله: {قَول يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} جَمِيعه قُرْآن، وَنحن أمرنَا بِتِلَاوَة الْقُرْآن على مَا أنزل، فَنحْن نتلو كَذَلِك.
وَفِي السُّورَة سُؤال ثَالِث وَهُوَ أَنه قَالَ: {وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد} وَلم يقل: من أعبد؟
وَالْجَوَاب عَنهُ أَنه قَالَ ذَلِك على مُوَافقَة قَوْله: {وَلَا أَنا عَابِد مَا عَبدْتُمْ} وَقد قيل: إِن " مَا " بِمَعْنى " من " هَاهُنَا، وَالله أعلم(6/295)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح (1) وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا (2) فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ إِنَّه كَانَ تَوَّابًا (3) }
تَفْسِير سُورَة النَّصْر
وَهِي مَدَنِيَّة(6/296)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} أَجمعُوا على أَن الْفَتْح هُوَ فتح مَكَّة، وَقيل: إِن النَّصْر فِيهِ أَيْضا، وَيُقَال: إِن النَّصْر هُوَ يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَالْأول هُوَ الْأَظْهر وَالْأَشْهر.(6/296)
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)
وَقَوله: {وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا} أَي: زمرا زمرا، وفوجا فوجا.
وَفِي التَّفْسِير: أَن رَسُول الله لما فتح مَكَّة قَالَ الْمُشْركُونَ: إِن مُحَمَّدًا قد نَصره الله على قُرَيْش، وهم أهل الله وَأهل حرمه، فقد منع الله الْفِيل عَنْهُم فَلَا يدان لأيد [أحد] بِمُحَمد يَعْنِي: لَا قُوَّة، فَدَخَلُوا فِي دينه أَفْوَاجًا وَكَانَت الْقَبِيلَة بأسرها تسلم، ووفد عَلَيْهِ الْوُفُود من الجوانب، وَدخل أَكثر ديار الْعَرَب فِي الْإِسْلَام، وَلم يبْق إِلَّا الْقَلِيل، وَقد كَانَ قبل ذَلِك يدْخل الْوَاحِد والاثنان على خوف شَدِيد، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا} .(6/296)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
وَقَوله: {فسبح بِحَمْد رَبك} أَي: صل حامدا لِرَبِّك.
وَالأَصَح أَن مَعْنَاهُ: {اذكره بالتحميد وَالشُّكْر لهَذِهِ النِّعْمَة الْعَظِيمَة، فَإِن التَّسْبِيح هُوَ بِمَعْنى الذّكر فَصَارَ معنى الْآيَة على هَذَا: فاذكر رَبك بالتحميد وَالشُّكْر.
وَقَوله: {وَاسْتَغْفرهُ} أَي: اطلب التجاوز وَالْعَفو عَنهُ.
وَقَوله: {إِنَّه كَانَ تَوَّابًا} أَي: تَوَّابًا على عباده، وَيُقَال: التواب هُوَ المسهل لسبيل التَّوْبَة، وَيُقَال: هُوَ الْقَابِل لَهَا.(6/296)
وَقد ثَبت عَن ابْن عَبَّاس أَن فِي الصُّورَة نعي النَّبِي إِلَى نَفسه، وَأمره بالتسبيح وَالِاسْتِغْفَار ليَكُون؛ آخر أمره وخاتمة عمله على زِيَادَة الطَّاعَة وَالذكر لله.
