إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
وَقَوله: {إِن هُوَ إِلَّا رجل افترى على الله كذبا وَمَا نَحن لَهُ بمؤمنين} أَي: بمصدقين.(3/475)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب انصرني بِمَا كذبون} قد بَينا.(3/475)
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
قَوْله: {قَالَ عَمَّا قَلِيل ليصبحن نادمين} أَي: ليصبحون نادمين، وَمعنى يُصْبِحُونَ: يصيرون.(3/475)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
قَوْله تَعَالَى: {فَأَخَذتهم الصَّيْحَة بِالْحَقِّ} فِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - صَاح بهم صَيْحَة فتصدعت قُلُوبهم.
وَيُقَال: إِن المُرَاد من الصَّيْحَة الْهَلَاك. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(فدع عَنْك نهيا صِيحَ فِي حجراته ... وَلَكِن حَدِيث مَا حَدِيث الرَّوَاحِل)
وتمثل بِهَذَا الْبَيْت عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي بعض حروبه.
وَقَوله: {بِالْحَقِّ} أَي: بِالْعَدْلِ، وَيُقَال: بِمَا استحقوا.
وَقَوله: {فجعلناهم غثاء} . الغثاء: مَا يبس من الشّجر والحشيش، وَعلا فَوق السَّيْل، وَيُقَال: الغثاء هُوَ الزّبد، فالزبد لَا ينْتَفع بِهِ، وَيذْهب بَاطِلا، فشبههم بعد الْهَلَاك بِهِ.
وَقَوله: {فبعدا للْقَوْم الظَّالِمين} أَي: هَلَاكًا للْقَوْم الظَّالِمين.(3/475)
{أنشأنا من بعدهمْ قرونا آخَرين (42) مَا تسبق من أمة أجلهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثمَّ أرسلنَا رسلنَا تترا كل مَا جَاءَ أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بَعضهم بَعْضًا وجعلناهم أَحَادِيث فبعدا لقوم لَا يُؤمنُونَ (44) ثمَّ أرسلنَا مُوسَى وأخاه هَارُون بِآيَاتِنَا وسلطان}(3/476)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
قَوْله: {ثمَّ أنشأنا من بعدهمْ قرونا آخَرين} أَي: قوما آخَرين.(3/476)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
قَوْله: {مَا تسبق من أمة أجلهَا} أَي: وَقت هلاكهم.
وَقَوله: {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} أَي: يتأخرون عَن وَقت هلاكها.(3/476)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أرسلنَا رسلنَا تترى} وَقُرِئَ: " تترى " بِالتَّنْوِينِ، وَالْمعْنَى: متواترين بَعضهم على إِثْر بعض، وَيُقَال: بَين كل نبيين قِطْعَة من الزَّمَان، وَالْأَصْل فِي {تترى} وَترى إِلَّا أَن الْوَاو قلبت تَاء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بعثنَا الرُّسُل وترا وترا.
وَقَوله: {كلما جَاءَ أمة رسولها كذبوه} أَي: جحدوه وأنكروه.
وَقَوله: {فأتبعنا بَعضهم بَعْضًا} أَي: فِي الْهَلَاك.
وَقَوله: {وجعلناهم أَحَادِيث} أَي: سمرا وقصصا، قَالَ بَعضهم شعرًا.
(فَكُن حَدِيثا حسنا ذكره ... فَإِنَّمَا النَّاس أَحَادِيث)
وَقَوله: {فبعدا لقوم لَا يُؤمنُونَ} قد بَينا.(3/476)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أرسلنَا مُوسَى وأخاه هَارُون بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين} أَي: بِحجَّة بَيِّنَة، وَهِي الْآيَات التسع.(3/476)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
قَوْله تَعَالَى: {إِلَى فِرْعَوْن وملئه فاستكبروا وَكَانُوا قوما عالين} أَي: طَالِبين للعلو بِغَيْر الْحق، والاستكبار طلب التكبر، وَيُقَال: {عالين} قاهرين (لمن) تَحْتهم بالظلم.(3/476)
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
وَقَوله تَعَالَى: {فَقَالُوا أنؤمن لبشرين مثلنَا} أَي: لمُوسَى وَهَارُون. وَقَوله: {وقومهما لنا عَابِدُونَ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: تَقول الْعَرَب لكل من أطَاع إنْسَانا قد عَبده.(3/476)
{مُبين (45) إِلَى فِرْعَوْن وملئه فاستكبروا وَكَانُوا قوما عالين (46) فَقَالُوا أنؤمن لبشرين مثلنَا وقومهما لنا عَابِدُونَ (47) فكذبوهما فَكَانُوا من المهلكين (48) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلنَا ابْن مَرْيَم وَأمه آيَة وآويناهما إِلَى ربوة ذَات قَرَار ومعين (50) } وَفِي بعض التفاسير: أَن القبط كَانُوا يعْبدُونَ فِرْعَوْن، وَفرْعَوْن كَانَ يعبد الصَّنَم.(3/477)
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
قَوْله تَعَالَى: {فكذبوهما فَكَانُوا من المهلكين} أَي: بِالْغَرَقِ.(3/477)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ} أَي: التَّوْرَاة.(3/477)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
قَوْله: {وَجَعَلنَا ابْن مَرْيَم وَأمه آيَة} قد بَينا.
وَقَوله: {وآويناهما إِلَى ربوة} وقرىء: " ربوة "، وَقَرَأَ أَبُو الْأَشْهب الْعقيلِيّ: " رباوة ". وَأما الربوة فِيهَا أَقْوَال: عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: هِيَ رَملَة فلسطين، وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي.
وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: هِيَ غوطة دمشق، (وَيُقَال: أنزه الْمَوَاضِع فِي الدُّنْيَا [أَرْبَعَة] مَوَاضِع: غوطة دمشق) فِي الشَّام، والإيلة بالعراق، وَشعب بران بِفَارِس، وَسعد سَمَرْقَنْد، وَعَن كَعْب قَالَ: {ربوة} هِيَ بَيت الْمُقَدّس، وَعَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: هِيَ مصر، وَفِي اللُّغَة: الربوة هُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفع.
وَقَوله: {ذَات قَرَار} أَي: أَرض مستوية يستقرون فِيهَا، وَقيل: مستوية مُرْتَفعَة منبسطة.
وَقَوله: {ومعين} أَي: ذَات مَاء جَار، وَيُقَال: ذَات عُيُون تجْرِي فِيهَا، يُقَال: (عانت) الْبركَة إِذا جرى فِيهَا المَاء، وأنشدوا فِي الْمعِين شعرًا:
(إِن الَّذين غدوا بلبك غادروا ... وسلا بِعَيْنِك لَا يزَال معينا)(3/477)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا} قَالَ مُجَاهِد(3/477)
{يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم (51) } وَقَتَادَة والسدى وَجَمَاعَة: إِن المُرَاد من قَوْله: {يَا أَيهَا الرُّسُل} هُوَ مُحَمَّد، وَالْعرب تذكر الْجمع، وتريد بِهِ الْوَاحِد، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ للرجل: أَيهَا الْقَوْم، كف عَنَّا أذاك وَمِنْهُم من قَالَ: إِن المُرَاد مِنْهُ جَمِيع الرُّسُل. وَقَالَ بَعضهم المُرَاد: عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - كَأَنَّهُ قَالَ: وَقُلْنَا لعيسى: يَا أَيهَا الرُّسُل، وَقد روى أَبُو هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس، إِن الله لَا يقبل إِلَّا الطّيب، وَإِن الله تَعَالَى أَمر الْمُسلمين بِمَا أَمر بِهِ الْمُرْسلين فَقَالَ: {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا} وَقَالَ للْمُؤْمِنين: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات من رزقناكم واشكروا لله} ثمَّ ذكر الرجل أَشْعَث أغبر يمد يَده إِلَى السَّمَاء، فَيَقُول: يَا رب، مطعمه حرَام، وملبسه حرَام، وغذى بالحرام، فَأنى يُسْتَجَاب لَهُ "؟ !
وَفِي الْقِصَّة: أَن عِيسَى كَانَ يَأْكُل من غزل أمه، وَالْأكل هُوَ أَخذ الشَّيْء بالفم؛ ليوصله إِلَى الْبَطن بالمضغ، وَأما قَوْله: {من الطَّيِّبَات} أَي: من الْحَلَال. وَقَوله: {وَاعْمَلُوا صَالحا} الصّلاح هُوَ الاسْتقَامَة على مَا توجبه الشَّرِيعَة.
وَقَوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم} هَذَا حث على فعل الطَّاعَة، يَعْنِي: اعْمَلُوا الصَّالِحَات، فَإِنِّي مجازيكم على عَمَلكُمْ.(3/478)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة} أَي: دينكُمْ دين وَاحِد، وَقيل: شريعتكم شَرِيعَة وَاحِدَة، وَيُقَال: أَمرتكُم بِمَا أمرت بِهِ من قبلكُمْ من الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ، فأمركم وَاحِد.
وَقَوله: {وَأَنا ربكُم فاتقون} فاحذروني.(3/478)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
قَوْله تَعَالَى: {فتقطعوا أَمرهم بَينهم} أَي: تفَرقُوا هودا ونصارى وصابئين ومجوسا. {زبرا} أَي: قطعا. قَالَ مُجَاهِد: {زبرا} كتبا أَي: جعلُوا كتبهمْ قطعا وَمَعْنَاهُ: آمنُوا بِالْبَعْضِ، وَكَفرُوا بِالْبَعْضِ، وحرفوا الْبَعْض، وَلم يحرفوا الْبَعْض.
وَقَوله: {كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ} أَي: مسرورون.(3/478)
{وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاتقون (52) فتقطعوا أَمرهم بَينهم زبرا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ (53) فذرهم فِي غمرتهم حَتَّى حِين (54) أيحسبون أَنما نمدهم بِهِ من مَال وبنين (55) نسارع لَهُم فِي الْخيرَات بل لَا يَشْعُرُونَ (56) }
وَيَعْنِي أَن كل فريق مسرورون بِمَا عِنْدهم: فَأهل الْإِيمَان مسرورون بِالْإِيمَان وبمتابعة النَّبِي، وَالْكفَّار مسرورون بكفرهم وبمخالفة النَّبِي.(3/479)
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
قَوْله تَعَالَى: {فذرهم فِي غمرتهم} أَي: فِي ضلالتهم، وَقيل: فِي عمايتهم.
وَقَوله: {حَتَّى حِين} مَعْنَاهُ: إِلَى أَن يموتوا، وَالْآيَة للتهديد.(3/479)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
قَوْله تَعَالَى: {أيحسبون أَنما نمدهم بِهِ من مَال} الْآيَة. مَعْنَاهُ: أيحسبون أَن الَّذِي نجعله مدَدا لَهُم من المَال والبنين(3/479)
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
{نسارع لَهُم فِي الْخيرَات} أَي: نعجل لَهُم فِي الْخيرَات، ونقدمها ثَوابًا لَهُم رضَا بأعمالهم، وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَن: لَيْسَ الْأَمر على مَا يظنون أَن المَال والبنين خير لَهُم، بل هُوَ اسْتِدْرَاج لَهُم، ومكر بهم، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {بل لَا يَشْعُرُونَ} .(3/479)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين هم من خشيَة رَبهم مشفقون} . الخشية: انزعاج النَّفس لما يتَوَقَّع من الْمضرَّة، والإشفاق هَاهُنَا هُوَ الْخَوْف من الْعَذَاب، فَمَعْنَى الْآيَة: أَن الْمُؤمنِينَ من خشيَة رَبهم لَا يأمنون عَذَابه. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْمُؤمن جمع إحسانا وخشية، وَالْمُنَافِق إساءة وَأمنا.(3/479)
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)
قَوْله: {وَالَّذين هم بآيَات رَبهم يُؤمنُونَ} أَي: يصدقون.(3/479)
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين هم برَبهمْ لَا يشركُونَ} مَعْلُوم الْمَعْنى.(3/479)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا} رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَرَأَ: " وَالَّذين يأْتونَ مَا أَتَوا بِهِ "، وَهُوَ قِرَاءَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا.
(وَقَوله: {يُؤْتونَ مَا آتوا} أَي: يُعْطون مَا أعْطوا. وَقَوله: " يأْتونَ مَا آتوا " أَي:(3/479)
{إِن الَّذين هم من خشيَة رَبهم مشفقون (57) وَالَّذين هم بآيَات رَبهم يُؤمنُونَ (58) وَالَّذين هم برَبهمْ لَا يشركُونَ (59) وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا وَقُلُوبهمْ وَجلة} يَفْعَلُونَ مَا فعلوا) .
وَقَوله: {وَقُلُوبهمْ وَجلة} أَي: خائفة.
وَقَوله: {أَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون} . أَي: لأَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون، وَمَعْنَاهُ: خَافُوا لأَنهم علمُوا أَن رجوعهم إِلَى رَبهم، وروى عبد الرَّحْمَن بن سعيد بن وهب عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت للنَّبِي: يَا رَسُول الله، قَول الله تَعَالَى: {وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا وَقُلُوبهمْ وَجلة} أهم الَّذين يسرقون، وَيَشْرَبُونَ الْخمر، وَقُلُوبهمْ وَجلة؟ قَالَ: لَا يَا ابْنة الصّديق، بل هم الَّذين (يصلونَ، وَيَصُومُونَ) ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَقُلُوبهمْ وَجلة أَنَّهَا لَا تقبل مِنْهُم " وَفِي رِوَايَة: " ويخشون أَن لَا تقبل مِنْهُم ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الشَّافِعِي قَالَ: أَبُو الْحسن ابْن [فراس] : أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الله المقرىء، أخبرنَا جدي مُحَمَّد، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، أخبرنَا مَالك بن مغول، عَن عبد الرَّحْمَن بن سعيد بن وهب ... الْخَبَر. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: عمِلُوا وَالله بالطاعات، واجتهدوا فِيهَا، وخافوا أَن ترد عَلَيْهِم. هَذَا هُوَ القَوْل الْمَعْرُوف فِي الْآيَة،(3/480)
{أَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات وهم لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا ولدينا كتاب ينْطق بِالْحَقِّ وهم لَا يظْلمُونَ (62) بل قُلُوبهم فِي غمرة من هَذَا وَلَهُم أَعمال من دون ذَلِك هم لَهَا عاملون} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة أَنهم عمِلُوا بِالْمَعَاصِي، وخافوا من الله.(3/481)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات وهم لَهَا سَابِقُونَ} أَي: إِلَيْهَا سَابِقُونَ.
قَالَ الشَّاعِر:
(تجانف عَن جو الْيَمَامَة نَاقَتي ... وَمَا قصدت من أَهلهَا لسوائكا)
أَي: إِلَى سوائكا. وَيُقَال: " لَهَا سَابِقُونَ " أَي: من أجلهَا سَابِقُونَ، يَقُول الْإِنْسَان لغيره: قصدت هَذِه الْبَلدة لَك أَي: لِأَجلِك، وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: {وهم لَهَا سَابِقُونَ} أَي: سبقت لَهُم السَّعَادَة من الله.(3/481)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا} قد بَينا الْمَعْنى، وَيُقَال: لم نكلف الْمَرِيض الصَّلَاة قَائِما، وَلَا الْفَقِير الزَّكَاة وَالْحج، وَلَا الْمُسَافِر الصَّوْم، وَأَشْبَاه هَذَا.
وَقَوله: {ولدينا كتاب ينْطق بِالْحَقِّ} أَي: عندنَا كتاب ينْطق بِالْحَقِّ، وَهُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذِهِ الْآيَة أَن من كتب إِلَى إِنْسَان كتابا فقد كَلمه.
وَقَوله: {ينْطق بِالْحَقِّ} أَي: يخبر بِالصّدقِ.
وَقَوله: {وهم لَا يظْلمُونَ} أَي: لَا ينقص حَقهم.(3/481)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
قَوْله تَعَالَى: {بل قُلُوبهم فِي غمرة من هَذَا} أَي: فِي غطاء، يُقَال: فلَان غمره المَاء، أَي: غطاه.
وَقَوله: {وَلَهُم أَعمال من دون ذَلِك هم لَهَا عاملون} (فِيهِ قَولَانِ: أَن للْكفَّار أعمالا خبيثة محكومة عَلَيْهِم سوى مَا عمِلُوا {هم لَهَا عاملون} ) هَذَا قَول مُجَاهِد وَجَمَاعَة، وَقَالَ قَتَادَة: الْآيَة تَنْصَرِف إِلَى أَصْحَاب الطَّاعَات، وَمَعْنَاهُ: أَن الْمُؤمنِينَ لَهُم أَعمال سوى مَا عمِلُوا من الْخَيْر {هم لَهَا عاملون} ، وَالْقَوْل الأول أظهر.(3/481)
( {63) حَتَّى إِذا أَخذنَا مترفيهم بِالْعَذَابِ إِذا هم يجأرون (64) لَا تجأروا الْيَوْم إِنَّكُم منا لَا تنْصرُونَ (65) قد كَانَت آياتي تتلى عَلَيْكُم فكنتم على أعقابكم تنكصون (66) مستكبرين بِهِ سامرا تهجرون (67) }(3/482)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا أَخذنَا مترفيهم بِالْعَذَابِ} قد بَينا معنى المترف.
وَقَوله: {بِالْعَذَابِ} وَهُوَ السَّيْف يَوْم بدر، وَيُقَال: هُوَ الْقَحْط الَّذِي أَصَابَهُم بِدُعَاء الني.
وَقَوله: {إِذا هم يجأرون} أَي: يصيحون ويستغيثون.(3/482)
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
قَوْله تَعَالَى: {لَا تجأروا الْيَوْم} لَا تصيحوا الْيَوْم، والجؤار هُوَ رفع الصَّوْت.
وَقَوله: {إِنَّكُم منا لَا تنْصرُونَ} أَي: لَيْسَ أحد يمنعنا من عذابكم، وَقيل: {لَا تنْصرُونَ} لَا ترزقون، يُقَال: أَرض منصورة أَي: ممطورة.(3/482)
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
قَوْله تَعَالَى: {قد كَانَت آياتي تتلى عَلَيْكُم فكنتم على أعقابكم تنكصون} أَي: ترجعون قهقري على أعقابكم، وَيُقَال: أقبح الْمَشْي هُوَ الرُّجُوع على عَقِبَيْهِ قهقري.(3/482)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
قَوْله تَعَالَى: {مستكبرين بِهِ} اخْتلف القَوْل فِي قَوْله، فأظهر الْأَقَاوِيل: أَن المُرَاد مِنْهُ الْحرم، وَيُقَال: الْبَيْت أَي: متعظمين بِالْبَيْتِ الْحَرَام، وتعظيمهم أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: نَحن أهل الله وجيران بَيته، وَكَانَ سَائِر الْعَرَب فِي خوف، وهم فِي أَمن، هَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَجَمَاعَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: {مستكبرين بِهِ} أَي: بِالْقُرْآنِ، على معنى أَنهم استكبروا فَلم يُؤمنُوا بِهِ، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه الرَّسُول على الْمَعْنى الَّذِي ذكرنَا فِي الْقُرْآن.
وَقَوله: {سامرا} وقرىء فِي الشاذ: " سمارا "، والسامر والسمار فِي اللُّغَة بِمَعْنى وَاحِد. وَالْآيَة فِي أَنهم كَانُوا يَقْعُدُونَ بِاللَّيْلِ حول الْبَيْت يسمرون. قَالَ الثَّوْريّ: السمر ظلّ الْقَمَر تَقول الْعَرَب: لَا أُكَلِّمك السمر وَالْقَمَر، أَي: اللَّيْل وَالنَّهَار.
وَقَوله: {تهجرون} أَي: تعرضون عَن النَّبِي وَالْإِيمَان بِهِ وَالْقُرْآن وَالْإِيمَان،(3/482)
{أفلم يدبروا القَوْل أم جَاءَهُم مَا لم يَأْتِ آبَاءَهُم الْأَوَّلين (68) أم لم يعرفوا رسولهم فهم لَهُ منكرون (69) أم يَقُولُونَ بِهِ جنَّة بل جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرهم للحق كَارِهُون (70) وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ بل أتيناهم} وَقيل: {تهجرون} أَي: تهذون. وقرىء: " تهجرون " من الهجر فِي الْكَلَام وَهُوَ الْقَبِيح، وَفِي الرِّوَايَات: أَنهم كَانُوا يَقْعُدُونَ عِنْد الْبَيْت فِي ظلّ الْقَمَر ويسبون النَّبِي.(3/483)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
قَوْله تَعَالَى: {أفلم يدبروا القَوْل} يَعْنِي: مَا جَاءَهُم من القَوْل، وَهُوَ الْقُرْآن.
وَقَوله: {أم جَاءَهُم مَا لم يَأْتِ آبَاءَهُم الْأَوَّلين} (يَعْنِي: أيظنون أَنه جَاءَهُم مَا لم يَأْتِ من قبلهم، وَمَعْنَاهُ: أَنا بعثنَا إِلَيْهِم رَسُولا كَمَا بعثنَا إِلَى الْأَوَّلين) .(3/483)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
قَوْله تَعَالَى: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم لَهُ منكرون} . يَعْنِي: أَنهم عرفوه صَغِيرا وكبيرا، وَعرفُوا نسبه، وَعرفُوا وفاءه بالعهد، وأداءه للأمانات، وَصدقه فِي الْأَقْوَال، وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب، على مَا ذكرنَا من قبل.(3/483)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ بِهِ جنَّة} أَي: جُنُون.
وَقَوله: {بل جَاءَهُم بِالْحَقِّ} أَي: بِالصّدقِ. وَقَوله: {وَأَكْثَرهم للحق كَارِهُون} أَي: ساخطون.(3/483)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو اتبع الْحق أهواءهم} أَي: لَو اتبع مَا نزل من الْقُرْآن أهواءهم.
{لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ} وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لأَنهم كَانُوا يودون أَن ينزل الله تَعَالَى ذكر أصنامهم على مَا يعتقدونها، وَلِأَنَّهُ هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ وَمن خلق ".
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن المُرَاد من {الْحق} هُوَ الله تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: لَو اتبع (الله) أهواءهم لسمى لنَفسِهِ شَرِيكا وَولدا، ولفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن(3/483)
{بذكرهم فهم عَن ذكرهم معرضون (71) أم تَسْأَلهُمْ خرجا فخراج رَبك خير وَهُوَ خير الرازقين (72) وَإنَّك لتدعوهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (73) وَإِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة عَن الصِّرَاط لناكبون (74) } فِيهِنَّ.
وَقَوله: {بل أتيناهم بذكرهم} أَي: بِمَا يذكرهم، وَيُقَال: بشرفهم، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك} أَي: شرف لَك ولقومك.
وَقَوله: {فهم عَن ذكرهم معرضون} أَي: عَن شرفهم وَعَما يذكرهم معرضون.(3/484)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
قَوْله تَعَالَى: {أم تَسْأَلهُمْ خرجا} وقرىء: (" خراجا ") ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى الْجعل وَالْأَجْر، وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء قَالَ: الْخراج فِي الأَرْض، والخرج فِي الرّقاب.
وَقَوله: {فخراج رَبك} أَي: ثَوَابه ( {خير} أَي: أجر رَبك) خير.
وَقَوله: {وَهُوَ خير الرازقين} أَي: المعطين.(3/484)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّك لتدعوهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: إِلَى دين الْحق.(3/484)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة عَن الصِّرَاط لناكبون} . أَي: عَن طَرِيق الْحق لعادلون.(3/484)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو رحمناهم وكشفنا مَا بهم من ضرّ} رُوِيَ أَن النَّبِي دَعَا على قُرَيْش فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَل عَلَيْهِم سِنِين كَسِنِي يُوسُف؛ فَأَصَابَهُمْ الجدب والقحط حَتَّى أكلُوا العلهز، وَهُوَ الدَّم بالوبر، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَلَو(3/484)
{وَلَو رحمناهم وكشفنا مَا بهم من ضرّ للجوا فِي طغيانهم يعمهون (75) وَلَقَد أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لرَبهم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) } رحمناهم وكشفنا مَا بهم من ضرّ) " أَي: الْجُوع والقحط.
وَقَوله: {للجوا فِي طغيانهم يعمهون} أَي: مضوا فِي طغيانهم يعمهون، وَلم ينزعوا عَنهُ.(3/485)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه السَّيْف يَوْم بدر، وَالْآخر: أَنه الْجُوع والقحط، وَرُوِيَ " أَن النَّبِي لما دَعَا على قومه قدم أَبُو سُفْيَان عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أَلَسْت تزْعم أَنَّك بعثت رَحْمَة للْعَالمين؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ لَهُ: قتلت الْآبَاء بِالسَّيْفِ، وأهلكت الْأَبْنَاء بِالْجُوعِ، فَادع لنا يكْشف عَنَّا هَذَا الْقَحْط، فَدَعَا فكشف عَنْهُم ".
وَقَوله: {فَمَا اسْتَكَانُوا لرَبهم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أَي: مَا خضعوا وَمَا ذلوا لرَبهم، والاستكانة طلب السّكُون.
وَقَوله: {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أَي: لم يتضرعوا إِلَى رَبهم، بل مضوا إِلَى عتوهم وتمردهم.(3/485)
{حَتَّى إِذا فتحنا عَلَيْهِم بَابا ذَا عَذَاب شَدِيد إِذا هم فِيهِ مبلسون (77) وَهُوَ الَّذِي أنشأ لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون (78) وَهُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض وَإِلَيْهِ تحشرون (79) وَهُوَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت وَله اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار أَفلا تعقلون (80) بل قَالُوا مثل مَا قَالَ الْأَولونَ (81) قَالُوا أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا}(3/486)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا فتحنا عَلَيْهِم بَابا ذَا عَذَاب شَدِيد} يُقَال: بِالْمَوْتِ، وَيُقَال: بِقِيَام السَّاعَة.
وَقَوله: {إِذا هم فِيهِ مبلسون} . أَي: متحيرون آيسون، وَعَن السّديّ قَالَ: {حَتَّى إِذا فتحنا عَلَيْهِم بَابا ذَا عَذَاب شَدِيد} هُوَ فتح مَكَّة. وَيُقَال: الْعَذَاب الشَّديد هُوَ الْأَمْرَاض والشدائد، وَعَن مُجَاهِد قَالَ: هُوَ الْقَتْل يَوْم بدر.(3/486)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أنشأ لكم السّمع} أَي: الأسماع لتسمعوا، وَهَذَا وَاحِد بِمَعْنى الْجمع. وَقَوله: {والأبصار} أَي: لتبصروا. وَقَوله: {والأفئدة} لتعقلوا. وَقَوله: {قَلِيلا مَا تشكرون} أَي: لم تشكروا هَذِه النعم.(3/486)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض وَإِلَيْهِ تحشرون} أَي: خَلقكُم وأنشركم وكثركم فِي الأَرْض. وَقَوله: {وَإِلَيْهِ تحشرون} أَي: تبعثون.(3/486)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت وَله اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} أَي: تَدْبِير اللَّيْل وَالنَّهَار فِي الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان، وَيُقَال: وَمِنْه اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار.
وَقَوله {أَفلا تعقلون} . مَعْنَاهُ: أَفلا تعقلون الْآيَات الَّتِي وَضَعتهَا فِيهَا.(3/486)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)
قَوْله تَعَالَى: {بل قَالُوا مثل مَا قَالَ الْأَولونَ} مَعْنَاهُ: كذبُوا كَمَا كذب الْأَولونَ.(3/486)
قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمبعوثون} أَي: مَحْشُورُونَ، وَقَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْإِنْكَار والتعجب.(3/486)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
قَوْله تَعَالَى: {لقد وعدنا نَحن وآباؤنا هَذَا من قبل إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين} أَي: أكاذيب الْأَوَّلين، وَيُقَال: أسمار الْأَوَّلين وأقاصيصهم، وَقيل: مَا سطره الْأَولونَ فِي(3/486)
{وعظاما أئنا لمبعوثون (82) لقد وعدنا نَحن وآباؤنا هَذَا من قبل إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين (83) قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِن كُنْتُم تعلمُونَ (84) سيقولون لله قل أَفلا تذكرُونَ (85) قل من رب السَّمَوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم (86) سيقولون لله قل أَفلا تَتَّقُون (87) قل من بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَهُوَ يجير} كتبهمْ وَلَا حَقِيقَة لَهُ.(3/487)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
قَوْله تَعَالَى: {قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِن كُنْتُم تعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(3/487)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
قَوْله تَعَالَى: {سيقولون لله} يَعْنِي: هُوَ ملك لله وَملكه.
وَقَوله: {أَفلا تذكرُونَ} أَي: تتعظون.(3/487)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)
قَوْله تَعَالَى: {قل من رب السَّمَوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم} أَي: السرير الضخم.(3/487)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)
قَوْله تَعَالَى: {سيقولون لله} وَقُرِئَ: " سيقولون الله ".
أما قَوْله تَعَالَى: " سيقولون الله " هَذَا رَاجع إِلَى اللَّفْظ، فَالْمَعْنى كَالرّجلِ يَقُول لغيره: من مَالك هَذَا الدَّار؟ فَيَقُول: زيد.
وَأما قَوْله: {سيقولون لله} يرجع إِلَى الْمَعْنى دون اللَّفْظ، كَمَا يَقُول الْقَائِل لغيره: من مَالك هَذِه الدَّار؟ فَيَقُول: هِيَ لزيد.
وَقَوله: {قل أَفلا تعقلون} أَي: أَفلا تحذرون.(3/487)
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
قَوْله تَعَالَى: {قل من بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء} . أَي: مَالك كل شَيْء، وَالتَّاء للْمُبَالَغَة، وَكَذَلِكَ فعلوت تذكر للْمُبَالَغَة مثل قَوْلهم: جبروت ورهبوت، من كَلَامهم: رهبوت خير من رحموت، وَمَعْنَاهُ: أَن ترهب خير من أَن ترحم.
وَقَوله: {وَهُوَ يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ} أَن يُؤمن على كل النَّاس، وَلَا يُؤمن عَلَيْهِ أحد، وَمَعْنَاهُ: أَن من أَمنه الله لَا يقدر عَلَيْهِ أحد، وَمن لم يُؤمنهُ الله لم يُؤمنهُ أحد، وَقيل: من أَرَادَ الله عَذَابه لَا يقدر أحد على منع الْعَذَاب عَنهُ، وَمن أَرَادَ أَن يعذب غَيره من الْخلق قدر الله على مَنعه مِنْهُ. وَقَوله: {إِن كُنْتُم تعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(3/487)
{وَلَا يجار عَلَيْهِ إِن كُنْتُم تعلمُونَ (88) سيقولون لله قل فَأنى تسحرون (89) بل أتيناهم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتخذ الله من ولد وَمَا كَانَ مَعَه من إِلَه إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق ولعلا بَعضهم على بعض سُبْحَانَ الله عَمَّا يصفونَ (91) عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فتعالى عَمَّا يشركُونَ (92) قل رب إِمَّا تريني مَا يوعدون}(3/488)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
قَوْله تَعَالَى: {سيقولون لله قل فَأنى تسحرون} أَي: تخدعون، وَقيل: تصرفون عَن الْحق، قَالَ الْحسن: مَعْنَاهُ: أَيْن ذهبت (عقولكم) ؟ ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: {فَأنى تسحرون} أَي: تعمهون.(3/488)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
قَوْله تَعَالَى: {بل أتيناهم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} أَي: بِالصّدقِ، إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ فِيمَا يدعونَ لله من الشَّرِيك وَالْولد.(3/488)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
قَوْله تَعَالَى: {مَا اتخذ الله من ولد وَمَا كَانَ مَعَه من إِلَه} أَي: من شريك. وَقَوله: {إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق} أَي: تفرد بِمَا خلقه، فَلم يرض أَن يُضَاف خلقه وَنعمته إِلَى غَيره. وَقَوله: {ولعلا بَعضهم على بعض} . أَي: طلب بَعضهم الْغَلَبَة على الْبَعْض، كَمَا يفعل مُلُوك الدُّنْيَا فِيمَا بَينهم، ثمَّ نزه نَفسه فَقَالَ: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يصفونَ} .(3/488)
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
قَوْله تَعَالَى: {عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} أَي: السِّرّ وَالْعَلَانِيَة.
وَقَوله: {فتعالى عَمَّا يشركُونَ} أَي: تعظم عَمَّا يشركُونَ، وَمَعْنَاهُ: أَنه أعظم أَن يُوصف بِهَذَا الْوَصْف.(3/488)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)
قَوْله تَعَالَى: {قل رب إِمَّا تريني مَا يوعدون} يَعْنِي: إِن أريتني مَا وعدتهم من الْعَذَاب(3/488)
رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
{رب فَلَا تجعلني فِي الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: اجْعَلنِي خَارِجا مِنْهُم، وَلَا تعذبني مَعَهم، هَكَذَا ذكره الزّجاج. قَالَ أهل التَّفْسِير: وَهَذَا دَلِيل على أَنه يجوز للْعَبد أَن يسْأَل الله تَعَالَى مَا هُوَ كَائِن لَا محَالة.(3/488)
وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا على أَن نريك مَا نعدهم لقادرون} أَي: مَا نعدهم من الْعَذَاب.(3/488)
( {93) رب فَلَا تجعلني فِي الْقَوْم الظَّالِمين (94) وَإِنَّا على أَن نريك مَا نعدهم لقادرون (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن السَّيئَة نَحن أعلم بِمَا يصفونَ (96) وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين (97) وَأَعُوذ بك رب أَن يحْضرُون (98) حَتَّى إِذا جَاءَ أحدهم الْمَوْت قَالَ رب ارْجِعُونِ (99) }(3/489)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
قَوْله تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن السَّيئَة} أَكثر أهل التَّفْسِير أَن المُرَاد مِنْهُ هُوَ الدّفع بِالصبرِ، وَاحْتِمَال الْأَذَى، والكف عَن الْمُقَاتلَة، وَهَذَا قبل آيَة السَّيْف، وَعَن جمَاعَة من التَّابِعين أَنهم قَالُوا: هُوَ أَن يسلم على من يُؤْذِيه، فالدفع هُوَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَعَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هُوَ دفع الشّرك بِلَا إِلَه إِلَّا الله، وَعَن بَعضهم: هُوَ دفع الْمُنكر بِالْمَوْعِظَةِ.
قَوْله تَعَالَى: {نَحن أعلم بِمَا يصفونَ} أَي: بوصفهم وكذبهم.(3/489)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
قَوْله تَعَالَى: {وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين} وساوسهم، والهمز فِي اللُّغَة مَأْخُوذ من الدّفع، وَدفع الشَّيَاطِين غَيره إِلَى الْمعْصِيَة يكون بوسوسته، فَعرف أَن الهمزات هِيَ الوساوس، وَقيل: همز الشَّيْطَان إغراؤه على الْمعْصِيَة.(3/489)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
وَقَوله: {وَأَعُوذ بك رب أَن يحْضرُون} أَي: يحضروا أَمْرِي، وَإِنَّمَا ذكر الْحُضُور؛ لِأَنَّهُ يغريه على الْمعْصِيَة، ويوسوسه إِذا حضر.(3/489)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا جَاءَ أحدهم الْمَوْت} أَي: حضر أحدهم الْمَوْت. وَقَوله: {قَالَ رب ارْجِعُونِ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه خطاب للْمَلَائكَة، وهم الْمَلَائِكَة الَّذين يحْضرُون بِقَبض الرّوح، وَهَذَا قَول ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ قد قَالَ: {رب} .
وَأما القَوْل الثَّانِي - وَهَذَا الْمَعْرُوف - أَن الْخطاب مَعَ الله، وَكَأن الْكَافِر يسْأَل ربه عِنْد الْمَوْت أَن يردهُ إِلَى الدُّنْيَا، فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَقد قَالَ: {ارْجِعُونِ} ، وَالْوَاحد لَا يخطاب بخطاب الْجمع، وَلَا يَسْتَقِيم أَن يَقُول الْقَائِل: اللَّهُمَّ اغفروا لي؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه إِنَّمَا ذكر بِلَفْظ الْجمع على طَرِيق التفخيم والتعظيم، فَإِن الله تَعَالَى أخبر عَن نَفسه بِلَفْظ الْجمع فَقَالَ: {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَمثل هَذَا كثير فِي الْقُرْآن، فَذكر قَوْله: {ارْجِعُونِ} على مُوَافقَة هَذَا كَمَا يُخَاطب الْجمع،(3/489)
{لعَلي أعمل صَالحا فِيمَا تركت كلا إِنَّهَا كلمة هُوَ قَائِلهَا وَمن ورائهم برزخ إِلَى يَوْم يبعثون (100) فَإِذا نفخ فِي الصُّور} وَعَن الْخَلِيل أَنه سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة - وَكَانَ شَدِيد التوقي فِي كَلَام الْقُرْآن - وَقَالَ: {رب ارْجِعُونِ} مَعْنَاهُ: اجْعَلنِي مرجوعا.(3/490)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
وَقَوله تَعَالَى: {لعَلي أعمل صَالحا فِيمَا تركت} أَي: أَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقيل: هُوَ الْعَمَل بِالطَّاعَةِ، قَالَ قَتَادَة: طلب الرُّجُوع ليعْمَل صَالحا، لَا ليجمع الدُّنْيَا، وَيَقْضِي الشَّهَوَات، فرحم الله امْرَءًا عمل فِيمَا يتمناه الْكَافِر إِذا رأى الْعَذَاب.
قَوْله تَعَالَى: {كلا إِنَّهَا كلمة هُوَ قَائِلهَا} يَعْنِي: سُؤال الرّجْعَة، وَقد قَالَ أهل الْعلم من السّلف: لَا يسْأَل الرّجْعَة عبد لَهُ عِنْد الله ذرة من خير؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ لَهُ خير عِنْد الله فَهُوَ يحب الْقدوم عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا أَن سُؤال الرّجْعَة يكون للْكَافِرِ لَا لِلْمُؤمنِ.
وَقَوله: {وَمن وَرَاءَهُمْ برزخ} أَي: حاجز، وَهُوَ الْقَبْر.
وَقَوله: {إِلَى يَوْم يبعثون} فالبرزخ هُوَ مَا بَين الْمَوْت إِلَى الْبَعْث، وَيُقَال: مَا بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.(3/490)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا نفخ فِي الصُّور} حُكيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: أَي: فِي الصُّور. وَهَذَا قَول ضَعِيف، وَالصَّحِيح أَن الصُّور قرن ينْفخ فِيهِ إسْرَافيل، وَمن الْمَشْهُور أَن النَّبِي قَالَ: " كَيفَ أنعم، وَقد الْتَقم صَاحب الْقرن الْقرن، وحنى جَبهته، وأصغى بأذنه مَتى يُؤمر فينفخ ".
فَمن الْعلمَاء من يَقُول: ينْفخ ثَلَاث نفخات: نفخة للصعق، ونفخة للْمَوْت،(3/490)
{فَلَا أَنْسَاب بَينهم يَوْمئِذٍ وَلَا يتساءلون (101) } ونفخة للبعث. وَالْأَكْثَرُونَ أَنه ينْفخ نفختين: نفخة للْمَوْت، ونفخة للبعث، والصعق هُوَ الْمَوْت، وَيكون بَين النفختين أَرْبَعُونَ سنة.
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أَنْسَاب بَينهم يَوْمئِذٍ} أَي: لَا أَنْسَاب يتفاخرون ويتواصلون بهَا، وَأما أصل الْأَنْسَاب فباقية.
وَأما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " كل سَبَب وَنسب يَنْقَطِع إِلَّا سببي ونسبي " أَي: لَا ينفع سَبَب وَلَا نسب يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا سببي ونسبي، وَيُقَال: سَببه الْقُرْآن، وَنسبه الْإِيمَان.
وَقَوله: {وَلَا يتساءلون} أَي: لَا يسْأَل بَعضهم بَعْضًا سُؤال تواصل، فَإِن قيل: أَلَيْسَ أَن الله تَعَالَى قَالَ: {فَأقبل بَعضهم على بعض يتساءلون} ؟
الْجَواب: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: يَوْم الْقِيَامَة مَوَاطِن وتارات، فَفِي موطن يشْتَد عَلَيْهِم الْخَوْف (فتذهل) عُقُولهمْ، فَلَا يتساءلون، وَفِي مَوضِع يفيقون إفاقة فيتساءلون.(3/491)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)
قَوْله تَعَالَى: {فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون} أَي: الفائزون والناجون.(3/491)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم} أَي: غبنوا(3/491)
{فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون (102) وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم فِي جَهَنَّم خَالدُونَ (103) تلفح وُجُوههم النَّار وهم فِيهَا كَالِحُونَ (104) ألم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم فكنتم بهَا تكذبون (105) } أنفسهم بِهَلَاك (الْآيَة) . وَقَوله: {فِي جَهَنَّم خَالدُونَ} أَي: مقيمون.(3/492)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
قَوْله تَعَالَى: {تلفح وُجُوههم النَّار} . اللفح أكبر من النفح، وَمَعْنَاهُ: يُصِيب وُجُوههم حر النَّار، وَقيل: تحرق وُجُوههم النَّار وتنضجها.
وَقَوله: {وهم فِيهَا كَالِحُونَ} الكالح فِي اللُّغَة: هُوَ العابس، وَأما الْمَرْوِيّ فِي التَّفْسِير: هُوَ الَّذِي تقلصت شفتاه، وَظَهَرت أَسْنَانه.
وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: كالرأس النضيج قد بَدَت أَسْنَانه، وتقلصت شفتاه. وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِرِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: " هُوَ أَن تتقلص شفته الْعليا حَتَّى تبلغ وسط رَأسه وَتَسْتَرْخِي شفته السُّفْلى حَتَّى تضرب سرته ". وَفِي بعض التفاسير: وَتخرج أَسْنَانه عَن شَفَتَيْه [أَرْبَعِينَ] ذِرَاعا.
وَعَن بعض التَّابِعين من الْخَائِفِينَ: أَنه مر على شواء، فَرَأى رُءُوس الْغنم وَقد أبرزت، فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا غشي عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ يذكر هَذِه الْآيَة.(3/492)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
وَقَوله تَعَالَى: {ألم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم فكنتم بهَا تكذبون} أَي: تجحدون وتنكرون.(3/492)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
وَقَوله: {قَالُوا رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا} وقرىء: " شقاوتنا " وهما بِمَعْنى وَاحِد، وَالْمرَاد مِنْهُ: إِنَّمَا أدخلنا النَّار بِمَا غلب علينا من حكمك وقضائك بشقاوتنا. وَقَوله:(3/492)
{قَالُوا رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا وَكُنَّا قوما ضَالِّينَ (106) رَبنَا أخرجنَا مِنْهَا فَإِن عدنا فَإنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون (108) إِنَّه كَانَ فريق من عبَادي يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ (109) فاتخذتموهم سخريا} {وَكُنَّا قوما ضَالِّينَ} أَي: عَن الْحق.(3/493)
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا أخرجنَا مِنْهَا فَإِن عدنا فَإنَّا ظَالِمُونَ} فيتركهم مِقْدَار عمر الدُّنْيَا، وَفِي رِوَايَة: مثلي عمر الدُّنْيَا.(3/493)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
ثمَّ يَقُول: { [قَالَ] اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} قَالَ: فَيَنْقَطِع رجاؤهم حِينَئِذٍ، وَلَا يسمع بعد ذَلِك مِنْهُم إِلَّا الزَّفِير والشهيق، وَأما قَوْله: {اخْسَئُوا} أَي: ابعدوا، وَهُوَ مثل قَوْلهم: خسأت الْكَلْب أَي: أبعدته.(3/493)
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه كَانَ فريق من عبَادي يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ} . قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا فِي بِلَال وسلمان وعمار وصهيب والفقراء من أَصْحَاب الرَّسُول.(3/493)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
وَقَوله: {فاتخذتموهم سخريا} وقرىء: " سخريا " فَقَوله: {سخريا} من الِاسْتِهْزَاء، وَقَوله: " سخريا " من التسخير.
وَقَوله: {حَتَّى أنسوكم ذكري} أَي: اشتغلتم بالاستهزاء والسخرية عَلَيْهِم، وتركتم ذكري، وَكَانَ الْوَاجِب عَلَيْكُم أَن تذكروني بدل استهزائكم بهم.
وَقَوله: {وكنتم مِنْهُم تضحكون} وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن الِاسْتِهْزَاء بِالنَّاسِ كَبِيرَة، وَهُوَ مَوْعُود عَلَيْهِ، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: من ضحك ضحكة مج مجة من الْعلم لَا يعود إِلَيْهِ أبدا.(3/493)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي جزيتهم الْيَوْم بِمَا صَبَرُوا أَنهم هم الفائزون} أَي: بصبرهم {أَنهم هم الفائزون} أَي: الناجون.(3/493)
{حَتَّى أنسوكم ذكري وكنتم مِنْهُم تضحكون (110) إِنِّي جزيتهم الْيَوْم بِمَا صَبَرُوا أَنهم هم الفائزون (111) قَالَ كم لبثتم فِي الأَرْض عدد سِنِين (112) قَالُوا لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم فاسأل العادين (113) قَالَ إِن لبثتم إِلَّا قَلِيلا لَو أَنكُمْ كُنْتُم تعلمُونَ (114) أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وأنكم إِلَيْنَا لَا ترجعون (115) }(3/494)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ كم لبثتم فِي الأَرْض عدد سِنِين} . يَعْنِي: قَالَ الله تَعَالَى للْكفَّار: {كم لبثتم فِي الأَرْض عدد سِنِين} (أَي: فِي الدُّنْيَا، وَيُقَال: فِي الْقُبُور، وقرىء: " قل كم لبثتم فِي الأَرْض عدد سِنِين ") وَمَعْنَاهُ: قل يَا أَيهَا الْكَافِر.(3/494)
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم} إِنَّمَا ذكرُوا يَوْمًا أَو بعض يَوْم؛ لأَنهم نسوا عدد مَا لَبِثُوا من هول مَا يلقاهم يَوْم الْقِيَامَة، فَإِن قَالَ قَائِل: هَذِه الْآيَة تدل على أَن عَذَاب الْقَبْر لَيْسَ بِثَابِت للْكفَّار؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ ثَابتا لم يَقُولُوا: لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه ذهب عَن قُلُوبهم عَذَاب الْقَبْر من هول مَا يلقاهم يَوْم الْقِيَامَة، وَالثَّانِي: أَن الله تَعَالَى يرفع الْعَذَاب عَن أهل الْقُبُور بَين النفختين، فينسون عَذَاب الْقَبْر، ويستريحون، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم لهَذَا.
وَقَوله: {فاسأل العادين} أَي: الْمَلَائِكَة الَّذين يعْرفُونَ عدد مَا لَبِثُوا.(3/494)
قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِن لبثتم إِلَّا قَلِيلا} يَعْنِي: مَا لبثتم إِلَّا قَلِيلا {لَو أَنكُمْ كُنْتُم تعلمُونَ} أَي: لَو تعلمُونَ عدد مَا لبثتم، وَإِنَّمَا ذكر قَلِيلا؛ لِأَن الْوَاحِد من أهل الدُّنْيَا وَإِن لبث فِي الدُّنْيَا سِنِين كَثِيرَة، فَإِنَّهُ يكون قَلِيلا فِي جنب مَا يلبث فِي الْآخِرَة.(3/494)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
قَوْله تَعَالَى: {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} أَي: لتلعبوا أَو تعبثوا، وَقد سمى الله تَعَالَى جَمِيع الدُّنْيَا لعبا ولهوا فَقَالَ: {اعلموا أَنما الْحَيَاة الدُّنْيَا لعب وَلَهو} فالآية تدل على أَن الْآدَمِيّ لم يخلق لطلب الدُّنْيَا والاشتغال بهَا، وَإِنَّمَا خلق ليعبد الله وَيقوم بأوامره، وَعَن بَعضهم قَالَ: {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} هُوَ فِي معنى قَوْله(3/494)
{فتعالى الله الْملك الْحق لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَرْش الْكَرِيم (116) وَمن يدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا برهَان لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حسابه عِنْد ربه إِنَّه لَا يفلح الْكَافِرُونَ (117) وَقل رب} تَعَالَى: {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى} وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يهمل أمره وَقَالَ بَعضهم: خلق (لهلاك) الْأَبَد أَو لملك الْأَبَد.
وَقَوله: {وأنكم إِلَيْنَا لَا ترجعون} ظَاهر الْمَعْنى.(3/495)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
قَوْله تَعَالَى: {فتعالى الله الْملك الْحق لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَرْش الْكَرِيم} أَي: الْمُرْتَفع، وَقيل: الْحسن، وَقد بَينا معنى {تَعَالَى} من قبل.(3/495)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن يدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا برهَان لَهُ بِهِ} أَي: لَا بَيِّنَة وَلَا حجَّة لَهُ بِهِ، قَالَ أهل الْعلم: لَا حجَّة لأحد فِي دَعْوَى الشّرك، وَإِنَّمَا الْحجَّة عَلَيْهِم.
وَقَوله: {فَإِنَّمَا حسابه عِنْد ربه} هَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِن علينا حسابهم} ، وَرُوِيَ " أَن أَعْرَابِيًا أَتَى النَّبِي وَقَالَ: وَمن يحاسبنا يَوْم الْقِيَامَة؟ قَالَ: الله. قَالَ: نجونا وَرب الْكَعْبَة، إِن الْكَرِيم إِذا قدر غفر " وَالْخَبَر غَرِيب.
وَقَوله: {إِنَّه لَا يفلح الْكَافِرُونَ} أَي: لَا يسْعد وَلَا يفوز.(3/495)
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
قَوْله تَعَالَى: {وَقل رب اغْفِر وَارْحَمْ وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ}
{اغْفِر} اسْتُرْ {وَارْحَمْ} اعطف، والغفور: الستور، والرحيم هُوَ العطوف.(3/495)
{اغْفِر وَارْحَمْ وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ (118) }
قَوْله: {وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ} . أَي: خير من رحم.(3/496)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{سُورَة أنزلناها وفرضناها}
تَفْسِير سُورَة النُّور
وَهِي مَدَنِيَّة، وروى الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ فِيمَا خرجه من الزِّيَادَة على الصَّحِيحَيْنِ بِرِوَايَة شُعَيْب بن إِسْحَق، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي قَالَ فِي النِّسَاء: " لَا تسكنوهن الغرف، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَة، وعلموهن الْغَزل وَسورَة النُّور ".(3/497)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
قَوْله تَعَالَى: {سُورَة أنزلناها} وَقِرَاءَة الْأَعْرَج وَمُجاهد " سُورَة أنزلناها "، وَالسورَة: مَجْمُوع آيَات مِمَّا أنزل الله تَعَالَى مَعْلُوم الِابْتِدَاء والانتهاء، وَإِنَّمَا رفع سُورَة؛ لِأَن مَعْنَاهَا: هَذِه سُورَة، وَقَوله: " سُورَة " بِالنّصب فتقديره أنزلنَا سُورَة.
وَقَوله: {وفرضناها} قرىء بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، أما بِالتَّخْفِيفِ فَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَان: أَحدهمَا: ألزمناكم الْعَمَل بِمَا فرض فِيهَا، وَالْآخر: فرضناها أَي: قَدرنَا مَا فِيهَا من الْحُدُود، وَالْفَرْض هُوَ التَّقْدِير، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَنصف مَا فرضتم} أَي: مَا قدرتم، وَأما بِالتَّشْدِيدِ فَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَان:
أَحدهمَا: فَرضنَا فرائضها، وشدد لما فِيهَا من الْكَثْرَة.
وَالْوَجْه الثَّانِي: فرضناها أَي: بيناها وفصلناها.
قَالَ مُجَاهِد: هُوَ الْأَمر بالحلال وَالنَّهْي عَن الْحَرَام.(3/497)
{وأنزلنا فِيهَا آيَات بَيِّنَات لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ (1) الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة}
وَقَوله: {وأنزلنا فِيهَا آيَات بَيِّنَات} أَي: دلالات واضحات.
وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} أَي: تتعظون.(3/498)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} قَالَ أهل الْعلم: إِنَّمَا بَدَأَ بِالْمَرْأَةِ، لِأَن رقة الْقلب عَلَيْهِنَّ أَكثر، فَبَدَأَ بِهن لِئَلَّا يتْرك إِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا، وَيكون أمرهَا لَهُم، وَمِنْهُم من قَالَ: لِأَن الشَّهْوَة فِيهِنَّ أَكثر، وَالزِّنَا نتيجة الشَّهْوَة، وَبَدَأَ فِي حد السّرقَة بِالرجلِ؛ لِأَن الْقُوَّة والجراءة فِي الرِّجَال أَكثر، وَالسَّرِقَة نتيجة الْقُوَّة والجراءة، وَهَذَا قَول حسن.
وَقَوله: {فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} الْجلد: ضرب الْجلد، يُقَال: جلدته إِذا ضربت جلده، وبطنته إِذا ضربت بَطْنه، وظهرته إِذا ضربت ظَهره، وَفِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْآيَة عَامَّة فِي الْأَبْكَار وَالثَّيِّب، فتجلد الثّيّب مَعَ الرَّجْم. رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - " أَنه جلد شراحة الهمدانية يَوْم الْخَمِيس مائَة، ورجمها يَوْم الْجُمُعَة، وَقَالَ: جلدتها بِكِتَاب الله، ورجمتها بِسنة رَسُول الله ".
وَأما قَول عَامَّة الْعلمَاء فَهُوَ: أَن الْآيَة مَخْصُوصَة للأبكار، وَأَن الثّيّب يرْجم وَلَا يجلد، وَاتفقَ أهل الْعلم أَن هَذِه الْآيَة ناسخة؛ لِأَن الْمَذْكُورَة فِي الْإِمْسَاك فِي سُورَة النِّسَاء.
وَقد رُوِيَ عَن عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي نزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَنحن عِنْده، وَكَانَ إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي تغير وَجهه، وصرفنا أبصارنا عَنهُ، فَلَمَّا سرى عَنهُ قَالَ: " لِتَأْخُذُوا عني فَقُلْنَا: نعم يَا رَسُول الله، فَقَالَ: قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا، الثّيّب بِالثَّيِّبِ الرَّجْم، وَالْبكْر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام ".(3/498)
{وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وليشهد عذابهما طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ (2) }
وَذكر النقاش أَن فِي حرف أبي بن كَعْب فِي سُورَة الْأَحْزَاب، " الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم ".
وَكَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - قد هم أَن يكْتب هَذَا على حَاشِيَة الْمُصحف ثمَّ ترك لِئَلَّا يلْحق بِالْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ.
وَقَوله: {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله} وقرىء: " رافة " بِغَيْر همز، وقرىء فِي الشاذ: " رآفة " يَعْنِي: رَحْمَة. وَاعْلَم أَن الرَّحْمَة والرأفة معنى فِي الْقلب لَا ينْهَى عَنهُ؛ لِأَنَّهُ يُوجد فِي الْقلب من غير اخْتِيَار إِنْسَان، وَإِنَّمَا معنى الْآيَة: اسْتِعْمَال الرَّحْمَة فِي (تَعْطِيل الْحَد) وتخفيفه.
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمر أَنه ضرب أمة لَهُ الْحَد، وَكَانَت قد زنت، فَجعل يضْرب رجلهَا وظهرها، فَقَالَ لَهُ سَالم ابْنه: {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله} فَقَالَ: يَا بني: إِن الله لم يَأْمُرنِي بقتلها، وَلَا بِضَرْب رَأسهَا، وَقد ضربت فأوجعت. وَقد قَالَ أهل الْعلم: يجْتَهد فِي جلدَة الزَّانِي مَا لَا يجْتَهد فِي جلدَة شَارِب الْخمر لنَصّ الْكتاب.
(وَقَوله: {فِي دين الله} أَي: فِي حكم الله) .
وَقَوله: {إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} ظَاهر الْمَعْنى.
وَحَقِيقَة مَعْنَاهُ: أَن الْمُؤمن لَا تَأْخُذهُ رَحْمَة ورقة إِذا جَاءَ أَمر الرب.
وَقَوله: {وليشهد عَذَابهَا طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ} قَالَ ابْن عَبَّاس: وَاحِد فَمَا فَوْقه. وَعَن عَطاء: رجل إِلَى ألف رجل. وَعَن سعيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة: رجلَانِ. وَعَن الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة: ثَلَاثَة نفر. وَقَالَ مَالك: أَرْبَعَة نفر، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَجَمَاعَة من أهل الْعلم.(3/499)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة أَو مُشركَة} فِي الْآيَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَن(3/499)
{الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة أَو مُشركَة والزانية لَا ينْكِحهَا إِلَّا زَان أَو مُشْرك وَحرم} الْآيَة نزلت فِي امْرَأَة تسمى أم مهزول، وَكَانَت بغية، وَإِذا تزوجت بِرَجُل شرطت عَلَيْهِ أَن تنْفق عَلَيْهِ، فَأَرَادَ رجل من أَصْحَاب رَسُول الله أَن يتَزَوَّج بهَا، فَسَأَلَ النَّبِي [] ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة} وَيُقَال: إِن اسْم الْمَرْأَة كَانَ عنَاق. وَهَذَا قَول عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيرهمَا: " كَانَ بِالْمَدِينَةِ بَغَايَا على أبوابهن رايات يعرفن بهَا، وَكن مخاصيب الرِّجَال، فَلَمَّا هَاجر أَصْحَاب رَسُول الله إِلَى الْمَدِينَة أَرَادَ نَاس من فُقَرَاء الْمُهَاجِرين أَن يتزوجوا بِهن لينفقن عَلَيْهِم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَالْقَوْل الثَّالِث: رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: معنى الْآيَة: " الزَّانِي المجلود لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة مجلودة، والزانية المجلودة لَا ينْكِحهَا إِلَّا زَان مجلود وَفِي بعض المسانيد: روى هَذَا القَوْل عَن النَّبِي بطرِيق أبي هُرَيْرَة.(3/500)
وَالْقَوْل الرَّابِع: رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة الْوَالِبِي، عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى الْآيَة: الزَّانِي لَا يَزْنِي إِلَّا بزانية، وَمعنى النِّكَاح [هُوَ الْوَطْء] ، قَالَ الزّجاج: وَهَذَا القَوْل ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ لم يرد فِي الْقُرْآن ذكر النِّكَاح بِمَعْنى الْوَطْء.
وَالْقَوْل الْخَامِس - وَهُوَ أحسن الْأَقَاوِيل - قَول سعيد بن الْمسيب: أَن الْآيَة مَنْسُوخَة، وَقد كَانَ فِي حكم الْإِسْلَام لَا يجوز أَن يتَزَوَّج الزَّانِي بالمزني بهَا. قَالَ عبد الله بن مَسْعُود. إِذا تزوج الزَّانِي بالزانية فهما زانيان أبدا. قَالَ سعيد بن الْمسيب: ثمَّ نسخ هَذَا بقوله تَعَالَى: {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم} والزانية أيم، فَيجوز التَّزَوُّج بهَا للزاني وَغَيره، وَالدَّلِيل على أَن الحكم الْآن هَذَا، مَا رُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ جَالِسا فِي الْمَسْجِد وَعِنْده عمر، فجَاء رجل وَقد دهش، وَكَانَ بِهِ لوث، فَقَالَ أَبُو بكر: قد جَاءَ هَذَا لأمر، سَله يَا عمر، فَقَالَ لَهُ عمر: مَا شَأْنك؟ فَذكر أَنه جَاءَهُ ضيف، وَأَن الضَّيْف زنى بابنته، فَقَالَ لَهُ عمر: قبحك الله، ودق على صَدره، وَقَالَ: هلا سترت على ابْنَتك، ثمَّ دَعَا بِالرجلِ وَالْمَرْأَة، فَأمر أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَن يجلد الْجلد، (ثمَّ زوج الْمَرْأَة من الرجل) وَذكر أَبُو عبيد - رَحمَه الله - أَنه يكره للرجل أَن يتَزَوَّج بالفاجرة، وَإِن فجرت امْرَأَته اسْتحبَّ لَهُ طَلاقهَا، قَالَ: وَأما الْخَبَر الَّذِي رُوِيَ عَن النَّبِي " أَن رجلا أَتَاهُ وَقَالَ: إِن امْرَأَتي لَا ترد يَد لامس، فَقَالَ: طَلقهَا فَقَالَ: إِنِّي أحبها. قَالَ: استمتع بهَا. قَالَ أَبُو [عبيد] هَذَا الْخَبَر نقل(3/501)
{ذَلِك على الْمُؤمنِينَ (3) وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم} بروايتين كل وَاحِد مِنْهُمَا مُرْسل، فَلَيْسَ يثبت هَذَا عَن النَّبِي وَلَئِن يثبت فَيحْتَمل أَن قَوْله: " إِن امْرَأَتي لَا ترد يَد لامس " تنْفق مَا وَقع بِيَدِهَا وَتُعْطِي، وَكَأَنَّهُ شكا مِنْهَا الْخرق وتضييع مَاله، وَلَيْسَ المُرَاد هُوَ أَنَّهَا تَزني، فَإِنَّهُ لَا يجوز أَن يذكر ذَلِك عِنْد النَّبِي، ثمَّ يَأْمُرهُ بإمساكها.
وَقَوله: {وَحرم ذَلِك على الْمُؤمنِينَ} ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا أَن ذَلِك مَنْسُوخ.(3/502)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} وَالْمُحصنَات هن اللواتي أحصن أَنْفسهنَّ.
وَقَوله: {ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء} أَي: على زناهن، وَالْمرَاد من الرَّمْي الْمَذْكُور فِي الْآيَة هُوَ الْقَذْف بِالزِّنَا.
وَقَوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة} أَي: اضربوهم ثَمَانِينَ سَوْطًا.
وَقَوله: {وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا} اخْتلف السّلف فِي هَذَا، فَروِيَ عَن شُرَيْح وَالْحسن وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَجَمَاعَة أَنهم قَالُوا: شَهَادَة الْقَاذِف لَا تقبل أبدا إِذا حد وَإِن تَابَ، وَهَذَا قَول أهل الْعرَاق.
وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَالزهْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ وَجَمَاعَة: أَنه إِذا تَابَ قبلت شَهَادَته، وَهَذَا قَول أهل الْحجاز.
وَقَالَ الشّعبِيّ: يقبل الله تَوْبَته، وَلَا تقبلون شَهَادَته؟ ! وَحكى سعيد بن الْمسيب أَن عمر قَالَ لأبي بكرَة: تب تقبل شهادتك، فَلم يتب، وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة.
وَقَوله: {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} فَمن قَالَ: إِن شَهَادَة الْقَاذِف(3/502)
{الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذين تَابُوا من بعد ذَلِك وَأَصْلحُوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم (5) وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم وَلم يكن لَهُم شُهَدَاء إِلَّا أنفسهم فشهادة أحدهم أَربع شَهَادَات بِاللَّه إِنَّه لمن الصَّادِقين (6) } تقبل بعد التَّوْبَة ذهب إِلَى أَن(3/503)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قَوْله: {إِلَّا الَّذين تَابُوا} ينْصَرف إِلَى الْكل سوى الْحَد، وَعَن الشّعبِيّ: أَن الْحَد يسْقط أَيْضا بِالتَّوْبَةِ، وَأما من ذهب إِلَى أَن شَهَادَة الْقَاذِف لَا تقبل بعد التَّوْبَة قَالَ: إِن قَوْله: {إِلَّا الَّذين تَابُوا} ينْصَرف إِلَى قَوْله: {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} فَإِن قيل: إِذا قبلتم شَهَادَة الْقَاذِف بعد التَّوْبَة، فَمَا معنى قَوْله تَعَالَى: {أبدا} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالَ الزّجاج فِي كِتَابه: أَبَد كل إِنْسَان مدَّته على مَا يَلِيق بِقِصَّتِهِ، فَإِذا قيل: لَا تقبل شَهَادَة الْكَافِر أبدا يُرَاد بِهِ مادام كَافِرًا، وَإِذا قيل: لَا تقبل شَهَادَة الْقَاذِف أبدا يُرَاد بِهِ مادام قَاذِفا، وَأما تَوْبَة الْقَاذِف فبإكذابه نَفسه، وَيُقَال: بندامته على مَا وجد مِنْهُ.
قَوْله: {وَأَصْلحُوا} أَي: استقاموا على التَّوْبَة.
وَقَوله: {فَإِن الله غَفُور رَحِيم} قد بَينا من قبل.(3/503)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
قَوْله: {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} . يَعْنِي: يقذفون نِسَاءَهُمْ بِالزِّنَا.
وَقَوله: {وَلم يكن لَهُم شُهَدَاء إِلَّا أنفسهم} أَي: غير أنفسهم.
وَقَوله: {فشهادة أحدهم أَربع} بِالرَّفْع، وقرىء بِالنّصب " أَربع "، فَأَما بِالرَّفْع فتقديره: فشهادة أحدهم الَّتِي تدرأ الْحَد أَربع، فَيكون رفعا على خبر الِابْتِدَاء، وَأما بِالنّصب فتقديره: فشهادة أحدهم أَن يشْهد أَربع.
وَقَوله: {شَهَادَات بِاللَّه إِنَّه لمن الصَّادِقين} يَعْنِي: فِيمَا رميتها بِهِ من الزِّنَا.(3/503)
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَامِسَة أَن لعنة الله عَلَيْهِ} وقرىء: " أَن لعنة الله عَلَيْهِ " بِسُكُون(3/503)
{وَالْخَامِسَة أَن لعنت الله عَلَيْهِ إِن كَانَ من الْكَاذِبين (7) ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب أَن تشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه إِنَّه لمن الْكَاذِبين (8) وَالْخَامِسَة أَن غضب الله عَلَيْهَا إِن كَانَ من الصَّادِقين (9) } النُّون، وَمَعْنَاهُ: أَنه لعنة الله عَلَيْهِ، وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ شعرًا:
(فِي فتية كسيوف الْهِنْد قد علمُوا ... أَن هَالك كل من يخفى وينتعل)
يَعْنِي: أَنه هَالك.
وَقَوله: {إِن كَانَ من الْكَاذِبين} يَعْنِي: فِيمَا رَمَاهَا بِهِ من الزِّنَا.(3/504)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب} فِي الْعَذَاب قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْحَد، وَالْآخر: أَنه الْحَبْس، وَتَأْويل الْحَد أظهر؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {وليشهد عذابهما طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ} أَي: الْحَد.
وَقَوله: {أَن تشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه إِنَّه لمن الْكَاذِبين} يَعْنِي: فِيمَا رَمَاهَا بِهِ من الزِّنَا.(3/504)
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَامِسَة أَن غضب الله عَلَيْهَا إِن كَانَ من الصَّادِقين} وقرىء: " أَن غضب الله عَلَيْهَا "، وقرىء: " أَن غضب الله عَلَيْهَا " بِكَسْر الضَّاد فَقَوله: {أَن غضب الله عَلَيْهَا} هَذَا فعل، وَقَوله: {أَن غضب الله عَلَيْهَا} اسْم، وَقَوله: {أَن(3/504)
غضب الله) هُوَ (فعل) أَيْضا، يَعْنِي: أَنه غضب الله.
وَقَوله: {إِن كَانَ من الصَّادِقين} أَي: فِيمَا رَمَاهَا بِهِ من الزِّنَا، وَسبب نزُول الْآيَة، مَا روى ابْن عَبَّاس " أَن هِلَال بن أُميَّة قذف امْرَأَته بِشريك بن سَحْمَاء عِنْد النَّبِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: الْبَيِّنَة، (وَإِلَّا) فحد فِي ظهرك فَقَالَ هِلَال: يَا رَسُول الله، وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ إِنِّي لصَادِق، وسينزل الله مَا يبرىء ظَهْري من الْحَد، فَنزلت هَذِه الْآيَة، فَدَعَا رَسُول الله هلالا وَامْرَأَته، ولاعن بَينهمَا، فَبَدَأَ هِلَال، والتعن أَربع مَرَّات، فَلَمَّا بلغ الْخَامِسَة قَالَ لَهُ النَّبِي: أمسك فَإِنَّهَا مُوجبَة. فَقَالَ هِلَال إِن الله يعلم أَنِّي صَادِق وَشهد بالخامسة، ثمَّ قَامَت الْمَرْأَة فالتعنت أَربع مَرَّات، فَلَمَّا بلغت الْخَامِسَة قَالَ لَهَا النَّبِي: أمسكي فَإِنَّهَا مُوجبَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: فتلكت تلكؤا سَاعَة، حَتَّى ظننا أَنَّهَا سترجع ثمَّ قَالَت: لَا أفضح قومِي الْيَوْم، وَشهِدت بالخامسة، فَقَالَ النَّبِي: " إِن جَاءَت بِالْوَلَدِ أكحل الْعَينَيْنِ سابغ الأليتين خَدلج السَّاقَيْن، فَهُوَ لِشَرِيك بن سَحْمَاء، فَجَاءَت بِهِ على هَذَا النَّعْت، فَقَالَ النَّبِي: " لَوْلَا الْأَيْمَان لَكَانَ لي وَلها شَأْن ". وَالْخَبَر صَحِيح.
وَعَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " كُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِد لَيْلَة جُمُعَة، ومعنا رجل فَخرج منا وَدخل بَيته، فَوجدَ مَعَ امْرَأَته رجلا، فجَاء إِلَى النَّبِي، وشكا إِلَيْهِ فَقَالَ: عَلَيْك بالشهود فَقَالَ: وأنى لي بالشهود؟ فَقَالَ: قد حرت فِي هَذَا الْأَمر، فَإِن الرجل إِن قتل قَتَلْتُمُوهُ، وَإِن تكلم حددتموه، وَإِن سكت سكت على(3/505)
{وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته وَأَن الله تواب حَكِيم (10) إِن الَّذين جَاءُوا بالإفك عصبَة مِنْكُم} غيظ، اللَّهُمَّ فاحكم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَات ". وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة: أَنه لما أنزل الله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بِأَرْبَع شُهَدَاء ... الْآيَة} قَالَ [سعد] بن عبَادَة: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت أَنِّي وجدت لكاعا (يتفخذ) رجل، فَلَا أهيجه وَلَا أحركه حَتَّى آتِي بأَرْبعَة شُهَدَاء؟ فَإلَى أَن آتِي بِالشُّهَدَاءِ قد قضى الرجل حَاجته، فَقَالَ النَّبِي: " انْظُرُوا يَا معشر الْأَنْصَار مَا يَقُول سيدكم "، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، إِنَّه لرجل غيور، وَإنَّهُ مَا تزوج امْرَأَة قطّ إِلَّا عذراء، وَمَا طلق امْرَأَة فَأحب أحد منا أَن يَتَزَوَّجهَا، فَقَالَ سعد: إِنِّي أعلم أَن مَا أنزل الله حق، وَلَكِنِّي تعجبت، فَأنْزل الله تَعَالَى آيَة اللّعان " على مَا بَينا.
وَفِي الْبَاب أَخْبَار كَثِيرَة، وَفِيه حَدِيث عَاصِم بن عدي [وعويمر] الْعجْلَاني وَغَيرهمَا، وَذَلِكَ مَذْكُور فِي كتب الحَدِيث.(3/506)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته وَأَن الله تواب رَحِيم} .
جَوَاب الْآيَة مَحْذُوف، وَمثله قَول الرجل إِذا شَتمه إِنْسَان: أَيهَا الرجل لَوْلَا كَذَا أَي: لَوْلَا كَذَا لشتمتك، فعلى هَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم(3/506)
وَرَحمته) لنال الْكَاذِب مِنْكُمَا الْعَذَاب فِي الْحَال، وَمِنْهُم من قَالَ: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته} بِتَأْخِير الْعَذَاب وإمهاله لعجل عَذَابه.(3/507)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين جَاءُوا بالإفك عصبَة مِنْكُم} هَذِه الْآيَات فِي قصَّة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - وَكَانَ سَبَب نُزُولهَا مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة وَسَعِيد بن الْمسيب وعلقمة بن وَقاص وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة كلهم عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " كَانَ رَسُول الله إِذا خرج إِلَى سفر أَقرع بَين نِسَائِهِ، فَخرج إِلَى غَزْوَة غَزَاهَا، وأقرع بَين نِسَائِهِ، فَخرجت قرعتي " وَفِي رِوَايَة: أَن الْغَزْوَة كَانَت غَزْوَة مريسيع، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن الْغَزْوَة كَانَت غَزْوَة بني المصطلق، وَقَالَت: فَلَمَّا رَجعْنَا قبل الْمَدِينَة عرس رَسُول الله لَيْلَة، ثمَّ إِنَّهُم آذنوا بالرحيل، فَخرجت لحاجتي فَلَمَّا قضيت شأني رجعت فَالْتمست صَدْرِي، فَوجدت عقدا لي من جزع ظفار سقط، فَرَجَعت، وَجَاء الْقَوْم الَّذين يرحلون هودجي، وَوَضَعُوا الهودج على الْبَعِير، وظنوا أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاء إِذْ ذَاك خفافا، فَإِنَّمَا يأكلن الْعلقَة من الطَّعَام، فَرَجَعت وَقد مر الْجَيْش، فَلَا دَاع وَلَا مُجيب، وَكَانَ صَفْوَان بن الْمُعَطل السّلمِيّ كَانَ تَأَخّر عَن الْجَيْش، وَفِي رِوَايَة: أَنه كَانَ يعْتَاد التَّأَخُّر، حَتَّى إِن كَانَ سقط من أحد شَيْء، أَو ترك إِنْسَان شَيْئا يَأْخُذهُ، وَيَردهُ عَلَيْهِ، فجَاء ورائي، فَاسْتَرْجع وَمَا كلمني بِكَلِمَة وَقد استدلت جلبابي، فَأَنَاخَ بعيره ووطأه لي حَتَّى ركبته، وَجَاء يقودني حَتَّى لحقنا بالجيش، وَقد نزلُوا موغرين فِي حر الظهيرة، قَالَت: فَلَمَّا وصلنا إِلَى الْجَيْش تكلم النَّاس، وَهلك من هلك " الْخَبَر بِطُولِهِ.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق الْكشميهني، أخبرنَا(3/507)
جدي أَبُو الْهَيْثَم بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفربرِي [أخبرنَا] مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ أخبرنَا أَبُو الرّبيع الزهْرَانِي عَن فليح بن سُلَيْمَان، عَن الزُّهْرِيّ ... الْخَبَر.
ويروى أَنه ... تلبث الْوَحْي [سَبْعَة] وَثَلَاثِينَ يَوْمًا.
وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن عَائِشَة اشتكت واستأذنت رَسُول الله، وَرجعت إِلَى بَيت أَبِيهَا، وَكَانَ رَسُول الله يدْخل قبل رُجُوعهَا إِلَى بَيت أَبِيهَا، وَهِي مشتكية، فَيَقُول: " كَيفَ تيكم؟ " ثمَّ لما رجعت إِلَى بَيت أَبِيهَا عرفت الْخَبَر من قبل أم مسطح فازدادت وبقا، وَجعلت تبْكي، وَلَا يرقأ لَهَا دمع، حَتَّى كَاد الْبكاء يصدع قَلبهَا، وَذكرت لذَلِك لأمها، فَقَالَت لَهَا أمهَا: هوني عَلَيْك فقلما تكون امْرَأَة وضيئة عِنْد رجل، وَلها ضرائر إِلَّا تكلمُوا فِيهَا.
وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن النَّبِي دَعَا عليا وَأُسَامَة بن زيد، واستشارهما، فَأَما عَليّ فَقَالَ يَا رَسُول الله، إِن فِي النِّسَاء كَثْرَة، وَأما أُسَامَة فَقَالَ: لَا أعلم مِنْهَا إِلَّا خيرا، وسل الْجَارِيَة - يَعْنِي: بَرِيرَة - فَسَأَلَ بَرِيرَة فَقَالَت: لَا أعلم مِنْهَا إِلَّا أَنَّهَا جَارِيَة حَدِيثَة السن تعجن، فَتدخل الدَّاجِن فتأكل عَجِينهَا.
وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن النَّبِي جَاءَ إِلَى بَيت أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - بعد أَن مَضَت الْمدَّة الَّتِي ذَكرنَاهَا، فَقَالَ: " يَا عَائِشَة، إِن كنت أَلممْت بذنب فتوبي إِلَى الله، فَإِن الله يقبل التَّوْبَة: قَالَت: فقلص دمعي حَتَّى مَا أجد مِنْهُ قَطْرَة، ثمَّ قلت: إِن قلت أَنِّي فعلت، وَالله يعلم أَنِّي مَا فعلت ليصدقنني، وَإِن قلت: لم أفعل، وَالله يعلم أَنِّي لم أفعل ليكذبنني، وَمَا أعرف مثلي ومثلكم إِلَّا مَا قَالَ أَبُو يُوسُف، ونسيت اسْمه {فَصَبر جميل وَالله الْمُسْتَعَان على مَا تصفون} ثمَّ تنحيت، فَأخذ رَسُول الله [] الْوَحْي، قَالَت: وَكنت أَحْقَر فِي نَفسِي أَن أَظن أَن الله ينزل فِي قُرْآنًا يُتْلَى،(3/508)
{لَا تحسبوه شرا لكم بل هُوَ خير لكم لكل امرىء مِنْهُم مَا اكْتسب من الْإِثْم وَالَّذِي تولى كبره مِنْهُم لَهُ عَذَاب عَظِيم (11) } وَلَكِنِّي كنت أَظن أَنه يرى رُؤْيا، فَلَمَّا تغشاه الْوَحْي لم أفزع لما علمت أَنِّي بريئة، وَالله يعلم ذَلِك ".
وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن أَبَوي كَادَت نفسهما تخرج خوفًا، فَلَمَّا سرى عَن رَسُول الله قَالَ: " أَبْشِرِي يَا عَائِشَة قد أنزل الله تَعَالَى براءتك، وتلا الْآيَات: {إِن الَّذين جَاءُوا بالإفك عصبَة مِنْكُم} فَقَالَ لي أبي: قومِي إِلَى رَسُول الله، وَقَالَت أُمِّي: قومِي إِلَى رَسُول الله، فَقلت: لَا أقوم وَلَا أَحْمد إِلَّا الله، فَإِن الله تَعَالَى أنزل براءتي ".
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين جَاءُوا بالإفك عصبَة مِنْكُم} الْإِفْك هُوَ أَشد الْكَذِب، وَإِنَّمَا سمي إفكا لِأَنَّهُ مَصْرُوف عَن الْحق. وَقَوله: {عصبَة مِنْكُم هَؤُلَاءِ الْعصبَة هم: عبد الله بن أبي بن سلول، ومسطح بن أَثَاثَة ابْن خَالَة أبي بكر، وَحسان بن ثَابت، وَحمْنَة بنت جحش زَوْجَة طَلْحَة بن عبد الله أُخْت زَيْنَب، وَنَفر آخَرُونَ، والعصبة الْعشْرَة فَمَا فَوْقهَا.
وَقَوله: {لَا تحسبوه شرا لكم بل هُوَ خير لكم} هَذَا خطاب لعَائِشَة وَصَفوَان بن معطل فَإِنَّهُم قذفوهما جَمِيعًا، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ خطاب لعَائِشَة ولأبويها وَالنَّبِيّ وَصَفوَان، وَمعنى الْآيَة: لَا تحسبوه شرا لكم، يَعْنِي: هَذَا الْإِفْك هُوَ خير لكم لأجل الثَّوَاب، وَمَا ادخر الله لَهُم من ذَلِك.
وَقَوله: {لكل امرىء مِنْهُم مَا اكْتسب من الْإِثْم} أَي: من الْإِثْم بِقدر مَا اكْتسب.
وَقَوله: {وَالَّذِي تولى كبره} . وقرىء: " كبره "، وَقَرَأَ الْأَعْرَج: " كُبره ". فَقَوله: {كبره} أَي: إثمه. وَقَوله: " كُبره ". أَي: معظمه، قَالَ الشَّاعِر:(3/509)
{لَوْلَا إِذْ سمعتموه ظن الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفسِهِم خيرا وَقَالُوا هَذَا إفْك مُبين (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بأَرْبعَة شُهَدَاء فَإذْ لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِك عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة}
(تنام عَن كبر شَأْنهَا فَإِذا ... قَامَت [رويدا] تكَاد تنغرف)
وَأما الَّذِي تولى كبره فالأكثرون أَنه عبد الله بن أبي بن سلول، وَأما الْعَذَاب الْعَظِيم فَهُوَ النَّار فِي الْآخِرَة.
وَقد روى مَسْرُوق أَن حسان بن ثَابت اسْتَأْذن على عَائِشَة فَأَذنت لَهُ، فَقَالَ مَسْرُوق: أَتَأْذَنِينَ لَهُ، وَقد قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَت: قد أَصَابَهُ الْعَذَاب الْعَظِيم، وَكَانَ قد عمى، وَقد تَابَ حسان من تِلْكَ الْمقَالة ومدح عَائِشَة فَقَالَ:
(حصان رزان مَا تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لُحُوم الغوافل)
( [فَإِن كَانَ مَا بلغت أَنِّي قلته] ... فَلَا رفعت سَوْطِي إِلَى أناملي)
وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أَنه أنكر الْكبر وَقَالَ: إِنَّمَا الْكبر فِي الْوَلَاء وَالنّسب. وَقد ذكر غَيره أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا صَحِيح، وَقد بَينا.(3/510)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا إِذْ سمعتموه ظن الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفسِهِم خيرا} أَي: بِمن هُوَ مثل أنفسهم، وَهُوَ مثل قَول النَّبِي: " الْمُؤْمِنُونَ كَنَفس وَاحِدَة "، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} أَي: لَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا، وَيُقَال: إِن معنى ظن هَاهُنَا أَيقَن.
وَقَوله: {وَقَالُوا هَذَا إفْك مُبين} أَي: كذب ظَاهر.(3/510)
{لمسكم فِي مَا أَفَضْتُم فِيهِ عَذَاب عَظِيم (14) إِذْ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم مَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وتحسبونه هينا وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم (15) وَلَوْلَا إِذْ سمعتموه قُلْتُمْ مَا يكون لنا أَن نتكلم بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم (16) }(3/511)
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
قَوْله: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بأَرْبعَة شُهَدَاء} أَي: على مَا زَعَمُوا.
وَقَوله: {فَإذْ لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِك عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يصيرون عِنْد الله كاذبين إِذا لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ، (وَمن كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَاذِب عِنْد الله سَوَاء أَتَى بِالشُّهَدَاءِ) ، أَو لم يَأْتِ بهم؟ الْجَواب: قُلْنَا: قَالَ بَعضهم: {عِنْد الله} أَي: فِي حكم الله، وَقَالَ بَعضهم: {عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ} أَي: كذبوهم بِمَا أَمركُم الله، وَالْجَوَاب الثَّالِث: أَن هَذَا فِي حق عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - فَمَعْنَاه: أُولَئِكَ هم الْكَاذِبُونَ فِي غيبي وَعلمِي.(3/511)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لمسكم فِيمَا أَفَضْتُم فِيهِ عَذَاب عَظِيم} أَفَضْتُم أَي: خضتم، وَقَوله: {عَذَاب عَظِيم} أَي: عَذَاب لَا انْقِطَاع لَهُ، هَكَذَا قَالَه ابْن عَبَّاس، وَفسّر بِهَذَا لِأَن الله تَعَالَى قد ذكر أَنه أصَاب الَّذِي تولى كبره عَذَاب عَظِيم، وَكَذَلِكَ الْعَذَاب الْعَظِيم هُوَ فِي الدُّنْيَا، وَقد أَصَابَهُ، فَإِنَّهُ قد جلد وحد، وَأما الْعَذَاب الَّذِي لَا انْقِطَاع لَهُ لم يصبهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُصِيبهُ فِي الْآخِرَة.
وروت عمْرَة عَن عَائِشَة: " أَن النَّبِي لما نزلت هَذِه الْآيَات حد أَرْبَعَة نفر: عبد الله بن أبي، وَحسان بن ثَابت، ومسطح بن أَثَاثَة، وَحمْنَة بنت جحش ".(3/511)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا تلقونه بألسنتكم} أَي: يلقيه بَعْضكُم، وَيَرْوِيه بَعْضكُم عَن بعض، وَعَن عَائِشَة أَنَّهَا قَرَأت: " إِذْ تلقونه بألسنتكم الْكَذِب " وَيُقَال: هُوَ الْإِسْرَاع فِي(3/511)
{يعظكم الله أَن تعودوا لمثله أبدا إِن كُنْتُم مُؤمنين (17) وَيبين الله لكم الْآيَات وَالله عليم حَكِيم (18) إِن الَّذين يحبونَ أَن تشيع الْفَاحِشَة فِي الَّذين آمنُوا لَهُم عَذَاب أَلِيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ (19) وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته وَأَن الله رءوف رَحِيم (20) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا} الْكَذِب.
وَقَوله: {وتقولون بأفواهكم مَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وتحسبونه هينا} أَي: خَفِيفا.
{وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} أَي: كَبِير.(3/512)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا إِذْ سمعتموه} وَمَعْنَاهُ: هلا إِذْ سمعتموه.
{قُلْتُمْ مَا يكون لنا أَن نتكلم بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم} الْبُهْتَان هُوَ الْكَذِب على المكابرة، يُقَال: بَهته إِذا أخْبرته بكذبه، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أم أَيُّوب الْأنْصَارِيّ قَالَت لأبي أَيُّوب: أما بلغك كَذَا، وَهُوَ مَا نسب إِلَى عَائِشَة؟ فَقَالَ أَبُو أَيُّوب: مَا كَانَ لنا أَن نتكلم بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم، قَالَ هَذَا قبل أَن تنزل الْآيَة، ثمَّ نزلت الْآيَة على وفْق قَوْله.(3/512)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
قَوْله: {يعظكم الله أَن تعودوا لمثله أبدا} قَالَ مُجَاهِد: يَنْهَاكُم الله أَن تعودا لمثله أبدا.
{إِن كُنْتُم مُؤمنين وَيبين لكم الْآيَات} : أَي: الدلالات.
{وَالله عليم حَكِيم} عليم بخلقه، حَكِيم فِي فعله.(3/512)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يحبونَ أَن تشيع الْفَاحِشَة} يَعْنِي: أَن تذيع وتشتهر.
{فِي الَّذين آمنُوا} أَي: عَائِشَة وَصَفوَان وَآل أبي بكر، وَكَانَت إشاعتهم أَن بَعضهم كَانَ يلقى بَعْضًا فَيَقُول لَهُ: أما بلغك كَذَا وَكَذَا من خبر عَائِشَة.
وَقَوله: {لَهُم عَذَاب أَلِيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا هُوَ الْحَد، وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة هُوَ النَّار.
وَقَوله: {وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} يَعْنِي: بَرَاءَة عَائِشَة وَأَنه خلقهَا طيبَة طَاهِرَة(3/512)
{تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان وَمن يتبع خطوَات الشَّيْطَان فَإِنَّهُ يَأْمر بالفحشاء وَالْمُنكر وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكى مِنْكُم من أحد أبدا وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء وَالله سميع عليم (21) وَلَا يَأْتَلِ أولُوا الْفضل مِنْكُم وَالسعَة} من الْفَوَاحِش.(3/513)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته وَأَن الله رءوف رَحِيم} مَحْذُوف الْجَواب، وَجَوَابه: لنالكم الْعَذَاب الشَّديد فِي الْحَال.(3/513)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان} أَي: خَطَايَا الشَّيْطَان، وَقيل: آثاره، وَيُقَال: تخطيه من الْحَلَال إِلَى الْحَرَام، وَمن الطَّاعَة إِلَى الْمعْصِيَة.
وَقَوله: {وَمن يتبع خطوَات الشَّيْطَان فَإِنَّهُ يَأْمر بالفحشاء} أَي: القبائح من الْأَفْعَال.
{وَالْمُنكر} أَي: كل مَا يكرههُ الله.
وَقَوله: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكى مِنْكُم من أحد أبدا} أَي: مَا صلح مِنْكُم من أحد أبدا.
{وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء} أَي: يصلح من يَشَاء. قَالَ الشَّاعِر:
(إِنَّمَا نَحن كشيء فَاسد ... فَإِذا أصلحه الله صلح)
وَقَوله: {وَالله سميع عليم} ظَاهر الْمَعْنى.(3/513)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يَأْتَلِ أولو الْفضل مِنْكُم وَالسعَة} هُوَ مَأْخُوذ من الألية، والألية الْيَمين. قَالَ الشَّاعِر:
(قَلِيل الألايا حَافظ ليمينه ... وَإِن بدرت مِنْهُ الألية برت)
نزلت الْآيَة فِي شَأْن أبي بكر ومسطح، وَكَانَ ابْن خَالَة أبي بكر وَفِي نَفَقَته، وَهُوَ(3/513)
{أَن يؤتوا أولي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِين والمهاجرين فِي سَبِيل الله وليعفوا وليصفحوا أَلا تحبون أَن يغْفر الله لكم وَالله غَفُور رَحِيم (22) إِن الَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات لعنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلَهُم عَذَاب} رجل من أهل بدر من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، فَلَمَّا ذكر فِي عَائِشَة مَا ذكر أنزل الله تَعَالَى براءتها من السَّمَاء، حلف أَبُو بكر أَلا ينْفق عَلَيْهِ، وَكَانَ مِسْكينا لَا شَيْء لَهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وقرىء: " وَلَا يتأل " (قَرَأَهُ أَبُو جَعْفَر) ، فالأكثرون أَن معنى قَوْله: {وَلَا يَأْتَلِ} مَا بَينا، وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ: لَا يقصر من قَول الْقَائِل: لَا آلوا فِي أَمركُم كَذَا أَي: لَا أقصر، وَقَوله: {أولو الْفضل مِنْكُم وَالسعَة} أَي: الْغنى وَالسعَة.
وَقَوله: {أَن يؤتوا أولي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِين والمهاجرين} هُوَ مسطح، فَإِنَّهُ كَانَ قريب أبي بكر، وَكَانَ مِسْكينا وَمن الْمُهَاجِرين، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ ذكر الْوَاحِد بِلَفْظ الْجمع؟ قُلْنَا: يجوز مثل هَذَا فِي اللُّغَة، وَيجوز أَنه أَرَادَهُ وَأَرَادَ غَيره.