وَورد أَيْضا أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ إِذا حضر الْمُهَاجِرين واستشارهم فِي شَيْء، أحضر مَعَهم عبد الله بن عَبَّاس، فَقَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن لنا أَوْلَادًا مثله - يَعْنِي أَنَّك لَا تحضرهم - فَقَالَ: إِنَّه من حَيْثُ تعلمُونَ، ثمَّ إِنَّه سَأَلَهُمْ مرّة عَن هَذِه السُّورَة فَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى أَمر رَسُول الله بالتسبيح وَالِاسْتِغْفَار حِين جَاءَهُ الْفَتْح، وَدخل النَّاس فِي الدّين أَفْوَاجًا، فَسَأَلَ عبد الله بن عَبَّاس عَن معنى السُّورَة فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن الله تَعَالَى نعى إِلَى رَسُول الله نَفسه بِهَذِهِ السُّورَة، وَأمره بِزِيَادَة الْعَمَل وَالذكر؛ ليَكُون خَاتِمَة عمره عَلَيْهِ فَقَالَ لسَائِر الْمُهَاجِرين: إِنَّمَا أحضرهُ لهَذَا وَأَمْثَاله، أَو كَلَام هَذَا مَعْنَاهُ، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور فِي الصَّحِيح فِي هَذَا الْخَبَر أَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِنَّمَا هُوَ أجل رَسُول الله أعلمهُ إِيَّاه فَقَالَ لَهُ عمر: وَالله لَا أعلم مِنْهَا إِلَّا مَا تعلم.
وَقيل: إِن السُّورَة نزلت فِي أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق.
وَقيل: إِن رَسُول الله لم يَعش بعد هَذِه السُّورَة إِلَّا ثَمَانِينَ لَيْلَة.
وَقد قيل: إِنَّهَا آخر سُورَة نزلت من الْقُرْآن كَامِلَة، وَالله أعلم.(6/297)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{تبت يدا أبي لَهب وَتب (1) }
تَفْسِير سُورَة تبت
وَهِي مَكِّيَّة(6/298)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
قَوْله تَعَالَى: {تبت يدا أبي لَهب وَتب} سَبَب نزُول هَذِه السُّورَة هُوَ مَا روى أَبُو مُعَاوِيَة [الضَّرِير مُحَمَّد بن خازم] عَن الْأَعْمَش، عَم عَمْرو بن مرّة، عَن سعيد ابْن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صعد ذَات يَوْم الصَّفَا وَقَالَ: " يَا صَبَاحَاه " فاجتمعت قُرَيْش فَقَالُوا لَهُ: مَالك؟ فَقَالَ: " (أَرَأَيْتُم) لَو أَخْبَرتكُم أَن الْعَدو مصبحكم أَو ممسيكم، أما (تصدقونني؟) " قَالُوا: بلَى.
قَالَ: " فَإِنِّي نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد " فَقَالَ أَبُو لَهب: تَبًّا لَك، أَلِهَذَا دَعوتنَا جَمِيعًا فَأنْزل الله تَعَالَى: {تبت يدا أبي لَهب وَتب} إِلَى آخر السُّورَة ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مُحَمَّد الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، أخبرنَا جدي أَبُو الْهَيْثَم، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، أخبرنَا (مُحَمَّد) بن سَلام، عَن [أبي] مُعَاوِيَة. . الحَدِيث(6/298)
{مَا أغْنى عَنهُ مَاله وَمَا كسب (2) سيصلى نَارا ذَات لَهب (3) }
قَوْله: {وَتب} قَالَ مقَاتل وَغَيره: خسرت، والتباب فِي اللُّغَة هُوَ الْهَلَاك، وَهُوَ الخسران أَيْضا.
قَالَ الْفراء: الأول دُعَاء، وَالثَّانِي إِخْبَار، فَالْأول هُوَ قَوْله {تبت يدا أبي لَهب} وَالثَّانِي قَوْله: {وَتب} على مَا معنى الْخَبَر أَي: وَقد خسر وَهلك، وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " وَقد تبت ".(6/299)
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
وَقَوله: {مَا أغْنى عَنهُ مَاله وَمَا كسب} أَي: لَا يدْفع عَنهُ مَاله وَولده شَيْئا من عَذَاب الله، فَيكون قَوْله: {وَمَا كسب} بِمَعْنى وَمَا ولد على هَذَا القَوْل.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: وَيبعد أَن تكون مَا بِمَعْنى من فِي اللُّغَة.