وَقَوله: {وليعفوا وليصفحوا} أَي: ليعفوا عَن أفعالهم، وليصفحوا عَن أَقْوَالهم.
وَقَوله: {أَلا تحبون أَن يغْفر الله لكم} هَذَا خطاب لأبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - وَرُوِيَ أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة، وقرئت عَلَيْهِ قَالَ: بلَى وَالله نحب أَن يغْفر لنا.
وَقَوله: {وَالله غَفُور رَحِيم} أَي: ستور صفوح.(3/514)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات} أَي: الْغَافِلَات عَن الْفَوَاحِش، والغافلة عَن الْفَاحِشَة أَن لَا يَقع فِي قَلبهَا فعل الْفَاحِشَة، وَكَانَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - هَكَذَا.(3/514)
{عَظِيم (23) يَوْم تشهد عَلَيْهِم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (24) يَوْمئِذٍ يوفيهم الله دينهم الْحق ويعلمون أَن الله هُوَ الْحق الْمُبين (25) الخبيثات للخبيثين}
وَقَوله: {لعنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} رُوِيَ عَن خصيف قَالَ: قلت لمجاهد: من قذف مُؤمنَة لَعنه الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؟ فَقَالَ: ذَاك لعَائِشَة. وَيُقَال: هَذَا فِي جَمِيع أَزوَاج النَّبِي.
وَقَوله: {وَلَهُم عَذَاب عَظِيم} قد بَينا.(3/515)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تشهد عَلَيْهِم ألسنتهم} شَهَادَة الْأَلْسِنَة يَوْم الْقِيَامَة بنطقها من غير اخْتِيَار الْإِنْسَان.
وَقَوله: {وأيديهم وأرجلهم} يُقَال: تختم الأفواه ثمَّ تَتَكَلَّم الْأَيْدِي والأرجل.
{بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} ظَاهر.(3/515)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْمئِذٍ يوفيهم الله دينهم الْحق} أَي: حسابهم الْعدْل.
وَقَوله: {ويعلمون أَن الله هُوَ الْحق الْمُبين} أَي: الْعَادِل الْمظهر لعدله.(3/515)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
قَوْله تَعَالَى: {الخبيثات للخبيثين} فِي الْآيَة قَولَانِ معروفان: أَحدهمَا: الخبيثات من الْكَلَام للخبيثين من الرِّجَال، والخبيثون من الرِّجَال للخبيثات من الْكَلَام، والطيبون والطيبات هَكَذَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: الخبيثات من النِّسَاء للخبيثين من الرِّجَال، والخبيثون من الرِّجَال للخبيثات من النِّسَاء، وَهَكَذَا الطَّيِّبَات والطيبون، والخبيث من الرِّجَال عبد الله بن أبي بن سلول ودونه، والخبيثات من النِّسَاء أهل بَيته، وَيُقَال: كَلَامه فِي عَائِشَة، والطيبات هِيَ عَائِشَة من النِّسَاء وأمثالها، والطيبون للنَّبِي وَقَومه.
وَاعْلَم أَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - كَانَت تفتخر بأَشْيَاء مِنْهَا: " أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ(3/515)
{والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أُولَئِكَ مبرءون مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مغْفرَة ورزق كريم (26) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بُيُوتًا غير بُيُوتكُمْ حَتَّى تستأنسوا وتسلموا على أَهلهَا ذَلِك خير لكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} السَّلَام - أَتَى بصورتها فِي سَرقَة (من) حَرِير أَي: قِطْعَة، وَقَالَ: هَذِه زَوجك، (وَذَلِكَ) بعد وَفَاة خَدِيجَة، وَيُقَال: أَتَى بصورتها فِي كَفه، وَمِنْهَا أَن النَّبِي لم يتَزَوَّج بعذراء إِلَّا بهَا، وَمِنْهَا أَن النَّبِي قبض وَرَأسه فِي حجرها، وَدفن فِي بَيتهَا، وَمِنْهَا أَنه نزل براءتها من السَّمَاء، وَمِنْهَا أَنَّهَا بنت خَليفَة رَسُول الله، وَأَنَّهَا صديقَة ". وَكَانَ مَسْرُوق إِذا روى عَن عَائِشَة يَقُول: حَدَّثتنِي الصديقة بنت الصّديق حَبِيبَة رَسُول الله المبرأة من السَّمَاء.
وَقَوله: {أُولَئِكَ مبرءون مِمَّا يَقُولُونَ} أَي: مطهرون بِمَا يَقُولُونَ.
وَقَوله: {لَهُم مغْفرَة ورزق كريم} الْمَغْفِرَة هُوَ الْعَفو عَن الذُّنُوب، والرزق الْكَرِيم هُوَ الْجنَّة.(3/516)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بُيُوتًا غير بُيُوتكُمْ حَتَّى تستأنسوا} .
قَرَأَ ابْن عَبَّاس: " حَتَّى تستأذنوا " قَالَ: تستأنسوا غلط من الْكَاتِب، وَالْمَعْرُوف تستأنسوا، وَفِيه ثَلَاثَة أَقْوَال: أشهرها: " تستأذنوا " فالاستئناس بِمَعْنى الاسْتِئْذَان، وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ " التنحنح " قَالَه مُجَاهِد، وَالْقَوْل الثَّالِث: " حَتَّى تستأنسوا " هُوَ التعرف والاستعلام حَتَّى يُؤذن لَهُ أَو لَا يُؤذن.(3/516)
( {27) فَإِن لم تَجدوا فِيهَا أحدا فَلَا تدخلوها حَتَّى يُؤذن لكم وَإِن قيل لكم}
وَقَوله: {وتسلموا على أَهلهَا} .
السّنة إِذا بلغ الْإِنْسَان بَاب دَار يَقُول: أَدخل؟ وَقَالَ بَعضهم: إِذا وَقع الْعين على الْعين يقدم السَّلَام، وَإِذا لم تقع الْعين على الْعين قدم الاسْتِئْذَان.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا اسْتَأْذن أحدكُم ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ فَليرْجع " فَروِيَ أَن أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَتَى بَاب عمر، وَاسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ فَرجع، فَقَالَ عمر: أَلَيْسَ قد سَمِعت صَوت عبد الله بن قيس؟ قَالُوا: اسْتَأْذن ثَلَاثًا وَرجع، فَدَعَاهُ وَقَالَ: لم رجعت؟ فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله يَقُول كَذَا، فَقَالَ: لتَأْتِيني بِمن يشْهد لَك، وَإِلَّا لأعلونك بِالدرةِ، فجَاء أبي بن كَعْب وَذكر لَهُ ذَلِك، فجَاء وَشهد لَهُ، وَقيل: غَيره شهد لَهُ.
قَالَ الْحسن: الأول إِعْلَام، وَالثَّانِي (مُؤَامَرَة) ، وَالثَّالِث اسْتِئْذَان بِالرُّجُوعِ. وَعَن قَتَادَة قَالَ: إِذا لم يُؤذن لَهُ لَا يقْعد على الْبَاب، فَإِن للنَّاس حاجات. وَقَالَ بَعضهم: إِن كَانَ طَرِيقا يجوز أَن يقف وَيقْعد، وَإِن كَانَ فنَاء بَيته لَا يقْعد إِلَّا بِإِذْنِهِ. قَالُوا: وَإِن كَانَ الْبَاب مردودا فَلَا ينظر إِلَى الدَّار من شقّ الْبَاب، وَإِن كَانَ الْبَاب مَفْتُوحًا فَلَا بَأْس أَن ينظر؛ لِأَنَّهُ لما فتح الْبَاب فقد أذن.(3/517)
{ارْجعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أزكى لكم وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عليم (28) لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تدْخلُوا بُيُوتًا غير مسكونة فِيهَا مَتَاع لكم وَالله يعلم مَا تبدون وَمَا تكتمون}(3/518)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن لم تَجدوا فِيهَا أحدا فَلَا تدخلوها حَتَّى يُؤذن لكم} أَي: لَا تدخلوها بِغَيْر إِذن الْمَالِك.
وَقَوله: {وَإِن قيل لكم ارْجعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أزكى لكم} يَعْنِي: إِذا كَانَ فِي الْبَيْت قوم وَقَالُوا: ارْجع، فَليرْجع، وَالسّنة أَن لَا يتَغَيَّر أذن أَو رد لِأَنَّهُ رُبمَا يكون للْقَوْم معاذير، وَكَانَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - يَأْتِي بَاب الْأنْصَارِيّ لطلب الحَدِيث، فيقعد على الْبَاب حَتَّى يخرج وَلَا يسْتَأْذن، فَيخرج ذَلِك الرجل وَيَقُول: يَا ابْن عَم رَسُول الله، لَو أَخْبَرتنِي؟ فَيَقُول: هَكَذَا أمرنَا أَن نطلب الْعلم.
وَقَوله: {هُوَ أزكى لكم} يَعْنِي: هُوَ أصلح لكم.
وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عليم} ظَاهر الْمَعْنى.(3/518)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تدْخلُوا بُيُوتًا غير مسكونة} .
فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا الْمنَازل فِي طَرِيق الْمُسَافِرين، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا حوانيت التُّجَّار، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الْمنَازل الخربة، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنَّهَا الْخَانَات والمنازل فِي الطّرق، فَهُوَ الدُّخُول فِيهَا وَالنُّزُول، وَأما فِي حوانيت التُّجَّار فالمنفعة هُوَ البيع وَالشِّرَاء، وَأما فِي الخرابات فالبول وَالْغَائِط.
وَقَوله: {وَالله يعلم مَا تبدون وَمَا تكتمون} ظَاهر الْمَعْنى.
وَرُوِيَ عَن شُعَيْب بن الحبحاب قَالَ: كَانَ أَبُو الْعَالِيَة يأتيني وَأَنا فِي دكانتي، فيستأذن ثمَّ يدْخل، فَأَقُول لَهُ: إِنَّمَا هُوَ الْحَانُوت، فَيَقُول لي: الْإِنْسَان يَخْلُو فِي حانوته بِحِسَابِهِ ودراهمه، وَأما الاسْتِئْذَان على الْمَحَارِم فَإِن كَانُوا فِي دَار مُنْفَرِدَة يسْتَأْذن، وَإِن كَانُوا فِي دَار وَاحِدَة فَإِذا دخل عَلَيْهَا يَتَنَحْنَح، ويتحرك أدنى حَرَكَة، وَقيل لِقَتَادَة: لَا(3/518)
( {29) قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم ويحفظوا فروجهم ذَلِك أزكى لَهُم إِن الله خَبِير بِمَا يصنعون (30) } أَسْتَأْذن على أُمِّي؟ فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَن ترى عورتها؟ قَالَ: لَا، قَالَ: اسْتَأْذن. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: لَيْسَ على حوانيت السُّوق إِذن. وَعَن ابْن سِيرِين أَنه كَانَ إِذا جَاءَ إِلَى حَانُوت السُّوق يَقُول: السَّلَام عَلَيْكُم أَدخل؟ ثمَّ يلج. وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَحُذَيْفَة أَنه يسْتَأْذن على ذَوَات الْمَحَارِم، وَمثله عَن الْحسن الْبَصْرِيّ.(3/519)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
قَوْله تَعَالَى: {قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم} الْآيَة. من صلَة وَمَعْنَاهُ: يغضوا أَبْصَارهم، حُكيَ هَذَا عَن سعيد بن جُبَير، وَقَالَ بَعضهم: من هَا هُنَا للتَّبْعِيض، وَإِنَّمَا ذكر من هَا هُنَا؛ لِأَن غض الْبَصَر إِنَّمَا يجب عَن الْحَرَام، وَلَا يجب عَن الْحَلَال.
وَقَوله: {ويحفظوا فروجهم} هَذَا أَمر بالتعفف. قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: حفظ الْفرج فِي كل الْقُرْآن بِمَعْنى الِامْتِنَاع من الْحَرَام، وَأما هَا هُنَا فَإِنَّهُ بِمَعْنى السّتْر.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ لعَلي - رَضِي الله عَنهُ - " إِن لَك فِي الْجنَّة كنزا، وَإنَّك ذُو قرنيها، فَلَا تتبع النظرة النظرة؛ فَإِن الأولى لَك، وَالثَّانيَِة عَلَيْك " رَوَاهُ على نَفسه، وَعَن بعض السّلف قَالَ: إِن النّظر يزرع الشَّهْوَة فِي الْقلب، وَرب شَهْوَة أورثت حزنا طَويلا. وَعَن خَالِد بن أبي عمرَان أَنه قَالَ: إِن الرجل لينْظر نظرة فينغل قلبه، كَمَا ينغل الْأَدِيم، فَيفْسد قلبه حَتَّى لَا ينْتَفع بِهِ.
وروى أَبُو أُمَامَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من نظر إِلَى محَاسِن امْرَأَة وغض بَصَره(3/519)
{وَقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا} عَنْهَا أعطَاهُ الله عبَادَة يجد حلاوتها ".
وَقَوله: {ذَلِك أزكى لَهُم} أَي: أطهر لَهُم.
وَقَوله: {إِن الله خَبِير بِمَا يصنعون} أَي: عليم بِمَا يصنعون.(3/520)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {وَقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن}
وَرُوِيَ أَن ابْن أم مَكْتُوم أقبل إِلَى النَّبِي وَعِنْده أم سَلمَة ومَيْمُونَة فَقَالَ لَهما رَسُول الله: " احتجبا. فَقَالَتَا: إِنَّه أعمى، فَقَالَ: أعمياوان أَنْتُمَا ".
وَقَوله: {وَلَا يبدين زينتهن} الزِّينَة: كل مَا تتزين [بِهِ] الْمَرْأَة من الْحلِيّ وَالثيَاب.
وَقَوله: {إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا} اخْتلف القَوْل فِي هَذَا: قَالَ ابْن مَسْعُود: هِيَ الثِّيَاب وَهَذَا اخْتِيَار أبي عبيد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْكحل. وَحكى الْكَلْبِيّ عَنهُ أَنه قَالَ: الْكحل والخاتم والخضاب، وَعنهُ أَنه قَالَ: الْوَجْه والكفان. وَاعْلَم أَن المُرَاد بالزينة(3/520)
{وَليَضْرِبن بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبهنَّ وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا لبعولتهن أَو آبائهن أَو آبَاء بعولتهن أَو أبنائهن أَو أَبنَاء بعولتهن أَو إخوانهن أَو بني إخوانهن أَو بني} مَوضِع الزِّينَة هَا هُنَا فعلى هَذَا يجوز النّظر إِلَى وَجه الْمَرْأَة وكفيها من غير شَهْوَة، وَإِن خَافَ الشَّهْوَة غض الْبَصَر، وَاعْلَم أَن الزِّينَة زينتان: زِينَة ظَاهِرَة، زِينَة باطنة، فالزينة الظَّاهِرَة هِيَ الْكحل والفتخة والخضاب إِذا كَانَ فِي الْكَفّ، وَأما الخضاب فِي الْقدَم فَهُوَ الزِّينَة الباطنية، وَأما السوار فِي الْيَد، فَعَن عَائِشَة أَنه من الزِّينَة الظَّاهِرَة، وَالأَصَح أَنه من الزِّينَة الْبَاطِنَة، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم، وَأما الدملج [والمخنقة] والقلادة، وَمَا أشبه ذَلِك فَهُوَ من الزِّينَة الْبَاطِنَة، فَمَا كَانَ من الزِّينَة الظَّاهِرَة يجوز للْأَجْنَبِيّ النّظر إِلَيْهِ من غير شَهْوَة، وَمَا كَانَ من الزِّينَة الْبَاطِنَة لَا يجوز للْأَجْنَبِيّ النّظر إِلَيْهَا، وَأما الزَّوْج ينظر ويتلذذ، وَأما الْمَحَارِم ينظرُونَ من غير تلذذ.
وَقَوله: {وَليَضْرِبن بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبهنَّ} يَعْنِي: بمقانعهن على جُيُوبهنَّ، وَكَانَ النِّسَاء فِي ذَلِك الْوَقْت يسدلن خمرهن من ورائهن فتبدوا صدورهن ونحورهن، فَأمر الله تَعَالَى أَن يضربن بالمقانع على جُيُوبهنَّ؛ لِئَلَّا تظهر صدورهن وَلَا نحورهن، وروت صَفِيَّة بنت شيبَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة عمد نسَاء الْأَنْصَار إِلَى حجور مناطقهن، فقطعن مِنْهَا قِطْعَة، وتخمرن، فَأَصْبَحْنَ وَكَأن على رُؤْسهنَّ الْغرْبَان.
وَقَوله: {وَلَا يبدين زينتهن} المُرَاد من هَذِه الزِّينَة الباطنية.
وَقَوله: {إِلَّا لبعولتهن} أَي: أَزوَاجهنَّ.
وَقَوله: {أَو آبائهن أَو آبَاء بعولتهن أَو أبنائهن أَو أَبنَاء بعولتهن أَو إخْوَانهمْ أَو بني إخْوَانهمْ أَو بني أخواتهن} . فَيجوز لهَؤُلَاء أَن ينْظرُوا إِلَى الزِّينَة الْبَاطِنَة، إِلَّا أَنهم لَا ينظرُونَ إِلَى مَا بَين السُّرَّة إِلَى (الرّكْبَة) ، وَيحل للزَّوْج النّظر إِلَيْهِ، وَأما نفس الْفرج(3/521)
{أخواتهن أَو نسائهن أَو مَا ملكت أيمانهن أَو التَّابِعين غير أولي الإربة من} فِيهِ وَجْهَان على مَا عرف فِي الْفِقْه، وَقد ورد عَن عَائِشَة مَا يدل على أَنه يكره النّظر إِلَى الْفرج، وَقيل: إِنَّه يُورث الْعَمى.
وَقَوله: {أَو نسائهن} . فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهن النِّسَاء المسلمات، فعلى هَذَا لَا يجوز للمسلمة أَن تبدي محاسنها عِنْد الْيَهُودِيَّة وَلَا النَّصْرَانِيَّة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {نسائهن} عَام فِي جَمِيع النِّسَاء، فَيجوز للْمَرْأَة أَن تنظر إِلَى الْمَرْأَة إِلَّا مَا بَين السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة.
وَقَوله: {أَو مَا ملكت أيمانهن} . اخْتلف القَوْل فِي هَذَا، فَروِيَ عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة أَنَّهُمَا قَالَت: المُرَاد مِنْهُ العبيد، فَيجوز للْعَبد أَن ينظر إِلَى مولاته مَا ينظر ذُو الرَّحِم المرحم من غير شَهْوَة، وَهَذَا إِذا كَانَ العَبْد عفيفا، وَالْقَوْل الثَّانِي قَول سعيد بن الْمسيب وَجَمَاعَة من التَّابِعين أَنهم قَالُوا: لَا يجوز للْعَبد أَن ينظر إِلَى مولاته إِلَّا مَا ينظر الْأَجْنَبِيّ إِلَى الْأَجْنَبِيّ، فعلى هَذَا تحمل الْآيَة على الْإِمَاء، وَالْقَوْل الأول أظهر فِي معنى الْآيَة، لِأَنَّهُ قد سبق قَوْله: {أَو نسائهن} فَدخل فِيهِ الْحَرَائِر وَالْإِمَاء، وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَنه يجوز [أَن ينظر] العَبْد إِلَى مولاته مَا يظْهر عِنْد البذلة والمهنة، مثل الساعدين والقدمين والعنق وَلَا ينظر إِلَى مَا سوى ذَلِك، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ يشق ستر هَذَا مَعَ العبيد، وَأما مَعَ الْأَجَانِب لَا يشق، وَعَن أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا كاتبت عبدا لَهَا يُقَال لَهُ نَبهَان، فَكَانَت لَا تحتجب عَنهُ، ثمَّ قَالَت لَهُ يَوْمًا: يَا نَبهَان، مَا بَقِي من كتابتك، فَقَالَ ألفا دِرْهَم، فَقَالَت: أدها إِلَى مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي أُميَّة وَالسَّلَام عَلَيْك، وَأرْسلت حجابها.
وَقَوله: {أَو التَّابِعين غير أولي الإربة} اخْتلف القَوْل فِيهِ: قَالَ مُجَاهِد: هُوَ(3/522)
{الرِّجَال أَو الطِّفْل الَّذين لم يظهروا على عورات النِّسَاء وَلَا يضربن بأرجلهن ليعلم مَا يخفين من زينتهن} الصَّغِير، وَقَالَ عِكْرِمَة: هُوَ الْعنين، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الشَّيْخ الْهَرم، وَعَن بَعضهم: أَنه الْمَجْبُوب، وَمن الْمَعْرُوف فِي التفاسير: أَنهم الَّذين يتبعُون الرِّجَال، وَلَيْسَ لَهُم همة إِلَّا بطونهم، وَلَا يعْرفُونَ أَمر النِّسَاء، وَيُقَال: إِنَّه المخنث الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَاجَة إِلَى النِّسَاء، وَعَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن مخنثا يُقَال لَهُ: هيت كَانَ يدْخل على أَزوَاج النَّبِي قَالَت: وَكُنَّا نظن أَنه من غير أولي الإربة، يَعْنِي: أَنه لَا يعرف أَمر النِّسَاء شَيْئا فوصف يَوْمًا امْرَأَة فَقَالَ: إِنَّهَا تقبل بِأَرْبَع، وتدبر بثمان، فَسمع النَّبِي ذَلِك، فَقَالَ: " مَا ظَنَنْت أَنه يعرف هَذَا، وَأمر بِإِخْرَاجِهِ ".
وَأما الإربة هِيَ الْحَاجة، مَأْخُوذ من الإرب، وَمن هَذَا حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - " أَن النَّبِي كَانَ يقبل وَهُوَ صَائِم، وَكَانَ أملككم لإربه " وَمن قَالَ: لَا، فقد أَخطَأ.
وَقَوله: {أَو الطِّفْل الَّذين لم يظهروا} أَي: الْأَطْفَال الَّذين لم يظهروا، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع.
وَقَوله: {لم يظهروا على عورات النِّسَاء} أَي: لم يطيقوا أَمر النِّسَاء، وَيُقَال: " لم يظهروا على عورات النِّسَاء " أَي: لم يعرفوا الْعَوْرَة من غير الْعَوْرَة فَلم يميزوا، وَقيل: لم يبلغُوا حد الشَّهْوَة.(3/523)
{وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تفلحون (31) وَأنْكحُوا الْأَيَامَى}
وَقَوله: {وَلَا يضربن بأرجلهن ليعلم مَا يخفين من زينتهن} رُوِيَ أَن الْمَرْأَة كَانَت تمر على الرِّجَال، وَفِي رجلهَا الخلخال، وَكَانَت تضرب برجلها؛ لتسمعهم صَوت خلْخَالهَا، فنهين عَن ذَلِك، فَإِن قَالَ قَائِل: أيش فِي ضرب الخلخال مَا يُوجب النَّهْي؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن فِيهِ استدعاء الْميل وتحريك الشَّهْوَة.
وَقَوله: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد مِنْهُ التَّوْبَة من الصَّغَائِر؛ لِأَنَّهُ لمَم جَمِيع الْمُؤمنِينَ، وَإِنَّمَا الصَّغَائِر تُوجد من جَمِيع الْمُؤمنِينَ، فَأَما الْكَبَائِر فَلَا، وَمِنْهُم من قَالَ: لَا بل الْآيَة عَامَّة فِي الصَّغَائِر والكبائر، وَالتَّوْبَة هِيَ النَّدَم على [مَا] سلف، والإقلاع فِي الْحَال، والعزيمة على ترك الْعود، وَهَذَا هُوَ معنى النصوح المقرون بِالتَّوْبَةِ الْمَذْكُور فِي غير هَذَا الْموضع، وَذكر بَعضهم أَن الله تَعَالَى أَمر الْمُشْركين بِنَفس التَّوْبَة مُطلقًا فَقَالَ: {قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} ، وَأمر الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِالتَّوْبَةِ والإصلاح وَالْبَيَان؛ وَهُوَ بَيَان صفة النَّبِي فَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا وبينوا} ، وَأمر الْمُنَافِقين بِالتَّوْبَةِ والإصلاح والاعتصام وَالْإِخْلَاص فَقَالَ: {إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا واعتصموا بِاللَّه وَأَخْلصُوا دينهم لله} ، وَقد بَينا معنى ذَلِك من قبل، وَأمر جَمِيع الْمُؤمنِينَ بِالتَّوْبَةِ فِي هَذِه الْآيَة، وَلَا بُد لكل إِنْسَان أَن يَتُوب إِمَّا من صَغِيرَة أَو كَبِيرَة، وَقد ثَبت بِرِوَايَة الْأَغَر الْمُزنِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " أَيهَا النَّاس، تُوبُوا إِلَى الله فَإِنِّي أَتُوب كل يَوْم مائَة مرّة " خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.(3/524)
{مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ من عبادكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِم الله من فَضله}
وَقَوله تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تفلحون} أَي: تسعدون وتفوزون.(3/525)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
قَوْله تَعَالَى: {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم} . أَي: زوجوا الْأَيَامَى مِنْكُم، والأيم اسْم لكل امْرَأَة لَا زوج لَهَا ثَيِّبًا كَانَت أَو بكرا، قَالَ الشَّاعِر:
(فَإِن تنكحي أنكح وَإِن تتأيمي ... مدى الدَّهْر مَا لم تنكحي أتأيم)
وَقد ذهب دَاوُد وَأَصْحَاب الظَّاهِر أَن النِّكَاح وَاجِب وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَة، وَأما عندنَا هُوَ مُبَاح فِي وَقت، سنة فِي وَقت، مُبَاح إِذا كَانَت نَفسه لَا تتوق إِلَى النِّسَاء، سنة إِذا تاقت نَفسه إِلَى النِّسَاء، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أحب فِطْرَتِي فَليَسْتَنَّ بِسنتي، وَمن سنتي النِّكَاح ".
وَثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوج، فَإِنَّهُ أَغضّ لِلْبَصَرِ، وَأحْصن لِلْفَرجِ، وَمن لم يسْتَطع فليصم، فَإِن الصَّوْم لَهُ وَجَاء ".
وَعَن بعض السّلف أَنه قَالَ: من غلبت عَلَيْهِ الشَّهْوَة وَعِنْده مَال فليتزوج، وَإِن لم يكن عِنْده مَال فليدم النّظر إِلَى السَّمَاء، فَإِن شَهْوَته تذْهب.
وَقَوله: {وَالصَّالِحِينَ من عبادكُمْ وَإِمَائِكُمْ} .
قرئَ فِي الشاذ: " من عبيدكم وَإِمَائِكُمْ " زوجوا الْأَيَامَى من الْحَرَائِر، وزوجوا الصَّالِحين من العبيد وَالْإِمَاء، وَالْمرَاد من الْعباد: العبيد.
وَقَوله: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يغنيهم الله من فَضله} رُوِيَ عَن عمر أَنه قَالَ: عجبت(3/525)
{وَالله وَاسع عليم (32) وليستعفف الَّذين لَا يَجدونَ نِكَاحا حَتَّى يغنيهم الله من فَضله وَالَّذين يَبْتَغُونَ الْكتاب مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم} لمن يطْلب الْغنى بِغَيْر النِّكَاح، وَالله تَعَالَى يَقُول: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِم الله من فَضله} . وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى وعد الْغنى بِالنِّكَاحِ، ووعد الْغنى بالتفرق، فَقَالَ فِي النِّكَاح: {يُغْنِهِم الله من فَضله} أَي: من الله، وَقَالَ فِي الْفِرَاق: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغني الله كلا من سعته} وَيُقَال: إِن الْغنى هَا هُنَا هُوَ الْغنى بالقناعة، وَقيل: باجتماع الرزقين، وَقيل فِي قَوْله: {ووجدك عائلا فأغنى} أَي: بِمَال خَدِيجَة.
وَقَوله: {وَالله وَاسع عليم} أَي: وَاسع الْغنى، عليم بأحوال الْعباد، وَعَن الْحسن بن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه كَانَ ينْكح وَيُطلق كثيرا، وَيَقُول: إِنَّمَا أَبْتَغِي الْغنى من النِّكَاح وَالطَّلَاق، وَيَتْلُو هَاتين الْآيَتَيْنِ، وَقد ذكر بَعضهم: أَن الأيم كَمَا ينْطَلق على الْمَرْأَة ينْطَلق على الرجل، يُقَال: رجل أيم إِذا لم يكن لَهُ زَوْجَة، وَامْرَأَة أيم إِذا لم يكن لَهَا زوج، وَالشعر الَّذِي أنشدنا دَلِيل عَلَيْهِ، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي نهى عَن الأيمة " أَي: الْعزبَة.
وَعَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد أَنه قَالَ: أمرنَا بقتل الأيم أَي: الْحَيَّة. وَقَالَ بَعضهم: {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ} أَي: بالصالحين. وَقَوله: {من عبادكُمْ} أَي: من رجالكم، ثمَّ أَمر من بعد بتزويج الْإِمَاء، وَالْقَوْل الأول الَّذِي سبق أظهر.(3/526)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
قَوْله: {وليستعفف الَّذين لَا يَجدونَ نِكَاحا} أَي: ليطلب الْعِفَّة الَّذين لَا يَجدونَ مَا لَا ينْكحُونَ بِهِ.
وَقَوله: {حَتَّى يغنيهم الله من فَضله} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن يَجدوا مَالا يقدرُونَ بِهِ على النِّكَاح، وَالْآخر: أَن يوفقهم الله للصبر عَن النِّكَاح، وَعَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: إِذا رأى الرجل امْرَأَة واشتهاها فَإِن كَانَ لَهُ امْرَأَة فليصبها، وَإِن لم يكن لَهُ امْرَأَة فَلْينْظر فِي ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض.(3/526)
{فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا}
وَقَوله: {وَالَّذين يَبْتَغُونَ الْكتاب مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم} أَي: يطْلبُونَ الْكِتَابَة مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم، أَي: من العبيد وَالْإِمَاء، وَالْكِتَابَة هِيَ أَن يعْقد مَعَ عَبده عقدا على مَال بِشَرْط أَنه إِذا أدّى عتق، وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة: أَنه كَانَ لحويطب بن عبد الْعُزَّى غُلَام، وَطلب مِنْهُ أَن يكاتبه، فَأبى فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {فكاتبوهم} أَكثر أهل الْعلم على أَنه أَمر ندب لَا حتم، وَذهب جمَاعَة إِلَى أَنه أَمر حتم إِذا كَانَ للْعَبد مَال يُؤدى، فروى (أَبُو مُحَمَّد بن سِيرِين) : كَانَ عبدا لأنس بن مَالك، وَطلب من أنس أَن يكاتبه، فَأبى فَذكر ذَلِك سِيرِين لعمر، فَقَالَ لأنس: كَاتبه، فَأبى، فعلاه الدرة حَتَّى كَاتبه. وَعَن ابْن جريج قَالَ: قلت لعطاء: أيجب على الْمولى أَن يُكَاتب عَبده إِذا طلب؟ قَالَ: نعم، وَمثله عَن الضَّحَّاك قَالَا: وَهَذَا إِذا كَانَ عِنْد (العقد) مَال، فَإِن لم يكن عِنْده مَال لم يجب، وَرُوِيَ أَن عبدا لسلمان قَالَ لَهُ: كاتبني، قَالَ: عنْدك مَال؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَتُرِيدُ أَن تطعمني أوساخ النَّاس؟ وَلم يكاتبه.
وَقَوله: {إِن علمْتُم فيهم خيرا} أَي: مَالا، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَمثله قَوْله: {وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد} أَي: لحب المَال. قَالَ الشَّاعِر:
(مَاذَا ترجى النُّفُوس من طلب ... الْخَيْر وَحب الْحَيَاة كاربها)
أَي: المَال، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: {إِن علمْتُم فيهم خيرا} أَي: دينا(3/527)
{وَآتُوهُمْ من مَال الله الَّذِي آتَاكُم وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا لتبتغوا عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا} وَأَمَانَة، وَقَالَ النَّخعِيّ: وَفَاء وصدقا، وَعَن بَعضهم: قدرَة على كسب المَال.
وَقَالَ الزّجاج: لَو أَرَادَ بِالْخَيرِ المَال لقَالَ: إِن علمْتُم لَهُم خيرا، فَلَمَّا قَالَ: {فيهم خيرا} دلّ أَنه أَرَادَ بِهِ الْوَفَاء والصدق.
وَقَوله: {وَآتُوهُمْ من مَال الله الَّذِي آتَاكُم} فِيهِ أَقْوَال: روى عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه أَنه قَالَ: هُوَ حث النَّاس على مَعُونَة الْكَاتِبين. فعلى هَذَا تتَنَاوَل الْآيَة الْمولى وَغير الْمولى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد مِنْهُ سهم الرّقاب، وَقد جعل الله تَعَالَى للمكاتبين سَهْما فِي الصَّدقَات، وَالْقَوْل الثَّالِث: هُوَ أَن قَوْله: {وَآتُوهُمْ} خطاب للموالي خَاصَّة.
وَقَوله: {من مَال الله الَّذِي آتَاكُم} هُوَ بدل الْكِتَابَة، رُوِيَ هَذَا عَن عُثْمَان وَعلي وَالزُّبَيْر، ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَ بَعضهم: يُعينهُ بِمَال الْكِتَابَة، وَقَالَ بَعضهم: يحط عَنهُ من مَال الْكِتَابَة، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه يحط عَنهُ الرّبع، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه يحط عَنهُ الثُّلُث، وَعَن بَعضهم: أَنه يحط شَيْئا من غير تَحْدِيد، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي، وَاخْتلفُوا أَنه على طَرِيق النّدب أم على طَرِيق الْإِيجَاب؟ فَعِنْدَ بعض الصَّحَابَة الَّذِي ذكرنَا أَنه ندب، وَعند بَعضهم: أَنه وَاجِب، وَالْوُجُوب أظهر.
وَقَوله: {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء} يَعْنِي: على الزِّنَا. نزلت الْآيَة فِي عبد الله بن أبي بن سلول وَقوم من الْمُنَافِقين، كَانُوا يكْرهُونَ إماءهم على الزِّنَا طلبا للأجعال، فَروِيَ أَن عبد الله بن أبي بن سلول كَانَ لَهُ أمة يُقَال لَهَا: مثلَة، فَأمرهَا بِالزِّنَا فَجَاءَت بِبرد، ثمَّ أمرهَا بِالزِّنَا فَأَبت، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {إِن أردن تَحَصُّنًا} أَي: تعففا، فَإِن قيل: الْآيَة تَقْتَضِي أَنَّهَا إِذا لم ترد التحصن يجوز إكراهها على الزِّنَا؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه إِنَّمَا ذكر قَوْله: {إِن أردن تَحَصُّنًا} لِأَن الْإِكْرَاه إِنَّمَا يُوجد فِي هَذِه الْحَالة، فَإِذا لم ترد التحصن بَغت بالطوع.(3/528)
{وَمن يكرههن فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور رَحِيم (33) وَلَقَد أنزلنَا إِلَيْكُم آيَات مبينات ومثلا من الَّذين خلوا من قبلكُمْ وموعظة لِلْمُتقين (34) الله نور}
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن قَوْله: {إِن أردن تَحَصُّنًا} منصرف إِلَى الْآيَة السَّابِقَة، وَهُوَ قَوْله: {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ من عبادكُمْ وَإِمَائِكُمْ} إِن أردن تَحَصُّنًا.
وَقَوله: {لتبتغوا عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: لتطلبوا من أَمْوَال الدُّنْيَا، وَفِي بعض الْآثَار: الدُّنْيَا عرض حَاضر، يَأْكُل مِنْهَا الْبر والفاجر، وَالْآخِرَة وعد صَادِق، يحكم فِيهَا ملك قَادر، فكونوا من أَبنَاء الْآخِرَة، وَلَا تَكُونُوا من أَبنَاء الدُّنْيَا ".
وَقَوله: {وَمن يكرههن فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور رَحِيم} أَي: لَهُنَّ، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي قِرَاءَة ابْن عَبَّاس: " فَإِن الله من بعد إكراههن لَهُنَّ غَفُور رَحِيم ".(3/529)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أنزلنَا إِلَيْكُم آيَات مبينات} أَي: للْحَلَال وَالْحرَام، وَقَوله: {مبينات} أَي: واضحات لَا لبس فِيهَا.
وَقَوله: {ومثلا من الَّذين خلوا من قبلكُمْ} مَعْنَاهُ: تَشْبِيها لحالكم بحالهم، حَتَّى لَا تَفعلُوا مثل مَا فعلوا، فيصيبكم مثل مَا أَصَابَهُم.
وَقَوله: {وموعظة لِلْمُتقين} أَي: تذكيرا وتخويفا.(3/529)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
قَوْله تَعَالَى: {الله نور السَّمَوَات وَالْأَرْض} قَالَ ابْن عَبَّاس: هادي أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض، (وَعنهُ أَنه قَالَ: ضِيَاء السَّمَوَات وَالْأَرْض) وَعَن قَتَادَة وَغَيره: منور السَّمَوَات وَالْأَرْض. فليقال: نور السَّمَوَات بِالْمَلَائِكَةِ، وَالْأَرْض بالأنبياء. وَيُقَال: نور السَّمَوَات بالنجوم وَالشَّمْس وَالْقَمَر، وَنور الأَرْض بالنبات والزهر.
وَقَوله تَعَالَى: {مثل نوره} قَرَأَ أبي بن كَعْب: " مثل نور الْمُؤمن "، وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَرَأَ: " مثل نوره فِي قلب الْمُؤمن " (وَمن الْمَعْرُوف {مثل نوره} وَفِيه أَقْوَال:(3/529)
{السَّمَوَات وَالْأَرْض مثل نوره كمشكاة فِيهَا مِصْبَاح الْمِصْبَاح فِي زجاجة الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَب دري} أَحدهَا: أَن مَعْنَاهُ: مثل نور الله فِي قلب الْمُؤمن) وَهُوَ النُّور الَّذِي يهتدى بِهِ، وَهَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فَهُوَ على نور من ربه} ، وَالْقَوْل الثَّانِي: {مثل نوره} أَي: نور قلب الْمُؤمن بِالْإِيمَان، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه نور مُحَمَّد، وَمِنْهُم من أول على الْقُرْآن.
وَقَوله: {كمشكاة} الْمشكاة هِيَ الكوة الَّتِي لَيْسَ لَهُ منفذ، وَمِنْهُم من قَالَ: الْمشكاة هِيَ الحديدة الَّتِي يعلق بهَا الْقنْدِيل، وَهِي السلسلة، وَقيل: الْموضع الَّذِي تُوضَع فِيهِ الفتيلة، وَهُوَ كالأنبوب. وَالْأول أظهر الْأَقَاوِيل وَأولى، وَمعنى الْمشكاة هَاهُنَا: الصَّدْر، قَالَه أبي بن كَعْب. وَقَوله: {فِيهَا مِصْبَاح} أَي: شعلة نَار.
وَقَوله: {الْمِصْبَاح فِي زجاجة} الزجاجة شَيْء مَعْلُوم، وَهُوَ جَوْهَر لَهُ ضِيَاء، فَإِن قيل: لم خص الزجاجة بِالذكر؟ قُلْنَا: قَالَ أبي بن كَعْب: الْمشكاة الصَّدْر، والزجاجة الْقلب، والمصباح الْإِيمَان، فَإِنَّمَا ذكر الزجاجة؛ لِأَن الْمِصْبَاح فِيهَا أضواء، وَقَالَ بَعضهم: ذكر الزجاجة؛ لِأَنَّهَا إِذا انْكَسَرت لَا ينْتَفع مِنْهَا بِشَيْء، كَذَلِك الْقلب إِذا فسد لَا ينْتَفع مِنْهُ بِشَيْء.
وَقَوله: {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَب دري} شبه الزجاجة بالكوكب، قَالَ بَعضهم: هَذَا الْكَوْكَب هُوَ الزهرة فَإِنَّهَا أضوء كَوْكَب فِي السَّمَاء، وَقَالَ بَعضهم: الْكَوَاكِب الْخَمْسَة زحل ومشتري والمريخ وَعُطَارِد وزهرة، فَإِن قيل: لم لم يشبه بالشمس وَالْقَمَر؟ قُلْنَا: لِأَن الشَّمْس وَالْقَمَر يلحقهما الْكُسُوف، والنجوم لَا يلْحقهَا الْكُسُوف، وَأما قَوْله: {كَوْكَب دري} مَنْسُوب إِلَى الدّرّ، وَنسبه إِلَى الدّرّ لصفائه ولونه، وقرىء: " درىء " بِكَسْر الدَّال والهمز وَالْمدّ، وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه مَأْخُوذ من الدراء،(3/530)
{يُوقد من شَجَرَة مباركة زيتونة لَا شرقية وَلَا غربية} والدراء هُوَ الدّفع، والكوكب يدْفع الشَّيَاطِين عَن السَّمَاء، فَإِن قيل: لم شبه بِهِ فِي حَالَة الدّفع؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالة يكون أصفى، وَالْقَوْل الثَّانِي: " درىء ". أَي طالع، يُقَال: دَرأ علينا فلَان أَي: طلع وَظهر، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: وَهَذَا قَول حسن، وقرىء: " درىء " بِرَفْع الدَّال مهموزا، قَرَأَهُ حَمْزَة وَأَبُو بكر، وَأهل النَّحْو يخطؤنه فِي هَذِه الْقِرَاءَة، وَقَالُوا: لَا يُوجد فعيل فِي اللُّغَة، والشاذ: " دري " بِفَتْح الدَّال.
وَقَوله: {يُوقد} أَي: الزجاجة، وَمَعْنَاهُ: نَار الزجاجة، فَحذف النَّار، وقرىء: " يُوقد " بِالْيَاءِ أَي: الْمِصْبَاح، وقرىء: " توقد " أَي: تتوقد، وَفِي الشاذ: " يُوقد " أَي: يُوقد الله تَعَالَى.
وَقَوله: {من شَجَرَة مباركة} أَي: من زَيْت شَجَرَة مباركة، والشجرة الْمُبَارَكَة هَاهُنَا هِيَ الزَّيْتُون، وفيهَا من الْخَيْر مَا لَيْسَ فِي سَائِر الْأَشْجَار، فَإِنَّهُ دهن وإدام وَفَاكِهَة تُؤْكَل ويستصبح بِهِ، وبفضله يغسل بِهِ الثِّيَاب وَهِي شَجَرَة تورق من رَأسهَا إِلَى أَسْفَلهَا، واستخراج الدّهن مِنْهُ لَا يحْتَاج إِلَى عصار كَغَيْرِهِ، بل يَسْتَخْرِجهُ من شَاءَ من غير عسر، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " ائتدموا بالزيت، وادهنوا مِنْهُ، فَإِنَّهُ من شَجَرَة مباركة " رَوَاهُ معمر، عَن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه، عَن عمر الْخَبَر.
وَقَوله: {لَا شرقية وَلَا غربية} قَالَ الْحسن: لَيْسَ هَذَا من أَشجَار الدُّنْيَا، وَلَو كَانَت(3/531)
{يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار نور على نور يهدي الله لنوره من يَشَاء وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس وَالله بِكُل شَيْء عليم (35) } من أَشجَار الدُّنْيَا لكَانَتْ شرقية أَو عَرَبِيَّة، وَقَالَ غَيره: بل هُوَ وصف الزَّيْتُون - وَهُوَ الْأَصَح - وَفِيه أَقْوَال: أَحدهَا أَن مَعْنَاهُ: لَا شرقية أَي: لَيست مِمَّا تشرق عَلَيْهَا الشَّمْس، وَلَا تغرب عَلَيْهَا الشَّمْس، فَتكون لَا شرقية وَلَا غربية.
وَقَوله: {وَلَا غربية} أَي: لَيست مِمَّا تغرب عَلَيْهَا الشَّمْس وَلَا تشرق عَلَيْهَا الشَّمْس، فَتكون لَا غربية وَلَا شرقية فَمَعْنَى الْآيَة. أَنَّهَا لَيست بخالصة للشرق، وَلَا خَالِصَة للغرب، بل هِيَ شرقية غربية، يَعْنِي: بَين الشرق والغرب، لَا خَالِصا للشرق، وَلَا خَالِصا للغرب، وَالشَّمْس مشرقة عَلَيْهَا فِي جَمِيع أَوْقَاتهَا، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيكون زيتها أَضْوَأ قَالُوا: وَهَذَا كَمَا يُقَال: فلَان لَيْسَ بأسود وَلَا أَبيض أَي لَيْسَ بأسود خَالص وَلَا أَبيض خَالص أَي: قد اجْتمع فِيهِ الْبيَاض والسواد، وَيُقَال: هَذَا الرُّمَّان لَيْسَ بحلو وَلَا حامض أَي: اجْتمع فِيهِ الْحَلَاوَة والحموضة وَلم يخلص لوَاحِد مِنْهُمَا، وَهَذَا قَول الْفراء والزجاج وَأكْثر أهل الْمعَانِي، وَزعم ابْن قُتَيْبَة أَن معنى قَوْله: {لَا شرقية وَلَا غربية} أَي: لَيست فِي مضحاة، وَلَا فِي مقتاة، وَمَعْنَاهُ: لَيست فِي مضحاة فَتكون الشَّمْس عَلَيْهَا أبدا، وَلَا فِي الظل فَتكون فِي الظل أبدا، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا شَجَرَة بَين الْأَشْجَار لَا هِيَ بارزة للشمس عِنْد شروقها، وَلَا هِيَ بارزة عِنْد غُرُوبهَا.
وَقَوله: {يكَاد زيتها يضيء} أَي: من صفائه ولونه.
وَقَوله: {وَلَو لم تمسسه نَار} أَي: وَإِن لم تمسسه نَار.
وَقَوله: {نور على نور} أَي: نور الْمِصْبَاح على نور الزجاجة.
وَقَوله: {يهدي الله لنوره من يَشَاء} أَي: نور البصيرة والعقيدة.
وَقَوله: {وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس} أَي: يبين الله الْأَمْثَال للنَّاس.(3/532)
وَقَوله: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} مَعْلُوم.
وَاعْلَم أَنه اخْتلف القَوْل فِي معنى التَّمْثِيل: مِنْهُم من قَالَ: التَّمْثِيل وَقع للنور الَّذِي فِي قلب الْمُؤمن، وَمِنْهُم من قَالَ: التَّمْثِيل وَقع لنُور مُحَمَّد، وَمِنْهُم من قَالَ: التَّمْثِيل وَقع لنُور الْقُرْآن، وَأما إِذا قُلْنَا: إِن التَّمْثِيل وَقع للنور الَّذِي فِي قلب الْمُؤمن فَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى كَمَا بَينا.
وَقَوله: {يكَاد زيتها يضيء} أَي: يكَاد قلب الْمُؤمن يعرف الْحق قبل أَن يبين لَهُ لموافقته إِيَّاه.
وَقَوله: {نور على نور} أَي: نور الْعَمَل على نور الِاعْتِقَاد، وَعَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: الْمُؤمن بَين خَمْسَة أنوار، وَقَوله نور، وَعَمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إِلَى النُّور. وَعَن غَيره أَنه قَالَ: الْمُؤمن بَين أَرْبَعَة أَحْوَال: إِن أعطي شكر، وَإِن ابْتُلِيَ صَبر، وَإِن قَالَ صدق، وَإِن حكم عدل. وَإِذا قُلْنَا: التَّمْثِيل وَقع لنُور مُحَمَّد، فالمشكاة صَدره، والزجاجة قلبه، والمصباح هُوَ نورة النُّبُوَّة.
وَقَوله: {توقد من شَجَرَة مباركة} الشَّجَرَة الْمُبَارَكَة هُوَ إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَذكر زيتونة، لِأَنَّهَا أبرك الْأَشْجَار على مَا بَينا؛ وَلِأَن إِبْرَاهِيم نزل الشَّام، وَفِي زيتون الشَّام من الْبركَة مَا لَيْسَ لغيره من الْبِلَاد.
وَقَوله: {لَا شرقية وَلَا غربية} مَعْنَاهُ: أَن إِبْرَاهِيم لم يكن يُصَلِّي إِلَى الْمشرق وَلَا إِلَى الْمغرب، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا} وَالْيَهُود يصلونَ إِلَى الْمغرب، وَالنَّصَارَى إِلَى الْمشرق. وَقَوله: {يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار} مَعْنَاهُ: لَو لم يكن إِبْرَاهِيم نَبيا لألحقه الله بِالْعَمَلِ الصَّالح بالأنبياء فِي درجاتهم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أَن مُحَمَّدًا لَو لم تأته معْجزَة لدلت أَحْوَاله على صدقه وعَلى نبوته. وَقَوله: {نور على نور} أَي: نور مُحَمَّد على نور إِبْرَاهِيم، وَقَوله: {يهدي(3/533)
{فِي بيُوت أذن الله أَن ترفع وَيذكر فِيهَا اسْمه يسبح لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال (36) رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة} الله لنوره من يَشَاء) يَعْنِي: يهدي الله للْإيمَان بِمُحَمد من يَشَاء، وَهَذَا كُله معنى مَا رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي الْآيَة كَلَام كثير ذكره أَصْحَاب الخواطر لَا يشْتَغل بِهِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ هما المعروفان.(3/534)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
قَوْله تَعَالَى: {فِي بيُوت أذن الله أَن ترفع} مَعْنَاهُ: توقد فِي بيُوت، وَيُقَال: المصابيح فِي بيُوت، والبيوت هَاهُنَا هِيَ الْمَسَاجِد. وَقَوله: {أذن الله أَن ترفع} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ مُجَاهِد: تبنى، وَقَالَ الْحسن: تعظم. يَعْنِي: أَنه لَا يذكر فِيهَا الْخَنَا من القَوْل، وَعَن بَعضهم: تطهر.
وَقَوله: {وَيذكر فِيهَا اسْمه} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: {يسبح} وقرىء: " يسبح " بِكَسْر الْبَاء، فَقَوله بِكَسْر الْبَاء أَي: يسبح رجال، وَقَوله: " يسبح " على مَال لم يسم فَاعله، وَمعنى يسبح: يُصَلِّي.
وَقَوله: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} أَي: بالبكر والعشايا. قَالَ الشَّاعِر:
(وقفت فِيهَا أصيلا لَا أسائلها ... أعيت جَوَابا وَمَا بِالربعِ من أحد)
وَإِنَّمَا خص البكرة وَالْعصر؛ لِأَن صَلَاة الْغَدَاة وَصَلَاة الْعَصْر أول مَا فرض على الْمُسلمين، وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: صَلَاة الضُّحَى فِي الْقُرْآن وَلَا يغوص عَلَيْهَا الأغواص، ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَة وَهُوَ قَوْله: ( {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} وَزعم أَن المُرَاد بالتسبيح بِالْغُدُوِّ وَهُوَ صَلَاة الضُّحَى، وَالْمَعْرُوف مَا بَينا، وَهُوَ أَن المُرَاد مِنْهُ صَلَاة الصُّبْح وَصَلَاة الْعَصْر) .(3/534)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
قَوْله تَعَالَى: {رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله} وَعَن عبيد بن عُمَيْر أَنه(3/534)
{يخَافُونَ يَوْمًا تتقلب فِيهِ الْقُلُوب والأبصار (37) لِيَجْزِيَهُم الله أحسن مَا عمِلُوا ويزيدهم من فَضله وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب (38) وَالَّذين كفرُوا أَعْمَالهم كسراب} قَالَ: يضع الله يَوْم الْقِيَامَة مَنَابِر من نور، وَيَقُول: أَيْن الَّذين لم تلههم تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله؟ فَيقومُونَ فيجلسهم عَلَيْهَا.
وَقَالَ الْفراء: التِّجَارَة مَا بيع من الجلب، وَالْبيع مَا بِعْت على يدك.
وَقَوله: {وإقام الصَّلَاة} فَإِن قيل: إِذا حملتم ذكر الله على الصَّلَوَات الْخمس فَمَا معنى قَوْله: {وإقام الصَّلَاة} ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ حفظ الْمَوَاقِيت، وَمن لم يحفظ الْمَوَاقِيت فَلم يقم الصَّلَاة. وَقَوله: {وإقام الصَّلَاة} أَي: وَإِقَامَة الصَّلَاة، فحذفت الْهَاء بِحكم الْإِضَافَة. قَالَ الشَّاعِر:
(إِن الخليط أجدوا الْبَين فانجردوا ... وأخلفوك عدي الْأَمر الَّذِي وعدوا)
أَي: عدَّة الْأُمُور.
وَقَوله: {وإيتاء الزَّكَاة} مِنْهُم من قَالَ: هِيَ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَمِنْهُم من قَالَ: الْأَعْمَال الصَّالِحَة.
وَقَوله: {يخَافُونَ يَوْمًا تتقلب فِيهِ الْقُلُوب والأبصار} أَي: تتقلب الْقُلُوب عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا من الشَّك وَالْكفْر، وتنفتح فِيهِ الْأَبْصَار من الأغطية، وَيُقَال: يتقلب الْقلب [بَين الْخَوْف] والرجاء، فَإِنَّهُ يخَاف الْهَلَاك، ويطمع النجَاة، وَأما تقلب الْبَصَر حَتَّى من أَيْن يُؤْتى كِتَابه؛ من شِمَاله أَو من يَمِينه، وَقَالَ: تتقلب الْقُلُوب فِي الْجوف، وترتفع إِلَى الحنجرة فَلَا تَزُول وَلَا تخرج، وَأما تقلب الْبَصَر شخوصه من هول الْأَمر وشدته.(3/535)
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
وَقَوله: {لِيَجْزِيَهُم الله أحسن مَا عمِلُوا} يَعْنِي: لِيَجْزِيَهُم بِمَا عمِلُوا من الْأَعْمَال الْحَسَنَة.(3/535)
{بقيعة يحسبه الظمآن مَاء حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا وَوجد الله عِنْده فوفاه حسابه وَالله سريع الْحساب (39) أَو كظلمات فِي بَحر لجي يَغْشَاهُ موج من}
وَقَوله: {ويزيدهم من فَضله} أَي: زِيَادَة على مَا يسْتَحقُّونَ.
وَقَوله: {وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب} قد بَينا.(3/536)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كفرُوا أَعْمَالهم} اعْلَم أَن الله تَعَالَى لما ذكر الْمثل فِي حق الْمُؤمنِينَ أعقبه بِالْمثلِ فِي حق الْكفَّار.
وَقَوله: {كسراب} السراب: مَا يرى نصف النَّهَار شبه المَاء الْجَارِي على الأَرْض، وَأكْثر مَا يرَاهُ العطشان. قَالَ الْفراء: السراب مَا لزم الأَرْض، والآل مَا ارْتَفع من الأَرْض، وَهُوَ شُعَاع بَين السَّمَاء وَالْأَرْض شبه الملاة، يرى فِيهِ الصَّغِير كَبِيرا، والقصير طَويلا.
وَقَالَ غَيره: السراب نصف النَّهَار، والآل بالغدوات، والرقراق بالعشايا، قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَمَّا كففنا الْحَرْب كَانَت عهودهم ... كَلمعِ سراب بالفلا متألق)
وَقَوله: {بقيعة} القاع: هُوَ الأَرْض المنبسطة.
وَقَوله: {إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا} أَي: لم يجده شَيْئا مِمَّا أمل وَحسب.
وَقَوله: {وَوجد الله عِنْده} أَي: عِنْد علمه، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَقِي الله فِي الْآخِرَة.
{فوفاه حسابه} أَي: جَزَاء عمله، قَالَ الشَّاعِر:
(فولى مُدبرا هوى حثيثا ... وأيقن أَنه لَاقَى الحسابا)
وَقَوله: {وَالله سريع الْحساب} ظَاهر الْمَعْنى.
وَاعْلَم أَن فِي نزُول الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا نزلت فِي شيبَة بن ربيعَة - وَكَانَ يطْلب الدّين قبل أَن يبْعَث النَّبِي - فَكَانَ يلبس الصُّوف، وَيَأْكُل الشّعير، ثمَّ لما بعث النَّبِي كفر بِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة نزلت فِي جَمِيع الْكفَّار، وَالْمرَاد من الْآيَة: تَشْبِيه أَعْمَالهم بِالسَّرَابِ، وأعمالهم هِيَ مَا اعتقدوها خيرا، من الْحَج وصلَة الْأَرْحَام، وَحسن الْجوَار،(3/536)
{فَوْقه موج من فَوْقه سَحَاب ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض إِذا أخرج يَده لم يكد يَرَاهَا وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور (40) ألم تَرَ أَن الله يسبح لَهُ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالطير صافات كل قد علم صلَاته وتسبيحه} وقرى الضَّيْف، وَالْوَفَاء بالعهد، وَمَا أشبه ذَلِك، فَذكر الله تَعَالَى أَن هَذِه الْأَعْمَال كسراب حِين لم يصدر عَن مُؤمن، فَهُوَ يَرْجُو مِنْهَا الْخَيْر وَالثَّوَاب، وَإِذا وصل إِلَيْهَا أخلفه ظَنّه، وَلم يحصل على شَيْء.(3/537)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
قَوْله تَعَالَى: {أَو كظلمات فِي بَحر لجي} قَالَ أهل الْمعَانِي: المُرَاد من الْآيَة أَنَّك إِن شبهت أَعْمَالهم لما يُوجد، فَهُوَ كَمَا بَينا من السراب بالقيعة، وَإِن شبهت أَعْمَالهم لما يرى، فَهُوَ كالظلمات فِي الْبَحْر اللجي، وَالْبَحْر اللجي هُوَ العميق الَّذِي بعد عمقه، وَفِي الْخَبَر: أَن النَّبِي قَالَ: " من ركب الْبَحْر حِين يلج، فقد بَرِئت مِنْهُ الذِّمَّة ".
مَعْنَاهُ: حِين يتوسط الْبَحْر فَيصير إِلَى أعمق مَوضِع، وَأما الظُّلُمَات: فَهِيَ ظلمَة الْبَحْر، وظلمة اللَّيْل، وظلمة السَّحَاب، وظلمة الموج أَيْضا.
وَقَوله: {يَغْشَاهُ موج من فَوْقه موج من فَوْقه سَحَاب} هَذَا هُوَ الظُّلُمَات الَّتِي ذَكرنَاهَا.
وَقَوله: {ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض} مَعْنَاهُ: ظلمَة الموج على ظلمَة الْبَحْر، وظلمة السَّحَاب على ظلمَة الموج.
وَقَوله: {إِذا أخرج يَده لم يكد يَرَاهَا} أَي: لم يرهَا، وَقيل: لم يُقَارب رؤيتها، وَيُقَال: يكد هَاهُنَا صلَة. قَالَ الشَّاعِر:
(وَمَا كَادَت إِذا رفعت سناها ... ليبصر ضوءها إِلَّا الْبَصِير)
وَقَوله: {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} . قَالَ ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: من لم(3/537)
{وَالله عليم بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَإِلَى الله الْمصير (42) ألم تَرَ أَن الله يزجي سحابا ثمَّ يؤلف بَينه ثمَّ يَجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وَينزل من السَّمَاء من جبال فِيهَا من برد فَيُصِيب بِهِ من يَشَاء} يَجْعَل الله لَهُ دينا فَمَا لَهُ من دين " وَيُقَال مَعْنَاهُ: من لم يهده الله فَلَا يهده أحد.(3/538)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
وَقَوله: {ألم تَرَ أَن الله يسبح لَهُ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} قد بَينا.
وَقَوله: {وَالطير صافات} أَي: صِفَات أجنحتهن.
وَقَوله: {كل قد علم صلَاته وتسبيحه} قَالَ مُجَاهِد: الصَّلَاة للآدميين، وَالتَّسْبِيح لسَائِر الْخلق، وَيُقَال: إِن ضرب الأجنحة صَلَاة الطير، وصوته تسبيحه.
وَقَوله: {وَالله عليم بِمَا يَفْعَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى. وَكَذَلِكَ قَوْله: {وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَإِلَى الله الْمصير} .(3/538)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله يزجي سحابا} أَي: يَسُوق سحابا. قَالَ الشَّاعِر:
(إِنِّي أَتَيْتُك من أرضي وَمن وطني ... أزجي حشاشة نفس مَا بهَا رَمق)
وَقَوله: {ثمَّ يؤلف بَينه} أَي: يجمع بَينه.
وَقَوله: {ثمَّ يَجعله ركاما} أَي: متراكما بعضه على بعض.
وَقَوله: {فترى الودق يخرج من خلاله} أَي: الْمَطَر يخرج من خلاله، والخلال جمع الْخلَل كالجبال جمع الْجَبَل، قَالَ الشَّاعِر فِي الودق:
(فَلَا مزنة ودقت ودقها ... وَلَا أَرض أبقل إبقالها)
وَقَوله: {وَينزل من السَّمَاء من جبال فِيهَا من برد} رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: فِي السَّمَاء جبال من برد فَينزل مِنْهَا الْبرد.
قَالَ ابْن عَبَّاس: وَإِنَّمَا خَاطب الْقَوْم بِمَا يعْرفُونَ، وَإِلَّا مَا الثَّلج أَكثر من الْبرد، وَالْعرب مَا رَأَوْا الثَّلج قطّ. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الثَّلج شَيْء أَبيض ينزل من السَّمَاء مَا رَأَيْته قطّ. وَقَالَ غَيره: قَوْله: {وَينزل من السَّمَاء من جبال} أَي: مِقْدَار الْجبَال فِي الْكَثْرَة، وَيُقَال: فلَان لَهُ جبال مَال، شبه بالجبال للكثرة.(3/538)
{ويصرفه عَن من يَشَاء يكَاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43) يقلب الله اللَّيْل وَالنَّهَار إِن فِي ذَلِك لعبرة لأولي الْأَبْصَار}
وَقَوله: {من} صلَة مَعْنَاهُ: ينزل من السَّمَاء جبالا {من برد} .
وَقَوله: {فَيُصِيب بِهِ من يَشَاء} يَعْنِي: بالبرد من يَشَاء. {ويصرفه عَن من يَشَاء} .
وَقَوله: {يكَاد سنا برقه} أَي: ضوء برقه، وَقد ذكرنَا شعرًا فِي هَذَا.
وَقَوله: {يذهب بالأبصار} يَعْنِي: من شدَّة الضَّوْء.(3/539)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
وَقَوله: {يقلب الله اللَّيْل وَالنَّهَار} أَي: يصرف اللَّيْل وَالنَّهَار، وتقليب اللَّيْل وَالنَّهَار اخْتِلَافهمَا، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {يكور اللَّيْل على النَّهَار ويكور النَّهَار على اللَّيْل} وَقد صَحَّ عَن النَّبِي بِرِوَايَة سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْن آدم يسب الدَّهْر، وَإِنَّمَا أَنا الدَّهْر، بيَدي اللَّيْل وَالنَّهَار (و) أقلبهما ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أخبرنَا جدي أَبُو الْهَيْثَم الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا الْحميدِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب الْخَبَر.
وَيُقَال: يقلب الله اللَّيْل وَالنَّهَار أَي: يدبر أَمر اللَّيْل وَالنَّهَار.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لعبرة لأولي الْأَبْصَار} أَي: آيَة وعظة لأولي الْأَبْصَار فِي الْقُلُوب، وَزعم أهل النَّحْو أَن الله تَعَالَى ذكر " من " ثَلَاث مَرَّات فِي الْآيَة الأولى، وَلكُل وَاحِد مِنْهَا معنى، فَقَوله: {من السَّمَاء} لابتداء الْغَايَة، وَقَوله: {من جبال} للتَّبْعِيض، وَقَوله: {من برد} للتجنيس، وَقد قَالَ بَعضهم فِي الْآيَة الثَّانِيَة: إِن معنى التقليب هُوَ أَنه يذهب بِاللَّيْلِ وَيَأْتِي بِالنَّهَارِ، وَيذْهب بِالنَّهَارِ وَيَأْتِي بِاللَّيْلِ.(3/539)
{وَالله خلق كل دَابَّة من مَاء فَمنهمْ من يمشي على بَطْنه وَمِنْهُم من يمشي على رجلَيْنِ وَمِنْهُم من يمشي على أَربع}(3/540)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
قَوْله تَعَالَى: {وَالله خلق كل دَابَّة من مَاء} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {خلق كل دَابَّة من مَاء} وَقد خلق كثيرا من الْحَيَوَانَات من غير المَاء كالجن وَالْمَلَائِكَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الله تَعَالَى خلق جَمِيع الْحَيَوَانَات من المَاء، وَزعم أهل التَّفْسِير أَن الله تَعَالَى خلق مَاء ثمَّ جعله نَارا، فخلق مِنْهَا الْجِنّ، ثمَّ جعله ريحًا، فخلق مِنْهَا الْمَلَائِكَة، ثمَّ جعله طينا، فخلق مِنْهُ بني آدم.
وَقَوله: {فَمنهمْ من يمشي على بَطْنه} يَعْنِي: مثل الْحَيَّات وَالْحِيتَان وَمَا أشبههما، فَإِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر المشيء على الْبَطن؟ وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد مِنْهُ السّير، وَالسير عَام فِي القوائم وعَلى الْبَطن، وَقَالَ بَعضهم: الْمَشْي صَحِيح فِي الْمَشْي على الْبَطن، يُقَال: مَشى أَمر كَذَا.
وَقَوله: {وَمِنْهُم من يمشي على رجلَيْنِ} يَعْنِي: مثل بني آدم وَالطير، فَإِن قيل: أيسمى الطير دَابَّة؟ قُلْنَا: بلَى؛ لِأَن كل مَا يدب على الأَرْض فَهُوَ دَابَّة.
وَقَوله: {وَمِنْهُم من يمشي على أَربع} يَعْنِي: الْبَهَائِم، فَإِن قيل: قد نرى مَا يمشي على أَكثر من الْأَرْبَع، قُلْنَا: قد ذكر السّديّ أَن فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " وَمِنْهُم من يمشي على أَكثر من الْأَرْبَع " فَيكون تَفْسِير للْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَيصير كَأَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَمِنْهُم من يمشي على أَربع} وعَلى أَكثر من الْأَرْبَع، وَأما على الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة فَإِنَّمَا لم يزدْ على الْأَرْبَع؛ لِأَن القوائم وَإِن زَادَت فاعتماد الْحَيَوَان على جهاته الْأَرْبَعَة، فَكَأَنَّهَا تمشي على أَرْبَعَة، وَيُقَال: إِنَّهَا وَإِن مشيت على أَكثر من الْأَرْبَع فَهِيَ فِي الصُّورَة كَأَنَّهَا تمشي على أَربع، فَإِن قيل: قَالَ: {وَمِنْهُم من يمشي} وَكلمَة " من " لمن يعقل لَيْسَ لما لَا يعقل، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه إِنَّمَا ذكر بِكَلِمَة " من " لِأَن الْكَلَام إِذا جمع من يعقل، وَمن لَا يعقل غلب من يعقل على مَا لَا يعقل.(3/540)
{يخلق الله مَا يَشَاء إِن الله على كل شَيْء قدير (45) لقد أنزلنَا آيَات مبينات وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (46) وَيَقُولُونَ آمنا بِاللَّه وبالرسول وأطعنا ثمَّ يتَوَلَّى فريق مِنْهُم من بعد ذَلِك وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا}
وَقَوله: {يخلق الله مَا يَشَاء} يَعْنِي: يخلق الله مَا يَشَاء سوى مَا ذكر.
وَقَوله: {وَالله على كل شَيْء قدير} ظَاهر الْمَعْنى.(3/541)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
قَوْله تَعَالَى: {لقد أنزلنَا آيَات مبينات} قد بَينا.
وَقَوله: {وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: دين الْحق، وَهُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم.(3/541)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ آمنا بِاللَّه وبالرسول وأطعنا} ذكر النقاش أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي رجل من الْمُنَافِقين يُسمى بشرا وَرجل من الْيَهُود، كَانَت بَينهمَا خصوصة، فَقَالَ الْيَهُودِيّ: نَتَحَاكَم إِلَى مُحَمَّد، وَقَالَ الْمُنَافِق: نَتَحَاكَم إِلَى كَعْب بن الْأَشْرَف، فَأنْزل الله تَعَالَى فِي هَذَا الْمُنَافِق وأشباهه هَذِه الْآيَة، وَأورد أَبُو بكر الْفَارِسِي فِي " أَحْكَام الْقُرْآن " أَن النَّبِي لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، ترك الْأَنْصَار لَهُ وللمهاجرين كل أَرض لَا يصل إِلَيْهَا المَاء، فَأعْطى رَسُول الله عُثْمَان وعليا من ذَلِك، فَبَاعَ عَليّ نصِيبه من عُثْمَان، فَوجدَ عُثْمَان الأَرْض كلهَا أَحْجَار لَا يُمكن أَن تزرع، فَطلب من عَليّ الثّمن الَّذِي أعطَاهُ، فَقَالَ عَليّ: وَمَا علمي بالأحجار، وَلَو وجدت كنزا هَل كَانَ لي مِنْهُ شَيْء؟ فَأَرَادَ أَن يتحاكما إِلَى النَّبِي، فَقَالَ الحكم بن أبي الْعَاصِ لعُثْمَان: لَا تحاكمه إِلَى مُحَمَّد، فَإِنَّهُ يقْضِي لِابْنِ عَمه، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة فِي الحكم بن أبي الْعَاصِ.
وَقَوله: {ثمَّ يتَوَلَّى فريق مِنْهُم من بعد ذَلِك} أَي: من بعد مَا قَالُوا آمنا بِاللَّه وبالرسول.
وَقَوله: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أَي: بالمصدقين.(3/541)
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم} الحكم فصل الْخُصُومَة بِمَا توجبه الشَّرِيعَة.(3/541)
{دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم إِذا فريق مِنْهُم معرضون (48) وَإِن يكن لَهُم الْحق يَأْتُوا إِلَيْهِ مذعنين (49) أَفِي قُلُوبهم مرض أم ارْتَابُوا أم يخَافُونَ أَن يَحِيف الله عَلَيْهِم وَرَسُوله بل أُولَئِكَ هم الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَول الْمُؤمنِينَ إِذا دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم أَن يَقُولُوا سمعنَا وأطعنا}
قَوْله: {إِذا فريق مِنْهُم معرضون} أَي: عَن الْحق، وَقيل: عَن الْإِجَابَة، وَالْآيَة تدل على أَن القَاضِي إِذا دَعَا إِنْسَان ليحكم بَينه وَبَين خَصمه، وَجَبت عَلَيْهِ الْإِجَابَة.(3/542)
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يكن لَهُم الْحق يَأْتُوا إِلَيْهِ مذعنين} أَي: مسارعين منقادين خاضعين.(3/542)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
وَقَوله: {أَفِي قُلُوبهم مرض} اسْتِفْهَام بِمَعْنى التوبيخ والذم، وَمَعْنَاهُ: عِلّة تمنع من قبُول الْحق.
وَقَوله: {أم ارْتَابُوا} أَي: شكوا.
وَقَوله: {أم يخَافُونَ أَن يَحِيف الله عَلَيْهِم وَرَسُوله} الحيف هُوَ الْميل بِغَيْر حق، وَيجوز أَن يعبر بِهِ عَن الظُّلم.
وَقَوله: {بل أُولَئِكَ هم الظَّالِمُونَ} قد بَينا.(3/542)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَول الْمُؤمنِينَ إِذا دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم} .
هَذَا لَيْسَ على طَرِيق الْخَبَر، وَلكنه تَعْلِيم أدب من الشَّرْع، على معنى أَن الْمُؤمنِينَ كَذَا يَنْبَغِي أَن يَكُونُوا.
وَقَوله: {أَن يَقُولُوا سمعنَا وأطعنا} أَي: سمعنَا الدُّعَاء، وأطعنا بالإجابة.
وَقَوله: {وَأُولَئِكَ هم المفلحون} أَي: الفائزون.(3/542)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن يطع الله وَرَسُوله} أَي: من يطع الله فِيمَا أَمر، ويطع رَسُوله فِيمَا سنّ.
وَقَوله: {ويخش الله} أَي: فِيمَا مضى.
وَقَوله: {ويتقه} أَي: يحذرهُ فِيمَا يسْتَقْبل.(3/542)
{وَأُولَئِكَ هم المفلحون (51) وَمن يطع الله وَرَسُوله ويخش الله ويتقه فَأُولَئِك هم الفائزون (52) وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَئِن أَمرتهم ليخرجن قل لَا تقسموا طَاعَة مَعْرُوفَة إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قل أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول فَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حمل وَعَلَيْكُم مَا حملتم وَإِن تطيعوه تهتدوا وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين (54) }
وَقَوله: {فَأُولَئِك هم الفائزون} أَي: الناجون.(3/543)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
قَوْله تَعَالَى: {وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم} جهد الْيَمين هُوَ أَن يحلف بِاللَّه، قَالَ أهل الْعلم: وَلَا حلف فَوق الْحلف بِاللَّه.
وَقَوله: {لَئِن أَمرتهم ليخرجن} أَي: لَئِن أَمرتهم بِالْخرُوجِ إِلَى الْجِهَاد ليخرجن.
وَقَوله: {قل لَا تقسموا} أَي: لَا تحلفُوا.
وَقَوله: {طَاعَة مَعْرُوفَة} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: ليكن مِنْكُم طَاعَة مَعْرُوفَة، وَالْآخر: طَاعَة مَعْرُوفَة أمثل من يَمِين بالْقَوْل لَا يُوَافِقهَا الِاعْتِقَاد، وَالثَّالِث: هَذِه طَاعَة مَعْرُوفَة مِنْكُم أَن تحلفُوا كاذبين، وَأَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، وَمَعْنَاهُ: هَذَا أَمر مَعْرُوف مِنْكُم.
وَقَوله: {إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(3/543)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
قَوْله تَعَالَى: {قل أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول فَإِن توَلّوا} أَي: فَإِن تَتَوَلَّوْا، وَقيل: فَإِن يتولوا، بِصَرْف خطابه المواجهة إِلَى المغايبة.
وَقَوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حمل} أَي: على الرَّسُول مَا حمل من التَّبْلِيغ.
{وَعَلَيْكُم مَا حملتم} من الْإِجَابَة أَي: إِن أجبتم فلكم الثَّوَاب، وَإِن أَبَيْتُم فَعَلَيْكُم الْعقَاب.
وَقَوله: {وَإِن تطيعوه} يَعْنِي الرَّسُول {تهتدوا} .
وَقَوله: {وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} أَي: التَّبْلِيغ الْبَين.(3/543)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
قَوْله تَعَالَى: {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات} قَالَ أَبُو الْعَالِيَة الريَاحي: بعث الله مُحَمَّدًا، فَمَكثَ هُوَ وَأَصْحَابه بِمَكَّة عشر سِنِين، وَأمرُوا(3/543)
{وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا لصالحات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم} بِالصبرِ على أَذَى الْكفَّار، فَكَانُوا يُصْبِحُونَ خَائِفين وَيُمْسُونَ خَائِفين، ثمَّ إِنَّه هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، وَأمرُوا بِالْقِتَالِ وهم على خوفهم، فَكَانَ لَا يُفَارق أحد مِنْهُم سلاحه، فَقَالَ رجل من الْمُسلمين: أما نَأْمَن يَوْمًا من الدَّهْر؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَذكر بعض أهل التَّفْسِير: أَن أَصْحَاب رَسُول الله تمنوا أَن يظهروا على مَكَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم} قَالَ قَتَادَة: كَمَا اسْتخْلف دَاوُد وَسليمَان وَغَيرهمَا من الْأَنْبِيَاء الَّذين ملكوا.
وَاسْتدلَّ أهل الْعلم بِهَذِهِ الْآيَة على صِحَة خلَافَة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وهم: أَبُو بكر، وَعمر، وَعُثْمَان، وَعلي - رَضِي الله عَنْهُم - وَمن الْمَشْهُور الْمَعْرُوف بِرِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة، عَن سعيد بن جمْهَان، عَن سفينة أَن النَّبِي قَالَ: " الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن بن النقور بِبَغْدَاد، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا ابْن بنت منيع عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ، عَن هدبة [بن] خَالِد، عَن حَمَّاد بن سَلمَة ... الْخَبَر. خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَقَوله: {وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم} أَي: لَيظْهرَن دينهم على جَمِيع الْأَدْيَان، قَالَ أهل الْعلم: يعين: فَارس وَالروم وَمن أشبههم، وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من بَيت مدر وَلَا وبر فِي الأَرْض إِلَّا ويدخله الله(3/544)
{وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} الْإِسْلَام كرها ".
وَقَوله: {ارتضى لَهُم} اخْتَار لَهُم.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ لعدي بن حَاتِم: " لَيظْهرَن الله هَذَا الدّين، حَتَّى تخرج الظعينة من الْحيرَة تؤم بَيت الله، لَا تخَاف إِلَّا الله وَالذِّئْب على غنمها ". قَالَ عدي بن حَاتِم: فَقلت فِي نَفسِي: فَأَيْنَ اللُّصُوص؟ قَالَ عدي: وَلَقَد رَأَيْت مَا قَالَه رَسُول الله.
وَقَوله: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} . هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ، وَقد رُوِيَ أَن أَصْحَاب رَسُول الله حِين كَانُوا بِمَكَّة لم يَكُونُوا يصلونَ إِلَّا مختفين، وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يحفظ صَاحبه حَتَّى يُصَلِّي، وَصَاحبه يحفظه حَتَّى يُصَلِّي، ثمَّ إِنَّهُم لما هَاجرُوا أمنُوا وعبدوا الله جَهرا، ومازال يزْدَاد الْأَمْن إِلَى زَمَاننَا هَذَا ... الحَدِيث.
وَقَوله: {يعبدونني لَا يشركُونَ بِي شَيْئا} يَعْنِي: يعبدونني آمِنين وَلَا يشركُونَ.
وَقَوله: {وَمن كفر بعد ذَلِك فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} أَكثر أهل التَّفْسِير على أَنه لَيْسَ الْكفْر هَاهُنَا هُوَ الْكفْر بِاللَّه، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ كفران النِّعْمَة بترك الطَّاعَة، فَلهَذَا قَالَ: {فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ الْكفْر بِاللَّه، وَالأَصَح هُوَ الأول.(3/545)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
قَوْله تَعَالَى: {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأَطيعُوا الرَّسُول لَعَلَّكُمْ ترحمون}(3/545)
{يعبدونني لَا يشركُونَ بِي شَيْئا وَمن كفر بعد ذَلِك فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ (55) وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأَطيعُوا الرَّسُول لَعَلَّكُمْ ترحمون (56) لَا تحسبن الَّذين كفرُوا معجزين فِي الأَرْض ومأواهم النَّار ولبئس الْمصير (57) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لِيَسْتَأْذِنكُم الَّذين ملكت أَيْمَانكُم وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم} أَي: افعلوا مَا تَفعلُوا على رَجَاء الرَّحْمَة.(3/546)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
قَوْله تَعَالَى: {لَا تحسبن الَّذين كفرُوا معجزين فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ: لَا تَظنن الَّذين كفرُوا يفوتون عَنَّا فَوَات من نعجز عَنهُ، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنا لَا نعجز عَن أحدهم، (وَلَيْسَ مَعَهم مَا يَقُولُونَ بِهِ غنى، فَيَكُونُوا بِمَنْزِلَة من عجزوا غَيرهم عَنْهُم) .
وَقَوله تَعَالَى: {ومأواهم النَّار ولبئس الْمصير} أَي: ولبئس الْمرجع.(3/546)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لِيَسْتَأْذِنكُم الَّذين ملكت أَيْمَانكُم} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ مُجَاهِد: الَّذين ملكت أَيْمَانكُم هم العبيد، وَعَن بَعضهم: أَنهم الْإِمَاء، رُوِيَ هَذَا عَن ابْن عمر، وَالأَصَح أَنه فِي العبيد وَالْإِمَاء.
قَوْله: {وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم مِنْكُم} لَيْسَ هَؤُلَاءِ هم الَّذين لم يظهروا على عورات النِّسَاء، فَإِن الَّذين لم يظهروا على عورات النِّسَاء لَا حشمة لأحد مِنْهُم؛ لأَنا بَينا أَنهم الَّذين لَا يميزون، وَلَكِن هَؤُلَاءِ هم الَّذين ميزوا، وَعرفُوا أَمر النِّسَاء، وَلَكِن لم يبلغُوا.
قَوْله: {ثَلَاث مَرَّات} أَي: اسْتَأْذنُوا ثَلَاث مَرَّات.
وَقَوله: {من قبل صَلَاة الْفجْر وَحين تضعون ثيابكم من الظهيرة وَمن بعد صَلَاة الْعشَاء} خص هَذِه الْأَوْقَات الثَّلَاثَة بِالْأَمر بالاستئذان؛ لِأَنَّهَا أَوْقَات ينْكَشف فِيهَا النَّاس ويبدوا مِنْهُم مَا لَا يحبونَ أَن يرَاهُ أحد، فَإِن قبل الْفجْر ينتبهون من النّوم فينكشفون، وَعند الظهيرة يلقون ثِيَابهمْ ليقيلوا، وَبعد الْعشَاء (الْأَخير) ينكشفون للنوم، فَأمر الله تَعَالَى بالاستئذان فِي هَذِه الْأَوْقَات الثَّلَاثَة لهَذَا الْمَعْنى، وَالْمرَاد من الْآيَة: اسْتِئْذَان الخدم وَالصبيان، فَأَما غَيرهم يستأذنون فِي جَمِيع الْأَحْوَال،(3/546)
{مِنْكُم ثَلَاث مَرَّات من قبل صَلَاة الْفجْر وَحين تضعون ثيابكم من الظهيرة وَمن بعد صَلَاة الْعشَاء ثَلَاث عورات لكم لَيْسَ عَلَيْكُم وَلَا عَلَيْهِم جنَاح بعدهن} وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لم يكن للْقَوْم ستور وَلَا [حجاب] ، وَكَانَ الخدم والولائد يدْخلُونَ عَلَيْهِم، فيرون مِنْهُم مَا لَا يحبونَ أَن يرى مِنْهُم، فَأمر الله تَعَالَى بالاستئذان، ثمَّ إِن الله تَعَالَى بسط رزفه، وَاتخذ النَّاس ستورا و [حِجَابا] ، فَرَأَوْا أَن ذَلِك قد أغْنى من الاسْتِئْذَان، قَالَ الشّعبِيّ وَسَعِيد بن جُبَير: هَذِه الْآيَة غير مَنْسُوخَة لَكِن تهاون النَّاس. وَحكى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: ثَلَاث آيَات من الْقُرْآن لَا يعْمل النَّاس بهَا، وَذكر هَذِه الْآيَة وَذكر قَوْله تَعَالَى: {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} فَلَا يزَال النَّاس يَقُولُونَ: أَنا ابْن فلَان، وَأكْرم من فلَان، وَأحسن من فلَان، قَالَ عَطاء: ونسيت الثَّالِثَة.
وَقَوله: {ثَلَاث عورات لكم} قرئَ بِرَفْع الثَّاء ونصبه، فَقَوله: {ثَلَاث} بِالرَّفْع، أَي: هِيَ ثَلَاث عورات لكم، وَقَوله: {ثَلَاث عورات لكم} بِالنّصب بدل من قَوْله: " ثَلَاث مَرَّات " فَيكون نصبا على الْبَدَل.
وَقَوله: {لَيْسَ عَلَيْكُم وَلَا عَلَيْهِم جنَاح} أَي: إِثْم فِي ترك الاسْتِئْذَان فِيمَا سوى هَذِه الْأَوْقَات الثَّلَاثَة.
وَقَوله: {بعدهن} إِشَارَة إِلَى هَذَا الْمَعْنى.
وَقَوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضكُم على بعض} ابْتِدَاء أَي: هَؤُلَاءِ الخدم والولائد طَوَّافُونَ عَلَيْكُم، يطوفون عَلَيْكُم ليخدموكم، وَمن هَذَا قَوْله فِي الْهِرَّة: " إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات ".(3/547)
{طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضكُم على بعض كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات وَالله عليم حَكِيم (58) وَإِذا بلغ الْأَطْفَال مِنْكُم الْحلم فليستأذنوا كَمَا اسْتَأْذن الَّذين من قبلهم كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته وَالله عليم حَكِيم (59) وَالْقَوَاعِد من النِّسَاء}
وَقَوله: {بَعْضكُم على بعض} أَي: يطوف بَعْضكُم على بعض.
وَقَوله: {كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات} أَي: الدلالات، وَقيل: الْأَحْكَام.
وَقَوله: {وَالله عليم حَكِيم} أَي: عليم بِأُمُور خلقه، حَكِيم فِيمَا دبر لَهُم.(3/548)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذا بلغ الْأَطْفَال مِنْكُم الْحلم فليستأذنوا} قَوْله: {الْحلم} أَي: الِاحْتِلَام، وَقَوله: {فليستأذنوا} (كَمَا اسْتَأْذن الرِّجَال البالغون، وَيُقَال) : {كَمَا اسْتَأْذن الَّذين من قبلهم} يَعْنِي: كَمَا اسْتَأْذن الَّذين من قبلهم، (مَعَ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى) .
وَقَوله: {كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته} أَي: أَحْكَامه.
وَقَوله: {وَالله عليم حَكِيم} قد بَينا.(3/548)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
قَوْله تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِد من النِّسَاء} . الْقَوَاعِد جمع قَاعد، يُقَال: امْرَأَة قَاعد إِذا قعدت عَن الْأزْوَاج، إِذا قعدت عَن الْحيض بِالْكبرِ، وَأما الْقَاعِدَة فَهِيَ الْجَالِسَةُ.
وَقَوله: {اللَّاتِي لَا يرجون نِكَاحا} يَعْنِي: لَا يردن نِكَاحا، وَقيل: لَا يردن الرِّجَال لكبرهن، وَقيل: قعدن عَن التَّصَرُّف بِالْكبرِ، وَإِنَّمَا قيل: امْرَأَة قَاعِدَة إِذا كَبرت؛ لِأَنَّهَا تكْثر الْقعُود، قَالَه ابْن قُتَيْبَة.
وَعَن ربيعَة الرَّأْي قَالَ: هن الْعَجَائِز اللواتي إِذا رآهن الرِّجَال استقذروهن، فَأَما من كَانَ فِيهِ بَقِيَّة من جمال، وَهِي مَحل الشَّهْوَة، فَلَا تدخل فِي هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جنَاح} أَي: إِثْم.
وَقَوله: {أَن يَضعن ثيابهن} فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " أَن يَضعن من ثيابهن "، قَالَ(3/548)
{اللَّاتِي لَا يرجون نِكَاحا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جنَاح أَن يَضعن ثيابهن غير متبرجات} ابْن مَسْعُود: وثيابهن هَا هُنَا الرِّدَاء والجلباب. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الجلباب، وَأما الْخمار لَا يجوز لَهَا أَن تضعه، وَأما الثَّوْب الَّذِي يكون فَوق الْخمار يجوز أَن تضعه.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن للزَّوْج مَا تَحت الدرْع، وَلِذِي الْمحرم مَا فَوق الدرْع، ولغير الْمحرم مَا فَوق الدرْع والرداء والجلباب والخمار.
وَقَوله: {غير متبرجات بزينة} أَي: لَا يردن بإلقاء الرِّدَاء والجلباب إِظْهَار زينتهن ومحاسنهن، وأصل التبرج من الظُّهُور، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تبرجن تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى} أَي: لَا تنكشفن تكشف الْجَاهِلِيَّة الأولى، وَفِي التَّفْسِير: أَن الْمَرْأَة إِذا مشت بَين يَدي الرِّجَال، فقد تبرجت تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا تركت بعدِي فتْنَة أضرّ على الرِّجَال من النِّسَاء " رَوَاهُ أُسَامَة.
وَقيل لبَعض الْحُكَمَاء: مَا أحن السبَاع؟ قَالَ: الْمَرْأَة. وَعَن بَعضهم أَنه قَالَ لآخر: لم يدْخل بَاب دَاري شَرّ قطّ، قَالَ: من أَيْن تدخل امْرَأَتك؟ . [وَعَن] بَعضهم أَنه رأى امْرَأَة مصلوبة، فَقَالَ: لَو أَن كل شَجَرَة تثمر مثل هَذِه، لنجى النَّاس من شَرّ كَبِير.
وَقَوله: {وَأَن يستعففن} يَعْنِي: أَلا يلقين الرِّدَاء والجلباب خير لَهُنَّ، وَعَن عَاصِم الْأَحول قَالَ: كُنَّا ندخل على حَفْصَة، وَهِي متجلببة متردية مُتَقَنعَة، فَقُلْنَا لَهَا: يَا أم الْمُؤمنِينَ، أَلَسْت من الْقَوَاعِد؟ فَقَرَأت قَوْله تَعَالَى: {وَأَن يستعففن خير لَهُنَّ} .
وَقَوله: {وَالله سميع عليم} ظَاهر الْمَعْنى.(3/549)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج وَلَا على الْأَعْرَج حرج وَلَا على الْمَرِيض(3/549)
{بزينة وَأَن يستعففن خير لَهُنَّ وَالله سميع عليم (60) لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج وَلَا على الْأَعْرَج حرج وَلَا على الْمَرِيض حرج وَلَا على أَنفسكُم أَن تَأْكُلُوا من} حرج) اخْتلف القَوْل فِي هَذِه الْآيَة، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْآيَة نزلت فِي رخصَة هَؤُلَاءِ للتخلف عَن الْجِهَاد، وَالَّذِي ذكره بعده من الْأكل عطف رخصَة على رخصَة. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: نزلت الْآيَة فِي رخصَة الْأكل من أَولهَا إِلَى آخرهَا، وَسبب ذَلِك أَن النَّاس كَانُوا يتحرجون من الْأكل مَعَ العميان وَالْعَرج والمرضى، وَيَقُولُونَ: إِن الْأَعْمَى لَا يَسْتَوْفِي الْأكل، والأعرج من الْجُلُوس، وَالْمَرِيض يضعف عَن التَّنَاوُل، وَكَانَ هَؤُلَاءِ أَيْضا يتحرجون من الْأكل مَعَ الأصحاء، فَيَقُول الْأَعْمَى: لَا آكل مَعَ بَصِير، فَرُبمَا آكل أَكثر مِمَّا يَأْكُل، والأعرج يَقُول: رُبمَا آخذ مَكَان نفسين، وَالْمَرِيض يَقُول: يتقذرني النَّاس، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَرفع الْحَرج.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن النَّاس كَانُوا يخرجُون إِلَى الْغَزْو، ويخلفون هَؤُلَاءِ فِي بُيُوتهم، فَكَانُوا يتحرجون من الْأكل، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَرفع الْحَرج، وَهَذَا قَول عَائِشَة، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن هَؤُلَاءِ كَانُوا يدْخلُونَ على الرجل لطلب الطَّعَام فَلَا يَجدونَ شَيْئا، فَيذْهب ذَلِك الرجل إِلَى بَيت آخر، ويحملهم مَعَ نَفسه ليصيبوا من طَعَام ذَلِك الرجل، وَهَذَا قَول مُجَاهِد، وَعَن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي قَالَ: المُرَاد من الْآيَة هُوَ الْأَعْمَى الَّذِي مَعَه قَائِد، فَيحمل مَعَه قائده ليَأْكُل مَعَه، وَكَذَلِكَ الْأَعْرَج وَالْمَرِيض يحْملَانِ إنْسَانا مَعَ أَنفسهمَا.