فَقَوله: {وَمَا كسب} أَي: وَمَا كسب من جَاءَ وَمَا يُشبههُ وَأما أَبُو لَهب فَهُوَ عَم النَّبِي واسْمه عبد الْعزي، وَيُقَال: سمي أَبُو لَهب لتلهب وَجهه حسنا.
وَذكره الله تَعَالَى بكنيته؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفا بذلك أَو لِأَن اسْمه كَانَ عبد الْعزي فكره أَن تنْسب عبوديته إِلَى غَيره.
وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن أَبَا لَهب انْتَفَى بني هَاشم، وانتسب إِلَى أبي أُميَّة، وَقَالَ: لَا أكون من قوم فيهم كَذَّاب مثل مُحَمَّد.
وَمن الْمَعْرُوف عَن طَارق الْمحَاربي أَنه قَالَ: " كنت بسوق ذِي الْمجَاز فَإِذا أَنا بشاب يَقُول: أَيهَا النَّاس، قُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله تُفْلِحُوا، وَإِذا الرجل خَلفه يرميه بِالْحجرِ، وَقد أدْمى (عَقِبَيْهِ) ، وَهُوَ يَقُول: أَيهَا النَّاس، لَا تُصَدِّقُوهُ فَإِنَّهُ كَذَّاب.
قَالَ: فَسَأَلت عَنْهُمَا، فَقيل: إِن الشَّاب مُحَمَّد، وَالرجل الَّذِي خَلفه عَمه أَبُو لَهب ".(6/299)
{وَامْرَأَته حمالَة الْحَطب (4) فِي جيدها حَبل من مسد (5) } .
وَيُقَال فِي قَوْله: {مَا أغْنى عَنهُ مَاله} : أَي: أَي شَيْء أغْنى عَنهُ مَاله {وَمَا كسب} إِذا دخل النَّار؟ .(6/300)
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)
وَقَوله: {سيصلى نَارا ذَات لَهب} يُقَال: صلى الشَّيْء إِذا قاسى شدته وحره.
وَيُقَال: صليته أَي شويته، وَمِنْه: شَاة مصلية أَي مشوية وَالْمعْنَى: سَوف يصلى أَي يدْخل نَارا ذَات لَهب أَي: ذَات التهاب وتوقد.
وَقَوله: {وَامْرَأَته} أَي: تصلى امْرَأَته أَيْضا.(6/300)
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
وَقَوله: {حمالَة الْحَطب} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا كَانَت تحمل الشوك فتلقيه على طَرِيق النَّبِي لتعقر رجله.
قَالَ عَطِيَّة: كَانَت تلقى الْعضَاة فِي طَرِيق النَّبِي.
وَكَانَت كالكثيب من الرمل لقدم النَّبِي، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {حمالَة الْحَطب} مَعْنَاهُ: الْمَاشِيَة بالنميمة.
قَالَ الشَّاعِر:
(إِن بني الأجرم حمالوا الْحَطب ... هم الوشاة فِي الرِّضَا وَفِي الْغَضَب)
(عَلَيْهِم اللَّعْنَة تترى وَالْحَرب ... )
وَامْرَأَته هِيَ أم جميل بنت حَرْب بن أُميَّة أُخْت أبي سُفْيَان.
وَقد قرئَ: " حمالَة الْحَطب " بِالنّصب فالبرفع على معنى حمالَة الْحَطب، وَبِالنَّصبِ على معنى أَعنِي حمالَة الْحَطب.(6/300)
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
وَقَوله: {فِي جيدها حَبل من مسد} فِيهِ قَولَانِ: أظهرهمَا أَنه السلسلة الَّتِي ذكر الله تَعَالَى فِي كِتَابه: {فِي سلسلة ذرعها سَبْعُونَ ذِرَاعا} والمسد هُوَ الفتل والإحكام قَالَ: لِأَنَّهُ أحكم من الْحَدِيد، وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن المُرَاد من الْآيَة أَنَّهَا كَانَت تحمل الْحَطب بِحَبل من مسد فِي عُنُقهَا فَذكر الله تَعَالَى ذَلِك على أحد وَجْهَيْن: إِمَّا(6/300)
لبَيَان تخسيسها وتحقيرها، أَو لِأَنَّهَا عيرت رَسُول الله بالفقر فابتلاها الله تَعَالَى بِمَا هُوَ من عمل الْفُقَرَاء، وَقيل: حَبل من مسد أَي: حَبل من شعر أحكمت فتله، وَقيل: من لِيف أحكم فتله.
وروى " أَن هَذِه السُّورَة لما نزلت وَسمعتهَا امْرَأَة أبي لَهب أخذت (فهرا) بِيَدِهَا، وَجَاءَت تطلب النَّبِي وَتقول:
(مذمم أَبينَا ... وَدينه قلبينا ... وَأمره عصينا ... )
وتعني بمذمم مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - لِأَن كفار قُرَيْش كَانُوا يشتمونه مذمما، فَلَمَّا جَاءَت، قَالَ أَبُو بكر للنَّبِي: إِن هَذِه الْمَرْأَة قد جَاءَت، فَقَالَ: إِنَّهَا لَا تراني فَدخلت وَلم تَرَ رَسُول الله، فَقَالَت لأبي بكر: أَيْن صَاحبك؟ فَقَالَ: مَا شَأْنك؟ فَقَالَت: بَلغنِي أَنه هجاني، فَجئْت لأكسر رَأسه بِهَذَا الْحجر، فَقَالَ أَبُو بكر: إِنَّه مَا هجاك، فَرَجَعت وعثرت فِي مرْطهَا، فَقَالَت: تعس مذمم وَمَضَت ".(6/301)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{قل هُوَ الله أحد (1) } .
تَفْسِير سُورَة الْإِخْلَاص
وَهِي مَدَنِيَّة
وَقيل: إِنَّهَا مَكِّيَّة
يزِيد بن كيسَان، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله: " احشدوا أَقرَأ عَلَيْكُم ثلث الْقُرْآن فَخرج رَسُول الله، فَقَرَأَ عَلَيْهِم: {قل هُوَ الله أحد} ثمَّ دخل بَيته قَالَ: فَقَالَ الْقَوْم: قَالَ لنا رَسُول الله: احشدوا أَقرَأ عَلَيْكُم ثلث الْقُرْآن فَقَرَأَ: {قل هُوَ الله أحد} ثمَّ دخل، مَا هَذَا إِلَّا شَيْء؟ قَالَ: فَسَمعَهَا فَخرج إِلَيْنَا فَقَالَ: إِن هَذِه السُّورَة تعدل ثلث الْقُرْآن " رَوَاهُ مُسلم فِي كِتَابه عَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَيَعْقُوب الدَّوْرَقِي، عَن يحيى بن سعيد، عَن (يزِيد) بن كيسَان. . الحَدِيث.
وروى إِسْمَاعِيل بن أبي (زِيَاد) عَن جُوَيْبِر، عَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: دخلت الْيَهُود على نَبِي الله فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد، صف لنا رَبك، وانسبه لنا فقد وصف نَفسه فِي التَّوْرَاة ونسبها فارتعد رَسُول الله حَتَّى خر مغشيا عَلَيْهِ، فَقَالَ: " كَيفَ تسألونني عَن صفة رَبِّي وَنسبه، وَلَو سَأَلْتُمُونِي أَن أصف لكم الشَّمْس لم أقدر عَلَيْهِ "، فهبط جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، قل لَهُم: الله أحد الله الصَّمد لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد أَي: لَيْسَ بوالد وَلَا بمولود، وَلَيْسَ لَهُ(6/302)
{الله الصَّمد (2) لم يلد وَلم يُولد (3) } . شَبيه من خلقه ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الشَّيْخ الْعَفِيف أَبُو عَليّ بن بنْدَار بهمدان بِإِسْنَادِهِ عَن إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد. . الحَدِيث.