وَقَوله: {وَلَا على أَنفسكُم أَن تَأْكُلُوا من بُيُوتكُمْ} أَي: وَلَا حرج على أَنفسكُم أَن تَأْكُلُوا من بُيُوتكُمْ، وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه بيُوت الْأَوْلَاد، رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَنْت وَمَالك لأَبِيك ".(3/550)
{بُيُوتكُمْ أَو بيُوت آبائكم أَو بيُوت أُمَّهَاتكُم أَو بيُوت إخْوَانكُمْ أَو بيُوت أخواتكم أَو بيُوت أعمامكم أَو بيُوت عماتكم أَو بيُوت أخوالكم أَو بيُوت}
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد بيُوت الْأزْوَاج، وَيُقَال: بَيت كل إِنْسَان فِي نَفسه، وَالْأَوْلَاد أظهر.
وَقَوله: {أَو بيُوت آبائكم} الْآيَة إِلَى آخرهَا ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: {أَو مَا ملكتم مفاتحه} قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا وَكيل الرجل وقيمه فِي ضيعته وغنمه، يَأْكُل من الثَّمر، وَيشْرب من اللَّبن، وَلَا يحمل وَلَا يدّخر، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة بيُوت العبيد، والمفاتح: الخزائن، قَالَ الله تَعَالَى: {وَعِنْده مفاتح الْغَيْب} أَي: خَزَائِن الْغَيْب.
وَقَوله: {أَو صديقكم} الصّديق هُوَ الَّذِي صدقك فِي الْمَوَدَّة، وَيُقَال: الصّديق هُوَ الَّذِي ظَاهره مثل ظاهرك، وباطنه مثل باطنك، وَالصديق هَا هُنَا وَاحِد بِمَعْنى الْجمع.
قَالَ الشَّاعِر:
( [دعون] الْهوى [ثمَّ ارتمين] قُلُوبنَا ... بأسهم أَعدَاء وَهن صديق)
وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى رفع أَمر الصّديق على أَمر الْأَبَوَيْنِ، قَالَ الله تَعَالَى حِكَايَة عَن أَمر جَهَنَّم: {فمالنا من شافعين وَلَا صديق حميم} ، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق أَنه قَالَ: مثل صديقك مثل نَفسك. وَعَن الْحسن وَقَتَادَة قَالَا: كَانُوا يستحبون أَن يدخلُوا دور إخْوَانهمْ فيتناولون من غير اسْتِئْذَان، وَكَانَ يَقع ذَلِك بِطيب من نُفُوسهم، ومودة فِي قُلُوبهم. وَعَن ابْن عمر قَالَ: وَمَا كَانَ أَحَدنَا بِأَحَق بدرهمه وديناره عَن صَاحبه. وَعَن بَعضهم: أَنه ذكر صديقا لَهُ فَقَالَ: أيأخذ من كيسك(3/551)
{خالاتكم أَو مَا ملكتم مفاتحه أَو صديقكم لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا} ودراهمك مَا تحب فَلَا تكرههُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لَيْسَ لَك هُوَ بصديق.
وَقَوله: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَو أشتاتا} رُوِيَ أَن الله تَعَالَى لما أنزل قَوْله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض} توقى النَّاس غَايَة التوقي، وَقَالُوا: لَا نَأْكُل مَعَ أحد حَتَّى لَا نَأْكُل بَاطِلا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَرُوِيَ أَن الْآيَة نزلت فِي مَالك بن زيد مَعَ الْحَارِث بن عَمْرو، وَكَانَ الْحَارِث خلف مَالك بن زيد فِي دَاره، وَخرج غازيا، وأباح لَهُ الْأكل، فَلم يَأْكُل شَيْئا. وَمن الْمَعْرُوف فِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة نزلت فِي بني بكر من كنَانَة، وَكَانَ لَا يَأْكُل أحد مِنْهُم وَحده حَتَّى يجد ضيفا يَأْكُل مَعَه، وَإِذا لم يجد وأجهده الْجُوع نصب خَشَبَة ولف عَلَيْهَا ثوبا وَأكل عِنْدهَا؛ ليظن النَّاس أَنه إِنْسَان يَأْكُل مَعَه، وَرُوِيَ أَن وَاحِدًا مِنْهُم نزل بلقاحه وَاديا، فجاع فَحلبَ لقحة مِنْهَا، ونادى فِي الْوَادي: من كَانَ هَا هُنَا فليحضر ليَأْكُل، وَكَانَ فِي الْوَادي رجل فاختفى وَلم يجب، وأجهده الْجُوع، فَجَلَسَ يَأْكُل وَحده، فَخرج الرجل، وَقَالَ لَهُ: يَا رَضِيع، أتأكل وَحدك، فَأخذ الرجل سَيْفه وعدى عَلَيْهِ وَقَتله مَخَافَة أَن ينشر فِي النَّاس ذَلِك الْفِعْل مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وأباح للْقَوْم أَن يَأْكُلُوا منفردين وَجَمَاعَة، فَإِن قيل: مَا قَوْلكُم فِي هَذِه الْآيَة، وَإِذا دخل بَيت وَاحِد مِمَّن سبق ذكره، هَل يجوز لَهُ أَن يَأْكُل بِغَيْر إِذْنه؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالَ أَبُو بكر الْفَارِسِي: إِن كَانَ سبق مِنْهُ إِذن على الْإِجْمَال - وَإِن لم يكن على التَّعْيِين - فَإِنَّهُ يجوز لَهُ أَن يَأْكُل، وَفِي غير هَؤُلَاءِ لَا يجوز إِلَّا أَن يعين. وَقَالَ بَعضهم: إِذا كَانَ الطَّعَام مبذولا غير مُحرز، جَازَ لَهُ أَن يَأْكُل وَإِن كَانَ محرزا فِي حرز لَا يجوز لَهُ أَن يَأْكُل، وَأما حمل الزَّاد ومباذلة الْغَيْر فَهُوَ حرَام مَا لم يُؤذن على التَّعْيِين، وَقد قيل: إِذا كَانَ يَسِيرا فَلَا بَأْس بِهِ للعبيد والخدم.
وَقَوله: {فَإِذا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلمُوا على أَنفسكُم} أَي: ليسلم بَعْضكُم على بعض، وَهَذَا كَقَوْلِه: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} أَي: وَلَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا،(3/552)
{أَو أشتاتا فَإِذا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلمُوا على أَنفسكُم تَحِيَّة من عِنْد الله مباركة طيبَة كَذَلِك يبن الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تعقلون (61) } وَيُقَال معنى الْآيَة: إِذا دخل بَيته يسلم على أَهله، وَهِي سنة قد هجرت، قَالَ قَتَادَة " أهلك أَحَق أَن تسلم عَلَيْهِم. وَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ إِذا دخل بَيته وَنسي السَّلَام خرج ثمَّ رَجَعَ وَسلم. وَأما إِذا دخل بَيْتا خَالِيا، فَيَقُول: السَّلَام علينا من رَبنَا، وَإِذا دخل مَسْجِدا لَيْسَ فِيهِ أحد يَقُول: السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين، وَقد بَينا أَن السّنة إفشاء السَّلَام على من تعرف وَمن لَا تعرف، وَكَانَ ابْن عمر يسلم على النسوان كَمَا يسلم على الرِّجَال، وَقَالُوا: إِن كَانَت عجوزا فَلَا بَأْس بِهِ، وَإِن كَانَت شَابة فَلَا يسلم.
وَقَوله: {تَحِيَّة من عِنْد الله مباركة طيبَة} أَي: حَسَنَة جميلَة، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَيُقَال: ذكر الْبركَة وَالطّيب هَا هُنَا لما فِيهِ من الثَّوَاب، وَمن أهْدى سَلاما إِلَى إِنْسَان، فَهِيَ هَدِيَّة خَفِيفَة الْمحمل، طيبَة الرّيح، مباركة الْعَاقِبَة.
وَقَوله: {كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تعقلون} ظَاهر الْمَعْنى.(3/553)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله وَإِذا كَانُوا مَعَه على أَمر جَامع لم يذهبوا حَتَّى يستأذنوه} . هَذَا تَعْلِيم أدب من آدَاب الْإِسْلَام، وَالْأَمر الْجَامِع كل مَا يجمعوا الْمُسلمين، وَقد قيل: إِنَّه الْجِهَاد، وَيُقَال: هُوَ الْجُمُعَة العيدان، وَيُقَال: كل طَاعَة يجْتَمع عَلَيْهَا المسملون مَعَ الإِمَام.
وَفِي الْأَخْبَار: " أَن الرجل من الْمُسلمين كَانَ إِذا كَانَ مَعَ النَّبِي فِي أَمر، وَأَرَادَ الاسْتِئْذَان لحَاجَة لَهُ، قَامَ وَأَشَارَ إِلَى النَّبِي كَأَنَّهُ يسْتَأْذن، فيشير إِلَيْهِ النَّبِي أَذِنت لَك ". وَقد قَالُوا: إِنَّمَا يحْتَاج إِلَى الاسْتِئْذَان إِذا لم يكن هُنَاكَ سَبَب يمنعهُ من الْمقَام، فَأَما إِذا عرض سَبَب يمنعهُ من الْمقَام مثل امْرَأَة تكون فِي الْمَسْجِد فتحيض، أَو رجل يجنب، أَو عرض لَهُ مرض وَمَا أشبه، فَلَا يحْتَاج إِلَى الاسْتِئْذَان.(3/553)
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله وَإِذا كَانُوا مَعَه على أَمر جَامع لم يذهبوا حَتَّى يستأذنوه إِن الَّذين يَسْتَأْذِنُونَك أُولَئِكَ الَّذين يُؤمنُونَ بِاللَّه وَرَسُوله فَإِذا استأذنوك لبَعض شَأْنهمْ فَأذن لمن شِئْت مِنْهُم واستغفر لَهُم الله إِن الله غَفُور رَحِيم (62) لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم}
وَقَوله: {إِن الَّذين يستأذنوك أُولَئِكَ الَّذين يُؤمنُونَ بِاللَّه وَرَسُوله} رُوِيَ أَن عمر اسْتَأْذن رَسُول الله فِي غَزْوَة تَبُوك أَن يرجع إِلَى أَهله فَقَالَ: " ارْجع فلست بمنافق وَلَا مرتاب " يعرضه بالمنافقين، وَقيل: إِن هَذِه الْآيَة ناسخة لقَوْله تَعَالَى فِي سُورَة التوية: {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} .
وَقَوله: {فَإِذا استأذنوك لبَعض شَأْنهمْ} أَي: أَمرهم.
وَقَوله: {فَأذن لمن شِئْت مِنْهُم} مَعْنَاهُ: إِن شِئْت فَأذن، وَإِن شِئْت فَلَا تَأذن.
{واستغفر لَهُم الله إِن الله غَفُور رَحِيم} أَي: ادْع لَهُم إِذا طلبُوا الدُّعَاء مِنْك.(3/554)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
قَوْله تَعَالَى: {لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا} أَي: لَا تَقولُوا: يَا مُحَمَّد، يَا أَبَا الْقَاسِم، يَا ابْن عبد الله، وَلَكِن قُولُوا: يَا أَيهَا الرَّسُول، يَا أَيهَا النَّبِي، يَا رَسُول الله، وادعوه على التفخيم والتعظيم.
وَقَوله: {قد يعلم الله الَّذين يَتَسَلَّلُونَ} التسلل هُوَ الْخُرُوج على خُفْيَة، وَكَانَ المُنَافِقُونَ يَفْعَلُونَ هَكَذَا، وَكَانَ يشق عَلَيْهِم حُضُور الْمَسْجِد والمكث فِيهِ، وَسَمَاع خطْبَة النَّبِي، فَكَانَ [يسير] بَعضهم بِبَعْض وَيخرج من الْمَسْجِد.
وَقَوله: {لِوَاذًا} أَي: يلوذ بَعضهم بِبَعْض، وَقيل: (رحلا) .
وَقَوله: {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} أَي: أمره.
وَقَوله: {أَن تصيبهم فتْنَة} مَعْنَاهُ: لِئَلَّا تصيبهم فتْنَة أَي: بلية.
وَقَوله: {أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم} يُقَال: الْعَذَاب الْأَلِيم فِي الدُّنْيَا، وَيُقَال: فِي الْآخِرَة.(3/554)
{بَعْضًا قد يعلم الله الَّذين يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُم لِوَاذًا فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم (63) أَلا إِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض قد يعلم مَا أَنْتُم عَلَيْهِ وَيَوْم يرجعُونَ إِلَيْهِ فينبئهم بِمَا عمِلُوا وَالله بِكُل شَيْء عليم (64) }(3/555)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض قد يعلم مَا أَنْتُم عَلَيْهِ} أَي: يعلم، و " قد " صلَة.
وَقَوله: {وَيَوْم يرجعُونَ إِلَيْهِ} يَعْنِي: فِي الْآخِرَة.
وَقَوله: {فينبئهم بِمَا عمِلُوا} أَي: يُخْبِرهُمْ الله بِمَا عمِلُوا.
وَقَوله: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} أَي: عَالم. تمّ بِحَمْد الله تَعَالَى المجلد الثَّالِث من تَفْسِير أبي المظفر السَّمْعَانِيّ ويتلوه المجلد الرَّابِع إِن شَاءَ الله تَعَالَى وأوله تَفْسِير سُورَة الْفرْقَان(3/555)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{تبَارك الَّذِي نزل الْفرْقَان على عَبده ليَكُون للْعَالمين نذيرا الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلم يتَّخذ ولدا وَلم يكن لَهُ شريك فِي الْملك وَخلق كل شَيْء فقدره تَقْديرا} .
تَفْسِير سُورَة الْفرْقَان
وَهِي مَكِّيَّة، قَالَ الضَّحَّاك: هى مَدَنِيَّة.(4/5)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {تبَارك الَّذِي نزل الْفرْقَان على عَبده} وَقَرَأَ عبد الله بن الزبير: " على عباده " على الْجمع. قَوْله: {تبَارك} تفَاعل من الْبركَة , وَقيل: تبَارك أَي: جلّ بِمَا لم يزل وَلَا يزَال، وَقَالَ الْحسن: تبَارك صفة من صِفَات الله تَعَالَى؛ لِأَن كل بركَة تجئ مِنْهُ، وَقَالَ غَيره: لِأَنَّهُ يتبرك باسمه، وَأما الْبركَة فهى الْخَيْر وَالزِّيَادَة، وَقيل: فعل كل طَاعَة من الْعباد بركَة، والبروك هُوَ الثُّبُوت، وَيُقَال: فلَان مبارك أَي: ينزل الْخَيْر حَيْثُ ينزل.
وَقَوله: {الذى نزل الْفرْقَان} أَي: الْقُرْآن , وسمى الْقُرْآن فرقانا لمعنيين: احدهما: لِأَنَّهُ يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل، والأخر: أَن فِيهِ بَيَان الْحَلَال وَالْحرَام.
وَقَوله تَعَالَى: {على عَبده} أَي: مُحَمَّد.
وَقَوله: {ليَكُون للْعَالمين نذيرا} أَي: الْجِنّ والأنس، قَالَ أهل الْعلم: وَلم يبْعَث نَبِي إِلَى جَمِيع الْعَالمين غير نوح وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام.(4/5)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
قَوْله تَعَالَى: {الذى لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلم يتَّخذ ولدا} يعْنى: كَمَا قَالَه النَّصَارَى.
وَقَوله: {وَلم يكن لَهُ شريك فِي الْملك} أَي: كَمَا قَالَه عَبدة الْأَصْنَام وَغَيرهم.
وَقَوله: {وَخلق كل شَيْء} أَي: مِمَّا يصلح أَن يكون مخلوقا.
قَوْله: (فقدره تَقْديرا) أَي: سواهُ تَسْوِيَة على مايصلح لِلْأَمْرِ الذى أُرِيد لَهُ، وَيُقَال: بَين مقادير الْأَشْيَاء ومنافعها، وَمِقْدَار لبثها وَوقت فنائها.(4/5)
{وَاتَّخذُوا من دونه آلِهَة لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون وَلَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضرا وَلَا نفعا وَلَا يملكُونَ موتا وَلَا حَيَاة وَلَا نشورا وَقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا إفْك افتراه وأعانه عَلَيْهِ قوم آخَرُونَ فقد جَاءُوا ظلما وزورا وَقَالُوا أساطير الْأَوَّلين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بكرَة} .(4/6)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة} يعْنى: الْأَصْنَام.
وَقَوله: {لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: {وَلَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضرا وَلَا نفعا} أَي: دفع ضرا وجلب نفع، وَهَذَا يَقع فِي الْأَصْنَام الَّتِى عَبدهَا الْمُشْركُونَ.
وَقَوله: {وَلَا يملكُونَ موتا وَلَا حَيَاة} أَي: إماتة (وَلَا إحْيَاء) .
وَقَوله: {وَلَا نشورا} أَي: بعثا بعد الْمَوْت.(4/6)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا إفْك افتراه} أَي: كذب اختلقه.
وَقَوله: {وأعانه عَلَيْهِ قوم آخَرُونَ} يعْنى: جبر، ويسار، وعداس، و (أَبُو) فكيهة، وَهَؤُلَاء عبيد كَانُوا بِمَكَّة من أهل الْكتاب، وَكَانُوا يَجْلِسُونَ إِلَى النَّبِي يسمعُونَ مِنْهُ، فَزعم الْمُشْركُونَ أَن مُحَمَّدًا يَأْخُذ مِنْهُم.
وَقَوله: {فقد جَاءُوا ظلما وزورا} أَي: بظُلْم وزور، فَلَمَّا حذف الْبَاء انتصب.(4/6)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا أساطير الْأَوَّلين} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ النَّضر بن الْحَارِث من شياطين أهل الشّرك، وَكَانَ قد قدم الْحيرَة، وَقَرَأَ أَخْبَار مُلُوك الْفرس، (وَكَانَ يَقُول للْمُشْرِكين: (إِن الدّين يَقُول) مُحَمَّد أساطير الْأَوَّلين، وَأَنا أحدثكُم بِمثلِهِ، يعْنى من أَحَادِيث الْفرس) وَحَدِيث رستم واسفنديار، فالآية نزلت فِيهِ وفيمن قَالَ بقوله، مثل: عبد الله بن أَبى أُمِّيّه المخزومى وَغَيره.(4/6)
{وَأَصِيلا قل أنزلهُ الَّذِي يعلم السِّرّ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِنَّه كَانَ غَفُورًا رحِيما وَقَالُوا مالهذا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام وَيَمْشي فِي الْأَسْوَاق لَوْلَا أنزل إِلَيْهِ ملك فَيكون مَعَه نذيرا} .
وَقَوله: {اكتتبها} أَي: طلب أَن تكْتب لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يكْتب.
وَقَوله: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ} أَي: تقْرَأ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ لَا يكْتب حَتَّى تملى عَلَيْهِ ليكتب.
وَقَوله: {بكرَة وَأَصِيلا} أَي: غدْوَة وعشيا.(4/7)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
{قل أنزلهُ الَّذِي يعلم السِّرّ} أَي: الْغَيْب فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض (إِنَّه كَانَ غَفُورًا رحِيما) أَي: متجاوزا محسنا.(4/7)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام ويمشى فِي الْأَسْوَاق} قَالُوا هَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار، وَزَعَمُوا أَنه إِذا كَانَ مثلهم يَأْكُل الطَّعَام ويمشى فِي الْأَسْوَاق، فَلَا يجوز أَن يمتاز عَنْهُم بِالنُّبُوَّةِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: أَنْت لست بِملك وَلَا ملك؛ فلست بِملك لِأَنَّك تَأْكُل الطَّعَام، وَلست بِملك لِأَنَّك تتسوق وتتبذل، والملوك لَا يتسوقون وَلَا يتبذلون، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ كُله فَاسد؛ وَذَلِكَ لِأَن أكله الطَّعَام لَا ينافى النُّبُوَّة، وَلَا مَشْيه فِي الْأَسْوَاق، فَإِن أكله الطَّعَام يدل على أَنه آدمى مُحْتَاج، ومشيه فِي الْأَسْوَاق يدل على أَنه متواضع غير متكبر، وَأما اخْتِصَاصه بفضلة النُّبُوَّة من بَين النَّاس فَجَائِز؛ لِأَن الله تَعَالَى لم يسو بَين النَّاس، بل فَاضل بَينهم.
وَقَوله: {لَوْلَا أنزل إِلَيْهِ ملك} قَالُوا هَذَا لأَنهم زَعَمُوا أَن الرَّسُول إِن لم يكن ملكا، فَيَنْبَغِي أَن يكون لَهُ شريك من الْمَلَائِكَة، هَذَا أَيْضا فَاسد؛ لِأَنَّهُ مُجَرّد تحكم، وَيجوز أَن يتفرد الْآدَمِيّ بِالنُّبُوَّةِ وَلَا يكون مَعَه ملك، وَلِأَن يكون النَّبِي آدَمِيًّا أولى من أَن يكون ملكا؛ ليفهموا عَنهُ، ويستأنسوا بِهِ.
وَقَوله: {فَيكون مَعَه نذيرا} أَي: شَرِيكا.(4/7)
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
وَقَوله: {أَو يلقى إِلَيْهِ كنز} يعْنى: ينزل عَلَيْهِ كنز من السَّمَاء، أَو يظْهر لَهُ كنز(4/7)
{أَو يلقى إِلَيْهِ كنز أَو تكون لَهُ جنَّة يَأْكُل مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تتبعون إِلَّا رجلا مسحورا (8) أنظر كَيفَ ضربوا لَك الْأَمْثَال فضلوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (9) تبَارك الَّذِي إِن شَاءَ جعل لَك خيرا من ذَلِك جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار وَيجْعَل لَك قصورا (10) بل} فِي الأَرْض.
وَقَوله: {أَو تكون لَهُ جنَّة يَأْكُل مِنْهَا} قَالُوا: هلا جعل الله لَك بستانا تعيش بِهِ، أوكنزا يَدْفَعهُ إِلَيْك،: فتستغني بِهِ عَن التعيش والتكسب والتبذل فِي الْأُمُور، وَهَذَا أَيْضا فَاسد؛ لِأَن كَسبه وتعيشه لم يكن منافيا نبوته.
وَقَوله: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تتبعون إِلَّا رجلا مسحورا} أَي: مخدوعا، وَقيل مصروفا عَن الْحق، وَقيل: مُعَللا بِالطَّعَامِ وَالشرَاب.(4/8)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
قَوْله تَعَالَى: {انْظُر كَيفَ ضربوا لَك الْأَمْثَال} أَي: شبهوا لَك الْأَشْبَاه، والأشباه الَّتِي ذكروها، قَوْلهم: إِنَّه مخدوع، وَقَوْلهمْ: إِنَّه مُحْتَاج مَتْرُوك فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلهمْ: إِنَّه نَاقص فِي التَّدْبِير وَالْقِيَام بأَمْره.
وَقَوله: {فضلوا} أَي: أخطئوا وَيُقَال: تناقضوا، فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ مرّة: هُوَ مفتر أَي: قَالَه من قبل نَفسه، وَمرَّة يَقُولُونَ: إِنَّه تعلمه من غَيره.
وَقَوله: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} أَي: طَرِيق الْحق، وَقيل: طَاعَة الله.(4/8)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
وَقَوله تَعَالَى: {تبَارك الَّذِي إِن شَاءَ جعل لَك خيرا من ذَلِك} أَي: خيرا مِمَّا طلبوه لَك.
وَقَوله: {جنَّات تجرى من تحتهَا الْأَنْهَار} أَي: بساتين تجرى من تَحت أشجارها الْأَنْهَار.
وَقَوله: {وَيجْعَل لَك قصورا} أَي: بُيُوتًا مشيدة، وَالْعرب تسمى كل بَيت مشيد(4/8)
{كذبُوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11) إِذا رأتهم من مَكَان بعيد سمعُوا لَهَا} .
قصرا، وروى حبيب بن أَبى ثَابت عَن خَيْثَمَة " أَن الله تَعَالَى عرض مَفَاتِيح خَزَائِن الأَرْض على مُحَمَّد فَلم يخترها "، وفى بعض الْأَخْبَار: " عرض على بطحاء مَكَّة ذَهَبا فاخترت أَن أكون عبدا نَبيا ".(4/9)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)
قَوْله تَعَالَى: {بل كذبُوا بالساعة} أَي: بالقيامة.
وَقَوله: {وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا} أَي: نَارا مستعرة، والمستعرة المتوقدة.(4/9)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا رأتهم من مَكَان بعيد} الْآيَة. روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من تَقول على مَا لم أقل فَإِنَّهُ يَوْم الْقِيَامَة بَين عَيْني جَهَنَّم، فَقيل لَهُ: ولجهنم عينان؟ قَالَ: نعم، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِذا رأتهم من مَكَان بعيد} .
وَقَالَ بَعضهم: إِذا رأتهم أَي: رَأَتْ زبانيتها إيَّاهُم.(4/9)
{تغيظا وزفيرا (12) وَإِذا ألقوا مِنْهَا مَكَانا ضيقا مُقرنين دعوا هُنَالك ثبورا (13) لَا تدعوا}
وَقَوله: {سمعُوا لَهَا تغيظا} فَإِن قيل: كَيفَ يسمع التغيظ، إِنَّمَا يعلم التغيظ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قُلْنَا مَعْنَاهُ: سمعُوا غليان التغيظ، (وَقَبله) : سمعُوا لَهَا زفيرا أَي: علمُوا لَهَا تغيظا، قَالَ الشَّاعِر:
(رَأَيْت زَوجك فِي الوغى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا)
أَي: مُتَقَلِّدًا سَيْفا وحاملا رمحا، وَقَالَ آخر:
(علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا ... )
أَي: علفتها تبنا وسقيتها مَاء بَارِدًا. وَقد ذكرنَا معنى الزَّفِير، وَعَن عبيد بن عُمَيْر أَنه قَالَ: تزفر جَهَنَّم يَوْم الْقِيَامَة زفرَة، فَلَا يبْقى ملك وَلَا نَبِي مُرْسل إِلَّا خر بِوَجْهِهِ، حَتَّى إِن إِبْرَاهِيم يجثو على رُكْبَتَيْهِ، وَيَقُول: نَفسِي نَفسِي، وَلَا أُرِيد غَيرهَا.
وَقَوله: {من مَكَان بعيد} قيل فِي بعض التفاسير: من مسيرَة مائَة سنة.(4/10)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا ألقوا مِنْهَا مَكَانا ضيقا مُقرنين} يُقَال: تضيق الزج فِي الرمْح.
وَقَوله: {مُقرنين} أَي: مصفدين، وَقيل: مغللين، كَأَنَّهُ غلل أَيْديهم إِلَى أَعْنَاقهم، وقرنوا مَعَ الشَّيَاطِين، وَقد بَينا أَن كل كَافِر يقرن مَعَ شَيْطَان فِي سلسلة.
وَقَوله: {دعوا هُنَالك ثبورا} أَي: هَلَاكًا، وَهُوَ قَوْلهم: وأهلاكاه، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أول من يكسى حلَّة من نَار إِبْلِيس، فيسحبها إِلَى جَهَنَّم، ويتبعه ذُريَّته.(4/10)
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
وَقَوله: {لَا تدعوا الْيَوْم ثبورا وَاحِدًا وَادعوا ثبورا كثيرا} أَي: لَيْسَ هَذَا مَوضِع دُعَاء وَاحِد بِالْهَلَاكِ، بل هُوَ مَوضِع أدعية كَثِيرَة، قَالَ الشَّاعِر:
(إِذْ أجارى الشَّيْطَان فِي سنَن الغي ... وَمن مَال ميله مثبور)
أَي: هَالك.(4/10)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
قَوْله: {قل أذلك خير أم جنَّة الْخلد الَّتِي وعد المتقون} فَإِن قيل: لَيْسَ فِي: جَهَنَّم(4/10)
{الْيَوْم ثبورا وَاحِدًا وَادعوا ثبورا كثيرا (14) قل أذلك خيرا أم جنَّة الْخلد الَّتِي وعد المتقون كَانَت لَهُم جَزَاء ومصيرا (15) لَهُم فِيهَا مَا يشاءون خَالِدين كَانَ على رَبك وَعدا مسئولا (16) وَيَوْم يحشرهم وَمَا يعْبدُونَ من دون الله فَيَقُول أأنتم أضللتم عبَادي هَؤُلَاءِ أم هم ضلوا} .
خير، أصلا، فَكيف يَسْتَقِيم قَوْله: {أذلك خير أم جنَّة الْخلد} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قُلْنَا: الْعَرَب قد تذكر مثل هَذَا، وَإِن لم يكن فِي أَحدهمَا خير أصلا، يُقَال: الرُّجُوع إِلَى الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: إِنَّمَا ذكر لفظ " الْخَيْر " هَاهُنَا لِاسْتِوَاء المكانين فِي الْمنزل، على معنى أَنَّهُمَا منزلان ينزل فيهمَا الْخلق، فاستقام أَن يُقَال: هَذَا الْمنزل خير من ذَلِك الْمنزل لوُجُود الاسْتوَاء فِي صفة.
وَقَوله: {كَانَت لَهُم جَزَاء ومصيرا} أَي: مجازاة ومرجعا.(4/11)
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
قَوْله تَعَالَى: {لَهُم فِيهَا مَا يشاءون خَالِدين} أَي: مقيمين.
وَقَوله: {كَانَ على رَبك وَعدا مسئولا} أَي: مَطْلُوبا، وَهُوَ طلب الْمُؤمنِينَ فِي قَوْله: {رَبنَا وآتنا مَا وعدتنا على رسلك} أَي: على أَلْسِنَة رسلك، وَيُقَال: الطّلب من الْمَلَائِكَة للْمُؤْمِنين، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا وأدخلهم جنَّات عدن الَّتِي وعدتهم} الْآيَة.(4/11)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
وَقَوله تَعَالَى: {وَيَوْم يحشرهم وَمَا يعْبدُونَ من دون الله} أَي: الْمَلَائِكَة، وَقيل: عِيسَى وعزيزا عَلَيْهِمَا السَّلَام.
وَقَوله: {فَيَقُول} أَي: يَقُول الله: {أأنتم أضللتم عبَادي هَؤُلَاءِ أم هم ضلوا السَّبِيل} أَي: هم أخطأوا الطَّرِيق.(4/11)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لنا أَن نتَّخذ من دُونك من أَوْلِيَاء} أَي: مَا كَانَ لنا أَن نأمرهم بعبادتنا وَنحن نعبدك، وَيُقَال: من اتخذ عَدو غَيره وليا فقد اتخذ من دونه وليا.(4/11)
{السَّبِيل (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لنا أَن نتَّخذ من دُونك من أَوْلِيَاء وَلَكِن متعتهم وآباءهم حَتَّى نسوا الذّكر وَكَانُوا قوما بورا (18) فقد كذبوكم بِمَا تَقولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ}
وَقَوله: {وَلَكِن متعتهم وآباءهم} أَي: بِكَثْرَة الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد، وَيُقَال: بطول الْعُمر، وَيُقَال: بنيل المُرَاد.
وَقَوله: {حَتَّى نسوا الذّكر} أَي: نسوا ذكرك وغفلوا عَنْك، وَيُقَال: تركُوا الْحق الَّذِي أنزلت. وَقَوله: {وَكَانُوا قوما بورا} أَي: هلكى، يُقَال: رجل بائر أَي: هَالك، وسلعة بائرة أَي: كاسدة، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي كَانَ يتَعَوَّذ من بوار [الأيم]
قَالَ الشَّاعِر وَهُوَ ابْن الزِّبَعْرَى:
(يَا رَسُول المليك إِن لساني ... راتق مَا فتقت إِذْ أَنا بور)
أَي: هَالك(4/12)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
قَوْله تَعَالَى: {فقد كذبوكم بِمَا تَقولُونَ} هَذَا خطاب مَعَ الْمُشْركين، فَإِنَّهُم كَانُوا يَزْعمُونَ أَن الْمَلَائِكَة وَعِيسَى وعزيزا دعوهم إِلَى عِبَادَتهم.
وَقَوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صرفا وَلَا نصرا} أَي: صرف الْعَذَاب عَن أنفسهم، وَقيل: صرفك عَن الْحق.
وَقَوله: {وَلَا نصرا} أَي: لَا يستطعيون منع الْعَذَاب عَن أنفسهم.
وَقَوله: {وَمن يظلم مِنْكُم نذقه عذَابا كَبِيرا} أَي: عَظِيما.(4/12)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا قبلك من الْمُرْسلين إِلَّا إِنَّهُم ليأكلون الطَّعَام ويمشون فِي الْأَسْوَاق} . فِي الْآيَة جَوَاب عَن قَوْلهم: مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام ويمشى فِي(4/12)
{صرفا وَلَا نصرا وَمن يظلم مِنْكُم نذقه عذَابا كَبِيرا (19) وَمَا أرسلنَا قبلك من الْمُرْسلين إِلَّا إِنَّهُم ليأكلون الطَّعَام ويمشون فِي الْأَسْوَاق وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبك} . الْأَسْوَاق؟ وَهَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {قل مَا كنت بدعا من الرُّسُل} إِن أَنا [إِلَّا] رَسُول مثل سَائِر الرُّسُل، فَإِذا جَازَ أَن يكون سَائِر الرُّسُل آدميين، فَيجوز أَن أكون آدَمِيًّا رَسُولا.
وَقَوله: {وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة} . فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن معنى {فتْنَة} للْفَقِير، فَيَقُول الْفَقِير: مَالِي لم أكن غَنِيا مثله؟ وَالصَّحِيح فتْنَة للْمَرِيض، فَيَقُول: مَالِي لم أكن صَحِيحا؟ وَمثل الشريف فتْنَة للوضيع، فَيَقُول: مَالِي لم أكن شريفا مثله؟ .
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة نزلت فِي رُءُوس الْمُشْركين مَعَ فُقَرَاء الْمُؤمنِينَ، وفقراء الْمُؤمنِينَ مثل: عمار، وَابْن مَسْعُود، وبلال، وصهيب، وخباب، وسلمان وَغَيرهم، وَكَانَ الْمُشرك إِذا أَرَادَ أَن يسلم، فكر فِي نَفسه، فَيَقُول: هَذَا دين سبقني إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الأرذال، فَلَا أكون تبعا لَهُم، فَيمْتَنع من الْإِسْلَام.
وَقَوله: {أَتَصْبِرُونَ} أَي: فَاصْبِرُوا.
وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " فَإِن فِي الصَّبْر على مَا تكره خيرا كثيرا "، وَهُوَ خبر طَوِيل.
وَيُقَال إِن معنى الْآيَة: أَتَصْبِرُونَ أَو لَا تصبرون؟ وَعَن بَعضهم أَنه رأى بعض الْأَغْنِيَاء وَقد مر عَلَيْهِ فِي موكبه، فَوقف وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة أَتَصْبِرُونَ} ثمَّ قَالَ: بلَى نصبر رَبنَا، بلَى نصبر رَبنَا، بلَى نصبر رَبنَا، ثَلَاث مَرَّات. وَأورد بَعضهم هَذِه الْحِكَايَة للمزني مَعَ الرّبيع بن سُلَيْمَان الْمرَادِي، وَعَن دَاوُد الطَّائِي أَنه(4/13)
{بَصيرًا وَقَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا لَوْلَا أنزل علينا الْمَلَائِكَة أَو نرى رَبنَا لقد استكبروا فِي أنفسهم وعتوا عتوا كَبِيرا} مر عَلَيْهِ حميد الطوسي فِي موكبه، وَدَاوُد فِي أطمار لَهُ، فَقَالَ لنَفسِهِ: أتطلبين دنيا سَبَقَك بهَا حميد؟ . وروى أَن رجلا مر على الْحسن الْبَصْرِيّ، وَهُوَ فِي هَيْئَة حَسَنَة، وسيادة عَظِيمَة من الدُّنْيَا، فَسَأَلَ من هَذَا؟ فَقيل: هَذَا صِرَاط الْحجَّاج، فَقَالَ: هَذَا الَّذِي أَخذ الدُّنْيَا بِحَقِّهَا.
وَقَوله: {وَكَانَ رَبك بَصيرًا} أَي: بَصيرًا بأعمالكم.(4/14)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا} أَي: لَا يخَافُونَ لقاءنا، قَالَ الْفراء: والرجاء بِمَعْنى الْخَوْف لُغَة تهامية، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {مالكم لَا ترجون لله وقارا} أَي: لاتخافون لله عَظمَة. قَالَ الشَّاعِر:
(لَا ترتجي حِين تلاقى الذائذا ... أسبعة لاقت مَعًا أم وَاحِدًا)
أَي: لَا تخَاف.
وَقَوله: {لَوْلَا أنزل علينا الْمَلَائِكَة أَو نرى رَبنَا} " مَعْنَاهُ: هلا أنزل علينا الْمَلَائِكَة أَو نرى رَبنَا ".
وَقَوله: {لقد استكبروا فِي أنفسهم} أَي: تعظموا فِي أنفسهم، واستكبارهم هُوَ أَنهم امْتَنعُوا عَن الْإِيمَان، وطلبوا آيَة لم تطلبها أمة قبلهم.
وَقَوله: {وعتوا عتوا كَبِيرا} . أَي: علو علوا عَظِيما، والعتو هُوَ الْمُجَاوزَة فِي الظُّلم إِلَى أبلغ حَده، وعتوهم هَاهُنَا طَلَبهمْ رُؤْيَة الله حَتَّى يُؤمنُوا.(4/14)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم يرَوْنَ الْمَلَائِكَة} وَيَوْم رُؤْيَة الْمَلَائِكَة هُوَ يَوْم الْقِيَامَة.
{يَوْم يرَوْنَ الْمَلَائِكَة لَا بشرى يَوْمئِذٍ للمجرمين وَيَقُولُونَ حجرا مَحْجُورا (22) وَقدمنَا إِلَى مَا عمِلُوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (23) أَصْحَاب الْجنَّة يَوْمئِذٍ خير مُسْتَقرًّا وَأحسن مقيلا}(4/14)
وَقَوله: {لَا بشرى يَوْمئِذٍ للمجرمين} إِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَن الْمَلَائِكَة يبشرون الْمُؤمنِينَ يَوْم الْقِيَامَة، فيطلب ظنا مِنْهُم أَنهم كَانُوا على الْحق، فَيَقُولُونَ: لَا بشرى لكم هَكَذَا قَالَ عَطِيَّة، وَقَالَ بَعضهم: معنى الْآيَة: أَنه لَا بشرى للمجرمين حِين تُوجد الْبُشْرَى للْمُؤْمِنين.
وَقَوله: {وَيَقُولُونَ حجرا مَحْجُورا} أَي: حَرَامًا محرما، قَالَ ابْن عَبَّاس: حرَام محرم الْجنَّة على من لم يقل لَا إِلَه إِلَّا الله، قَالَ الشَّاعِر:
(حنت إِلَى النَّخْلَة القصوى فَقلت لَهَا ... حجر حرَام أَلا إِلَى تِلْكَ الدهاريس)
وَيُقَال معنى الْآيَة: يحرم دُخُول الْجنَّة على الْكَافِر حِين يُطلق دُخُولهَا للْمُؤْمِنين.(4/15)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
قَوْله تَعَالَى: {وَقدمنَا إِلَى مَا عمِلُوا من عمل} . أَي: عمدنا إِلَى مَا عمِلُوا من عمل.
وَقَوله: {فجعلناه هباء منثورا} قَالَ على - رضى الله عَنهُ -: الهباء المنثور هُوَ مَا يرى فِي الكوة إِذا وَقع شُعَاع الشَّمْس فِيهَا. وَقَالَ غَيره: الهباء المنثور هُوَ مَا يسطع من سنابك الْخَيل عِنْد شدَّة السّير.
وَعَن يعلى بن عبيد قَالَ: هُوَ الرماد، وَفرق بَعضهم بَين الهباء المنثور وَبَين الهباء المنبث، فَقَالَ: الهباء المنثور مَا يرى فِي الكوة، والهباء المنبث مَا يطيره الرِّيَاح من سنابك الْخَيل.(4/15)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
قَوْله تَعَالَى: {أَصْحَاب الْجنَّة يَوْمئِذٍ خير مُسْتَقرًّا وَأحسن مقيلا} فَإِن قيل: كَيفَ يكون فِي الْجنَّة مقيل، وَفِي النَّار مقيل وليسا بِموضع النّوم؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالَ الْأَزْهَرِي: المقيل مَوضِع الاسْتِرَاحَة نَام أَو لم ينم، وَفِي الْمَأْثُور عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: لَا ينتصف يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يقيل أهل الْجنَّة فِي الْجنَّة، وَأهل النَّار فِي النَّار. فَذكر القيلولة لِأَن نصف النَّهَار وَقت القيلولة، وَمَعْنَاهُ: النُّزُول هَاهُنَا، وَهُوَ أَنه ينزل كلا الْفَرِيقَيْنِ فِي مَنَازِلهمْ، وَقد روى أَن الله تَعَالَى يقصر الْيَوْم على الْمُؤمنِينَ حَتَّى يردهُ كَأَنَّهُ من صَلَاة إِلَى صَلَاة.(4/15)
{وَيَوْم تشقق السَّمَاء بالغمام وَنزل الْمَلَائِكَة تَنْزِيلا (25) الْملك يَوْمئِذٍ الْحق للرحمن وَكَانَ يَوْمًا على الْكَافرين عسيرا (26) }(4/16)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم تشقق السَّمَاء بالغمام} قَالَ قَتَادَة: على الْغَمَام، يُقَال: جَاءَ فلَان بدابته أَي: على دَابَّته.
وَالْأَكْثَرُونَ على أَن السَّمَاء تَنْشَق على غمام أَبيض ينزل فِيهِ الْمَلَائِكَة، وروى أَن السَّمَاء الدُّنْيَا تَنْشَق، فَينزل من الْخلق عَنْهَا أَكثر من عدد الْجِنّ وَالْإِنْس، ثمَّ تَنْشَق السَّمَاء الثَّانِيَة، فَينزل من الْخلق عَنْهَا أَكثر من خلق سَمَاء الدُّنْيَا وَمن الْجِنّ وَالْإِنْس، وَهَكَذَا فِي السَّمَاء الثَّالِثَة، وَالرَّابِعَة إِلَى السَّابِعَة، ثمَّ ينزل الكروبيون، ثمَّ ينزل حَملَة الْعَرْش، وَقد بَينا من قبل قَوْله: {فَهَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} .
وَقَوله: {وَنزل الْمَلَائِكَة تَنْزِيلا} أَي: وَأنزل الْمَلَائِكَة تَنْزِيلا.(4/16)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
قَوْله تَعَالَى: {الْملك يَوْمئِذٍ الْحق للرحمن} مَعْنَاهُ: الْملك الْحق يَوْمئِذٍ للرحمن.
{وَكَانَ يَوْمًا على الْكَافرين عسيرا} أى: شَدِيدا، وَمن شدته أَن الله يطول عَلَيْهِم ذَلِك الْيَوْم كَمَا يقصره على الْمُؤمنِينَ على مَا بَينا.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن جَهَنَّم تَفُور يَوْم الْقِيَامَة، فيتبدد النَّاس ويتفرقون، فَكلما وصلوا إِلَى قطر من الأقطار، وجدوا سَبْعَة من صُفُوف الْمَلَائِكَة أدخلُوا أجنحتهم بَعضهم فِي بعض، ثمَّ قَرَأَ: {وَكَانَ يَوْمًا على الْكَافرين عسيرا} .(4/16)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
وَقَوله: {وَيَوْم يعَض الظَّالِم على يَدَيْهِ} . الظَّالِم هَاهُنَا هُوَ عقبَة بن أبي معيطكان قد هم بِإِجْمَاع أهل التَّفْسِير، وَسبب نزُول الْآيَة: {أَن عقبَة بن أَبى معيط كَانَ قد هم بِالْإِسْلَامِ، وروى أَنه اتخذ دَعْوَة ودعا النَّبِي، فَقَالَ: لَا آكل حَتَّى تشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، فَشهد عقبَة، وَكَانَ عقبَة صديقا لأمية بن خلف، فَقَالَ لَهُ(4/16)
{وَيَوْم يعَض الظَّالِم على يَدَيْهِ يَقُول يَا لَيْتَني اتَّخذت مَعَ الرَّسُول سيبلا (27) يَا ويلتى لَيْتَني لم أَتَّخِذ فلَانا خَلِيلًا (28) لقد أضلني عَن الذّكر بعد إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَان للْإنْسَان خذولاً أُميَّة: أَصَبَوْت يَا عقبَة؟ وَجْهي من وَجهك حرَام إِن لم ترجع، فَقَالَ: إِنَّمَا قلت مَا قلت ليَأْكُل من طَعَامي، وَأَنا على ديني الأول. وروى أَنه قَالَ: لَا أُكَلِّمك أبدا حَتَّى تَجِيء فتتفل فِي وَجه مُحَمَّد، فجَاء فَفعل، وروى أَن التفلة رجعت إِلَى وَجهه - لعنة - الله ? (وَفِي رِوَايَة قَالَ: " لَو كنت خَارج الْحرم لضَرَبْت عُنُقك " فَضَحِك الْكَافِر، وَأسر يَوْم بدر} أورد النقاش ذَلِك، فَفِيهِ نزلت هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {يعَض الظَّالِم على يَدَيْهِ} أَي: يَأْكُل يَدَيْهِ ندما، وَفِي بعض التفاسير: أَنه يَأْكُل يَدَيْهِ حَتَّى يبلغ مرفقيه، ثمَّ تنْبت ثمَّ يَأْكُل، ثمَّ تنْبت هَكَذَا.
فَقَوله: {يَا لَيْتَني اتَّخذت مَعَ الرَّسُول سَبِيلا} أَي: أخذت طَرِيقه.(4/17)
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)
وَقَوله: {يَا ويلتي لَيْتَني لم أَتَّخِذ فلَانا خَلِيلًا} . أَي: أُميَّة بن خلف، وَقيل: الشَّيْطَان، وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف.(4/17)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
قَول تَعَالَى: {لقد أضلني عَن الذّكر بعد إِذْ جَاءَنِي} أَي: عَن الْهدى بعد إِذْ جَاءَنِي، وَقيل: عَن الْقُرْآن.
وَقَوله: {وَكَانَ الشَّيْطَان للْإنْسَان خذولا} أَي: تَارِكًا، وَمن الْمَعْرُوف فِي الْمَغَازِي أَن عقبَة بن أبي معيط أسر يَوْم بدر، فَقتله النَّبِي صبرا، فَقَالَ: أأقتل من بَين هَؤُلَاءِ يَا مُحَمَّد؟ قَالَ: نعم، قَالَ: من للصبية؟ قَالَ: النَّار ". وَاخْتلفُوا فِي قَاتله، فَقَالَ بَعضهم: تولى قَتله عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَقَالَ بَعضهم: عَاصِم بن أبي الْأَفْلَح حمى الدبر، وَلم يقتل من الأسراء يَوْم بدر غير عقبَة وَالنضْر بن الْحَارِث.(4/17)
( {29) وَقَالَ الرَّسُول يَا رب إِن قومِي اتَّخذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جعلنَا لكل نَبِي عدوا من الْمُجْرمين وَكفى بِرَبِّك هاديا ونصيرا (31) وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ(4/18)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
قَول تَعَالَى: {وَقَالَ الرَّسُول يَا رب إِن قومِي اتَّخذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا} أَي: متروكا، وَيُقَال: جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَة الهجر أَي: الهذيان.(4/18)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جعلنَا} هَذِه الْآيَة أنزلت تَعْزِيَة للنَّبِي وَتَسْمِيَة لَهُ.
وَقَوله: {لكل نَبِي عدوا من الْمُجْرمين} أَي: أَعدَاء من الْمُجْرمين، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَنه أَبُو جهل خَاصَّة، وَهُوَ أَبُو الحكم عَمْرو بن هِشَام بن الْمُغيرَة عَلَيْهِ لعنة الله.
وَقَوله: {وَكفى بِرَبِّك هاديا ونصيرا} ظَاهر الْمَعْنى.(4/18)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ الْقُرْآن جملَة وَاحِدَة} أَي: كَمَا أنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل على مُوسَى وَعِيسَى.
وَقَوله: {كَذَلِك لنثبت بِهِ فُؤَادك} أَي: أَنزَلْنَاهُ مفرقا كَالَّذي أنزلنَا لنثبت بِهِ فُؤَادك أَي: لنقوي بِهِ فُؤَادك، وَقيل: لتزداد بَصِيرَة فِي فُؤَادك، كَأَنَّهُ كلما نزل جِبْرِيل بِالْوَحْي ازْدَادَ هُوَ بَصِيرَة وَقُوَّة، وَقد أنزل الله تَعَالَى الْقُرْآن فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة، فحين أكمل الله تَعَالَى مَا أَرَادَ إنزاله عَلَيْهِ من الْوَحْي أَدْرَكته الْوَفَاة.
وَقَوله: {ورتلناه ترتيلا} . أَي: فصلناه تَفْصِيلًا، وَقيل: بَيناهُ تبيينا.
والقرآءة على الترتيل سنة، وَيكرهُ أَن يقْرَأ كحدو الشّعْر ونثر الدقل.(4/18)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يأتونك بِمثل} أَي: بِمَعْنى يدْفَعُونَ مَا أَنْت عَلَيْهِ بعثناك بِهِ، إِلَّا جئْنَاك بِالْحَقِّ أَي: جئْنَاك بِمَا يَدْفَعهُ ويبطله، فَسمى مَا يوردون من الشّبَه مثلا، وَسمي مَا يدْفع الشّبَه حَقًا أعطَاهُ إِيَّاه.
وَقَوله: {وَأحسن تَفْسِيرا} التَّفْسِير تفعيل من الفسر، والفسر: كشف مَا قد غطى.(4/18)
{الْقُرْآن جملَة وَاحِدَة كَذَلِك لنثبت بِهِ فُؤَادك ورتلناه ترتيلا (32) وَلَا يأتونك بِمثل إِلَّا جئْنَاك بِالْحَقِّ وَأحسن تَفْسِيرا (33) الَّذين يحشرون على وُجُوههم إِلَى جَهَنَّم أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا(4/19)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يحشرون على وُجُوههم إِلَى جَهَنَّم} فِي الْأَخْبَار: أَن النَّاس يحشرون ثَلَاثَة أَصْنَاف: صنف ركبانا، وصنف مشَاة، وصنف على وُجُوههم ".
وَقد ثَبت الْخَبَر عَن النَّبِي بِرِوَايَة شَيبَان، عَن قَتَادَة، عَن أنس أَن رَسُول الله قيل لَهُ: كَيفَ يحْشر النَّاس على وُجُوههم؟ فَقَالَ: " إِن الَّذِي أَمْشَاهُم على أَرجُلهم قَادِرًا على أَن يُمشيهمْ على وُجُوههم ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، أخبرنَا جدي، أخبرنَا الفربرى، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا عبد الله بن مُحَمَّد المسندي، عَن يُونُس بن مُحَمَّد، عَن شَيبَان ... الْخَبَر.
وَقَوله: {أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا} أَي: شَرّ مكانة ومنزلة.
وَقَوله: {وأضل سَبِيلا} أَي: أَخطَأ طَرِيقا.(4/19)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب وَجَعَلنَا مَعَه أَخَاهُ هَارُون وزيرا} أَي: ناصرا ومعينا.(4/19)
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
قَوْله تَعَالَى: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا} وَهُوَ القبط.
وَقَوله: {فدمرناهم تدميرا} أَي: أهلكناهم إهلاكا.(4/19)
{وأضل سَبِيلا (34) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب وَجَعَلنَا مَعَه أَخَاهُ هَارُون وزيرا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا فدمرناهم تدميرا (36) وَقوم نوح لما كذبُوا الرُّسُل أغرقناهم وجعلناهم للنَّاس آيَة وأعتدنا للظالمين عذَابا أَلِيمًا (37) وعادا وَثَمُود وَأَصْحَاب الرس وقرونا(4/20)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
قَوْله تَعَالَى: {وَقوم نوح لما كذبُوا الرُّسُل} أَي: الرَّسُول، جمع بِمَعْنى الْوَاحِد، وَيُقَال: من كذب رَسُولا وَاحِدًا فقد كذب جَمِيع الرُّسُل؛ فَلهَذَا قَالَ: {كذبُوا الرُّسُل} .
وَقَوله: {أغرقناهم وجعلناهم للنَّاس آيَة} . نزل المَاء من السَّمَاء أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ونبع من الأَرْض أَرْبَعِينَ يَوْمًا، حَتَّى صَارَت الدُّنْيَا كلهَا بحرا.
وَقَوله: (وأعتدنا للظالمين عذَابا أَلِيمًا) أَي: مؤلما.(4/20)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
قَوْله تَعَالَى: {وعاداً وَثَمُود} أى: وأهلكنا عاداً وَثَمُود.
وَقَوله: {وَأَصْحَاب الرس} . الْأَكْثَرُونَ على أَن الرس بِئْر، فروى أَنه لما جَاءَهُم نَبِيّهم جَعَلُوهُ فِي الْبِئْر، وألقوا عَلَيْهِ مَا أهلكه.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: بعث الله إِلَيْهِم نَبيا فطبخوه وأكلوه.
وَعَن ابْن عَبَّاس فِي بعض الرِّوَايَات: أَن أَصْحَاب الرس هم قوم حبيب النجار، ألقوه فِي الْبِئْر حَتَّى هلك، وَهُوَ بأنطاكية.
وَقَوله: {وقرونا بَين ذَلِك كثيرا} قد بَينا معنى الْقُرُون من قبل، وروى عَن الرّبيع ابْن خثيم أَنه مرض، فَقيل لَهُ: أَلا ندعوا لَك طَبِيبا؟ فَقَالَ: أنظروني، ثمَّ تفكر فِي نَفسه، ثمَّ قَالَ: قَالَ الله تَعَالَى: {وعادا وَثَمُود وَأَصْحَاب الرس وقرونا بَين ذَلِك كثيرا} قد كَانَ فيهم مرضى وأطباء، فَمَا بقى المداوي وَلَا المداوي، وَلَا الْمَرِيض وَلَا الطَّبِيب، وَلَا أُرِيد أَن تدعوا لي طَبِيبا.(4/20)
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
قَوْله تَعَالَى: {وكلا ضربنا لَهُ الْأَمْثَال} أَي: الْأَشْبَاه.
{وكلا تبرنا تتبيرا} أَي: دمرنا تدميرا، وَقيل: أهلكنا إهلاكا.(4/20)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أَتَوا على الْقرْيَة الَّتِي أمْطرت مطر السوء} يُقَال: هَؤُلَاءِ قريات(4/20)
{بَين ذَلِك كثيرا (38) وكلا ضربنا لَهُ الْأَمْثَال وكلا تبرنا تتبيرا (39) وَلَقَد أَتَوا على الْقرْيَة الَّتِي أمْطرت مطر السوء أفلم يَكُونُوا يرونها بل كَانُوا لَا يرجون نشورا (40) وَإِذا رأوك إِن يتخذونك إِلَّا هزوا أَهَذا الَّذِي بعث الله رَسُولا (41) إِن كَاد ليضلنا عَن آلِهَتنَا لَوْلَا أَن صَبرنَا عَلَيْهَا وسوف يعلمُونَ حِين يرَوْنَ الْعَذَاب من أضلّ سَبِيلا (42) أَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ أفأنت تكون عَلَيْهِ وَكيلا (43) } لوط، وَيُقَال: كَانَ الْحجر ينزل على قدر قامة الْإِنْسَان فَيَقَع عَلَيْهِ، فيدمغه ويهلكه.
وَقَوله: {أفلم يَكُونُوا يرونها} ذكر هَذَا لِأَن مَدَائِن لوط كَانَت على طريقهم عِنْد ممرهم إِلَى الشَّام ورجوعهم مِنْهَا.
وَقَوله: {بل كَانُوا لَا يرجون نشورا} أَي: لَا يخَافُونَ نشورا، وَيُقَال: يرجون على حَقِيقَته أَي: لَا يرجون الْمصير إِلَى الله تَعَالَى.(4/21)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)
{وَإِذا رأوك إِن يتخذونك} أَي: مَا يتخذونك) {إِلَّا هزوا} .
وَقَوله: {أَهَذا الَّذِي بعث الله رَسُولا} قَالُوا هَذَا على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء.(4/21)
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
قَوْله: {إِن كَاد ليضلنا عَن آلِهَتنَا} أَي: قد قَارب أَن يضلنا عَن آلِهَتنَا.
قَالَ الشَّاعِر:
(هَمَمْت وَلم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عُثْمَان تبْكي حلائله)
وَقَوله: {لَوْلَا أَن صَبرنَا عَلَيْهَا} أَي: لَو لم نصبر عَلَيْهَا لأضلنا عَنْهَا.
وَقَوله: {فَسَوف يعلمُونَ حِين يرَوْنَ الْعَذَاب من أضلّ سَبِيلا} أَي: أَخطَأ سَبِيلا.(4/21)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
قَالَه تَعَالَى: {أَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ} قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ من اتخاذهم أهواءهم آلِهَتهم أَن الْوَاحِد مِنْهُم كَانَ يعبد الْحجر، فَإِذا رأى حجرا أحسن مِنْهُ طرح الأول، وَأخذ الثَّانِي وَعَبده.
وَقَوله: {أفأنت تكون عَلَيْهِ وَكيلا} . أَي: حَافِظًا، وَقيل: كَفِيلا.
وَفِي بعض الْآثَار: مَا من معبود فِي السَّمَاء وَالْأَرْض أعظم من الْهوى، وَعَن بَعضهم قَالَ: هُوَ الطاغوت الْأَكْبَر.(4/21)
{أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا (44) ألم تَرَ إِلَى رَبك كَيفَ مد الظل وَلَو شَاءَ لجعله سَاكِنا ثمَّ جعلنَا الشَّمْس عَلَيْهِ دَلِيلا (45) }(4/22)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
قَوْله تَعَالَى: {أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ} . أَي: أتحسب.
وَقَوله: {إِن هم إِلَّا كالأنعام} . أَي: مَا هم إِلَّا كالأنعام، جعلهم كالأنعام؛ لأَنهم لم يدركوا طَرِيق الْحق، وَلم ينتفعوا بِمَا ميزهم الله بِهِ عَن الْبَهَائِم من عُقُولهمْ وأسماعهم وأبصارهم.
وَقَوله: {بل هم أضلّ سَبِيلا} أَي: أَخطَأ طَرِيقا، وَجعل الْكفَّار أضلّ من الْأَنْعَام؛ لِأَن الْأَنْعَام تسْجد وتسبح لله تَعَالَى، وَالْكفَّار لَا يَسْجُدُونَ وَلَا يسبحون؛ وَلِأَن الْبَهَائِم لم يعرفوا، وَلم يَكُونُوا أعْطوا آله الْمعرفَة. وَأما الْكفَّار لم يعرفوا وَقد أعْطوا آله الْمعرفَة، فهم أضلّ؛ وَلِأَن الْبَهَائِم لم تفْسد مَا لَهَا من المعارف؛ فَإِن الله تَعَالَى أَعْطَاهَا قدرا من المعارف وهم يستعملونها، وَأما الْكفَّار فقد أفسدوا مَا لَهُم من المعارف، فهم أضلّ وَأَقل من الْبَهَائِم.(4/22)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى رَبك} مِنْهُم من قَالَ: هَذَا على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: ألم تَرَ إِلَى الظل كَيفَ مده رَبك؟ وَقيل: هُوَ على ظَاهره، وَمعنى الرُّؤْيَة هُوَ الْعلم، قَالَ الشَّاعِر:
(أريني جوادا مَاتَ هزلا لعلني ... أرى مَا تَرين أَو بَخِيلًا مخلدا)
وَاخْتلفُوا فِي هَذَا الظل، فالأكثرون على أَنه الظل من وَقت طُلُوع الصُّبْح إِلَى وَقت طُلُوع الشَّمْس، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه من وَقت غرُوب الشَّمْس إِلَى وَقت طُلُوعهَا. والظل هُوَ ظلّ الأَرْض يقبل عِنْد غرُوب الشَّمْس، وَيُدبر عِنْد طُلُوعهَا.
وَقَوله: {وَلَو شَاءَ لجعله سَاكِنا} أَي: دَائِما.
وَقَوله: {ثمَّ جَعَلْنَاهُ الشَّمْس عَلَيْهِ دَلِيلا} أَي: ثمَّ جعلنَا الشَّمْس دَلِيلا على الظل، فَإِن الظل يعرف بالشمس، والنور يعرف بالظلمة، وَاللَّيْل بِالنَّهَارِ، وَكَذَلِكَ كل الْأَشْيَاء تعرف بأضدادها.(4/22)
{ثمَّ قبضناه إِلَيْنَا قبضا يَسِيرا (46) وَهُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لباسا وَالنَّوْم سباتا وَجعل النَّهَار نشورا (47) وَهُوَ الَّذِي أرسل الرِّيَاح بشرا}
وَقيل: جعلنَا الشَّمْس عَلَيْهِ دَلِيلا أَي: تتلوه وتتبعه فتنسخه.(4/23)
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
وَقَوله: {ثمَّ قبضناه إِلَيْنَا قبضا يَسِيرا}
الْقَبْض: جمع المنبسط من الشَّيْء، وَمَعْنَاهُ: أَن الظل يعم الأَرْض مثل طُلُوع الشَّمْس، فَإِذا طلعت الشَّمْس قبض الظل بالشمس جُزْءا فجزءا، فَيُقَال: وَقت قبض الظل عِنْد الاسْتوَاء، حَتَّى لَا يبْقى ظلّ فِي الْعَالم إِلَّا على مَوضِع لَا تكون الشَّمْس مستوية عَلَيْهِ.
وَقَوله: {يَسِيرا} أَي: هينا. وَقَالَ مُجَاهِد: خفِيا، وَهُوَ أصح الْقَوْلَيْنِ. .(4/23)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لباسا} أَي: يلْبِسكُمْ بظلمة اللَّيْل عِنْد غشيانه، فَكَأَن اللَّيْل لِبَاس النَّاس، وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ} وَمَوْضِع السكن كاللباس للْإنْسَان.
وَقَوله: {وَالنَّوْم سباتا} أَي: رَاحَة، والسبت: الْقطع، والنائم مسبوت؛ لِأَنَّهُ انْقَطع عمله مَعَ بَقَاء الرّوح فِيهِ.
وَقَوله: {وَجعل النَّهَار نشورا} أَي: زَمَانا ينشرون فِيهِ.(4/23)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أرسل الرِّيَاح بشرا} وَقُرِئَ: " نشرا " بِضَم النُّون والشين، وَقُرِئَ بِالْبَاء المضمومة، فَقَوله: " نشرا " بِنصب النُّون أَي: لإنشار النَّبَات، وإنشار النَّبَات إحياؤه، وَأما " نشرا " بِضَم النُّون جمع " نشر " كالرسل جمع رَسُول، وَأما {بشرا} بِالْبَاء من الْبشَارَة، وَقد ذكرنَا الْكَلَام فِي الرِّيَاح.(4/23)
{بَين يَدي رَحمته وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا (48) لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا ونسقيه مِمَّا خلقنَا أنعاما وأناسي كثيرا (49) }
وروى عَن النَّبِي أَنه كَانَ يَقُول إِذا هبت الرّيح: " اللَّهُمَّ أجعلها رياحا، وَلَا تجعلها ريحًا ".
قَالُوا: وَإِنَّمَا ذكر هَكَذَا؛ لِأَن الْبشَارَة فِي ثَلَاث من الرِّيَاح: الصِّبَا، وَالشمَال، والجنوب، وَأما الدبور فَلَيْسَ فِيهَا بِشَارَة؛ لِأَنَّهَا الرّيح الْعَقِيم. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: إِن الرّيح لَهُ جَنَاحَانِ وذنب. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الرّيح وَالْمَاء جند الله الْأَعْظَم.
وَقَوله: {بَين يَدي رَحمته} أَي: الْمَطَر.
وَقَوله: {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا} قَالَ ثَعْلَب: الطّهُور هُوَ الطَّاهِر فِي نَفسه المطهر لغيره، فالماء طهُور؛ لِأَنَّهُ يطهر النَّاس من الْأَحْدَاث، ويطهر الأَرْض من الجدوبة والقحط.(4/24)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
وَقَوله تَعَالَى: {لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا} أَي: بَلَدا مَيتا، وإحياؤه بإنبات النَّبَات، وَإِخْرَاج الْأَشْجَار وَالثِّمَار.
{ونسقيه مِمَّا خلقنَا أنعاما وأناسي كثيرا} أَي: نسقى بِالْمَاءِ أنعاما وأناسي كثيرا. والأناسي جمع إنسي وَقيل: جمع إِنْسَان، وَكَانَ أَصله أناسين، مثل بُسْتَان وبساتين، ثمَّ حذفت النُّون، وشددت الْيَاء.
وَمعنى الْآيَة: أَنا نسقى بِالْمَاءِ الْحَيَوَان وَغير الْحَيَوَان، ننمي بِهِ كل مَا يقبل النَّمَاء.(4/24)
{وَلَقَد صرفناه بَينهم لِيذكرُوا فَأبى أَكثر النَّاس إِلَّا كفوراً (50) }(4/25)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد صرفناه بَينهم} اكثر أهل التَّفْسِير على أَنَّهَا الْهَاء رَاجِعَة إِلَى الْمَطَر، وَمعنى التصريف أَنه يسقى أَرضًا وَيمْنَع أَرضًا.
قَالَ ابْن عَبَّاس: " مَا عَام بِأَمْطَر من عَام، وَلَكِن الله يقسمهُ بَين عباده على مَا يَشَاء. وَمثله عَن ابْن مَسْعُود.
وروى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من سَاعَة تمْضِي إِلَّا والسحاب يمطر فِيهَا، إِلَّا أَن الله تَعَالَى يصرفهُ عَن قوم، وَيُعْطِيه قوما " وَالْخَبَر غَرِيب.
وَقَوله: {لِيذكرُوا} أَي: ليتذكروا، وَيُقَال: إِن الْهَاء فِي قَوْله: {صرفناه} تَنْصَرِف إِلَى الْفرْقَان الْمَذْكُور فِي أول السُّورَة، وَهُوَ قَول بعيد.
وَقَوله: {فَأبى اكثر النَّاس إِلَّا كفورا} أَي: كفرانا، وكفرانهم هُوَ أَنهم إِذا أمطروا، يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْوَاقِعَة: {وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون} . وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ يَوْمًا، وَقد مُطِرُوا فِي ليلته: " يَقُول الله تَعَالَى: أصبح النَّاس فريقين، مُؤمن بِي وَكَافِر بالكوكب، وَمُؤمن بالكوكب وَكَافِر بِي، فَمن قَالَ: مُطِرْنَا برحمة الله تَعَالَى وفضله، فَهُوَ مُؤمن بِي كَافِر بالكوكب، وَمن قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا، فَهُوَ كَافِر بِي مُؤمن بالكوكب ".(4/25)
{وَلَو شِئْنَا لبعثنا فِي كل قَرْيَة نذيرا (51) فَلَا تُطِع الْكَافرين وجاهدهم بِهِ جهادا كَبِيرا (52) وَهُوَ الَّذِي مرج الْبَحْرين هَذَا عذب فرات وَهَذَا ملح أجاج وَجعل بَينهمَا بزرخا وحجرا مَحْجُورا (53) وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء بشرا فَجعله نسبا وصهرا وَكَانَ رَبك(4/26)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شِئْنَا لبعثنا فِي كل قَرْيَة نذيرا} ظَاهر الْمَعْنى.(4/26)
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
وَقَوله: {فَلَا تُطِع الْكَافرين} أَي: فِيمَا يدعونك إِلَيْهِ.
وَقَوله: {وجاهدهم بِهِ جهادا كَبِيرا} أَي: بِالْحَقِّ، وَقيل: بِالْقُرْآنِ.
وَقَوله: {كَبِيرا} مَعْنَاهُ: شَدِيدا.(4/26)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مرج الْبَحْرين} أَي: خلط الْبَحْرين، وَقيل: أرسل الْبَحْرين.
وَأما البحران فَيُقَال: إِنَّه بَحر فَارس وَالروم، وَيُقَال: بَحر السَّمَاء وَالْأَرْض، وَيُقَال: البحران هُوَ الْملح والعذب.
وَقَوله: {هَذَا عَذَاب فرات} العذب يُسمى كل مَاء عذب فراتا، وَيُسمى كل مَاء ملح بحرا.
وَقَوله: {وَهَذَا ملح أجاج} أَي: شَدِيد الملوحة، وَقيل: مر.
وَقَوله: {وَجعل بَينهمَا برزخا} يُقَال: باليبس بَين الْبَحْرين، وَقيل: بالهواء بَين بَحر السَّمَاء وبحر الأَرْض، وَقيل: بِالْقُدْرَةِ بَين الْملح والعذب، فَلَا يخْتَلط الْملح بالعذب، وَلَا العذب بالملح، وَهَذَا فِي مَوضِع مَخْصُوص بخليج مصر، والبرزخ هُوَ الحاجز.
وَقَوله: {وحجرا مَحْجُورا} أَي: مَانِعا مَمْنُوعًا، قَالَ الشَّاعِر:
(فَرب ذِي سرادق مَحْجُور ... سرت إِلَيْهِ من أعالي السُّور)(4/26)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء بشرا فَجعله نسبا وصهرا} .
النّسَب نِسْبَة من قرَابَة، والصهر خلْطَة من غير النّسَب، وَقد ذكرنَا أَن الله تَعَالَى حرم سبعا بِالنّسَبِ، وَسبعا بِالسَّبَبِ، وعددناها فِي سُورَة النِّسَاء، وَيُقَال: النّسَب مَا يُوجب الْحُرْمَة، والصهر مَالا يُوجب الْحُرْمَة.(4/26)
{قَدِيرًا (54) ويعبدون من دون الله مَا لَا يَنْفَعهُمْ وَلَا يضرهم وَكَانَ الْكَافِر على ربه ظهيرا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا مبشرا وَنَذِيرا (56) قل مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من اجْرِ إِلَّا من شَاءَ أَن يتَّخذ إِلَى ربه سَبِيلا (57) وتوكل على الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت وَسبح بِحَمْدِهِ وَكفى بِهِ بذنوب عباده خَبِيرا (58) الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة
وَقَوله: {وَكَانَ رَبك قَدِيرًا} أَي: قَادِرًا.(4/27)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
قَوْله تَعَالَى: {ويعبدون من دون الله مَا لَا ينفهم وَلَا يضرهم} قد ذكرنَا.
وَقَوله: {وَكَانَ الْكَافِر على ربه ظهيرا} أَي: عونا للشَّيْطَان على الْمعاصِي، وَيُقَال: ظهيرا أَي: هينا كَمَا يَقُول الرجل: جَعَلتني بِظهْر أَي: جَعَلتني هينا. قَالَ الشَّاعِر:
(تَمِيم بن [زيد] لَا تكونن حَاجَتي ... بِظهْر فَلَا يعيا على جوابها)(4/27)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا مبشرا وَنَذِيرا} أَي: مبشرا ومنذرا.(4/27)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
وَقَوله: (قل مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر) أَي: من جعل.
وَقَوله: {إِلَّا من شَاءَ أَن يتَّخذ إِلَى ربه سَبِيلا} مَعْنَاهُ: لَكِن من شَاءَ أَن يتَّخذ إِلَى ربه سَبِيلا سلك طَرِيق الْإِيمَان، وَأخذ بِهِ.(4/27)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
قَوْله تَعَالَى: {وتوكل على الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت} الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت هُوَ الله تَعَالَى.
وَقَوله: {وَسبح بِحَمْدِهِ} أَي: صل بأَمْره.
وَقَوله: {وَكفى بِهِ بذنوب عباده خَبِيرا} أَي: كفى بِاللَّه بذنوب عباده عَالما، وَهَذَا على طَرِيق التهديد والوعيد.(4/27)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام} قد بَينا.
وَقَوله {ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش الرَّحْمَن} قد بَينا.
وَقَوله: {فاسأل بِهِ خَبِيرا} يُقَال مَعْنَاهُ: فاسأل عَنهُ خَبِيرا أَي: عَالما، وَهُوَ الله تَعَالَى.
قَالَ الشَّاعِر:(4/27)
{أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش الرَّحْمَن فاسئل بِهِ خَبِيرا (59) وَإِذا قيل لَهُم اسجدوا للرحمن قَالُوا وَمَا الرَّحْمَن أنسجد لما تَأْمُرنَا وَزَادَهُمْ نفورا (60) تبَارك الَّذِي جعل فِي
(هلا سَأَلت الْخَيل يَا ابْنة مَالك ... إِن كنت سَائِلَة بِمَا لم تعلمي}
أَي: عَمَّا لم يعلم.
وَيُقَال: فاسأل سؤالك إِيَّاه للخبير يَعْنِي: سلني وَلَا تسْأَل غَيْرِي، وَيُقَال: إِن الْخطاب للرسول، وَالْمرَاد مِنْهُ الْأمة، فَإِنَّهُ كَانَ عَالما بِهَذَا، ومصدقا بِهِ.
وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنَّك أَيهَا الْإِنْسَان لَا ترجع فِي طلب الْعلم بِهَذَا إِلَى غَيْرِي، قَالَه الزّجاج.(4/28)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم اسجدوا للرحمن قَالُوا وَمَا للرحمن} .
قَالَ أهل التَّفْسِير: إِنَّمَا قَالُوا هَذَا؛ لأَنهم كَانُوا لَا يعْرفُونَ اسْم الرَّحْمَن فِي كَلَامهم، فسألوا عَن " الرَّحْمَن " لهَذَا.
وروى أَن رَسُول الله لما دعاهم إِلَى " الرَّحْمَن "، وَيُقَال: إِن أَبَا جهل قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّد، من يعلمك الْقُرْآن؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {الرَّحْمَن علم الْقُرْآن} قَالَ أَبُو جهل وَغَيره: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن إِلَّا مُسَيْلمَة بِالْيَمَامَةِ، وَكَانَ يُسمى: رحمان الْيَمَامَة.
وَقَوله: {أنسجد لما تَأْمُرنَا} يَعْنِي: الرَّحْمَن الَّذِي تَأْمُرنَا بِالسُّجُود لَهُ.
وَقَوله: {وَزَادَهُمْ نفورا} أَي: تباعدا.(4/28)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
قَوْله: {تبَارك الَّذِي جعل فِي السَّمَاء بروجا} هِيَ النُّجُوم الْعِظَام، وَقيل: هِيَ البروج الاثنا عشر.
وَقَوله: {وَجعل فِيهَا سِرَاجًا} أَي: الشَّمْس، وَقُرِئَ: " سرجا " على الْجمع، وعَلى هَذِه الْقِرَاءَة قد دخل الْقَمَر فِي السرج، إِلَّا أَنه خصّه بِالذكر لنَوْع فَضِيلَة لَهُ، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا فَاكِهَة ونخل ورمان} .(4/28)
{وَالسَّمَاء بروجا وَجعل فِيهَا سِرَاجًا وقمرا منيرا (61) وَهُوَ الَّذِي جعل اللَّيْل وَالنَّهَار خلفة لمن أَرَادَ أَن يذكر أَو أَرَادَ شكُورًا (62) وَعباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا
وَقَوله: {منيرا} أَي: مضيئا.(4/29)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
قَوْله: {وَهُوَ الَّذِي جعل اللَّيْل وَالنَّهَار خلفة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مُخْتَلفين، هَذَا أسود وَهَذَا أَبيض. وَالثَّانِي: خَلفه أَي: يخلف أَحدهمَا صَاحبه. وَيُقَال: مَا فَاتَ من الذّكر بِاللَّيْلِ، فالنهار يخلفه فِيهِ، وَمَا فَاتَ من الذّكر بِالنَّهَارِ، فالليل يخلفه فِيهِ. قَالَ قَتَادَة: وَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاة، وَالْقَوْل الثَّالِث: خَلفه أَي: يزْدَاد فِي هَذَا مَا ينقص من الآخر، ويزداد فِي الآخر مَا ينقص من هَذَا، وَأنْشد الشَّاعِر فِي الخلفة:
(بهَا الْعين والآرام يَمْشين خلفة ... واطلاؤها ينهضن من كل مجثم)
فعلى هَذَا خلفة أَي: كل وَاحِد مِنْهُمَا خلف صَاحبه.
وَقَوله: {لمن أَرَادَ أَن يذكر} أَي: يتَذَكَّر.
{أَو أَرَادَ شكُورًا} أَي: شكرا.
وَمَعْنَاهُ: من أَرَادَ ذكرا أَو شكرا، فالليل وَالنَّهَار زَمَانا الذّكر وَالشُّكْر.(4/29)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
وَقَوله تَعَالَى: {وَعباد الرَّحْمَن} . فَإِن قَالَ قَائِل: كل النَّاس عباد الرَّحْمَن، مؤمنهم وكافرهم؟ قُلْنَا: إِن هَذَا كَمَا يَقُول الْقَائِل: ابْني فلَان، ويخص بذلك الْوَاحِد من بَينه، وَكَذَلِكَ يَقُول: صديقي فلَان، ويخص بذلك الْوَاحِد من أصدقائه، وَمَعْنَاهُ: أَن من يكون ابْني يَنْبَغِي أَن يكون كفلان، وَمن يكون صديقي يَنْبَغِي أَن يكون كفلان.
وَقَوله: {الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا} . أَي: بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار. قَالَ الْحسن: عُلَمَاء حكماء، لَا يجهلون إِذا جهل عَلَيْهِم. وَقَالَ ثَعْلَب: هونا رفقا.
وَعَن بَعضهم: متواضعين لَا يتكبرون.
وَقَوله: {وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما} قَالَ الضَّحَّاك: إِذا أوذوا صفحوا، وَقَالَ بَعضهم: قَالُوا قولا يسلمُونَ مِنْهُ، وَعَن بَعضهم: قَالُوا سَلاما أَي: متاركة لَا خير(4/29)
{وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما (63) وَالَّذين يبيتُونَ لرَبهم سجدا وقياما (64) وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا اصرف عَنَّا عَذَاب جَهَنَّم إِن عَذَابهَا كَانَ غراما (65) وَلَا شَرّ، وَلَيْسَ المُرَاد من السَّلَام هُوَ السَّلَام الْمَعْرُوف، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا بَينا.
وَالْآيَة مَكِّيَّة، وَكَانَ الْمُسلمُونَ قد أمروا قبل الْهِجْرَة بالصفح والإعراض، وَألا يقابلوا أَذَى الْمُشْركين بالمجازاة، ثمَّ نسخ حِين هَاجرُوا بِآيَة السَّيْف.(4/30)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يبيتُونَ لرَبهم} يُقَال: بَات فلَان سَوَاء نَام أَو لم ينم.
قَالَ الشَّاعِر:
(فبتنا قيَاما عِنْد رَأس جوادنا ... يزاولنا عَن نَفسه ونزاوله)
قَوْله: {سجدا وقياما} .
أَي: سجدا على وُجُوههم، وقياما على أَرجُلهم.
وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: من صلى بعد الْعشَاء الْآخِرَة رَكْعَتَيْنِ أَو أَكثر من ذَلِك، فَهُوَ من الَّذين يبيتُونَ لرَبهم سجدا وقياما.(4/30)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا اصرف عَنَّا عَذَاب جَهَنَّم} أَي: اعْدِلْ عَنَّا عَذَاب جَهَنَّم.
وَقَوله: {إِن عَذَابهَا كَانَ غراما} .
أَي: ملحا دَائِما، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هَلَاكًا، وَيُقَال: فلَان مغرم بِالنسَاء أَي: لَا صَبر لَهُ عَنْهُن، وَمِنْه الْغَرِيم لِأَنَّهُ يلازم. وَقيل غراما أَي: شَدِيدا، قَالَ الْأَعْشَى:
(إِن يُعَاقب يكن غراما وَإِن يُعْط ... جزيلا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي)
وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: طَالب الله الْكفَّار بِثمن النِّعْمَة، فَلَمَّا عجزوا غرمهم النِّعْمَة فبقوا فِي النَّار.
وَعَن الْحسن قَالَ: كل غَرِيم يُفَارق غَرِيمه غير جَهَنَّم، فَإِنَّهَا لَا تفارق غرماءها أبدا.(4/30)
{إِنَّهَا ساءت مُسْتَقرًّا ومقاما (66) وَالَّذين إِذا أَنْفقُوا لم يُسْرِفُوا لم يقترُوا وَكَانَ بَين ذَلِك قواما (67)(4/31)
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهَا ساءت مُسْتَقرًّا ومقاما} أَي: بئس مَوضِع الْقَرار، وَمَوْضِع الْمقَام جَهَنَّم، وَقد بَينا الْفرق بَين الْمقَام وَالْمقَام.(4/31)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين إِذا أَنْفقُوا لم يُسْرِفُوا} قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن الْحلِيّ: كل إِنْفَاق فِي غير طَاعَة الله فَهُوَ إِسْرَاف، وكل منع عَن طَاعَة الله فَهُوَ إقتار.
وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: لم يُسْرِفُوا أَي: لم يجاوزوا الْحَد فِي الْإِنْفَاق، وَذَلِكَ بالإكثار فِي النَّفَقَة على وَجه التبذير.
وَقَوله: {وَلم يقترُوا} أَي: لم يقلوا فِي الْإِنْفَاق حَتَّى يعروا أَو يجيعوا من يجب عَلَيْهِم الْإِنْفَاق عَلَيْهِم.
وَقَالَ بَعضهم: لم يُسْرِفُوا أَي: لم ينفقوا فِي غير الْحق، وَلم يقترُوا أَي: لم يمنعوا من الْحق، وَهَذَا القَوْل قريب من القَوْل الأول.
قَالَ النَّضر بن شُمَيْل: وَكَانَ بَين ذَلِك قواما: حَسَنَة بَين سيئتين، وَحكى ثَعْلَب أَن عبد الْملك بن مَرْوَان قَالَ لعمر بن عبد الْعَزِيز - وَكَانَ قد زوج ابْنَته فَاطِمَة مِنْهُ -: كَيفَ نَفَقَتك يَا عمر؟ فَقَالَ: حَسَنَة بَين سيئتين.
وَعَن وهب بن مُنَبّه أَنه قَالَ: إِذا أخذت بِوَاحِد من طرفِي الْعود مَال، فَإِذا أخذت بوسطه اعتدل.
وَقَوله: {قواما} . أَي: عدلا، وَهُوَ معنى مَا قُلْنَاهُ، والقوام بِالْفَتْح من الاسْتقَامَة، والقوام بِالْكَسْرِ مَا يُقيم الْأَمر بِهِ، كَأَنَّهُ ملاكه.(4/31)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَقَوله: {وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} . الْحق هُوَ مَا ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث ... " وَقد بَينا.(4/31)
{وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما (68) يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة ويخلد فِيهِ مهانا (69)
وَقَوله: {وَلَا يزنون} الزِّنَا فعل مَعْلُوم، وَأما اللواط: هَل هُوَ زنا أَو لَيْسَ بزنا؟ فَالْأَمْر فِيهِ على مَا عرف فِي الْفِقْه، وَكَذَلِكَ إتْيَان الْبَهِيمَة.
وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَمْرو بن شُرَحْبِيل، عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله، أَي الذَّنب أعظم؟ فَقَالَ: " أَن تجْعَل لله ندا وَهُوَ خلقك. قلت: يارسول الله، ثمَّ أَي؟ قَالَ: أَن تقتل ولدك خشيَة أَن يَأْكُل مَعَك. قلت: ثمَّ أَي يَا رَسُول الله؟ قَالَ: أَن تزنى بحلية جَارك، ثمَّ قَرَأَ قَوْله: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر}
الْآيَة ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْعَبَّاس الْأَزْهَرِي، [أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن] أَحْمد بن مُحَمَّد الْخفاف، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس السراج، أخبرنَا إِسْحَاق الْحَنْظَلِي، أخبرنَا جرير، عَن مَنْصُور، عَن أبي وَائِل، عَن عَمْرو بن شُرَحْبِيل. . الْخَبَر.
وَذكر الْكَلْبِيّ: " أَن وحشيا أرسل إِلَى النَّبِي يطْلب مِنْهُ تَوْبَة لنَفسِهِ، فَبعث إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَة، فَقَالَ وَحشِي: إِنِّي قد أشركت، وَقتلت وزنيت، وَلَا أَدْرِي كَيفَ تَوْبَتِي؟ فَأُرِيد آيَة أوسع من هَذِه، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِن الله لَا يفغر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} فَبعث بِالْآيَةِ إِلَى وَحشِي، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، أَأدْخل فِي الْمَشِيئَة أَولا؟ أُرِيد آيَة أوسع من هَذِه الْآيَة، فَأنْزل الله تَعَالَى {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله} فَبعث إِلَيْهِ بِالْآيَةِ، فَأسلم ".(4/32)
{إِلَّا من تَابَ
قَالَ أهل الْعلم: وَهَذَا مستبعد جدا؛ لِأَن هَذِه الْآيَة مَكِّيَّة، وَوَحْشِي إِنَّمَا أسلم بعد غَزْوَة حنين والطائف فِي آخر عهد النَّبِي، وكل هَذِه الْآيَات إِنَّمَا نزلت (من اسلامه عدَّة} .
وَفِي بعض التفاسير: إِن هَذِه الْآيَة نزلت بِمَكَّة إِلَى قَوْله: {إِلَّا من تَابَ} وَمكث النَّاس سنتَيْن، ثمَّ نزل قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا من تَابَ} . إِلَى آخر الْآيَة بعد ذَلِك.
وَعَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس أَن قَوْله: {إِلَّا من تَابَ} ينْصَرف إِلَى الشّرك وَالزِّنَا، فَأَما قتل النَّفس فقد أنزل الله تَعَالَى فِيهِ: {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا. .} الْآيَة قَالَ ابْن عَبَّاس: وَهَذِه الْآيَة مَدَنِيَّة، وَقَوله: {إِلَّا من تَابَ} مَكِّيَّة، فَالْحكم فِي الْقَتْل على هَذِه الْآيَة، وَلَا تَوْبَة لقَاتل النَّفس.
وَأما عِنْد غَيره من أهل الْعلم: فالتوبة من الْكل مَقْبُولَة، وَقد بَينا هَذَا من قبل، وَظَاهر هَذِه الْآيَة وَهُوَ قَوْله: {إِلَّا من تَابَ} يدل على هَذَا؛ لِأَنَّهُ قد سبق قتل النَّفس.
وَقَوله: {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} أَي: جَزَاء الْإِثْم، وَيُقَال: أثاما وَاد فِي جَهَنَّم، قَالَ الشَّاعِر:
{جزى الله ابْن عُرْوَة حَيْثُ أَمْسَى ... عقوقا والعقوق لَهُ أثام}
أَي: جَزَاء الأثم. وَقَالَ أخر:
(لقِيت المهالك فِي حربنا ... وَبعد المهالك تلقى أثاما)(4/33)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
قَوْله تَعَالَى: {يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة} أَي: يستدام لَهُ الْعَذَاب، وَيُقَال: يُضَاعف الله الْعَذَاب، يجمع عَلَيْهِ عَذَاب الْكَبَائِر الَّتِي ارتكبها.(4/33)
{وآمن وَعمل عملا صَالحا فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات
وَقَوله: {ويخلد فِيهِ مهانا} أَي: يخلد فِيهِ وَقد أصَاب الهوان والذلة، وَقُرِئَ: " يُضَاعف " و " يخلد " بِالرَّفْع، وَرَفعه بالاستئناف، وَقُرِئَ: يُضَاعف " و " يخلد " بِالْجَزْمِ، وجزمه على جَوَاب الشَّرْط.(4/34)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
قَوْله: {إِلَّا من تَابَ وآمن وَعمل عملا صَالحا} مَعْنَاهُ: إِلَّا من نَدم وآمن بربه، وَعمل عملا صَالحا فِي الْمُسْتَقْبل.
وَقَوله: {فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُجاهد وَجَمَاعَة: هَذَا فِي الدُّنْيَا. وَمَعْنَاهُ: تَبْدِيل الْكفْر بِالْإِيمَان، والشرك بالإخلاص، وَالْمَعْصِيَة بِالطَّاعَةِ.
وَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَجَمَاعَة: هَذَا فِي الْآخِرَة، وَالله تَعَالَى يُبدل سيئات التائب بِالْحَسَنَاتِ فِي صَحِيفَته.
وَقد ورد فِي القَوْل الثَّانِي خبر صَحِيح عَن النَّبِي، رَوَاهُ وَكِيع، عَن الْأَعْمَش، عَن الْمَعْرُور بن سُوَيْد، عَن أبي ذَر، أَن النَّبِي قَالَ: " يُؤْتى بِالْمُؤمنِ يَوْم الْقِيَامَة فَيعرض عَلَيْهِ صغَار ذنُوبه، ويخبأ عَنهُ كِبَارهَا، فَيسْأَل ويعترف، وَهُوَ مُشفق من الْكَبَائِر، فَيَقُول الله تَعَالَى: أَعْطوهُ مَكَان كل سَيِّئَة حَسَنَة، فَيَقُول: يَا رب، إِن لي ذنوبا وَلَا أَرَاهَا هَاهُنَا؟ فَضَحِك رَسُول الله حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه ". أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه.
وَعَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: يُعْطي الْمُؤمن صَحِيفَته يَوْم الْقِيَامَة فَيقْرَأ بَعْضهَا، وَإِذا هِيَ سيئات، فَإِذا وصل إِلَى الْحَسَنَات ينظر نظرة فِيمَا قبلهَا، فَإِذا هِيَ كلهَا صَارَت حَسَنَات.
وَقد أنكر جمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين أَن تنْقَلب السَّيئَة حَسَنَة؛ مِنْهُم الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره، وَإِذا ثَبت الْخَبَر عَن النَّبِي لم يبْق لأحد كَلَام.(4/34)
{وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (70) وَمن تَابَ وَعمل صَالحا فَإِنَّهُ يَتُوب إِلَى الله متابا (71) وَالَّذين لَا يشْهدُونَ الزُّور
وَقد قَالَ بَعضهم: إِن الله يمحو بالندم جَمِيع السَّيِّئَات، ثمَّ يثبت مَكَان كل سَيِّئَة حَسَنَة.
وَقَوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} قد بَينا.(4/35)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن تَابَ وَعمل صَالحا} قَالَ بعض أهل الْعلم: هَذَا فِي التَّوْبَة عَن غير مَا سبق ذكره، وَأما التَّوْبَة الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة الأولى، فَهِيَ عَمَّا سبق ذكره من الْكَبَائِر.
وَقَالَ بَعضهم: هَذِه الْآيَة وَارِدَة أَيْضا فِي التَّوْبَة عَن جَمِيع السَّيِّئَات، وَمَعْنَاهَا على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن معنى الْآيَة: وَمن أَرَادَ التَّوْبَة وعزم عَلَيْهَا فليتب لوجه الله تَعَالَى، وَلَا يَنْبَغِي أَن يُرِيد غَيره، كَالرّجلِ يَقُول: من اتّجر فليتجر فِي الْبر، وَمن نَاظر فليناظر فِي الْفِقْه، فَيكون قَوْله: {فَإِنَّهُ يَتُوب إِلَى الله متابا} على هَذَا القَوْل خَبرا بِمَعْنى الْأَمر، أَي: تب إِلَى الله تَوْبَة، وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة: من تَابَ فَليعلم أَن تَوْبَته إِلَى الله ومصيره إِلَيْهِ وثوابه مِنْهُ، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: إِذا كلمت الْأَمِير فَاعْلَم أَنه أَمِير، وَإِذا كلمت أَبَاك فَاعْلَم أَنه أَبوك.(4/35)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
قَوْله: {وَالَّذين لَا يشْهدُونَ الزُّور} أَي: الشّرك، وَمَعْنَاهُ: لَا يشْهدُونَ شَهَادَة الشّرك، وَيُقَال: الْكَذِب. وَعَن مُحَمَّد بن الحنيفة: الْغناء، [و] هُوَ قَول مُجَاهِد.
(وَعَن بَعضهم) : الْغناء رقية الزِّنَا. وَقَالَ بعض أهل السّلف: الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب. وَقيل: لَا يشْهدُونَ الزُّور أَي: أعياد الْكفَّار، وَقيل: النوح.
وَقَوله: {وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما} أَي: مروا معرضين كَمَا يمر الْكِرَام، وَقيل: أكْرمُوا أنفسهم عَن الدُّخُول فِيهِ. قَالَ الْحسن: اللَّغْو هُوَ الْمعاصِي كلهَا.
وَقَالَ عَمْرو بن قيس: مجْلِس الْخَنَا. واللغو فِي اللُّغَة كل مَا هُوَ بَاطِل، وَلَا يُفِيد فَائِدَة.(4/35)
{وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما (72) وَالَّذين إِذا ذكرُوا بآيَات رَبهم لم يخروا عَلَيْهَا صمًّا وعميانا (73) وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا هَب لنا من أَزوَاجنَا وَذُرِّيَّاتنَا قُرَّة أعين واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يجزون الغرفة بِمَا صَبَرُوا ويلقون فِيهَا تَحِيَّة وَسلَامًا (75)(4/36)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين إِذا ذكرُوا بآيَات رَبهم لم يخروا عَلَيْهَا صمًّا وعميانا} .
قَالَ القتيبي مَعْنَاهُ: لم يتغافلوا عَنْهَا كَأَنَّهُمْ صم لم يسمعوها، وَكَأَنَّهُم عمى لم يروها. وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: لم يسقطوا عَلَيْهَا صمًّا وعميانا، بل سمعُوا وأبصروا.(4/36)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا هَب لنا من أَزوَاجنَا وَذُرِّيَّاتنَا قُرَّة أعين} أَي: أَوْلَادًا، بررة أتقياء، وقرة الْعين تذكر عِنْد السرُور، وسخنة الْعين عِنْد الْحزن، وَيُقَال: دمع الْعين عِنْد السرُور بَارِد، وَعند الْحزن حَار. وَذكر الْأَزْهَرِي أَبُو مَنْصُور: أَن معنى قُرَّة الْعين أَن يُصَادف قلبه مَا يرضاه قلبه، فتقر عينه عَن النّظر إِلَى غَيره، يَعْنِي: لَا تنظر إِلَى غَيره.
وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: لَيْسَ شَيْء أقرّ لعين الْمُؤمن من أَن يرى أَهله وَولده أتقياء بررة.
وَقَوله: {واجعلنا لِلْمُتقين إِمَام} قَالَ الْحسن: نقتدي بالمتقين، ويقتدي بِنَا المتقون.
وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذَا على أَنه لَا بَأْس بِطَلَب الْإِمَامَة فِي الدّين، وَينْدب إِلَيْهِ.
وَقَالَ بَعضهم: لَا يطْلب للرئاسة، وَلَكِن يطْلب للدّين، ثمَّ حِينَئِذٍ يَقْتَدِي بِهِ المتقون، فَيصير إِمَامًا لَهُم على مَا قَالَ الله تَعَالَى.(4/36)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
قَوْله: {أُولَئِكَ يجزون الغرفة بِمَا صَبَرُوا} قَالَ عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس: الغرفة من الدّرّ والزبرجد والياقوت. وَيُقَال: هِيَ أَعلَى منَازِل الْجنَّة.
وَقَوله: {بِمَا صَبَرُوا} عَن الشَّهَوَات، وَقيل: صَبَرُوا عَن الدُّنْيَا، وَقيل: صَبَرُوا على الطَّاعَة.
وَقَوله: {ويلقون فِيهَا} وَقُرِئَ: " ويلقون " مخففا، وَالْمعْنَى وَالْمعْنَى وَاحِد.
وَقَوله: {تَحِيَّة} أَي: ملكا، وَقيل: بَقَاء [دَائِما] .(4/36)
{خَالِدين فِيهَا حسنت مُسْتَقرًّا ومقاما (76) قل مَا يعبأ بكم رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم فقد كَذبْتُمْ فَسَوف يكون إلزاما (77)
وَقَوله: {وَسلَامًا} أى: يسلم بَعضهم على بعض، وَقَالَ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: يسلم الله عَلَيْهِم. وَقيل: سَلامَة من الْآفَات.(4/37)
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
قَوْله تَعَالَى: {خَالِدين فِيهَا حسنت مُسْتَقرًّا ومقاما} أَي: مَكَانا يستقرون فِيهِ.
وَقَوله: {ومقاما} أَي: يُقِيمُونَ إِقَامَة.(4/37)
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
قَوْله تَعَالَى: {قل مَا يعبأ بكم رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم} أحسن الْأَقَاوِيل فِيهِ أَن مَعْنَاهُ: مَا يصنع بكم رَبِّي لَوْلَا دعائكم أَي: لَوْلَا دعاؤه إيَّاكُمْ إِلَى التَّوْحِيد، وَهِي فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {مَا يفعل الله بعذابكم إِن شكرتم وآمنتم} . قَالَ القتيبي مَعْنَاهُ: مَا يعبأ بعذابكم رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم أَي: لَوْلَا إيمَانكُمْ، يَعْنِي: إِذا آمنتم لَا يعذبكم. وَقَالَ بَعضهم: أَي قدر لكم عِنْد رَبِّي لَوْلَا أَنه دعَاكُمْ إِلَى الْإِيمَان فتؤمنون، فَالْآن يظْهر لكم قدر وخطر.
وَقَوله: {فقد كَذبْتُمْ} قَرَأَ ابْن عَبَّاس: " فقد كذب الْكَافِرُونَ "، وَأما الْمَعْرُوف: {فقد كَذبْتُمْ} أَي: كَذبْتُمْ أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَمَعْنَاهُ: قد دعوتكم إِلَى الْإِيمَان فَلم تؤمنوا.
وَقَوله: {فَسَوف يكون إلزاما} وَعِيد مَعْنَاهُ: سَوف يكون الْعَذَاب لزاما. قَالَ ابْن مَسْعُود: معنى اللزام وَهُوَ يَوْم بدر. وَقَالَ بَعضهم: اللزام: الْمَوْت.
قَالَ الشَّاعِر:
(تولى عِنْد حاجتنا أنيس ... وَلم اجزع من الْمَوْت اللزام)
وَقُرِئَ فِي الشاذ " " لزاما " بِفَتْح اللَّام، وَهُوَ فِي معنى الأول.(4/37)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{طسم (1) تِلْكَ آيَات الْكتاب الْمُبين (2) لَعَلَّك باخع نَفسك أَلا يَكُونُوا مُؤمنين (3) إِن نَشأ ننزل عَلَيْهِم من السَّمَاء آيَة فظلت أَعْنَاقهم لَهَا خاضعين
تَفْسِير سُورَة الشُّعَرَاء
وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا أَربع آيَات فِي آخر السُّورَة.(4/38)
طسم (1)
قَوْله تَعَالَى: {طسم} قَالَ قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن. وَقَالَ مُجَاهِد: اسْم السُّورَة.
وَعَن بَعضهم: أَن الطَّاء من الطول، وَالسِّين من السناء، وَالْمِيم من الْملك. وَقَالَ بَعضهم: الطَّاء شَجَرَة طُوبَى، وَالسِّين سِدْرَة الْمُنْتَهى، وَالْمِيم مُحَمَّد. وَيُقَال: الطَّاء من اسْمه الطَّاهِر، وَالسِّين من اسْمه السَّلَام، وَالْمِيم من اسْمه الْمجِيد.(4/38)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
وَقَوله: {تِلْكَ آيَات الْكتاب الْمُبين} قد بَينا من قبل.(4/38)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّك باخع نَفسك} أَي: قَاتل نَفسك، وَقيل: مهلك نَفسك حزنا.
وَقَوله تَعَالَى: {أَلا يَكُونُوا مُؤمنين} يَعْنِي: إِن لم يُؤمنُوا.(4/38)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
قَوْله: {إِن نَشأ ننزل عَلَيْهِم من السَّمَاء آيَة} قَالَ ابْن جريج مَعْنَاهُ: نريهم أمرا من أمرنَا، فَلَا يعْص أحد، وَقيل: إِن نَشأ ننزل من السَّمَاء آيَة فاضطروا إِلَى الْإِيمَان.
وَقَوله: {فظلت أَعْنَاقهم لَهَا خاضعين} فيع أَقْوَال: أَحدهَا: خاضعين بِمَعْنى خاضعة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من أَعْنَاق أَشْرَاف النَّاس وكبراؤهم، فعلى هَذَا معنى الْآيَة: فظل كبراؤهم وأشرافهم لِلْآيَةِ خاضعين، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه ذكر الْأَعْنَاق، وَالْمرَاد مِنْهُ أَصْحَاب الْأَعْنَاق، فَانْصَرف قَوْله: {خاضعين} إِلَى الْمُضمر فِي الْكَلَام.
قَالَ الشَّاعِر:
{رَأَتْ مرَّ السنين أخذن منى ... كَمَا أَخذ السرَار من الْهلَال}(4/38)
( {4) وَمَا يَأْتِيهم من ذكر من الرَّحْمَن مُحدث إِلَّا كَانُوا عَنهُ معرضين (5) فقد كذبُوا فسيأتيهم أنباء مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون (6) أَو لم يرو إِلَى الأَرْض كَمَا أنبتنا فِيهَا من كل زوج كريم (7) إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (8) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (8) وَإِذ نَادَى رَبك مُوسَى أَن ائْتِ الْقَوْم الظَّالِمين
فَرجع قَوْله: أخذن إِلَى السنين، لَا إِلَى قَوْله: مر السنين.(4/39)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَأْتِيهم من ذكر من الرَّحْمَن مُحدث} أَي: مُحدث إنزاله إِلَى النَّبِي، وَقد بَينا هَذَا من قبل.
وَقَوله: {إِلَّا كَانُوا عَنهُ معرضين} أَي: عَن الْإِيمَان.(4/39)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {فقد كذبُوا فسيأتيهم} أَي: سَوف يَأْتِيهم.
وَقَوله: {أنباء مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون} أَي: عَاقِبَة مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون، أَي: عَاقِبَة مَا كَانُوا يستهزءون، وَهَذَا يدل على أَن كل مكذب مستهزئ.(4/39)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرو إِلَى الأَرْض كم أنبتنا فِيهَا من كل زوج كريم} أَي: من كل صنف حسن، وَالزَّوْج مثل: الحامض والحلو، والأبيض وَالْأسود، وَمَا أشبهه.
وَقَالَ الشّعبِيّ: الْخلق نَبَات الأَرْض، فَمن دخل الْجنَّة فَهُوَ كريم، وَمن دخل النَّار فَهُوَ لئيم، وَالْعرب تَقول: نَخْلَة كَرِيمَة إِذا طَابَ ثَمَرهَا، وَرجل كريم إِذا حسن فعله.(4/39)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين} أَي: مُصدقين.(4/39)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
وَقَوله: {وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم} قد بَينا من قبل.(4/39)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ نَادَى رَبك مُوسَى} أَي: من جَانب الطّور الْأَيْمن، على مَا ورد بِهِ الْقُرْآن، وَقَالَ ابْن جُبَير: من السَّمَاء.
وَقَوله: {أَن ائْتِ الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: الْكَافرين.(4/39)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
وَقَوله: {قوم فِرْعَوْن أَلا يَتَّقُونَ} مَعْنَاهُ: أَلا يخَافُونَ.(4/39)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب إِنِّي أَخَاف أَن يكذبُون ويضيق صَدْرِي} وَقُرِئَ: " ويضيق صَدْرِي " بِنصب الْقَاف أَي: أَخَاف أَن يضيق صَدْرِي.(4/39)
( {10) قوم فِرْعَوْن أَلا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رب إِنِّي أَخَاف أَن يكذبُون (12) ويضيق صَدْرِي وَلَا ينْطَلق لساني فَأرْسل إِلَى هرون (13) وَلَهُم عَليّ ذَنْب فَأَخَاف أَن يقتلُون (14) قَالَ كلا فاذهبا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعكُمْ مستمعون (15) فَأتيَا فِرْعَوْن فقولا إِنَّا رَسُول رب الْعَالمين (16)
وَقَوله: {وَلَا ينْطَلق لساني} قَالَ هَذِه للعقدة الَّتِي كَانَت على لِسَانه.
وَقَوله: {فَأرْسل إِلَى هَارُون} مَعْنَاهُ: فَأرْسل إِلَى هَارُون مَعَ إرسالي.(4/40)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
وَقَوله: {وَلَهُم عَليّ ذَنْب} أَي: دَعْوَى ذَنْب، وَذَلِكَ الذَّنب هُوَ قتلة القبطي.
وَقَوله: {فَأَخَاف أَن يقتلُون} بذلك الرجل وَفِي الْقِصَّة: أَن فِرْعَوْن كَانَ يَطْلُبهُ طول هَذِه الْمدَّة ليَقْتُلهُ بالقبطي.(4/40)
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {كلا} أَي: لَا تخف.
وَقَوله تَعَالَى: {فاذهبا بِآيَاتِنَا} قد بَينا تَفْسِير الْآيَات من قبل.
وَقَوله: {إِنَّا مَعكُمْ مستمعون} ذكر بِلَفْظ الْجمع، وَالْمرَاد مِنْهُ اثْنَان، وَقيل: إِنَّا مَعَكُمَا وَمَعَ بني إِسْرَائِيل نسْمع مَا يجيبكم فِرْعَوْن، وَأما قَوْله: {مستمعون} قد بَينا مثل هَذَا فِيمَا سبق، وَذكرنَا أَنه قد ذكر نَفسه بِلَفْظ الْجَمَاعَة فِي مَوَاضِع على طَرِيق التفخيم والتعظيم.(4/40)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
وَقَوله تَعَالَى: {فَأتيَا فِرْعَوْن فقولا إِنَّا رَسُول رب الْعَالمين} فَإِن قيل: كَيفَ لم يقل: إِنَّا رَسُولا رب الْعَالمين؟ وَالْجَوَاب: أَن معنى الرَّسُول هَاهُنَا هُوَ الرسَالَة.
قَالَ الشَّاعِر:
(لقد كذب الواشون مَا فهمت عِنْدهم ... بِسوء وَلَا أرسلتهم برَسُول)
أَي: برسالة، فعلى هَذَا معنى الْآيَة: فقولا إِنَّا ذُو رِسَالَة رب الْعَالمين، وَيُقَال: إِن قَوْله: {رَسُول رب الْعَالمين} رَسُولا رب الْعَالمين، وَاحِد بِمَعْنى الِاثْنَيْنِ.(4/40)
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
وَقَوله: {أَن أرسل مَعنا بني إِسْرَائِيل} أَي: أرسلهم مَعنا إِلَى الشَّام، وَكَانَ قد استعبدهم، واستسخرهم فِي أَنْوَاع الْأَعْمَال، وَقد بَينا.(4/40)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
وَقَوله: {قَالَ ألم نربك فِينَا وليدا} فِي الْآيَة حذف؛ وَهُوَ أَنه ذهب وَجَاء إِلَى(4/40)
{أَن أرسل مَعنا بني إِسْرَائِيل (17) قَالَ ألم نربك فِينَا وليدا وَلَبِثت فِينَا من عمرك سِنِين (18) وَفعلت فعلتك الَّتِي فعلت وَأَنت من الْكَافرين (19) قَالَ فعلتها إِذا فِرْعَوْن، وَدعَاهُ إِلَى الله، فَأَجَابَهُ بِهَذَا، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى رَجَعَ إِلَى مصر وَعَلِيهِ جُبَّة صوف، وَفِي يَده عَصَاهُ، والمكتل مُعَلّق بِرَأْس الْعَصَا فِيهِ زَاده، فروى أَنه جَاءَ وَدخل دَار نَفسه، وَطلب هَارُون، وَقَالَ لَهُ: إِن الله أَرْسلنِي إِلَى فِرْعَوْن، وأرسلك أَيْضا إِلَيْهِ حَتَّى نَدْعُو فِرْعَوْن إِلَى الله تَعَالَى.
فَخرجت أمهما وصاحت، وَقَالَت: إِن فِرْعَوْن يطلبك ليقتلك، فَلَو ذهبتما إِلَيْهِ قتلكما، فَلم يلْتَفت مُوسَى إِلَى قَوْلهَا، وذهبا إِلَى بَاب فِرْعَوْن لَيْلًا، ودقا الْبَاب، فَفَزعَ البوابون، وَقَالُوا: من بِالْبَابِ؟ وروى أَنه اطلع البواب عَلَيْهِمَا، فَقَالَ لَهما: من أَنْتُمَا؟ فَقَالَ مُوسَى: أَنا رَسُول رب الْعَالمين، فَذهب البواب إِلَى فِرْعَوْن، وَقَالَ: إِن مَجْنُونا بِالْبَابِ يزْعم أَنه رَسُول رب الْعَالمين، فَترك حَتَّى أصبح ثمَّ دَعَاهُ. وَفِي بعض الْقَصَص: أَنَّهُمَا مكثا سنة لَا يصلان إِلَيْهِ، ثمَّ وصلا.
وَقَوله: {قَالَ ألم نربك فِينَا وليد} فِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى لما دخل عَلَيْهِ، وَنظر إِلَيْهِ فِرْعَوْن عَرَفَة، فَقَالَ: ألم نربك فِينَا وليدا أَي: صَغِيرا.
وَقَوله: {وَلَبِثت فِينَا من عمرك سِنِين} أَي: ثَمَان عشرَة سنة، وَقَالَ بَعضهم: ثَلَاثِينَ سنة.(4/41)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
وَقَوله: {وَفعلت فعلتك الَّتِي فعلت} أَي: قتلت الرجل، وَهُوَ الَّذِي كَانَ وكزه فَقتله، وقرىء فِي الشاذ: " فعلتك " بِكَسْر الْفَاء، وَقَوله: {وَأَنت من الْكَافرين} أَي: الْكَافرين لنعمتي، قَالَ الشَّاعِر:
(وَالْكفْر (مخبثة) لنَفس الْمُنعم ... )(4/41)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فعلتها إِذا} أَي: فعلت مَا فعلت حِينَئِذٍ {وَأَنا من الضَّالّين} أَي: من الْجَاهِلين. وَقيل: من الناسين.(4/41)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
قَوْله تَعَالَى: {ففررت مِنْكُم لما خفتكم فوهب لي رَبِّي حكما} أَي: النُّبُوَّة وَالْعلم.(4/41)
{وَأَنا من الضَّالّين (20) ففررت مِنْكُم لما خفتكم فوهب لي رَبِّي حكما وَجَعَلَنِي من الْمُرْسلين (21) وَتلك نعْمَة تمنها عَليّ أَن عبدت بني إِسْرَائِيل (22) }
وَقَوله: {وَجَعَلَنِي من الْمُرْسلين} ظَاهر الْمَعْنى.(4/42)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
وَقَوله تَعَالَى: {وَتلك نعْمَة تمنها عَليّ أَن عبدت بني إِسْرَائِيل} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن ألف الِاسْتِفْهَام محذوفة، وَمَعْنَاهُ: أَو تِلْكَ نعْمَة تمنها على؟ قَالَ الشَّاعِر:
(تروح من الْحَيّ أم تبتكر ... وماذا يضيرك لَو تنْتَظر)
أَي: أتروح من الْحَيّ أم تبتكر.
وَالْقَوْل الثَّانِي مَعْنَاهُ: وَتلك نعْمَة أَي: التربية نعْمَة تمنها على أَن تَعْتَد بهَا على، وَقَوله: {أَن عبدت بني إِسْرَائِيل} أَي: استعبدت بني إِسْرَائِيل، وعاملتهم من الْمُعَامَلَات القبيحة.
وَالْقَوْل الثَّالِث: وَتلك نعْمَة تمنها على بالتربية، وَقَوله: {أَن عبدت بني إِسْرَائِيل} يَعْنِي: باستعبادك بني إِسْرَائِيل ربيتني وكفلتني، وَمَعْنَاهُ: لَوْلَا أَنَّك استعبدت بني إِسْرَائِيل مَا وَقعت إِلَيْك، (وَمَا) ربيتني؛ فَإِنَّهُ قد كَانَ لي من يربيني، وَحَقِيقَة الْمَعْنى دفع مَتنه.(4/42)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْن وَمَا رب الْعَالمين} وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: " كنت وَاقِفًا عِنْد رَبِّي حِين قَالَ فِرْعَوْن هَذَا، فنشرت جناحي وتهيأت لعذابه إِذا أَمرنِي الرب، فَقَالَ: يَا جِبْرِيل، إِنَّمَا يعجل من يخَاف الْفَوْت ". وَالْخَبَر غَرِيب.
وَاعْلَم أَن سُؤال المائية - وَلَا يجوز على الله - وَإِنَّمَا هَذَا من أَوْصَاف المخلوقين؛ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن مُوسَى لم يجب سُؤال المائية، فَلم يقل: رَبِّي لَونه كَذَا، وَهُوَ(4/42)
{قَالَ فِرْعَوْن وَمَا رب الْعَالمين (23) قَالَ رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم موقنين (24) قَالَ لمن حوله أَلا تَسْمَعُونَ (25) قَالَ ربكُم وَرب آبائكم الْأَوَّلين (26) قَالَ إِن رَسُولكُم الَّذِي أرسل إِلَيْكُم لمَجْنُون (27) قَالَ رب الْمشرق من كَذَا، وريحه كَذَا، وَلَكِن أجَاب بِذكر أَفعاله الدَّالَّة عَلَيْهِ، فَقَالَ: {رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم موقنين} .
وَاعْلَم أَن سُؤال المائية سُؤال عَن جنس الشَّيْء، وَالله تَعَالَى منزه عَن الجنسية، وَيُقَال: إِن جَوَاب مُوسَى عَن معنى السُّؤَال، لَا عَن عين السُّؤَال؛ كَانَ معنى السُّؤَال: وَمن رب الْعَالمين؟ قَالَ: رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم موقنين.
وَمعنى قَوْله: {إِن كُنْتُم موقنين} هَاهُنَا أَنكُمْ كَمَا توقنون الْأَشْيَاء الَّتِي [تعاينونها] ، فَأَيْقنُوا أَن إِلَه الْخلق هُوَ الله تَعَالَى.(4/43)
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لمن حوله أَلا تَسْمَعُونَ} يعْنى: لَا تستمعون، وَقَالَ فِرْعَوْن هَذَا على استبعاد جَوَاب مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقد كَانَ أُولَئِكَ الْقَوْم يَعْتَقِدُونَ أَن آلِهَتهم مُلُوكهمْ، فَزَاد مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - فِي الْبَيَان فَقَالَ: {ربكُم وَرب آبائكم الْأَوَّلين} .(4/43)
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِن رَسُولكُم الَّذِي أرسل إِلَيْكُم لمَجْنُون} وَقد كَانَ عِنْدهم أَن من لَا يعْتَقد مَا يَعْتَقِدُونَ فَلَيْسَ بعاقل، فَزَاد مُوسَى فِي الْبَيَان فَقَالَ: {رب الْمشرق وَالْمغْرب وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم تعقلون} فَأجَاب فِرْعَوْن، وَقَالَ: {لَئِن اتَّخذت إِلَهًا غَيْرِي لأجعلنك من المسجونين}
وَفِي الْقِصَّة: أَن سجنه كَانَ أَشد من الْقَتْل، فَإِنَّهُ كَانَ يحبس الرجل وَحده فِي مَوضِع لَا يسمع شَيْئا وَلَا يبصر شَيْئا، ويهوى فِي الأَرْض، فَأجَاب مُوسَى، وَقَالَ: {أَو لَو جِئتُكُمْ بِشَيْء مُبين} أَي: تحبسني وَإِن جئْتُك بِشَيْء مُبين أَي: بِآيَة بَيِّنَة.(4/43)
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فأت بِهِ أَن كنت من الصَّادِقين فَألْقى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين} والثعبان الذّكر من الْحَيَّات الْعَظِيم مِنْهَا، فَإِن قيل: أَلَيْسَ قد قَالَ فِي مَوضِع آخر:(4/43)
{وَالْمغْرب وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم تعقلون (28) قَالَ لَئِن اتَّخذت إِلَهًا غَيْرِي لأجعلنك من المسجونين (29) قَالَ أَو لَو جئْتُك بِشَيْء مُبين (30) قَالَ فأت بِهِ إِن كنت من الصَّادِقين (31) فَألْقى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين (32) وَنزع يَده فَإِذا هِيَ بَيْضَاء
{كَأَنَّهَا جَان} والجان الْحَيَّة الصَّغِيرَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى الجان أَنَّهَا كالحية الصَّغِيرَة فِي اهتزازها وَصفَة حركتها، وَهِي فِي نَفسهَا حَيَّة عَظِيمَة.
وَذكر السّديّ وَغَيره: أَن الْعَصَا صَارَت حَيَّة صفراء سعراء كأعظم مَا يكون من الْحَيَّات.
وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا ارْتَفَعت من الأَرْض بِقدر ميل، فغرت فاها، وَقَامَت على ذنبها، وَجعلت تتملظ فِي وَجه فِرْعَوْن.
وروى أَنَّهَا أخذت قبَّة فِرْعَوْن بَين نابها، وَصَاح فِرْعَوْن، قَول: يَا مُوسَى، أنْشدك بِالَّذِي أرسلك.
وَقَوله: (مُبين) أَي: يبين الثعبان أَنه حجَّة عَظِيمَة.(4/44)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {وَنزع يَده فَإِذا هِيَ بَيْضَاء للناظرين} قد بَينا.(4/44)
قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
وَقَوله: {قَالَ للملأ حوله إِن هَذَا لساحر عليم} أَي: عَالم حاذق.(4/44)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
قَوْله: {يُرِيد أَن يخرجكم من أَرْضكُم بسحره} فَإِن قَالَ قَائِل: إِنَّمَا أَرَادَ مُوسَى أَن يخرج بني إِسْرَائِيل [لَا] أَن يخرج فِرْعَوْن وَقَومه، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنهم كَانُوا قد اتَّخذُوا بني إِسْرَائِيل عبيدا وخولا، فَلَمَّا أَرَادَ مُوسَى إِخْرَاج بني إِسْرَائِيل، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ إخراجهم.
وَقَوله: {فَمَاذَا تأمرون} أَي: مَاذَا تشيرون.(4/44)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)
قَوْله تَعَالَى: (أرجه وأخاه) أَي: أخر أمره وَأمر أَخِيه، وَمَعْنَاهُ: لَا يتم فصل الْأَمر حَتَّى تظهر لَك الْحجَّة عَلَيْهِ.
وَقَوله: {وَابعث فِي الْمَدَائِن حاشرين} قد بَينا.(4/44)
{للناظرين (33) قَالَ للملأ حوله إِن هَذَا لساحر عليم (34) يُرِيد أَن يخرجكم من أَرْضكُم بسحره فَمَاذَا تأمرون (35) قَالُوا أرجه وأخاه وَابعث فِي الْمَدَائِن حاشرين (36) يأتوك بِكُل سحار عليم (37) فَجمع السَّحَرَة لميقات يَوْم مَعْلُوم (38) وَقيل للنَّاس هَل أَنْتُم مجتمعون (39) لَعَلَّنَا نتبع السَّحَرَة إِن كَانُوا هم الغالبين (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَة قَالُوا لفرعون أئن لنا لأجراً إِن كُنَّا نَحن الغالبين}(4/45)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
وَقَوله: {يأتوك بِكُل سحار عليم} أَي: سَاحر حاذق، وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ يجْرِي الرزق للسحرة، وَقد جمع من السَّحَرَة سِتَّة آلَاف سَاحر، وَقيل: اثْنَي عشر ألفا.(4/45)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
وَقَوله: {فَجمع السَّحَرَة لميقات يَوْم مَعْلُوم} وَهُوَ يَوْم الزِّينَة على مَا بَينا من قبل.(4/45)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
وَقَوله: {وَقيل للنَّاس هَل أَنْتُم مجتمعون لَعَلَّنَا نتبع السَّحَرَة إِن كَانُوا هم الغالبين} مَعْلُوم الْمَعْنى.(4/45)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَة} يَعْنِي لمُوسَى {قَالُوا لفرعون أئن لنا الْأجر أَن كُنَّا نَحن الغالبين} .(4/45)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قَوْله: {قَالَ نعم وَإِنَّكُمْ إِذا لمن المقربين} أَي: فِي الْمنزلَة، وَفِي الْقِصَّة أَن مُوسَى قَالَ لكبير السَّحَرَة: أتؤمن بِي إِن غلبتكم؟ قَالَ لَهُ كَبِير السَّحَرَة: إِن كنت ساحرا، فلأغلبنك، وَإِن غلبتني لأؤمنن بك.(4/45)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لَهُم مُوسَى ألقوا مَا أَنْتُم ملقون} .
وَقَوله: {فَألْقوا حبالهم وعصيهم وَقَالُوا بعزة فِرْعَوْن} أَي: بعز فِرْعَوْن وَملكه {إِنَّا لنَحْنُ الغالبون} .(4/45)
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
وَقَوله: {فَألْقى مُوسَى عَصَاهُ} فِي الْقِصَّة: أَن جَمِيع الأَرْض ميلًا فِي ميل صَارَت حيات وأفاعي فِي رُؤْيَة النَّاس، فَلَمَّا ألْقى مُوسَى الْعَصَا صَارَت ثعبانا، وَجعلت تعظم على قدر حبالهم وعصيهم، ثمَّ جعل يلتقط ويلتقم (وَاحِدًا وَاحِدًا) حَتَّى أكل الْكل، ثمَّ أَن مُوسَى أَخذ بِذَنبِهِ فَصَارَ عَصا كَمَا كَانَ، فتحيرت السَّحَرَة عِنْد ذَلِك،(4/45)
{قَالَ نعم وَإِنَّكُمْ إِذا لمن المقربين (42) قَالَ لَهُم مُوسَى ألقوا مَا أَنْتُم ملقون (43) فَألْقوا حبالهم وعصيهم وَقَالُوا بعزة فِرْعَوْن إِنَّا لنَحْنُ الغالبون (44) فَألْقى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون (45) فألقي السَّحَرَة ساجدين (46) قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين (47) رب مُوسَى وَهَارُون (48) قَالَ آمنتم لَهُ قبل أَن آذن لكم أَنه فَقَالُوا: إِن كَانَ هَذَا سحر فَأَيْنَ ذهبت عصينا وحبالنا؟ ! وتيقنوا أَن الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى أَمر من عِنْد الله، فوقعوا سجدا وآمنوا، فَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَألْقى السَّحَرَة ساجدين} .(4/46)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)
وَقَوله: {فَألْقى السَّحَرَة ساجدين} يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: وَقَعُوا ساجدين، وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: ألقاهم الْحق الَّذِي رَأَوْهُ (ساجدين.(4/46)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين} فِي الْقِصَّة: أَنهم) لما قَالُوا هَكَذَا، قَالَ فِرْعَوْن: أَنا رب الْعَالمين، فَقَالَ السَّحَرَة: {رب مُوسَى وَهَارُون} .(4/46)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
وَقَوله: {قَالَ آمنتم لَهُ قبل أَن آذان لكم إِنَّه لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر فلسوف تعلمُونَ} يَعْنِي: سَوف تعلمُونَ عَاقِبَة أَمركُم.
وَقَوله: {لأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أَجْمَعِينَ} قد بَينا مَعْنَاهُ.(4/46)
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لَا ضير} أَي: لَا ضَرَر وَلَا مَكْرُوه.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَإنَّك لَا يضورك بعد حول ... أظبي كَانَ أمك أم حمَار)
وَقَوله: {إِنَّا إِلَى رَبنَا منقلبون} أَي: رَاجِعُون.(4/46)
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا نطمع أَن يغْفر لنا رَبنَا خطايانا} أَي: ذنوبنا.
{أَن كُنَّا أول الْمُؤمنِينَ} قَالَ الْفراء: أول الْمُؤمنِينَ من أهل زَمَاننَا، وَقَالَ الزّجاج: هَذَا ضَعِيف؛ لِأَن بني إِسْرَائِيل كَانُوا قد آمنُوا بمُوسَى قبلهم، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَن كُنَّا أول الْمُؤمنِينَ عِنْد ظُهُور هَذِه الْحجَّة، وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: أَن كُنَّا أول الْمُؤمنِينَ من قوم فِرْعَوْن.(4/46)
{لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر فلسوف تعلمُونَ لأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضير إِنَّا إِلَى رَبنَا منقلبون (50) إِنَّا نطمع أَن يغْفر لنا رَبنَا خطايانا أَن كُنَّا أول الْمُؤمنِينَ (51) وأوحينا إِلَى مُوسَى أَن أسر بعبادي(4/47)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
قَوْله تَعَالَى: {وأوحينا إِلَى مُوسَى أَن أسر بعبادي} ذكر " أسر "؛ لأَنهم سَارُوا لَيْلًا.
وَقَوله: {إِنَّكُم متبعون} يَعْنِي: يتبعكم فِرْعَوْن وَقَومه، وَعَن عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ: لما بلغ فِرْعَوْن أَن مُوسَى وَقَومه قد سَارُوا، قَالَ لِقَوْمِهِ: إِذا صَاح الديك فاركبوا، فَلم يَصح ديك فِي تِلْكَ اللَّيْلَة، حَتَّى بعد مُوسَى وَقَومه، فَلَمَّا أصبح دَعَا بِشَاة، وَأمر بذبحها، ثمَّ قَالَ: لَا تسلخ هَذِه الشَّاة إِلَّا وَقد اجْتمع خَمْسمِائَة ألف مقَاتل، قَالَ: فَلم يفرغ السلاخ عَن السلخ إِلَّا وَقد كَانَ اجْتمع خَمْسمِائَة ألف مقَاتل عددا.
وَذكر غَيره: أَن الْمَلَائِكَة دخلُوا بيُوت القبط وَقتلُوا أبكارهم، فاشتغلوا صَبِيحَة ذَلِك الْيَوْم بدفن الْأَبْكَار.(4/47)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)
قَوْله تَعَالَى: {فَأرْسل فِرْعَوْن فِي الْمَدَائِن حاشرين} يَعْنِي: أرسل الشَّرْط الْمَدَائِن حَتَّى حشروا النَّاس. وَفِي التفاسير: أَنه كَانَ ألف مَدِينَة وَاثنا عشر ألف قَرْيَة.(4/47)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
وَقَوله: {إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ} أَي: لجَماعَة قَليلَة، وأنشدوا فِي الشرذمة:
(جَاءَ الشتَاء وقميصي أَخْلَاق ... شراذم يضْحك مني النواق)
وأنشدوا فِي قَوْله: {قَلِيلُونَ} :
{فَرد قواصي الْأَحْيَاء مِنْهُم ... فقد رجعُوا كحى واحدينا}
أَي: كحى وَاحِد.
وَعَن عبد الله بن مَسْعُود: أَن مُوسَى كَانَ فِي سِتّمائَة ألف وَسبعين ألفا، فسماهم فِرْعَوْن شرذمة لِكَثْرَة قومه.
وروى أَن هامان كَانَ على مقدمته فِي ألف ألف، وروى أَن فِرْعَوْن كَانَ فِي سَبْعَة آلَاف ألف وروى أَنه كَانَ بَين يَدَيْهِ مائَة ألف ناشب وَمِائَة ألف أَصْحَاب الحراب، وَمِائَة(4/47)
{إِنَّكُم متبعون (52) فَأرْسل فِرْعَوْن فِي الْمَدَائِن حاشرين (53) إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُم لنا لغائظون (55) وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون (56) ألف أَصْحَاب الأعمدة.(4/48)
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
وَقَوله: {وَإِنَّهُم لنا لغائظون} يَعْنِي: أَنهم غاظونا وأغضبونا، وَكَانَ غيظه مِنْهُم بخروجهم من غير أمره، واستعارتهم الْحلِيّ من قومه ومضيهم بهَا.(4/48)
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
وَقَوله: {وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون} وَقُرِئَ: " حذرون " فالحذر هُوَ المتيقظ، والحاذر المستعد.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَكتب عَلَيْهِ احذر الْمَوْت ... وَحده فَلم يبْق حاذر)
وَقَرَأَ ابْن أبي عَامر: " وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون) بِالدَّال غير الْمُعْجَمَة. وَيُقَال: بعير حادر إِذا كَانَ ممتلئا من اللَّحْم، عَظِيم الجثة، وَقيل: {إِنَّا لجَمِيع حاذرون} أَي: مؤدون، وَمعنى مؤدون أَي: مَعْنَاهُ الأداة وَالسِّلَاح.(4/48)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57)
قَوْله تَعَالَى: {فأخرجناهم من جنَّات وعيون} فِي الْقِصَّة: أَن الْبَسَاتِين كَانَت ممتدة على حافتي النّيل من أَعْلَاهُ إِلَى آخِره، وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: سيد الْأَنْهَار هُوَ النّيل، فَإِذا أجراه الله تَعَالَى أمده من جَمِيع الْأَنْهَار، وفجر لَهُ ينابيع الأَرْض، فَإِذا تمّ إجراؤه رَجَعَ كل مَاء إِلَى عنصره.(4/48)
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
وَقَوله: {وكنوز} أَي: كنوز الْأَمْوَال، وَفِي بعض الْقَصَص: أَنه كَانَ لفرعون ثَمَانمِائَة ألف غُلَام، كل غُلَام على فرس من عَتيق، فِي عنق كل فرس طوق من ذهب.
وَقَوله: {ومقام كريم} أَي: منَازِل حسان، وَقد قيل: إِن الْمقَام الْكَرِيم هُوَ المنابر، وَكَانَ بِمصْر ألف مِنْبَر فِي ذَلِك الْوَقْت، وَقيل: {ومقام كريم} أَي: مجْلِس الْأَشْرَاف، وَذكر بَعضهم: أَنه كَانَ إِذا قعد على سَرِيره وضع بَين يَدَيْهِ ثَلَاثمِائَة كرْسِي من ذهب يجلس عَلَيْهَا الْأَشْرَاف، عَلَيْهِم أقبية الديباج مخوصة بِالذَّهَب.(4/48)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
وَقَوله: {كَذَلِك وأورثناها بني إِسْرَائِيل} . وروى أَن بني إِسْرَائِيل عَادوا إِلَى مصر(4/48)
{فأخرجناهم من جنَّات وعيون (57) وكنوز ومقام كريم (58) وَأَقَامُوا فِيهَا، فَهُوَ معنى قَوْله: {وأورثناها بني إِسْرَائِيل} .(4/49)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
وَقَوله: (فأتبعوهم مشرقين) أَي: عِنْد شروق الشَّمْس، وشروقها طُلُوعهَا، وروى أَبُو بردة [عَن] أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ " أَن النَّبِي نزل على أَعْرَابِي فِي سفر، فَأحْسن الْأَعرَابِي ضيافته، فَلَمَّا ارتحل من عِنْده، قَالَ للأعرابي: لَو أَتَيْتنَا أكرمناك، فَجَاءَهُ الْأَعرَابِي بعد ذَلِك، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: مَا حَاجَتك؟ فَقَالَ: نَاقَة برحلها وَأُخْرَى أحتلبها، فَأمر لَهُ النَّبِي بذلك، ثمَّ قَالَ: أَيعْجزُ أحدكُم أَن يكون كعجوز بني إِسْرَائِيل؟ فَسئلَ عَن ذَلِك، فَقَالَ: لما خرج مُوسَى ببني إِسْرَائِيل من مصر ضلوا الطَّرِيق، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الْقَمَر خسف، وَالشَّمْس كسفت، وَوَقع النَّاس فِي ظلمَة عَظِيمَة، وتحير مُوسَى، فَقَالَ لَهُ عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل: إِن يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - أوصى أَن بني إِسْرَائِيل إِذا خَرجُوا من مصر فلينقلوا عِظَامه مَعَهم، فَعلم مُوسَى انهم ضلوا الطَّرِيق لذَلِك، فَقَالَ لَهُم: وَمن يعرف مَوضِع عِظَامه؟ فَقَالُوا: لَا يعرفهُ سوى عَجُوز من بني إِسْرَائِيل، فَدَعَا بالعجوز وسألها عَن مَوضِع الْعِظَام، فَقَالَت: لَا حَتَّى تقضي حَاجَتي، فَقَالَ: مَا حَاجَتك؟ قَالَت: حَاجَتي أَن أكون مَعَك فِي الْجنَّة أَي: فِي درجتك، فكره مُوسَى ذَلِك، فَنزل الْوَحْي أَن أعْطهَا ذَلِك، فَأَعْطَاهَا، ثمَّ إِنَّهَا دلّت على قبر يُوسُف، فَحمل مُوسَى عِظَام يُوسُف وانجلت الظلمَة ".(4/49)
{كَذَلِك وأورثناها بني إِسْرَائِيل (59) فأتبعوهم مشرقين (60) فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَاب مُوسَى إِنَّا لمدركون (61)(4/50)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ} أَي: التقى الْجَمْعَانِ، وَمعنى التلاقي هُوَ أَنه رأى هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاء هَؤُلَاءِ.
وَقَوله: {قَالَ أَصْحَاب مُوسَى إِنَّا لمدركون} بِالتَّشْدِيدِ، وَالْمعْنَى مَا بَينا.(4/50)
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ كلا} أَي: ارتدعوا عَن هَذَا القَوْل وَلَا تقولوه، فَإِنَّهُم لَا يدركونكم.
وَقَوله: {إِن معي رَبِّي سيهدين} مَعْنَاهُ: إِن معي رَبِّي بِالْحِفْظِ والنصرة.
وَقَوله: {سيهدين} أَي: يدلني على طَرِيق النجَاة، وَالْهِدَايَة هِيَ الدّلَالَة على طَرِيق النجَاة.(4/50)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
قَوْله تَعَالَى: {فأوحينا إِلَى مُوسَى أَن أضْرب بعصاك الْبَحْر} فِي الْقِصَّة: أَن مُؤمن آل فِرْعَوْن كَانَ قُدَّام بني إِسْرَائِيل، فَقَالَ لمُوسَى: يَا نَبِي الله، أَيْن أَمرك رَبك؟ فَقَالَ: أمامك. قَالَ: يَا نَبِي الله، أَمَامِي الْبَحْر؟ {} قَالَ مُوسَى: وَالله مَا كذبت وَلَا كذبت. وروى أَن يُوشَع بن نون قَالَ لمُوسَى: يَا نَبِي الله، أَيْن أَمرك رَبك؟ قَالَ: الْبَحْر. قَالَ: أقتحمه؟ قَالَ: نعم، فاقتحم الْبَحْر وَمر، فَلَمَّا جَاءَ بَنو إِسْرَائِيل واقتحموا انغمسوا فِي الْبَحْر، وَأوحى الله إِلَى مُوسَى أَن اضْرِب بعصاك الْبَحْر. وروى أَن مُوسَى اقتحم الْبَحْر فَرده التيار، فَقَالَ للبحر: انفرق، فَلم ينفرق، فَأمر الله تَعَالَى أَن يضْربهُ بالعصا فَضَربهُ للمرة الأولى، فأط الْبَحْر، ثمَّ ضربه الثَّانِيَة فأط، ثمَّ ضربه الثَّالِثَة فانفرق، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فانفلق} .
وَقَوله: {فَكَانَ كل فرق} أَي: فلق، وَالْفرق والفلق وَاحِد.
وَقَوله: {كالطود الْعَظِيم} أَي: الْجَبَل الْعَظِيم، قَالَ الشَّاعِر:
(حلوا بأبقرة تسيل عَلَيْهِم ... مَاء الْفُرَات يَجِيء من أطواد)
وَالرِّوَايَة أَن مَاء الْبَحْر (تراكب) بعضه على بعض حَتَّى صَار كالجبل، وَظهر اثْنَا عشر طَرِيقا، وضربتها الرّيح حَتَّى جَفتْ، وَمر كل سبط فِي طَرِيق، فَقَالُوا: لَا نرى(4/50)
{قَالَ كلا إِن معي رَبِّي سيهيدين (62) فأوحينا إِلَى مُوسَى أَن أضْرب بعصاك الْبَحْر فانفلق فَكَانَ كل فرق كالطود الْعَظِيم (63) وأزلفنا ثمَّ الآخرين (64) إِخْوَاننَا، وَلَعَلَّ إِخْوَاننَا قد غرقوا، فَضرب الله لَهُم كوى - جمع كوَّة - على المَاء حَتَّى نظر بَعضهم إِلَى بعض، وَجعلُوا يتحدثون.(4/51)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
قَوْله تَعَالَى: {وأزلفنا ثمَّ الآخرين} أزلفنا أَي: قربنا، قَالَ الشَّاعِر:
(فَكل يَوْم مضى أَو لَيْلَة سلفت ... فِيهَا النُّفُوس إِلَى الْآجَال تزدلف)
وَقَالَ آخر:
(طي اللَّيَالِي زلفا فزلفا ... سماوة الْهلَال حَتَّى احقوقفا) .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أزلفنا أَي: جَمعنَا، وَمِنْه لَيْلَة الْمزْدَلِفَة أَي: لَيْلَة الْجمع، وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: " وأزلفناهم الآخرين " أَي: أوقعناهم فِي موقع زلف، وَفِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل كَانَ بَين بني إِسْرَائِيل وَبَين فِرْعَوْن وَقَومه، وَكَانَ يَسُوق بني إِسْرَائِيل، فَيَقُولُونَ: مَا رَأينَا سائقا أحسن سِيَاقَة من هَذَا الرجل، وَكَانَ يزرع قوم فِرْعَوْن، فَكَانُوا يَقُولُونَ: مَا رَأينَا وازعاً أحسن زعة من هَذَا. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لابد للنَّاس من وزعة أَي: سُلْطَان يَكفهمْ حصان.
وَقد بَينا أَن جِبْرِيل كَانَ على فرس أُنْثَى وديق وَفرْعَوْن على حصان، فَدخل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام الْبَحْر، وَأتبعهُ فِرْعَوْن لَا يملك نَفسه، فَلَمَّا دخل جمعيهم الْبَحْر، وَأَرَادَ أَوَّلهمْ أَن يخرج، وَكَانَ بَين طرفِي الْبَحْر [أَرْبَعَة] فراسخ، وَهَذَا هُوَ بَحر القلزم، طرف من بَحر فَارس، فَلَمَّا اجْتَمعُوا فِي الْبَحْر جَمِيعًا، وَدخل آخِرهم، وَأَرَادَ أَوَّلهمْ أَن يخرج، أطبق الْبَحْر عَلَيْهِم.
وَعَن سعيد بن جُبَير: أَن الْبَحْر كَانَ سَاكِنا قبل ذَلِك، فَلَمَّا ضربه مُوسَى بالعصا اضْطربَ، فَجعل يمد ويجزر.(4/51)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
قَوْله تَعَالَى: {وأنجينا مُوسَى وَمن مَعَه اجمعين ثمَّ أغرقنا الآخرين} ظَاهر الْمَعْنى،(4/51)
{وأنجينا مُوسَى وَمن مَعَه أَجْمَعِينَ (65) والإغراق إهلاك بغمر المَاء.(4/52)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَة} أَي: لعبرة.
وَقَوله: (وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين) أَي: بمصدقين، والمارد بِهِ قوم فِرْعَوْن، وروى أَنه لم يُؤمن [من] قوم فِرْعَوْن إِلَّا [أسية] امْرَأَته [وحزقيل] ، وماشطة بنت فِرْعَوْن، والعجوز الَّتِي دلّت على عِظَام يُوسُف.(4/52)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم} الْعَزِيز هُوَ الْقَادِر الَّذِي لَا يُمكنهُ معازته أَي: مغالبته، وَالله تَعَالَى عَزِيز، وَهُوَ فِي وصف عزته رَحِيم.(4/52)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
قَوْله تَعَالَى: {واتل عَلَيْهِم نبأ إِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومه مَا تَعْبدُونَ} مَعْنَاهُ: أَي شَيْء تَعْبدُونَ؟ ! .(4/52)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا نعْبد أصناما فنظل لَهَا عاكفين} أَي: فنقيم على عبادتها، يُقَال: ظلّ فلَان يفعل كَذَا أَي: أَقَامَ عَلَيْهِ يَفْعَله بِالنَّهَارِ.(4/52)
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)
وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ هَل يسمعونكم} مَعْنَاهُ: هَل يسمعُونَ صوتكم ودعاءكم؟ وَقُرِئَ فِي الشاذ: " هَل يسمعونكم " بِرَفْع الْيَاء.(4/52)
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
وَقَوله: {أَو ينفعوكم} أَي: بالرزق.
وَقَوله: {أَو يضرون} أَي: يضرونكم إِن تركْتُم عبادتها.(4/52)
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا بل وجدنَا آبَاءَنَا كَذَلِك يَفْعَلُونَ} مَعْنَاهُ: أَنَّهَا لَا تسمع أقوالنا، وَلَا تجلب إِلَيْنَا نفعا، وَلَا تدفع عَنَّا ضرا، لَكِن اقتدينا بِآبَائِنَا، وَاسْتدلَّ أهل الْعلم بِهَذَا على أَن التَّقْلِيد لَا يجوز.(4/52)
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)
قَوْله: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ أَنْتُم وآبائكم الأقدمون} أَي: الْأَولونَ.(4/52)
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
وَقَوله: {فَإِنَّهُم عَدو لي} أَي: أَعدَاء لي.(4/52)
{ثمَّ أغرقنا الآخرين (66) إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (67) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (68) واتل عَلَيْهِم نبأ إِبْرَاهِيم (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومه مَا تَعْبدُونَ (70) قَالُوا نعْبد أصناما فنظل لَهَا عاكفين (71) قَالَ هَل يسمعونكم إِذْ تدعون (72) أَو ينفعوكم أَو يضرون (73) قَالُوا بل وجدنَا آبَاءَنَا كَذَلِك يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ (75) أَنْتُم وآباؤكم الأقدمون (76) فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين (77) الَّذِي خلقني فَهُوَ يهدين (78) وَالَّذِي هُوَ يطمعني
قَوْله: {إِلَّا رب الْعَالمين} اخْتلف القَوْل فِيهِ: فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنهم كَانُوا يعْبدُونَ الْأَصْنَام مَعَ الله تَعَالَى، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: كل من تَعْبدُونَ أَعدَاء لي إِلَّا رب الْعَالمين، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّهُم عَدو لي، لَكِن رب الْعَالمين وليي، فَإِن قيل: كَيفَ تكون الْأَصْنَام أَعدَاء لَهُ وَهِي جمادات، والعداوة لَا تُوجد إِلَّا من حَيّ عَاقل؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالُوا: إِن هَذَا من المقلوب وَمَعْنَاهُ: فَإِنِّي عَدو لَهُم، وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: فَإِنَّهُم عَدو لي أَي: لَا أتوهم، وَلَا اطلب من جهتهم نفعا، كَمَا لَا يتَوَلَّى الْعَدو وَلَا يطْلب من جِهَته النَّفْع.(4/53)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي خلقني فَهُوَ يهدين} أَي: يرشدني إِلَى طَرِيق النجَاة.(4/53)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
وَقَوله: {وَالَّذِي هُوَ يطعمني ويسقين} أَي: يغدى لي بِالطَّعَامِ وَالشرَاب، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن طَعَامي وشرابي من جِهَته، ورزقي من قبله، وَقد قَالَ بعض أَصْحَاب الخواطر: يطعمني طَعَام الْمَوَدَّة، ويسقني بكأس الْمحبَّة، وَقيل: يطعمني ذوق الْإِيمَان، ويسقيني بِقبُول الطَّاعَة.(4/53)
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
وَقَوله: {وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين} ذكر إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - هَذَا؛ لأَنهم كَانُوا يرَوْنَ الْمَرَض من الأغذية، والشفاء من الْأَدْوِيَة، وَقَوله: {وَإِذا مَرضت} هُوَ اسْتِعْمَال أدب، وَإِلَّا فالممرض والشافي هُوَ الله تَعَالَى بِإِجْمَاع أهل الدّين، وَقَالَ بعض أَصْحَاب الخواطر: وَإِذا مَرضت بالخوف؛ يشفيني بالرجاء، وَقيل: إِذا مَرضت بالطمع؛ يشفيني بالقناعة.(4/53)
{ويسقين (79) وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين (80) وَالَّذِي يميتني ثمَّ يحيين (81) وَالَّذِي أطمع أَن يفغر لي خطيئتي يَوْم الدّين (82) رب هَب لي حكما وألحقني بالصالحين (83) وَاجعَل لي لِسَان صدق فِي الآخرين (84) واجعلني من وَرَثَة جنَّة النَّعيم (85)(4/54)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
وَقَوله: {وَالَّذِي يميتني} يَعْنِي: يميتني فِي الدُّنْيَا، [و] يحييني فِي الْآخِرَة. وَقَالَ بعض أَصْحَاب الخواطر: يميتني بِرُؤْيَة الْخلق، ويحييني بِشَهَادَة الْحق، وَقيل: يميتني بالمعصية ويحييني بِالطَّاعَةِ.(4/54)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
وَقَوله: {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} أَي: أَرْجُو أَن يغْفر لي خطاياي، وخطاياه مَا ذكرنَا من كذباته الثَّلَاث، وَاعْلَم أَن الْأَنْبِيَاء معصومون من الْكَبَائِر، فَأَما الْخَطَايَا والصغائر تجوز عَلَيْهِم.
وَقَوله: {يَوْم الدّين} أَي: يَوْم الْحساب، وَذكر مُسلم فِي الصَّحِيح براوية عَائِشَة " أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُول الله، إِن عبد الله بن جدعَان كَانَ يقري الضَّيْف، وَيحمل الْكل، وَذكرت أَشْيَاء من أَعمال الْخَيْر، أهوَ فِي الْجنَّة أم فِي النَّار؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " هُوَ فِي النَّار، إِنَّه لم يقل يَوْمًا: رب اغْفِر لي خطيئتي يَوْم الدّين ".(4/54)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
قَوْله تَعَالَى: {رب هَب لي حكما} أَي: الْعلم والفهم، وَقيل: إِصَابَة الْحق.
وَقَوله: {وألحقني بالصالحين} أَي: من الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ.(4/54)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
وَقَوله: {وَاجعَل لي لِسَان صدق فِي الآخرين} أَي: ثَنَاء حسنا إِلَى قيام السَّاعَة، وَيُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ تولي جَمِيع أهل الْأَدْيَان لَهُ، وَقبُول كل النَّاس إِيَّاه، وَيُقَال: إِن مَعْنَاهُ: اجْعَل فِي ذريتي من يقوم بِالْحَقِّ إِلَى قيام السَّاعَة.(4/54)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
وَقَوله: {واجعلني من وَرَثَة جنَّة النَّعيم} أَي: مِمَّن تعطيه جنَّة النَّعيم.(4/54)
{واغفر لأبي إِنَّه كَانَ من الضَّالّين (86) وَلَا تخزني يَوْم يبعثون (87) يَوْم لَا ينفع مَال وَلَا بنُون (88) إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم (89) وأزلفت الْجنَّة لِلْمُتقين (90) وبرزت الْجَحِيم للغاوين (91) وَقيل لَهُم أَيْن مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ (92) من دون الله هَل ينصرونكم أَو ينتصرون (93) فكبكبوا فِيهَا هُوَ والغاوون (94) وجنود إِبْلِيس(4/55)
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
وَقَوله: {واغفر لأبي إِنَّه كَانَ من الضَّالّين} قَالَ أهل الْعلم: هَذَا قبل أَن يتبرأ مِنْهُ، ويستقين أَنه عَدو لله، على مَا ذَكرْنَاهُ فِي سُورَة التَّوْبَة، وَقَالَ بَعضهم: واغفر لأبي أَي: جِنَايَته على، كَأَنَّهُ أسقط حَقه وَعَفا عَنهُ.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - يتَعَلَّق بِأَبِيهِ يَوْم الْقِيَامَة، وَيَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ، وأنجز لي مَا وَعَدتنِي، فيحول الله صُورَة أَبِيه إِلَى صُورَة ذبح، هُوَ ضبيع قَبِيح، فَإِذا رَآهُ إِبْرَاهِيم تَركه، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِأبي.(4/55)
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
وَقَوله: {وَلَا تخزني يَوْم يبعثون} أَي: لَا تفضحني، وَذَلِكَ بِأَن لَا يغْفر خطيئته، وكل من لم يغْفر لَهُ الله فقد أَخْزَاهُ.(4/55)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
وَقَوله {يَوْم لَا ينفع مَال وَلَا بنُون إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم} قَالَ أَكثر أهل الْعلم: سليم من الشّرك، فَإِن الْآدَمِيّ لَا يَخْلُو من ذَنْب، وَقيل: مخلص، وَقيل: نَاصح، وَقيل: قلب فِيهِ لَا إِلَه إِلَّا الله.(4/55)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
وَقَوله: {وأزلفت الْجنَّة لِلْمُتقين} أَي: قربت، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْجنَّة أقرب إِلَى أحدكُم من شِرَاك نَعله، وَالنَّار مثل ذَلِك ".(4/55)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
وَقَوله: {وبرزت الْجَحِيم} أَي: أظهرت الْجَحِيم.
{للغاوين} أَي: للْكَافِرِينَ، والغاوي من وَقع فِي خيبة لَا رَجَاء فِيهَا.(4/55)
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
قَوْله تَعَالَى: {وَقيل لَهُم أَيْن مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ من دون الله هَل ينصرونكم} أَي: يمْنَعُونَ الْعَذَاب عَنْكُم.(4/55)
{أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وهم فِيهَا يختصمون (96) تالله إِن كُنَّا لفي ضلال مُبين (97) إِذْ نسويكم بِرَبّ الْعَالمين (98) وَمَا أضلنا إِلَّا المجرمون (99) فَمَا لنا من شافعين (100) وَلَا صديق حميم (101) فَلَو أَن لنا كرة فنكون من الْمُؤمنِينَ (102) إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا
وَقَوله: {أَو ينْصرُونَ} أَي: يمتنعون.(4/56)
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
وَقَوله: {فكبكبوا فِيهَا هم} قَالَ القتيبي: طرح بَعضهم على بعض. وَقيل: دهوروا، ودهدهوا، ودهدوا، وَقيل: نكسوا فِيهَا، وَيُقَال: كَانَ فِي الأَصْل كببوا، فأدخلت الْكَاف فِيهِ فَصَارَ كبكبوا.
وَقَوله: {هُوَ الْغَاوُونَ} أَي: الشَّيَاطِين مَعَهم، وَيُقَال: من اتَّبَعُوهُمْ فِي الشّرك.(4/56)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
وَقَوله: {وجنود إِبْلِيس أَجْمَعُونَ} أَي: ذُريَّته.(4/56)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا وهم فِيهَا يختصمون} أَي: يُجَادِل بَعضهم بَعْضًا.(4/56)
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)
وَقَوله: {تالله إِن كُنَّا لفي ضلال مُبين} أَي: فِي خطأ بَين.(4/56)
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
وَقَوله: {إِذْ نسويكم بِرَبّ الْعَالمين} هَذَا قَوْلهم للأصنام وَمَعْنَاهُ: نعدلكم بِرَبّ الْعَالمين.(4/56)
وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)
وَقَوله: {وَمَا أضلنا إِلَّا المجرمون} أَي: القادة، وَيُقَال: إِبْلِيس وَابْن آدم الْكَافِر، وَهُوَ قابيل.(4/56)
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)
وَقَوله: {فَمَا لنا من شافعين} فِي الْأَخْبَار: أَن الْمُؤمنِينَ يشفعون للمذنبين، وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَة والأنبياء.(4/56)
وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
وَقَوله: {وَلَا صديق حميم} أَي: صديق خَاص، وَقيل: صديق قريب، وسمى حميما؛ لِأَنَّهُ يحمٌ لَك ويغضب لِأَجلِك، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: استكثروا من الأصدقاء الْمُؤمنِينَ، فَإِن لَهُم شَفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة. وَالصديق هُوَ الصَّادِق فِي الْمَوَدَّة على شَرط الدّين، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي بِرِوَايَة جَابر: " أَن الْمُؤمن يدْخل الْجنَّة وَيَقُول: أَيْن صديقي فلَان؟ فَيُقَال: هُوَ فِي النَّار بِذَنبِهِ، فَيشفع لَهُ فيخرجه الله من النَّار(4/56)
{كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (103) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (104) كذبت قوم نوح الْمُرْسلين (105) إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم نوح إِلَّا تَتَّقُون (106) إِنِّي لكم رَسُول أَمِين (107) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (108) وَمَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من اجْرِ إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين بِشَفَاعَتِهِ ".(4/57)
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
وَقَوله: {فَلَو أَن لنا كرة} أَي: رَجْعَة.
وَقَوله: {فنكون من الْمُؤمنِينَ} وَإِذا كُنَّا مُؤمنين فَيكون لنا شُفَعَاء أَيْضا كَمَا للْمُؤْمِنين شُفَعَاء.(4/57)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم} قد بَينا معنى الْكل.(4/57)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
قَوْله تَعَالَى: {كذبت قوم نوح الْمُرْسلين} قَالَ ابْن عَبَّاس: نوح أول رَسُول أرسل الله تَعَالَى وَهَذَا مَحْمُول على أَنه أول رَسُول أرْسلهُ الله تَعَالَى بعد آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَهُوَ صَاحب شَرِيعَة، وَإِنَّمَا ذكر الْمُرْسلين؛ لِأَن من كذب رَسُولا فقد كذب جَمِيع الرُّسُل.(4/57)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
وَقَوله: {إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم نوح} يَعْنِيك أَنه أخوهم فِي النّسَب.
وَقَوله: {أَلا تَتَّقُون} أَي: أَلا تتقوا الله.(4/57)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)
وَقَوله: {إِنِّي لكم رَسُول أَمِين} أَي: أَمِين فِيمَا بَيْنكُم وَبَين الله تَعَالَى، وَفِي بعض التفاسير: أَن نوحًا كَانَ يُسمى الْأمين قبل أَن يَبْعَثهُ الله.(4/57)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)
وَقَوله: {فَاتَّقُوا الله وأطيعون} أَي: اتَّقوا الله بترك الشّرك، وأطيعون فِيمَا آمركُم [بِهِ] .(4/57)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)
وَقَوله: {وَمَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر} أَي: من جعل.
وَقَوله: {إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين} أَي: ثوابي، قَالَ أهل الْعلم: وَلَا يجوز(4/57)
( {109) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (110) قَالُوا نؤمن لَك واتبعك الأرذلون (111) قَالَ وَمَا علمي بِمَا كَانُوا يعلمُونَ (112) إِن حسابهم إِلَّا على رَبِّي لَو تشعرون (113) وَمَا أَنا بطارد الْمُؤمنِينَ (114) إِن أَنا إِلَّا نَذِير مُبين (115) قَالُوا لَئِن لم تَنْتَهِ يَا نوح لتكونن من المرجومين (116) قَالَ رب إِن قومِي كذبون (117) فافتح بيني وَبينهمْ فتحا ونجني وَمن معي من الْمُؤمنِينَ (118) فأنجيناه وَمن مَعَه فِي الْفلك المشحون (119) ثمَّ أغرقنا للنَّبِي أَن يَأْخُذ جعلا على النُّبُوَّة؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تنفير النَّاس عَن قبُول الْإِيمَان، وَيجوز أَن يَأْخُذ الْهَدِيَّة؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى التنفير.(4/58)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
وَقَوله: {فَاتَّقُوا الله وأطيعون} أَعَادَهُ تَأْكِيدًا.(4/58)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أنؤمن لَك واتبعك الأرذلون} فِي التَّفْسِير: أَنهم الحاكة، والحجامون، والأساكفة وَمن أشبههم، وَقيل: إِنَّهُم أسافل النَّاس.(4/58)
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا علمي بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} قَالَ الزّجاج: الصناعات لَا تُؤثر فِي الديانَات، وَمعنى قَول نوح أَنه لَا علم لي بصناعتهم، وَإِنَّمَا أمرت أَن أدعوهم إِلَى الله، فَمن أجَاب قبلته فَهَذَا معنى(4/58)
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
قَوْله: {إِن حسابهم إِلَّا على رَبِّي لَو تشعرون وَمَا أَنا بطارد الْمُؤمنِينَ إِن أَنا إِلَّا نَذِير مُبين} .
وَقَوله: {إِن حسابهم} أَي: أَعْمَالهم {إِلَّا على رَبِّي لَو تشعرون} أَي: لَو تعلمُونَ.(4/58)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لَئِن لم تَنْتَهِ يَا نوح لتكونن منم المرجومين} أَي: المقتولين بِالْحِجَارَةِ، وَقَالَ السّديّ وَغَيره: من المشتومين.(4/58)
قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب إِن قومِي كذبون فافتح بيني وَبينهمْ فتحا} .
أَي: اقْضِ بيني وَبينهمْ بِقَضَائِك. تَقول الْعَرَب: أحاكمك إِلَى الفتاح أَي: إِلَى القَاضِي، قَالَ الشَّاعِر:
(أَلا أبلغ بني حكم رَسُولا ... بِأَنِّي عَن فتاحتهم غَنِي)(4/58)
{بعد البَاقِينَ (120) إِن فِي ذَلِك لِلْآيَةِ وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (121) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (122) كذبت عَاد الْمُرْسلين (123) إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم هود أَلا تَتَّقُون (124) إِنِّي لكم رَسُول أَمِين (125) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (126) وَمَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين (127) أتبنون بِكُل ريع آيَة تعبثون (128) وتتخذون مصانع
وَقَوله: {ونجني وَمن معي من الْمُؤمنِينَ} قد بَينا عدد من كَانَ مَعَه من الْمُؤمنِينَ.(4/59)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
قَوْله تَعَالَى: {فأنجيناه وَمن مَعَه فِي الْفلك المشحون} أَي: الموفر المملوء، وَقد بَينا صفة الْفلك وَمن كَانَ فِيهِ.(4/59)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
وَقَوله: {ثمَّ أغرقنا بعد البَاقِينَ} أَي: بعد إنجائه أغرقنا البَاقِينَ أَي: من بَقِي من قومه.(4/59)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين} ظَاهر الْمَعْنى إِلَى قَوْله: {كذبت عَاد الْمُرْسلين} .(4/59)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)
وَقَوله: {إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم هود} أَي: أخوهم فِي النّسَب.
وَقَوله: {أَلا تَتَّقُون} قد بَينا إِلَى قَوْله: {إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين} .(4/59)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
قَوْله تَعَالَى: {أتبنون بِكُل ريع} فِي الرّيع قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْمَكَان الْمُرْتَفع، وَالْآخر: أَنه الطَّرِيق الْوَاسِع بَين الجبلين.
وَقَوله: {آيَة} أَي: عَلامَة، وَقيل: بنيانا.
وَفِي الْقِصَّة: أَنهم كَانُوا يبنون على الْمَوَاضِع المرتفعة ليظهروا قوتهم ويتفاخروا بِهِ عَن النَّاس، وَعَن مُجَاهِد: أَن معنى الْآيَة: برج الْحمام، وَفِي الْقِصَّة: أَن قوم فِرْعَوْن كَانُوا يَلْعَبُونَ بالحمام، وَكَذَلِكَ قوم عَاد.
وَقَوله: {تعبثون} أَي: تلعبون.(4/59)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
قَوْله تَعَالَى: {وتتخذون مصانع} المصانع: جمع مصنعة؛ وَهِي الْحَوْض وَمَوْضِع المَاء، وَيُقَال: المصانع هَاهُنَا هِيَ الْحُصُون المشيدة، قَالَ الشَّاعِر:(4/59)
{لَعَلَّكُمْ تخلدون (129) وَإِذا بطشتم بطشتم جبارين (130) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (131) وَاتَّقوا الَّذِي أمدكم بِمَا تعلمُونَ (132) أمدكم بأنعام وبنين (133) وجنات وعيون (134) إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم (135) قَالُوا سَوَاء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين (136) إِن هَذَا إِلَّا خلق الْأَوَّلين (137) وَمَا نَحن بمعذبين (138) فَكَذبُوهُ
(تركنَا (دِيَارهمْ مِنْهُم قفارا ... وهدمنا المصانع والبروجا}
وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تخلدون} أَي: كأنكم تخلدون، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " كأنكم خَالدُونَ "، وَيُقَال: طامعين فِي الخلود.(4/60)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
قَوْله تَعَالَى: وَإِذا بطشتم بطشتم جبارين الْبَطْش هُوَ العسف (بِالْقَتْلِ) بِالسَّيْفِ وَالضَّرْب بِالسَّوْطِ، والجبار هُوَ العاتي على غَيره بِعظم سُلْطَانه، وَهُوَ فِي وَوصف الله مدح، وَفِي وصف الْخلق ذمّ، وَيُقَال: الْجَبَّار من يقتل على الْغَضَب.(4/60)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
وَقَوله: {فَاتَّقُوا الله وأطيعون} قد بَينا.(4/60)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)
قَوْله: {وَاتَّقوا الَّذِي أمدكم بِمَا تعلمُونَ أمدكم بأنعام وبنين} هَذَا تَفْسِير مَا ذكره أَولا من قَوْله: (أمدكم بِمَا تعلمُونَ) .(4/60)
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
وَقَوله: (وجنات وعيون) أَي: بساتين وأنهار.(4/60)
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
وَقَوله: {إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم} أَي: شَدِيد.(4/60)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا سَوَاء علينا} أَي: مستو عندنَا.
{أوعظت أم لم تكن من الواعظين} الْوَعْظ كَلَام يلين الْقلب بِذكر الْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد.(4/60)
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
وَقَوله: {إِن هَذَا} أَي: مَا هَذَا.
{إِلَّا خلق الْأَوَّلين} أَي: اخْتِلَاق الْأَوَّلين وكذبهم.(4/60)
{فأهلكناهم إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (139) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (140) كذبت ثَمُود الْمُرْسلين (141) إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم صَالح أَلا تَتَّقُون (142) إِنِّي لكم رَسُول أَمِين (143) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (144) وَمَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين (145) أتتركون فِي مَا هَاهُنَا آمِنين (146) فِي جنَّات وعيون (147)
وقرى: " إِن هَذَا إِلَّا خلق الْأَوَّلين " بِضَم الْخَاء وَاللَّام أَي: عَادَتهم ودأبهم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أمرنَا كأمر الْأَوَّلين؛ نَعِيش وَنَمُوت.(4/61)
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)
وَقَوله: {وَمَا نَحن بمعذبين} قَالُوا هَذَا إِنْكَار لما وعدهم هود من الْعَذَاب.(4/61)
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
وَقَوله: {فَكَذبُوهُ فأهلكناهم} ظَاهر الْمَعْنى إِلَى قَوْله: {إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين} .(4/61)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
قَوْله تَعَالَى: {أتتركون فِيمَا هَاهُنَا آمِنين} يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا آمِنين من الْعَذَاب.(4/61)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
وَقَوله: {فِي جنَّات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم} قَالَ الْأَزْهَرِي: الهضيم هُوَ الدَّاخِل بعضه فِي بعض من النضج والنعامة، وَيُقَال: هُوَ اللين الرطب، وَيُقَال: هُوَ الرخو الَّذِي إِذا مَسّه الْإِنْسَان تفتت، وَقيل: هُوَ المذنب، وَهُوَ الَّذِي نضج بعضه من قبل الذَّنب، وَيُقَال هضيم أَي: الهاضم كَأَنَّهُ يهضم الطَّعَام.
وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يَقُول: فِي وعظه: ابْن آدم، تَأْكُل كَذَا وَكَذَا ثمَّ تَقول: يَا جَارِيَة، هَاتِي الهاضوم، إِنَّه يهضم دينك لَا طَعَامك.(4/61)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
قَوْله تَعَالَى: {وتنحتون من الْجبَال بُيُوتًا فارهين} أَي: حاذقين، وَيُقَال: معجبين بِمَا نلتم، وَقُرِئَ: " فرهين " أَي: فرحين، وَقيل: شرهين، قَالَ الشَّاعِر:
(لَا أستكين إِذا مَا أزمة أزمت ... وَلنْ تراني بِخَير فاره الطّلب)
وَيُقَال: الفاره والفره بِمَعْنى وَاحِد.(4/61)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
وَقَوله: {فَاتَّقُوا الله وأطيعون} إِلَى قَوْله: {لَا يصلحون} ظَاهر الْمَعْنى، وَالْمرَاد مِنْهُ: لَا تتبعوا قادتكم فِي الشّرك.(4/61)
وزروع ونخل طلعها هضيم (148) وتنحتون من الْجبَال بُيُوتًا فارهين (149) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (150) وَلَا تطيعوا أَمر المسرفين (151) الَّذين يفسدون فِي الأَرْض وَلَا يصلحون (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْت من المسحرين (153) مَا أَنْت إِلَّا بشر مثلنَا فأت بِآيَة إِن كنت من الصَّادِقين (154) قَالَ هَذِه نَاقَة لَهَا شرب وَلكم شرب يَوْم مَعْلُوم (155) وَلَا تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب يَوْم عَظِيم (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبحُوا نادمين (157)(4/62)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
{قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْت من المسحرين} أَي: سحرت مرّة بعد مرّة، وَيُقَال: {من المسحرين} أَي: من الْبشر وَهُوَ الَّذِي لَهُ سحر وَهُوَ الرئة، وَيُقَال: فلَان مسحر أَي: مُعَلل بِالطَّعَامِ وَالشرَاب، قَالَ الشَّاعِر:
(أرانا موضِعين لحتم غيب ... ونسحر بِالطَّعَامِ (وَالشرَاب))
وَقَالَ آخر:
(فَإِن تسألينا فيمَ نَحن فإننا ... عصافير من هَذَا الْأَنَام المسحر)
أَي: الْمُعَلل بِالطَّعَامِ وَالشرَاب.(4/62)
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
قَوْله تَعَالَى: {مَا أَنْت إِلَّا بشر مثلنَا فأت بِآيَة إِن كنت من الصَّادِقين} قد ذكرنَا أَنهم طلبُوا نَاقَة حَمْرَاء عشراء، تخرج من صَخْرَة وتلد سقيا فِي الْحَال.(4/62)
قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ هَذِه نَاقَة لَهَا شرب وَلكم شرب يَوْم مَعْلُوم} فِي الْقِصَّة: أَن النَّاقة كَانَت تشرب مَاء الْبِئْر يَوْمًا فِي أول النَّهَار، وتسقيهم لَبَنًا فِي آخر النَّهَار، وَكَانَ عظم النَّاقة [ميلًا] فِي ميل، وَكَانَت إِذا شربت تُؤثر أضلاع جنبها فِي الْجَبَل.(4/62)
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
وَقَوله: {وَلَا تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب يَوْم عَظِيم} ظَاهر الْمَعْنى.(4/62)
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)
قَوْله تَعَالَى: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبحُوا نادمين} وسنبين من عقرهَا فِي سُورَة النَّمْل إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(4/62)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)
وَقَوله: {فَأَخذهُم الْعَذَاب} ظَاهر إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن أجري إِلَّا على رب(4/62)
{فَأَخذهُم الْعَذَاب إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (158) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (159) كذبت قوم لوط الْمُرْسلين (160) إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم لوط أَلا تَتَّقُون (161) إِنِّي لكم رَسُول أَمِين (162) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (163) وَمَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين (164) أتأتون الذكران من الْعَالمين (165) وتذرون مَا خلق لكم ربكُم من أزواجكم بل أَنْتُم قوم عادون (166) قَالُوا لَئِن لم تَنْتَهِ يَا لوط لتكونن من المخرجين (167) قَالَ إِنِّي لعملكم من القالين (168) رب نجني وَأَهلي مِمَّا يعْملُونَ (169) فنجيناه وَأَهله أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوز فِي الغابرين (171) ثمَّ دمرنا الْعَالمين} فِي قصَّة لوط صلوَات الله عَلَيْهِ.(4/63)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
قَوْله تَعَالَى: {أتأتون الذكران من الْعَالمين} فِي الْقِصَّة: أَنهم كَانُوا يعْملُونَ هَذَا الْعَمَل الْقَبِيح مَعَ النِّسَاء قبل الرِّجَال أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ عدلوا إِلَى الرِّجَال.(4/63)
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
وَقَوله: {وتذرون مَا خلق لكم ربكُم من أزواجكم} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " مَا أصلح لكم ربكُم من أزواجكم " وَفِي التَّفْسِير: أَن مَا خلق لكم ربكُم من أزواجكم مَعْنَاهُ: الْقبل وَهُوَ فرج النِّسَاء.
قَوْله: {بل أَنْتُم قوم عادون} أَي: ظَالِمُونَ مجاوزون الْحَد.(4/63)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
قَوْله: {قَالُوا لَئِن لم تَنْتَهِ يَا لوط لتكونن من المخرجين} أَي: من الْقرْيَة.(4/63)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي لعملكم من القالين} أَي: من المبغضين، وَقَالَ بَعضهم:
(بقيت مَالِي وانحرفت عَن الْمَعَالِي ... وَلَقِيت أضيافي بِوَجْه قالي)
قَالَ الصاحب تَرْجَمَة لقَوْل الأشتر النَّخعِيّ: بقيت، وَقُرِئَ: وانحرفت عَن الْعلَا، وَلَقِيت أضيافي بِوَجْه عبوس أَي: لم أشن على أبي هِنْد غَارة لم تخل يَوْمًا من نهاب نفوس.(4/63)
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
قَوْله تَعَالَى: (رب نجني وَأَهلي مِمَّا يعْملُونَ) أَي: من الْعَمَل الْخَبيث.(4/63)
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
قَوْله تَعَالَى: {فنجيناه وَأَهله أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوز فِي الغابرين فِيهِ قَولَانِ:(4/63)
{الآخرين (172) وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا فسَاء مطر الْمُنْذرين (173) إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (174) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (175) كذب أَصْحَاب الأيكة الْمُرْسلين (176) إِذْ قَالَ لَهُم شُعَيْب أَلا تَتَّقُون (177) إِنِّي لكم رَسُول أَمِين (178) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (179) وَمَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين أَحدهمَا: أَنَّهَا كَانَت عَجُوز غابراً، على معنى أَن الزَّمَان مضى عَلَيْهَا وهرمت، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الغابرين بِمَعْنى البَاقِينَ يَعْنِي: أَن الْعَجُوز من أهل لوط بقيت فِي الْعَذَاب وَلم تنج.(4/64)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ دمرنا الآخرين} أَي: أهلكنا الآخرين.(4/64)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)
وَقَوله: {وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا فسَاء مطر الْمُنْذرين} قد بَينا أَن الله تَعَالَى أمطر عَلَيْهِم الْحِجَارَة بعد إهلاكهم.(4/64)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة} ظَاهر الْمَعْنى إِلَى قَوْله: {وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم} .(4/64)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
قَوْله تَعَالَى: {كذب أَصْحَاب الأيكة الْمُرْسلين} وَقُرِئَ: " ليكة الْمُرْسلين " بِفَتْح الْهَاء؛ فَمن قَرَأَ: " ليكة " جعلهَا اسْم بلد، وَهُوَ لَا ينْصَرف، وَمن قَرَأَ: " الأيكة " فَصَرفهُ؛ لِأَن مَا لَا ينْصَرف إِذا أَدخل عَلَيْهِ الْألف وَاللَّام انْصَرف.
والأيكة: الغيظة، وَيُقَال: الشّجر الملتف، وَفِي الْقِصَّة: أَن شجرهم كَانَ هُوَ الدوم، وَيُقَال: شجر الْمقل.(4/64)
إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لَهُم شُعَيْب أَلا تَتَّقُون} وَلم يذكر أخوهم هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لم يكن أَخا لَهُم، وَلَا فِي النّسَب وَلَا فِي الدّين.(4/64)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)
وَقَوله: (إِنِّي لكم رَسُول أَمِين) قد بَينا إِلَى قَوْله: {إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين}(4/64)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)
قَوْله تَعَالَى: (أَوْفوا الْكَيْل وَلَا تَكُونُوا من المخسرين) أَي: الناقصين لحقوق النَّاس، وَقَالَ يزِيد بن ميسرَة: كل ذَنْب يَرْجُو لَهُ الْمَغْفِرَة إِلَّا لحقوق النَّاس، فالرجاء فِيهِ أقل. وَقد بَينا فِي سُورَة هود أَن قوم شُعَيْب كَانُوا يخسرون فِي المكاييل، وَالْمرَاد من(4/64)
( {180) أَوْفوا الْكَيْل وَلَا تَكُونُوا من المخسرين (181) وزنوا بالقسطاس الْمُسْتَقيم (182) وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين (183) وَاتَّقوا الَّذِي خَلقكُم والجبلة الْأَوَّلين (148) قَالُوا إِنَّمَا أَنْت من المسحرين (158) وَمَا أَنْت إِلَّا بشر مثلنَا وَإِن نظنك لمن الْكَاذِبين (186) فأسقط علينا كسفا من السَّمَاء إِن كنت من الصَّادِقين (187) قَالَ رَبِّي أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذبُوهُ فَأَخذهُم عَذَاب يَوْم الظلة إِنَّه(4/65)
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)
قَوْله تَعَالَى: {وزنوا بالقسطاس الْمُسْتَقيم} قَالَ الْحسن: القسطاس القبان. وَقيل: كل ميزَان يكون، وَيُقَال: هُوَ الْعدْل.(4/65)
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم} يَعْنِي: لَا تنقصوا النَّاس حُقُوقهم. وَقَوله: {وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين} أى: لَا تبالغوا فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ.(4/65)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
وَقَوله تَعَالَى: {وَاتَّقوا الَّذِي خَلقكُم والجبلة الْأَوَّلين} أَي: خَلقكُم وَخلق الجبلة الْأَوَّلين، والجبلة: الْخَلِيفَة، قَالَ الشَّاعِر:
(وَالْمَوْت أعظم حَادث ... فِيمَا يمر على الجبله)
وَيُقَال: الجبلة بِضَم الْجِيم وَالْبَاء، وَفِي لُغَة بِغَيْر الْهَاء.(4/65)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْت من المسحرين} قد بَينا.(4/65)
وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)
وَقَوله: {وَمَا أَنْت إِلَّا بشر مثلنَا وَإِن نظنك لمن الْكَاذِبين} ظَاهر الْمَعْنى.(4/65)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
قَوْله تَعَالَى: {فأسقط علينا كسفا من السَّمَاء، إِن كنت من الصَّادِقين} وَقُرِئَ: " كسفا " بِفَتْح السِّين، فَأَما قَوْله: " كسفا " بِسُكُون السِّين أَي: جانبا من السَّمَاء، وَأما قَوْله: كسفا أَي: قطعا، وَمَعْنَاهُ: قِطْعَة. قَالَ السّديّ: عذَابا من السَّمَاء.(4/65)
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّي أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ} يَعْنِي: هُوَ عَالم بأعمالكم، فَإِن أَرَادَ أَن يبقيكم، وَإِن أَرَادَ أَن يهلككم أهلككم.(4/65)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
قَوْله تَعَالَى: {فَكَذبُوهُ فَأَخذهُم عَذَاب يَوْم الظلة} فِي الْقِصَّة: أَنه أَخذهم حر عَظِيم، فَدَخَلُوا الأسراب تَحت الأَرْض، فَدخل الْحر فِي الأسراب وَأخذ بِأَنْفَاسِهِمْ.(4/65)
{كَانَ عَذَاب يَوْم عَظِيم (189) إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (190) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (191) وَإنَّهُ لتنزيل رب الْعَالمين (192) نزل بِهِ الرّوح الْأمين (193) على قَلْبك لتَكون من الْمُنْذرين (194) بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين (195) وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين (196) أَو لم يكن لَهُم آيَة أَن يُعلمهُ عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل (197) فَخَرجُوا إِلَى الصَّحرَاء، فَجَاءَت سَحَابَة حَمْرَاء، فَاجْتمعُوا تحتهَا مستغيثين ليستظلوا بهَا، فأمطرت السحابة عَلَيْهِم نَارا، فاضطرم الْوَادي عَلَيْهِم، فَكَانَ أَشد عَذَاب يُوجد فِي الدُّنْيَا.(4/66)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة} قد بَينا إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ.(4/66)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لتنزيل رب الْعَالمين} أَي: الْقُرْآن.(4/66)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
وَقَوله: {نزل بِهِ الرّوح الْأمين} وَقُرِئَ: " نزل بِهِ الرّوح الْأمين " بِدُونِ التَّشْدِيد، وَالروح الْأمين هُوَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَسمي [جِبْرِيل] أَمينا؛ لِأَنَّهُ أَمِين الله على وحيه، وَفِي بعض الْآثَار: أَنه يرفع سبعين ألف حجاب، وَيدخل بِغَيْر اسْتِئْذَان، فَهُوَ معنى الْأمين.(4/66)
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
وَقَوله: {على قَلْبك} ذكر الْقلب هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ إِذا قرئَ عَلَيْهِ وعاه قلبه.
وَقَوله: {لتَكون من الْمُنْذرين} أَي: المخوفين.(4/66)
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
وَقَوله: {بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين} قَالَ ابْن عَبَّاس: بِلِسَان قُرَيْش، وَعَن بَعضهم: بِلِسَان جرهم، وَمِنْهُم أَخذ إِسْمَاعِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - الْعَرَبيَّة.(4/66)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
وَقَوله: {وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن ذكر مُحَمَّد فِي زبر الْأَوَّلين أَي: فِي كتب الْأَوَّلين.
وَالْقَوْل الآخر: ذكر إِنْزَال الْقُرْآن فِي (زبر) الْأَوَّلين، وَقد قَالُوا: إِن كليهمَا مارد.(4/66)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يكن لَهُم آيَة} قرئَ: آيَة بِالنّصب وَالرَّفْع، فَمن قَرَأَ بِالنّصب جعل آيَة خبر يكن، وَمَعْنَاهُ: أَو لم يكن لَهُم علم عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل آيَة أَي: عَلامَة، وَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَجعل آيَة اسْم يكن، وَأما خَبره فَقَوله: {أَن يُعلمهُ} وَأما(4/66)
{وَلَو نزلناه على بعض الأعجمين (198) فقرأه عَلَيْهِم مَا كَانُوا بِهِ مُؤمنين (199) كَذَلِك سلكناه فِي قُلُوب الْمُجْرمين (200) لَا يُؤمنُونَ بِهِ حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم (201) فيأتيهم بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ (202) فيقولوا هَل نَحن منظرون (203) أفبعذابنا يستعجلون (204) عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل فِي هَذَا الْموضع فهم خَمْسَة نفر: عبد الله بن سَلام، وَابْن يَامِين، وثعلبة، وَأسد، وَأسيد. وَفِي مصحف ابْن مَسْعُود: " أَو لَيْسَ لَهُم آيَة أَن يُعلمهُ عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل ".(4/67)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
وَقَوله: {وَلَو نزلناه على بعض الأعجمين} الْفرق بَين العجمي والأعجمي، أَن العجمي هُوَ الَّذِي ينْسب إِلَى الْعَجم وَإِن كَانَ فصيحا، والأعجمي هُوَ الَّذِي لَا يفصح بِالْعَرَبِيَّةِ وَإِن كَانَ عَرَبيا، وَقَالَ عبد الله بن مُطِيع فِي قَوْله: {على بعض الأعجمين} قَالَ: على دَابَّتي، وَمَعْنَاهُ أَن الدَّابَّة لَو تَكَلَّمت لما آمنُوا، وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد مِنْهُ بعض الْعَجم أَي: نزل عَلَيْهِ الْقُرْآن بِغَيْر الْعَرَبيَّة.(4/67)
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
وَقَوله: {فقرأه عَلَيْهِم مَا كَانُوا بِهِ مُؤمنين} أَي: لم يُؤمنُوا.(4/67)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك سلكناه} قَالَ الْحسن وَمُجاهد: أدخلنا الشّرك فِي قُلُوبهم. وَيُقَال: أدخلنا التَّكْذِيب فِي قُلُوبهم.(4/67)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
وَقَوله: {لَا يُؤمنُونَ بِهِ} أَي: بِالْقُرْآنِ.