وَفِي بعض (الْأَخْبَار) : أَن سُورَة قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ وَسورَة قل هُوَ الله أَحدهمَا المقشقشتان أَي: تبرئان من الشّرك والنفاق، وَيُقَال: قشقش الْمَرِيض من علته إِذا برأَ، وَسميت السُّورَة سُورَة الْإِخْلَاص لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا وصف الرب عَن اسْمه وَلَيْسَ فِيهَا أَمر وَلَا نهى وَلَا وعد وَلَا وَعِيد.
وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي كِتَابه بِرِوَايَة أبي جَعْفَر الرَّازِيّ عَن الرّبيع بن أنس، عَن أبي الْعَالِيَة، عَن أبي بن كَعْب أَن الْمُشْركين قَالُوا: يَا رَسُول الله، انسب لنا رَبك، فَأنْزل الله تَعَالَى: {قل هُوَ الله أحد الله الصَّمد لم يلد وَلم يُولد} لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْء يُولد إِلَّا سيموت، وَلَيْسَ شَيْء يَمُوت إِلَّا سيورث، وَإِن الله لَا يَمُوت وَلَا يُورث، {وَلم يكن لَهُ كفوا أحد} قَالَ: لم يكن لَهُ شَبيه وَلَا عدل، وَلَيْسَ كمثله شَيْء.(6/303)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ الله أحد} أَي: قل هُوَ الله الْوَاحِد، أحد بِمَعْنى الْوَاحِد، وَقد فرق بَين الْأَحَد وَالْوَاحد.
وَقيل: إِن الْأَحَد أبلغ من الْوَاحِد، يُقَال: فلَان لَا يقاومه أحد نفيا للْكُلّ، وَيُقَال: لَا يقاومه وَاحِد، وَيجوز أَن يقاومه اثْنَان، وَأَيْضًا فَإِن الْوَاحِد يكون الَّذِي يَلِيهِ الثَّانِي وَالثَّالِث فِي الْعدَد، والأحد لَا يكون بِمَعْنى هَذَا الْحَال، وَأكْثر الْمُفَسّرين أَنه بِمَعْنى الْوَاحِد.
وَقَوله: {هُوَ} الِابْتِدَاء فِيهِ اسْم مُضْمر، كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن الَّذِي سَأَلْتُمُونِي عَنهُ هُوَ الله الْوَاحِد، فَيكون قَوْله: {الله أحد} تبيينا وكشفا لاسم الْمُضمر فِي قَوْله: {هُوَ} .(6/303)
اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
وَقَوله: {الله الصَّمد} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الَّذِي يصمد إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِج، وَالْآخر: أَنه هُوَ الَّذِي انْتهى فِي السؤدد وَبلغ كَمَاله.
قَالَ الشَّاعِر:
(أَلا بكر الناعي بِخَير لي بني أَسد ... بعمر وَابْن مَسْعُود وبالسيد الصَّمد)(6/303)
{وَلم يكن لَهُ كفوا أحد (4) } .
وَقَالَ آخر:
(علوته بحسام ثمَّ قلت لَهُ ... خُذْهَا حذيف فَأَنت السَّيِّد الصَّمد)
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه الَّذِي لَيْسَ لَهُ جَوف أَي لَا يَأْكُل، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن تَفْسِيره قَوْله: {لم يلد وَلم يُولد} وَقيل: إِنَّه الْبَاقِي الَّذِي لَا يفنى، وَقيل: إِنَّه الدَّائِم الَّذِي لَا يَزُول.(6/304)
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)
وَقَوله: {لم يلد وَلم يُولد} أَي: لَيْسَ لَهُ وَالِد وَلَا ولد.
وَقيل: إِنَّه نفي لقَوْل الْيَهُود وَالنَّصَارَى: عُزَيْر بن الله، والمسيح ابْن الله، وَنفي لقَوْل الْمُشْركين: إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله.
فَهَذَا كُله فِي قَوْله: {لم يلد} .
وَقَوله: {وَلم يُولد} فِيهِ نفي لقَوْل النَّصَارَى: إِن مَرْيَم - عَلَيْهَا السَّلَام - ولدت إِلَهًا، وَهُوَ الْمَسِيح.(6/304)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
وَقَوله: {وَلم يكن لَهُ كفوا أحد} أَي لم يكن أحد نظيرا لَهُ وَلَا شَبِيها، فَهُوَ على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير كَمَا ذكرنَا، وَمعنى أحد فِي آخر السُّورَة غير معنى أحد فِي أول السُّورَة.(6/304)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{قل أعوذ بِرَبّ الفلق (1) من شَرّ مَا خلق (2) وَمن شَرّ غَاسِق إِذا وَقب (3) } .
تَفْسِير سُورَة الفلق
وَهِي مَكِّيَّة(6/305)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا - وَهُوَ الْأَظْهر -: أَن الفلق هُوَ الصُّبْح، قَالَ الله تَعَالَى: {فالق الإصباح} ، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه جَمِيع الْخلق، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه بَيت فِي النَّار، إِذا فتح بَابه صَاح أهل جَهَنَّم من شدَّة حره، قَالَه كَعْب الحبر، وَالْقَوْل الرَّابِع: جب فِي جَهَنَّم، قَالَه مُجَاهِد.(6/305)
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
وَقَوله: {من شَرّ مَا خلق} أَي: من شَرّ جَمِيع مَا خلق.(6/305)
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
وَقَوله: {وَمن شَرّ غَاسِق إِذا وَقب} فِيهِ أَقْوَال أَيْضا: أَحدهَا: من شَرّ اللَّيْل إِذا أظلم، فالغاسق هُوَ اللَّيْل، قَالَه الْحسن وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة، وَيُقَال: من شَرّ اللَّيْل إِذا أقبل.
يُقَال: وَقب: دخل، وَقيل: أقبل، وَمعنى الِاسْتِعَاذَة من اللَّيْل؛ (لِأَن) فِيهِ يكون تحرّك الهموم وهجوم كل ذِي شَرّ بِقصد، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَمن شَرّ غَاسِق إِذا وَقب} هُوَ الْقَمَر، وَفِيه خبر مَعْرُوف روى ابْن أبي ذِئْب، عَن الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة قَالَت: " أَخذ رَسُول الله بيَدي، وَأَشَارَ إِلَى الْقَمَر وَقَالَ: تعوذي بِاللَّه من شَرّ هَذَا، هُوَ الْغَاسِق إِذا وَقب ".
وَذكره أَبُو عِيسَى(6/305)
{وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد (4) وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد (5) } . فِي جَامعه وَقَالَ: هُوَ حَدِيث صَحِيح.
قَالَ النّحاس: يجوز أَن تكون الِاسْتِعَاذَة من الْقَمَر، لِأَن قوما أشركوا بِسَبَبِهِ، فنسب إِلَيْهِ الِاسْتِعَاذَة على الْمجَاز.
قَالَ القتيبي: من شَرّ غَاسِق إِذا وَقب: هُوَ الْقَمَر إِذا دخل فِي شاهوره - أَي: فِي غلافه - وَهُوَ إِذا غَابَ.
وَذكر بَعضهم: أَن الِاسْتِعَاذَة من الْقَمَر؛ لِأَن أهل الْبَريَّة يتحينون وَجه الْقَمَر - أَي غروبه - وهم اللُّصُوص وَأهل الشَّرّ وَالْفساد، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْغَاسِق هُوَ الثريا.
وَقَوله: {إِذا وَقب} إِذا غَابَ، وَذكر ذَلِك إِذا غَابَ الثريا ظَهرت العاهات والبلايا، وَإِذا طلع الثريا رفعت العاهات والبلايا.
وَقد ورد عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا طلع النَّجْم رفعت العاهة عَن كل بلد ".
وَذَلِكَ مثل الوباء والطواعين والأسقام وَمَا يشبهها.
وَقيل: " من شَرّ غَاسِق إِذا وَقب " أَي: من شَرّ الشَّمْس إِذا غربت.