وَقَوله: {حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} أَي: عِنْد نزُول الْبَأْس.(4/67)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
وَقَوله: {فيأتيهم بَغْتَة} أَي: فَجْأَة.
وَقَوله: {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ.(4/67)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
وَقَوله: {فيقولوا هَل نَحن منظرون} أَي: مؤخرون.(4/67)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
وَقَوله تَعَالَى: {أفبعذابنا يستعجلون} روى أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَات قَالُوا: مَتى هَذَا الْعَذَاب؟ أَو آتنا بِهَذَا الْعَذَاب، فَأنْزل الله تَعَالَى: {أفبعذابنا يستعجلون}(4/67)
{أَفَرَأَيْت إِن متعناهم سِنِين (205) ثمَّ جَاءَهُم مَا كَانُوا يوعدون (206) مَا أُغني عَنْهُم مَا كَانُوا يمتعون (207) وَمَا أهلكنا من قَرْيَة إِلَّا لَهَا منذرون (208) ذكرى وَمَا كُنَّا ظالمين (209) وَمَا تنزلت بِهِ الشَّيَاطِين (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُم وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) أَنهم عَن السّمع لمعزولون (212)(4/68)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)
وَقَوله تَعَالَى: (أَفَرَأَيْت إِن متعانهم سِنِين) قَالَ عِكْرِمَة: عمر الدُّنْيَا: وَعَن شريك ابْن عبد الله النَّخعِيّ قَالَ: هُوَ أَرْبَعُونَ سنة. وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَنه لَيْسَ فِيهِ تَقْدِير، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ سِنِين كَثِيرَة، والامتاع هُوَ الْعَيْش بِمَا يلذ ويشتهي.(4/68)
ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
وَقَوله: {ثمَّ جَاءَهُم مَا كَانُوا يوعدون} أَي: من الْعَذَاب.(4/68)
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
وَقَوله: {مَا أُغني عَنْهُم مَا كَانُوا يمتعون} أَي: دفع عيشهم وتمتعهم بالدنيا من الْعَذَاب عَنْهُم.(4/68)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أهلكنا من قَرْيَة إِلَّا وَلها منذرون} هَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} .(4/68)
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
وَقَوله: {ذكرى} أَي: بعثنَا (الْمُنْذرين) تذكرة لَهُم.
وَقَوله: {وَمَا كُنَّا ظالمين} مَعْلُوم الْمَعْنى.(4/68)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)
قَوْله تَعَالَى: (وَمَا تنزلت بِهِ الشَّيَاطِين) كَانَ الْمُشْركُونَ يَقُولُونَ: إِن شَيْطَانا ينزل على مُحَمَّد فيلقنه الْقُرْآن، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.(4/68)
وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)
وَقَوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُم} أَي: وَلَا يصلح لَهُم أَن ينزلُوا بِالْقُرْآنِ؛ لأَنهم لَيْسُوا بِأَهْل ذَلِك.
وَقَوله: {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أَي: لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْزَال الْوَحْي.(4/68)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
وَقَوله: {إِنَّهُم عَن السّمع لمعزولون} أَي: [لمحجوبون] ? فَإِنَّهُم حجبوا من(4/68)
{فَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر فَتكون من الْمُعَذَّبين (213) وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين (214) } السَّمَاء وَمنعُوا بِالشُّهُبِ على مَا ذكرنَا من قبل.(4/69)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر فَتكون من الْمُعَذَّبين} روى أَن الْمُشْركين قَالُوا لَهُ: ارْجع إِلَى دين آبَائِك، فَإِن أردْت المَال جَمعنَا لَك المَال، وَإِن أردْت الرِّئَاسَة قلدناك الرِّئَاسَة علينا، فَأنْزل الله تَعَالَى: {فَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر فَتكون من الْمُعَذَّبين} أَي: فِي النَّار.(4/69)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
وَقَوله تَعَالَى: {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} روى الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب [وأبى] سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، عَن أبي هُرَيْرَة أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} قَالَ النَّبِي: " يَا معشر قُرَيْش، اشْتَروا انفسكم من الله تَعَالَى، وَلَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا، يَا بني عبد منَاف لَا أغْنى عَنْكُم من الله شَيْئا، يَا عَبَّاس بن عبد الْمطلب، لَا أغْنى عَنْكُم من الله شَيْئا، يَا صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب، لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا، يَا فَاطِمَة بنت مُحَمَّد، سليني من مَالِي مَا شِئْت، لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، أخبرنَا جدى، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا أَبُو الْيَمَان، أخبرنَا شُعَيْب، عَن الزُّهْرِيّ ... الْخَبَر.
وروى سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس: أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة صعد رَسُول الله الصَّفَا ثمَّ قَالَ: يَا صَبَاحَاه فَاجْتمع عِنْده قُرَيْش، فَقَالُوا لَهُ: مَالك؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتُم لَو قلت: إِن الْعَدو مصبحكم أَو ممسيكم، أَكُنْتُم تصدقونني؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: إِنِّي نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد، قَالَ أَبُو لَهب: تَبًّا لَك، أَلِهَذَا دَعوتنَا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى:(4/69)
{واخفض جناحك لمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ (215) فَإِن عصوك فَقل إِنِّي بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وتوكل على الْعَزِيز الرَّحِيم (217) الَّذِي يراك حِين تقوم (218) {تبت يدا أبي لَهب وَتب} ". وَالْخَبَر فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ لعَلي رَضِي الله عَنهُ: " اجْمَعْ لي بني عيد منَاف، فَجَمعهُمْ على فَخذ شَاة وَقَعْب من لبن، فَلَمَّا أكلُوا وَشَرِبُوا، قَالَ لَهُم رَسُول الله مَا قَالَ، ودعاهم إِلَى الله، فَقَامَ أَبُو لَهب وَقَالَ مَا ذكرنَا وَخَرجُوا ".
وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن النَّبِي خص بني هَاشم وَبني عبد الْمطلب بِالدُّعَاءِ، وَقَالَ: " أَنْتُم خاصتي ".(4/70)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
وَقَوله: {واخفص جناحك لمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} أَي: ألن جَانِبك وَحسن خلقك.(4/70)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
وَقَوله: {فَإِن عصوك فَقل إِنِّي بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(4/70)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
قَوْله تَعَالَى: {وتوكل على الْعَزِيز الرَّحِيم} وَفِي مصحف الْمَدَنِيين والشاميين " فتوكل " بِالْفَاءِ، وَالْفَاء فِيهَا بِمَعْنى الْجَزَاء، وَمعنى ذَلِك: أَنهم إِذا عصوا فقابل عصيانهم بالتوكل عَليّ.(4/70)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
قَوْله: {الَّذِي يراك حِين تقوم} أَي: تقوم لدعائهم، وَقِرَاءَة الْقُرْآن عَلَيْهِم، وَيُقَال: تقوم من نومك للصَّلَاة، وَقيل: إِذا صليت وَحدك.(4/70)
{وتقلبك فِي الساجدين (219) إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (220) هَل أنبئكم على من تنزل الشَّيَاطِين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون السّمع وَأَكْثَرهم كاذبون (223) .(4/71)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
وَقَوله: {وتقلبك فِي الساجدين} [أَي:] إِذا صليت جمَاعَة، وَعَن ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ قَالَ: أخرجه من صلب نَبِي إِلَى صلب نَبِي إِلَى صلب نَبِي هَكَذَا إِلَى أَن جعله نَبيا، فَهَذَا معنى التقلب. والساجدون هم الْأَنْبِيَاء - صلوَات اللَّهُمَّ عَلَيْهِم - وَعَن مُجَاهِد قَالَ: معنى قَوْله: {وتقلبك فِي الساجدين} هُوَ تقلب الطّرف، وَقد كَانَ يرى من خَلفه مَا كَانَ يرى من قدامه.(4/71)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
وَقَوله: {إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى.(4/71)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)
قَوْله تَعَالَى: {هَل أنبئكم على من تنزل الشَّيَاطِين} أَي: هَل أخْبركُم، وَهِي جَوَاب لقَولهم: إِن شَيْطَانا ينزل عَلَيْهِ.(4/71)
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
وَقَوله: {تنزل على كل أفاك أثيم} أَي: تتنزل، والأفاك هُوَ الشَّديد الْكَذِب، والأثيم هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِمَا يَأْثَم بِهِ ويقبح فعله.(4/71)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
قَوْله تَعَالَى: {يلقون السّمع} قَالَ أهل التَّفْسِير: المُرَاد مِنْهُ الكهنة، وَمعنى {يلقون السّمع} أَي: يَسْتَمِعُون إِلَى الشَّيَاطِين.
وَقَوله: {وَأَكْثَرهم كاذبون} أَي: كلهم، وروى عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: قلت يَا رَسُول الله، إِن الْكُهَّان يخبرون بأَشْيَاء وَتَكون حَقًا؟ ! قَالَ: " تِلْكَ الْخَطفَة يَخْطفهَا الجنى، فيلقيها فِي سمع الكاهن، فيكذب مَعهَا مائَة كذب ".
وَقد ذكرنَا انهم يسْتَرقونَ من الْمَلَائِكَة، ويعلوا بَعضهم بَعْضًا ثمَّ يرْمونَ بِالشُّهُبِ.(4/71)
{وَالشعرَاء يتبعهُم الْغَاوُونَ (224) ألم تَرَ أَنهم فِي كل وَاد يهيمون (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) .
وَفِي الْخَبَر الْمَشْهُور الْمَعْرُوف: أَن النَّبِي قَالَ: " من أَتَى كَاهِنًا أَو عرافا فَصدقهُ بِمَا يَقُولُونَ، فقد كفر بِمَا أنزل على مُحَمَّد ".(4/72)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
قَوْله تَعَالَى: {وَالشعرَاء يتبعهُم الْغَاوُونَ} قَالَ أهل التَّفْسِير: المُرَاد من الشُّعَرَاء هم الشُّعَرَاء الَّذين كَانُوا يَهْجُونَ الْمُسلمين من الْكفَّار، ويسبون النَّبِي، وهم مثل: عبد الله بن الزِّبَعْرَى، وَأبي عزة الجُمَحِي، وَأبي سُفْيَان بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب، وهبيرة بن وهب، وَمن أشبههم.
وَقَوله تَعَالَى: {يتبعهُم الْغَاوُونَ} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الروَاة. وروى الضَّحَّاك عَنهُ: أَن المُرَاد من الْآيَة هُوَ الشَّاعِر أَن يتهاجيان فَيتبع هَذَا قوم، وَيتبع ذَاك قوم.
وَعَن مُجَاهِد: الْغَاوُونَ هم الشَّيَاطِين، وَعَن بَعضهم: هم السُّفَهَاء من النَّاس.
وَفِي الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " من مَشى سَبْعَة أَقْدَام إِلَى شَاعِر فَهُوَ من الغاوين " وَالْخَبَر غَرِيب.(4/72)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَنهم فِي كل وَاد يهيمون} أى: فِي كل مرّة يفتنون، وَذكر الْوَادي على طَرِيق التَّمْثِيل، يُقَال: أَنا فِي وَاد، وَأَنت فِي وَاد، وَعَن قَتَادَة قَالَ: فِي وَاد يهيمون: أَن يمدحون بِالْبَاطِلِ ويذمون بِالْبَاطِلِ. قَالَ بَعضهم: إِن الشَّاعِر يمدح بالصلة، ويهجو بالحمية، ويتشبب بِالنسَاء، ويثير خاطره العشيق، وَقَالَ بَعضهم: فِي(4/72)
{إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} كل وَاد يهيمون أَي: على حرف من حُرُوف الهجاء يصوغون القوافي، والهائم هُوَ الَّذِي ترك الْقَصْد فِي الْأَشْيَاء؛ يُقَال: هام فلَان على وَجهه إِذا لم يكن لَهُ مقصد صَحِيح يَقْصِدهُ وَيذْهب إِلَيْهِ.(4/73)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
قَوْله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} أَي: يكذبُون فِي شعرهم، وَيَقُولُونَ: فعلنَا كَذَا وَكَذَا وَلم يَفْعَلُوا، وَفِي بعض الْآثَار: أَن أَبَا محجن الثَّقَفِيّ قَالَ شعرًا وَأقر فِيهِ بِشرب الْخمر، فَأَرَادَ عمر أَن يحده، فَقَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - إِن كتاب الله يدْرَأ عَنهُ الْحَد، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة: {وَأَنَّهُمْ يَقُولَن مَا لَا يَفْعَلُونَ} فَترك عمر حَده.(4/73)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَؤُلَاءِ شعراء الْمُسلمين الَّذين كَانُوا يجتنبون شعراء الْجَاهِلِيَّة ويهجونهم، ويذبون عَن النَّبِي وَأَصْحَابه، وينافحون عَنْهُم، وهم مثل: حسان بن ثَابت، وَعبد الله بن رَوَاحَة، وَكَعب ابْن مَالك، وَمن أشبههم.
وروى عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك، عَن أَبِيه أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله، مَا تَقول فِي الشّعْر؟ فَقَالَ: " إِن الْمُسلم ليجاهد بِيَدِهِ وَلسَانه، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لكَأَنَّمَا ترمونهم بالنبال ".
وروى شُعْبَة، عَن عدي بن ثَابت، عَن الْبَراء بن عَازِب أَن النَّبِي قَالَ لحسان بن ثَابت: " أهجم - أَو هاجهم - وروح الْقُدس مَعَك ". ذكره البُخَارِيّ فِي(4/73)
{وَذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد مَا ظلمُوا الصَّحِيح. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، حَدثنِي جدي، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة ... الْخَبَر.
وَعَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنهُ - أَنَّهَا قَالَت: الشّعْر كَلَام، فَمِنْهُ الْحسن وَمِنْه الْقَبِيح، فَخذ الْحسن ودع الْقَبِيح.
وروى أبي بن كَعْب عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن من الشّعْر لحكمة ".
وَعَن بَعضهم قَالَ: الشّعْر أدنى دَرَجَات الرفيع، وَأَرْفَع دَرَجَات الدنيء.
وَعَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ " كَانَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول الشّعْر، وَكَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول الشّعْر، وَكَانَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أشعر الثَّلَاثَة. وَفِي بعض التفاسير: أَن قَوْله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} هم أَبُو بكر وَعمر - رَضِي الله عَنْهُم - وَهُوَ قَول غَرِيب.
وَعَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: إِذا أَرَأَيْت الشَّيْخ ينشد الشّعْر فِي الْمَسْجِد، فاقرع رَأسه بالعصا.
وَأما عبد الله بن عَبَّاس كَانَ ينشد الشّعْر فِي الْمَسْجِد ويستنشد، فروى أَنه دَعَا عمر بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي واستنشده القصيدة الَّتِي أنشدها، فِي أَوله.
(أَمن آل نعمى أَنْت غاد فمبكر ... غَدَاة غَد أَو رائح فمهجر)
فأنشده ابْن أبي ربيعَة القصيدة إِلَى آخرهَا، وَهِي قريب من سبعين بَيْتا، ثمَّ إِن ابْن عَبَّاس أعَاد القصيدة جمعيها، وَكَانَ حفظهَا لمرة وَاحِدَة ثمَّ قَالَ: مَا رَأَيْت أروى من عمر، وَلَا أعلم من عَليّ. هَذِه الْحِكَايَة أوردهَا الْمبرد فِي مُشكل الْقُرْآن.
قَوْله: {وَذكروا الله كثيرا} ظَاهر الْمَعْنى.(4/74)
{وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون (227)
وَقَوله: {وانتصروا من بعد مَا ظلمُوا} يَعْنِي: بِجَوَاب الْكفَّار عَن أشعارهم الَّتِي هجوا بهَا الْمُسلمين، قَالَ حسان بن ثَابت:
(هجوت مُحَمَّدًا فأجبت عَنهُ ... وَعند الله فِي ذَاك الْجَزَاء)
فَإِن أَبى ووالدتي وعرضي ... لعرض مُحَمَّد مِنْكُم وقاء)
وَقَوله: {وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا} أَي: الْكفَّار الَّذين هجوا الْمُسلمين.
وَقَوله: {أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون} أَي: أَي مرجع يرجعُونَ، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " أَي منفلت ينفلتون بِالْفَاءِ من الإنفلات والوقوع فِي الشَّيْء وَقد ذكر أَبُو بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - هَذِه الْآيَة فِي وَصِيَّة لعمر - رَضِي الله عَنهُ - حِين اسْتَخْلَفَهُ، فروى أَنه قَالَ لعُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - أكتب: هَذَا مَا عهد أَبُو بكر عِنْد آخر عَهده بالدنيا وَأول عَهده بِالآخِرَة، حِين يُؤمن الْفَاجِر وَيصدق الْكَاذِب، إِنِّي اسْتخْلف عَلَيْكُم عمر بن الْخطاب، فَإِن بر وَصدق فَذَلِك ظَنِّي بِهِ، وَإِن غير وَبدل فالخير أردْت، وَلَا يعلم الْغَيْب إِلَّا الله، وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون.(4/75)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{طس تِلْكَ آيَات الْقُرْآن وَكتاب مُبين (1) هدى وبشرى للْمُؤْمِنين (2) الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وَهُوَ بِالآخِرَة هُوَ يوقنون (3) إِن الَّذين لَا
تَفْسِير سُورَة النَّمْل
وَهِي مَكِّيَّة(4/76)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
قَوْله تَعَالَى: {طس} قد بَينا مَعْنَاهُ فِي السُّورَة الْمُتَقَدّمَة.
وَقَوله: {تِلْكَ آيَات الْقُرْآن} أَي: هَذِه آيَات الْقُرْآن.
{وَكتاب} أَي: وآيات كتاب مُبين، وَأما اشتقاق الْقُرْآن وَالْكتاب قد بَينا، قَالَ أهل الْمعَانِي: أظهر الْآيَات بِالْقِرَاءَةِ تَارَة، وبالكتبة تَارَة أُخْرَى، فالآيات مظهرة بِكَوْنِهَا كتابا، وبكونها قُرْآنًا.(4/76)
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {هدى وبشرى للْمُؤْمِنين} أَي: هدى من الضَّلَالَة، وبشرى بالثواب وَهُوَ الْجنَّة، وَيُقَال: الْآيَات هادية مبشرة.
وَقَوله: {للْمُؤْمِنين} أَي: للمصدقين.(4/76)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة} إِقَامَة الصَّلَاة أَدَاؤُهَا بفرائضها وسننها، وَقيل: إِقَامَة الصَّلَاة حفظ مواقيتها.
وَقَوله: (وَيُؤْتونَ الزَّكَاة) أَي: يُعْطون الزَّكَاة، وَالزَّكَاة هِيَ زَكَاة المَال، وَقيل: زَكَاة الْفطر.
وَقَوله: (وَهُوَ بِالآخِرَة هُوَ يوقنون) أَي: يصدقون.(4/76)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة زينا لَهُم أَعْمَالهم} الْأَكْثَرُونَ على أَنَّهَا أَعمال الْمعْصِيَة، وَقيل: أَعمال الطَّاعَات وَذَلِكَ بِإِقَامَة الدَّلِيل على حسنها.
وَقَوله: {فهم يعمهون} أَي: يتحيرون ويترددون، وَيُقَال: يعمون.(4/76)
{يُؤمنُونَ بِالآخِرَة زينا لَهُم أَعْمَالهم فهم يعمهون (4) أُولَئِكَ الَّذين لَهُم سوء الْعَذَاب وَهُوَ فِي الْآخِرَة هم الأخسرون (5) وَإنَّك لتلقي الْقُرْآن من لدن حَكِيم عليم (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهله إِنِّي آنست نَارا سآتيكم مِنْهَا بِخَبَر أَو آتيكم(4/77)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين لَهُم سوء الْعَذَاب} أَي: أشده.
وَقَوله: {وهم فِي الْآخِرَة هم الأخسرون} أَي: حظا ونصيبا.(4/77)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّك لتلقي الْقُرْآن من لدن حَكِيم عليم} أَي: تؤتي الْقُرْآن، وَقيل: تَأْخُذ الْقُرْآن، وَقيل: تلقن.
وَقَوله: {من لدن حَكِيم عليم} أَي: من عِنْده.(4/77)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {إِذا قَالَ مُوسَى لأَهله إِنِّي آنست نَارا} أَي: أَبْصرت نَارا، وَمِنْه الْإِنْس سموا إنسا؛ لأَنهم مرئيون مبصرون، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى كَانَ أَخطَأ الطَّرِيق، وَذكر بَعضهم أَن مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - كَانَ يرْعَى أغنامه على شَفير الْوَادي، فرأت الأغنام النَّار فَفَزِعت، وَتَفَرَّقَتْ وَلم يكن مُوسَى راءها، فصاح بهَا مُوسَى بالأغنام حَتَّى اجْتمعت ثمَّ تَفَرَّقت ثَانِيًا، فصاح بهَا حَتَّى اجْتمعت ثمَّ تَفَرَّقت ثَالِثا، فَنظر مُوسَى فَرَأى النَّار فَذهب مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - فِي طلبَهَا.
قَوْله تَعَالَى: {سآتيكم مِنْهَا بِخَبَر} أَي: بِخَبَر عَن الطَّرِيق.
وَقَوله: {أَو آتيكم بشهاب قبس} قرئَ بِالتَّنْوِينِ، وَقُرِئَ على الْإِضَافَة: " بشهاب قبس " والشهاب والقبس مَعْنَاهُمَا متقاربان، فالعود إِذا كَانَ فِي أحد طَرفَيْهِ نَار، وَلَيْسَ فِي الطّرف الآخر نَار سمي: شهابا، وَيُسمى: قبسا، وَقَالَ بَعضهم: الشهَاب هُوَ شَيْء ذُو نور مثل العمود، وَالْعرب تسمي كل أَبيض ذِي نور: شهابا، والقبس هُوَ الْقطعَة من النَّار، قَالَ الشَّاعِر: (فِي كَفه صعدة مثقفة
(لَهَا) سِنَان كشعلة القبس) وَأما قِرَاءَة التَّنْوِين فقد جعل القبس نعتا لِلشِّهَابِ، وَأما قِرَاءَة الْإِضَافَة هُوَ إِضَافَة(4/77)
{بشهاب قبس لَعَلَّكُمْ تصطلون (7) فَلَمَّا جاءها نُودي أَن بورك من فِي النَّار وَمن لشَيْء إِلَى نَفسه، مثل قَوْله تَعَالَى: {ولدار الْآخِرَة} وَمثل قَوْلهم: يَوْم الْجُمُعَة، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تصطلون} فِيهِ دَلِيل على أَنهم كَانُوا شَاتين، وَإنَّهُ أَصَابَهُ الْبرد وَالْعرب تَقول: هَلُمَّ إِلَى الصلى والقرى.(4/78)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جاءها نُودي أَن بورك من فِي النَّار} قَالَ أهل التَّفْسِير: لم يكن مَا رَآهُ نَارا، بل كَانَ نورا، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ نَارا؛ لِأَن النَّار لَا تَخْلُو من النُّور؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي ظن مُوسَى أَنه نَار.
وَقَوله: {من فِي النَّار} فِيهِ أَقْوَال: أَكثر الْمُفَسّرين على أَنه نور الرب، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بن جُبَير وَغَيرهم، وَذكر أَبُو بكر الْهُذلِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه الله تَعَالَى، وَذكر الْفراء أَن من فِي النَّار هُوَ الْمَلَائِكَة، وَمن حولهَا الْمَلَائِكَة أَيْضا (على القَوْل الأول، وَمن حولهَا الْمَلَائِكَة أَيْضا) .
وَفِي الْآيَة قَوْله رَابِع: وَهُوَ أَن من فِي النَّار مُوسَى، فَإِن قيل: لم يكن مُوسَى فِي النَّار. قُلْنَا: قد كَانَ قَرِيبا من النَّار، وَالْعرب تسمي من قرب من الشَّيْء فِي الشَّيْء يَقُولُونَ: إِذا بلغت ذَات عرق فَأَنت فِي مَكَّة، قَالُوا هَذَا لأجل الْقرب من مَكَّة، ومُوسَى قد كَانَ قرب من النَّار فَجعله كَأَنَّهُ فِي النَّار.
وَفِي الْآيَة قَول خَامِس: وَهُوَ أَن " من " بِمَعْنى " مَا " وَمعنى الْآيَة: أَن بوركت النَّار وَمَا حولهَا، وَذكر بَعضهم، أَن فِي قِرَاءَة أبي: " بوركت النَّار وَمن حولهَا " وَالْعرب تَقول: بَارك الله، وَبَارك الله عَلَيْك، وبورك فِيك بِمَعْنى وَاحِد.
وَقَوله: {وَسُبْحَان الله رب الْعَالمين} نزه الله نَفسه، وَهُوَ المنزه عَن كل سوء(4/78)
{حولهَا وَسُبْحَان الله رب الْعَالمين (8) يَا مُوسَى إِنَّه أَنا الله الْعَزِيز الْحَكِيم (9) وألق عصاك فَلَمَّا رَآهَا تهتز كَأَنَّهَا جَان ولى مُدبرا وَلم يعقب يَا مُوسَى لَا تخف إِنِّي وعيب.(4/79)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
قَوْله تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِنَّه أَنا الله الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: إِنِّي أَنا الله الْعَزِيز الْحَكِيم. قَالَ الْفراء: الْهَاء عماد فِي هَذَا الْموضع.(4/79)
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وألق عصاك فَلَمَّا رَآهَا تهتز} أَي: تتحرك.
وَقَوله: {كَأَنَّهَا جآن} الجآن هِيَ الْحَيَّة الصَّغِيرَة الَّتِي يكثر اضطرا بهَا، وَقد بَينا التَّوْفِيق بَين هَذِه الْآيَة وَبَين قَوْله: {فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين} .
وَقَوله: {ولى مُدبرا} : أَي: هرب، وَيُقَال: رَجَعَ إِلَى الطَّرِيق الَّتِي جَاءَ مِنْهَا.
وَقَوله: {وَلم يعقب} أَي: لم يلْتَفت.
وَقَوله: {يَا مُوسَى لَا تخف} (فِي بعض التفاسير: أَن مُوسَى لما فزع وهرب قَالَ الله تَعَالَى لَهُ: {أقبل} فَلم يرجع، فَقَالَ: {لَا تخف} إِنَّك من الْآمنينَ) فَلم يرجع، فَقَالَ: {سنعيدها سيرتها الأولى} فَلم يرجع حَتَّى جعلهَا عَصا كَمَا كَانَت، ثمَّ رَجَعَ وَأَخذهَا، وَالله أعلم.
قَوْله: {إِنِّي لَا يخَاف لَدَى المُرْسَلُونَ} يَعْنِي: إِذا أمنتهم، وَقيل: لَا يخَافُونَ من عقوبتي، فَإِنِّي لَا أعاقبهم.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ أَن جَمِيع الْأَنْبِيَاء خَافُوا الله، وَقد كَانَ النَّبِي يخْشَى الله، وَقد قَالَ: " أَنا أخشاكم "؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْخَوْف الَّذِي هُوَ شَرط الْإِيمَان لَا يجوز(4/79)
{لَا يخَاف لدي المُرْسَلُونَ (10) إِلَّا من ظلم ثمَّ بدل حسنا بعد سوء فَإِنِّي غَفُور رَحِيم (11) وَأدْخل يدك فِي جيبك تخرج بَيْضَاء من غير سوء فِي تسع آيَات إِلَى أَن يَخْلُو أحد مِنْهُ، فَأَما هَذَا الْخَوْف من الْعقُوبَة على الْكفْر والكبائر، وَالله تَعَالَى قد عصم الْأَنْبِيَاء من الْكفْر والكبائر.(4/80)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
وَقَوله: {إِلَّا من ظلم} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: وَلَا من ظلم {ثمَّ بدل حسنا بعد سوء} أَي: تَابَ وَنَدم، وَهَذَا القَوْل ضَعِيف عِنْد أهل النَّحْو، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة: إِنِّي لَا يخَاف لَدَى المُرْسَلُونَ وَإِنَّمَا يخَاف غير الْمُرْسلين، إِلَّا من ظلم ثمَّ بدل حسنا بعد سوء فَإِنَّهُ لَا يخَاف، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الِاسْتِثْنَاء هَا هُنَا مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن من ظلم فخاف فَإِن بدل حسنا بعد سوء فَإِنَّهُ لَا يخَاف. وَفِي بعض التفاسير: أَن المُرَاد بقوله: {إِلَّا من ظلم} هُوَ مُوسَى بقتْله القبطي، وَأما تبديله الْحسن بعد السوء تَوْبَته وندامته، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب إِنِّي ظلمت نَفسِي} .(4/80)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَأدْخل يَديك فِي جيبك تخرج بَيْضَاء من غير سوء} قد بَينا، وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا كَانَت تلألأ مثل الْبَرْق.
وَقَوله: {فِي تسع آيَات} أَي: مَعَ تسع آيَات، وَقيل: من تسع آيَات، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
[وَهل] ينعمن من كَانَ آخر عَهده ... [ثَلَاثِينَ] شهرا فِي ثَلَاثَة أَحْوَال
أَي: من ثَلَاثَة أَحْوَال.
وَقَوله: {إِلَى فِرْعَوْن وَقَومه إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين} أَي: خَارِجين من الطَّاعَة.(4/80)
{فِرْعَوْن وَقَومه إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُم آيَاتنَا مبصرة قَالُوا هَذَا سحر مُبين (13) وجحدوا بهَا واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين (14) وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُد وَسليمَان علما وَقَالا الْحَمد لله الَّذِي(4/81)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُم آيَاتنَا مبصرة} أَي: بنية وَاضِحَة.
قَوْله: {قَالُوا هَذَا سحر مُبين} أى: سحر ظَاهر.(4/81)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {وجحدوا بهَا} أَي: جحدوها، وَالْبَاء صلَة، وَقيل: جَحَدُوا بِالدّلَالَةِ الَّتِي ظَهرت مِنْهُمَا.
وَقَوله: {واستيقنتها أنفسهم} يَعْنِي: وَقد علمُوا أَنَّهَا من قبل الله تَعَالَى.
وَقَوله: {ظلما وعلوا} أَي: شركا وتكبرا.
وَقَوله: {فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين} ظَاهر الْمَعْنى.(4/81)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُد وَسليمَان علما} أَي: علم الْقَضَاء وَعلم منطق الطير ومنطق الدَّوَابّ، وَعَن بَعضهم: علم الكيمياء، وَهُوَ قَول شَاذ.
وَقَوله: {وَقَالا الْحَمد لله الَّذِي فضلنَا على كثير من عباده الْمُؤمنِينَ} ظَاهر الْمَعْنى.(4/81)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
قَوْله تَعَالَى: {وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} قَالَ أهل التَّفْسِير: لَيْسَ المُرَاد مِنْهُ وراثة المَال، وَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهُ إِرْث الْملك والنبوة، وَكَانَ دَاوُد ملكا نَبيا، [وَكَذَلِكَ] سُلَيْمَان ملكا نَبيا، وَأعْطى سُلَيْمَان مَا أعْطى دَاوُد من الْملك، وَزيد لَهُ تسخير الرّيح، وَلم يكن هَذَا لِأَبِيهِ، وَكَذَلِكَ تسخير الشَّيَاطِين. قَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَ لداود تِسْعَة عشر ولدا ذكرا، وَورث ملكه ونبوته سُلَيْمَان من بَينهم.
وَفِي بعض المسانيد: عَن أبي هُرَيْرَة أَن الله تَعَالَى أَمر دَاوُد أَن يسْأَل سُلَيْمَان عَن عشر مسَائِل: فَإِن أجَاب فَهُوَ خَلِيفَته. وروى أَن الله تَعَالَى بعث إِلَى دَاوُد(4/81)
{فضلنَا على كثير من عباده الْمُؤمنِينَ (15) وَورث سُلَيْمَان دَاوُد وَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس بِصَحِيفَة مختومة فِيهَا جَوَاب الْمسَائِل فَجمع دَاوُد الْأَحْبَار والرهبان، وأحضر سُلَيْمَان وَسَأَلَهُ عَن الْمسَائِل، وَكَانَت الْمسَائِل الْعشْر أَن دَاوُد سَأَلَ سُلَيْمَان - صلوَات الله عَلَيْهِمَا - فَقَالَ: مَا أقرب الْأَشْيَاء؟ وَمَا أبعد الْأَشْيَاء؟ وَمَا آنس الْأَشْيَاء؟ وَمَا أوحش الْأَشْيَاء؟ وَمَا الشيئان القائمان؟ وَمَا الشيئان المختلفان؟ وَمَا الشيئان المتباغضان؟ [وَمَا الَّذِي إِذا اسْتعْمل فِي أول الشَّيْء حمد فِي آخِره؟] وَمَا الَّذِي إِذا اسْتعْمل فِي أول الشَّيْء ذمّ فِي آخِره؟ فَقَالَ: أما أقرب الْأَشْيَاء فالآخرة، وَأما أبعد الْأَشْيَاء فَالَّذِي فاتك من الدُّنْيَا، وَأما آنس الْأَشْيَاء فجسد فِيهِ روحه، وَأما أوحش الْأَشْيَاء فجسد لَا روح فِيهِ، وَأما الشيئان القائمان فالسماء وَالْأَرْض، وَأما الشيئان المختلفان فالليل وَالنَّهَار، وَأما الشيئان المتباغضان فالحياة وَالْمَوْت، وَأما الَّذِي إِذا اسْتعْمل فِي أول الشَّيْء حمد فِي آخِره، فالحلم عِنْد الْغَضَب، وَأما الَّذِي إِذا اسْتعْمل فِي أول الشَّيْء ذمّ فِي آخِره فالحدة عِنْد الْغَضَب، فَلَمَّا أجَاب سُلَيْمَان بِهَذِهِ الْأَجْوِبَة، فك الْخَتْم عَن الصَّحِيفَة الَّتِي بعثها الله تَعَالَى، فَإِذا الْأَجْوِبَة على وفْق مَا قَالَ سُلَيْمَان صلوَات الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِي هَذَا الْخَبَر: أَن سُلَيْمَان لما أجَاب بِهَذِهِ الْأَجْوِبَة سَأَلته الْأَحْبَار عَن مَسْأَلَة أُخْرَى فَقَالُوا: مَا الشَّيْء الَّذِي إِذا صلح صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فسد فسد الْجَسَد كُله؟ فَقَالَ: هُوَ الْقلب. فَقَالَت الْأَحْبَار لَهُ: حق لَك الْخلَافَة يَا سُلَيْمَان، فَحِينَئِذٍ اسْتَخْلَفَهُ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام.
فَإِن قيل: إِذا كَانَ دَاوُد اسْتَخْلَفَهُ، فَكيف يَسْتَقِيم قَوْله تَعَالَى: {وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} ؟ قُلْنَا: المُرَاد من الْإِرْث هَاهُنَا هُوَ قِيَامه مقَام دَاوُد فِي الْملك والنبوة وَالْعلم، وَلَيْسَ المُرَاد من الْإِرْث الَّذِي يعلم فِي الْأَمْوَال، وَهَذَا مثل قَوْلهم: الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء، وَالْمرَاد مِنْهُ مَا بَينا.(4/82)
{علمنَا منطق الطير
وَقَوله: {وَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس علمنَا منطق الطير} سمى صَوته منطقا لحُصُول الْفَهم بِمَعْنَاهُ، كَمَا يفهم معنى كَلَام النَّاس، إِلَّا أَن صَوت الطير على صِيغَة وَاحِدَة، وأصوات النَّاس على صِيغ مُخْتَلفَة، وَيحْتَمل أَن ذَلِك فِي زمَان سُلَيْمَان خَاصَّة معْجزَة لَهُ أَنه جعل لأصواتهم مَعَاني مفهومة كَمَا يفهم النَّاس بَعضهم من بعض.
وَقد روى نَافِع، عَن ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ: " الديك الْأَبْيَض صديقي، وصديق صديقي وعدو عدوى، فَقيل: يَا رَسُول الله، وماذا يَقُول؟ قَالَ: يَقُول اذْكروا الله يَا غافلين ". وَهَذَا خبر غَرِيب.
وَفِي بعض المسانيد: أَن جمَاعَة من الْيَهُود أَتَوا عبد الله بن عَبَّاس: فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا سائلوك عَن أَشْيَاء فَإِن أجبتنا أسلمنَا، فَقَالَ: سلوا تفقها، وَلَا تسألوا تعنتا، فَقَالُوا: مَاذَا يَقُول القس فِي صفيره؟ والديك فِي صقيعه؟ والضفدع فِي نقيقه؟ وَالْحمار فِي نهيقه؟ وَالْفرس فِي صهيله؟ وماذا يَقُول الزرزور أَو الدراج؟ فَقَالَ: أما القس يَقُول: اللَّهُمَّ الْعَن مبغضي مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد، وَأما الديك يَقُول: اذْكروا الله يَا غافلين، وَأما الضفدع يَقُول: سُبْحَانَ المعبود فِي لجج الْبحار، وَأما الْحمار فَيَقُول: اللَّهُمَّ الْعَن العشارين، وَأما الْفرس إِذا حمحم عِنْد التقاء الصفين فَإِنَّهُ يَقُول: سبوح قدوس رب الْمَلَائِكَة وَالروح، وَأما الزرزور فَإِنَّهُ يَقُول: اللَّهُمَّ أَسأَلك قوت يَوْم بِيَوْم يارزاق، وَأما(4/83)
{وأوتينا من كل شَيْء إِن هَذَا لَهو الْفضل الْمُبين (16) وَحشر لِسُلَيْمَان جُنُوده من الْجِنّ وَالْإِنْس وَالطير فهم يُوزعُونَ (17) الدراج فَيَقُول: الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى، قَالَ: فَأسلم الْيَهُود.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِي الْحمار: " إِذا نهق فَإِنَّهُ قد رأى شَيْطَانا ".
وَقَوله: {وأوتينا من كل شَيْء} أَي: من كل شَيْء يُؤْتى الْأَنْبِيَاء والملوك، وَقيل: إِنَّه قَالَ هَذَا على طَرِيق الْكَثْرَة وَالْمُبَالغَة، مثل قَول الْقَائِل: كلمت كل أحد فِي حَاجَتك.
وَقَوله: {إِن هَذَا لَهو الْفضل الْمُبين} أَي: الزِّيَادَة الظَّاهِرَة على جَمِيع الْخلق.(4/84)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {وَحشر لِسُلَيْمَان جُنُوده} قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: كَانَ مُعَسْكَره مائَة فَرسَخ: خَمْسَة وَعِشْرُونَ فرسخا للإنس، وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ فرسخا للجن، وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ فرسخا للوحوش، وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ فرسخا للطيور.
وَعَن سعيد بن جُبَير: كَانَ يوضع لِسُلَيْمَان سِتّمائَة ألف كرْسِي، يجلس الْإِنْس فِيمَا يَلِيهِ، ثمَّ يليهن الْجِنّ، ثمَّ تظلهم الطير ثمَّ تقلهم الرّيح. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الشَّافِعِي، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس، أخبرنَا الديبلي، أخبرنَا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن ابْن سَلام، عَن سعيد بن جُبَير ... الْأَثر.
وَقَوله: {فهم يُوزعُونَ} أَي: يساقون، وَقيل: يجمعُونَ، وَالْقَوْل الْمَعْرُوف: يكفون، وَمَعْنَاهُ: يكف أَوَّلهمْ حَتَّى يلْحق آخِرهم، قَالَ الشَّاعِر:
(على حِين عاتبت المشيب على الصِّبَا ... فَقلت ألما أصح والشيب وازع)
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لابد للنَّاس من وزعة. قَالَ هَذَا حِين ولى الْقَضَاء، وازدحم عَلَيْهِ النَّاس.
وَعَن عُثْمَان قَالَ: مَا يَزع السُّلْطَان أَكثر مِمَّا يَزع الْقُرْآن. وَمَعْنَاهُ: مَا يمْتَنع النَّاس مِنْهُ خوفًا من السُّلْطَان أَكثر مِمَّا يمْتَنع النَّاس مِنْهُ خوفًا من الْقُرْآن.(4/84)
{حَتَّى إِذا أَتَوا على وَاد النَّمْل قَالَت نملة يَا أَيهَا النَّمْل أدخلُوا مَسَاكِنكُمْ
وَعَن بَعضهم فِي الْفرق بَين عمر وَعُثْمَان: أَن عمر أَسَاءَ الظَّن فَشدد فِي الْأَمر فصلحت رَعيته، وَعُثْمَان أحسن الظَّن فساهل الْأَمر ففسدت رَعيته.
وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ على كل صنف من الْإِنْس وَالْجِنّ وَالطير وَالدَّوَاب لِسُلَيْمَان صلوَات الله عَلَيْهِ، وزعة.(4/85)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا أَتَوا على وَاد النَّمْل} يُقَال: هُوَ وَاد بِالشَّام، وَقَالَ كَعْب: وَاد بِالطَّائِف. وَقَالَ بَعضهم: وَاد كَانَ سكنه الْجِنّ، وَأُولَئِكَ النَّمْل مراكبهم وَهِي كالذئاب. وَقيل: كالبخاتي، وَالْمَشْهُور أَنه النَّمْل الصَّغِير، وَسميت نملا لتنملها أَي: لِكَثْرَة حركتها.
وَعَن عدي بن حَاتِم انه كَانَ يفت الْخبز للنمل. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهِ أَبُو على الشَّافِعِي بذلك الْإِسْنَاد، وَالَّذِي بَينا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن مَسْعُود، عَن رجل، عَن عدي بن حَاتِم.
وَقَوله: {قَالَت نملة} يحْتَمل أَن الله تَعَالَى خلق للنمل فِي ذَلِك الْوَقْت كلَاما مفهوما، والنمل عِنْد الْعَرَب من الحكل، والحكل مَالا صَوت لَهُ، قَالَ الشَّاعِر:
(علم سُلَيْمَان الحكل)
وَقَوله: {يَا أَيهَا النَّمْل ادخُلُوا مَسَاكِنكُمْ} وَلم يقل: ادخلي، وَحقّ اللُّغَة أَن يَقُول: ادخلي، وَإِنَّمَا يُقَال: ادخُلُوا لبني آدم، لكِنهمْ لما تكلمُوا بِمثل كَلَام الْآدَمِيّين خوطبوا مثل خطاب الْآدَمِيّين.
وَقَوله: {لَا يحطمنكم} أَي: لَا يسكرنكم كسر الْهَلَاك , {سُلَيْمَان وَجُنُوده} (وَقيل: لَا يطأنكم، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَإِنَّمَا الرّيح كَانَت تحمل سُلَيْمَان(4/85)
{لَا يحطمنكم سُلَيْمَان وَجُنُوده وهم لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكا من قَوْلهَا وَجُنُوده} ? فَإِنَّهُ روى أَن سُلَيْمَان وَجُنُوده كَانُوا يَجْتَمعُونَ على بِسَاط، وَالرِّيح تحمل الْبسَاط؛ وَالْجَوَاب: يحْتَمل أَنه كَانَ فيهم مشَاة، وَكَانَت الأَرْض تطوى لَهُم، وَيحْتَمل أَن هَذَا كَانَ قبل تسخير الرّيح لِسُلَيْمَان وَالله أعلم. فَإِن قيل: لم يكن النَّمْل من الطير، وَهُوَ كَانَ تعلم منطق الطير؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالَ الشّعبِيّ: كَانَت نملا لَهَا أَجْنِحَة فَيكون طيراً.
وَقَوله: {وهم لَا يَشْعُرُونَ} قَالَ أهل التَّفْسِير: علم النَّمْل أَن سُلَيْمَان ملك لَيْسَ لَهُ جبرية وظلم، وَمعنى الْآيَة: أَنكُمْ لَو لم تدْخلُوا المساكن وطئوكم، وَلم يشعروا بكم، وَلَو عرفُوا لم يطئوا، وَفِي الْقِصَّة [أَيْضا] : أَن سُلَيْمَان لما بلغ وَادي النَّمْل حبس جنده حَتَّى دخل النَّمْل بُيُوتهم، وَفِي الْقِصَّة أَيْضا: أَن سُلَيْمَان سمع كَلَام النَّمْل على ثَلَاثَة أَمْيَال، وَكَانَ الله تَعَالَى أَمر الرّيح أَن تَأتيه بِكُل خبر وكل كَلَام، وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن النَّمْل يكره قَتلهَا، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ فِي قَوْله: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم} قَالَ: هم الَّذين لَا يؤدون الذَّر، وَهُوَ صغَار النَّمْل. فَإِن قيل: كَيفَ يَصح أَن يثبت للنمل مثل هَذَا الْعلم؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: يجوز أَن يخلق الله تَعَالَى فِيهِ هَذَا النَّوْع من الْفَهم وَالْعلم، وَيُقَال: إِنَّه أسْرع جسة إدراكا، وَهُوَ إِذا أَخذ الْحبَّة من الْحِنْطَة قطعهَا بنصفين لِئَلَّا تنْبت، وَإِذا أَخذ الكزبرة قطعهَا أَربع قطع؛ لِأَن الكزبرة إِذا قطعت قطعتين تنْبت، فَإِذا قطعت أَربع قطع لم تنْبت.(4/86)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
قَوْله تَعَالَى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكا من قَوْلهَا} قَالَ الزّجاج: ضحك الْأَنْبِيَاء التبسم.
وَقَوله: {ضَاحِكا} أَي: مُتَبَسِّمًا، وَيُقَال: كَانَ أَوله التبسم وَآخره الضحك، فَإِن قيل: لم ضحك؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: فَرحا بثناء النملة عَلَيْهِ، وَالْآخر: سمع عجبا، وَمن سمع عجبا يضْحك، وَرُبمَا يغلب فِي ذَلِك.(4/86)
{وَقَالَ رب أوزعني أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت عَليّ وعَلى وَالِدي وَأَن أعمل صَالحا ترضاه وأدخلني بِرَحْمَتك فِي عِبَادك الصَّالِحين (19) وتفقد الطير فَقَالَ مَا
وَقَوله: {وَقَالَ رب أوزعني} أَي: ألهمني.
وَقَوله: {أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت على} يُقَال: الشُّكْر انفتاح الْقلب لرؤية الْمِنَّة، وَيُقَال: هُوَ الثَّنَاء على الله تَعَالَى بإنعامه.
قَوْله: {وعَلى وَالِدي} أَي: أَبَاهُ دَاوُد وَأمه آيسا.
وَقَوله: {وَأَن أعمل صَالحا ترضاه} أَي: من طَاعَتك.
وَقَوله: {وأدخلني بِرَحْمَتك فِي عِبَادك الصَّالِحين} أَي: مَعَ عِبَادك الصَّالِحين الْجنَّة.(4/87)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {وتفقد الطير} التفقد هُوَ طلب مَا قد فقد.
وَقَوله: {مَا لي لَا أرى الهدهد} الهدهد طير مَعْرُوف، فَإِن قيل: لم طلبه؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الطير كَانَت تظل سُلَيْمَان وجنده من الشَّمْس، فَنظر فَرَأى مَوضِع الهدهد خَالِيا تصبيه الشَّمْس مِنْهُ، فَطلب لهَذَا، وَالثَّانِي: مَا روى عَن ابْن عَبَّاس أَن الهدهد كَانَ يعرف مَوضِع المَاء فِي الأَرْض، وَكَانَ يبصر المَاء فِيهَا كَمَا يبصر فِي الزجاجة، وَكَانَ يذكر قدر قرب المَاء وَبعده، فَاحْتَاجَ سُلَيْمَان إِلَى المَاء فِي مسيره، فَطلب الهدهد لذَلِك. فروى أَن نَافِع بن الْأَزْرَق كَانَ عِنْد ابْن عَبَّاس وَهُوَ يذكر هَذَا فَقَالَ: يَا وصاف انْظُر مَا تَقول، فَإِن الصَّبِي منا يضع الفخ ويحثو عَلَيْهِ التُّرَاب، فيجئ الهدهد فَيَقَع فِي الفخ. فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: إِن الْقدر يحول دون الْبَصَر، وروى أَنه قَالَ: إِذا جَاءَ الْقَضَاء وَالْقدر ذهب اللب وَالْبَصَر.
وَقَوله: {أم كَانَ من الغائبين} يَعْنِي: أَكَانَ من الغائبين؟ وَالْمِيم فِيهِ صلَة، كَأَنَّهُ أعرض عَن الْكَلَام الأول، وَذكر هَذَا على طَرِيق الِاسْتِفْهَام، وَيُقَال: إِنَّه لما قَالَ: {مَالِي لَا أرى الهدهد} دخله شكّ، فَقَالَ: أحاضر هُوَ أم غَائِب؟ .(4/87)
{لي لَا أرى الهدهد أم كَانَ من الغائبين (20) لأعذبنه عذَابا شَدِيدا أَو لأذبحنه أَو ليأتيني بسُلْطَان مُبين (21) فَمَكثَ غير بعيد فَقَالَ أحطت بِمَا لم تحط بِهِ وجئتك(4/88)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
قَوْله تَعَالَى: {لأعذبنه عذَابا شَدِيدا} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا - وَهُوَ الْأَشْهر - أَنه نتف ريشه وإلقاؤه فِي الشَّمْس فيأكله النَّمْل، وَيُقَال: هُوَ حَبسه مَعَ الضِّدّ، وَيُقَال: إِخْرَاجه من جنسه إِلَى غير جنسه، فَهُوَ الْعَذَاب الشَّديد.
وَقَوله: {أَو لأذبحنه} مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَقَوله: {أَو ليأتيني بسُلْطَان مُبين} أَي: بِعُذْر ظَاهر، وَيُقَال: بِحجَّة بَيِّنَة، وَفِي الْقِصَّة: أَن أَمِير الطير كَانَ هُوَ الكركر، فَسَأَلَهُ سُلَيْمَان عِنْد الهدهد أَنه حَاضر أم غَائِب؟ .(4/88)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
قَوْله تَعَالَى: {فَمَكثَ غير بعيد} أَي: غير طَوِيل.
وَقَوله: {فَقَالَ أحطت بِمَا لم تحط بِهِ} فِيهِ حذف، وَمَعْنَاهُ: أَن الهدهد جَاءَ وَسَأَلَهُ سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - عَن غيبته فَقَالَ: {أحطت بِمَا لم تحط بِهِ} .
وَفِي الْقِصَّة: أَن الهدهد قَالَ لما أخبر بمقالة سُلَيْمَان: {لأعذبنه عذَابا شَدِيدا أَو لأذبحنه} قَالَ الهدهد: هَل اسْتثْنى نَبِي الله؟ قَالُوا: نعم، قد قَالَ: (أَو ليأتيني بسُلْطَان مُبين) قَالَ: فنجوت إِذا.
فَإِن قَالَ قَائِل: التعذيب إِنَّمَا يكون بعد التَّكْلِيف، والهدهد لم يكن مُكَلّفا، وَإِذا لم يكن مُكَلّفا لم يكن عَاصِيا بالغيبة، وَإِذا لم يكن عصيا لَا يسْتَحق الْعَذَاب؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: يحْتَمل أَن الطير أَعْطَاهَا الله تَعَالَى فِي ذَلِك الْوَقْت مَا يعْقلُونَ بِهِ الْأَمر، فصح نهيهم عَن الْغَيْبَة والإخلال بمركز الْخدمَة، فَإِذا غبن استحققن الْعَذَاب.
وَأما قَوْله: {أحطت بِمَا لم تحط بِهِ} الْإِحَاطَة هُوَ الْعلم بالشَّيْء من جَمِيع جهاته.
وَقَوله: {وجئتك من سبأ} وَقُرِئَ: " سبأ " بِغَيْر صرف، فَمن صرف سبأ صرفه على أَنه اسْم رجل، وَفِي بعض التفاسير: عَن النَّبِي أَنه سُئِلَ عَن سبأ فَقَالَ: " هُوَ(4/88)
{من سبأ بِنَبَأٍ يَقِين (22) إِنِّي وجدت امْرَأَة تملكهم رجل ولد عشرَة من الْبَنِينَ تيامن مِنْهُم سِتَّة وتشاءم مِنْهُم أَرْبَعَة، فَأَما الَّذِي تيامنوا فهم كِنْدَة، والأشعر، والأزد، وحمير، ومذحج، وأنمار، وَأما الَّذين تشاءموا فهم: لخم، وجذام، وعاملة، وغسان ".
وَمن لم يصرفهُ جعله اسْما للبقعة، وَاعْلَم أَن الْعَرَب قد صرفت سبأ مرّة وَلم تصرفه مرّة، قَالَ الشَّاعِر فِي صرف سبأ:
(الواردون وتيم فِي ذرى سبأ ... قد عض أَعْنَاقهم جلد الجواميس} وَقَالَ آخر: فِي ترك صرفه:
(من سبأ الْحَاضِرين مأرب إِذْ ... يبنون من دون سيله العرما)
وَقَوله: {بِنَبَأٍ يَقِين} أَي: بِخَبَر حق.(4/89)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
وَقَوله تَعَالَى: {إِنِّي وجدت امْرَأَة تملكهم} هَذِه الْمَرْأَة هِيَ بلقيس بنت شرَاحِيل. قَالَ مُجَاهِد: وَلَدهَا أَرْبَعُونَ ملكا، آخِرهم أَبوهَا. وَعَن قَتَادَة قَالَ: كَانَ أحد أَبَوَيْهَا من الْجِنّ. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: ولوا أَمرهم علجة يضطرب ثدياها.
وَقد ثَبت عَنهُ بِرِوَايَة أبي بكرَة حِين بلغه أَن الْعَجم ولوا عَلَيْهِم بنت كسْرَى،(4/89)
{وَأُوتِيت من كل شَيْء وَلها عرش عَظِيم (23) وَجدتهَا وقومها يَسْجُدُونَ للشمس من دون الله وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم فصدهم عَن السَّبِيل فهم لَا يَهْتَدُونَ فَقَالَ: " لَا يفلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة ".} ) .
وَعَن خَالِد بن صَفْوَان فِي ذمّ الْيمن: هم من بَين دابغ جلد , وسايس قرد , وحائك برد , ملكتهم امْرَأَة , وَدلّ عليم هدهد وغرقتهم فَأْرَة.
وَاعْلَم أَن أهل الْيمن ممدوحون على لِسَان النَّبِي، وَإِنَّمَا الذَّم الَّذِي ذكرنَا لأهل الشّرك مِنْهُم.
وَقَوله: {وَأُوتِيت من كل شَيْء} أَي: من كل شَيْء يُؤْتى مثلهَا.
وَقَوله: {وَلها عرش عَظِيم} أَي: سَرِير ضخم، وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ طول السرير [ثَمَانِينَ] ذِرَاعا فِي عرض ثَمَانِينَ، وَقيل: أقل من ذَلِك، وَالله أعلم.
قَالُوا: وَكَانَ مكللا بالجواهر واليواقيت والزبرجد، وَمَا أشبه ذَلِك.(4/90)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
وَقَوله: {وَجدتهَا وقومها يَسْجُدُونَ للشمس من دون الله وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم فصدهم عَن السَّبِيل} أَي: عَن سَبِيل الْإِسْلَام.
وَقَوله: {فهم لَا يَهْتَدُونَ} أَي: الطَّرِيق الْحق.(4/90)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
قَوْله تَعَالَى: {أَلا يسجدوا لله} وَقُرِئَ: " أَلا يسجدوا " مخففا، فَأَما من قَرَأَ: {إِلَّا} مشددا فَمَعْنَاه: فصدهم عَن السَّبِيل أَلا يسجدوا يَعْنِي: لِئَلَّا يسجدوا، وَقيل مَعْنَاهُ: وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم أَلا يسجدوا، وعَلى هَذِه الْقِرَاءَة لَا سُجُود عِنْد تِلَاوَته، هَكَذَا ذكره أهل التَّفْسِير، وَأما قِرَاءَة التَّخْفِيف فَمَعْنَى قَوْله: " أَلا يسجدوا "(4/90)
( {24) أَلا يسجدوا لله الَّذِي يخرج الخبء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَيعلم مَا تخفون وَمَا تعلنون (25) لله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَرْش الْعَظِيم (26) قَالَ سننظر أصدقت أم كنت من الْكَاذِبين (27) اذْهَبْ بكتابي هَذَا فألقه إِلَيْهِم ثمَّ تول عَنْهُم أَي: أَلا يَا هَؤُلَاءِ اسجدوا.
(أَلا يسلمى يادارمي على البلى ... وَلَا زَالَ منهلا بجرعائك الْقطر}
وَمَعْنَاهُ: أَلا يَا اسلمى يَا دَار. وَقَالَ آخر:
(أَلا يسلمى يَا هِنْد هِنْد بنى ... بدر وَإِن كَانَ حيانا غَدا آخر الدَّهْر)
وَمَعْنَاهُ: أَلا يَا اسلمى هِنْد، وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا من قَول الهدهد، وَيحْتَمل أَن يكون من قَول الله تَعَالَى ابْتِدَاء، قَالَ أهل التَّفْسِير: وعَلى هَذِه الْقِرَاءَة يسن السَّجْدَة؛ لِأَنَّهُ أَمر بِالسُّجُود وَقَالَ بَعضهم: على الْقِرَاءَة الأولى يسْجد أَيْضا مُخَالفَة للْمُشْرِكين.
وَقَوله: {الله الَّذِي يخرج الخبء} أَي: مَا غَابَ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَالَّذِي غَابَ فِي السَّمَاء هُوَ الْمَطَر، وَالَّذِي غَابَ فِي الأَرْض هُوَ النَّبَات، وَقيل: [كل] مَا غَابَ.
وَقَوله: {وَيعلم مَا تخفون وَمَا تعلنون} ظَاهر الْمَعْنى.(4/91)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
قَوْله تَعَالَى: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَرْش الْعَظِيم} ذكر الْعَرْش هَا هُنَا، لِأَنَّهُ أخبر أَنه كَانَ لَهَا عرش عَظِيم، وَفَائِدَة الذّكر [أَن] عرشها صَغِير حقير فِي جنب عرش الله تَعَالَى.(4/91)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ سننظر أصدقت أم كنت من الْكَاذِبين} فِيهِ دَلِيل على أَن الْمُلُوك يجب عَلَيْهِم التثبت فِيمَا يخبرون.
وَقَوله: {أم كنت من الْكَاذِبين} أَي: أم أَنْت من الْكَاذِبين.(4/91)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
قَوْله تَعَالَى: {اذْهَبْ بكتابي هَذَا فألقه إِلَيْهِم ثمَّ تول عَنْهُم}(4/91)
{فَانْظُر مَاذَا يرجعُونَ (28) قَالَت يَا أَيهَا الْمَلأ إِنِّي ألقِي إِلَيّ كتاب كريم (29) إِنَّه من سُلَيْمَان
قَالُوا: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير وَمَعْنَاهُ: ألقه إِلَيْهِم فَانْظُر مَاذَا يرجعُونَ ثمَّ تول عَنْهُم، وَقيل مَعْنَاهُ: تول عَنْهُم أَي: تَنَح عَنْهُم ثمَّ أنظر مَاذَا يرجعُونَ. قَالَ بَعضهم: علم الهدهد أدب الدُّخُول على الْمُلُوك يَعْنِي: إِذا دخل الدَّاخِل على الْملك يَنْبَغِي أَن لَا يقف، بل يذهب فِي الْحَال ثمَّ يرجع وَيطْلب الْجَواب.(4/92)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَت يَا أَيهَا الْمَلأ} فِي الْآيَة حذف، وَهُوَ أَن الهدهد ذهب وَحمل الْكتاب، وَفِي الْقِصَّة: أَنه دخل عَلَيْهَا من جِهَة الكوة، وَكَانَت هِيَ فِي خلْوَة مستلقية على سريرها، فَطرح الْكتاب على صدرها، وَقيل: كَانَت نَائِمَة فَوَضعه بجنبها، وَيُقَال: ذهب بِالْكتاب وَطَرحه على حجرها، فِي مَلأ من النَّاس، وَأما الْمَلأ فهم أَشْرَاف الْقَوْم وكبراؤهم. وَيُقَال: كَانَ لَهَا ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر قائدا، كل قَائِد على اثْنَي عشر ألفا، وَيُقَال: كَانَ لَهَا اثْنَا عشر ألف قَائِد، كل قَائِد على ألف رجل.
وَقَوله: {إِنِّي ألقِي إِلَيّ كتاب كريم} أَي: حسن، وَيُقَال: مختوم. وَفِي الْأَخْبَار عَن النَّبِي بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس: " من كَرَامَة الْكتاب خَتمه "، وَالْقَوْل الثَّالِث: كتاب كريم أَي: كريم كَاتبه ومرسله.(4/92)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه من سُلَيْمَان} فِي التَّفْسِير: أَن سُلَيْمَان كَانَ قد كتب: من عبد الله سُلَيْمَان بن دَاوُد إِلَى بلقيس بنت شرَاحِيل {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(4/92)
{وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (30) } أَلا تعلوا على وأتوني مُسلمين) .
قَالَ أهل الْعلم: وَهَذَا الْكتاب أوجز مَا يكون من الْكتب، فَإِنَّهُ جمع العنوان وَالْكتاب وَالْمَقْصُود فِي سطرين، وَكتب الْأَنْبِيَاء على غَايَة الإيجاز.
وَعَن الشّعبِيّ: " كَانَ رَسُول يكْتب أَولا بِاسْمِك اللَّهُمَّ، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى قَوْله: {بِسم الله مجريها وَمرْسَاهَا} كتب بِسم الله، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى: {قل ادعوا الله أَو ادعوا الرَّحْمَن} كتب بِسم الله الرَّحْمَن، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى فِي سُورَة النَّمْل: {إِنَّه من سُلَيْمَان وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} كتب بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ".
قَالَ عَاصِم: قلت لِلشَّعْبِيِّ: رَأَيْت كتابا للنَّبِي فِي ابْتِدَائه بِسم الله الرَّحْمَن، فَقَالَ: ذَلِك هُوَ الْكتاب الثَّالِث.
وَعَن بُرَيْدَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله قَالَ لَهُ: " إِنِّي أعلم آيَة أنزلت عَليّ لم تنزل على نَبِي بعد سُلَيْمَان بن دَاوُد، وَالله لَا أخرج من الْمَسْجِد حَتَّى أخْبرك بهَا. قَالَ: فَقَامَ وَأخرج إِحْدَى رجلَيْهِ من الْمَسْجِد، فَقلت فِي نَفسِي: إِنَّه قد حلف، فَالْتَفت إِلَيّ، وَقَالَ لي: بِمَ تفتتح صَلَاتك ? يَعْنِي قراءتك؟ قلت: بِسم الله الرَّحْمَن(4/93)
{أَلا تعلوا عَليّ وأتوني مُسلمين (31) قَالَت يَا أَيهَا الْمَلأ أفتوني فِي أَمْرِي مَا كنت قَاطِعَة أمرا حَتَّى تَشْهَدُون (32) قَالُوا نَحن أولُوا قُوَّة وَأولُوا بَأْس شَدِيد لرحيم قَالَ: هِيَ هِيَ، ثمَّ خرج ".(4/94)
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {أَلا تعلوا عَليّ} أَي: لَا تتعظموا على، وَقيل: لَا تتكبروا على، وَمَعْنَاهُ: لَا تمتنعوا وتتركوا الْإِجَابَة، فَإِن الِامْتِنَاع وَترك الْإِجَابَة من الْعُلُوّ والتكبر.
وَقَوله: {وأتوني مُسلمين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: هُوَ من الْإِسْلَام، وَالْآخر: من الاستسلام.(4/94)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَت يَا أَيهَا الْمَلأ أفتوني فِي أَمْرِي} قَالَت هَذَا على طَرِيق الاستشارة؛ لِأَنَّهَا علمت أَن ملك سُلَيْمَان أعظم من ملكهَا، وَقَوله: {أفتوني فِي أَمْرِي} . أَي: أجيبوني فِي أَمْرِي.
وَقَوله: {مَا كنت قَاطِعَة أمرا} أَي: قاضية ومبرمة أمرا {حَتَّى تَشْهَدُون} أَي: تحضرون، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " مَا كنت قاضية أمرا ".(4/94)
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا نَحن أولو قُوَّة وأولو بَأْس شَدِيد} أخبروا بكثرتهم وشجاعتهم.
وَقَوله: {وَالْأَمر إِلَيْك} ثمَّ ردوا الْأَمر إِلَيْهَا لتقاتل أَو تتْرك الْقِتَال، فَهُوَ معنى قَوْله: {فانظري مَاذَا تأمرين} .(4/94)
{وَالْأَمر إِلَيْك فانظري مَاذَا تأمرين (33) قَالَت أَن الْمُلُوك إِذا دخلُوا قَرْيَة أفسدوها وَجعلُوا أعزة أَهلهَا أَذِلَّة وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسلَة إِلَيْهِم بهدية فناظرة(4/95)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
وَقَوله تَعَالَى: {قَالَت إِن الْمُلُوك إِذا دخلُوا قَرْيَة أفسدوها} أَي: خربوها.
وَقَوله: {وَجعلُوا أعزة أَهلهَا أَذِلَّة} الأعزة هُوَ الْقَوْم الَّذين يمتنعون من قبُول الذل بقوتهم وقدرتهم، فجعلهم أَذِلَّة فِي هَذَا الْموضع إِنَّمَا هُوَ بالاستعباد والاستسخار.
وَقَوله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذَا من قَول الله تَعَالَى على طَرِيق التَّصْدِيق لَهَا، لَا على طَرِيق الْحِكَايَة عَنْهَا.(4/95)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنِّي مُرْسلَة إِلَيْهِم بهدية} الْهَدِيَّة هِيَ الْعَطِيَّة على طَرِيق المثامنة، والهدايا بَين الإخوان مُسْتَحبَّة، وَقد روى عَن النَّبِي: " تهادوا تحَابوا ".
وَقد ثَبت عَن النَّبِي: " كَانَ يقبل الْهَدِيَّة، وَيرد الصَّدَقَة ".
وروى عَنهُ أَنه قَالَ: " هَدَايَا الْأُمَرَاء غلُول ".
وروى أَن رجلا أهْدى إِلَى عمر - رَضِي الله عَنهُ - رجل جزور، وَكَانَ بَينه وَبَين(4/95)
{إبم يرجع المُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَان قَالَ أتمدونن بِمَال فَمَا آتَانِي الله خير مِمَّا آتَاكُم نسان خُصُومَة، فَلَمَّا ارتفعا إِلَيْهِ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، افصل بيني وَبَينه كَمَا يفصل من الْجَزُور رجله، فَقَالَ: أَنْت ذَاك، ثمَّ إِنَّه رد عَلَيْهِ رجل الْجَزُور، وَقضى عَلَيْهِ.
وَقَوله: {فناظرة بِمَ يرجع المُرْسَلُونَ} روى أَنَّهَا قَالَت: إِن كَانَ سُلَيْمَان ملكا فأرضيه بِالْمَالِ، وَإِن كَانَ نَبيا فَلَا يرضى بِالْمَالِ.
وَأما الْهَدِيَّة الَّتِي بعثتها إِلَى سُلَيْمَان، فَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: كَانَت مائَة وصيف وَمِائَة وصيفة.
وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: مِائَتَا غُلَام وَمِائَتَا جَارِيَة.
وَكَانَ بَعضهم يشبه الْبَعْض فِي الصُّورَة وَالصَّوْت والهيئة، وَقَالَت للرسول: قل لَهُ: ليميز بَين الغلمان [والجواري] .
وَعَن سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ: أَهْدَت إِلَيْهِ لبنة من ذهب ملفوفة فِي الدبياج. وروى أَنَّهَا أَهْدَت إِلَيْهِ من الْحَرِير والكافور والمسك وَالطّيب شَيْئا كثيرا.
وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا بعثت إِلَيْهِ بخرزتين، أَحدهمَا لَا ثقب لَهَا، وَالْأُخْرَى لَهَا ثقب معوج، وَطلبت أَن يدْخل الْخَيط فِي الثقب المعوج من غير علاج إنس وَلَا جن، وَأَن يثقب الخرزة الْأُخْرَى من غير علاج إنس وَلَا جن، وَبعثت إِلَيْهِ بقدح، وَطلبت مِنْهُ أَن يملأه من مَاء لم ينزل من السَّمَاء وَلَا نبع من الأَرْض.(4/96)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَان قَالَ أتمدونن بِمَال} الْإِمْدَاد إِلْحَاق الثواني بالأوائل، وَقيل: أَن يلْحق الثَّانِي بِالْأولِ، وَالثَّالِث بِالثَّانِي، وَالرَّابِع بالثالث إِلَى أَن يَنْتَهِي.
وَقَوله: {فَمَا آتَانِي الله خير مِمَّا آتَاكُم} مَا أَعْطَانِي الله من النُّبُوَّة وَالْملك وَالْمَال أفضل مِمَّا آتَاكُم.(4/96)
{بل أَنْتُم بهديتكم تفرحون (36)
وَقَوله: {بل أَنْتُم بهديتكم تفرحون} مَعْنَاهُ: أَن بَعْضكُم يفرح بالإهداء إِلَى بعض، فَأَما أَنا فَلَا أفرح بهداياكم.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمَرْأَة كَانَت قَالَت للرسل: إِن كَانَ سُلَيْمَان ملكا فَلَا يجلسكم، وَإِن كَانَ نَبيا فيجلسكم، فروى أَن (الرَّسُول) لما جَاءُوا وقربوا من سُلَيْمَان، جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأخْبرهُ بمجيئهم وَمَا مَعَهم، فَأمر سُلَيْمَان بلبنات من ذهب وَفِضة، حَتَّى جعلت تَحت أرجل الدَّوَابّ، وَجعلت الدَّوَابّ تروث وتبول عَلَيْهَا؟ ، فَلَمَّا رأى الرُّسُل ذَلِك استحقروا مَا عِنْدهم.
وَفِي الْقِصَّة: أَنهم لما دخلُوا قَامُوا قيَاما، فَقَالَ لَهُم سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: إِن الله تَعَالَى رفع السَّمَاء وَبسط الأَرْض، فَمن شَاءَ جلس وَمن شَاءَ قَامَ.
وروى أَنه أَمرهم بِالْجُلُوسِ ودعا بالغلمان والجواري بِأَن يتوضئوا، فَمن صب المَاء على بطن ساعده قَالَ: هِيَ جَارِيَة، وَمن صب المَاء على ظهر ساعده قَالَ: هُوَ غُلَام.
وروى انه جعل من بَدَأَ بالمرفق فِي الْغسْل غُلَاما، وَمن بَدَأَ بالزند فِي الْغسْل جَارِيَة، وروى أَنه جعل من أغرف الأناء غُلَاما، وَمن صب على يَده جَارِيَة.
ودعا بالخرزتين فَجَاءَت دودة تكون فِي الرّطبَة، وَقيل: فِي الصفصاف، فَقَالَت: أَنا أَدخل الْخَيط فِي هَذَا الثقب على أَن يكون رِزْقِي فِي الصفصاف، فَجعل لَهَا ذَلِك فَربط الْخَيط عَلَيْهَا، وَقيل: أخذت الْخَيط بفيها وَدخلت فِي الثقب [فَخرجت] من الْجَانِب الآخر. وَأما الخرزة الْأُخْرَى فَجَاءَت دودة تكون فِي الْفَوَاكِه، وثقبت الخرزة على أَن يكون رزقها فِي الْفَوَاكِه، فَجعل لَهَا ذَلِك، ثمَّ دَعَا بالقدح وَأمر بإجراء الْخَيل، وملأ الْقدح من عرقها، ثمَّ رد الْهَدَايَا على الرُّسُل حَتَّى ردوهَا على الْمَرْأَة.(4/97)
{ارْجع إِلَيْهِم فلنأتينهم بِجُنُود لَا قبل لَهُم بهَا ولنخرجهم مِنْهَا أَذِلَّة وَهُوَ صاغرون (37) قَالَ يَا أَيهَا الْمَلأ أَيّكُم يأتني بِعَرْشِهَا قبل أَن يأتوني مُسلمين (38) قَالَ عفريت من الْجِنّ أَنا آتِيك بِهِ قبل أَن تقوم من مقامك وَإِنِّي عَلَيْهِ لقوي أَمِين (39)
قَالَ أهل الْعلم: وَقد كَانَ الْأَنْبِيَاء لَا يقبلُونَ هَدَايَا الْمُشْركين.(4/98)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
قَوْله تَعَالَى: {ارْجع إِلَيْهِم فلنأتينهم بِجُنُود لَا قبل لَهُم بهَا} . أَي: لَا طَاقَة لَهُم بهَا.
وَقَوله: {ولنخرجهم مِنْهَا أَذِلَّة} أَي: من بِلَادهمْ. وَقَوله: {وهم صاغرون} أَي: نخرجهم على وَجه الذلة وَالصغَار، وَذَلِكَ يكون بالأسر والاستعباد، وَمَا أشبه ذَلِك.(4/98)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يأيها الْمَلأ} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن سُلَيْمَان قَالَ هَذَا بعد أَن أرجع الرَّسُول ورد الْهَدَايَا، فَإِن قَالَ قَائِل: لما رد الْهَدَايَا كَيفَ طلب عرشها وسريرها؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا: أَنه أحب أَن يكون ذَلِك السرير لَهُ، وَكَانَ قد وصف.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه أحب أَن يرَاهُ فَإِنَّهُ كَانَ قيل لَهُ: إِنَّه من ذهب وقوائمه من جَوْهَر وَهُوَ مكلل بِاللُّؤْلُؤِ.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَنه أَرَادَ أَن يريها معْجزَة عَظِيمَة، فَإِنَّهُ روى أَنَّهَا جعلت ذَلِك الْعَرْش فِي سَبْعَة أَبْيَات بَعْضهَا دَاخل فِي الْبَعْض، وغلقت الْأَبْوَاب واستوثقت مِنْهَا، فَأَرَادَ أَن يريها عرشها عِنْده حَتَّى إِذا رَأَتْ هَذِه المعجزة الْعَظِيمَة آمَنت.
وَقَوله: {أَيّكُم يأتيني بِعَرْشِهَا} قد بَينا. وَقَوله: {قبل أَن يأتوني مُسلمين} أَي: مستسلمين، وَقيل: هُوَ من الْإِسْلَام. وَفِي الْقِصَّة: أَن بلقيس أَقبلت فِي جنودها إِلَى سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - طلبا للصلح ودخولا فِي طَاعَته.(4/98)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ عفريت من الْجِنّ} قرئَ فِي الشاذ: " قَالَ عفرية من الْجِنّ " والعفريت والعفريت هُوَ الشَّديد الْقوي، وَفِي بعض التفاسير: أَنه كَانَ صَخْر الجني، وروى أَنه كَانَ بِمَنْزِلَة جبل، وَكَانَ يضع قدمه عِنْد مُنْتَهى طرفه.
وَقَوله: {أَنا آتِيك بِهِ قبل أَن تقوم من مقامك} يَعْنِي: قبل أَن تقوم من مجلسك(4/98)
{قَالَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب أَنا آتِيك بِهِ قبل أَن يرْتَد إِلَيْك طرفك لذى جلسته للْقَضَاء بَين النَّاس، وَقد كَانَ مَجْلِسه غدْوَة إِلَى قريب من نصف النَّهَار، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمَرْأَة كَانَت قد وصلت إِلَى قريب من فَرسَخ، فَلَمَّا سمع سُلَيْمَان ذَلِك قَالَ فِي طلب الْعَرْش.
وَقَوله: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لقوي أَمِين} على حمل الْعَرْش، أَمِين على مَا عَلَيْهِ من الْجَوَاهِر.(4/99)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب} روى أَن هَذَا العفريت لما قَالَ هَكَذَا قَالَ سُلَيْمَان: أُرِيد أسْرع من ذَلِك، فَحِينَئِذٍ قَالَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب: {أَنا آتِيك بِهِ قبل أَن يرْتَد إِلَيْك طرفك} .
وَاخْتلف القَوْل فِي الَّذِي كَانَ عِنْده علم من الْكتاب، فأشهر الْأَقَاوِيل: أَنه آصف ابْن برخيا بن سمعيا، وَكَانَ رجلا صديقا فِي بني إِسْرَائِيل، وَكَانَ يعلم اسْم الله الْأَعْظَم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الْخضر، ذكره ابْن لَهِيعَة، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه ملك من الْمَلَائِكَة، أوردهُ ابْن بخر، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنه سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام، وَهَذَا قَول مَعْرُوف، وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول.
وَاخْتلف القَوْل فِي أَنه بِمَاذَا دَعَا الله؟ فَقَالَ بَعضهم: إِنَّه قَالَ: يَا إلهي وإله الْخلق إِلَهًا وَاحِدًا، لَا إِلَه إِلَّا أَنْت، ائْتِ بِهِ، وروى أَنه قَالَ: يَا حَيّ يَا قيوم، وروى أَنه قَالَ: يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام، وَالله أعلم.
وَقَوله: {قبل أَن يرْتَد إِلَيْك طرفك} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن يرفع بَصَره إِلَى السَّمَاء، فَقبل أَن يردهُ إِلَى الأَرْض يرى الْعَرْش عِنْده، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَن يطرف طرفَة، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَن ينظر إِلَى رجل يَأْتِي، فَقبل أَن يصل إِلَيْهِ ذَلِك الرجل، يكون قد وصل الْعَرْش إِلَيْهِ، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَن ينظر إِلَى رجل يذهب، فَقبل أَن(4/99)
{فَلَمَّا رَآهُ مسقرا عِنْده قَالَ هَذَا من فضل رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أم أكفر وَمن شكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ وَمن كفر فَإِن رَبِّي غَنِي كريم (40) قَالَ نكروا لَهَا عرشها نَنْظُر أتهتدي أم تكون من الَّذين لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَت قيل أهكذا عرشك قَالَت يرْتَد طرفه من ذَلِك الذَّاهِب، يكون قد وصل إِلَيْهِ. وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما دَعَا الله خرق الله الأَرْض عِنْد عرشها، فساخ الْعَرْش فِي الأَرْض، وَظهر عِنْد سَرِير سُلَيْمَان، وَكَانَت الْمسَافَة مِقْدَار شَهْرَيْن، وَقَالَ بَعضهم: إِن الله تَعَالَى أعدم ذَلِك الْعَرْش، وأوجد مثله على هَيئته عِنْد سُلَيْمَان، وَالْقَوْل الأول أولى.
وَقَوله: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقرًّا عِنْده} قَالَ السّديّ: جزع سُلَيْمَان حِين رأى ذَلِك، وَكَانَ جزعه أَنه كَيفَ قدر ذَلِك الرجل على مَا لم يقدر هُوَ عَلَيْهِ؟ ثمَّ إِنَّه رَجَعَ إِلَى نَفسه، فَقَالَ: {هَذَا من فضل رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أم أكفر} .
وَقَوله: {وَمن شكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ وَمن كفر فَإِن رَبِّي غَنِي كريم} أَي: غنى عَن شكره، كريم فِي قبُول شكره وإثابته عَلَيْهِ.(4/100)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ نكروا لَهَا عرشها} مَعْنَاهُ: غيروا لَهَا عرشها. وَقَوله: {نَنْظُر أتهتدي أم تكون من الَّذين لَا يَهْتَدُونَ} فِي التَّفْسِير: أَن الْجِنّ كَانُوا قَالُوا لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: إِن فِي عقلهَا شَيْئا، وَقَالُوا لَهُ أَيْضا: إِن قدمهَا كحافر الْحمار، وعَلى سَاقهَا شعر كثير. وَإِنَّمَا غير عرشها ليعرف بذلك عقلهَا، وروى أَنه جعل أَعْلَاهُ أَسْفَله، وأسفله أَعْلَاهُ، وروى أَنه جعل مَكَان الْجَوَاهِر الْأَحْمَر أَخْضَر، وَمَكَان الْأَخْضَر أَحْمَر، وروى أَنه زَاد فِيهِ وَنقص مِنْهُ.
وَقَوله تَعَالَى: {نَنْظُر أتهتدي أم تكون من الَّذين لَا يَهْتَدُونَ} يَعْنِي: أتعرف عرشها أم لَا تعرف؟(4/100)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَت قيل أهكذا عرشك قَالَت كَأَنَّهُ هُوَ} لم تقل: لَا خوفًا من الْكَذِب، وَلم تقل: نعم خوفًا من الْكَذِب، وَلكنهَا قَالَت: كَأَنَّهُ هُوَ. وَقَالَ مقَاتل: شبهوا عَلَيْهَا فشبهت عَلَيْهِم، وَقد كَانَت عَرفته. وروى أَنه إِنَّمَا أشبه عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَت خلفت الْعَرْش فِي بيوتها، فرأته أمامها عِنْد سُلَيْمَان، فَاشْتَبَهَ عَلَيْهَا الْأَمر، وَقَالَت(4/100)
{كَأَنَّهُ هُوَ وأوتينا الْعلم من قبلهَا وَكُنَّا مُسلمين (42) وصدها مَا كَانَت تعبد من دون الله إِنَّهَا كَانَت من قوم كَافِرين (43) قيل هلا أدخلي الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حسبته مَا قَالَت.
وَقَوله: {وأوتينا الْعلم من قبلهَا} هَذَا من قَول سُلَيْمَان أَي: علمنَا حَالهَا وأمرها وَحَال عرشها قبل أَن تعلم. قَوْله: {وَكُنَّا مُسلمين} أَي: مُسلمين لله طائعين لَهُ.(4/101)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
قَوْله تَعَالَى: {وصدها مَا كَانَت تعبد من دون الله} (أَي: صدها عَن عبَادَة الله مَا كَانَت تعبد من دون الله) .
وَقَوله: {إِنَّهَا كَانَت من قوم كَافِرين} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقد كَانَت عَرَبِيَّة من مُلُوك الْيمن. وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: (أَنَّهَا كَانَت من قوم كَافِرين) قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّهَا كَانَت من قوم مجوس يعْبدُونَ الشَّمْس. وَعَن بَعضهم: قَالَ معنى قَوْله: {وصدها مَا كَانَت تعبد من وَدون الله} أَي: صدها عَن عبَادَة الله نُقْصَان عقلهَا، بل مَا كَانَت تعبد من دون الله، لِأَن الْجِنّ كَانُوا قَالُوا لِسُلَيْمَان: إِن فِي عقلهَا [شَيْئا] .(4/101)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
قَوْله تَعَالَى: {قيل لَهَا ادخلي الصرح} الصرح فِي أصل اللُّغَة هُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفع، ذكره أَبُو عبيد فِي غَرِيب المُصَنّف وَغَيره.
وَأما الصرح هَاهُنَا فَفِيهِ أَقْوَال: قَالَ مُجَاهِد: هُوَ بركَة من المَاء ألبس قَوَارِير.
وَقَالَ الزّجاج: الصرح والصرحة والساحة والباحة بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ الصحن. وَعَن بَعضهم: أَن الصرح هُوَ الْقصر، وَقيل: هُوَ الْبَيْت. وَفِي الْقِصَّة: أَن الْجِنّ قَالُوا لِسُلَيْمَان: إِن مُؤخر رجلهَا كحافر الْحمار، وَهِي هلباء شعراء، وَكَانُوا خَشوا أَن يَتَزَوَّجهَا سُلَيْمَان فتطلعه على أسرار الْجِنّ، وَكَانَت أمهَا جنية، فَأَرَادَ سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - أَن يرى رجلهَا، فَأمر باتخاذ بركَة عَظِيمَة، وَجعل فِيهَا من الْحيتَان والضفادع(4/101)
{لجة وكشفت عَن سَاقيهَا قَالَ أَنه صرح ممرد من قَوَارِير قَالَت رب إِنِّي ظلمت نَفسِي وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب الْعَالمين (44) وَمَا أشبههَا شَيْئا كثيرا، ثمَّ أَمر أَن يلبس المَاء غشاء من قَوَارِير. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه اتخذ صحنا من قَوَارِير، وَجعل تَحْتَهُ تماثيل من الْحيتَان والضفادع، وَكَانَ الْوَاحِد إِذا رَآهُ ظَنّه مَاء. وروى أَن سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - أَمر بسريره حَتَّى وضع فِي وسط الصرح، ثمَّ دَعَاهَا إِلَى مَجْلِسه، فَلَمَّا وصلت إِلَى الصرح وَنظرت ظنت أَنه مَاء، فَكشفت عَن سَاقيهَا لتدخل فِي المَاء، فصاح سُلَيْمَان: {إِنَّه صرح ممرد من قَوَارِير} وَرَأى سَاقيهَا، وَكَانَ عَلَيْهَا شعر كثير.
وَذكر بَعضهم: أَنه رأى قدما لطيفا وساقا حسنا وَعَلِيهِ شعر.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم طلب سُلَيْمَان هَذِه الرُّؤْيَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ أَن يعرف صدق الْجِنّ وكذبهم، وَالْآخر: أَنه أَرَادَ أَن يتَزَوَّج بهَا، فقصد أَن ينظر إِلَى سَاقيهَا، وَقد كَانُوا قَالُوا: إِن عَلَيْهِ شعرًا.
وَقد ذكر أهل التَّفْسِير: أَن سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ للشياطين: مَا الَّذِي يذهب الشّعْر؟ فاتخذوا النورة، وَهُوَ أول من اتخذ الْحمام والنورة.
[وَقَوله: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حسبته لجة وكشفت عَن سَاقيهَا قَالَ إِنَّه صرح] ممرد} .
أَي: مملس، وَقيل: الممرد هُوَ الْوَاسِع طولا وعرضا، قَالَ الشَّاعِر:
(غَدَوْت صباحا باكرا فوجدتهم ... قبيل الضحا والبابلي الممرد) أَي: وَقَوله: { [من قَوَارِير] . قَالَت رب إِنِّي ظلمت نَفسِي} أَي: بالشرك، وَيُقَال: إِنَّهَا لما بلغت الصرح وظنته لجة، وَهُوَ مَاء لَهُ عمق، قَالَت فِي نَفسهَا: إِن سُلَيْمَان يُرِيد أَن يغرقني، وَقد كَانَ الْقِتَال أَهْون من هَذَا.
وَقَوله: {ظلمت نَفسِي} يَعْنِي، بِذَاكَ الظَّن.
وَقَوله: {وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب الْعَالمين} ظَاهر الْمَعْنى. وكل من أسلم(4/102)
{وَلَقَد أرسلنَا إِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا أَن اعبدوا الله فَإِذا هم فريقان يختصمون (45) قَالَ يَا قوم لم تَسْتَعْجِلُون بِالسَّيِّئَةِ قبل الْحَسَنَة لَوْلَا تستغفرون الله لَعَلَّكُمْ ترحمون (46) قَالُوا اطيرنا بك وبمن مَعَك} بِنَبِي فَهُوَ مَعَ ذَلِك النَّبِي فِي الْإِسْلَام بِاللَّه. وَقد ذكر بَعضهم: أَنه تزوج بهَا. وروى أَن عبد الله بن عتبَة سُئِلَ عَن ذَلِك، فَقَالَ: انْتهى إِلَى قَوْله: {وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب الْعَالمين} يَعْنِي: أَنه لَا علم وَرَاء ذَلِك.
وَأما مُدَّة ملك سُلَيْمَان: اخْتلفُوا فِيهِ، فروى أَن الْملك وصل إِلَيْهِ وَهُوَ ابْن ثَلَاث [عشرَة] سنة، وَمَات وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَخمسين، وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن أبي جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ: أَنه ملك سَبْعمِائة سنة، وَهَذِه رِوَايَة غَرِيبَة.(4/103)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا إِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا أَن اعبدوا الله} أَي: وحدوا الله.
وَقَوله: {فَإِذا هم فريقان يختصمون} أَي: مُؤمن وَكَافِر، وَعَن قَتَادَة: مُصدق ومكذب.(4/103)
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم لم تَسْتَعْجِلُون بِالسَّيِّئَةِ قبل الْحَسَنَة} أَي: بِالْعَذَابِ قبل الرَّحْمَة، وَقد كَانُوا قَالُوا لصالح: إِن كنت صَادِقا فأتنا بِالْعَذَابِ.
وَقَوله: {لَوْلَا تستغفرون لله} أَي: هلا تستغفرون الله، وَالِاسْتِغْفَار هَاهُنَا بِمَعْنى التَّوْبَة.
قَوْله: {لَعَلَّكُمْ ترحمون} ظَاهر [الْمَعْنى] .(4/103)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا طيرنا بك وبمن مَعَك} أَي: تشاءمنا بك وبمن مَعَك، وَفِي سَبَب قَوْلهم هَذَا قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم قَالُوا ذَلِك؛ لتفرق كلمتهم، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم قَالُوا ذَلِك؛ لأَنهم أَصَابَهُم الجدب والقحط، فَقَالُوا فَقَالُوا لصالح: هَذَا من شؤمك.
وَاعْلَم أَن الطَّيرَة مَنْهِيّ عَنْهَا، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " لَا عدوى(4/103)
وَلَا طيرة ".
وَعنهُ: " أَنه كَانَ يحب الفأل وَيكرهُ الطَّيرَة ".
ووفي بعض المسانيد عَن النَّبِي قَالَ: " لَا ينج ابْن آدم من ثَلَاث: من الظَّن، والحسد، والطيرة، فَإِذا ظَنَنْت فَلَا تحقق، وَإِذا حسدت فَلَا تَبْغِ، وَإِذا تطيرت فامضه ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار: {لَا ينجو من الطَّيرَة أحد، ويذهبها التَّوَكُّل على الله ".