وَذكر النقاش بِإِسْنَادِهِ عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: من شَرّ غَاسِق إِذا وَقب: من شَرّ الذّكر إِذا دخل، قَالَ النقاش: فَذكرت ذَلِك لمُحَمد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، وَقلت: هَل يجوز أَن تفسر الْقُرْآن بِهَذَا؟ ! قَالَ: نعم، قَالَ النَّبِي: " أعوذ بك من شَرّ منيى "، وَهُوَ خبر مَعْرُوف، وَهُوَ أَن النَّبِي قَالَ: " أعوذ بك من شَرّ سَمْعِي وَمن شَرّ بَصرِي " فعدد أَشْيَاء، وَقَالَ فِي آخرهَا: وَمن شَرّ منيى ".(6/306)
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَقَوله: {وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد} أَي: السواحر، والنفث هُوَ النفخ بالفم،(6/306)
والتفل هُوَ إِذا كَانَ مَعَه ريق.(6/307)
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
وَقَوله: {وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد} الْحَسَد هُوَ تمني زَوَال النِّعْمَة عَن الْمُنعم عَلَيْهِ، وَقد ذكرنَا فِي الْحَسَد أَشْيَاء من قبل، وَقيل: من شَرّ حَاسِد إِذا حسد أَي: إِذا ظلم.
وَاعْلَم أَن الْمُفَسّرين قَالُوا: إِن هَذِه السُّورَة وَالَّتِي تَلِيهَا نزلتا حِين سحر النَّبِي، سحره لبيد بن أعصم الْيَهُودِيّ.
والنفاثات فِي العقد يُقَال: إنَّهُنَّ بَنَاته.
وَكَانَ لبيد قد سحر النَّبِي، وَجعل ذَلِك فِي بِئْر (ذِي أروان) (فاعتل) النَّبِي، واشتدت علته وَكَانَ يخيل إِلَيْهِ أَنه يفعل الشَّيْء وَلَا يَفْعَله، ثمَّ إِن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - أنزل المعوذتين.
وروى أَنه قَالَ لعَائِشَة: " هُنَا [و] أَنا نَائِم نزل عَليّ ملكان، فَقعدَ أَحدهمَا عِنْد رَأْسِي، وَالْآخر عِنْد رجْلي، فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: مَا حَال الرجل؟ فَقَالَ: مطبوب، فَقَالَ: وَمن طبه؟ قَالَ: لبيد بن أعصم الْيَهُودِيّ، فَقَالَ: وَأَيْنَ ذَلِك؟ فَقَالَ: فِي مشط ومشاطة تَحت راعونة فِي بِئْر (ذِي أروان) ، ثمَّ إِن النَّبِي بعث علينا، وَقيل: إِنَّه بعث عمارا، وَقيل: بعث أَبَا بكر وَعمر حَتَّى اسْتخْرجُوا ذَلِك السحر، وَأنزل الله تَعَالَى هَاتين السورتين، وَكَانَ على ذَاك الشَّيْء [إِحْدَى عشرَة] عقدَة، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: اقْرَأ آيَة فانحلت عقدَة، وَكَانَ كلما قَرَأَ آيَة انْحَلَّت عقدَة، حَتَّى انْحَلَّت العقد كلهَا، وَقَامَ النَّبِي كَأَنَّمَا أنشط من عقال ".(6/307)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{قل أعوذ بِرَبّ النَّاس (1) ملك النَّاس (2) إِلَه النَّاس (3) من شَرّ الوسواس الخناس (4) الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس (5) من الْجنَّة وَالنَّاس (6) } .
تَفْسِير سُورَة النَّاس
وَهِي مَدَنِيَّة(6/308)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)
قَوْله تَعَالَى: {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس ملك النَّاس إِلَه النَّاس من شَرّ الوسواس الخناس} هُوَ الشَّيْطَان، وَالْمعْنَى من شَرّ الشَّيْطَان ذِي الوسواس، وَيُقَال: سمى وسواسا؛ لِأَنَّهُ يجثم، فَإِن ذكر العَبْد ربه خنس _ أَي تَأَخّر - وَإِن لم يذكر: وسوس.
وَفِي رِوَايَة: الْتَقم ووسوس أَي الْقلب.
وَفِيه خبر صَحِيح على هَذَا الْمَعْنى.
وَقَوله: {الخناس} مَعْنَاهُ مَا قُلْنَا يَعْنِي: إِذا ذكر العَبْد ربه وَسبح رَجَعَ أَي: تَأَخّر وخنس وَتَنَحَّى.(6/308)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)
وَقَوله: {الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس} هُوَ الشَّيْطَان.(6/308)
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
وَقَوله: {من الْجنَّة} أَي: من الْجِنّ.
وَقَوله: {وَالنَّاس} أَي: وَمن النَّاس.
وَالْمعْنَى: أَنه أمره بالاستعاذة من شياطين الْجِنّ وَالْإِنْس، والشيطان كل متمرد سَوَاء كَانَ جنيا أَو إنسيا، وَقد ورد فِي الْأَخْبَار الْمَعْرُوفَة " أَن النَّبِي كَانَ إِذا أَرَادَ أَن ينَام قَرَأَ سُورَة الْإِخْلَاص والمعوذتين، وينفث فِي كفيه، ثمَّ يمسح بكفيه مَا اسْتَطَاعَ من جسده، وَيبدأ بِوَجْهِهِ وَرَأسه ".
وروى أَنه كَانَ يعوذ بهما الْحسن وَالْحُسَيْن - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ بِرِوَايَة إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد قَالَ: حَدثنِي قيس بن أبي حَازِم، عَن عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ،(6/308)
عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " قد أنزل الله تَعَالَى عليّ آيَات لم ير مِثْلهنَّ {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس} إِلَى آخر السُّورَة، و {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} إِلَى آخر السُّورَة " قَالَ: وَهُوَ حَدِيث حسن صَحِيح.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو عبد الله عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن سراج السبخي، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن مَحْبُوب أخبرنَا أَبُو عِيسَى الْحَافِظ، أخبرنَا مُحَمَّد بن بشار، أخبرنَا يحيى بن سعيد الْقطَّان، عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد. . الحَدِيث.
فَإِن قَالَ قَائِل: لمَ لمْ يكْتب ابْن مَسْعُود هَاتين السورتين فِي مصحفه؟ وَهل يجوز أَن يشْتَبه على أحد أَنَّهُمَا من الْقُرْآن أَو ليستا من الْقُرْآن؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن حَمَّاد بن سَلمَة روى عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة، عَن زر بن حُبَيْش قَالَ: قلت لأبي بن كَعْب: إِن ابْن مَسْعُود لم يكْتب فِي مصحفه المعوذتين! فَقَالَ أبي: قَالَ رَسُول الله: " قَالَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} فقلتها، وَقَالَ {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس} فقلتها " فَنحْن نقُول: يَقُول رَسُول الله.
كَأَن أَبَيَا وَافق ابْن مَسْعُود.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن بن النقور، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا هدبة، عَن حَمَّاد بن سَلمَة.
الحَدِيث خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح فَيجوز أَن ابْن مَسْعُود وأبيا من كَثْرَة مَا سمعا النَّبِي يقْرَأ هَاتين السورتين ويتعوذ بهما ظنا أَنَّهُمَا عوذة، فَلم يثبتاهما فِي الْمُصحف، وَقد قيل: إنَّهُمَا مكتوبتان فِي مصحف أبي.(6/309)
وَذكر بَعضهم أَن عبد الله بن مَسْعُود لم يشْتَبه عَلَيْهِ أَنَّهُمَا من الْقُرْآن، وَلَكِن لم يكتبهما لشهرتهما، كَمَا ترك كتبة سُورَة الْفَاتِحَة لشهرتها، وَالله أعلم وَأحكم بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب.
وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله أَجْمَعِينَ وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا.(6/310)