وَقد كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة، يَتَطَيَّرُونَ، وَكَانَ الرجل مِنْهُم إِذا خرج لحَاجَة فطار طَائِر، أَو لَقِي شَيْئا، أَو سمع كلَاما يتطير بِذَاكَ، إِمَّا فِي الِامْتِنَاع من ذَلِك الْفِعْل، أَو فِي الدُّخُول فِي ذَلِك الْفِعْل، وَقد قَالَ بعض الشُّعَرَاء شعرًا:
(لعمرك مَا تدرى الطوارق بالحصى ... وَلَا زاجرات الطير مَا الله صانع}(4/104)
{قَالَ طائركم عِنْد الله بل أَنْتُم قوم تفتنون (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَة تِسْعَة رَهْط يفسدون فِي الأَرْض وَلَا يصلحون (48) قَالُوا تقاسموا بِاللَّه لنبيتنه وَأَهله ثمَّ لنقولن لوَلِيِّه مَا شَهِدنَا مهلك أَهله وَإِنَّا لصادقون (49) }
وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد فِي النُّجُوم:
(أبلغوا عني المنجم أَنِّي ... كَافِر بِالَّذِي قضته الْكَوَاكِب)
(عَالم أَن مَا يكون وَمَا كَانَ ... حتم من الْمُهَيْمِن وَاجِب)
وَقَوله: {قَالَ طائركم عِنْد الله} أَي: مَا يُصِيبكُم من الْخَيْر وَالشَّر من الله، وَيُسمى ذَلِك طائرا؛ لسرعة نُزُوله بالإنسان، فَإِنَّهُ لَا شَيْء أسْرع نزولا من قَضَاء محتوم، وَقيل: {طائركم عِنْد الله} أَي: عَمَلكُمْ عِنْد الله، وَسمي ذَلِك طائرا، لسرعة صُعُوده إِلَى السَّمَاء.
وَقَوله: {بل أَنْتُم قوم تفتنون} أَي: تبتلون وتختبرون، وَقيل: تعذبون.(4/105)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَة تِسْعَة رَهْط} هَؤُلَاءِ التِّسْعَة هم الَّذين اتَّفقُوا على عقر النَّاقة، وَكَانَ رَأْسهمْ فِي ذَلِك قدار بن سالف وَهُوَ الَّذِي تولى عقرهَا.
وَقَوله: {يفسدون فِي الأَرْض وَلَا يصلحون} قَالَ سعيد بن الْمسيب: بِكَسْر الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير. وَعَن قَتَادَة: بتتبع عورات النَّاس. وَقيل: بِالْمَعَاصِي وَفعل الْمَنَاكِير.(4/105)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا تقاسموا بِاللَّه} أَي: احلفوا بِاللَّه.
وَقَوله: {لنبيتنه} أَي: لنقتلته بياتا أَي: لَيْلًا، قَالُوا ذَلِك لصالح.
وَقَوله: {وَأَهله} أَي: وَقَومه الَّذين أَسْلمُوا مَعَه.
وَقَوله: {ثمَّ لنقولن لوَلِيِّه مَا شَهِدنَا مهلك أَهله} وَقُرِئَ: " مهلك " بِنصب الْمِيم: فَيجوز أَن يكون بِمَعْنى الإهلاك، وَيجوز أَن المُرَاد مِنْهُ مَوضِع الْهَلَاك.
وَقَوله: {وَإِنَّا لصادقون} أَي: ننكر قتل صَالح، وَقَالُوا ذَلِك؛ لأَنهم خَافُوا من عشيرته.(4/105)
{ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة مَكْرهمْ أَنا دمرناهم وقومهم أَجْمَعِينَ (51) فَتلك بُيُوتهم خاوية بِمَا ظلمُوا إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يعلمُونَ (52) وأنجينا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أتأتون الْفَاحِشَة وَأَنْتُم تبصرون (54) أئنكم لتأتون الرِّجَال شَهْوَة من}(4/106)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
قَوْله تَعَالَى: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا} أَي: دبروا تدبيرا ودبرنا تدبيرا، فَروِيَ أَن الله تَعَالَى بعث بِالْمَلَائِكَةِ حَتَّى شدخوا رُءُوسهم بالأحجار. وَقَالَ الضَّحَّاك: كَانَ صَالح يدْخل كهفا فِي الْجَبَل يعبد الله، فدبروا أَن يدخلُوا إِلَيْهِ ويقتلوه غيلَة، فَذَهَبُوا وَجعلُوا يترصدون ذَلِك، فأهوت حِجَارَة من أَعلَى الْجَبَل، فَهَرَبُوا ودخلوا، فَوَقع الْحجر على بَاب الْغَار وأطبق عَلَيْهِم، فَهَذَا معنى قَوْله: {ومكرنا مكرا} .
وَقَوله: {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ كَيفَ مكرنا بهم.(4/106)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
قَوْله تَعَالَى: {فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة مَكْرهمْ} أَي: مَا آل إِلَيْهِ مَكْرهمْ.
وَقَوله: {أَنا دمرناهم وقومهم أَجْمَعِينَ} أَي: أهلكنام وقومهم أَجْمَعِينَ.(4/106)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
قَوْله تَعَالَى: {فَتلك بُيُوتهم خاوية بِمَا ظلمُوا} أَي: خَالِيَة بِمَا كفرُوا.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يعلمُونَ} أَي: يعلمُونَ تدبيرنا ومكرنا بالكفار.(4/106)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
وَقَوله تَعَالَى: {وأنجينا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} قد بَينا. وَفِي الْقِصَّة: أَن قوم صَالح لما أهلكهم الله تَعَالَى جَاءَ صَالح إِلَى مَكَّة وَتُوفِّي بهَا، وَكَذَلِكَ هود عَلَيْهِ السَّلَام.(4/106)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
قَوْله تَعَالَى: {ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أتأتون الْفَاحِشَة وَأَنْتُم تبصرون} أَي: تعلمُونَ أَنَّهَا فَاحِشَة. وَقيل معنى قَوْله: {وَأَنْتُم تبصرون} أَي: يَرَاهَا بَعْضكُم من بعض فَلَا تستترون عَنْهَا.(4/106)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
وَقَوله: {أئنكم لتأتون الرِّجَال شَهْوَة من دون النِّسَاء بل أَنْتُم قوم تجهلون} قد بَينا.(4/106)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
قَوْله تَعَالَى: {فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا أخرجُوا آل لوط من قريتكم إِنَّهُم أنَاس يتطهرون} قد بَينا.(4/106)
{دون النِّسَاء بل أَنْتُم قوم تجهلون (55) فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا ان قَالُوا أخرجُوا آل لوط من قريتكم إِنَّهُم أنَاس يتطهرون (56) فأنجيناه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته قدرناها من الغابرين (57) وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا فسَاء مطر الْمُنْذرين (58) قل الْحَمد لله وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى الله خير أما يشركُونَ (59) أَمن خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأنزل لكم من السَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا بِهِ حدائق ذَات بهجة مَا كَانَ لكم أَن}(4/107)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)
قَوْله تَعَالَى: {فأنجيناه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته قدرناها من الغابرين} أَي: جعلناها من البَاقِينَ فِي الْعَذَاب.(4/107)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
قَوْله تَعَالَى: {فأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا فسَاء مطر الْمُنْذرين} فِي الْقِصَّة: أَن قوم لوط خسف بهم، وتتبع الْحجر الشذاذ مِنْهُم فأهلكهم.
وَقَوله: {فسَاء مطر الْمُنْذرين} أَي: بئس مطر الْمُنْذرين، والمنذرون هم الَّذين خوفوا بِالْهَلَاكِ.(4/107)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
قَوْله تَعَالَى: {قل الْحَمد لله وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى} قَوْله: {عباده الَّذين اصْطفى} . فِيهِ أَقْوَال: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هم أَصْحَاب رَسُول الله، وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: هم أمة مُحَمَّد، وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: كل الْمُؤمنِينَ من السَّابِقين والخالفين.
وَقَوله: {آللَّهُ خير أما يشركُونَ} أَي: عبَادَة الله خير أم عبَادَة مَا يشركُونَ؟ فَإِن قيل: لَيْسَ فِي عبَادَة غير الله خير أصلا، فَكيف يَسْتَقِيم معنى الْآيَة؟ وَالْجَوَاب: أَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن فِي ذَلِك خيرا، فَخرجت الْآيَة على ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن الْأَصْنَام آلِهَة، وَلَوْلَا اعْتِقَادهم لم يستقم قَوْله: {آللَّهُ خير أما يشركُونَ} . وَقد حكى سِيبَوَيْهٍ أَن الْعَرَب تَقول: أَيهَا الرجل، الشقاوة خير أم السَّعَادَة؟ وَهُوَ يعلم أَن لَا خير فِي الشقاوة، وَأَن كل الْخَيْر فِي السَّعَادَة.
وَقَالَ حسان بن ثَابت:
(أتهجوه وَلست لَهُ بند ... فشركما لخيركما الْفِدَاء)
وَقَالَ بَعضهم: آللَّهُ خير أما يشركُونَ مَعْنَاهُ: الْخَيْر فِي هَذَا أم فِي هَذَا الَّذِي تشركون بِهِ مَعَ الله؟ وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: ثَوَاب الله خير أَو ثَوَاب مَا تشركون بِهِ؟ .(4/107)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
قَوْله: {أَمن خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأنزل لكم من السَّمَاء مَاء} مَعْنَاهُ: الْخَيْر(4/107)
{تنبتوا شَجَرهَا أإله مَعَ الله بل هم قوم يعدلُونَ (60) أَمن جعل الأَرْض قرارا وَجعل خلالها أَنهَارًا وَجعل لَهَا رواسي وَجعل بَين الْبَحْرين حاجزا أإله مَعَ الله بل أَكْثَرهم} فِيمَا تَقولُونَ وتدعون من الْآلهَة، أم فِيمَن خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ أَي: أنشأهما
وَقَوله: {وَأنزل لكم من السَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا بِهِ حدائق ذَات بهجة} كل بُسْتَان محوط عَلَيْهِ فَهُوَ حديقة. وَقَوله: {ذَات بهجة} أَي: ذَات منظر حسن، وَقيل: الْبَهْجَة مَا يبتهج بِهِ.
وَقَوله: {مَا كَانَ لكم أَن تنبتوا شَجَرهَا} أَي: مَا يَنْبَغِي لكم أَن تَفعلُوا ذَلِك؛ لأنكم لَا تقدرون عَلَيْهِ.
وَقَوله: {أإله مَعَ الله} اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار أَي: لَا إِلَه مَعَ الله.
وَقَوله: {بل هم قوم يعدلُونَ} أَي: عَن الْحق، وَقيل: يشركُونَ مَعَه غَيره، ويجعلونه عدلا لَهُ أَي: مثلا(4/108)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
قَوْله تَعَالَى: {أَمن جعل الأَرْض قرارا} أَي: موضعا يستقرون عَلَيْهِ.
وَقَوله: {وَجعل خلالها أَنهَارًا} أَي: خلال الأَرْض.
وَقَوله: {وَجعل لَهَا رواسي} أَي: جبالا ثوابت.
وَقَوله: {وَجعل بَين الْبَحْرين حاجزا} اخْتلف القَوْل فِي الْبَحْرين، (مِنْهُم من قَالَ: بَحر السَّمَاء وَالْأَرْض) ، وَمِنْهُم من قَالَ: بَحر فَارس وَالروم، وَمِنْهُم من قَالَ: الْبَحْر المالح والعذب. وَقَوله: {حاجزا} قد بَينا معنى الحاجز، وَيُقَال: يكف الْملح عَن العذب، والعذب عَن المالح بقدرته، وَهَذَا دَلِيل على أَنه يجوز أَن يكف النَّار عَن الإحراق، وَالسيف عَن الْقطع.
وَقَوله: {أإله مَعَ الله} قد بَينا.
وَقَوله: {بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ مَالهم وَعَلَيْهِم.(4/108)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
قَوْله تَعَالَى: {أَمن يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ} إِنَّمَا ذكر الْمُضْطَر، وَإِن كَانَ يُجيب(4/108)
{لَا يعلمُونَ (61) أَمن يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأَرْض أإله مَعَ الله قَلِيلا مَا تذكرُونَ (62) أَمن يهديكم فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر وَمن يُرْسل الرِّيَاح بشرا بَين يَدي رَحمته أإله مَعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يشركُونَ (63) أَمن يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ ثمَّ وَمن يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض أإله مَعَ الله قل} دُعَاء الْمُضْطَر وَغير الْمُضْطَر؛ لِأَن رَغْبَة الْمُضْطَر أقوى، ودعاؤه أخضع.
وَقَوله: {ويكشف السوء} أَي: الضّر.
وَقَوله: {ويجعلكم خلفاء الأَرْض} أَي: يَجْعَل بَعْضكُم خلفاء بعض، وَقيل: يَجْعَل أَوْلَادكُم خلفاءكم، وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: يجعلكم خلفاء الْجِنّ فِي الأَرْض.
وَقَوله: {أإله مَعَ الله قَلِيلا مَا تذكرُونَ} وَقُرِئَ: " يذكرُونَ) فَقَوله: {تذكرُونَ} ، على المخاطبة. وَقَوله: " يذكرُونَ " على المغايبة.(4/109)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
قَوْله تَعَالَى: {أَمن يهديكم فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر} أَي: يرشدكم.
وَقَوله: {وَمن يُرْسل الرِّيَاح بشرا بَين يَدي رَحمته} أَي: مبشرة، قرئَ: " نشرا " أَي: نَاشِزَة.
وَقَوله: {بَين يَدي رَحمته} أَي: الْمَطَر. وَقَوله: {أإله مَعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يشركُونَ} أَي: تقدس وارتفع عَمَّا يشركُونَ.(4/109)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
قَوْله تَعَالَى: {أَمن يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} فَقَوله: {ثمَّ يُعِيدهُ} أَي: يعيدهم أَحيَاء بعد مَوْتهمْ.
وَقَوله: {وَمن يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض} مَعْنَاهُ: من السَّمَاء بالمطر، وَمن الأَرْض بالنبات.
وَقَوله: {أإله مَعَ الله قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي: مَعَ الله إِلَهًا آخر؟ .(4/109)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
قَوْله تَعَالَى: {قل لَا يعلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا الله وَمَا يَشْعُرُونَ(4/109)
{هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين (64) قل لَا يعلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا الله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثون (65) بل ادارك علمهمْ فِي الْآخِرَة بل هم فِي شكّ مِنْهَا بل هم مِنْهَا عمون (66) } أَيَّانَ يبعثون) أَي مَتى يبعثون؟ .(4/110)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
قَوْله تَعَالَى: {بل ادارك} وَقُرِئَ: " بل أدْرك "، فَمنهمْ من قَالَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِد، وَمِنْهُم من قَالَ: " ادارك " أَي: تتَابع وتلاحق، وَقَوله ((أدْرك)) أى: فصل وَلحق، وَأما معنى الْآيَة: قَالَ السدى: أى صَارُوا عُلَمَاء فِي الْآخِرَة بِمَا لم يعلمُوا فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {أسمع بهم وَأبْصر} وَعَن (ابْن) سعيد الضَّرِير قَالَ: " بل أدْرك " أَي: علمُوا فِي الْآخِرَة أَن الَّذِي كَانُوا يوعدون حق. وَهَذَا قريب من الأول، وأنشدوا (للأخطل) :
(وَأدْركَ علمي فِي سواءة أَنَّهَا ... تقيم على الأوتار وَالْمشْرَب الكدر)
أَي: أحَاط علمي بهَا أَنَّهَا هَكَذَا. وَذكر عَليّ بن عِيسَى: أَن معنى بل هَاهُنَا هُوَ: لَو أدركوا فِي الدُّنْيَا مَا أدركوا فِي الْآخِرَة لم يشكوا. وَقَالَ الْفراء: قَوْله: {بل أدْرك علمهمْ فِي الْآخِرَة} أَي: غَابَ علمهمْ وَسقط فِي الدُّنْيَا، على معنى أَنهم لم يعلمُوا. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " بلَى ادارك " على طَرِيق الِاسْتِفْهَام: أَي لم يتدارك، وَهَذَا يُؤَيّد قَول الْفراء.
وَقَوله: {بل هم فِي شكّ مِنْهَا} أَي: هم فِي شكّ مِنْهَا الْيَوْم.
وَقَوله: {بل هم مِنْهَا عمون} أَي: لَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا، وَيُقَال: بل الأولى بِمَعْنى لَو على مَا بَينا، وبل الثَّانِيَة على معنى أم، وبل الثَّالِثَة على حَقِيقَتهَا. وَذكر بعض أهل الْعلم أَن قَوْله: {بل ادارك علمهمْ} أَي: تدارك ظنهم فِي الْآخِرَة (وتتابع) بالْقَوْل بِالظَّنِّ والحدس.
وَقَوله: {بل هم مِنْهَا عمون} أَي: هم جهلة بِالآخِرَة.(4/110)
{وَقَالَ الَّذين كفرُوا أئذا كُنَّا تُرَابا وآباؤنا أئنا لمخرجون (67) لقد وعدنا هَذَا نَحن وآباؤنا من قبل إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين (68) قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين (69) وَلَا تحزن عَلَيْهِم وَلَا تكن فِي ضيق مِمَّا يمكرون (70) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (71) قل عَسى أَن}(4/111)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا أئذا كُنَّا تُرَابا وآباؤنا أئنا لمخرجون} قد بَينا.(4/111)
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
وَقَوله: {لقد وعدنا} إِلَى آخر الْآيَة قد سبق.(4/111)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
قَوْله: {قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين} أَي: من قوم صَالح، وَقوم لوط، وَأَصْحَاب الْحجر، وَغَيرهم.(4/111)
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحزن عَلَيْهِم وَلَا تكن فِي ضيق} أَي: لَا يضيق قَلْبك مِمَّا يمكرون، ومكرهم وحيلتم بِالْبَاطِلِ.(4/111)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)
وَقَوله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي: الْقِيَامَة.(4/111)
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
وَقَوله: {قل عَسى أَن يكون ردف لكم} وردفكم بِمَعْنى وَاحِد، وَيُقَال: ردف لكم، وردفكم أَي: دنا لكم. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: جَاءَ بعدكم، وَقَالَ القتيبي: تبعكم، وَمِنْه ردف الْمَرْأَة الرجل، قَالَ الشَّاعِر:
(عَاد السوَاد بَيَاضًا فِي مفارقه ... لَا مرْحَبًا ببياض الشيب إِذْ ردفا)
وَقَوله: {بعض الَّذِي تَسْتَعْجِلُون} يُقَال: هُوَ الْقَتْل يَوْم بدر، وَيُقَال: إِنَّه عَذَاب الْآخِرَة.(4/111)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)
قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك لذُو فضل على النَّاس} أَي: أفضال على النَّاس، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " يحْشر الْخلق يَوْم الْقِيَامَة فَيُؤتى بِقوم فَيُقَال لَهُم: لم عَبدْتُمْ ربكُم؟ فَيَقُولُونَ: يَا رب، وعدتنا بِالْجنَّةِ فعبدناك طَمَعا فِيهَا وشوقا إِلَيْهَا، فيدخلهم الْجنَّة، ثمَّ يُؤْتى بِقوم فَيُقَال لَهُم: لم عَبدْتُمْ ربكُم؟ فَيَقُولُونَ: يَا رب، خوفتنا من النَّار فعبدناك خوفًا مِنْهَا، فينجيكم الله من النَّار ويدخلهم الْجنَّة، ثمَّ يُؤْتى بِقوم فَيُقَال لَهُم: لم عَبدْتُمْ ربكُم؟ فَيَقُولُونَ محبَّة لَك، فيتجلى لَهُم الرب تَعَالَى فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَذَلِك قَوْله: {وَإِن رَبك لذُو فضل على النَّاس} . وَالْخَبَر غَرِيب جدا.(4/111)
{يكون ردف لكم بعض الَّذِي تَسْتَعْجِلُون (72) وَإِن رَبك لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يشكرون (73) وَإِن رَبك ليعلم مَا تكن صُدُورهمْ وَمَا يعلنون (74) وَمَا من غَائِبَة فِي السَّمَاء وَالْأَرْض إِلَّا فِي كتاب مُبين (75) إِن هَذَا الْقُرْآن يقص على بني إِسْرَائِيل أَكثر الَّذين هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإنَّهُ لهدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين (77) إِن رَبك يقْضِي بَينهم بِحكمِهِ وَهُوَ الْعَزِيز الْعَلِيم (78) فتوكل
وَقَوله: {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يشكرون} أَي: نعم الله.(4/112)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
قَوْله تَعَالَى) : {وَإِن رَبك ليعلم مَا تكن صُدُورهمْ} أَي: تخفى صُدُورهمْ.
وَقَوله: {وَمَا يعلنون} ظَاهر الْمَعْنى.(4/112)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا من غَائِبَة فِي السَّمَاء وَالْأَرْض} أَي: جملَة غَائِبَة من جَمِيع الغائبات، وَقيل: وَمَا من خبر غَائِب.
وَقَوله: {إِلَّا فِي كتاب مُبين} هُوَ: اللَّوْح الْمَحْفُوظ.(4/112)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا الْقُرْآن يقص على بني إِسْرَائِيل أَكثر الَّذِي هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَي: يبين لبني إِسْرَائِيل أَكثر الَّذِي هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.(4/112)
وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لهدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الرَّسُول، وَالْآخر: أَنه الْقُرْآن.(4/112)
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن رَبك يقْضِي بَينهم بِحكمِهِ} أَي: يفصل بَينهم بِحكمِهِ الْحق.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: المنيع فِي ملكه، الْعَلِيم بِأَمْر خلقه.(4/112)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)
قَوْله تَعَالَى: {فتوكل على الله} أَي: ثق بِاللَّه. {إِنَّك على الْحق الْمُبين} أَي: الْحق الْمُبين.(4/112)
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} المُرَاد من الْمَوْتَى هَاهُنَا: هم الْكفَّار، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {أموات غير أَحيَاء} فسماهم موتى؛ لأَنهم ميتوا الْقلب؛ وَلِأَنَّهُم لم ينتفعوا صَارُوا كالموتى.(4/112)
{على الله إِنَّك على الْحق الْمُبين (79) إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى وَلَا تسمع الصم الدَّاء إِذا ولوا مُدبرين (80) وَمَا أَنْت بهادي الْعمي عَن ضلالتهم إِن تسمع إِلَّا} وَأنْشد بَعضهم:
(لقد أسمعت لَو ناديت حَيا ... وَلَكِن لَا حَيَاة لمن (أنادي))
وَقَوله: {وَلَا تسمع الصم الدُّعَاء} وَقُرِئَ: " لَا يسمع الصم الدُّعَاء " فَقَوله: {لَا تسمع} على مُخَاطبَة النَّبِي، وَقَوله: " لَا يسمع الصم الدُّعَاء " على الْخَبَر.
وَقَوله: {إِذا ولوا مُدبرين} أَي: معرضين، فَإِن قيل: إِذا كَانُوا صمًّا، فَمَا معنى قَوْله: {إِذا ولوا مُدبرين} فَإِذا كَانُوا صمًّا فهم لَا يسمعُونَ، سَوَاء ولوا مُدبرين أَو لم يولوا؟ قُلْنَا: الْأَصَم إِذا كَانَ حَاضرا فقد يسمع إِذا شدد فِي الصَّوْت، وَقد يعلم بِنَوْع إِشَارَة؛ فَإِذا ولى مُدبرا لم يسمع أصلا، وَيجوز ن يكون ذكره على طَرِيق التَّأْكِيد وَالْمُبَالغَة.(4/113)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْت بهادي لعمى عَن ضلالتهم إِن تسمع إِلَّا من يُؤمن بِآيَاتِنَا} أَي: جَاءَ قَاصِدا للْإيمَان بِآيَاتِنَا، وَقيل: لَا تسمع إِلَّا الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: {فهم مُسلمُونَ} أَي: لله.(4/113)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا وَقع القَوْل عَلَيْهِم} أَي: حق الْعَذَاب عَلَيْهِم، وَقَالَ قَتَادَة: إِذا غضب الله عَلَيْهِم. وَعَن ابْن عمر: إِذا لم يأمروا بِمَعْرُوف، وَلم ينهوا عَن مُنكر.
وَقَوله: {أخرجنَا لَهُم دَابَّة من الأَرْض} رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: لَيست بِدَابَّة لَهَا ذَنْب، وَلَكِن لَهَا لحية. كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَنه رجل وَلَيْسَت بِدَابَّة، وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهَا دَابَّة، (وَهِي) تخرج فِي آخر الزَّمَان.
وَيُقَال: إِن أول أَشْرَاط السَّاعَة طُلُوع لشمس من مغْرِبهَا وَخُرُوج دَابَّة الأَرْض.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَهَا زغب وَرِيش وَأَرْبع قَوَائِم.(4/113)
{من يُؤمن بِآيَاتِنَا فهم مُسلمُونَ (81) وَإِذا وَقع القَوْل عَلَيْهِم أخرجنَا لَهُم دَابَّة من الأَرْض}
وَعَن ابْن الزبير قَالَ: هِيَ دَابَّة رَأسهَا من رَأس ثَوْر، وعينها عين خِنْزِير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن إبل، وعنقها عنق نعَامَة، وصدرها صدر أَسد، وجلدها جلد نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وقوائمها قَوَائِم بعير، بَين كل مفصلين مِنْهَا اثْنَا عشر ذِرَاعا.
وَقَالَ ابْن مَسْعُود: تخرج من الصَّفَا تجْرِي كجري الْفرس ثَلَاثَة أَيَّام لَا يخرج إِلَّا ثلثهَا، ويبلغ رَأسهَا السَّمَاء.
وَفِي بعض المسانيد: عَن النَّبِي أَنه قَالَ: (" بئس الشّعب شعب جِيَاد، قيل: وَلم يَا رَسُول الله؟ قَالَ) : تخرج مِنْهُ الدَّابَّة، وتصرخ ثَلَاث صرخات يسْمعهَا من بَين الْخَافِقين ".
وَعَن حُذَيْفَة بن أسيد قَالَ: تخرج الدَّابَّة ثَلَاثًا، تخرج الخرجة الأولى بِبَعْض الأودية، ثمَّ تكمن، ثمَّ تخرج فِي قبائل الْعَرَب، ثمَّ تخرج فِي جَوف، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا تخرج فِي الْمَسْجِد الْحَرَام.
وَعَن عبد الله بن عَبَّاس أَنه صعد الصَّفَا وقرع بعصاه الْحجر وَقَالَ: إِن الدَّابَّة لتسمع قرع عصاي هَذِه. وروى قَرِيبا من هَذَا عَن عبد الله بن عَمْرو.
وَقد روى حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَليّ بن زيد، عَن خَالِد بن أَوْس، عَن أبي هُرَيْرَة(4/114)
أَن النَّبِي قَالَ: " تخرج الدَّابَّة وَمَعَهَا عَصا مُوسَى وَخَاتم سُلَيْمَان، فتجلو وَجه الْمُؤمن، وتحطم وَجه الْكَافِر، حَتَّى إِن الْقَوْم يَجْتَمعُونَ على الخوان فَتَقول: هَذَا لهَذَا يَا كَافِر، وَتقول: هَذَا لهَذَا يَا مُؤمن ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْخَبَر أَبُو عبد الله عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن سراج، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن مَحْبُوب، أخبرنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ، أخبرنَا عبد بن حميد، عَن روح بن عبَادَة، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، الحَدِيث.
وَفِي التَّفْسِير: أَن دَابَّة الأَرْض تسم وَجه الْمُؤمن بنكتة بَيْضَاء، فيبيض بهَا وَجهه، وَتَسِم وَجه الْكَافِر بنكتة سَوْدَاء، فيسود بهَا وَجهه. وَعَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا وَقع لقَوْل عَلَيْهِم} ثمَّ قَالَ: طوفوا بِالْبَيْتِ قبل أَن يرفع، واقرءوا الْقُرْآن قبل أَن يرفع، وَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله قبل أَن تنسى، ثمَّ ذكر أَنه يَأْتِي زمَان ينسى النَّاس فِيهِ قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَتَقَع النَّاس فِي أشعار الْجَاهِلِيَّة.
وَقَوله: {تكلمهم} وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير وَعَاصِم الجحدري: " تكلمهم " أَي: تجرحهم، والكلم هُوَ الْجراحَة، وَيُقَال: تسمهم، قَالَ الشَّاعِر:
((فِي الْكَلم مطرقا يكذب عَن إعرابه ... بِنَقص الْآيَة الْكَلم إِذا الْكَلم التَّام))
وَالْقِرَاءَة لمعروفة: {تكلمهم} وَقَالَ بعض أهل لعلم: ظُهُور الْآيَة مِنْهَا كَلَام، ونطق على وَجه الْمجَاز لَا أَنَّهَا تَتَكَلَّم، وَالأَصَح أَنَّهَا تَتَكَلَّم، وَاخْتلف القَوْل أَنَّهَا بِمَاذَا تَتَكَلَّم؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَن كَلَامهَا أَن هَذَا مُؤمن وَهَذَا كَافِر، وَالْقَوْل الآخر: أَنَّهَا تَتَكَلَّم بِمَا قَالَ الله تَعَالَى: {أَن النَّاس كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يوقنون} .
وَقُرِئَ: " أَن " و " إِن " بِنصب الْألف وكسره، فَمن قَرَأَ " أَن " بِنصب الْألف فَمَعْنَاه: بِأَن، وَمن قَرَأَ: " إِن " فعلى الِاسْتِئْنَاف، وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: " دَابَّة تنبئهم "، وَفِي بعض(4/115)
{تكلمهم أَن النَّاس كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يوقنون (82) وَيَوْم نحْشر من كل أمة فوجا مِمَّن يكذب بِآيَاتِنَا فهم يُوزعُونَ (83) حَتَّى إِذا جَاءُوا قَالَ أكذبتم بآياتي وَلم تحيطوا} الْقِرَاءَة: " تحدثهم " وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " تكلمهم بِأَن النَّاس كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يوقنون ".(4/116)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم نحْشر من كل أمة فوجا} لَهُ من كل قرن فوجا. وَقَوله: {مِمَّن يكذب بِآيَاتِنَا} . أَي: من المكذبين، وَلَيْسَ " من " هَاهُنَا للتعبيض؛ لِأَن جَمِيع المكذبين يحشرون.
وَقَوله: {فهم يُوزعُونَ} أَي: يساقون إِلَى النَّار، فَإِن قيل: وَغير المكذبين أَيْضا يحشرون؟ قُلْنَا: الْحَشْر الَّذِي يساق فِيهِ إِلَى النَّار إِنَّمَا يكون للمكذبين.(4/116)
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا جَاءُوا قَالَ أكذبتم بآياتي وَلم تحيطوا بهَا علما} أَي: جاهلين بِالْأَمر، وَقيل: بعاقبة لتكذيب.
وَقَوله: {أماذا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} اسْتِفْهَام على طَرِيق الْإِنْكَار.(4/116)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
قَوْله تَعَالَى: {وَوَقع القَوْل عَلَيْهِم بِمَا ظلمُوا} أَي: وَجب الْعَذَاب عَلَيْهِم بِمَا أشركوا.
وَقَوله: {فهم لَا ينطقون} قَالَ قَتَادَة: كَيفَ ينطقون وَلَا حجَّة لَهُم؟(4/116)
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
قَوْله تَعَالَى: {ألم يرَوا أَنا جعلنَا اللَّيْل ليسكنوا فِيهِ} قد بَينا.
وَقَوله: {وَالنَّهَار مبصرا} أَي: ذَا إبصار، قَالَ الشَّاعِر:
(كلينى لَهُم [يَا أُمَيْمَة] ناصب ... )
أَي: ذَا نصب، وَقيل: مبصرا أَي: تبصر فِيهِ، كَمَا يُقَال: ليل نَائِم أَي: ينَام فِيهِ قَالَ الشَّاعِر:(4/116)
{بهَا علما أماذا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (84) وَوَقع القَوْل عَلَيْهِم بِمَا ظلمُوا فهم لَا ينطقون (85) ألم يرَوا أَنا جعلنَا اللَّيْل ليسكنوا فِيهِ وَالنَّهَار مبصرا إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (86) وَيَوْم ينْفخ فِي الصُّور فَفَزعَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من}
(تَقول سليمى لَا تعرض ببلغة ... وليلك عَن ليل الصعاليك نَائِم)
أَي: تنام فِيهِ.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(4/117)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم ينْفخ فِي الصُّور} قد بَينا. وَقَوله: {فَفَزعَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض} أَي: فَصعِقَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض، وَإِنَّمَا ذكر الْفَزع يؤد بهم إِلَى الصعقة، وَيُقَال: ينْفخ إسْرَافيل عَلَيْهِ السَّلَام ثَلَاث نفخات: نفخة الْفَزع، ونفخة الصَّعق، ونفخة الْقيام لرب الْعَالمين، وَقد ذكر أَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: الصُّور هُوَ الصُّور، وَأول بَعضهم كَلَامه، وَقَالَ: إِن الْأَرْوَاح تجْعَل فِي [الْقرن] ثمَّ ينْفخ فِيهِ، فتذهب الْأَرْوَاح إِلَى الأجساد، وتحيا الأجساد.
وَقَوله: {إِلَّا من شَاءَ الله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد من ذَلِك جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وَملك الْمَوْت صلوَات الله عَلَيْهِم، وَالْقَوْل الآخر: أَن المُرَاد مِنْهُ الشُّهَدَاء. وَفِي بعض الْآثَار: الشُّهَدَاء ثنية الله أَي: الَّذين استثناهم الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاء فيهم؛ لأَنهم أَحيَاء كَمَا قَالَ الله تَعَالَى. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " هم أَحيَاء متقلدوا السيوف يدورون حول الْعَرْش.
وَقَوله: {وكل آتوه داخرين} أَي: صاغرين وَقُرِئَ: " وكل أَتَوْهُ " على الْمَاضِي، وَالْمعْنَى مُتَقَارب.(4/117)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
قَوْله تَعَالَى: {وَترى الْجبَال تحسبها جامدة} أَي: واقفة.
وَقَوله: {وَهِي تمر مر السَّحَاب} أَي: تسير سير السَّحَاب، وَهَذَا كَمَا أَن سير السَّحَاب لَا يرى لعظمه، كَذَلِك سير الْجبَال يَوْم الْقِيَامَة لَا يرى لكثرتها، قَالَ الشَّاعِر:(4/117)
{شَاءَ الله وكل أَتَوْهُ داخرين (87) وَترى الْجبَال تحسبها جامدة وَهِي تمر مر السَّحَاب صنع الله الَّذِي أتقن كل شَيْء إِنَّه خَبِير بِمَا تَفْعَلُونَ (88) من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ خير مِنْهَا وهم من فزع يَوْمئِذٍ آمنون (89) }
(بأرعن مثل الطود تحسب أَنهم ... وقُوف لحاج والركاب تهملج)
أَي: تتهملج.
وَقَوله: {صنع الله الَّذِي أتقن كل شَيْء} أَي: أحكم كل شَيْء.
وَقَوله: {إِنَّه لخبير بِمَا تَفْعَلُونَ} أَي: بِمَا تَصْنَعُونَ.(4/118)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
قَوْله تَعَالَى: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ خير مِنْهَا} أَي: لَهُ مِنْهَا خير، وَقَالَ بَعضهم: لَهُ خير يصل إِلَيْهِ مِنْهَا، وَمِنْهُم من قَالَ: خير مِنْهَا أَي: أَنْفَع مِنْهَا، وَأما الْحَسَنَة فَفِي قَول عَامَّة الْمُفَسّرين هِيَ قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقيل: هِيَ كل طَاعَة، وَعَن أبي ذَر أَنه سُئِلَ وَقيل لَهُ: قَول لَا إِلَه إِلَّا الله حَسَنَة؟ فَقَالَ: هِيَ أحسن الْحَسَنَات.
وَقَوله: {وهم فِي فزع يَوْمئِذٍ آمنون} قد بَينا معنى الْفَزع من قبل، وَقُرِئَ: " فزع يَوْمئِذٍ " على الْإِضَافَة، وَقُرِئَ: " فزع يَوْمئِذٍ " على التَّنْوِين، قَالَ أَبُو على الفارسى: ((فزع يَوْمئِذٍ)) على التَّنْوِين، يدل على التكثير، و: " فزع يَوْمئِذٍ " على الْإِضَافَة لَا يدل على التكثير.(4/118)
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فكبت وُجُوههم فِي النَّار} وَقَوله: {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَالَ بَعضهم فِي قَوْله: {خير مِنْهَا} : إِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَن جَزَاء الْحَسَنَات مضاعف أَي: أَن يبلغ الْعشْر وَزِيَادَة فَقَوله: {خير مِنْهَا} أَي: أَكثر مِنْهَا.(4/118)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أمرت أَن أعبد رب هَذِه الْبَلدة الَّذِي حرمهَا} وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس: " الَّتِي حرمهَا " فَقَوله: {الَّتِي حرمهَا} ينْصَرف إِلَى الْبَلدة، (وَقَوله: {الَّذِي} ينْصَرف إِلَى الله، وَهُوَ الْمَعْرُوف، وَأما التَّحْرِيم فَهُوَ تَحْرِيم الصَّيْد، وَكَانَ مَا ذَكرْنَاهُ من قبل) .(4/118)
{وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فكبت وُجُوههم فِي النَّار هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أمرت أَن أعبد رب هَذِه الْبَلدة الَّذِي حرمهَا وَله كل شَيْء وَأمرت أَن أكون من الْمُسلمين (91) وَأَن أتلو الْقُرْآن فَمن اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ وَمن ضل فَقل إِنَّمَا أَنا من الْمُنْذرين (92) وَقل الْحَمد لله سيريكم آيَاته فتعرفونها وَمَا رَبك بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) }
وَقَوله: {وَله كل شَيْء} أَي: وَللَّه كل شَيْء. وَقَوله: {وَأمرت أَن أكون من الْمُسلمين} . أَي: من الْمُسلمين لله.(4/119)
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَن أتلو الْقُرْآن} أَي: وَأمرت أَن أتلو الْقُرْآن، قَالَ أهل الْعلم: نتلوا ونعمل بِهِ، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: أَمر النَّاس أَن يعملوا بِالْقُرْآنِ، فاتخذوا تِلَاوَته عملا.
وَقَوله: {فَمن اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ} أَي: نفع اهتدائه رَاجع إِلَيْهِ.
وَقَوله: {وَمن ضل فَقل إِنَّمَا أَنا من الْمُنْذرين} أَي: المخوفين.(4/119)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
قَوْله تَعَالَى: {وَقل الْحَمد لله} هُوَ خطاب للنَّبِي وَسَائِر الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: {سيريكم آيَاته} أَي: دلالاته.
وَقَوله: {فتعرفونها} أَي: تعرفُون الدلالات.
وَقَوله: {وَمَا رَبك بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقد ورد خبر فِي الْآيَة الْمُتَقَدّمَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة} ، فَإِن أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد من الْحَسَنَة الْإِيمَان، وَمن السَّيئَة الشّرك، وَقد روى صَفْوَان بن عَسَّال الْمرَادِي، أَن النَّبِي قَالَ: " يَأْتِي الْإِيمَان والشرك يَوْم الْقِيَامَة (فيجثوان بَين يَدي الرَّحْمَن، وَيطْلب كل وَاحِد مِنْهُمَا أَهله) ، فَيَقُول الله تَعَالَى للْإيمَان: انْطلق بأهلك إِلَى الْجنَّة، وَيَقُول الله تَعَالَى للشرك: انْطلق بأهلك إِلَى النَّار، وتلا قَوْله تَعَالَى: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ خير مِنْهَا} الْآيَة ". وَالْخَبَر غَرِيب، وَالله أعلم.(4/119)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{طسم (1) تِلْكَ آيَات الْكتاب الْمُبين (2) نتلو عَلَيْك من نبأ مُوسَى وَفرْعَوْن بِالْحَقِّ لقوم يُؤمنُونَ (3) إِن فِرْعَوْن علا فِي الأَرْض وَجعل أَهلهَا شيعًا يستضعف طَائِفَة مِنْهُم}
تَفْسِير سُورَة الْقَصَص
وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا نبتغي الْجَاهِلين} .
وَفِي هَذِه السُّورَة آيَة لَيست بمكية وَلَا مَدَنِيَّة، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} نزلت هَذِه الْآيَة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، وَرَسُول الله بِالْجُحْفَةِ، وَهُوَ منزل من الْمنَازل، وَذَلِكَ حِين هَاجر النَّبِي من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة.(4/120)
طسم (1)
قَوْله تَعَالَى: {طسم} قَالَ قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن، وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: هُوَ اسْم من أَسمَاء السُّورَة، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة قَالَ: هُوَ اسْم الله الْأَعْظَم، وَقد بَينا غير هَذَا.(4/120)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
وَقَوله: {تِلْكَ آيَات الْكتاب الْمُبين} يُقَال: بَان وَأَبَان بِمَعْنى وَاحِد، وَكَذَلِكَ قَوْلهم: بيّنت الشَّيْء وأبينه. وَقَالَ الزّجاج: الْمُبين للْحَلَال من الْحَرَام، وَالْحق من الْبَاطِل.(4/120)
نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
قَوْله تَعَالَى: {نتلو عَلَيْك من نبأ مُوسَى وَفرْعَوْن بِالْحَقِّ} أَي: بِالصّدقِ.
وَقَوله: {لقوم يُؤمنُونَ} أَي: يصدقون، والنبأ اسْم للْخَبَر.(4/120)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
قَوْله تَعَالَى: {إِن فِرْعَوْن علا فِي الأَرْض} أَي: تكبر وتجبر، وَيُقَال: طَغى وقهر، وَالْأَرْض هِيَ أَرض مصر. {وَجعل أَهلهَا شيعًا} أَي: فرقا.
وَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يستضعف طَائِفَة مِنْهُم} المُرَاد من الطَّائِفَة: بَنو(4/120)
{يذبح أَبْنَاءَهُم ويستحيي نِسَاءَهُمْ إِنَّه كَانَ من المفسدين (4) ونريد أَن نمن على} إِسْرَائِيل، وَتَفْسِير الاستضعاف: مَا يذكر من بعد، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {يذبح أَبْنَاءَهُم ويستحيي نِسَاءَهُمْ} وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يذبح أَبْنَاءَهُم " بِغَيْر التَّشْدِيد، وَسمي هَذَا استضعافا؛ لأَنهم عجزوا وضعفوا عَن دفع هَذَا عَن أنفسهم، وَذكر وهب بن مُنَبّه وَغَيره: أَن فِرْعَوْن رأى فِي مَنَامه كَأَن نَارا خرجت من جَانب الشَّام حَتَّى أحاطت بِمصْر، وأحرقت القبط، وَتركت بني إِسْرَائِيل، فَلَمَّا أصبح دَعَا الكهنة، وَأخْبرهمْ برؤياه، فَقَالُوا: يخرج رجل من بني إِسْرَائِيل يكون هلاكك وهلاك القبط على يَده. وَبَعْضهمْ روى أَنهم قَالُوا: يُولد مَوْلُود؛ فَحِينَئِذٍ أَمر فِرْعَوْن بِذبح الذُّكُور من أَوْلَاد بني إِسْرَائِيل واستبقاء إناثهم. قَالَ الزّجاج: وَهَذَا من حمقه؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَت الكهنة صَادِقين فَمَا يُغني الْقَتْل، وَإِن كَانُوا كاذبين فَلَا معنى للْقَتْل أَيْضا. قَالَ وهب: فَلَمَّا فعلوا ذَلِك فِي ولدان بني إِسْرَائِيل، وتسارع الْمَوْت إِلَى شيوخهم، فَاجْتمع الْأَشْرَاف من القبط إِلَى فِرْعَوْن، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّك تقتل أَوْلَاد بني إِسْرَائِيل، وَقد تسارع الْمَوْت إِلَى شيوخهم، فَعَن قريب لَا يبْقى مِنْهُم [أحد] ، وَترجع الْأَعْمَال إِلَيْنَا، وَقد كَانُوا يستعملون بني إِسْرَائِيل فِي الْأَعْمَال الشاقة.
قَالَ السّديّ فِي قَوْله: {وَجعل أَهلهَا شيعًا} كَانُوا جعلُوا بني إِسْرَائِيل فرقا، ففرقة يبنون، وَفرْقَة يحرثون ويزرعون، وَفرْقَة يغرسون، وَفرْقَة يرعون الدَّوَابّ، إِلَى مثل هَذَا من الْأَعْمَال، وَمن لم يُمكنهُ أَن يعْمل عملا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُ الْجِزْيَة، فَلَمَّا سمع فِرْعَوْن قَوْلهم أَمر أَن يقتلُوا الْأَوْلَاد سنة وَلَا يقتلُون سنة، فولد هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام فِي السّنة الَّتِي لَا يقتل فِيهَا الْأَوْلَاد، وَولد مُوسَى فِي السّنة الَّتِي يقتل فِيهَا الْأَوْلَاد.
وَقَوله: {إِنَّه كَانَ من المفسدين} أَي: فِي الأَرْض.(4/121)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {ونريد أَن نمن} أَي: ننعم.(4/121)
{الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض ونجعلهم أَئِمَّة ونجعلهم الْوَارِثين (5) ونمكن لَهُم فِي الأَرْض ونري فِرْعَوْن وهامان وجنودهما مِنْهُم مَا كَانُوا يحذرون (6) وأوحينا إِلَى أم مُوسَى أَن أرضعيه فَإِذا خفت عَلَيْهِ فألقيه فِي اليم وَلَا تخافي وَلَا تحزني إِنَّا رادوه إِلَيْك}
وَقَوله: {على الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض} أَي: بني إِسْرَائِيل.
وَقَوله: {ونجعلهم أَئِمَّة} أَي: وُلَاة.
وَقَوله: {ونجعلهم الْوَارِثين} أَي: الْوَارِثين لملك فِرْعَوْن والقبط، وَقد رُوِيَ أَن فِرْعَوْن لما أغرقه الله، رَجَعَ بَنو إِسْرَائِيل إِلَى مصر، واستعبدوا من بَقِي من القبط.(4/122)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {ونمكن لَهُم فِي الأَرْض} أَي: نجْعَل لَهُم مصرا مَكَانا يستقرون فِيهِ.
وَقَوله: {ونرى فِرْعَوْن وهامان وجنودهما مِنْهُم مَا كَانُوا يحذرون} الحذر هُوَ التوقي من الضَّرَر.(4/122)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وأوحينا إِلَى أم مُوسَى} فِي الْقِصَّة: أَن أم مُوسَى لما حبلت بمُوسَى لم يظْهر عَلَيْهَا الْحمل كَمَا يظْهر على النِّسَاء، وَولدت وَلم يعلم بولادتها أحد، وَجعلت ترْضِعه فِي خُفْيَة، ثمَّ إِنَّهَا خشيت أَن يطلع عَلَيْهِ النَّاس ويذبح، فَألْقى الله تَعَالَى فِي قَلبهَا مَا ذكره فِي هَذِه الْآيَة.
وَالْوَحي هُوَ الْإِعْلَام فِي خُفْيَة، فَأكْثر الْمُفَسّرين على أَن معنى قَوْله: {وأوحينا إِلَى أم مُوسَى} هُوَ إلهامها، وَألقى هَذَا الْمَعْنى فِي قَلبهَا، وَقَالَ بَعضهم: رَأَتْ ذَلِك رُؤْيا، [وَقَالَ] بَعضهم: هُوَ الْوَحْي حَقِيقَة، وأتاها الْملك بِهَذَا من الله، إِلَّا أَنَّهَا لم تكن نبية.
وَقَوله: {أَن أرضعيه} اخْتلف القَوْل فِي مُدَّة الرَّضَاع، مِنْهُم من قَالَ: ثَمَانِيَة أشهر، وَمِنْهُم من قَالَ: أَرْبَعَة أشهر، وَمِنْهُم من قَالَ: ثَلَاثَة أشهر.
وَقَوله: {فَإِذا خفت عَلَيْهِ فألقيه فِي اليم} الْخَوْف عَلَيْهِ هُوَ لخوف من الذّبْح.(4/122)
{وجاعلوه من الْمُرْسلين (7) فالتقطه آل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا إِن فِرْعَوْن}
وَقَوله: {فألقيه فِي اليم} اليم: الْبَحْر، وَالْمرَاد مِنْهُ هَاهُنَا على قَول جَمِيع الْمُفَسّرين هُوَ النّيل، قَالَ ابْن عَبَّاس: دعت بنجار واتخذت تابوتا، فَذهب ذَلِك النجار وَأخْبر فِرْعَوْن، وَجَاء بالأعوان، فطمس الله على عينه حَتَّى لم يهتد إِلَى شَيْء، فعاهد مَعَ الله إِن رد عَلَيْهِ بَصَره ليصرفن الأعوان عَنهُ، فَرد الله بَصَره عَلَيْهِ، فصرف الأعوان، ثمَّ إِنَّه آمن بمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من بعد، وَهُوَ مُؤمن آل فِرْعَوْن، واسْمه حزقيل.
وَقَوله: {وَلَا تخافي وَلَا تحزني} أَي: لَا تخافي عَلَيْهِ من الْغَرق، وَقيل: من الضَّيْعَة، وَقَوله: {وَلَا تحزني} أَي: وَلَا تحزني على فِرَاقه.
وَقَوله: {إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين} ظَاهر الْمَعْنى، وَقد اشْتَمَلت الْآيَة على أَمريْن ونهيين وخبرين وبشارتين، أما الْأَمْرَانِ: فَقَوله: {أَن أرضعيه} ، وَقَوله: {فألقيه فِي اليم} ، وَأما النهيان: فَقَوله: {وَلَا تخافي وَلَا تحزني} ، وَأما الخبران: فَقَوله: {وأوحينا إِلَى أم مُوسَى} وَكَذَلِكَ قَوْله: {فَإِذا خفت عَلَيْهِ} وَأما البشارتان: فَقَوله تَعَالَى: {إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين} ، الْآيَة تعد من فصيح الْقُرْآن.(4/123)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {فالتقطه آل فِرْعَوْن} الِالْتِقَاط هُوَ وجود الشَّيْء من غير طلب. وَفِي الْقِصَّة: أَن أم مُوسَى وضعت مُوسَى فِي التابوت، وَجَاءَت بِهِ وألقته فِي النّيل، فَمر بِهِ المَاء إِلَى جَانب دَار فِرْعَوْن، وَقد كَانَت الْجَوَارِي خرجن لاستقاء المَاء، فَرد المَاء التابوت فِي المشرعة الَّتِي يستقون مِنْهَا، وَيُقَال: تعلق التابوت بِالشَّجَرِ الَّتِي كَانَت ثمَّ، ومُوسَى هُوَ بالعبرية موشى، و " مو " هُوَ المَاء، و " شى " هُوَ الشّجر، وَسمي موشى؛ لِأَنَّهُ وجد بَين المَاء وَالشَّجر، فَأخذت الْجَوَارِي التابوت، وذهبن بِهِ إِلَى امْرَأَة فِرْعَوْن، وَهِي آسِيَة بنت مُزَاحم، وَيُقَال: إِنَّهَا كَانَت من بني إِسْرَائِيل، وَكَانَ فِرْعَوْن نكح مِنْهُم هَذِه الْمَرْأَة.
وَقَوله: {ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا} (هَذِه اللَّام لَام الْعَاقِبَة، وَقيل: لَام الصيرورة، فَإِنَّهُم مَا التقطوه ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا) ، وَلَكِن صَار أَمرهم إِلَى هَذَا، فَذكر(4/123)
{وهامان وجنودهما كَانُوا خاطئين (8) وَقَالَت امراة فِرْعَوْن قرت عين لي وَلَك لَا تقتلوه عَسى أَن ينفعنا أَو نتخذه ولدا وهم لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأصْبح فؤاد أم مُوسَى} اللَّام على معنى الصيرورة، وَهَذَا كَقَوْل الشَّاعِر:
(أَمْوَالنَا لِذَوي الْمِيرَاث نجمعها ... ودورنا لخراب الدَّهْر نبنيها)
وَقَوله: {إِن فِرْعَوْن وهامان وجنودهما كَانُوا خاطئين} أَي: تاركين طَرِيق الْحق.(4/124)
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت امْرَأَة فِرْعَوْن قُرَّة عين لي وَلَك} فِي الْخَبَر: أَن امْرَأَة فِرْعَوْن حملت الصَّبِي إِلَى فِرْعَوْن، وَقَالَت: قُرَّة عين لي وَلَك، فَقَالَ فِرْعَوْن: قُرَّة عين لَك، فَأَما لي فَلَا. وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " لَو قَالَ فِرْعَوْن قُرَّة عين لي، لهداه الله تَعَالَى كَمَا هدى امْرَأَته " وَالْخَبَر غَرِيب.
وَفِي بعض التفاسير: أَن فِرْعَوْن قصد قَتله، وَقَالَ: لَعَلَّه من الْأَعْدَاء، فاستوهبته امْرَأَته فوهبه لَهَا.
وَقَوله: {لَا تقتلوه عَسى أَن ينفعنا أَو نتخذه ولدا} رُوِيَ أَن آسِيَة لم يكن لَهَا ولد، وَقيل: كَانَ يَمُوت أَوْلَادهَا، فَقَالَت: أَو نتخذه ولدا لهَذَا.
وَقَوله: {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ حَقِيقَة الْأَمر.(4/124)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَأصْبح} قيل: وَأصْبح أَي: صَار، وَيُقَال: هُوَ على حَقِيقَته، واستعماله فِي هَذَا الْموضع على طَرِيق الْمجَاز، وَمَعْنَاهُ: أَصبَحت أم مُوسَى وفؤادها فَارغًا، وَاخْتلف القَوْل فِي قَوْله {فَارغًا} الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد بِهِ فَارغًا من كل شَيْء إِلَّا من ذكر مُوسَى والوجد عَلَيْهِ، هَذَا قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجاهد(4/124)
{فَارغًا إِن كَادَت لتبدي بِهِ لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا لتَكون من الْمُؤمنِينَ (10) وَقَالَت لأخته قصيه فبصرت بِهِ عَن جنب وهم لَا يَشْعُرُونَ (11) وحرمنا عَلَيْهِ المراضع من} وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَغَيرهم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {فَارغًا} أَي: فَارغًا من الْحزن عَلَيْهِ لعلمها بِصدق وعد الله تَعَالَى، وَهَذَا قَول أبي عُبَيْدَة، وَأنكر القتيبي وَغَيره هَذَا القَوْل، وَقَالُوا: كَيفَ يَصح هَذَا وَالله تَعَالَى يَقُول: {إِن كَادَت لتبدي بِهِ لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا} ؟ وَالْقَوْل الثَّالِث: " فَارغًا " أَي: نَاسِيا للوحي الَّذِي أنزل عَلَيْهَا، والعهد الَّذِي أَخذ عَلَيْهَا بألا تحزني من شدَّة البلية عَلَيْهِ، وَهَذَا معنى قَول الْحسن، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " فَزعًا "، وَقد بَينا أَن معنى قَوْله: {فَأصْبح} أَي: صَار، وأنشدوا فِي هَذَا شعرًا:
(مضى الْخُلَفَاء بِالْأَمر الرشيد ... وأصبحت المذمة للوليد)
وَقَوله: {إِن كَادَت لتبدي بِهِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَادَت تَقول: يَا إبناه.
وَقَوله: {لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا} أَي: بِالصبرِ، وَقيل: بِالْإِيمَان بالوعد، وَقيل: بالعصمة.
وَقَوله: {لتَكون من الْمُؤمنِينَ} أَي: من المصدقين،(4/125)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالَت لأخته قصيه} فِي الْقِصَّة: أَن اسْم [أُخْته] كَانَت مَرْيَم، وَقَوله: {قصيه} أَي: اتبعي أَثَره، وَمِنْه الْقَصَص؛ لِأَنَّهَا رِوَايَة يتبع بَعْضهَا بَعْضًا.
وَقَوله: {فبصرت بِهِ عَن جنب} أَي: [عَن بعد] ، وَقيل: عَن جَانب، وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا كَانَت تمشي جانبا، وَتنظر مختلسة وتري النَّاس أَنَّهَا لَا تنظر.
وَقَوله: {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يَشْعُرُونَ أَن هلاكهم على يَد مُوسَى، وَقيل: وهم لَا يعلمُونَ أَن الصَّبِي مُوسَى، وَأَن طَالبه أمه وَأُخْته، وأنشدوا قَول الشَّاعِر عَن جنب بِمَعْنى بعد:(4/125)
{قبل فَقَالَت هَل أدلكم على أهل بَيت يكفلونه لكم وهم لَهُ ناصحون (12) فرددناه إِلَى أمه كي تقر عينهَا وَلَا تحزن ولتعلم أَن وعد الله حق وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (13) }
(فَلَا تَسْأَلنِي نائلا عَن جَنَابَة ... فَإِن امْرُؤ وسط القباب غَرِيب)(4/126)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
قَوْله تَعَالَى: {وحرمنا عَلَيْهِ المراضع من قبل} أَي: منعناه من قبُول الرَّضَاع، وَلَيْسَ المُرَاد من التَّحْرِيم هُوَ التَّحْرِيم الشَّرْعِيّ؛ وَإِنَّمَا المُرَاد من التَّحْرِيم هُوَ الْمَنْع، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس شعرًا:
(جالت لتصرعني فَقلت لَهَا اقصري ... إِنِّي امْرُؤ صرعى عَلَيْك حرَام)
أَي: مُمْتَنع، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى مكث ثَمَان لَيَال لَا يقبل ثديا، ويصيح وهم فِي طلب مُرْضِعَة لَهُ.
وَقَوله: {فَقَالَت هَل أدلكم} يَعْنِي: قَالَت أُخْت مُوسَى: هَل أدلكم {على أهل بَيت يكفلونه لكم} ؟ .
وَقَوله: {وهم لَهُ ناصحون} أَي: عَلَيْهِ مشفقون، والنصح ضد الْغِشّ، وَقيل: النصح تصفية الْعَمَل من شوائب الْفساد، وَمِنْه قَوْله: " إِلَّا إِن الدّين النَّصِيحَة. قيل: لمن؟ قَالَ: لله وَلِرَسُولِهِ وَكتابه وَالْمُؤمنِينَ " وَالْخَبَر ثَابت، رَوَاهُ تَمِيم الدَّارِيّ.
وَفِي لقصة: أَن قوم فِرْعَوْن استرابوا بقول أُخْت مُوسَى فَقَالُوا: [إِنَّك] تعرفينه، وَإِلَّا فَمَا معنى نصحك لَهُ؟ فألهمها الله تَعَالَى حَتَّى قَالَت: قلت هَذَا رَغْبَة فِي سرُور الْملك واتصالنا بِهِ، وَرُوِيَ أَن أم مُوسَى لما أُتِي بهَا، وَوجد مُوسَى رِيحهَا، (نزا) إِلَى ثديها فَجعل يمصه حَتَّى امْتَلَأَ جنباه ريا، وَقَالَ السّديّ: كَانُوا يعطونها كل يَوْم دِينَارا.(4/126)
{وَلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدخل الْمَدِينَة على حِين غَفلَة من أَهلهَا فَوجدَ فِيهَا رجلَيْنِ يقتتلان هَذَا من شيعته وَهَذَا من}(4/127)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
وَقَوله: {فرددناه إِلَى أمه كي تقر عينهَا} أَي: تقر عينهَا برد مُوسَى إِلَيْهَا {وَلَا تحزن} أَي: وَلِئَلَّا تحزن.
وَقَوله: {ولتعلم أَن وعد الله حق} لِأَنَّهُ كَانَ قد وعدها أَنه يردهُ إِلَيْهَا.
وَقَوله: {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ أَن وعد الله حق.(4/127)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {وَلما بلغ أشده} قَالَ ابْن عَبَّاس: الأشد: ثَلَاثُونَ سنة، وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ: أَربع وَثَلَاثُونَ سنة، وَقيل: ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة، وَقيل خمس وَعِشْرُونَ سنة، وَقيل: عشرُون سنة، وَقيل: [ثَمَانِي عشرَة] سنة.
وَقَوله: {واستوى} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرْبَعُونَ سنة، وَعَن غَيره: {اسْتَوَى} أَي: انْتهى شبابه.
وَقَوله: {آتيناه حكما وعلما} أَي: الْفِقْه وَالْعقل وَالْعلم.
وَقَوله: {وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ} ظَاهر الْمَعْنى.(4/127)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
قَوْله تَعَالَى: {وَدخل الْمَدِينَة} فِي التَّفْسِير: أَن الْمَدِينَة كَانَت مَدِينَة عين شمس، وَقيل: مَدِينَة منف، وَعَن السّديّ قَالَ: كَانَ مُوسَى يركب من مراكب فِرْعَوْن، ويلبس من ملابسه، وَكَانَ يُسمى ابْن فِرْعَوْن، فَركب فِرْعَوْن مرّة فِي حشمه إِلَى بعض الْمَدَائِن، وَكَانَ مُوسَى غَائِبا فَرجع وَقد ركب فِرْعَوْن، فَركب فِي أَثَره، فوصل إِلَى الْمَدِينَة وَقت القائلة، وَقد اشْتغل النَّاس بالقيلولة، فَهُوَ معنى قَوْله: {وَدخل الْمَدِينَة على حِين غَفلَة من أَهلهَا} أَي: غفلوا عَن ذكر مُوسَى.
وَقَوله: {فَوجدَ فِيهَا رجلَيْنِ يقتتلان} فِي الْقِصَّة: أَنه وجد قبطيا يسخر إِسْرَائِيلِيًّا فِي حمل الْحَطب إِلَى مطبخ فِرْعَوْن، وَقَوله: {يقتتلان} أَي: يختصمان ويتنازعان، وَقَوله: {هَذَا من شيعته وَهَذَا من عدوه} أى: الإسرائيلي من شيعته، والقبطي من(4/127)
{عدوه فاستغاثه الَّذِي من شيعته على الَّذِي من عدوه فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا من عمل الشَّيْطَان إِنَّه عَدو مضل مُبين (15) قَالَ رب إِنِّي ظلمت نَفسِي فَاغْفِر لي فغفر لَهُ إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم (16) قَالَ رب بِمَا أَنْعَمت عَليّ فَلَنْ أكون ظهيرا للمجرمين} عدوه، وَكَانَت بَنو إِسْرَائِيل قد عزوا بمَكَان مُوسَى؛ لأَنهم كَانُوا يعلمُونَ أَنه مِنْهُم، وَيُقَال: {هَذَا من شيعته وَهَذَا من عدوه} أَي: هَذَا مُؤمن وَهَذَا كَافِر.
وَقَوله: {فاستغاثه الَّذِي من شيعته} الاستغاثة: طلب المعونة، وَقَوله: {فوكزه مُوسَى} قَرَأَ (ابْن مَسْعُود) : " فلكزه مُوسَى " واللكز والوكز (وَاحِد، وَهُوَ الضَّرْب بِجمع الْكَفّ، وَقيل الوكز هُوَ الضَّرْب فِي الصَّدْر، واللكز) هُوَ الضَّرْب فِي الظّهْر. وَفِي بعض التفاسير: (أَن مُوسَى) عقد ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ وضربه ضَرْبَة بِهِ فِي صَدره، وَكَانَ شَدِيد الْبَطْش، فَقتل الرجل، فَهُوَ معنى قَوْله: {فَقضى عَلَيْهِ} أَي: قَتله، يُقَال: قضى فلَان أَي: مَاتَ. فَإِن قيل: كَيفَ يجوز هَذَا على مُوسَى؟ قُلْنَا: وَهُوَ لم يقْصد الْقَتْل، وَإِنَّمَا وَقع الْقَتْل خطأ، وَكَانَ قَصده استنقاذ الإسرائيلي من ظلمه.
وَقَوله: {قَالَ هَذَا من عمل الشَّيْطَان} أَي: من تزيينه، وَقَوله: {إِنَّه عَدو مضل مُبين} أَي: مضل بَين الضَّلَالَة،(4/128)
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب إِنِّي ظلمت نَفسِي} يَعْنِي: بقتل القبطي من غير أمره {فَاغْفِر لي} أَي: فَاغْفِر لي بِمَا عملت.
وَقَوله: {فغفر لَهُ إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم} أَي: غفر الله لَهُ، إِن الله غَفُور رَحِيم.(4/128)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب بِمَا أَنْعَمت عَليّ} مننت عَليّ بالمغفرة.
وَقَوله: {فَلَنْ أكون ظهيرا للمجرمين} أَي: معاونا للمجرمين، وَفِي بعض التفاسير: أَن قَوْله: {فَلَنْ أكون ظهيرا للمجرمين} كَانَت زلَّة من مُوسَى حِين لم يقرن بِهِ مَشِيئَة الله أَو الاستغاثة من الله، وقلما يَقُول الْإِنْسَان هَذَا القَوْل، وَيُطلق هَذَا الْإِطْلَاق إِلَّا ابتلى، فَابْتلى مُوسَى فِي الْيَوْم الثَّانِي مَا ذكره الله تَعَالَى، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:(4/128)
( {17) فَأصْبح فِي الْمَدِينَة خَائفًا يترقب فَإِذا الَّذِي استنصره بالْأَمْس يستصرخه قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّك لغَوِيّ مُبين (18) فَلَمَّا أَن أَرَادَ أَن يبطش بِالَّذِي هُوَ عَدو لَهما قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تقتلني كَمَا قتلت نفسا بالْأَمْس إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تكون جبارا فِي الأَرْض وَمَا تُرِيدُ}(4/129)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
{فَأصْبح فِي الْمَدِينَة خَائفًا يترقب} . قَالَ سعيد بن جُبَير: يلْتَفت وَيُقَال: ينْتَظر الطّلب، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى حِين قتل ذَلِك الرجل لم يره أحد، وَدفن لرجل فِي الرمل. وَرُوِيَ أَن قومه وجدوه قَتِيلا، فَجَاءُوا إِلَى فِرْعَوْن وَذكروا لَهُ ذَلِك. فَقَالَ: اطْلُبُوا قَاتله لأقيده بِهِ، فَجعلُوا يطلبونه ومُوسَى يخَاف.
وَقَوله: {فَإِذا الَّذِي استنصره بالْأَمْس يستصرخه} أَي: يستغيث بِهِ ويصيح بِهِ من بعد، وَكَانَ ذَلِك الإسرائيلي سَخَّرَهُ قبْطِي آخر، فَبَصر بِهِ مُوسَى فَطلب مِنْهُ المعونة.
وَقَوله: {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّك لغوى مُبين} الْأَكْثَرُونَ أَن هَذَا قَالَه مُوسَى للإسرائيلي، فَإِنَّهُ كَانَ أغواه أمس أَي: أوقعه فِي الغواية، فَمَعْنَى قَوْله: {غوى} : موقع فِي الغواية.
وَقَوله: {مُبين} أَي: بَين، وَيُقَال: إِن هَذَا قَالَه للقبطي، وَالأَصَح هُوَ الأول.(4/129)
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا أَن أَرَادَ أَن يبطش بِالَّذِي هُوَ عَدو لَهما} فِي التَّفْسِير: إِن مُوسَى أَدْرَكته الرقة وَالرَّحْمَة للإسرائيلي، فقصد أَن يبطش بالقبطي، فَظن الإسرائيلي أَنه يُرِيد أَن يبطش بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَالَ لَهُ: " إِنَّك لغوى مُبين ".
وَقَوله: {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تقتلني} يَعْنِي: قَالَ الإسرائيلي: {كَمَا قتلت نفسا بالْأَمْس إِن تُرِيدُ} أَي: مَا تُرِيدُ {إِلَّا أَن تكون جبارا فِي الأَرْض} ، أَي: تقتل على الْغَضَب، وكل من قتل على الْغَضَب فَهُوَ جَبَّار، وَيُقَال: من قتل نفسين بِغَيْر حق فَهُوَ من جبابرة الأَرْض.
وَقَوله: {وَمَا تُرِيدُ أَن تكون من المصلحين} أَي: الرافقين بِالنَّاسِ، وَفِي الْقِصَّة: أَن الإسرائيلي لما قَالَ هَذَا وسَمعه القبطي، عرف أَن الَّذِي قتل بالْأَمْس إِنَّمَا قَتله مُوسَى، فَمر إِلَى فِرْعَوْن وَذكر لَهُ ذَلِك، فَبعث فِي طلب مُوسَى ليَقْتُلهُ بِهِ.(4/129)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَجَاء رجل من أقْصَى الْمَدِينَة يسْعَى} يُقَال: كَانَ اسْمه شَمْعُون، وَيُقَال: شمعان، وَقيل: هُوَ (حزقيل) مُؤمن [من] آل فِرْعَوْن.(4/129)
{أَن تكون من المصلحين (19) وَجَاء رجل من أقصا الْمَدِينَة يسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِن الْمَلأ يأتمرون بك ليقتلوك فَاخْرُج إِنِّي لَك من الناصحين (20) فَخرج مِنْهَا خَائفًا يترقب قَالَ رب نجني من الْقَوْم الظَّالِمين (21) وَلما توجه تِلْقَاء مَدين قَالَ عَسى رَبِّي أَن}
وَقَوله: {قَالَ يَا مُوسَى إِن الْمَلأ يأتمرون بك} أَي: يتشاورون فِي قَتلك، وَقيل: يَأْمر بَعضهم بَعْضًا بقتلك، وَقيل: إِن فِرْعَوْن قَالَ: أَيْن وجدتموه فَاقْتُلُوهُ.
وَقَوله: {فَاخْرُج إِنِّي لَك من الناصحين} أَي: من الناصحين لَك فِي الْأَمر بِالْخرُوجِ، والنصح للْإنْسَان هُوَ الْإِشَارَة عَلَيْهِ بِمَا يصلح أمره، وَقد كَانَ السّلف يطْلب هَذَا بَعضهم من بعض. قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ حِين خطب: إِن أَحْسَنت فَأَعِينُونِي، وَإِن زِغْت فقوموني. وَرُوِيَ أَن رجلا قَالَ لعمر: اتَّقِ الله يَا عمر، فَأنْكر عَلَيْهِ بَعضهم، فَقَالَ عمر: دَعه، فَمَا نزال بِخَير مَا قيل لنا هَذَا. وَعَن بَعضهم أَنه قيل لَهُ: أَتُرِيدُ أَن تنصح؟ قَالَ: أما سرا فَنعم، وَأما جَهرا فَلَا.(4/130)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
قَوْله: {فَخرج مِنْهَا خَائفًا يترقب} أَي: ينْتَظر الطّلب، وَفِي الْقِصَّة: أَن فِرْعَوْن بعث لطلبه حِين أخبر بهربه، وَقَالَ: اركبوا ثنيات الطَّرِيق، فَإِنَّهُ لَا يعرف كَيفَ الطَّرِيق.
وَرُوِيَ أَنه خرج متوهجا لَا يدْرِي أَيْن ذهب، فَبعث الله تَعَالَى ملكا حَتَّى هداه إِلَى الطَّرِيق، وَفِي بعض التفاسير: أَنه خرج حافيا يعدو ثَمَان لَيَال لَيْسَ مَعَه زَاد، قَالَ ابْن عَبَّاس: وَهُوَ أول ابتلاء من الله لمُوسَى يسْقط خف قدمه، وَجعل يَأْكُل البقل حَتَّى كَانَ يرى خضرته فِي بَطْنه.
وَقَوله: {قَالَ رب نجني من الْقَوْم الظَّالِمين} ظَاهر الْمَعْنى.(4/130)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
قَوْله تَعَالَى: {وَلما توجه تِلْقَاء مَدين} أَي: قبل مَدين.
وَقَوله: {قَالَ عَسى رَبِّي أَن يهديني} أَي: يرشدني رَبِّي {سَوَاء السَّبِيل} أَي: وسط الطَّرِيق، ووسط الطَّرِيق هُوَ السَّبِيل الَّذِي يُوصل إِلَى الْمَقْصُود، ومدين اسْم رجل نسبت الْبَلدة إِلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِر فِي الْمَدَائِن:(4/130)
{يهديني سَوَاء السَّبِيل (22) وَلما ورد مَاء مَدين وجد عَلَيْهِ أمة من النَّاس يسقون وَوجد من دونهم امْرَأتَيْنِ تذودان قَالَ مَا خطبكما قَالَتَا لَا نسقي حَتَّى يصدر الرعاء وأبونا شيخ}
(رُهْبَان مَدين لَو رأوك تنزلوا ... والعصم من شعف الْعُقُول الفادر)
وَقَالَ أهل الْمعَانِي: التَّوَجُّه إِلَى جِهَة من الْجِهَات.
وَقَوله: {تِلْقَاء مَدين} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: نَحْو مَدين.
وَقَوله: {عَسى رَبِّي أَن يهديني سَوَاء السَّبِيل} قَالَ مُجَاهِد: طَرِيق مَدين.(4/131)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
قَوْله تَعَالَى: {وَلما ورد مَاء مَدين} يَعْنِي: لما ورد مُوسَى مَاء مَدين، وَهُوَ بِئْر كَانُوا يسقون مِنْهَا أغنامهم ومواشيهم.
وَقَوله: {وجد عَلَيْهِ أمة من النَّاس يسقون} أَي: جمَاعَة.
وَقَوله: {وَوجد من دونهم امْرَأتَيْنِ} أَي: سوى الْجَمَاعَة امْرَأتَيْنِ، وَقيل: بَعيدا من الْجَمَاعَة امْرَأتَيْنِ.
وَقَوله: {تذودان} أَي: تحبسان وتكفان أغنامهما من مُخَالطَة أَغْنَام النَّاس.
وَقَالَ قَتَادَة: تزودان أَي: تكفان النَّاس عَن أغنامهما، قَالَ الشَّاعِر:
(فقد سلبت عصاك بَنو تَمِيم ... فَلَا أَدْرِي بِأَيّ عَصا تذود)
وَأنْشد قطرب شعرًا:
(أَبيت على بَاب القوافي كَأَنَّمَا ... أذود بهَا سربا من الْوَحْش نزعا)
وَقَوله: {مَا خطبكما} أَي: قَالَ مُوسَى للمرأتين: مَا خطبكما؟ أَي: مَا شأنكما؟ والخطب: الْأَمر المهم، وَإِنَّمَا سَأَلَ هَذَا عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا تسقيان الْغنم مَعَ النَّاس.
وَقَوله: {قَالَتَا لَا نسقي} يَعْنِي: لَا نسقي غنمنا، وَقَوله: {حَتَّى يصدر الرعاء} (وَقُرِئَ: " حَتَّى يصدر الرعاء " فَقَوله: {حَتَّى يصدر الرعاء} أَي: يرجع الرعاء بأغنامهم، وَقَوله: {حَتَّى يصدر الرعاء} ) . أَي: يصدر الرعاء أغنامهم، قَالَ(4/131)
(كَبِير (23) فسقى لَهما ثمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رب إِنِّي لما أنزلت إِلَيّ من خير فَقير (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهمَا تمشي على استحياء قَالَت إِن أبي يَدْعُوك ليجزيك أجر مَا) قَتَادَة. كَانَتَا تسقيان أغنامهما مَا تفضل من مياه الْقَوْم. وَقَالَ بَعضهم: لم تسقيا أغنامهما كَرَاهَة مزاحمة الرِّجَال.
وَقَوله: {وأبونا شيخ كَبِير} لَا يقدر على سقِِي الْغنم، كَأَنَّهُمَا جعلتا ذَلِك عذرا لَهما، وَقيل: إِنَّمَا قَالَتَا ذَلِك استعطافا لقلب مُوسَى حَتَّى يسقيهما، قَالَ ابْن عَبَّاس: وصل مُوسَى أَي: مَاء مَدين وخضرة البقل يرى فِي أمعائه من الهزال.(4/132)
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
وَقَوله: {فسقى لَهما} فِي الْقِصَّة: أَن الْقَوْم رجعُوا بأغنامهم، وغطوا رَأس الْبِئْر بِحجر، لَا يرفعهُ إِلَّا عشرَة نفر، فجَاء مُوسَى وَرفع الْحجر وَحده، وَسَقَى غنم الْمَرْأَتَيْنِ. وَيُقَال: إِنَّه نزع ذنوبا ودعا فِيهِ بِالْبركَةِ، فروى مِنْهُ جَمِيع الْغنم. وَذكر ابْن إِسْحَاق: أَن مُوسَى زاحم الْقَوْم وأخرهم، ونحاهم عَن رَأس الْبِئْر وَسَقَى غنم الْمَرْأَتَيْنِ.
وَقَوله: {ثمَّ تولى إِلَى الظل} يُقَال: كَانَ ظلّ شَجَرَة، وَيُقَال: كَانَ ظلّ حَائِط بِلَا سقف.
وَقَوله: {فَقَالَ رب إِنِّي لما أنزلت إِلَيّ من خير فَقير} أجمع الْمُفَسِّرُونَ على أَنه طلب من الله الطَّعَام لجوعه، قَالَ ابْن عَبَّاس فلقَة خبز، أَو قَبْضَة تمر. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: لم يكن على وَجه الأَرْض أكْرم مِنْهُ، وَكَانَ مُحْتَاجا إِلَى شقّ تَمْرَة. وَقَالَ مُجَاهِد: طلب الْخبز. وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى أخرج للخبز بَرَكَات السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَعَن بَعضهم: لَوْلَا الْخبز مَا عبد الله. وَالْعرب تسمي الْخبز جَابِرا، قَالَ بَعضهم شعرًا:
(لَا تلوموني ولوموا جَابِرا ... فجابر كلفني الهواجرا)
يَعْنِي: الْعَمَل بالهاجرة.(4/132)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
قَوْله تَعَالَى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهمَا} فِي الْآيَة حذف، وَهُوَ أَن الْمَرْأَتَيْنِ رجعتا إِلَى أَبِيهِمَا، وَأكْثر أهل التَّفْسِير أَن أباهما كَانَ هُوَ: شُعَيْب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ رجل مِمَّن آمن بشعيب، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ ابْن أخي شُعَيْب، فَلَمَّا(4/132)
{سقيت لنا فَلَمَّا جَاءَهُ وقص عَلَيْهِ الْقَصَص قَالَ لَا تخف نجوت من الْقَوْم الظَّالِمين (25) قَالَت إِحْدَاهمَا يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ إِن خير من اسْتَأْجَرت الْقوي الْأمين (26) قَالَ إِنِّي أُرِيد} رجعتا إِلَى أَبِيهِمَا بِسُرْعَة أنكر رجوعهما، فذكرتا لَهُ قصَّة الرجل، فَبعث إِحْدَاهمَا فِي طلبه.
وَقَوله: {تمشي على استحياء} روى عَمْرو بن مَيْمُون، عَن عمر أَنه قَالَ: ليبست بسلفع من النِّسَاء، وَلَا خراجة وَلَا ولاجة، وَلَكِن وضعت كمها على وَجههَا استحياء.
وَقَوله: {قَالَت إِن أبي يَدْعُوك ليجزيك أجر مَا سقيت لنا} أَي: ليطعمك ويثيبك أجر مَا سقيت لنا أَي: عوض مَا سقيت لنا. قَالَ أَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار: لما سمع مُوسَى هَذَا أَرَادَ أَلا يذهب وَلَكِن كَانَ جائعا، فَلم يجد بدا من الذّهاب، فمشت الْمَرْأَة وَمَشى مُوسَى خلفهَا، فَجعلت الرّيح تضرب ثوبها، وتصف عجيزتها، فكره مُوسَى ذَلِك، فَقَالَ: يَا أمة الله، امشي خَلْفي وصفي لي الطَّرِيق، فَفعلت كَذَلِك، فَلَمَّا وصل مُوسَى إِلَى دَار شُعَيْب، فَإِذا الْعشَاء تهَيَّأ، فَقَالَ: يَا شَاب، اجْلِسْ، فَكل، فَقَالَ: معَاذ الله، إِنَّا أهل بَيت لَا نطلب على عمل من أَعمال الْآخِرَة عوضا من الدُّنْيَا، فَقَالَ لَهُ شُعَيْب: إِن هَذَا عاداتي وعادات آبَائِي، نقري الضَّيْف ونطعم الطَّعَام، فَجَلَسَ وَأكل. هَذَا كُله قَول أبي حَازِم.
وَقَوله: {فَلَمَّا جَاءَهُ وقص عَلَيْهِ الْقَصَص} يَعْنِي: مَا لَقِي من فِرْعَوْن وَأمره من أَوله إِلَى آخِره.
وَقَوله: {لَا تخف نجوت من الْقَوْم الظَّالِمين} إِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لم يكن لفرعون سُلْطَان على مَدين، والظالمين: فِرْعَوْن وَقَومه.(4/133)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَت إِحْدَاهمَا يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ} أَي: اسْتَأْجرهُ لرعي الْغنم. وَفِي الْقِصَّة: أَن شعيبا قَالَ لابنته: وَمَا علمك بقوته وأمانته؟ فَقَالَت: أما قوته فَلِأَنَّهُ حمل حجرا لَا يحملهُ إِلَّا عشرَة من الرِّجَال، وَأما أَمَانَته فَإِنَّهُ قَالَ لي: امش خَلْفي لِئَلَّا تصف(4/133)
{أَن أنكحك إِحْدَى ابْنَتي هَاتين على أَن تَأْجُرنِي ثَمَانِي حجج فَإِن أتممت عشرا فَمن عنْدك وَمَا أُرِيد أَن أشق عَلَيْك ستجدني إِن شَاءَ الله من الصَّالِحين (27) قَالَ ذَلِك بيني} الرّيح بدنك، وَيُقَال: القوى فِيمَا مَا يَلِي، والأمين فِيمَا يستودع.(4/134)
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيد أَن أنكحك إِحْدَى ابْنَتي هَاتين} أَكثر أهل التَّفْسِير: أَنه زوجه الصُّغْرَى مِنْهُمَا، وَاسْمهَا صفوراء، وَهِي الَّتِي ذهبت لطلب مُوسَى.
وَقَوله: {على أَن تَأْجُرنِي} أَي: تكون أجيري، وَقيل: على أَن تثيبني. {ثَمَانِي حجج} أَي: ثَمَان سِنِين.
قَوْله: {فَإِن أتممت عشرا فَمن عنْدك} يَعْنِي: هُوَ تبرع من عنْدك.
وَقَوله: {وَمَا أُرِيد أَن أشق عَلَيْك} أَي: مَا ألزمك تَمام الْعشْرَة إِلَّا أَن تتبرع.
وَقَوله: {ستجدني إِن شَاءَ الله من الصَّالِحين} أَي: الرافقين بك، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {قَالَ اخلفني فِي قومِي وَأصْلح} أَي: ارْفُقْ.(4/134)
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ ذَلِك بيني وَبَيْنك} أَي: هَذَا الشَّرْط بيني وَبَيْنك. {أَيّمَا الْأَجَليْنِ قضيت} أَي: أَي الْأَجَليْنِ قضيت، و " مَا " صلَة.
وَقَوله: {فَلَا عدوان عَليّ} أَي: لَا أطلب بِالزِّيَادَةِ، وَقَوله: {وَالله على مَا نقُول وَكيل} أَي: شَاهد، وَقيل: حفيظ. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أجر مُوسَى نَفسه بطعمة بَطْنه وعفة فُرْجَة ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي سُئِلَ: أَي(4/134)
{وَبَيْنك أَيّمَا الْأَجَليْنِ قضيت فَلَا عدوان عَليّ وَالله على مَا نقُول وَكيل (28) فَلَمَّا قضى} الْأَجَليْنِ وفى مُوسَى؟ قَالَ: " أكملهما وأتمهما ".
وروى شَدَّاد بن أَوْس عَن النَّبِي: " أَن شعيبا بَكَى حَتَّى عمي فَرد الله عَلَيْهِ بَصَره، (ثمَّ بَكَى حَتَّى عمي، فَرد الله عَلَيْهِ بَصَره) ، ثمَّ بَكَى حَتَّى عمي، فَقَالَ الله تَعَالَى: لم تبك يَا شُعَيْب؟ أخوفاً من النَّار أَو طَمَعا فِي الْجنَّة؟ فَقَالَ: لَا يَا رب، وَلَكِن أحبك وَقَالَ بَعضهم: شوقا إِلَى لقائك قَالَ: يَا شُعَيْب، وَلذَلِك أخدمتك مُوسَى كليمي " وَالْخَبَر غَرِيب.
وَأما قصَّة الْعَصَا: إِن شعيبا قَالَ لابنته: أعطي مُوسَى عَصا ليتقوى بهَا على رعي الْغنم، وَكَانَ عِنْده عَصا أودعها ملك مِنْهُ، فَدخلت بنت شُعَيْب، وَوَقعت هَذِه الْعَصَا بِيَدِهَا وَخرجت بهَا، فَقَالَ شُعَيْب: ردي هَذِه الْعَصَا، وخذي عَصا أُخْرَى، فَردَّتهَا، وأرادت أَن تَأْخُذ عَصا أُخْرَى فَوَقَعت بِيَدِهَا هَذِه الْعَصَا، هَكَذَا ثَلَاث مَرَّات، فَسلم(4/135)
{مُوسَى الْأَجَل وَسَار بأَهْله آنس من جَانب الطّور نَارا قَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا} شُعَيْب الْعَصَا إِلَى مُوسَى، وَخرج مُوسَى بالعصا، ثمَّ إِن الشَّيْخ نَدم فَذهب فِي أَثَره، وَطلب مِنْهُ أَن يرد الْعَصَا إِلَيْهِ، وأبى مُوسَى، فَقَالَا: نَتَحَاكَم إِلَى أول من يَلْقَانَا، فلقيهما ملك فِي صُورَة رجل، (فَحكم بِأَن يطْرَح) الْعَصَا، فَمن أطَاق حملهَا فَهِيَ لَهُ، فَطرح مُوسَى الْعَصَا، فجَاء شُعَيْب ليأخذها فَلم يطق حملهَا، وَجَاء مُوسَى فَأَخذهَا وَذهب بالعصا. أورد هَذَا وهب وَابْن إِسْحَاق وَغَيرهمَا.(4/136)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الْأَجَل وَسَار بأَهْله} فِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى لما أتم الْأَجَل وَسلم شُعَيْب ابْنَته إِلَيْهِ، قَالَ مُوسَى للْمَرْأَة: اطلبي من أَبِيك ليجعل بعض الْغنم لنا، فطلبت من أَبِيهَا ذَلِك، فَقَالَ شُعَيْب: كل مَا ولدت هَذَا الْعَام على غير شيتها، وَقيل: كلما ولدت بلقاء فَهِيَ لَكمَا، فجَاء مُوسَى إِلَى المَاء الَّذِي تشرب مِنْهُ الْغنم، وَوضع الْعَصَا فِي المَاء، وَرُوِيَ أَنه كلما شربت شَاة من الْغنم فَجعل يضْرب جنبها بالعصا، فَولدت ذَلِك الْعَام كلهَا على غير شيتها، وَقَالَ: ولدت بلقاء، ثمَّ إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام اسْتَأْذن من شُعَيْب ليرْجع إِلَى مصر، يزور والدته وأخاه، فَأذن لَهُ، فَسَار بأَهْله إِلَى جَانب مصر.
وَقَوله: {آنس من جَانب الطّور نَارا} رُوِيَ أَن مُوسَى كَانَ رجلا غيورا، وَكَانَ يصحب الرّفْقَة بِاللَّيْلِ، ويفارقهم بِالنَّهَارِ، فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي أَرَادَ الله كرامته فِيهَا، أَخطَأ الطَّرِيق؛ لِأَن الظلمَة اشتدت وَاشْتَدَّ الْبرد، وَانْقطع عَن الرّفْقَة فَجعل يقْدَح الزند فَلَا يورى، ثمَّ إِنَّه أبْصر نَارا من قبل الطّور، وَكَانَ نورا وَلم تكن نَارا، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {آنس من جَانب الطّور نَارا} أَي: أبْصر.
وَقَوله: {قَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا} أَي: أَبْصرت نَارا.(4/136)
{لعَلي آتيكم مِنْهَا بِخَبَر أَو جذوة من النَّار لَعَلَّكُمْ تصطلون (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من شاطئ الواد الْأَيْمن فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة من الشَّجَرَة أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين}
قَوْله تَعَالَى: {لعَلي آتيكم مِنْهَا بِخَبَر} أَي: بِخَبَر عَن الطَّرِيق؛ لِأَنَّهُ قد أَخطَأ الطَّرِيق، وَقَوله: {أَو جذوة من النَّار} أَي: قِطْعَة من النَّار، وَقيل: عود فِي رَأسه نَار.
وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تصطلون} أَي: (تصطلون) بهَا فتذهب عَنْكُم الْبرد، وَيُقَال: أحسن من الصلى فِي لشتاء.(4/137)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من شاطئ الْوَادي الْأَيْمن} أَي: يَمِين مُوسَى، والشاطئ هُوَ الْجَانِب.
وَقَوله: {فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة} سمى الْبقْعَة الْمُبَارَكَة لِأَن الله تَعَالَى كلم مُوسَى فِيهَا، فَإِن قيل: فَلم لم يسم الشَّجَرَة مباركة وَقد قَالَ: {من الشَّجَرَة} ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ إِذا ذكرت الْبركَة فِي الْبقْعَة، فقد ذكرت فِي الشَّجَرَة، فَذكر الْبقْعَة؛ لِأَنَّهَا أَعم.
وَقَوله: {من الشَّجَرَة} قَالُوا: كَانَت شَجَرَة العوسج هِيَ أول شَجَرَة غرست فِي الأَرْض، وَقيل: شجر العليق.
وَقَوله: {أَن ياموسى إِنِّي انا الله رب الْعَالمين} أى: رب الْجِنّ وَالْإِنْس وَالْمَلَائِكَة وَالْخَلَائِق أَجْمَعِينَ.
وَقَوله: {من الشَّجَرَة} قَالَ الزّجاج والنحاس وَغَيرهمَا: كلم الله مُوسَى من الشَّجَرَة بِلَا كَيفَ. وَعَن الضَّحَّاك: من نَحْو الشَّجَرَة. وَعند الْمُعْتَزلَة: أَن الله تَعَالَى خلق كلَاما فِي الشَّجَرَة، فَسمع مُوسَى ذَلِك الْكَلَام، وَهَذَا عندنَا بَاطِل، وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي كلم مُوسَى على مَا ورد بِهِ النَّص، وَإِذا كَانَ على هَذَا الْوَجْه الَّذِي قَالُوا فَيكون الله خَالِقًا لَا مكلما؛ لِأَنَّهُ يُقَال: خلق فَهُوَ خَالق، وَلَا يُقَال: خلق فَهُوَ مُكَلم.
وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى لما رأى النَّار، ترك أَهله وَولده، وَتوجه نَحْو النَّار، فَبَقيَ أَهله(4/137)
((30} وَأَن ألق عصاك فَلَمَّا رَآهَا تهتز كَأَنَّهَا جَان ولى مُدبرا وَلم يعقب يَا مُوسَى أقبل وَلَا تخف إِنَّك من الْآمنينَ (31) اسلك يدك فِي جيبك تخرج بَيْضَاء من غير سوء) فِي ذَلِك الْمَكَان ثَلَاثِينَ سنة، حَتَّى مر بهَا رَاع فرآها حزينة باكية، فَردهَا إِلَى أَبِيهَا، ذكره النقاش فِي تَفْسِيره.
وَقَوله: {إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين} قد بَينا من قبل،(4/138)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَن ألق عصاك} وَفِي الْقِصَّة: أَن الْعَصَا كَانَ من آس الْجنَّة، وَقعت إِلَى آدم، ثمَّ من آدم إِلَى نوح، ثمَّ من نوح إِلَى إِبْرَاهِيم، ثمَّ من إِبْرَاهِيم إِلَى شُعَيْب، وَكَانَ لَا يَأْخُذهَا غير نَبِي إِلَّا أَكلته، وَكَانَ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا بالسُّرْيَانيَّة أَنا الأول أَنا الآخر أَنا الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت أبدا.
وَقَوله: {فَلَمَّا رَآهَا تهتز} أَي: تتحرك {كَأَنَّهَا جَان} الجان: الْحَيَّة الصَّغِيرَة، والثعبان: الْحَيَّة الْعَظِيمَة.
وَقد ذكرنَا التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ، قد قَالَ بَعضهم: كَانَ فِي ابْتِدَاء الْأَمر حَيَّة صَغِيرَة، ثمَّ صَارَت تعظم حَتَّى صَارَت ثعبانا.
وَقَوله: {ولى مُدبرا} أَي: من الْخَوْف، فَإِن قيل: لم خَافَ مُوسَى وَهُوَ فِي مثل ذَلِك الْمقَام؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ رأى شَيْئا بِخِلَاف الْعَادة، وَمن رأى شَيْئا بِخِلَاف الْعَادة فخاف عذر، وَقد رُوِيَ أَنَّهَا لما صَارَت حَيَّة ابتلعت مَا حولهَا من لصخور وَالْأَشْجَار، وَسمع مُوسَى لأسنانها صريفا عَظِيما، فهرب.
وَقَوله: {وَلم يعقب} أَي: لم يلْتَفت، وَقَوله: {يَا مُوسَى أقبل وَلَا تخف إِنَّك من الْآمنينَ} ظَاهر الْمَعْنى.(4/138)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
قَوْله تَعَالَى: {اسلك يدك فِي جيبك} أَي: أَدخل يدك فِي جيبك، وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَت عَلَيْهِ مدرعة مصرية من صوف.
وَقَوله: {تخرج بَيْضَاء من غير سوء} يُقَال: خرجت وَلها شُعَاع كضوء الشَّمْس.
وَقَوله: {واضمم إِلَيْك جناحك من الرهب} حكى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَن(4/138)
3 - {واضمم إِلَيْك جناحك من الرهب فذانك برهانان من رَبك إِلَى فِرْعَوْن وملئه إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين (32) قَالَ رب إِنِّي قتلت مِنْهُم نفسا فَأَخَاف أَن يقتلُون (33) وَأخي هَارُون هُوَ أفْصح مني لِسَانا فَأرْسلهُ معي ردْءًا يصدقني إِنِّي أَخَاف أَن يكذبُون (34) } مَعْنَاهُ: ضع يدك على صدرك. والجناح: الْيَد، قَالَ: وَمَا من خَائِف بعد مُوسَى إِلَّا إِذا وضع يَده على صَدره زَالَ خَوفه. وَذكر الْفراء فِي كِتَابه: أَن الْجنَاح هَاهُنَا هُوَ لعصا، وَمَعْنَاهُ: اضمم إِلَيْك عصاك. وَمن الْمَعْرُوف أَن الْجنَاح هُوَ الْعَضُد، وَقيل: جَمِيع الْيَد، وَقيل: مَا تَحت الْإِبِط، والخائف إِذا ضم إِلَيْهِ يَده خف خَوفه. وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أَن الرهب هُوَ الْكمّ بِهِ، فَيكون معنى الْآيَة على هَذَا: واضمم إِلَيْك عصاك ويدك الَّتِي فِي كمك فقد جعلناها آيَتَيْنِ لَك، وَيقْرَأ: " من الرهب " وَقيل: الرهب والرهب بِمَعْنى وَاحِد كالرشد والرشد، وَالْمعْنَى الظَّاهِر فِيهِ أَنه الْخَوْف.
وَقَوله: {فذاناك برهانان من رَبك} أَي: آيتان وحجتان من رَبك.
وَقَوله: {إِلَى فِرْعَوْن وملئه} يَعْنِي: وَأَتْبَاعه.
وَقَوله: {إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين} أَي: خَارِجين عَن الطَّاعَة.(4/139)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)
وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ رب إِنِّي قتلت مِنْهُم نفسا فَأَخَاف أَن يقتلُون} يَعْنِي: القبطي.(4/139)
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
وَقَوله: {وَأخي هَارُون هُوَ أفْصح مني لِسَانا} قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ فِي لِسَان مُوسَى عقدَة من الْوَقْت الَّذِي أَخذ بلحية فِرْعَوْن، وَأخذ الْجَمْرَة بعد ذَلِك وألقاه فِي فِيهِ على مَا ذكرنَا من قبل.
وَقَوله: {فَأرْسلهُ معي ردْءًا} أَي: عونا. {يصدقني} أَي مُصدقا لي، وَقُرِئَ: " يصدقني " بِسُكُون الْقَاف أَي: إِن كَذَّبُونِي هُوَ يصدقني.
وَقَوله: {إِنِّي أَخَاف أَن يكذبُون} يَعْنِي: فِرْعَوْن وَقَومه.(4/139)
{قَالَ سنشد عضدك بأخيك ونجعل لَكمَا سُلْطَانا فَلَا يصلونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتبعكما الغالبون (35) فَلَمَّا جَاءَهُم مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَات قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سحر مفترى وَمَا سمعنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلين (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أعلم بِمن جَاءَ بِالْهدى من}(4/140)
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ سنشد عضدك بأخيك} وَهَذَا على طَرِيق التَّمْثِيل؛ لِأَن قُوَّة الْيَد بالعضد. وَفِي الْكَلَام الْمَنْقُول من الْعَرَب أَن رجلا قيل لَهُ: مَاتَ أَبوك، قَالَ: ملكت نَفسِي، قيل لَهُ: مَاتَ ولدك، قَالَ: تفرغ قلبِي، قيل: مَاتَت زَوجتك، قَالَ: تجدّد فِرَاشِي، قيل: مَاتَ أَخُوك، قَالَ: وانفصام ظهراه، وَقَالَ الشَّاعِر:
(أَخَاك أَخَاك إِن من لَا أَخا لَهُ ... كساع إِلَى لهيجا بِغَيْر سلَاح)
(وَإِن ابْن عَم الْمَرْء فَاعْلَم جنَاحه ... وَهل ينْهض الْبَازِي بِغَيْر جنَاح؟ !)
وَقدم الله الْأَخ على سَائِر الْأَقَارِب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يفر الْمَرْء من أَخِيه} لِأَن الْإِنْسَان إِلَى أَخِيه أميل، وَبِه آنس، وَإِلَيْهِ أسكن.
وَقَوله: {ونجعل لكم سُلْطَانا} أَي: حجَّة.
وَقَوله: {فَلَا يصلونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} أَي: لَا يصلونَ إلَيْكُمَا لمَكَان آيَاتنَا، وَيُقَال: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: ونجعل لَكمَا سُلْطَانا بِآيَاتِنَا فَلَا يصلونَ إلَيْكُمَا.
وَقَوله: {أَنْتُمَا وَمن اتبعكما الغالبون} الغالبون لفرعون وَقَومه.(4/140)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
وَقَوله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُم مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَات} أَي: واضحات.
وَقَوله: {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سحر مفترى} أَي: مختلق.
وَقَوله: {مَا سمعنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلين} أَي: الَّذين مضوا.(4/140)
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أعلم بِمن جَاءَ بِالْهدى من عِنْده} يَعْنِي: أعلم(4/140)
{عِنْده وَمن تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْن يَا أَيهَا الْمَلأ مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي فَأوقد لي يَا هامان على الطين فَاجْعَلْ لي صرحا لعَلي أطلع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لأظنه من الْكَاذِبين (38) واستكبر هُوَ وَجُنُوده فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} بِمن جَاءَ بِالْهدى، فَأَنا الَّذِي جِئْت بِالْهدى من عِنْده.
وَقَوله: {وَمن تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار} أَي: وَأعلم بِمن تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار، وَهِي الْجنَّة.
وَقَوله: {إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ} أَي: لَا يسْعد من أشرك بِاللَّه.(4/141)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْن يَا أَيهَا الْمَلأ مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي} يُقَال: إِنَّه كَانَ بَين قَول هَذَا وَبَين قَوْله: {أَنا ربكُم الْأَعْلَى} أَرْبَعُونَ سنة.
وَقَوله: {فَأوقد لي يَا هامان على الطين} أَي: اطبخ لي الطين حَتَّى يصير آجرا، وَيُقَال: إِنَّه أول من اتخذ الْآجر.
وَقَوله: {فَاجْعَلْ لي صرحا} أَي: قصرا عَالِيا، وَقيل: مَنَارَة.
وَقَوله تَعَالَى: {لعَلي أطلع إِلَى إِلَه مُوسَى} أَي: أناله وأصيبه.
وَفِي الْقِصَّة: أَن طول الصرح كَانَ شَيْئا كَبِيرا. ذكر فِي بعض التفاسير: أَن صرح فِرْعَوْن كَانَ طوله خَمْسَة آلَاف ذِرَاع وَخمسين ذِرَاعا، وَعرضه ثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع ونيف.
وَكَانَ فِرْعَوْن لَا يقدر أَن يقوم على أَعْلَاهُ؛ مَخَافَة أَن تنسفه الرّيح، وَذكر السّديّ أَن فِرْعَوْن علا ذَلِك الصرح، وَرمى بنشابة إِلَى السَّمَاء، فَرَجَعت إِلَيْهِ متلطخة بِالدَّمِ، فَقَالَ: قد قتلت إِلَه مُوسَى.
وَقَوله: {وَإِنِّي لأظنه من الْكَاذِبين} أَي: لأظنه من الْكَاذِبين فِي زَعمه أَن للْأَرْض والخلق إِلَهًا غَيْرِي.(4/141)
{وظنوا أَنهم إِلَيْنَا لَا يرجعُونَ (39) فأخذناه وَجُنُوده فنبذناهم فِي اليم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين (40) وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار وَيَوْم الْقِيَامَة لَا ينْصرُونَ (41) وأتبعناهم فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين (42) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب من بعد مَا أهلكنا الْقُرُون الأولى بصائر للنَّاس وَهدى وَرَحْمَة لَعَلَّهُم يتذكرون}(4/142)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
قَوْله تَعَالَى: {واستكبر هُوَ وَجُنُوده فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وظنوا أَنهم إِلَيْنَا لَا يرجعُونَ} أَي: لَا يَنْقَلِبُون.(4/142)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
قَوْله تَعَالَى: {فأخذناه وَجُنُوده فنبذناهم فِي اليم} أَي: طرحناهم فِي الْبَحْر.
وَقَوله: {فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين} يَعْنِي: فِرْعَوْن وَقَومه.(4/142)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
قَوْله تَعَالَى: {وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار} أَي: قادة.
وَقَوله: {وَيَوْم الْقِيَامَة لَا ينْصرُونَ} أَي: لَا يمْنَعُونَ من الْعَذَاب.(4/142)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
وَقَوله تَعَالَى: {وأتبعناهم فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة} أَي: أتبعنا الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا لعنة.
وَقَوله: {وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين} أَي: الْمُعَذَّبين، وَيُقَال من المشبوهين أَي: بسواد الْوَجْه وزرقة الْعين.(4/142)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} أَي: التَّوْرَاة، وَقَوله: {من بعد مَا أهلكنا الْقُرُون الأولى} وهم قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم لوط وَقوم شُعَيْب وَغَيرهم.
وَقَوله: {بصائر للنَّاس} أَي: دلالات للآخرين.
وَقَوله: {وَهدى وَرَحْمَة لَعَلَّهُم يتذكرون} أَي: يتعظون بالدلالات.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كنت بِجَانِب الغربي} أَي: مَا كنت بِنَاحِيَة الْجَبَل مِمَّا يَلِي الغرب، وَقَوله: {إِذا قضينا إِلَى مُوسَى الْأَمر} أَي: أحكمنا مَعَ مُوسَى الْأَمر، وَذَلِكَ بإرساله إِلَى فِرْعَوْن وَقَومه.(4/142)
( {43) وَمَا كنت بِجَانِب الغربي إِذْ قضينا إِلَى مُوسَى الْأَمر وَمَا كنت من الشَّاهِدين (44) وَلَكنَّا أنشأنا قرونا فتطاول عَلَيْهِم الْعُمر وَمَا كنت ثاويا فِي أهل مَدين تتلو عَلَيْهِم آيَاتنَا وَلَكنَّا كُنَّا مرسلين (45) وَمَا كنت بِجَانِب الطّور إِذْ نادينا وَلَكِن رَحْمَة من رَبك}(4/143)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
وَقَوله: {وَمَا كنت من الشَّاهِدين} أَي: الْحَاضِرين ذَلِك الْمقَام، وَمعنى هَذَا: أَنَّك لم تكن تكن شَاهدا وَلَا حَاضرا ذَلِك الْمقَام، وَهَذَا الْعلم لَك من قبلنَا.(4/143)
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَكنَّا أنشأنا قرونا فتطاول عَلَيْهِم الْعُمر} رُوِيَ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه قَالَ: مَا اهلك الله تَعَالَى أمة من الْأُمَم بعد إنزاله التَّوْرَاة على مُوسَى غير الْقرْيَة الَّتِي اعْتدت فِي السبت، فمسخوا، يَعْنِي: أهل الْقرْيَة.
وَقَوله: {وَمَا كنت ثاويا} أَي: مُقيما {فِي أهل مَدين} .
وَقَوله: {تتلوا عَلَيْهِم آيَاتنَا} وَقَالَ هَذَا لِأَن شعيبا كَانَ يَتْلُوا عَلَيْهِم آيَات الله، وَقيل: هَذَا كَانَ مُوسَى، وَالْأول أظهر، وَقَوله: {وَلَكنَّا كُنَّا مرسلين} أَي: نَحن الَّذين أرسلناهم.(4/143)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كنت بِجَانِب الطّور إِذْ نادينا} رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي معنى هَذِه الْآيَة: إِن الله تَعَالَى قَالَ: يَا أمة مُحَمَّد، أَعطيتكُم قبل أَن تَسْأَلُونِي، وأجبتكم قبل أَن تَدعُونِي، وغفرت لكم قبل أَن تستغفروني. فَهَذَا هُوَ معنى النداء، وَنقل بَعضهم هَذَا مُسْندًا إِلَى النَّبِي.
وَقَالَ مقَاتل بن حَيَّان: معنى قَوْله: {نادينا} هُوَ أَنه قَالَ لهَذِهِ الْأمة، وهم فِي(4/143)
{لتنذر قوما مَا أَتَاهُم من نَذِير من قبلك لَعَلَّهُم يتذكرون (46) وَلَوْلَا أَن تصيبهم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم فيقولوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك ونكون من الْمُؤمنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُم الْحق من عندنَا قَالُوا لَوْلَا مثل أُوتِيَ مُوسَى أَو لم يكفروا بِمَا} أصلاب آبَائِهِم: آمنُوا بِمُحَمد إِذا بعثته.
وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى لما سمع هَذَا من الله تَعَالَى: قَالَ: يَا رب، إِنَّمَا جِئْت لوفادة أمة مُحَمَّد.
وَقَوله: {وَلَكِن رَحْمَة من رَبك} قد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى كتب كتابا قبل أَن يخلق آدم بألفي عَام، وَهُوَ عِنْده فَوق عَرْشه: سبقت رَحْمَتي غَضَبي ".
وَقَوله تَعَالَى: {لتنذر قوما مَا أَتَاهُم من نَذِير من قبلك لَعَلَّهُم يتذكرون} ظَاهر الْمَعْنى.(4/144)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن تصيبهم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم فيقولوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك ونكون من الْمُؤمنِينَ} معنى الْآيَة: أَنهم لَوْلَا قَوْلهم هَذَا، واحتجاجهم بترك إرْسَال الرُّسُل، وَإِلَّا لعاجلناهم بالعقوبة، وَمِنْهُم من قَالَ: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِير الْآيَة: وَلَوْلَا أَنهم يَقُولُونَ: لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك، ونكون من الْمُؤمنِينَ، لأصابتهم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم، والمصيبة: الْعقُوبَة.(4/144)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُم الْحق من عندنَا} فِي الْحق قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه مُحَمَّد، وَالْآخر: أَنه الْقُرْآن.(4/144)
{أُوتِيَ مُوسَى من قبل قَالُوا سحران تظاهرا وَقَالُوا إِنَّا بِكُل كافرون (48) قل فَأتوا بِكِتَاب من عِنْد الله هُوَ أهْدى مِنْهُمَا أتبعه إِن كُنْتُم صَادِقين (49) فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك}
وَقَوله: {قَالُوا} يَعْنِي: قَالَ الْمُشْركُونَ {لَوْلَا أُوتِيَ} أَي: هلا أُوتِيَ {مثل مَا أُوتِيَ مُوسَى} أَي: من الْعَصَا، وَالْيَد الْبَيْضَاء.
وَقَوله: {أَو لم يكفروا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى من قبل} يَعْنِي: أَن الْمُشْركين كفرُوا بمُوسَى.
وَقَوله: {قَالُوا ساحران تظاهرا} يَعْنِي: مُوسَى ومحمدا، وَقَالَ مُجَاهِد: مُوسَى وَهَارُون. وَقُرِئَ: " سحران تظاهرا " وَاخْتلف القَوْل فِي لسحرين، أحد الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُمَا التَّوْرَاة وَالْقُرْآن، وَالْآخر: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَقَوله: {تظاهرا} أَي: تعاونا، وَهَذَا فِي الساحرين حَقِيقَة، وَفِي السحرين على طَرِيق التَّوَسُّع، وَقَوله: {قَالُوا إِنَّا بِكُل كافرون} أَي: جاحدون.(4/145)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)
وَقَوله تَعَالَى: {قل فَأتوا بِكِتَاب من عِنْد الله هُوَ أهْدى مِنْهُمَا} يَعْنِي: من التَّوْرَاة وَالْقُرْآن.
وَقَوله: {أتبعه} يَعْنِي: اتبع (الْكتاب) الَّذِي جئْتُمْ بِهِ من عِنْد الله.
وَقَوله: {إِن كُنْتُم صَادِقين} مَعْنَاهُ: أَن الْحق مَعكُمْ.(4/145)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك} أَي: لم يَأْتُوا بِمَا طلبت، وَقَوله: {فَاعْلَم أَنما يتبعُون أهواءهم} وَاتفقَ أهل الْمعرفَة أَن الْهوى مرد مهلك.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم شحا مُطَاعًا، وَهوى مُتبعا، وَإِعْجَاب كل ذِي رَأْي بِرَأْيهِ ".(4/145)
{فَاعْلَم أَنما يتبعُون أهواءهم وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (50) (وَلَقَد وصلنا لَهُم القَوْل لَعَلَّهُم يتذكرون (51) الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله هم بِهِ يُؤمنُونَ (52) وَإِذا يُتْلَى عَلَيْهِم قَالُوا آمنا بِهِ إِنَّه الْحق من رَبنَا إِنَّا}
وَقَوله: {وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله} أَي: بِغَيْر بَيَان من الله، وَفِي الْآيَة دلَالَة على أَنه يجوز أَن يكون الْهوى مُوَافقا للحق، وَإِن كَانَ نَادرا. وَرُوِيَ أَن بعض الْمَشَايِخ سُئِلَ عَن هوى وَافق حَقًا، فَقَالَ: هُوَ الزّبد بالنرسيان، والنرسيان نوع من التَّمْر بِالْبَصْرَةِ أَجود مَا يكون.
وَقَوله: {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: الْمُشْركين، وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن النَّبِي طلب مِنْهُم أَن يَأْتُوا بِكِتَاب مثل كِتَابه، وتحداهم بذلك مرَارًا، وَلم يَأْتُوا بِهِ، وَلَو قدرُوا لأتوا بِهِ، وَلَو ببذل النُّفُوس وَالْأَمْوَال، وَلَو أَتَوا بِهِ لعرف ذَلِك، وسارت بِهِ الركْبَان.(4/146)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
قَوْله: {وَلَقَد وصلنا لَهُم القَوْل} أَي: ذكرنَا لَهُم إهلاك الْأُمَم الْمَاضِيَة، فاتصل بَعضهم بِبَعْض من الْكفْر، واتصل عَذَاب بَعضهم بِبَعْض.
وَقَوله تَعَالَى: {لَعَلَّهُم يتذكرون} أَي: [يتعظون] .(4/146)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله} قَالَ سعيد بن جُبَير: هَؤُلَاءِ قوم من مؤمني الْحَبَشَة، آمنُوا بِالنَّبِيِّ، وَقدمُوا الْمَدِينَة، وَجَاهدُوا مَعَه.
وَعَن [ابْن] عَبَّاس قَالَ: نزلت الْآيَة فِي ثَمَانِينَ من أهل الْكتاب، وَأَرْبَعُونَ من نَجْرَان، وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ من الْحَبَشَة، وَثَمَانِية من الشَّام.
وَقَالَ بَعضهم: نزلت الْآيَة فِي قوم كَانُوا يطْلبُونَ الدّين قبل لنَبِيّ، فَلَمَّا بعث آمنُوا بِهِ، وَقَالُوا: كَانَ فيهم عبد الله بن سَلام، وسلمان، والجارود الْعَبدَرِي وَغَيرهم.
وَقَوله: {هم بِهِ يُؤمنُونَ} بِالْكتاب، وَقيل: بِمُحَمد.(4/146)
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا يُتْلَى عَلَيْهِم} يَعْنِي: الْقُرْآن {قَالُوا آمنا بِهِ إِنَّه الْحق من رَبنَا إِنَّا(4/146)
{كُنَّا من قبله مُسلمين (53) أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ويدرءون بِالْحَسَنَة السَّيئَة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (54) وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ وَقَالُوا لنا أَعمالنَا} كُنَّا من قبله مُسلمين) أَي: مُوَحِّدين.(4/147)
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} يَعْنِي: أجر الْإِيمَان بِالْكتاب الأول، وَأجر الْإِيمَان بِالْكتاب الثَّانِي.
وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: ((ثَلَاثَة يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ: رجل آمن بِالْكتاب الأول، وَالثَّانِي عبد أدّى حق الله وَحقّ موَالِيه، وَرجل لَهُ جَارِيَة فأدبها وَأحسن تأديبها،، وَعلمهَا وَأحسن تعليمها، ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا ".
وَفِي التَّفْسِير: أَن أهل الْكتاب الَّذين آمنُوا فاخروا أَصْحَاب النَّبِي بِهَذِهِ الْآيَة، وَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى يُؤْتِي أجرنا مرَّتَيْنِ، ويؤتيكم الْأجر مرّة، فَأنْزل الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته} الْآيَة.
وَقَوله: {بِمَا صَبَرُوا} أَي: صَبَرُوا على الْحق، وَلم يزيغوا عَنهُ، وَقَوله: {ويدرءون بِالْحَسَنَة السَّيئَة} أَي: بقول لَا إِلَه إِلَّا الله الشّرك، وَيُقَال: بِالْمَعْرُوفِ الْمُنكر، وبالخير الشَّرّ، وَيُقَال: وبالحلم جهل الْجَاهِل.
وَقَوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} أَي: يُنْفقُونَ فِي طَاعَة الله.
وَرُوِيَ أَن الْقَوْم الَّذين آمنُوا من الْحَبَشَة لما قدمُوا الْمَدِينَة، وَجَاهدُوا، واستئذنوا من النَّبِي أَن يرجِعوا إِلَى الْحَبَشَة، ويحملوا أَمْوَالهم، فَأذن لَهُم، فَذَهَبُوا وحملوا الْأَمْوَال، وأنفقوا.(4/147)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ} أَي: الْكَلَام الْبَاطِل، وَقيل: إِن(4/147)
{وَلكم أَعمالكُم سَلام عَلَيْكُم لَا نبتغي الْجَاهِلين (55) إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن} الْمُشْركين كَانُوا يسبون مؤمني أهل الْكتاب، وَيَقُولُونَ: تَبًّا لكم، تركْتُم دينكُمْ واتبعتم غُلَاما منا. فَهُوَ معنى اللَّغْو الْمَذْكُور فِي الْآيَة.
وَقَوله: {وَقَالُوا لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم} أَي: لنا ديننَا، وَلكم دينكُمْ، وَقيل: لكم سفهكم، وَلنَا حلمنا.
وَقَوله: {سَلام عَلَيْكُم} لَيْسَ المُرَاد من السَّلَام هَاهُنَا هُوَ التَّحِيَّة، وَلَكِن هَذَا السَّلَام هُوَ سَلام المتاركة، وَيُقَال مَعْنَاهُ: سلمتم من معارضتنا لكم بِالْجَهْلِ والسفه.
وَعَن بعض السّلف أَنه كَانَ يسب فَيَقُول: سَلام سَلام، وَعَن بَعضهم: أَي قَالُوا قولا يسلمُونَ مِنْهُ.
وَقَوله: {لَا نبتغي الْجَاهِلين} أَي: لَا ندخل فِي جهل الْجَاهِلين.(4/148)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت} أَكثر أهل التَّفْسِير أَن الْآيَة فِي أبي طَالب، وَقد صَحَّ بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَن أَبَا طَالب لما حَضَره الْمَوْت، دخل النَّبِي وَعِنْده أَبُو جهل وَعبد الله بن أبي أُميَّة وَغَيرهمَا، فَقَالَ رَسُول الله: " يَا عَم، قل لَا إِلَه إِلَّا الله، كلمة أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله، فَقَالَ لَهُ أَبُو جهل وَعبد الله بن [أبي] أُميَّة: أزغت عَن مِلَّة الْأَشْيَاخ؟ فَمَا زَالَ رَسُول الله يَقُول ذَلِك، وهم يَقُولُونَ، حَتَّى كَانَ كلمة قَالَهَا: أَنا على مِلَّة الْأَشْيَاخ)) . وَالْمعْنَى بالأشياخ: عبد الْمطلب، وهَاشِم، وَعبد منَاف. وَهَذَا الْخَبَر فِي الصَّحِيحَيْنِ، [وروى] مُسلم فِي صَحِيحه: أَن النَّبِي دخل على أبي طَالب وَقد حَضَره الْمَوْت، فَقَالَ: " يَا عَم، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله؛ أشفع لَك يَوْم الْقِيَامَة ". فَقَالَ: لَوْلَا أَن(4/148)
{الله يهدي من يَشَاء وَهُوَ أعلم بالمهتدين (56) وَقَالُوا إِن نتبع الْهدى مَعَك نتخطف من أَرْضنَا أَو لم نمكن لَهُم حرما يجبي آمنا إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء رزقا من لدنا وَلَكِن} تعيرني نسَاء قُرَيْش، فيقلن: جزع عِنْد الْمَوْت، لأقررت بهَا عَيْنَيْك ". وَفِي رِوَايَة: " لَوْلَا أَن تعيرك نسَاء قُرَيْش، وَيكون سبه عَلَيْك، لأقررت بهَا عَيْنَيْك ". وَالْأول فِي الصَّحِيح، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت} أَي: من أَحْبَبْت أَن يَهْتَدِي، وَقيل: من أحببته لِقَرَابَتِهِ {وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} أَي: يهدي لدينِهِ من يَشَاء.
وَعَن [سعيد بن أبي رَاشد] : أَن هِرقل بعث رَسُولا من تنوخ إِلَى رَسُول الله: فجَاء إِلَيْهِ وَهُوَ بتبوك يحمل كتاب هِرقل، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: " يَا أَخا تنوخ، أسلم. فَقَالَ: إِنِّي رَسُول ملك جِئْت من عِنْده؛ فأكره أَن أرجع إِلَيْهِ بِخِلَاف مَا جِئْت، فَضَحِك النَّبِي، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} ".
وَقَوله: {وَهُوَ أعلم بالمهتدين} وَهُوَ أعلم بِمن قدر لَهُ الْهِدَايَة.(4/149)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالُوا إِن نتبع الْهدى مَعَك نتخطف من أَرْضنَا} الاختطاف هُوَ الاستلاب بِسُرْعَة. وَيُقَال: إِن الْقَائِل لهَذَا القَوْل هُوَ الْحَارِث بن نَوْفَل بن عبد منَاف، قَالَ للنَّبِي: إِنَّا نعلم مَا جِئْت بِهِ حق، وَلَكنَّا إِن أسلمنَا مَعَك لم نطق الْعَرَب؛ فَإنَّا أَكلَة رَأس، ويقصدنا الْعَرَب من كل نَاحيَة، فَلَا نطيقهم.
وَقَوله: {أَو لم نمكن لَهُم حرما أمنا} أَي: ذَا أَمن، وَمن الْمَعْرُوف أَنه يَأْمَن فِيهِ الظباء من الذئاب، وَالْحمام من الحدأة.(4/149)
{أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (57) وَكم أهلكنا من قَرْيَة بطرت معيشتها فَتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهمْ إِلَّا قَلِيلا وَكُنَّا نَحن الْوَارِثين (58) وَمَا كَانَ رَبك مهلك الْقرى حَتَّى يبْعَث فِي أمهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاتنَا وَمَا كُنَّا مهلكي الْقرى إِلَّا وَأَهْلهَا ظَالِمُونَ (59) }
وَقَوله: {يجبي إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شئ} أَي: يجمع إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شئ؛ يُقَال: جبيت المَاء فِي الْحَوْض أَي: جمعته.
وَقَوله: {رزقا من لدنا} أَي: رَزَقْنَاهُمْ رزقا من لدنا.
وَقَوله: {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} أَي: مَا أقوله حق. وَمعنى الْآيَة: أَنا مَعَ كفركم أمناكم فِي الْحرم، فَكيف نخوفكم إِذا أسلمتم؟ .
وَقَالَ مُجَاهِد: وجد عِنْد الْمقَام كتاب فِيهِ: أَنا الله ذُو بكة، صغتها يَوْم خلقت الشَّمْس وَالْقَمَر، وحرمتها يَوْم خلقت السَّمَوَات وَالْأَرْض، حففتها بسبعة أَمْلَاك حنفَاء، يَأْتِيهَا رزقها من ثَلَاثَة سبل، مبارك لَهَا فِي اللَّحْم وَالْمَاء، أول من يحلهَا أَهلهَا.
وَقد بَينا من قبل، أَن الرجل كَانَ من أهل الْحرم يخرج فَلَا يتَعَرَّض لَهُ، وَيُقَال: هَؤُلَاءِ أهل الله.(4/150)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
قَوْله تَعَالَى: {وَكم أهلكنا من قَرْيَة} أَي: من أهل قَرْيَة {بطرت معيشتها} أَي: بطرت فِي معيشتها. وَقَالَ الْفراء: أبطرتها معيشتها.
وَقَوله: {فَتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهمْ إِلَّا قَلِيلا} أَي: خربنا أَكْثَرهَا. وَيُقَال: معنى الْقَلِيل هَاهُنَا أَن الْمُسَافِر ينزل مسكنا خرابا، فيمكث فِيهِ يَوْمًا أَو بعض يَوْم.
وَقَوله: {وَكُنَّا نَحن الْوَارِثين} قد بَينا.(4/150)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبك مهلك الْقرى حَتَّى يبْعَث فِي أمهَا رَسُولا} أَي: مَكَّة، وَيُقَال: فِي أمهَا رَسُولا أَي: فِي أَكْثَرهَا من سَائِر الدُّنْيَا رَسُولا.
وَقَوله: {يَتْلُوا عَلَيْهِم آيَاتنَا} مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَقَوله: {وَمَا كُنَّا مهلكي الْقرى إِلَّا وَأَهْلهَا ظَالِمُونَ} أَي: لم نهلك أهل قَرْيَة إِلَّا بعد أَن أذنبوا.(4/150)
{وَمَا أُوتِيتُمْ من شَيْء فمتاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى أَفلا تعقلون (60) أَفَمَن وعدناه وَعدا حسنا فَهُوَ لاقيه كمن متعناه مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا ثمَّ هُوَ يَوْم الْقِيَامَة من المحضرين (61) وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذين حق عَلَيْهِم القَوْل رَبنَا هَؤُلَاءِ الَّذين أغوينا أغويناهم كَمَا غوينا تبرأنا}(4/151)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ من شئ فمتاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} الْمَتَاع على مَعْنيين: أحد الْمَعْنيين: هُوَ الْمُتْعَة وَالْمعْنَى الآخر: مَا يتأثث بِهِ.
وَقَوله: {وَزينتهَا} أَي: وزينة الدُّنْيَا.
وَقَوله: {وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى أَفلا يعْقلُونَ} أَي: أَفلا ينظرُونَ، ليعقلوا أَن الْبَاقِي خير من الفاني.(4/151)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن وعدناه وَعدا حسنا فَهُوَ لاقيه} قَالَ السّديّ: هَذَا ورد فِي حَمْزَة وَأبي جهل، وَقَالَ غَيره: فِي النَّبِي وَأبي جهل.
وَقَوله: {فَهُوَ لاقيه} أَي: ملاقيه وصائر إِلَيْهِ، والوعد الْحسن هُوَ الْجنَّة.
وَقَوله: {كمن متعناه مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: متعناه مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا، ثمَّ مرجعه إِلَى النَّار؛ فَهُوَ معنى قَوْله: {ثمَّ هُوَ يَوْم الْقِيَامَة من المحضرين} أَي: من المحضرين النَّار.(4/151)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
وَقَوله تَعَالَى: {وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ} يَعْنِي: أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ أَنهم شركائي؟ .(4/151)
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الَّذين حق عَلَيْهِم القَوْل} أَي: وَجَبت عَلَيْهِم كلمة الْعَذَاب.
وَقَوله: {رَبنَا هَؤُلَاءِ الَّذين أغوينا} أَي: دعوناهم إِلَى الغي.
وَقَوله: {أغويناهم كَمَا غوينا} أَي: أضللناهم كَمَا ضللنا.
وَقَوله: {تبرأنا إِلَيْك مَا كَانُوا إيانا يعْبدُونَ} يَعْنِي: أَنهم لم يعبدونا، وَلَكِن دعوناهم فَأَجَابُوا.(4/151)
{إِلَيْك مَا كَانُوا إيانا يعْبدُونَ (63) وَقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فَلم يَسْتَجِيبُوا لَهُم وَرَأَوا الْعَذَاب لَو أَنهم كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْم يناديهم فَيَقُول مَاذَا أجبتم الْمُرْسلين (65) فعميت عَلَيْهِم الأنباء يَوْمئِذٍ فهم لَا يتساءلون (66) فَأَما من تَابَ وآمن وَعمل صَالحا فَعَسَى أَن يكون من المفلحين (67) وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار مَا كَانَ لَهُم}(4/152)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
قَوْله تَعَالَى: {وَقيل ادعوا شركاءكم} يَعْنِي قيل للْكفَّار: ادعوا شركاءكم أَي: الْأَصْنَام، وَمعنى قَوْله: {شركاءكم} أَي: شركائي فِي زعمكم.
وَقَوله: {فدعوهم فَلم يَسْتَجِيبُوا لَهُم} أَي: لم يجيبوا لَهُم.
وَقَوله: {وَرَأَوا الْعَذَاب لَو أَنهم كَانُوا يَهْتَدُونَ} مَعْنَاهُ: لَو أَنهم كَانُوا يَهْتَدُونَ مَا رَأَوْا الْعَذَاب.(4/152)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)
وَقَوله تَعَالَى: {وَيَوْم يناديهم فَيَقُول مَاذَا أجبتم الْمُرْسلين} أَي: يُنَادى الْكفَّار.(4/152)
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
وَقَوله: {فعميت عَلَيْهِم الأنباء يَوْمئِذٍ} أَي: الْحجَج؛ فكأنهم لما لم يَجدوا حجَّة فقد عجزوا عَنْهَا.
وَقَوله: {فهم لَا يتساءلون} قد بَينا أَن هَذَا فِي بعض المواطن، وَيُقَال: لَا يتساءلون سُؤال التواصل والعطف، وَيُقَال: لَا يسْأَل بَعضهم بَعْضًا أَي: لَا يحمل غَيره ذَنبه؛ لِأَنَّهُ لَا يجد.(4/152)
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
وَقَوله: {فَأَما من تَابَ وآمن وَعمل صَالحا فَعَسَى أَن يكون من المفلحين} أَي: من السُّعَدَاء الناجحين، وَفِي بعض التفاسير: أَن عَسى وَاجِب فِي جَمِيع الْقُرْآن، إِلَّا فِي قَوْله: {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن} .(4/152)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
قَوْله تَعَالَى: {وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار} أَي: يخلق مَا يَشَاء من الْخلق، ويختار من يَشَاء للنبوة. وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة حَيْثُ قَالَ لَوْلَا أنزل الْقُرْآن على رجل من القريتين عَظِيم، فَأَرَادَ بِهِ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة نَفسه وَعُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ، والقريتين: مَكَّة والطائف، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.(4/152)
{الْخيرَة سُبْحَانَ الله وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ (68) وَرَبك يعلم مَا تكن صُدُورهمْ وَمَا يعلنون (69) وَهُوَ الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة وَله الحكم وَإِلَيْهِ ترجعون (70) قل أَرَأَيْتُم إِن جعل الله عَلَيْكُم اللَّيْل سرمدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من إِلَه غير}
قَوْله: {مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة} يَعْنِي: أَن الِاخْتِيَار إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُم اخْتِيَار على الله، وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي ذَبَائِحهم للأصنام، وَكَانُوا يجْعَلُونَ الأسمن للأصنام، ويجعلون مَا هُوَ شَرّ لله.
وَقَوله: {سُبْحَانَ الله وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ} نزه نَفسه عَمَّا ينْسبهُ إِلَيْهِ الْمُشْركُونَ.(4/153)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)
قَوْله تَعَالَى: {وَرَبك يعلم مَا تكن صُدُورهمْ} أَي: مَا تخفى صُدُورهمْ {وَمَا يعلنون} أَي: يظهرون.(4/153)
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة} أَي: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَيُقَال: فِي الأولى وَالْآخِرَة أَي: فِي الأَرْض وَالسَّمَاء.
وَقَوله: {وَله الحكم} أَي: فصل الْقَضَاء بَين العبيد.
وَقَوله: {وَإِلَيْهِ ترجعون} قد بَينا.(4/153)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)
قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن جعل الله عَلَيْكُم اللَّيْل سرمدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} أَي: دَائِما.
وَقَوله: {من إِلَه غير الله يأتيكم بضياء} أَي: بنهار.
وَقَوله: {أَفلا تَسْمَعُونَ} أَي: أَفلا تعقلون، وَيُقَال: أَفلا تَسْمَعُونَ سمع تفهم.(4/153)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)
قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن جعل الله عَلَيْكُم النَّهَار سرمدا} أَي: دَائِما، وَقَوله: {من إِلَه غير الله يأتيكم بلَيْل تسكنون فِيهِ أَفلا تبصرون} مَعْنَاهُ: أَفلا تعلمُونَ، فَإِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه مصلحَة اللَّيْل فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ فِي الْجنَّة ليل؟ وَالْجَوَاب عَنهُ أَن الدُّنْيَا لَا تَخْلُو عَن تَعب التكاليف والتكليفات، فَلَا بُد لَهُ من وَقت يفضى فِيهِ إِلَى الرَّاحَة (من التَّعَب وَأما الْجنَّة فَهُوَ مَوضِع التَّصَرُّف فِي الملاذ، وَلَيْسَ فِيهَا تَعب أصلا،(4/153)
{الله يأتيكم بضياء أَفلا تَسْمَعُونَ (71) قل أَرَأَيْتُم إِن جعل الله عَلَيْكُم النَّهَار سرمدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من إِلَه غير الله يأتيكم بلَيْل تسكنون فِيهِ أَفلا تبصرون (72) وَمن رَحمته جعل لكم اللَّيْل وَالنَّهَار لتسكنوا فِيهِ ولتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون (73) وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا من كل أمة شَهِيدا فَقُلْنَا هاتوا برهانكم فَعَلمُوا أَن الْحق لله وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (75) إِن قَارون كَانَ} فَلَا يحْتَاج إِلَى وَقت يفضى فِيهِ إِلَى الرَّاحَة) أصلا.(4/154)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن رَحمته جعل لكم اللَّيْل وَالنَّهَار لتسكنوا فِيهِ} أَي: لتسكنوا فِي اللَّيْل، وَقَوله: {ولتبتغوا من فَضله} أَي: بِالنَّهَارِ.
وَقَوله: {ولعلكم تشكرون} أَي: تشكرون نعم الله.(4/154)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ} قد بَينا الْمَعْنى، وَيجوز أَن يُوجد نِدَاء بعد نِدَاء لزِيَادَة التقريع والتوبيخ.(4/154)
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
قَوْله تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا من كل أمة شَهِيدا} أَي: استخرجنا من كل أمة شَاهدا يشْهد عَلَيْهِم، وَالْأَظْهَر أَن الشَّهِيد على كل أمة نَبِيّهم.
وَقَوله: {فَقُلْنَا هاتوا برهانكم} أَي: حجتكم وبينتكم.
وَقَوله: {فَعَلمُوا أَن الْحق لله} أَي: عجزوا عَن إِظْهَار الْحجَّة، وَعَلمُوا أَن الْحق لله.
وَقَوله: {وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون} أَي: ضل عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة مَا كَانُوا يفترون فِي الدُّنْيَا، وَمعنى ضل: فَاتَ وَذهب.(4/154)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
قَوْله تَعَالَى: {إِن قَارون} قَالَ قَتَادَة وَابْن جريح: كَانَ ابْن عَم مُوسَى لحا. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: كَانَ ابْن أخي مُوسَى غير هَارُون.
وَقَوله: {فبغى عَلَيْهِم} قَالَ الضَّحَّاك: أَي: بالشرك. وَقَالَ شهر بن حَوْشَب: بغى عَلَيْهِم: زَاد فِي ثِيَابه شبْرًا على ثِيَاب النَّاس. وَقَالَ بَعضهم: بغى عَلَيْهِم بالتكبر(4/154)
{من قوم مُوسَى فبغى عَلَيْهِم وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز مَا إِن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي الْقُوَّة إِذْ} والعلو. وَمن الْمَعْرُوف فِي التفاسير: أَن قَارون كَانَ أَقرَأ رجل من بني إِسْرَائِيل للتوراة، وَكَانَ حسن الصَّوْت، ثمَّ إِنَّه نَافق؛ فروى أَنه قَالَ لمُوسَى: أَنْت أخذت النُّبُوَّة، وَهَارُون أَخذ المذبح والحبورة، فأيش لي؟
وَفِي الْقِصَّة: أَنه أعْطى امْرَأَة بغيا من بني إِسْرَائِيل ألفي دِرْهَم، وَطلب مِنْهَا أَن تَأتي نَادِي بني إِسْرَائِيل، ومُوسَى فيهم، فتدعي عَلَيْهِ أَنه زنا بهَا، وَمِنْهُم من قَالَ: تَدعِي عَلَيْهِ أَنه دَعَاهَا إِلَى نَفسه، فَجَاءَت وَادعت عَلَيْهِ ذَلِك. وروى أَنَّهَا خَافت، وأخبرت أَن قَارون أَعْطَاهَا مَالا لتدعي ذَلِك. وَفِي الرِّوَايَة الأولى: أَنَّهَا لما ادَّعَت على مُوسَى ذَلِك تغير مُوسَى تغيرا شَدِيدا، وَقَالَ لَهَا: بِالَّذِي أنزل التَّوْرَاة وفلق الْبَحْر اصدقي، فَحِينَئِذٍ خَافت، وَذكرت الْأَمر على وَجهه، فَدَعَا الله تَعَالَى مُوسَى على قَارون، فَسَلَّطَهُ الله تَعَالَى عَلَيْهِ، وَجعل الأَرْض طَوْعًا لَهُ على مَا سَنذكرُهُ.
وَقَوله: {وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز مَا إِن مفاتحه} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: خزائنه، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَعِنْده مفاتح الْغَيْب} أَي: خَزَائِن الْغَيْب، وَالثَّانِي: أَن المفاتح هُوَ مقاليد الخزائن. وَعَن بَعضهم: أَن كل مِفْتَاح كَانَ على قدر أصْبع، وَكَانَ يحملهَا سِتُّونَ بغلة، وَقيل: أَرْبَعُونَ بغلة، وَيُقَال: أَرْبَعُونَ رجلا، وَقَوله {لتنوء} أَي: تثقل الْعصبَة. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هَذَا من المقلوب، وَتَقْدِيره: مَا إِن الْعصبَة لتنوء بهَا. يُقَال: ناء فلَان بِكَذَا أَي: نَهَضَ بِهِ مُثقلًا، وَيُقَال مَعْنَاهُ: لتنوء بالعصبة.
وَأما الْعصبَة فَفِيهَا أقاويل: أَحدهَا: أَنهم سَبْعُونَ رجلا، وَالْآخر: أَرْبَعُونَ رجلا، وَقَالَ بَعضهم: من الْعشْرَة إِلَى الْأَرْبَعين، وَقَالَ بَعضهم: سِتَّة أَو سَبْعَة، وَقَالَ بَعضهم: عشرَة؛ لِأَن إخْوَة يُوسُف قَالُوا: وَنحن عصبَة، وَقد كَانُوا عشرَة. والعصبة فِي اللُّغَة هم الْقَوْم الَّذين يتعصب بَعضهم بِبَعْض.
وَقَوله: {بالعصبة أولى الْقُوَّة} أَي: أولى الشدَّة.(4/155)
{قَالَ لَهُ قومه لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين (76) وابتغ فِيمَا آتاك الله الدَّار الْآخِرَة وَلَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا وَأحسن كَمَا أحسن الله إِلَيْك وَلَا تَبْغِ الْفساد فِي الأَرْض إِن الله لَا يحب المفسدين (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم عِنْدِي أَو لم يعلم أَن الله قد}
وَقَوله: {إِذْ قَالَ لَهُ قومه لَا تفرح} أَي: لَا تبطر وَلَا تأشر، والفرح هَاهُنَا هُوَ السرُور بِغَيْر حق.
وَقَوله: {إِن الله لَا يحب الفرحين} ظَاهر.(4/156)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
قَوْله: {وابتغ فِيمَا آتاك الله الدَّار الْآخِرَة} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: بِطَلَب الْحَلَال. وَقَالَ السّديّ: بِالصَّدَقَةِ وصلَة الرَّحِم. وَعَن بَعضهم قَالَ: بالتقرب إِلَى الله بِكُل وُجُوه التَّقَرُّب.
وَقَوله: {وَلَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا} أَي: طلب الْآخِرَة بِالَّذِي تعْمل فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: اعْمَلْ فِي الدُّنْيَا لآخرتك، وَقَالَ بَعضهم: وَلَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا أَي: بالاستغناء بِمَا أحل الله عَمَّا حرم الله. وَفِي بعض أدعية الصَّالِحين: اللَّهُمَّ أغنني بحلالك عَن حرامك، وبفضلك عَمَّن سواك.
وَقَوله: {وَأحسن كَمَا أحسن الله إِلَيْك} أَي: وَأحسن بِطَاعَة الله كَمَا أحسن الله إِلَيْك بنعمه، وَيُقَال: وَأحسن بِطَلَب الْحَلَال كَمَا أحسن الله إِلَيْك بالحلال.
وَقَوله: {وَلَا تَبْغِ الْفساد فِي الأَرْض} أَي: بالمعصية، وكل من عصى الله فقد طلب الْفساد فِي الأَرْض.
وَقَوله: {إِن الله لَا يحب المفسدين} ظَاهر الْمَعْنى.(4/156)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم عِنْدِي} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: إِن الله تَعَالَى أَعْطَانِي هَذَا المَال لفضل علمه عِنْدِي، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه علم الكيمياء.(4/156)
{أهلك من قبله من الْقُرُون من هُوَ أَشد مِنْهُ قُوَّة وَأكْثر جمعا وَلَا يسْأَل عَن ذنوبهم المجرمون (78) فَخرج على قومه فِي زينته قَالَ الَّذين يُرِيدُونَ الْحَيَاة الدُّنْيَا يَا لَيْت لنا}
وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - علم يُوشَع بن نون ثلث الكيمياء، وَعلم قَارون ثلث الكيمياء؛ وَعلم هَارُون ثلث الكيمياء؛ فَكثر بذلك مَاله. وَالْقَوْل الثَّالِث: على علم عِنْدِي بِوُجُوه المكاسب والتصرفات.
وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح أَن قَارون وجد كنزا ليوسف، فَكَانَ مَاله من هَذَا الْوَجْه.
وَقَوله: {أَو لم يعلم أَن الله قد أهلك من قبله من الْقُرُون من هُوَ أَشد مِنْهُ قُوَّة وَأكْثر جمعا} أَي: لِلْمَالِ.
وَقَوله: {وَلَا يسْأَل عَن ذنوبهم المجرمون} أَي: يَوْم الْقِيَامَة، فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ تَعَالَى: {فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ} وأمثال هَذَا من الْآيَات، وَهَاهُنَا قَالَ: (وَلَا يسْأَل عَن ذنوبهم المجرمون) فَكيف وَجه التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب إِنَّا بَينا أَن فِي الْقِيَامَة مَوَاقِف؛ فَفِي موقف يسْأَلُون، وَفِي موقف لَا يسْأَلُون، وَيُقَال: لَا يسْأَلُون سُؤال استعلام، وَإِنَّمَا يسْأَلُون سُؤال تقريع وتوبيخ، وَيُقَال: لَا يسْأَلُون سُؤال من لَهُ عذر فِي الْجَواب، وَإِنَّمَا يسْأَلُون على معنى إِظْهَار قبائحهم ليفتضحوا على رُءُوس الْجمع.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: الْكَافِر لَا يُحَاسب، بل يُؤمر بِهِ إِلَى النَّار من غير حِسَاب وَلَا سُؤال. وَقَالَ بَعضهم: وَلَا يسْأَل عَن ذنوبهم المجرمون؛ لأَنهم يعْرفُونَ بِسِيمَاهُمْ، قَالَ الله تَعَالَى، {يعرف المجرمون بِسِيمَاهُمْ} .(4/157)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
قَوْله تَعَالَى: {فَخرج على قومه فِي زينته} الزِّينَة بهجة الدُّنْيَا ونضارتها، وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: خرج قَارون وَقَومه فِي ثِيَاب حمر وصفر. وَعَن مقَاتل قَالَ: خرج على بغلة شهباء، عَلَيْهَا سرج من ذهب، وللسرج مثبرة من أَرْجُو، وَمَعَهُ أَرْبَعَة آلَاف من الْخَيل عَلَيْهَا الفرسان، قد تزينوا بالأرجوانات، وَمَعَهُ ثلثمِائة جَارِيَة بيض على(4/157)
{مثل مَا أُوتِيَ قَارون إِنَّه لذُو حَظّ عَظِيم (79) وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم وَيْلكُمْ ثَوَاب الله خير لمن آمن وَعمل صَالحا وَلَا يلقاها إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} البغال الشهب، عَلَيْهِنَّ من الحلى.
وَعَن بَعضهم قَالَ: خرج مَعَ سبعين ألفا، عَلَيْهِم المعصفرات.
وَفِي بعض المسانيد عَن النَّبِي قَالَ: " أَرْبَعَة أَشْيَاء من خِصَال قوم قَارون: جو نعال السيوف، وَلبس الْخفاف المتلونة، وَالثيَاب الأرجوان، وَكَانَ أحدهم لَا ينظر إِلَى وَجه خادمه تكبرا "
وَعَن عَطاء قَالَ: كَانَ مُوسَى يقص لبني إِسْرَائِيل ويعظهم، فَخرج قَارون وَمَعَهُ أَرْبَعَة آلَاف على البغال فِي الأرجوانات، وَمر على مُوسَى، فَالْتَفت بَنو إِسْرَائِيل إِلَيْهِ، وشغلوا عَن مُوسَى، فشق ذَلِك على مُوسَى، فَأرْسل إِلَيْهِ: لم فعلت ذَلِك؟ فَقَالَ: فضلت بِالنُّبُوَّةِ، وفضلت بِالْمَالِ، وَإِن شِئْت دَعَوْت ودعوت. ثمَّ إِن مُوسَى دَعَا الله تَعَالَى على قَارون، فَجعل الأَرْض فِي طَاعَته.
وَقَوله: {قَالَ الَّذين يُرِيدُونَ الْحَيَاة الدُّنْيَا يَا لَيْت لنا مثل مَا أُوتِيَ قَارون إِنَّه لذُو حَظّ عَظِيم} أَي: نصيب عَظِيم من الدُّنْيَا.(4/158)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم وَيْلكُمْ ثَوَاب الله خير} أَي: ثَوَاب الله فِي الْآخِرَة {خير لمن آمن وَعمل صَالحا وَلَا يلقاها} أَي: وَلَا يُؤْتى الْعَمَل الصَّالح إِلَّا الصَّابِرُونَ، وَقيل: لَا يُؤْتى هَذِه الْكَلِمَة، والكلمة قَوْله: {وَيْلكُمْ ثَوَاب الله خير لمن أَمن وَعمل صَالحا وَلَا يلقاها إِلَّا الصَّابِرُونَ} .
وَيُقَال: الصَّابِرُونَ هم الَّذين صَبَرُوا عَمَّا أُوتِيَ أَعدَاء الله من زِينَة، وَلم يتأسفوا عَلَيْهَا، وَلَا تمنوها.(4/158)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
قَوْله تَعَالَى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} وَفِي بعض التفاسير: أَن قَارون قَالَ لمُوسَى: سلمنَا لَك النُّبُوَّة، فَمَا بَال الحبورة ولهارون؟ وَإِذا كَانَ لَك النُّبُوَّة، ولهارون الحبورة فَمَالِي؟ فَقَالَ مُوسَى: إِنِّي لم أعْطه الحبورة، وَلَكِن الله تَعَالَى أعطَاهُ الحبورة، فَقَالَ: لَا أصدقك على ذَلِك حَتَّى تريني آيَة، فَأمر مُوسَى حَتَّى جمعُوا عصيهم، وَقَالَ: من اخضرت عَصَاهُ فالحبورة لَهُ، فاخضرت عَصا هَارُون، وَجعلت تهتز من بَين العصى، فَقَالَ قَارون: هَذَا من سحرك، وَلَيْسَ هَذَا بِأول سحر أتيت بِهِ، فَحِينَئِذٍ دَعَا الله مُوسَى على قَارون.
وروى أَنه لما وَاضع الْمَرْأَة الْبَغي حَتَّى ادَّعَت على مُوسَى أَنه زنا بهَا، أَو دَعَاهَا إِلَى الْفَاحِشَة، غضب مُوسَى ودعا الله تَعَالَى. وَفِي بعض الْقَصَص: أَنه كَانَ مَعَ قَارون قوم كثير من بني لاوى، فجَاء مُوسَى إِلَيْهِم، وَقَالَ: إِن الله بَعَثَنِي إِلَى قَارون كَمَا بَعَثَنِي إِلَى فِرْعَوْن، فَمن أرادني فليعتزله، فاعتزل مِنْهُ جَمِيع قومه إِلَّا [رجلَيْنِ] بقيا مَعَه من بني أَعْمَامه، ثمَّ إِن مُوسَى خَاطب الأَرْض، وَقَالَ: خُذِيهِمْ، فَأخذت الأَرْض بأقدامهم، ثمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ، فَأخذت إِلَى ركبهمْ، ثمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ: فَأخذت إِلَى حقوهم، ثمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ، فَأخذت إِلَى أَعْنَاقهم.
وَفِي التَّفْسِير: أَن قَارون فِي كل ذَلِك يستغيث بمُوسَى وينشده وَالرحم، وَيَقُول: ارْحَمْنِي، ثمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ، فأطبقت الأَرْض عَلَيْهِم.
قَالَ قَتَادَة: فهم يذهبون فِي الأَرْض كل يَوْم قامة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَعَن ابْن عَبَّاس أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى: مَا أقسى قَلْبك؛ اسْتَغَاثَ بك عَبدِي، فَلم تغثه، وَلَو اسْتَغَاثَ بِي مرّة لأغثته.
وَفِي بعض الْآثَار: لَا أجعَل الأَرْض بعْدك طَوْعًا لأحد.
وَذكر أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره: أَن الأَرْض لما أخذت قَارون إِلَى عُنُقه نزع مُوسَى نَعْلَيْه، وَضرب بهما وَجهه، وَقَالَ: اذْهَبُوا بني لاوى، وأطبقت بهم الأَرْض.(4/159)
{فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَة ينصرونه من دون الله وَمَا كَانَ من المنتصرين (81) وَأصْبح الَّذين تمنوا مَكَانَهُ بالْأَمْس يَقُولُونَ ويكأن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَوْلَا أَن}
وَذكر أَيْضا أَن يُونُس بن مَتى لقِيه فِي ظلمات الأَرْض حِين يطوف بِهِ الْحُوت، فَقَالَ لَهُ قَارون: يَا يُونُس، تب إِلَى الله تَجِد الله تَعَالَى فِي أول قدم ترجع إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ يُونُس: فَأَنت لم لَا تتوب؟ فَقَالَ: جعلت تَوْبَتِي إِلَى ابْن عمي.
وَقَوله: {وَبِدَارِهِ الأَرْض} روى أَن بني إِسْرَائِيل قَالُوا: إِنَّمَا أهلك مُوسَى قَارون ليَأْخُذ أَمْوَاله، وَكَانَت أَرَاضِي دوره من فضَّة، وأثاث الْحِيطَان من ذهب، فَأمر مُوسَى الأَرْض حَتَّى أحضرت دوره، ثمَّ أمرهَا حَتَّى خسفت بهَا، فَانْقَطع الْكَلَام.
وَقَوله: {فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَة} أَي: من جمَاعَة {ينصرونه} أَي: يمنعونه {من دون الله} .
وَقَوله: {وَمَا كَانَ من المنتصرين} أَي: من الممتنعين، وَمَعْنَاهُ: لم يكن يمْنَع نَفسه، وَلَا يمنعهُ أحد من عَذَاب الله.(4/160)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
قَوْله تَعَالَى: {وَأصْبح الَّذين تمنوا مَكَانَهُ بالْأَمْس} يَعْنِي: أَن يَكُونُوا مَكَانَهُ، وَفِي مَنْزِلَته.
وَقَوله: {يَقُولُونَ ويكأن الله} وَقَوله: {ويكأن} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ الْفراء: ويكأن عِنْد الْعَرَب تَقْرِير، وَمَعْنَاهُ: ألم تَرَ أَنه؛ وَحكى الْفراء أَن أعرابية قَالَت لزَوجهَا: أَيْن ابْنك؟ فَقَالَ لَهَا: ويكأنه وَرَاء الْبَيْت، وَمَعْنَاهُ: أما ترينه وَرَاء الْبَيْت.
وَقَالَ بَعضهم ويكأنه: معنى " ويك " أَي: وَيلك، وحذفت اللَّام، وَقَوله: {أَنه} كلمة تندم، كَأَن الْقَوْم لما رَأَوْا تِلْكَ الْحَالة تندموا على مَا تمنوا، ثمَّ قَالُوا: كَانَ الله يبسط الرزق لمن يَشَاء أَي: أَن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر أَي: يُوسع ويضيق. وأنشدوا فِيمَا قُلْنَا من الْمعَانِي:
(سالتان الطَّلَاق أَن رأتاني ... قل مَالِي قد جئتماني بنكر)(4/160)
{من الله علينا لخسف بِنَا ويكأنه لَا يفلح الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين (83) من جَاءَ بِالْحَسَنَة}
(وى كَأَن من يكن لَهُ نشب يحبب ... وَمن يفْتَقر يعِيش عَيْش ضرّ) وأنشدوا أَيْضا قَول عنترة فِي أَن ويك بِمَعْنى وَيلك:
(وَلَقَد شفى نَفسِي وَأَبْرَأ سقمها ... قَول الفوارس ويك عنتر أقدم)
وَمن الْمَعْرُوف فِي التفاسير عَن الْعلمَاء الْمُتَقَدِّمين: ويكأن الله: ألم تَرَ أَن الله، وَحكى مثل هَذَا عَن أبي عُبَيْدَة.
وَقَوله: {لَوْلَا أَن من الله علينا لخسف بِنَا} أَي: لَوْلَا أَن أنعم الله علينا لخسف بِنَا مثل مَا خسف بقارون.
وَقَوله: {ويكأنه لَا يفلح الْكَافِرُونَ} قد بَينا.(4/161)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض} أَي: استكبارا، وأصل التكبر هُوَ الشّرك بِاللَّه، قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ} وَمن التكبر الاستطالة على النَّاس واستحقارهم، والتهاون بهم، وَيُقَال إِرَادَة الْعُلُوّ هُوَ ترك التَّوَاضُع.
وَقيل: {لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ: لَا يجزعون من ذلها، وَلَا ينافسون فِي عزها.
وَقَوله: {وَلَا فَسَادًا} أَي: الْعَمَل بِالْمَعَاصِي، وَقَالَ عِكْرِمَة: هُوَ أَخذ مَال النَّاس بِغَيْر حق.
وَقَوله: {وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين} أَي: الْجنَّة لِلْمُتقين، وَقيل: الْعَاقِبَة الْحَسَنَة لِلْمُتقين، وروى زَاذَان عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ يمشي ويدور فِي الْأَسْوَاق، يعين الضَّعِيف، وينصر الْمَظْلُوم، ويمر بالبقال والبياع فَيفتح عَلَيْهِ الْقُرْآن، وَيقْرَأ: {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض. .} الْآيَة.
وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: من أعجبه شسع نَعله على شسع أَخِيه، فَهُوَ مِمَّن يُرِيد الْعُلُوّ فِي(4/161)
{فَلهُ خير مِنْهَا وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى الَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ (84) إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد قل رَبِّي أعلم من جَاءَ بِالْهدى وَمن} الأَرْض.(4/162)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
قَوْله تَعَالَى: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ خير مِنْهَا} ظَاهر الْمَعْنى.
{وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى الَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات} أَي: الْمعاصِي {إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ} وَعَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر أَنه قَالَ: مَا أحسن الْحَسَنَات عقيب السَّيِّئَات، وَمَا أقبح السَّيِّئَات عقيب الْحَسَنَات، وَأحسن الْحَسَنَات الْحَسَنَات عقيب الْحَسَنَات، وأقبح السَّيِّئَات السَّيِّئَات عقيب السَّيِّئَات) .
وَمن الْمَعْرُوف عَن النَّبِي أَنه أوصى معَاذًا - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: " اتَّقِ الله حَيْثُمَا كنت، وأتبع السَّيئَة الْحَسَنَة تمحها، وخالق النَّاس بِخلق حسن ".(4/162)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن} وَيُقَال: فرض عَلَيْك أَي: أوجب عَلَيْك الْعَمَل بِهِ.
وَقَوله: {لرادك إِلَى معاد} الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد مِنْهُ: إِلَى مَكَّة، وَقَالُوا: هَذِه الْآيَة نزلت على رَسُول الله وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ، والجحفة منزل من الْمنَازل بَين مَكَّة وَالْمَدينَة.
فالآية لَيست بمكية وَلَا مَدَنِيَّة، وَفِي بعض التفاسير: " أَن النَّبِي لما هَاجر من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة سَار فِي غير الطَّرِيق خوفًا من الطّلب، ثمَّ إِنَّه لما أَمن عَاد إِلَى الطَّرِيق، فوصل إِلَى الْجحْفَة، وَرَأى الطَّرِيق الشَّارِع إِلَى مَكَّة فاشتاق إِلَيْهَا، فجَاء جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: إِن رَبك يَقُول: وتشتاق إِلَى مَكَّة وتحن إِلَيْهَا؟ فال: نعم، إِنَّهَا أرضي ومولدي، فَقَالَ: إِن رَبك يَقُول: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْكُم الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} يَعْنِي: رادك إِلَى مَكَّة ظَاهرا على أَهلهَا ".(4/162)
{هُوَ فِي ضلال مُبين (85) وَمَا كنت ترجو أَن يلقى إِلَيْك الْكتاب إِلَّا رَحْمَة من رَبك فَلَا تكونن ظهيرا للْكَافِرِينَ (86) وَلَا يصدنك عَن آيَات الله بعد إِذْ أنزلت إِلَيْك وادع إِلَى رَبك وَلَا تكونن من الْمُشْركين (87) وَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا إِلَه إِلَّا هُوَ كل شئ}
وَفِي الْآيَة قَول آخر، وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {لرادك إِلَى معاد} أَي: إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَيُقَال: إِلَى الْجنَّة.
وروى عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ يمدح جَابر بن عبد الله ويذكره بِالْخَيرِ، فَسئلَ عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِنَّه يحْشر معي. قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد}
وَقَوله: {قل رَبِّي أعلم من جَاءَ بِالْهدى} يَعْنِي: يعلم من جَاءَ بِالْهدى، وَأَنا الَّذِي جِئْت بِالْهدى.
وَقَوله: {وَمن هُوَ فِي ضلال مُبين} أَي: وَيعلم من هُوَ فِي ضلال مُبين أَي: الْكفَّار.(4/163)
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كنت ترجو} أَي: تَأمل {أَن يلقى إِلَيْك الْكتاب} أَي: يوحي إِلَيْك الْقُرْآن.
وَقَوله: {إِلَّا رَحْمَة من رَبك} هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن رَبك رَحِمك فأعطاك الْقُرْآن.
وَقَوله: {فَلَا تكونن ظهيرا} أَي: معينا {للْكَافِرِينَ} .(4/163)
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يصدنك عَن آيَات الله} يَعْنِي: لَا يمنعك الْكفَّار عَن اتِّبَاع سَبِيل الله، وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: اشْدُد على الْكفَّار، وَاغْلُظْ عَلَيْهِم، وَلَا تتساهل حَتَّى يطمعوا فِي صدك عَن سَبِيل الله.
وَقَوله: {بعد إِذْ أنزلت إِلَيْك} أَي: بعد إِذْ أنزلت إِلَيْك الْآيَات المبينة للسبيل.
وَقَوله: {وادع إِلَى رَبك} أَي: إِلَى دين رَبك.
وَقَوله: {وَلَا تكونن من الْمُشْركين} أَي: اثْبتْ على التَّوْحِيد.(4/163)
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} أَي: لَا إِلَه غَيره.(4/163)
{هَالك إِلَّا وَجهه لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ ترجعون (88) }
وَقَوله: {كل شئ هَالك إِلَّا وَجهه} قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: إِلَّا مَا أُرِيد بِهِ وَجهه وَرضَاهُ من الْعَمَل.
وَيُقَال: {إِلَّا وَجهه} أَي: إِلَّا هُوَ.
وَعَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: كل مَا وصف الله بِهِ نَفسه فِي الْكتاب فتفسيره قِرَاءَته، لَا تَفْسِير لَهُ غَيره. وَقد ذكر الله تَعَالَى (الْوَجْه فِي أحد عشر موضعا من الْقُرْآن، قد بَينا أَنه صفة من صِفَات الله، يُؤمن بِهِ على مَا ذكره الله تَعَالَى) .
وأنشدوا فِي الْوَجْه بِمَعْنى التَّوَجُّه وَطلب رِضَاهُ قَول الشَّاعِر:
(اسْتغْفر الله ذَنبا لست محصيه ... رب الْعباد إِلَيْهِ الْوَجْه وَالْعَمَل)
أَي: التَّوَجُّه.
وَقَوله: {وَله الحكم} أَي: فصل الْقَضَاء.
وَحكمه أَن يبْعَث قوما إِلَى الْجنَّة، وقوما إِلَى النَّار، وَمن حكمه أَيْضا أَن يبيض وُجُوه قوم، ويسود وُجُوه قوم، ويثقل مَوَازِين قوم، ويخفف مَوَازِين قوم، وأمثال هَذَا، وَهَذَا فِي الْآخِرَة، وَأما فِي الدُّنْيَا فتنفيذ القضايا وَالْأَحْكَام على مَا علم وَأَرَادَ.
وَقَوله: {وَإِلَيْهِ ترجعون} يَعْنِي: فِي الْآخِرَة.(4/164)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{الم (1) أَحسب النَّاس أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون (2) وَلَقَد فتنا}
تَفْسِير سُورَة العنكبوت
وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول عَطاء وَالْحسن، ومدنية فِي أحد قولى ابْن عَبَّاس، وَعنهُ فِي رِوَايَة أُخْرَى أَنَّهَا مَكِّيَّة، فبعضها نزل بِالْمَدِينَةِ وَبَعضهَا نزل بِمَكَّة، وَعَن الشّعبِيّ أَنَّهَا مَكِّيَّة إِلَّا عشر آيَات من أَولهَا مَدَنِيَّة.
وَعَن عَليّ أَنه قَالَ: نزلت بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. وَهَذِه رِوَايَة غَرِيبَة.(4/165)
الم (1)
قَوْله تَعَالَى: {الم} قد بَينا مَعْنَاهُ.(4/165)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
وَقَوله: {أَحسب النَّاس} الحسبان وَالظَّن قريبان، وَهُوَ تَغْلِيب أحد النقيضين على الآخر، وَالشَّكّ وقف بَين نقيضين، وَالْعلم قطع بِوُجُود أَحدهمَا.
وَقَوله: {أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا} مَعْنَاهُ: أظنوا أَن يقنع مِنْهُم بِأَن يَقُولُوا آمنا، وَقَوله: {وهم لَا يفتنون} أَي: لَا يبتلون. قَالَ مُجَاهِد: لَا يبتلون فِي أَمْوَالهم وأنفسهم. وَيُقَال مَعْنَاهُ: لَا يؤمرون وَلَا ينهون، وابتلاء الله عباده بِالْأَمر وَالنَّهْي.
وَقَالَ بَعضهم: إِن الله تَعَالَى أَمر النَّاس أَولا بِمُجَرَّد الْإِيمَان، ثمَّ إِنَّه فرض عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَسَائِر الشَّرَائِع فشق عَلَيْهِم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَعَن الشّعبِيّ وَغَيره أَنه قَالَ: لما هَاجر أَصْحَاب رَسُول الله بَقِي قوم بِمَكَّة مِمَّن آمنُوا وَلم يهاجروا؛ فَكتب (إِلَيْهِم) من هَاجر أَن الله الله تَعَالَى لَا يقبل أَيْمَانكُم حَتَّى تهاجروا، فَهَاجرُوا، فَتَبِعهُمْ قوم من الْمُشْركين وآذوهم، (فَقتل من) قتل، وتخلص، من تخلص فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَعَن بَعضهم: أَن الْآيَة نزلت فِي عَيَّاش بن أبي ربيعَة، وَكَانَ قد هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، فجَاء أَخَوَاهُ لأمه أَبُو جهل والْحَارث ابْنا هِشَام، وَقَالا لَهُ: إِن أمنا قد عَاهَدت إِن لم ترجع لَا تَأْكُل وَلَا تشرب، وَلَا يَأْوِيهَا سقف بَيت؛ وَإِن مُحَمَّدًا يَأْمر بِالْبرِّ، فَارْجِع مَعنا فَرجع مَعَهُمَا، فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الطَّرِيق غدراه وأوثقاه وحملاه إِلَى(4/165)
{الَّذين من قبلهم فليعلمن الله الَّذين صدقُوا وليعلمن الْكَاذِبين (3) أم حسب الَّذين} مَكَّة، وَجلده كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة سَوط، ثمَّ لما وصل إِلَى أمه جعلت تضربه بالسياط حَتَّى رَجَعَ عَن دينه، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَقد حسن إِسْلَامه بعد ذَلِك.
وَمن الْمَشْهُور الثَّابِت: " أَن النَّبِي كَانَ يَدْعُو فِي الْقُنُوت فَيَقُول: " اللَّهُمَّ، انج سَلمَة بن هِشَام وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة والوليد بن الْوَلِيد وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة، وَاشْدُدْ وطأتك على مُضر، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كسنين يُوسُف. فَدَعَا (هَكَذَا) شهرا ثمَّ ترك، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: أَلا تراهم قد قدمُوا ".(4/166)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد فتنا الَّذين من قبلهم} أَي: ابتلينا الَّذين من قبلهم، يَعْنِي الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ، وَيُقَال: ابتلينا بني إِسْرَائِيل بفرعون، وَكَذَلِكَ ابتلينا كل نَبِي بعدو لَهُ. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: حِين شكا إِلَيْهِ أَصْحَابه مَا يلقون من الْكفَّار: " إِنَّكُم تعجلون، وَقد كَانَ فِيمَن قبلكُمْ ينشر بالمناشير فَمَا يصرفهُ ذَلِك عَن دينه، وليتمن الله أمره ".
وَقَوله: { [فليعلمن] الله الَّذين صدقُوا} يَعْنِي: نبتليهم ابتلاء من يستعلم حَالهم، وَيُقَال: وليعلمن الله الَّذين صدقُوا أَي: علم الشَّيْء وَاقعا، وَهُوَ الَّذِي يجازي عَلَيْهِ، وَقيل: فليعلمن الله الَّذين صدقُوا أَي: فليظهرن الله الصَّادِقين من الْكَاذِبين.
وَقَوله: { [وليعلمن] الْكَاذِبين} قد ذكرنَا.(4/166)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
قَوْله تَعَالَى: {أم حسب الَّذين يعْملُونَ السَّيِّئَات} والسيئة: كل خصْلَة تسوء عَاقبَتهَا، والحسنة: كل خصْلَة تسر عَاقبَتهَا.(4/166)
{يعْملُونَ السَّيِّئَات أَن يسبقونا سَاءَ مَا يحكمون (4) من كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله فَإِن أجل الله لآت وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (5) وَمن جَاهد فَإِنَّمَا يُجَاهد لنَفسِهِ إِن الله لَغَنِيّ عَن الْعَالمين (6) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنكفرن عَنْهُم سيئاتهم ولنجزينهم}
وَقَوله: {أَن يسبقونا} أَن يفوتونا، وَمن سبق شَيْئا فقد فَاتَهُ، وَقَوله: {سَاءَ مَا يحكمون} أَي: بئس الحكم حكمهم) .(4/167)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله} قَالَ الزّجاج: يخْشَى لِقَاء الله. وَقَالَ غَيره: يأمل لِقَاء الله، وَقيل: لِقَاء الله هُوَ لِقَاء جَزَائِهِ، وَيُقَال: لِقَاء الله هُوَ الرُّجُوع إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {فَإِن أجل الله لآت} مَعْنَاهُ: إِن وعد الله لآت، وَالْأَجَل هُوَ الْوَعْد الْمَضْرُوب، وَمعنى الْآيَة: أَن من يخْشَى أَو يأمل فليستعد. وَقد روى مَكْحُول: " أَن النَّبِي قَالَ لما نزلت هَذِه الْآيَة لعَلي وَفَاطِمَة: يَا عَليّ، وَيَا فَاطِمَة، قد أنزل الله تَعَالَى قَوْله: {من كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله فَإِن أجل الله لآت} فَاسْتَعدوا ". وَالْخَبَر غَرِيب.
وَقَوله: {وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى.(4/167)
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن جَاهد فَإِنَّمَا يُجَاهد لنَفسِهِ} الْجِهَاد هُوَ الصَّبْر على الشدَّة، ثمَّ قد يكون الصَّبْر على الشدَّة فِي الْحَرْب على مَا أَمر بِهِ الشَّرْع، وَقد يكون الصَّبْر على الشدَّة فِي مُخَالفَة النَّفس بِأَيّ معنى كَانَ.
وَقَوله: {فَإِنَّمَا يُجَاهد لنَفسِهِ} أَي: مَنْفَعَة ذَلِك رَاجِعَة إِلَيْهِ.
وَقَوله: {إِن الله لَغَنِيّ عَن الْعَالمين} أَي: لَا يعود إِلَيْهِ ضرّ وَلَا نفع فِي طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة.(4/167)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنكفرون عَنْهُم سيئاتهم} التَّكْفِير إذهاب السَّيئَة بِالْحَسَنَة، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات}(4/167)
{أحسن الَّذين كَانُوا يعلمُونَ (7) وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حسنا وَإِن جَاهَدَاك لتشرك بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم فَلَا تطعهما إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (8) } والإحباط هُوَ إذهاب الْحَسَنَة بِالسَّيِّئَةِ.
وَقَوله: {ولنجزينهم أحسن الَّذِي كَانُوا يعلمُونَ} هَذَا هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} وَمَعْنَاهُ: ويعطيهم أَكثر مِمَّا عمِلُوا وَأحسن.(4/168)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حسنا} مَعْنَاهُ: يفعل حسنا، وَقُرِئَ: " إحساناً " أَي: يحسن إحساناً.
وَقَوله: {وَإِن جَاهَدَاك لتشرك بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم فَلَا تطعهما} أَي: فَلَا تطعهما فِي معصيتي، وَمن الْمَعْرُوف عَن النَّبِي أَنه قَالَ " لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق ".
وَقَوله: {مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} إِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَن الشّرك كُله عَن جهل، فَإِن الْعَالم لَا يُشْرك بِاللَّه.
وَقَوله: {إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.
أَكثر الْمُفَسّرين (أَن) الْآيَة نزلت فِي سعد بن أبي وَقاص، وَهُوَ سعد بن مَالك أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ، وَأمه حمْنَة من بني أُميَّة. فروى أَنه لما أسلم - وَقد كَانَ من السَّابِقين(4/168)
{وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لندخلنهم فِي الصَّالِحين (9) وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه فَإِذا أوذي فِي الله جعل فتْنَة النَّاس كعذاب الله وَلَئِن جَاءَ نصر من رَبك ليَقُولن إِنَّا كُنَّا مَعكُمْ أَو لَيْسَ الله بِأَعْلَم بِمَا فِي صُدُور الْعَالمين (10) وليعلمن الله الَّذين آمنُوا} الْأَوَّلين فِي الْإِسْلَام - فَكَانَ بارا بِأُمِّهِ، فَلَمَّا سَمِعت أمه بذلك دَعَتْهُ، وَقَالَت لَهُ: مَا هَذَا الدّين الَّذِي أحدثته؟ وَالله لَا آكل وَلَا أشْرب حَتَّى ترجع عَن دينك أَو أَمُوت، فتعير بذلك أَبَد الدَّهْر، ثمَّ إِنَّهَا مكثت يَوْمًا وَلَيْلَة لم تَأْكُل، فجهدت جهدا شَدِيدا، ثمَّ مكثت يَوْمًا وليله أُخْرَى لم تَأْكُل وَلم تشرب، فجَاء سعد إِلَيْهَا، وَقَالَ: يَا أُمَّاهُ، لَو كَانَ لَك مائَة نفس فَخرجت، لم أرجع عَن ديني، فَلَمَّا أَيِست مِنْهُ أكلت وشربت، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأمره بِالْبرِّ بِوَالِديهِ، وَنَهَاهُ أَن يُشْرك طَاعَة لَهما. وَقيل: الْآيَة عَامَّة.(4/169)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لندخلنهم فِي الصَّالِحين} أَي: فِي زمرة الصَّالِحين.(4/169)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه فَإِذا أوذي فِي الله جعل فتْنَة النَّاس كعذاب الله} أَي: جزع من عَذَاب النَّاس كَمَا (يجزع] من عَذَاب الله.
وَقَوله: {وَلَئِن جَاءَ نصر من رَبك ليَقُولن إِنَّا كُنَّا مَعكُمْ} الْآيَة فِي الْقَوْم الَّذين تخلفوا بِمَكَّة مِمَّن أَسْلمُوا، فَلَمَّا آذاهم الْمُشْركُونَ لم يصبروا، وأعطوهم مَا طلبُوا.
وَقَوله: {نصر من رَبك} أَي: فتح من رَبك ودولة للْمُؤْمِنين.
وَقَوله: {ليَقُولن إِنَّا كُنَّا مَعكُمْ} يَعْنِي: كُنَّا مُسلمين، وَإِنَّمَا أكرهنا حَتَّى قُلْنَا مَا قُلْنَا.
وَقَوله: {أَو لَيْسَ الله بِأَعْلَم بِمَا فِي صُدُور الْعَالمين} أَي: يعلم مَا فِي صُدُورهمْ، فيميز صدقهم من كذبهمْ.(4/169)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {وليعلمن الله الَّذين آمنُوا وليعلمن الْمُنَافِقين} قد بَينا، وَيُقَال:(4/169)
{وليعلمن الْمُنَافِقين (11) وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا اتبعُوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وَمَا هم بحاملين من خطاياهم من شئ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (12) وليحملن أثقالهم وأثقالا مَعَ أثقالهم وليسألن يَوْم الْقِيَامَة عَمَّا كَانُوا يفترون (13) وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه} آمنُوا أَي: وفوا بِمَا عهدوا، وحققوا أَقْوَالهم بأفعالهم، وَأما المُنَافِقُونَ خالفوا أَقْوَالهم بأفعالهم.(4/170)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا} روى أَن أَبَا سُفْيَان وَذَوِيهِ قَالُوا للَّذين أَسْلمُوا: اتبعُوا سبيلنا أَي: الطَّرِيق الَّذِي نَحن عَلَيْهِ.
وَقَوله: {ولنحمل خطاياكم} أَي: وَنحن نحمل خطاياكم إِن خِفْتُمْ من عُقُوبَته، فَنحْن كفلا بكم، ونتحمل عَنْكُم الْعقُوبَة.
وَقَوله: {وَمَا هم بحاملين من خطاياهم من شئ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} يَعْنِي: فِي ضَمَان تحمل الْخَطَايَا.(4/170)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
قَوْله تَعَالَى: {وليحملن أثقالهم} أَي: أوزارهم، والأوزار: الذُّنُوب.
وَقَوله: {وأثقالا مَعَ أثقالهم} أَي: أوزارا مَعَ أوزارهم.
فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَالله تَعَالَى قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: {وأثقالا مَعَ أثقالهم} أَي: إِثْم دُعَائِهِمْ إِلَى ترك الْإِيمَان، وَيُقَال: إِن الْأَشْرَاف فيهم [يحملون] ذنُوب الأتباع؛ لأَنهم سنوا لَهُم الضَّلَالَة ودعوهم إِلَيْهَا. وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من دَعَا إِلَى ضَلَالَة فَاتبع عَلَيْهَا، فَعَلَيهِ وزر من اتبعهُ من غير أَن ينقص من أوزارهم شئ ".
وروى أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يُؤْتى بِعَبْد يَوْم الْقِيَامَة وَقد ظلم هَذَا، وَشتم هَذَا، وَأخذ مَال هَذَا، فتؤخذ حَسَنَاته ويعطون، فَيُقَال: يَا رب، قد بَقِي(4/170)
{فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما فَأَخذهُم الطوفان وهم ظَالِمُونَ (14) فأنجيناه} عَلَيْهِ سيئات، وَلم تبْق لَهُ حَسَنَات، فَيَقُول الله تَعَالَى: احملوا ذنوبهم عَلَيْهِ، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: {وليحملن أثقالهم} الْآيَة.
وَقَوله تَعَالَى: {وليسألن يَوْم الْقِيَامَة عَمَّا كَانُوا يفترون} أَي: يكذبُون.(4/171)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه} روى أنس أَن النَّبِي قَالَ: " إِن نوحًا أول نَبِي بعث إِلَى أهل الأَرْض ".
وَقَوله: {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: بعث نوح وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة، وَمكث بعد خُرُوجه من السَّفِينَة سِتِّينَ سنة، [وتوفاه] الله تَعَالَى وَهُوَ ابْن ألف وَخمسين سنة، وَفِي رِوَايَة: أَن عمر نوح كَانَ ألف وَأَرْبَعمِائَة [وَخمسين] [سنة] ، بعث وَهُوَ ابْن مِائَتي وَخمسين سنة، وَقد قيل غير هَذَا، وَالله أعلم.
وروى أَن ملك الْمَوْت لما جَاءَ إِلَى نوح ليقْبض روحه قَالَ: يَا أطول الْأَنْبِيَاء عمرا، كَيفَ وجدت الدُّنْيَا؟ وَكَانَ لَهُ دَار لَهَا بَابَانِ، فَدخل من أَحدهمَا وَخرج من الآخر، وَقَالَ: هَكَذَا وجدت.(4/171)
{وَأَصْحَاب السَّفِينَة وجعلناها آيَة للْعَالمين (15) وَإِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله}
وروى أَنه كَانَ لَهُ بَيت من شعر، وَكَانَ [يُقَال] لَهُ: لَو بنيت بَيْتا من طين، فَكَانَ يَقُول: أَمُوت غَدا، أَو أَمُوت بعد غَد. فَخرج من الدُّنْيَا على ذَلِك، وَلم يبن بَيْتا. فَإِن قيل: قَوْله: {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} أيش فَائِدَة الِاسْتِثْنَاء فِي هَذِه الْآيَة؟ .
وهلا قَالَ: فَلبث فيهم تِسْعمائَة وَخمسين عَاما؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن فَائِدَة الِاسْتِثْنَاء هُوَ التَّأْكِيد؛ فَإِن الْعَرَب إِذا قَالَت: جَاءَنِي اخوتك، يجوز أَن تُرِيدُ بِهِ جَمِيع الاخوة، وَيجوز أَن تُرِيدُ بِهِ الْأَكْثَر، فَإِذا قَالَ: جَاءَنِي اخوتك إِلَّا زيدا فتعلم قطعا أَنه جَاءَ كل الاخوة إِلَّا زيدا، فقد أَفَادَ الِاسْتِثْنَاء التَّأْكِيد من هَذَا الْوَجْه، وَقد قَالَ بَعضهم: قد كَانَ الله تَعَالَى جعل عمر نوح ألف سنة، فاستوهب بعض بنيه مِنْهُ خمسين عَاما فَوَهَبَهَا لَهُ، ثمَّ لما لما بلغ الْأَجَل طلب تَمام الْألف فَلم يُعْط، فَذكر الله تَعَالَى بِلَفْظ الِاسْتِثْنَاء ليدل على أَن النَّقْص كَانَ من قبله، وَهَذَا قَول غَرِيب.
وَقَوله: {فَأَخذهُم الطوفان} الطوفان: كل شئ كثير يطِيف بِالْجَمَاعَة مثل: غرق، أَو موت، أَو غير ذَلِك. قَالَ الراجز:
(أفناهم طوفان موت جارف ... )
وَقَوله: {وهم ظَالِمُونَ} أَي: مشركون.(4/172)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {فأنجيناه وَأَصْحَاب السَّفِينَة} قد بَينا عدد من كَانَ فِي السَّفِينَة.
وَقَوله: {وجعلناها آيَة للْعَالمين} أَي: جعلنَا عقوبتنا إِيَّاهَا بِالْغَرَقِ آيَة للْعَالمين، وَيُقَال: جعلنَا السَّفِينَة آيَة للْعَالمين، فَإِنَّهَا كَانَت ملقاه على الجودى مُدَّة (مديدة) .(4/172)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيم} مَعْنَاهُ: وَأَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيم {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله واتقوه} أَي: أطِيعُوا الله واحذروا مَعْصِيَته.(4/172)
{واتقوه ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبدُونَ من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إِن الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله لَا يملكُونَ لكم رزقا فابتغوا عِنْد الله الرزق واعبدوه واشكروا لَهُ إِلَيْهِ ترجعون (17) وَإِن تكذبون فقد كذب أُمَم من قبلكُمْ}
وَقَوله: {ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ} أَي: عبَادَة الله وتقواه خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ، وَقد قيل: إِن قَوْله: {اعبدوا الله} أَي: وحدوا الله، وكل عبَادَة فِي الْقُرْآن بِمَعْنى التَّوْحِيد.(4/173)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا تَعْبدُونَ من دون الله أوثانا} أَي: أصناما.
وَقَوله: {وتخلقون إفكا} أَي: وتصنعون كذبا، وَقَالَ قَتَادَة: تخلقون إفكا؛ أَي: أصناما. وسمى الْأَصْنَام إفكا لأَنهم سَموهَا آلِهَة. فَإِن قيل: قد قَالَ: {وتخلقون} وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: {هَل من خَالق غير الله} أَي: لَا خَالق غير الله، فَكيف وَجه التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْخلق بِمَعْنى التَّقْدِير هَاهُنَا، قَالَ الشَّاعِر:
(ولأنت تفرى مَا خلقت ... وَبَعض الْقَوْم يخلق ثمَّ لَا يفرى.)
وَيُقَال: وتخلقون إفكا أَي: تنحتون الْأَصْنَام بِأَيْدِيكُمْ وتعبدونها. وَحكى أَن بنى حنيفَة اتَّخذُوا صنما من الخيس - وَهُوَ التَّمْر مَعَ السّمن - ثمَّ إِنَّه أَصَابَتْهُم مجاعَة فأكلوه، قَالَ الشَّاعِر:
(أكلت حنيفَة رَبهَا ... زمن التفحم والمجاعة)
(لم يحذروا من رَبهم ... سوء العواقب والتباعة)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله لَا يملكُونَ لكم رزقا فابتغوا عِنْد الله الرزق} أَي: فَاطْلُبُوا عِنْد الله الرزق.
وَقَوله: {واعبدوه واشكروا لَهُ إِلَيْهِ ترجعون} ظَاهر الْمَعْنى.(4/173)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تكذبوا فقد كذب أُمَم من قبلكُمْ} وهم مثل، عَاد، وَثَمُود،(4/173)
{وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين (18) أَو لم يرَوا كَيفَ يُبْدِي الله الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ إِن ذَلِك على الله يسير (19) قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ بَدَأَ الْخلق ثمَّ الله ينشئ النشأة الْآخِرَة إِن الله على كل شَيْء قدير (20) يعذب من يَشَاء وَيرْحَم من يَشَاء وَإِلَيْهِ} وَقوم لوط، وَغَيرهم.
وَقَوله: {وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} مَعْنَاهُ: إِلَّا الإبلاغ الْوَاضِح.(4/174)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا كَيفَ يُبْدِي الله الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} فَإِن قيل: أيش معنى قَوْله: {أَو لم يرَوا} وهم لم يرَوا إِعَادَة الْخلق؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن قَوْله: {أَو لم يرَوا كَيفَ يبدئ الله الْخلق} قد تمّ الْكَلَام، وَقد كَانُوا يقرونَ بِهَذَا، (وَقَوله) : {ثمَّ يُعِيدهُ} ابْتِدَاء كَلَام. وَمِنْهُم من قَالَ: أَو لم يرَوا كَيفَ يبدئ الله الْخلق بإنشاء النَّهَار، ثمَّ يُعِيد بِإِدْخَال اللَّيْل وإعادة النَّهَار بعده. حكوه عَن الرّبيع بن أنس. وَمِنْهُم من قَالَ: أَو لم يرَوا كَيفَ يبدئ الله الْخلق بِالْإِحْيَاءِ ثمَّ يعيدهم بالإماتة وجعلهم تُرَابا كَمَا كَانُوا.
وَقَوله: {إِن ذَلِك على الله يسير} أَي: هَين.(4/174)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
قَوْله تَعَالَى: {قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ بَدَأَ الْخلق} أَي: خلق الْخلق.
وَقَوله: {ثمَّ الله ينشئ النشأة الْآخِرَة} وَقُرِئَ: " النشاءة الْآخِرَة "، وهما بِمَعْنى وَاحِد كَقَوْلِهِم: رأفة ورآفة.
وَقَوله: {إِن الله على كل شئ قدير} أَي: على النشأة الأولى والنشأة الْآخِرَة.(4/174)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)
قَوْله تَعَالَى: {يعذب من يَشَاء وَيرْحَم من يَشَاء} ظَاهر الْمَعْنى. وَعَن بَعضهم: يعذب من يَشَاء بالحرص، وَيرْحَم من يَشَاء بالقناعة. وَقيل: يعذب من يَشَاء بِسوء الْخلق، وَيرْحَم من يَشَاء بِحسن الْخلق، وَيُقَال: يعذب من يَشَاء بِبَعْض النَّاس لَهُ، وَيرْحَم من يَشَاء بمحبة النَّاس لَهُ.(4/174)
{تقلبون (21) وَمَا أَنْتُم بمعجزين فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير (22) وَالَّذين كفرُوا بآيَات الله ولقائه أُولَئِكَ يئسوا من رَحْمَتي وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم (23) فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَو حرقوه فأنجاه الله من}
وَيُقَال: يعذب من يَشَاء بِقبُول الْبِدْعَة، وَيرْحَم من يَشَاء بملازمة السّنة.
وَقَوله: {وَإِلَيْهِ تقلبون} أَي: تردون.(4/175)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْتُم بمعجزين فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء} (أَي: بمعجز الله عَن عذابكم، وَمَعْنَاهُ: أَنكُمْ لَا تفوتونه كَمَا يفوت عَن الْإِنْسَان مَا يعجز، فَإِن قيل: قد قَالَ: {وَلَا فِي السَّمَاء} وَالْخطاب مَعَ الْآدَمِيّين، وَلَيْسوا فِي السَّمَاء، فَكيف يَسْتَقِيم هَذَا الْكَلَام؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: وَمَا أَنْتُم بمعجزين فِي الأَرْض، وَلَا فِي السَّمَاء معجز. قَالَ الْفراء: وَهَذَا من غامض الْعَرَبيَّة. قَالَ حسان بن ثَابت شعرًا:
(وَمن يهجو رَسُول الله مِنْكُم ... ويمدحه وينصره سَوَاء)
أَي: وَمن يمدحه وينصره مِنْكُم سَوَاء، وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {وَلَا فِي السَّمَاء} أَي: لَو كُنْتُم فِي السَّمَاء لم تعجزوه أَيْضا كَالرّجلِ يَقُول: مَا أَنْت هَاهُنَا بمعجزي وَلَا بِالْبَصْرَةِ أَي: وَلَو كنت بِالْبَصْرَةِ لم تعجزني أَيْضا.
وَقَوله: {وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير} أَي: من وَال وَلَا مَانع.(4/175)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كفرُوا بآيَات الله ولقائه} قَالَ قَتَادَة: ذمّ الله أَقْوَامًا هانوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: {أُولَئِكَ يئسوا من رَحْمَتي وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي: موجع مؤلم.(4/175)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
قَوْله تَعَالَى: {فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا} اعْلَم أَن الْآيَات الَّتِي تقدّمت مُعْتَرضَة من قصَّة إِبْرَاهِيم ودعائه قومه إِلَى الله وجوابهم لَهُ، وَتلك الْآيَات فِي النَّبِي وحجاجه مَعَ الْمُشْركين، ثمَّ وَقع الْعود فِي هَذِه الْآيَة إِلَى جَوَاب قوم إِبْرَاهِيم لَهُ.(4/175)
{النَّار إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم من دون الله أوثانا مَوَدَّة بَيْنكُم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ثمَّ يَوْم الْقِيَامَة يكفر بَعْضكُم بِبَعْض ويلعن بَعْضكُم بَعْضًا ومأواكم النَّار وَمَا لكم من ناصرين (25) فآين لَهُ لوط وَقَالَ إِنِّي مهَاجر إِلَى رَبِّي إِنَّه هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب وَجَعَلنَا فِي ذُريَّته النُّبُوَّة وَالْكتاب}
وَقَوله: {إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَو حرقوه فأنجاه الله من لنار} قَالَ مُجَاهِد: حرقت النَّار وثَاقه وَلم تحرقه.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ} أَي: يصدقون.(4/176)
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم من دون الله أوثانا} أَي: أصناما، وَقَوله: {مَوَدَّة بَيْنكُم} أَي: هِيَ مَوَدَّة (بَيْنكُم) ، أَو تِلْكَ مَوَدَّة بَيْنكُم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: أَن تواخيكم وتوادكم فِي الدُّنْيَا خَاصَّة، وَيَنْقَطِع إِذا جَاءَت الْآخِرَة، وَقيل: إِن كل خلة تَنْقَطِع يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا خلة الْمُتَّقِينَ. وَقُرِئَ: " مَوَدَّة بَيْنكُم " بِالنّصب بإيقاع الْفِعْل عَلَيْهِ أَي: اتخذتموها للمودة، وَقُرِئَ على غير هَذَا، والمعاني مُتَقَارِبَة.
وَقَوله: {ثمَّ يَوْم الْقِيَامَة يكفر بَعضهم بِبَعْض ويلعن بَعْضكُم بَعْضًا} وَمعنى الْجمع: هُوَ وُقُوع التبرؤ بَين القادة والأتباع.
وَقَوله: {ومأواكم النَّار وَمَا لكم من ناصرين} ظَاهر الْمَعْنى.(4/176)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
قَوْله تَعَالَى: {فَآمن لَهُ لوط} وَقد تُقَام اللَّام مقَام الْبَاء.
وَقَوله: {وَقَالَ إِنِّي مهَاجر إِلَى رَبِّي} أَي: مُتَوَجّه إِلَى رَبِّي أطلب رِضَاهُ. وَقد بَينا أَن هجرته كَانَت من كوثى إِلَى الشَّام، وكوثى قَرْيَة من سَواد الْكُوفَة. وَفِي الْقِصَّة: أَنه هَاجر بعد أَن مَضَت [خمس] وَسَبْعُونَ سنة من عمره؛ وَهَاجَر مَعَه لوط وَسَارة.
وَقَوله: {إِنَّه هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب فِي أمره {الْحَكِيم} فِي تَدْبيره.(4/176)
{وَآتَيْنَاهُ أجره فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين (27) ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُم لتأتون الْفَاحِشَة مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين (28) أئنكم لتأتون الرِّجَال وتقطعون السَّبِيل وتأتون فِي ناديكم الْمُنكر فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا أئتنا}(4/177)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
قَوْله تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب وَجَعَلنَا فِي ذُريَّته النُّبُوَّة وَالْكتاب} يُقَال: إِن الله تَعَالَى لم يبْعَث نَبيا بعد إِبْرَاهِيم إِلَّا من نَسْله، فَإِن قيل: كَيفَ لم يذكر إِسْمَاعِيل، وَذكر إِسْحَاق وَيَعْقُوب، وَقد كَانَ إِسْمَاعِيل نَبيا مثل إِسْحَاق؟ قُلْنَا: قد دخل إِسْمَاعِيل فِي قَوْله: {وَجَعَلنَا فِي ذُريَّته النُّبُوَّة وَالْكتاب} وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى يذكر الْبَعْض، وَيتْرك الْبَعْض اختصارا وإيجازا، وَإِن كَانَ الْمَعْنى فِي الْكل وَاحِد.
وَقَوله: {وآتينا أجره فِي الدُّنْيَا} أَي: الثَّنَاء الْحسن.
وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ قبُول كل أهل الْأَدْيَان لَهُ ورضاهم بِهِ. وَقَالَ السدى: هُوَ الْوَلَد الصَّالح. وَقيل: هُوَ أَنه أرِي مَكَانَهُ فِي الْجنَّة، وَقيل: إِنَّه جعل الْأَنْبِيَاء من أَوْلَاده.
وَقَوله: {وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين} أَي: فِي زمرة الصَّالِحين.(4/177)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
قَوْله تَعَالَى: {ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُم لتأتون الْفَاحِشَة مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين} فِي التَّفْسِير: أَنه لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط،(4/177)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {أئنكم لتأتون الرِّجَال وتقطعون السَّبِيل} أَي: لتأتون الرِّجَال بالفاحشة، وتقطعون السَّبِيل: فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: تقطعون سَبِيل النَّسْل بإيثار الرِّجَال على النِّسَاء.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وتقطعون السَّبِيل أَي: الطَّرِيق، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ الغرباء والمسافرين ويرتكبون مِنْهُم الْفَاحِشَة.
وَقَوله: {وتأتون فِي ناديكم الْمُنكر} النادي هُوَ الْمجْلس، وَأما الْمُنكر الَّذِي أَتَوا بِهِ فَفِيهِ أَقْوَال: أَحدهمَا: هُوَ ارْتِكَاب الْفَاحِشَة من الرِّجَال فِي مجَالِسهمْ، قَالَه مُجَاهِد.
وَعَن عَائِشَة قَالَت: كَانُوا يتضارطون فِيمَا بَينهم. وَعَن عبد الله بن سَلام: كَانَ بَعضهم يبزق على بعض. وَفِي بعض الْأَخْبَار مُسْندًا إِلَى النَّبِي: " أَنهم كَانُوا(4/177)
{بِعَذَاب الله إِن كنت من الصَّادِقين (29) قَالَ رب انصرني على الْقَوْم المفسدين (30) وَلما جَاءَت رسلنَا إِبْرَاهِيم بالبشرى قَالُوا إِنَّا مهلكوا أهل هَذِه الْقرْيَة إِن أَهلهَا كَانُوا ظالمين (31) قَالَ إِن فِيهَا لوطا قَالُوا نَحن أعلم بِمن فِيهَا لننجينه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته} يَجْلِسُونَ على الطَّرِيق، ويخذفون النَّاس ويسخرون مِنْهُم ".
وَعَن بَعضهم هُوَ لصفير وَالرَّمْي بالجلاهق، واللعب بالحمام، وبالشرك فِي الطَّرِيق، وَحل الْإِزَار.
وَقَوله: {فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا ائتنا بِعَذَاب الله إِن كنت من لصادقين} أَي: فِيمَا تَقوله(4/178)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
قَوْله: {قَالَ رب انصرني على الْقَوْم المفسدين} وفسادهم كَمَا بَينا.(4/178)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {وَلما جَاءَت رسلنَا إِبْرَاهِيم بالبشرى} قد بَينا معنى الْبُشْرَى فِي سُورَة هود.
وَقَوله: {إِنَّا مهلكوا أهل هَذِه الْقرى} أَي: سدوم، وَفِي الْقِصَّة: أَنهم كَانُوا يَجْلِسُونَ وَبَين يَدي كل وَاحِد مِنْهُم قَعْب فِيهِ حَصى فَإِذا مر بهم إِنْسَان خذفه كل وَاحِد مِنْهُم بحصاة، فَمن أَصَابَهُ كَانَ أولى بِهِ، فَكَانَ يَأْخُذ مَا مَعَه وينكحه ويغرمه ثَلَاث دَرَاهِم، وَلَهُم قَاض يقْضِي بذلك.
وَقَوله: {إِن أَهلهَا كَانُوا ظالمين} قد بَينا ظلمهم.(4/178)
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِن فِيهَا لوطا قَالُوا نَحن أعلم بِمن فِيهَا} أَي: قَالَت الْمَلَائِكَة نَحن أعلم بِمن فِيهَا.
وَقَوله: {لننجينه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته كَانَت من الغابرين} أَي: البَاقِينَ فِي الْعَذَاب.(4/178)
{كَانَت من الغابرين (32) وَلما أَن جَاءَت رسلنَا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وَقَالُوا لَا تخف وَلَا تحزن إِنَّا منجوك وَأهْلك إِلَّا امْرَأَتك كَانَت من الغابرين (33) إِنَّا منزلون على أهل هَذِه الْقرْيَة رجزا من السَّمَاء بِمَا كَانُوا يفسقون (34) وَلَقَد تركنَا مِنْهَا آيَة بَيِّنَة}(4/179)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {وَلما أَن جَاءَت رسلنَا لوطا سيء بهم} أَي: سيء بِالْمَلَائِكَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَنه سَاءَهُ مَجِيء الْمَلَائِكَة أضيافا لما علم من خبث قومه.
وَقَوله: {وضاق بهم ذرعا} أَي: ضَاقَ ذرعا بمجيئهم. يُقَال: ضَاقَ فلَان ذرعا بِكَذَا إِذا كرهه.
وَقَوله: {قَالُوا لَا تخف وَلَا تحزن} لَا تخف من قَوْمك علينا، وَلَا تحزن بإهلاكنا إيَّاهُم.
وَقَوله: {إِنَّا منجوك وَأهْلك إِلَّا امْرَأَتك كَانَت من الغابرين} أَي: البَاقِينَ فِي الْعَذَاب.(4/179)
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا منزلون على أهل هَذِه الْقرْيَة} أَي: سدوم.
وَقَوله: {رجزا من السَّمَاء} أَي: عذَابا من السَّمَاء.
وَقَوله: {بِمَا كَانَ يفسقون} أَي: يعصون.(4/179)
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
قَوْله: {وَلَقَد تركنَا مِنْهَا آيَة بَيِّنَة} أَي: من قريات قوم لوط.
قَالَ قَتَادَة: الْآيَة الْبَيِّنَة (هِيَ [الْأَحْجَار] الَّتِي أهلكوا بهَا، وَقد كَانَ قد بَقِي بَعْضهَا حَتَّى أَدْرَكته أَوَائِل هَذِه الْأمة. وَقَالَ مُجَاهِد: الْآيَة الْبَيِّنَة) : ظُهُور المَاء الْأسود من قراهم.
وَقَوله: {لقوم يعْقلُونَ} أَي: يتدبرون الْآيَات تدبر ذَوي الْعُقُول.(4/179)
{لقوم يعْقلُونَ (35) وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله وارجوا الْيَوْم الآخر وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين (36) فَكَذبُوهُ فَأَخَذتهم الرجفة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين (37) وعادا وَثَمُود وَقد تبين لكم من مساكنهم وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم فصدهم عَن السَّبِيل وَكَانُوا مستبصرين (38) وَقَارُون وَفرْعَوْن وهامان وَلَقَد جَاءَهُم}(4/180)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا} مَعْنَاهُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا.
وَقَوله: {فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله وارجوا الْيَوْم الآخر} أَي: وخشوا الْيَوْم الآخر، وَيُقَال: الرَّجَاء على حَقِيقَته، وَهُوَ الأمل.
وَقَوله: {وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين} أَي: لَا تفسدوا فِي الأَرْض. [والعيث] أَشد الْفساد.(4/180)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
وَقَوله تَعَالَى: {فَكَذبُوهُ فَأَخَذتهم الرجفة} الرجفة: زعزعة تُؤدِّي إِلَى الْهَلَاك.
وَقَوله: {فَأَصْبحُوا فِي دِيَارهمْ جاثمين} أَي: ميتين، وَقيل: خامدين.(4/180)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
قَوْله تَعَالَى: {وعادا وَثَمُود} أَي: وأهلكنا عادا وَثَمُود.
وَقَوله: {وَقد تبين لكم من مساكنهم} أَي: الْمنَازل الَّتِي سكنوها.
وَقَوله: {وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم فصدهم عَن السَّبِيل} أَي: صدهم عَن سَبِيل الْحق.
وَقَوله: {وَكَانُوا مستبصرين} أَي: ارتكبوا مَا ارتكبوا وَقد علمُوا أَن عَاقِبَة أَمرهم بوار.(4/180)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَارُون وَفرْعَوْن وهامان} أَي: وأهلكنا قَارون وَفرْعَوْن وهامان. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن فِرْعَوْن كَانَ يَبِيع الْبِطِّيخ فِي ابْتِدَاء أمره، وهامان كَانَ طيانا.(4/180)
{مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فاستكبروا فِي الأَرْض وَمَا كَانُوا سابقين (39) فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ فَمنهمْ من أرسلنَا عَلَيْهِ حاصبا وَمِنْهُم من أَخَذته الصَّيْحَة وَمِنْهُم من خسفنا بِهِ الأَرْض وَمِنْهُم من أغرقنا وَمَا كَانَ الله ليظلمهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (40) مثل الَّذين اتَّخذُوا من دون الله أَوْلِيَاء كَمثل العنكبوت اتَّخذت بَيْتا وَإِن أوهن الْبيُوت لبيت العنكبوت لَو}
وَقَوله: {وَلَقَد جَاءَهُم مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات.
قَوْله: {فاستكبروا فِي الأَرْض وَمَا كَانُوا سابقين} أَي: فائتين عَن عذابنا، كالسابق على الشَّيْء فَيكون قد فَاتَهُ.(4/181)
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
قَوْله تَعَالَى: {فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ} أَي: أَخذنَا كل هَؤُلَاءِ بذنبهم.
وَقَوله: {فَمنهمْ من أرسلنَا عَلَيْهِ حاصبا} الحاصب هِيَ الرّيح الَّتِي تحمل الْحَصْبَاء، والحصباء: الْحَصَى (الصغار) ، وَالَّذين أهلكوا بالحصباء قوم لوط.
وَقَوله: {وَمِنْهُم من أَخَذته الصَّيْحَة} يَعْنِي: قوم صَالح، وهم ثَمُود.
وَقَوله: {وَمِنْهُم من خسفنا بِهِ الأَرْض} أَي: قَارون.
وَقَوله: {وَمِنْهُم من أغرقنا} أَي: قوم نوح وَقوم فِرْعَوْن.
وَقَوله: { [وَمَا] كَانَ الله ليظلمهم} أَي: مَا ظلمهم الله {وَلَكِن هم اللَّذين ظلمُوا أنفسهم} .(4/181)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
قَوْله تَعَالَى: {مثل الَّذين اتَّخذُوا من دون الله} الْمثل: كَلَام سَائِر يتَضَمَّن تَشْبِيه حَال الآخر بِالْأولِ.
وَقَوله: {أَوْلِيَاء} أَي: الْأَصْنَام.
وَقَوله: {كَمثل العنكبوت} العنكبوت: دَابَّة [أَعْطَاهَا] الله تَعَالَى آلَة تنسج(4/181)
{كَانُوا يعلمُونَ (41) إِن الله يعلم مَا يدعونَ من دونه من شَيْء وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (42) وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ (43) خلق الله السَّمَوَات} بهَا بَيْتا تأوي إِلَيْهِ، (وبيته) فِي غَايَة الضعْف والوهاء، وَإِنَّمَا مثل عبَادَة الْأَصْنَام بِبَيْت العنكبوت؛ لِأَن بَيت العنكبوت لَا يقي حرا وَلَا بردا، وَكَذَلِكَ عبَادَة الْأَصْنَام لَا تجلب نفعا، وَلَا تدفع ضرا.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي أَنه قَالَ: " العنكبوت شَيْطَان مسخ فَاقْتُلُوهُ " وَالْخَبَر غَرِيب.
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه أَمر أَلا يتْرك نَسِيج العنكبوت فِي الْبَيْت، وَقَالَ: تَركه يُورث الْفقر. وَقد بَينا أَن الله تَعَالَى جعل العنكبوت جند النَّبِي فِي الْغَار.
وَقَوله: {وَإِن أوهن الْبيُوت لبيت العنكبوت لَو كَانُوا يعلمُونَ} أَي: لَو كَانُوا يعلمُونَ أَن عبَادَة الْأَصْنَام لَا تغني شَيْئا، كَمَا علمُوا أَن بَيت العنكبوت لَا يدْفع شَيْئا.(4/182)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يعلم مَا يدعونَ من دونه من شَيْء} أَي: يعلم مَا يدعونَ من دونه من الْأَصْنَام وَغَيرهَا.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْعَزِيز بالانتقام من أعدائه، الْحَكِيم فِي تَدْبِير خلقه.(4/182)
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
قَوْله تَعَالَى: {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس} أَي: الْأَشْبَاه الَّتِي يَقع بهَا التَّمْثِيل.
وَقَوله: {وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ} (أَي: الْعَالمُونَ بمعاني كَلَامي، وَعَن بعض السّلف قَالَ: يسْتَحبّ أَن يقف عِنْد كل مثل فِي الْقُرْآن، فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: {وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ} .(4/182)
{وَالْأَرْض بِالْحَقِّ إِن فِي ذَلِك لآيَة للْمُؤْمِنين (44) اتل مَا أُوحِي إِلَيْك من الْكتاب وأقم الصَّلَاة إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَلذكر الله أكبر وَالله يعلم مَا تَصْنَعُونَ}(4/183)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
قَوْله تَعَالَى: {خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} أَي: بالحكمة.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك (لآيَة} للْمُؤْمِنين) أَي: لعبرة للْمُؤْمِنين.(4/183)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
قَوْله تَعَالَى: {اتل مَا أوحى إِلَيْك من الْكتاب} أَي: الْقُرْآن.
وَقَوله: {وأقم الصَّلَاة إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر} الْفَحْشَاء كل قَبِيح من الْأَفْعَال، وَالْمُنكر كل مَا يُنكره الشَّرْع، (فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر} وَقد رَأينَا من يُصَلِّي وَلَا يَنْتَهِي عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر؟ قُلْنَا: رُوِيَ عَن حَمَّاد بن سَلمَة أَنه قَالَ: تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر مَا دَامَ فِي الصَّلَاة، وَعَن غَيره: تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر) فِيهَا وَبعدهَا. وَمعنى النَّهْي على هَذَا القَوْل أَنه يقْرَأ الْقُرْآن وَالْقِرَاءَة، تنهاه عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر.
وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: لَا صَلَاة لمن لم يطع الصَّلَاة. وَفِي هَذَا اللَّفْظ إِشَارَة إِلَى مَا بَينا.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من لم تَنْهَهُ صلَاته عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر لم يَزْدَدْ من الله إِلَّا بعدا ".(4/183)
( {45) وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم وَقُولُوا آمنا}
وَعَن الْحسن وَقَتَادَة أَنَّهُمَا قَالَا: من صلى وَلم ينْتَه عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر، فَصلَاته وبال عَلَيْهِ.
وَقَوله: {وَلذكر الله أكبر} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلذكر الله أفضل من كل الطَّاعَات، وَرُوِيَ عَن ثَابت الْبنانِيّ أَن رجلا أعتق أَربع رِقَاب، وَجعل آخر يذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل، ثمَّ سُئِلَ عَن ذَلِك جمَاعَة من أهل الْعلم، فَقَالُوا: ذكر الله تَعَالَى أفضل؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَلذكر الله أكبر} .
وَالْقَوْل الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: وَلذكر الله إيَّاكُمْ أكبر من ذكركُمْ إِيَّاه، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس، وَرُوِيَ إِن رجلا قَالَ لِابْنِ عَبَّاس: إِن فلَانا (يَقُول) فِي قَوْله: {وَلذكر الله أكبر} : إِن مَعْنَاهُ: إِذا ذكره وانْتهى عَن مَعَاصيه، فَقَالَ: هَذَا كَلَام حسن. وَلَيْسَ بِمَعْنى الْآيَة؛ وَإِنَّمَا معنى الْآيَة مَا ذكرنَا عَنهُ، وَهُوَ قَوْله: وَلذكر الله إيَّاكُمْ أكبر من ذكركُمْ إِيَّاه. وَمِنْهُم من قَالَ: وَلذكر الله فِي الثَّوَاب أكبر من ذكركُمْ فِي الطَّاعَة.
وَقَوله: {وَالله يعلم مَا تَصْنَعُونَ} أَي: تَفْعَلُونَ.(4/184)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب الَّذين قبلوا الْجِزْيَة إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن، وَقَوله: {إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم} المُرَاد بهم على هَذَا القَوْل أهل الْحَرْب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: {وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ مِنْهُم، وَمعنى النَّهْي عَن المجادلة مَعَهم بعد إِيمَانهم، هُوَ أَنهم كَانُوا يخبرون عَن أَشْيَاء فِي كتبهمْ لم يعلمهَا الْمُؤْمِنُونَ، [فَنهى] عَن مجادلتهم فِيهَا، فلعلها صَحِيحَة.
وَقَوله: {إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم} هم الَّذين لم يُؤمنُوا. وَعَن قَتَادَة قَالَ: الْآيَة(4/184)
@
{بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم وإلهنا وإلهكم وَاحِد وَنحن لَهُ مُسلمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُم الْكتاب يُؤمنُونَ بِهِ وَمن هَؤُلَاءِ من يُؤمن بِهِ وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كنت تتلو من قبله من كتاب وَلَا تخطه بيمينك} مَنْسُوخَة بِآيَة السَّيْف.
وَقَوله: {وَقُولُوا آمنا بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم} (رُوِيَ عَن النَّبِي هم أَنه قَالَ: " إِذا أخْبركُم أهل الْكتاب بِشَيْء لم تعرفوه فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تكذبوهم، وَلَكِن قُولُوا: {آمنا بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم} وإلهنا وإلهكم وَاحِد وَنحن لَهُ مُسلمُونَ ") ".(4/185)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب} أَي: كَمَا بعثناك بِالْحَقِّ أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب.
وَقَوله: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُم الْكتاب يُؤمنُونَ بِهِ} أَي: يصدقون بِهِ، وَقَوله: {وَمن هَؤُلَاءِ من يُؤمن بِهِ} أَي: وَمن الْمُشْركين من يصدق بِهِ، فَقَوله: {هَؤُلَاءِ} إِشَارَة إِلَى الْمُشْركين الَّذين كَانُوا بِمَكَّة.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(4/185)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كنت تتلو من قبله من كتاب} أَي: من قبل بعثنَا إياك، وإنزال الْقُرْآن عَلَيْك.
وَقَوله: {وَلَا تخطه بيمينك} أَي: لم تكن تقْرَأ وَلَا تكْتب.
وَقَوله: {إِذا لارتاب المبطلون} أَي: إِذا لشك الْكَافِرُونَ لَو قَرَأت وكتبت، أما أهل الشّرك وَكَانُوا يَزْعمُونَ أَنه قَرَأَ من كتب الْأَوَّلين وانتسخ مِنْهَا، وَأما أهل الْكتاب فقد(4/185)
{إِذا لارتاب المبطلون (48) بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَات من ربه قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله} كَانَ من نَعته فِي كتبهمْ أَنه أُمِّي لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب، فَلَو قَرَأَ وَكتب وَقع لَهُم الشَّك.
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: لم يخرج النَّبِي من الدُّنْيَا حَتَّى كتب وَقَرَأَ. وَهُوَ قَول ضَعِيف لَا يعْتَمد عَلَيْهِ، [وأظن] أَنه لَا يَصح عَن الشّعبِيّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَالما كَبِيرا.(4/186)
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
قَوْله تَعَالَى: {بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم} أَي: الْقُرْآن آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أَن مُحَمَّدًا ذُو آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " (إِن الله تَعَالَى) قَالَ لي: بَعَثْتُك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عَلَيْك كتابا لَا يغسلهُ المَاء، تَقْرَأهُ نَائِما ويقظانا " وَهُوَ إِشَارَة إِلَى مَا بَينا أَن الْقُرْآن فِي صُدُور الْمُؤمنِينَ لَا ينسخه وَلَا يغسلهُ شَيْء.
وَقَوله: {وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} أَي: الْكَافِرُونَ.(4/186)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
قَوْله: {وَقَالُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه} يَعْنِي: مثل مَا أنزل على عِيسَى من الْمَائِدَة، وَأعْطِي صَالح من النَّاقة، ومُوسَى من الْيَد والعصا {قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله} يَعْنِي: إِن الْآيَات عِنْد الله يُعْطِيهَا بمشيئته وإرادته.
وَقَوله: {وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين} قد بَينا. وَاعْلَم أَن الله تَعَالَى قد أعْطى رَسُوله مُحَمَّدًا المعجزات الْكَثِيرَة، وَلكنه لم يُعْطه على مَا اقترحوا، وَقد كَانُوا يطْلبُونَ أَن تكون الْآيَات على وفْق إقتراحاتهم.(4/186)
{وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين (50) أَو لم يَكفهمْ أَنا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب يُتْلَى عَلَيْهِم إِن فِي ذَلِك لرحمة وذكرى لقوم يُؤمنُونَ (51) قل كفى بِاللَّه بيني وَبَيْنكُم شَهِيدا يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالَّذين آمنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفرُوا بِاللَّه أُولَئِكَ هم الخاسرون (52) }(4/187)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يَكفهمْ} الْكِفَايَة: بُلُوغ (غَايَة) تنَافِي الْحَاجة.
وَقَوله: {إِنَّا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب} أَي: الْقُرْآن.
وَقَوله: {يُتْلَى عَلَيْهِم} أَي: يقْرَأ عَلَيْهِم.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لرحمة} أَي: لنعمة لمن آمن بِهِ.
وَقَوله: {وذكرى} أَي: موعظة وتذكيرا، وَقد بَينا وَجه الإعجاز فِي الْقُرْآن من حَيْثُ النّظم وَالْمعْنَى والإخبار عَن الغيوب وَغَيره.(4/187)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
قَوْله تَعَالَى: {قل كفى بِاللَّه بيني وَبَيْنكُم شَهِيدا} الشَّهَادَة: خبر عَن مُشَاهدَة يَبْنِي عَلَيْهِ حكم شَرْعِي، وَالله تَعَالَى شَهِيد على أَفعَال الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار جَمِيعًا.
وَقَوله: {يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: {وَالَّذين آمنُوا بِالْبَاطِلِ} أَي: بِغَيْر الله. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " أصدق كلمة قَالَت الْعَرَب قَول لبيد:
(أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل ... وكل نعيم لَا محَالة زائل)
ثمَّ قَالَ: إِلَّا نعيم الْجنَّة ".
وَاعْلَم أَن الْإِيمَان إِذا أطلق يُرَاد بِهِ الْإِيمَان بِاللَّه، وَإِذا قيد يجوز أَن يُقَال: آمن بإبليس، وآمن بالطاغوت، وَمَا أشبه ذَلِك، وَهَذَا كَمَا إِذا قيل: فلَان قَائِم، وَأطلق يُرَاد(4/187)
{ويستعجلونك بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أجل مُسَمّى لجاءهم الْعَذَاب وليأتينهم بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ (53) يستعجلونك بِالْعَذَابِ وَإِن جَهَنَّم لمحيطة بالكافرين (54) يَوْم} بِهِ المتصف، فَإِذا قيل: يجوز أَن يُقَال: قَائِم بِالتَّدْبِيرِ قَائِم بِالْملكِ. وَقَالَ يحيى بن سَلام: الْبَاطِل هَاهُنَا: إِبْلِيس.
وَقَوله: {وَكَفرُوا بِاللَّه} أَي: جَحَدُوا بِاللَّه.
وَقَوله: {وَأُولَئِكَ هم الخاسرون} الخاسرون: من خسر رَأس المَال، فالكفار لما فعلوا فعلا عرضوا أنفسهم للهلاك سماهم الله خاسرين.(4/188)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
قَوْله تَعَالَى: {ويستعجلونك بِالْعَذَابِ} قد بَينا أَن النَّضر بن الْحَارِث قَالَ: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء} الْآيَة فَهَذَا هُوَ الاستعجال بِالْعَذَابِ.
وَقَوله: {وَلَوْلَا أجل مُسَمّى} أَي: وعد الْقِيَامَة، وَقيل: النفخة فِي الصُّور وَيُقَال: الْوَقْت الَّذِي عين لعذابهم.
وَقَوله: {لجاءهم الْعَذَاب وليأتينهم بَغْتَة} أَي: فَجْأَة {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ بمجيئها. وَفِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الرجل ليرْفَع لقمته فَلَا يَضَعهَا فِي فِيهِ حَتَّى تقوم السَّاعَة ".(4/188)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)
وَقَوله تَعَالَى: {يستعجلونك بِالْعَذَابِ} يُقَال: المُرَاد بِهِ هُوَ المُرَاد بِالْآيَةِ الأولى، أَعَادَهُ للتَّأْكِيد، وَقيل: إِن هَذِه الْآيَة نزلت على قوم من جهال هَذِه الْأمة، وَالْقَوْل الأول أولى.
وَقَوله: {وَإِن جَهَنَّم لمحيطة بالكافرين} أَي: جَامِعَة لعذابهم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: لَا بُد أَن يدخلوها.(4/188)
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يَغْشَاهُم الْعَذَاب من فَوْقهم} يَعْنِي: يصيبهم الْعَذَاب من(4/188)
{يَغْشَاهُم الْعَذَاب من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم وَيَقُول ذوقوا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (55) يَا عبَادي الَّذين آمنُوا إِن أرضي وَاسِعَة فإياي فاعبدون (56) كل نفس ذائقة الْمَوْت ثمَّ} فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى: {لَهُم من فَوْقهم ظلل من النَّار وَمن تَحْتهم ظلل}
وَقَوله: {وَيَقُول ذوقوا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} قد بَينا معنى الذَّوْق من قبل.
وَقَوله: {مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: جَزَاء بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ.(4/189)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
قَوْله تَعَالَى: {يَا عبَادي الَّذين آمنُوا إِن أرضي وَاسِعَة} قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فِي هَذِه الْآيَة: كَانُوا إِذا ظَهرت الْمعْصِيَة بِأَرْض خَرجُوا مِنْهَا. وَعَن سعيد بن جُبَير وَعَطَاء أَنَّهُمَا قَالَا: إِذا أمرت بالمعصية فِي (بَلْدَة) فَأخْرج مِنْهَا (وَفِي رِوَايَة: " إِذا ظَهرت الْمعْصِيَة فِي بَلْدَة فَأخْرج مِنْهَا) .
وَذكر أهل الْعلم أَنه إِذا لم يُمكنهُ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر خرج أَيْضا، وَالْآيَة نزلت فِي قوم تخلفوا عَن الْهِجْرَة بِمَكَّة، وَقَالُوا: نخشى إِن هاجرنا من الْجُوع وضيق الْمَعيشَة؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَلم يعذرهم فِي ترك الْخُرُوج، وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {إِن أرضي وَاسِعَة} أَي: رِزْقِي وَاسع، ذكره مطرف ابْن عبد الله ابْن الشخير.
وَقَوله: {فإياي فاعبدون} أَي: وحدوني وأطيعوني.(4/189)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)
قَوْله: {كل نفس ذائقة الْمَوْت} مَعْنَاهُ: أَن تخلفهم (عَن) الْهِجْرَة لَا ينجيهم من الْمَوْت، وَقد روى جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ " أَن النَّبِي(4/189)
{إِلَيْنَا ترجعون (57) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنبوئنهم من الْجنَّة غرفا تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا نعم أجر العاملين (58) الَّذين صَبَرُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} لما توفى سمعُوا حس شخص وَلم يروه، وَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم أهل الْبَيْت وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته {كل نفس ذائقة الْمَوْت} الْآيَة، إِن فِي الله عزاء من كل مُصِيبَة، وخلفا من كل هَالك، ودرجا من كل فَائت، أَلا بِاللَّه فثقوا، وإياه فارجوا، والمصاب من حرم الثَّوَاب ".
وَقَوله: {ثمَّ إِلَيْنَا ترجعون} أَي: تردون.(4/190)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنبوئنهم من الْجنَّة غرفا} أَي: لنسكننهم من الْجنَّة غرفا، أَي: علالي، وروى أَبُو مَالك الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " إِن لله غرفا فِي الْجنَّة، يرى ظُهُورهَا من بطونها، وبطونها من ظُهُورهَا، قيل: لمن هِيَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: لما أطاب الْكَلَام، وَأطْعم الطَّعَام، وَصلى بِاللَّيْلِ وَالنَّاس نيام ".
وَقُرِئَ: " لنثوينهم " والثوى هُوَ الْإِقَامَة، والتبوؤ هُوَ النُّزُول فِي الْموضع الَّذِي يسكن فِيهِ، وَفِي أَخْبَار الْجَاهِلِيَّة: أَن المهلهل لما قتل ابْن الْحَارِث بن عباد فِي حَرْب بكر وتغلب قَالَ: تبوء بشسع نعل كُلَيْب.
وَمن الْمَعْرُوف عَن الْحُسَيْن أَنه قَالَ لِلْحسنِ فِي قتل أبي ملجم: لَا تَجْعَلهُ ثوى بأبينا أَي: لَا ننزله منزلَة أَبينَا.
وَقَوله: {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا نعم أجر العاملين} أَي: العاملين بِالطَّاعَةِ.(4/190)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
قَوْله تَعَالَى: { [الَّذين] صَبَرُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} أَي: صَبَرُوا على(4/190)
( {59) وكأين من دَابَّة لَا تحمل رزقها الله يرزقها وَإِيَّاكُم وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} الشدائد، وَقَوله: {وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} أَي: يعتمدون.(4/191)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
قَوْله تَعَالَى: {وكأين من دَابَّة} أَي: وَكم من حَيَوَان يدب على الأَرْض.
وَقَوله: {لَا تحمل رزقها} أَي: لَا تحمل رزقها مَعهَا، وَقيل: لَا تدخر رزقها للغد.
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَالْمَعْرُوف أَنه عَن سُفْيَان الثَّوْريّ: " لَيْسَ من الْحَيَوَان مَا يدّخر شَيْئا للغد سوى ابْن آدم والفأرة والنملة والعقعق. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن المُرَاد من قَوْله: {وكأين من دَابَّة لَا تحمل رزقها} أَي: مُحَمَّد: وَكَانَ لَا يدّخر شَيْئا للغد، وَقد ثَبت بِرِوَايَة أنس: " أَن النَّبِي كَانَ لَا يدّخر شَيْئا لغد ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مَنْصُور بكر بن مُحَمَّد بن حميد النَّيْسَابُورِي بِبَغْدَاد من لَفظه، أخبرنَا أَبُو الْحسن الْخفاف، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس السراج، عَن قُتَيْبَة، عَن جَعْفَر بن سُلَيْمَان الضبعِي، عَن ثَابت، عَن أنس ... الْخَبَر.
وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة ابْن عمر أَنه قَالَ: " دخلت مَعَ رَسُول الله يلتقط التَّمْر ويأكله، فكدت لَا آكله، فَقَالَ لي: أَلا تَأْكُله يَا ابْن عمر؟ فَقلت: لَا أشتهيه. فَقَالَ: لكني أشتهيه، وَهَذَا صبح رَابِع أربعو أَيَّام وَلم أذق طَعَاما، وَلَو طلبت من الله لأعطاني مثل ملك كسْرَى وَقَيْصَر، ثمَّ قَالَ: كَيفَ بك يَا ابْن عمر إِذا بقيت فِي قوم يدخرون الرزق لسنتهم، ويضعف الْيَقِين؟ ! قَالَ: فَلم نَبْرَح من ذَلِك الْموضع حَتَّى أنزل الله تَعَالَى: {وكأين من دَابَّة لَا تحمل رزقها} . " وَالْخَبَر غَرِيب.(4/191)
( {60) وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر ليَقُولن الله فَأنى يؤفكون (61) الله يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَهُ إِن الله بِكُل شَيْء عليم (62) وَلَئِن سَأَلتهمْ من نزل من السَّمَاء مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض من بعد مَوتهَا ليَقُولن الله}
وَقَوله: {الله يرزقها وَإِيَّاكُم} يَعْنِي: يرْزق تِلْكَ الدَّابَّة وَإِيَّاكُم.
وَقَوله: {وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى، وَمن الْمَشْهُور عَن النَّبِي قَالَ: " لَو توكلتم على الله حق توكله، لرزقتم كَمَا ترزق الطير، تَغْدُو خماصا، وَتَروح بطانا ".
وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " إِن روح الْقُدس نفث فِي روعي، أَن لن تَمُوت نفس حَتَّى تستكمل رزقها، فَاتَّقُوا الله وأجملوا فِي الطّلب ".(4/192)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر} أَي: وذلل الشَّمْس وَالْقَمَر.
وَقَوله: {ليَقُولن الله فَأنى يؤفكون} أَي: يصرفون عَن الْحق.(4/192)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
قَوْله تَعَالَى: {الله يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَهُ} أَي: يُوسع على من يَشَاء، ويضيق على من يَشَاء.
وَقَوله: {إِن الله بِكُل شَيْء عليم} ظَاهر الْمَعْنى.(4/192)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من نزل من السَّمَاء مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض من بعد مَوتهَا ليَقُولن الله قل الْحَمد لله} يَعْنِي: على أَن الْفَاعِل لهَذِهِ الْأَشْيَاء هُوَ الله.(4/192)
{قل الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ (63) وَمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لَهو وَلعب وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان لَو كَانُوا يعلمُونَ (64) فَإِذا ركبُوا فِي الْفلك دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر إِذا هم يشركُونَ (56) ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم وليتمتعوا فَسَوف يعلمُونَ (66) أَو لم يرَوا أَنا جعلنَا حرما آمنا وينخطف النَّاس من}
وَقَوله: {بل أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ أَن الْفَاعِل لهَذِهِ الْأَشْيَاء هُوَ الله تَعَالَى.(4/193)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لَهو وَلعب} اللَّهْو هُوَ الِاسْتِمْتَاع بلذات الدُّنْيَا، وَسمي لهوا؛ لِأَنَّهَا فانية بِخِلَاف لذات الْآخِرَة.
وَقَوله: {وَلعب} أَي: وعبث، وَيُقَال: إِنَّمَا سمي ذَلِك لهوا وَلَعِبًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يسْتَعْمل بهَا من لَا يتفكر فِي العواقب.
وَقَوله: {وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان} أَي: لهي الْحَيَاة الدائمة. وَقَالَ أهل اللُّغَة: الْحَيَوَان والحياة بِمَعْنى وَاحِد، يحْكى هَذَا عَن أبي عُبَيْدَة وَأبي. وَمعنى الْآيَة: أَن فِي الْآخِرَة الْحَيَاة الدائمة.
وَقَوله: {لَو كَانُوا يعلمُونَ} أَي: لَو كَانُوا يعلمُونَ أَن الدُّنْيَا تفنى، وَالْآخِرَة تبقى.(4/193)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا ركبُوا فِي الْفلك دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} أَي: دعوا الله وَتركُوا دُعَاء الْأَصْنَام، وَحكي عَن عِكْرِمَة قَالَ: لَو كَانُوا يركبون الْبَحْر ويحملون أصنامهم مَعَهم، فَإِذا هَاجَتْ الْبَحْر وخافوا الْغَرق، طرحوا أصنامهم فِي الْبَحْر، وقواول: يَا رب، يَا رب.
وَقَوله: {فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر إِذا هم يشركُونَ} أَي: عَادوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ.(4/193)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
وَقَوله: {ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم وليتمتعوا فَسَوف يعلمُونَ} على طَرِيق التهديد.(4/193)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
وَقَوله: {أَو لم يرَوا أَنا جعلنَا حرما آمنا} أَي: ذَا أَمن، وَقَوله: {وَيُتَخَطَّف النَّاس من حَولهمْ} الاختطاف هُوَ الاستلاب بِسُرْعَة، وَقد بَينا هَذَا الْمَعْنى من قبل.(4/193)
{حَولهمْ أفبالباطل يُؤمنُونَ وبنعمة الله يكفرون (67) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بِالْحَقِّ لما جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ (68) وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا وَإِن الله لمع الْمُحْسِنِينَ (69) }
وَقَوله: {أفبالباطل يُؤمنُونَ} يَعْنِي: أفغير الله يُؤمنُونَ؟ وَهُوَ لفظ اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار.
وَقَوله: {وبنعمة الله يكفرون} أَي: يجحدون.(4/194)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا} أَي: كذب على الله، وَادّعى أَنه أنزل مَا لم ينزله.
وَقَوله: {أَو كذب بِالْحَقِّ لما جَاءَهُ} يَعْنِي: الْقُرْآن، وَقيل: مُحَمَّدًا.
وَقَوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ} أَي: مقَام ومستقر للْكَافِرِينَ.(4/194)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين جاهدوا فِينَا} رُوِيَ عَن الْحسن أَنه قَالَ: أفضل الْجِهَاد مُخَالفَة الْهوى. وَيُقَال: الْجِهَاد هَاهُنَا هُوَ الْعَمَل بِمَا علمه، وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ لإِبْرَاهِيم بن أدهم: أَلا تَأْتِينَا فَتَتَعَلَّمُ منا؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعت حديثين فَإِذا فرغت مِنْهُمَا تعلمت الثَّالِث، ثمَّ رُوِيَ بِإِسْنَاد أَن النَّبِي قَالَ: " من زهد فِي الدُّنْيَا نور الله قلبه ".
وَيُقَال: المجاهدة: هُوَ الصَّبْر على الطَّاعَات وَاجْتنَاب الْمعاصِي، وَيُقَال: قتال الْكفَّار، وَيُقَال: تَحْقِيق الْإِخْلَاص فِي الْأَعْمَال، وَهُوَ حَقِيقَة قَوْله تَعَالَى: {فِينَا} .
وَقَوله: {لنهدينهم سبلنا} لنزيدنهم هدى، وَيُقَال: لنرشدهم إِلَى (الطّرق) المستقيمة، والطرق المستقيمة هِيَ الَّتِي توصل إِلَى رضى الله تَعَالَى. وَعَن ابْن الْمُبَارك أَنه قَالَ: قَالَ لي سُفْيَان بن عُيَيْنَة: إِذا اخْتلف النَّاس فَعَلَيْك بِمَا قَالَه لأهل الْجِهَاد والثغور، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا} .
وَقَوله: {وَإِن الله لمع الْمُحْسِنِينَ} أَي: بالنصرة والمعونة.(4/194)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{الم (1) غلبت الرّوم (2) فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) فِي}
تَفْسِير سُورَة الرّوم
وَهِي مَكِّيَّة(4/195)
الم (1)
قَوْله تَعَالَى: {الم} قد بَينا، ولأصح أَن مَعْنَاهُ هَاهُنَا هُوَ الْقسم.(4/195)
غُلِبَتِ الرُّومُ (2)
وَقَوله: {غلبت الرّوم} أَي: قد غلبت الرّوم، فَوَقع الْقسم على هَذَا، وَقد تحذف قد عِنْد أهل اللُّغَة فِي الْكَلَام، قَالَ الشَّاعِر:
(أكلفتني ذَنْب امْرِئ وَتركته ... كذى العر [يكوي] غَيره وَهُوَ راتع)
أَي: لقد كلفتني.(4/195)
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
وَقَوله: {فِي أدنى الأَرْض} الْأَدْنَى بِمَعْنى الْأَقْرَب، وَمَعْنَاهُ: الْأَدْنَى إِلَى أَرض فَارس من أَرض الرّوم، قَالَ مُجَاهِد. هِيَ لجزيرة، وَهِي بِلَاد بَين دجلة والفرات تسمى الجزيرة مِنْهَا حران، ورحبة مَالك بن طوق، والرقة، والرهى، وَغير ذَلِك.
وَقَوله: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون} مَعْنَاهُ: أَن الرّوم من بعد غَلَبَة فَارس عَلَيْهِم سيغلبون. فَإِن قيل: قَالَ: {من بعد غلبهم} وهم غلبوا وَلم يغلبوا؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: ذكر غلبتهم، وَالْمرَاد مِنْهُ غَلَبَة غَيرهم عَلَيْهِم، وَإِنَّمَا أضَاف الْغَلَبَة إِلَيْهِم لاتصال تِلْكَ الْغَلَبَة بهم، واتصال الْغَلَبَة بهم وُقُوع الْغَلَبَة عَلَيْهِم، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {ويطعمون الطَّعَام على حبه} وَالطَّعَام لَا يكون صَاحب الْحبّ، وَإِنَّمَا الْإِنْسَان هُوَ صَاحب الْحبّ، وَلَكِن إِضَافَة إِلَى الطَّعَام لاتصال الْحبّ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَذَلِكَ لمن خَافَ مقَامي وَخَافَ وَعِيد} وَالْمقَام للْعَبد إِلَّا أَنه [أَضَافَهُ] إِلَى الله؛(4/195)
{بضع سِنِين لله الْأَمر من قبل وَمن بعد ويومئذ يفرح الْمُؤْمِنُونَ (4) بنصر الله ينصر} لِأَنَّهُ يقوم بَين يَدي الله، فيتصل بِاللَّه من هَذَا الْوَجْه.(4/196)
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
وَقَوله: {فِي بضع سِنِين} فِي الْبضْع قَولَانِ: أَحدهمَا: من الْوَاحِد إِلَى الْعشْر، وَالْقَوْل الثَّانِي: من الثَّلَاث إِلَى السَّبع.
وَكَذَلِكَ اخْتلف القَوْل فِي النيف، فَمنهمْ من قَالَ: من الْوَاحِد إِلَى الثَّلَاث، وَمِنْهُم من قَالَ: من الْوَاحِد إِلَى الْعَاشِر.
وَأما سَبَب نزُول الْآيَة فروى سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس: " أَنه كَانَ بَين فَارس وَالروم قتال قَائِم، فَكَانَ الْمُشْركُونَ يُؤْذونَ أَن تغلب فَارس الرّوم، والمسلمون يودون أَن تغلب الرّوم فَارس، لأَنهم كَانُوا أهل الْكتاب، قَالَ: فغلب فَارس الرّوم مرّة، فشمت الْمُشْركُونَ بِالْمُسْلِمين، وَقَالُوا: إِنَّا سنغلبكم كَمَا غلبت فَارس الرّوم، فجَاء الْمُسلمُونَ إِلَى النَّبِي وَذكروا لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: أما إِن الرّوم سيغلبون فَارس. فَقَالَ أَصْحَاب النَّبِي: مَتى ذَلِك؟ فَقَالَ: إِلَى بضع سِنِين، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
قَالَ: فجَاء أَبُو بكر إِلَى أبي بن خلف، وَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: وَالله لَا تغلب الرّوم فَارس أبدا، ثمَّ قَالَ لأبي بكر: أخاطرك؟ قَالَ: نعم فخاطره على قَلَائِص من الْإِبِل. وَاخْتلفُوا فِي عدد القلائص مِنْهُم من قَالَ: كَانَ سِتا، وَقيل: كَانَ سبعا. وَقيل: غير ذَلِك، ووضعا الْمدَّة إِلَى خمس سِنِين.
قَالَ قَتَادَة: وَكَانَ ذَلِك فِي وَقت لم يكن حوم الْقمَار بعد.
فجَاء أَبُو بكر إِلَى النَّبِي، وَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: يَا أَبَا بكر، زد(4/196)
{من يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم (5) وعد الله لَا يخلف الله وعده وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا} فِي الْخطر، وَأبْعد فِي الْأَجَل " فَزَاد فِي عدد القلائص، وَجعل الْمدَّة إِلَى سبع سِنِين ". ثمَّ إِن الرّوم ظَهرت على فَارس، واسترجعوا ديار الجزيرة وَالشَّام وَغير ذَلِك من فَارس، وَكَانَ فَارس قد استولوا على الْكل، وَأخذُوا صليبهم الْأَعْظَم، فاستردوا هَذِه الديار، واستردوا صليبهم، وهزموا فَارس.
وَاخْتلفُوا فِي وَقت ذَلِك، مِنْهُم من قَالَ: كَانَ يَوْم بدر، وَمِنْهُم من قَالَ: كَانَ عَام الْحُدَيْبِيَة.
وَفِي بعض التفاسير: أَن أَبَا بكر لما قصد الْهِجْرَة جَاءَ إِلَى أبي بن خلف، وَطلب مِنْهُ كَفِيلا بالقلائص، فكفل بهَا ابْنه عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، ثمَّ لما خرج أبي بن خلف إِلَى أحد طلب عبد الرَّحْمَن مِنْهُ كَفِيلا، فكفل بالقلائص ابْنه، ثمَّ انه لما ظَهرت الرّوم على فَارس أَخذ أَبُو بكر القلائص.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن الْمدَّة كَانَت إِلَى خمس سِنِين لَا زِيَادَة، وَمَضَت الْخمس وَلم تغلب الرّوم على فَارس، واخذ أبي بن خلف القلائص، ثمَّ بعد ذَلِك ظَهرت الرّوم على فَارس.
وَهَذِه الْآيَة من معجزات النَّبِي؛ لِأَنَّهُ أخبر عَن غيب لَا يُعلمهُ إِلَّا الله، وَكَانَ الْأَمر على مَا أخبر.
وَقَوله: {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} أَي: من قبل غلبهم، وَمن بعد غلبهم.
وَقَوله: {ويومئذ يفرح الْمُؤْمِنُونَ بنصر الله} أَي: ينصر الله أهل الْكتاب على غير أهل الْكتاب، وَإِنَّمَا فرحوا بذلك لصدق وعد الله تَعَالَى؛ وَلِأَنَّهُم قَالُوا: كَمَا نصر الله أهل الْكتاب على غير أهل الْكتاب، وَكَذَلِكَ ينصرنا عَلَيْكُم.(4/197)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
وَقَوله: {ينصر من يَشَاء} أَي: من يَشَاء من عباده.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب على أمره، الْمُنعم على عباده.(4/197)
{يعلمُونَ (6) يعلمُونَ ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم عَن الْآخِرَة هم غافلون (7) أَو لم يتفكروا فِي أنفسهم مَا خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأجل مُسَمّى وَإِن كثيرا من النَّاس بلقاء رَبهم لكافرون (8) أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ}(4/198)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {وعد الله لَا يخلف الله وعده} أَي: هَذِه النُّصْرَة من وعد الله، وَلَا يخلف الله وعده {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} أَن وعد الله حق.(4/198)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {يعلمُونَ ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَمر مَعَايشهمْ ومعالجهم فِي الدُّنْيَا يَعْنِي: مَتى يزرعون وَمَتى يحصدون، وَمَتى يغرسون، وَمَتى يبنون. وَقَالَ الضَّحَّاك: بُنيان الدّور، وغرس الْأَشْجَار، وتشقيق الْأَنْهَار، وَعمل التِّجَارَات. وروى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِن أحدهم لينقد الدَّرَاهِم بِطرف ظفره، وَيذكر وَزنه فَلَا يُخطئ، وَهُوَ لَا يحسن أَن يُصَلِّي.
وَقَوله: {وهم عَن الْآخِرَة هم غافلون} فهم الأول ابْتِدَاء، وهم الثَّانِي ابْتِدَاء آخر، وَمَعْنَاهُ: أَنهم غافلون ساهون عَن الْآخِرَة.(4/198)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يتفكروا فِي أنفسهم مَا خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} أَي: للعدل، وَيُقَال: لإِقَامَة الْحق، وَقيل: للحق. وَقد رُوِيَ فِي بعض الْأَخْبَار: " أَن النَّبِي مر على قوم وهم يتفكرون، فَقَالَ: تَفَكَّرُوا فِي خلق الله، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الله ". وَهَذَا خبر غَرِيب.
وَقَوله: {وَأجل مُسَمّى} أَي: وَمُدَّة مُسَمَّاهُ، وَاخْتلفُوا فِي الْمدَّة المسماه، فَقَالَ بَعضهم: هِيَ السَّاعَة، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الْوَقْت الَّذِي قدر هلاكهم فِيهِ.
وَقَوله: {وَإِن كثيرا من النَّاس بلقاء رَبهم لكافرون} أَي: جاحدون، ولقاء رَبهم هُوَ الْبَعْث يَوْم الْقِيَامَة.(4/198)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم} يَعْنِي: الْأُمَم الَّذين مضوا.(4/198)
{كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم كَانُوا أَشد مِنْهُم قُوَّة وأثاروا الأَرْض وعمروها أَكثر مِمَّا عمروها وجاءتهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ الله ليظلمهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (9) ثمَّ كَانَ عَاقِبَة الَّذين أساؤوا السوأى أَن كذبُوا بآيَات الله وَكَانُوا بهَا يستهزءون}
وَقَوله: {كَانُوا أَشد مِنْهُم قُوَّة} أَي: أَكثر مِنْهُم قُوَّة.
وَقَوله: {وأثاروا الأَرْض} أَي: حرثوا الأَرْض.
وَقَوله: {وعمروها أَكثر مِمَّا عمروها} أَي: عمروا الأَرْض أَكثر مِمَّا عمرها أهل مَكَّة، فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لم يكن لأهل مَكَّة حرث.
وَقَوله: {وجاءتهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات.
وَقَوله: {فَمَا كَانَ الله ليظلمهم} أَي: لينقص حُقُوقهم، وَلَكنهُمْ نَقَصُوا وبخسوا حُقُوقهم.
[وَقَوله تَعَالَى: {وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} ] .(4/199)
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ كَانَ عَاقِبَة الَّذين أساءوا} أَي: كفرُوا، وَقَوله: {السوأى} هِيَ جَهَنَّم، ونعوذ بِاللَّه، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " ثمَّ كَانَ عَاقِبَة الَّذين أساءوا السوء ". وَقيل: السوأى: قبح الْعَاقِبَة.
وَمِنْه قَوْله: " سَوَاء ولود خير من حسناء عقيم ". يَعْنِي: قبيحة ولود خير من حسناء عقيم.(4/199)
( {10) الله يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون (11) وَيَوْم تقوم السَّاعَة يبلس المجرمون (12) وَلم يكن لَهُم من شركائهم شُفَعَاء وَكَانُوا بشركائهم كَافِرين (13) وَيَوْم تقوم السَّاعَة يَوْمئِذٍ يتفرقون (14) فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فهم فِي}
وَقَوله: {أَن كذبُوا بآيَات الله} أَي: لِأَن كذبُوا بآيَات الله.
وَقَوله: {وَكَانُوا بهَا يستهزئون} أَي: بآيَات الله يستهزئون.(4/200)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {الله يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون} ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا.(4/200)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم تقوم السَّاعَة يبلس المجرمون} أَي: ييأس المجرمون، وَيُقَال: (يسكتون) وتنقطع حجتهم، قَالَ الشَّاعِر:
(يَا صَاح هَل تعرف رسما مكرسا ... قَالَ نعم أعرفهُ وأبلسا)
وَقَالَ مُجَاهِد: يبلس المجرمون: يفتضحون. وَقيل: يتحيرون.(4/200)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)
وَقَوله: {وَلم يكن لَهُم من شركائهم شُفَعَاء} أَي: الْأَصْنَام الَّتِي اتَّخَذُوهَا شُرَكَاء لله.
وَقَوله: {وَكَانُوا بشركائهم كَافِرين} أَي: كفرُوا بالأصنام، وتبرءوا مِنْهَا يَوْم الْقِيَامَة، وَمعنى كَانُوا: صَارُوا.(4/200)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
قَوْله: {وَيَوْم تقوم السَّاعَة يَوْمئِذٍ يتفرقون} يَعْنِي: يتَمَيَّز أهل الْجنَّة من أهل النَّار، وَقيل مَعْنَاهُ: أَنه يفرق بَين أهل الْمعْصِيَة و [أهل] الطَّاعَة؛ فيعاقب أهل الْمعاصِي، وينعم على المطيعين، وَعَن قَتَادَة قَالَ: هُوَ افْتِرَاق لَا اجْتِمَاع بعده.(4/200)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فهم فِي رَوْضَة يحبرون} الرَّوْضَة: هِيَ لبستان الَّذِي هُوَ فِي غَايَة النضارة وَالْحسن.
قَالَ الطَّائِي:(4/200)
{رَوْضَة يحبرون (15) وَأما الَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا ولقاء الْآخِرَة فَأُولَئِك فِي الْعَذَاب محضرون (16) فسبحان الله حِين تمسون وَحين تُصبحُونَ (17) وَله الْحَمد}
((إِنَّمَا الْبشر رَوْضَة فَإِذا ... كَانَ [ربوة] فروضة وغدير))
قَوْله: {يحبرون} أَي: يكرمون وينعمون، وَمِنْه ثوب الْخِبْرَة لحسنة، وَعَن يحيى ابْن كثير قَالَ: يحبرون: هُوَ السماع فِي الْجنَّة. وَذكر ابْن قُتَيْبَة معنى قَوْله: {يحبرون} أَي: يسرون.(4/201)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
قَوْله تَعَالَى: {وَأما الَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا ولقاء لآخرة} أَي: الْبَعْث يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {فَأُولَئِك فِي الْعَذَاب محضرون} أَي: معذبون.(4/201)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)
قَوْله: {فسبحان الله} بَينا أَن سُبْحَانَ الله: تَنْزِيه الله، وتبرئته عَن كل سوء.
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: هُوَ اسْم مُمْتَنع لَا يَنْتَحِلهُ مَخْلُوق.
وَقَوله: {سُبْحَانَ الله} أَي: سبحوا الله، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كل سبْحَة فِي الْقُرْآن فَهِيَ فِي معنى الصَّلَاة.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن لنَبِيّ سُئِلَ عَن أفضل الْكَلَام فَقَالَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ ".
وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " كلمتان خفيفتان على اللِّسَان، ثقيلتان فِي الْمِيزَان، حبيبتان إِلَى الرَّحْمَن: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله الْعَظِيم ". وَهَذَا آخر خبر ذكره البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: حَدثنَا(4/201)
{فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وعشيا وَحين تظْهرُونَ (18) يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج} بِهَذَا الحَدِيث من لَفظهَا كَرِيمَة بنت أَحْمد بِمَكَّة، قَالَت: أخبرنَا أَبُو الْهَيْثَم، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة. . الْخَبَر.
وَفِي بعض الْآثَار: " أَن سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ صَلَاة أهل السَّمَوَات وَصَلَاة الْخلق كلهم ".
وَقَوله: {حِين تمسون} أَي: تدخلون فِي الْمسَاء.
وَقَوله: {وَحين تُصبحُونَ} أَي: تدخلون فِي الصَّباح.(4/202)
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
وَقَوله: {وَله الْحَمد فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} قَالَ الضَّحَّاك: الْحَمد لله رِدَاء الرَّحْمَن.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي لما رفع رَأسه من الرُّكُوع قَالَ: " سمع الله لمن حَمده، رَبنَا لَك الْحَمد، ملْء السَّمَوَات وملء الأَرْض، وملء مَا بَينهمَا، وملء مَا شِئْت من شَيْء بعد، أهل الثَّنَاء وَالْمجد، أَحَق مَا قَالَ العَبْد، وكلنَا لَك عبد، لَا مَانع لما أَعْطَيْت، وَلَا معطي لما منعت، وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد ".
وَقَوله: {وعشيا} أَي: صلوا لله عشيا.(4/202)
{الْمَيِّت من الْحَيّ ويحيي الأَرْض بعد مَوتهَا وَكَذَلِكَ تخرجُونَ (19) وَمن آيَاته أَن}
وَقَوله: {وَحين تظْهرُونَ} أَي: تدخلون فِي الظّهْر، وَفِي الْآيَة إِشَارَة إِلَى أَوْقَات الصَّلَاة الْخمس، فَقَوله: {حِين تمسون} إِشَارَة إِلَى صَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء، وَقَوله: {حِين تُصبحُونَ} إِشَارَة إِلَى صَلَاة الصُّبْح، وَقَوله: {وعشيا} إِشَارَة إِلَى صَلَاة الْعَصْر.
وَقَوله: {وَحين تظْهرُونَ} إِشَارَة إِلَى صَلَاة الظّهْر.(4/203)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
قَوْله تَعَالَى: {يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} قد بَينا مَعْنَاهُ من قبل؛ وَهُوَ إِخْرَاج الْبَيْضَة من الدَّجَاجَة، وَإِخْرَاج الدَّجَاجَة من الْبيض، وَإِخْرَاج الْكَافِر من الْمُؤمن، وَالْمُؤمن من الْكَافِر، وَغير ذَلِك.
وَقَوله: {ويحيي الأَرْض بعد مَوتهَا} أَي: كَمَا أَحْيَا الأَرْض بعد مَوتهَا كَذَلِك يُحْيِيكُمْ بعد موتكم، وَهُوَ معنى قَوْله: {وَكَذَلِكَ تخرجُونَ} .
وَقَالَ بَعضهم: يخرج البليد من الفطن، والفطن من البليد.
وروى الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عدي بن الْخِيَار: " أَن النَّبِي دخل على بعض نِسَائِهِ وَعِنْدهَا خالدة بنت الْأسود بن عبد يَغُوث: فَقَالَ: من هَذِه؟ قَالُوا: هِيَ خالدة بنت الْأسود بن يَغُوث. فَقَالَ: سُبْحَانَ الله! يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت، وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ "، وَكَانَت الْمَرْأَة صَالِحَة، وأبوها كَانَ كَافِرًا.(4/203)
{خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ إِذا أَنْتُم بشر تنتشرون (20) من آيَاته أَن خلق لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا لتسكنوا إِلَيْهَا وَجعل بَيْنكُم مَوَدَّة وَرَحْمَة إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون (21) وَمن آيَاته خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف أَلْسِنَتكُم وألوانكم إِن فِي ذَلِك}(4/204)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته أَن خَلقكُم من تُرَاب} أَي: خلق أصلكم من تُرَاب؛ وَهُوَ آدم صلوَات الله عَلَيْهِ.
وَقَوله: {ثمَّ إِذا أَنْتُم بشر تنتشرون} أَي: تجيئون وَتَذْهَبُونَ، وَيُقَال: (تنتشطون) .(4/204)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته أَن خلق لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ: خلق حَوَّاء من ضلع آدم، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: خلق من أمثالكم أَزْوَاجًا لكم، وَالنِّسَاء من جنس الرِّجَال؛ لأَنهم جَمِيعًا من بني آدم.
وَقَوله: {لتسكنوا إِلَيْهَا} هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَخلق مِنْهَا زَوجهَا ليسكن إِلَيْهَا} أَي: ليأنس بهَا.
وَقَوله: {وَجعل بَيْنكُم مَوَدَّة وَرَحْمَة} الْمَوَدَّة: الْحبّ والعطف، وَقد يتَّفق بَين الزَّوْجَيْنِ من الْعَطف والمودة مَا لَا يتَّفق بَين الْأَقَارِب. وَعَن مُجَاهِد وَالْحسن وَعِكْرِمَة أَنهم قَالُوا: الْمَوَدَّة: الوطئ، وَالرَّحْمَة: الْوَلَد.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون} التفكر: هُوَ طلب الْمَعْنى من الْأَشْيَاء فِيمَا يتَعَلَّق بِالْقَلْبِ.(4/204)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته أَن خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف أَلْسِنَتكُم وألوانكم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن اخْتِلَاف الْأَلْسِنَة هُوَ اخْتِلَاف اللُّغَات؛ فللفرس لُغَة، وللروم لُغَة، وللترك لُغَة، وللعرب لُغَة، وَمَا أشبه هَذَا. وَذكر كَعْب الْأَحْبَار أَن الله تَعَالَى قسم اثْنَتَيْنِ وَسبعين لُغَة بَين النَّاس، فلولد سَام [تسع عشرَة] لُغَة ولولد حام [سبع(4/204)
{لآيَات للْعَالمين (22) وَمن آيَاته منامكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وابتغاؤكم من فَضله إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يسمعُونَ (23) وَمن آيَاته يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا وَينزل من السَّمَاء مَاء} عشرَة] لُغَة، وَالْبَاقِي لولد يافث. وَأما اخْتِلَاف الألوان فَهُوَ أَن هَذَا أَحْمَر، وَهَذَا أسود، وَهَذَا أَبيض، مَا أشبه هَذَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن اخْتِلَاف الْأَلْسِنَة هُوَ اخْتِلَاف النغمات، فَلَا يتَّفق لاثْنَيْنِ نَغمَة وَاحِدَة، وَاخْتِلَاف الألوان مَعْلُوم بَين النَّاس، وَإِن كَانَ كلهم بيضًا أَو سُودًا، فَلَا يتَّفق لونان من جَمِيع الْوُجُوه. وَفِيه حِكْمَة عَظِيمَة، وَهُوَ أَنه لَو اتّفقت الألوان والأسنة [لبطل] التَّمْيِيز، فَلم يعرف الْأَب ابْنه، وَالِابْن أَبَاهُ، وَكَذَلِكَ فِي الْأُخوة والأزواج وَجَمِيع النَّاس.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات للْعَالمين} قَرَأَ حَفْص بن عَاصِم: " للْعَالمين " هُوَ جمع عَالم، وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: " للْعَالمين " يَعْنِي: الْجِنّ وَالْإِنْس وَجَمِيع الْخلق.(4/205)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته منامكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وابتغاؤكم من فَضله} أَي: منامكم بِاللَّيْلِ، وابتغاؤكم من فَضله بِالنَّهَارِ. وَيُقَال مَعْنَاهُ: وَمن آيَاته منامكم [واشتغالكم] من فضل الله بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يسمعُونَ} أَي: يسمعُونَ مَا يذكر لَهُم من هَذِه الْآيَات.(4/205)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته يريكم الْبَرْق} مَعْنَاهُ: من آيَاته أَنه يريكم الْبَرْق، وَقد بَينا وَجه القَوْل فِي الْبَرْق. وَعَن بَعضهم قَالَ: إِذا أبرقت السَّمَاء أَرْبَعِينَ برقة فَلَا يخلفه أَي: لَا يتَأَخَّر الْمَطَر، قَالَ الشَّاعِر:
(لَا يكن (برقا كبرق) خلبا ... إِن خير الْبَرْق [مَا] الْغَيْث مَعَه)(4/205)
{فيحيي بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ (24) وَمن آيَاته أَن تقوم السَّمَاء وَالْأَرْض بأَمْره ثمَّ إِذا دعَاكُمْ دَعْوَة من الأَرْض إِذا انتم تخرجُونَ (25) وَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون (26) وَهُوَ الَّذِي يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ وَهُوَ أَهْون}
وَقَوله: {خوفًا وَطَمَعًا} أَي: خوفًا للْمُسَافِر، وَطَمَعًا للحاضر، وَيُقَال: خوفًا من الصَّوَاعِق، وَطَمَعًا فِي الْغَيْث.
وَقَوله: {وَينزل من السَّمَاء مَاء فيحيي بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(4/206)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته أَن تقوم السَّمَاء وَالْأَرْض بأَمْره} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ: تَكُونَا بأَمْره، وَالْقَوْل الثَّانِي: يَدُوم قيامهما بأَمْره) . وَقد أَقَامَ السَّمَاء بِغَيْر عمد ودام ذَلِك إِلَى وقته الْمُسَمّى، وَهُوَ بأَمْره.
وَقَوله: {ثمَّ إِذا دعَاكُمْ دَعْوَة من الأَرْض} قيل: إِن الدعْوَة من صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس، وَيُقَال: هِيَ من السَّمَاء. والدعوة: هِيَ دَعْوَة إسْرَافيل.
وَقَوله: {من الأَرْض} أَي: يدعوكم أَن تخْرجُوا من الأَرْض، وَهَذَا على القَوْل الَّذِي يَقُول إِن الدعْوَة من السَّمَاء.
وَقَوله: {إِذا أَنْتُم تخرجُونَ} قد ذكرنَا.(4/206)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
قَوْله تَعَالَى: {وَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون} أَي: مطيعون، وَيُقَال: مقربون بالعبودية.
وَقَوله: {وَله} أَي: وَله ملكا وخلقا. فَإِن قيل: إِذا حملنَا الْقُنُوت على الطَّاعَة فَلَيْسَ كل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض يطيعونه! وَالْجَوَاب: أَنه لَيست الطَّاعَة هَاهُنَا بِمَعْنى طَاعَة الْعِبَادَة، إِنَّمَا الطَّاعَة هَاهُنَا بِمَعْنى الانقياد بذل كل شَيْء لما خلق لَهُ.(4/206)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يبْدَأ الْخلق} أَي: ينشئ الْخلق {ثمَّ يُعِيدهُ} أَي:(4/206)
{عَلَيْهِ وَله الْمثل الْأَعْلَى فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (27) ضرب لكم} يُحْيِيكُمْ بعد مَا يميتهم.
وَقَوله: {وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ} فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ} وَالله لَا يشْتَد عَلَيْهِ شَيْء؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: {وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ} أَي: هُوَ هَين عَلَيْهِ. وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " وَهُوَ عَلَيْهِ هَين ". قَالَ الفرزدق شعرًا:
(إِن الَّذِي سمك السَّمَاء بنى لنا ... بَيْتا دعائمه أعز وأطول)
((بَيت) زُرَارَة محتب بفنائه ... ومجاشع وَأَبُو الفوارس نهشل)
وَقَوله: أعز وأطول أَي عزيزة طَوِيلَة، وَقَالَ آخر:
(لعمرك لَا أَدْرِي وَإِنِّي لأوجل ... على أَيّنَا تعدو الْمنية أول)
أَي: (لوجل) . وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة أَن مَعْنَاهُ: وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ على مَا يَقع فِي عُقُولهمْ؛ فَإِن الَّذِي يَقع فِي عقول الْخلق أَن الْإِعَادَة أَهْون من الْإِنْشَاء، وَيُقَال مَعْنَاهُ: هُوَ أَهْون على الْخلق؛ لِأَن من ابْتَدَأَ شَيْئا مِمَّا يشق عَلَيْهِ، فَإِذا (أعَاد) ثَانِيًا يكون أسهل وأهون.
وَقَوله: {وَله الْمثل الْأَعْلَى} أَي: الصّفة الْأَعْلَى، وَالصّفة الْأَعْلَى أَنه لَا شريك لَهُ وَلَيْسَ كمثله شَيْء، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَقَالَ قَتَادَة: الصّفة الْأَعْلَى أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله.
وَقَوله: {فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} يَعْنِي: هَذِه صفة لَهُ عِنْد أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْعَزِيز من حَيْثُ الانتقام، الْحَكِيم من حَيْثُ التَّدْبِير.(4/207)
{مثلا من أَنفسكُم هَل لكم من مَا ملكت أَيْمَانكُم من شُرَكَاء فِي مَا رزقناكم فَأنْتم فِيهِ سَوَاء تخافونهم كخيفتكم أَنفسكُم كَذَلِك نفصل الْآيَات لقم يعْقلُونَ (28) بل اتبع الَّذين ظلمُوا أهواءهم بِغَيْر علم فَمن يهدي من أضلّ الله وَمَا لَهُم من ناصرين (29) }(4/208)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
قَوْله تَعَالَى: {ضرب لكم مثلا من أَنفسكُم} أَي: شبها من مثالكم، ثمَّ ذكر الشّبَه فَقَالَ: {هَل لكم من مَا ملكت أَيْمَانكُم من شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم} وَمَعْنَاهُ: هَل لكم فِي أَمْوَالكُم شُرَكَاء من عبيدكم يساونكم فِيهَا؟ فَإِذا لم ترضوا بِهَذَا لأنفسكم فَكيف ترضونه لي وتصفونني بِهِ؟ .
وَقَوله: {فِيمَا رزقناكم} أَي: فِيمَا أعطيناكم من الرزق وَالْمَال.
وَقَوله: {فَأنْتم فِيهِ سَوَاء} إِشَارَة إِلَى مَا قُلْنَا.
وَقَوله: {تخافونهم كخيفتكم أَنفسكُم} أَي: تخافون من مشاركتهم لكم فِي أَمْوَالكُم كَمَا تخافون من أمثالكم، وَهُوَ الشَّرِيك الْحر من الشَّرِيك الْحر، وَأَنْفُسكُمْ هُنَا بِمَعْنى أمثالكم، وَفِيه قَول آخر قَالَه سعيد بن جُبَير، وَهُوَ أَن الْآيَة نزلت فِي تَلْبِيَة الْمُشْركين، فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك لبيْك، لَا شريك لَك إِلَّا شَرِيكا هُوَ لَك، تملكه وَمَا ملك.
وَقَوله: {تخافونهم كخيفتكم أَنفسكُم} أَي: تخافونهم فِي اللائمة كَمَا تخافون لائمة أمثالكم.
وَقَوله: {كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يعْقلُونَ} أَي: ينظرُونَ إِلَى هَذِه الدَّلَائِل بعقولهم.(4/208)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {بل اتبع الَّذين ظلمُوا أهواءهم} الْأَهْوَاء جمع الْهوى، والهوى مَا يهواه الْإِنْسَان، وَعَن بَعضهم: الْهوى أعظم معبود.
وَقَوله: {بِغَيْر علم} أَي: اتبعُوا أهواءهم جهلا بِمَا لَا [يجب] عَلَيْهِم.
وَقَوله: {فَمن يهدي من أضلّ الله} أَي: أضلّهُ الله.(4/208)
{فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطرت الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل}
وَقَوله: {وَمَا لَهُم من ناصرين} أَي: يمنعهُم من عذابنا.(4/209)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
قَوْله تَعَالَى: {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا} أَي: أخْلص دينك لله، وَإِقَامَة الْوَجْه هُوَ إِقَامَة الدّين، وَقد بَينا معنى الحنيف.
وَقَوله: {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} أما نصب الْفطْرَة على الإغراء أَي: الزم فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا، وَاخْتلفُوا فِي هَذِه الْفطْرَة، فَمنهمْ من قَالَ: إِن الْفطْرَة هَاهُنَا بِمَعْنى الدّين.
وَقَوله: {فطر النَّاس عَلَيْهَا} أَي: خلق النَّاس عَلَيْهَا، وَيُقَال هَذَا القَوْل عَن ابْن عَبَّاس والكلبي وَمُقَاتِل وَغَيرهم. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ".
وَثَبت أَيْضا عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِيمَا يحْكى عَن ربه أَنه قَالَ: " خلقت عبَادي حنفَاء فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِين عَن دينهم ".
فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا على أصولكم، وعندكم أَن الله تَعَالَى خلق النَّاس صنفين: مُؤمنين، وكافرين؟ هَذِه الْآيَة وَالْأَخْبَار تدل على أَن الله تَعَالَى خلق عباده مُؤمنين؛ وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن الله تَعَالَى أخرج ذُرِّيَّة آدم من صلبه، وخاطبهم بقوله: {أَلَسْت بربكم} فأقروا بالعبودية وَالْإِيمَان، فَالنَّاس يولدون على ذَلِك، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن أهل الْعلم اخْتلفُوا فِي هَذَا، فَحكى النّحاس فِي تَفْسِيره عَن ابْن الْمُبَارك: أَن الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ خَاصَّة، وَحكى أَبُو (عبيد) فِي غَرِيب الحَدِيث عَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه قَالَ: هَذَا قبل نزُول الْأَحْكَام وَالْأَمر بِالْجِهَادِ، كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن الْآيَة مَنْسُوخَة، ثمَّ ذكر النّحاس أَن كلا الْمَعْنيين ضَعِيف.(4/209)
أما [مَا] ذكره ابْن الْمُبَارك فَهُوَ مُجَرّد تَخْصِيص، وَلَيْسَ عَلَيْهِم دَلِيل، وَأما مَا ذكره مُحَمَّد بن الْحسن فَهُوَ إِثْبَات النّسخ فِي الْأَخْبَار، وَالْأَخْبَار لَا يرد عَلَيْهَا النّسخ، وَالصَّحِيح فِي معنى الْآيَة وَالْخَبَر أَن معنى الْفطْرَة هُوَ أَن كل إِنْسَان يُولد على أَنه مَتى سُئِلَ: من خلقك؟ فَيَقُول: الله خلقني، هُوَ الْمعرفَة الَّتِي تقع فِي أصل الْخلقَة.
قَالَ أَبُو (عبيد) الْهَرَوِيّ: وَهُوَ معرفَة الغريزة والطبيعة، وَإِلَى هَذَا وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خَلقكُم ليقولون الله} وَبِهَذَا الْقدر لَا يحصل الْإِيمَان الْمَأْمُور بِهِ، فَالنَّاس خلقُوا على هَذِه الْفطْرَة، وَأما حَقِيقَة الْإِيمَان وَحَقِيقَة الْكفْر فَالنَّاس من ذَلِك على قسمَيْنِ على مَا ورد بِهِ الْكتاب وَالسّنة. قَالَ الزّجاج والنحاس: وَهَذَا قَول أهل السّنة. وَهَذَا القَوْل اخْتِيَار ابْن قُتَيْبَة أَيْضا.
وَقَوله: {لَا تَبْدِيل لخلق الله} على هَذَا القَوْل أَي: لَا أحد يرجع إِلَى نَفسه إِلَّا وَيعلم أَن لَهُ إِلَهًا وخالقا.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: هُوَ أَن فطْرَة الله هَاهُنَا بِمَعْنى دين الله، فالخلق يولدون على الْعَهْد الَّذِي أَخذ عَلَيْهِم يَوْم لميثاق، وَهُوَ فطْرَة الله، وَهَذَا القَوْل حُكيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ وَحَمَّاد بن سَلمَة.
وَقد ورد فِي الْخَبَر الَّذِي روينَا، وَهُوَ قَوْله: " كل مَوْلُود يُولد على افطرة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة بَهِيمَة هَل تُحِسُّونَ فِيهَا من جَدْعَاء "؟ ! قَالَ: اقْرَءُوا إِن شِئْتُم: {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} .
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث على الْفظ مُحَمَّد بن. عبد الله بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد، قَالَ: أخبرنَا أَبُو سهل عبد الصَّمد بن عبد الرَّحْمَن الْبَزَّار، أخبرنَا الغدافري، أخبرنَا الدبرِي، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي. . الحَدِيث.(4/210)
{لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (30) منيبين إِلَيْهِ واتقوه}
وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ مَا روى أَبُو عبيد الْهَرَوِيّ فِي الغريبين عَن ابْن الْمُبَارك قَالَ: قَوْله: " على الْفطْرَة " أَي: على ابْتِدَاء الْخلقَة الَّتِي فطر عَلَيْهَا الْإِنْسَان فِي الرَّحِم من سَعَادَة أَو شقاوة، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ يَعْنِي: فِي حكم الدُّنْيَا. وَقد صحّح كثير من أهل الْمعَانِي مَا ذَكرْنَاهُ من قبل، وَهُوَ أَن الْآيَة فِي الْمُسلمين خَاصَّة، وَهُوَ عُمُوم بِمَعْنى الْخُصُوص.
وَقَوله: {لَا تَبْدِيل لخلق الله} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: مَا بَينا من قبل، وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا تَبْدِيل لخلق الله أَي: لَا يَنْقَلِب السعيد شقيا، وَلَا الشقي سعيدا إِذا خلق على أَحدهمَا.
وَالْقَوْل الثَّالِث: لَا تَبْدِيل لخلق الله أَي: لَا أحد يَثِق مثل خلق الله، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا خَالق غَيره.
وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: لَا تَبْدِيل لخلق الله: هُوَ تَحْرِيم الإخصاء.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، مِنْهُم من حرم فِي الْكل، وَمِنْهُم من أَبَاحَ فِي جَمِيع الْبَهَائِم سوى الْآدَمِيّ، وَمِنْهُم من أَبَاحَ فِي جَمِيع الْبَهَائِم سوى الْفرس؛ لِأَن فِيهِ قطع النَّسْل، والنسل يقْصد فِي الْخَيل مَا لَا يقْصد فِي غَيره. وروى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " خير المَال سكَّة مأبورة، وَفرس مأمورة ". وَالسِّكَّة الْمَأْبُورَة هِيَ النّخل المصطفة الَّتِي قد أبرت، وَالْفرس الْمَأْمُورَة كَثِيرَة النِّتَاج.
وَأما إِذا حملنَا الْفطْرَة على الدّين فَقَوله: {لَا تَبْدِيل لخلق الله} خبر بِمَعْنى الْأَمر، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تبدلوا دين الله. وَقد ورد فِي الْخَيْر: الْفطْرَة بِمَعْنى كلمة الْإِسْلَام.
روى الْبَراء بن عَازِب أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا أَخذ أحدكُم مضجعه ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أسلمت نَفسِي إِلَيْك، وفوضت امري إِلَيْك، وألجأت ظَهْري إِلَيْك، لَا ملْجأ وَلَا منجا مِنْك إِلَّا إِلَيْك، آمَنت بكتابك الَّذِي أنزلت، وبنبيك الَّذِي أرْسلت، قَالَ: فَإِن مَاتَ مَاتَ على الْفطْرَة ".
وَقد وَردت الْفطْرَة بِمَعْنى السّنة، وَذَلِكَ فِي الْخَبَر الْمَعْرُوف عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " عشر من الْفطْرَة " أَي: من السّنة الْخَبَر.
وَقَوله: {ذَلِك الدّين الْقيم} أَي: الدّين الْمُسْتَقيم، وَيُقَال: الْحساب الْمُسْتَقيم.
وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى، وأنشدوا فِي الْفطْرَة قَول كَعْب بن مَالك شعرًا: (إِن تقتلونا فدين الله فطرتنا ... وَالْقَتْل فِي الْحق عِنْد الله تَفْضِيل)(4/211)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {منيبين إِلَيْهِ أَي: اتبعُوا دين الله {منيبين إِلَيْهِ} أَي: رَاجِعين [إِلَيْهِ] . قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: رَاجِعين إِلَى الله بصلاتكم وَأَعْمَالكُمْ. وَعَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ أَنه قَالَ: الْمُنِيب هُوَ الَّذِي يمشي على الأَرْض وَقَلبه عِنْد الله. فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {منيبين} وَقد خَاطب غب الِابْتِدَاء وَاحِدًا، وَهُوَ الرَّسُول بقوله: {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ، أَن قَوْله: {فأقم وَجهك} أَي: فأقم وَجهك وَأمتك مَعَك منيبين إِلَى الله، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: اتبعُوا الدّين الْقيم منيبين إِلَى الله.(4/211)
{وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين (31) من الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ (32) وَإِذا مس النَّاس ضرّ دعوا رَبهم منيبين إِلَيْهِ ثمَّ إِذا}
وَقَوله: {واتقوه وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين} أَي: الجاحدين.(4/213)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
قَوْله تَعَالَى: {من الَّذين فارقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا} أَي: تركُوا دينهم، وَقُرِئَ: " فرقوا دينهم " أَي: تفَرقُوا فِي دينهم. وَفِي الْآيَة أَقُول، أظهر الْأَقَاوِيل: أَن المُرَاد مِنْهُم الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
وَقد روى فِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الْيَهُود افْتَرَقُوا على إِحْدَى وَسبعين فرقة، وَالنَّصَارَى افْتَرَقُوا على اثْنَتَيْنِ وَسبعين فرقة، وَسَتَفْتَرِقُ أمتِي على ثَلَاث وَسبعين فرقة، كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة هم الْخَوَارِج، حكى هَذَا عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن المُرَاد من الْآيَة أهل الْأَهْوَاء والبدع، وَقد روى هَذَا فِي خبر مُسْند عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي قَالَ لَهَا: " إِن الَّذين فارقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا هم أهل الْأَهْوَاء والبدع من هَذِه الْأمة، يَا عَائِشَة، إِن لكل قوم تَوْبَة إِلَّا أهل الْأَهْوَاء والبدع فَلَيْسَ لَهُم تَوْبَة، أَنا مِنْهُم برِئ، وهم مني برَاء ".
وَقَوله: {كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ} أَي: راضون بِمَا عِنْدهم. وَقَالَ بعض أهل(4/213)
{أذاقهم مِنْهُ رَحْمَة إِذا فريق مِنْهُم برَبهمْ يشركُونَ (33) ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم فتمتعوا فَسَوف تعلمُونَ (34) أم أنزلنَا عَلَيْهِم سُلْطَانا فَهُوَ يتَكَلَّم بِمَا كَانُوا يشركُونَ (35) وَإِذا أذقنا النَّاس رَحْمَة فرحوا بهَا وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم إِذا هم يقنطون} اللُّغَة: الحزب بِمَعْنى النَّاصِر، قَالَ الشَّاعِر: (أم كَيفَ أخنوا وبلال حزبي ... ) أَي: ناصري(4/214)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا مس النَّاس ضرّ} أَي: شدَّة.
وَقَوله: {دعوا رَبهم منيبين إِلَيْهِ} أَي: منقلبين إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ، وَمَعْنَاهُ: أَنهم إِذا وَقَعُوا فِي الشدَّة تركُوا دُعَاء الْأَصْنَام، ودعوا الله وَحده.
وَقَوله: {ثمَّ إِذا أذاقهم مِنْهُ رَحْمَة} أَي: كشف الشدَّة عَنْهُم برحمته.
وَقَوله: {إِذا فريق مِنْهُم برَبهمْ يشركُونَ} أَي: عَادوا إِلَى رَأس شركهم.(4/214)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
قَوْله تَعَالَى: {ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم} قد بَينا من قبل.
وَقَوله: {فتمتعوا فَسَوف تعلمُونَ} صُورَة أَمر بِمَعْنى التهديد، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وليتمتعوا فَسَوف يعلمُونَ ".(4/214)
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
قَوْله تَعَالَى: {أم أنزلنَا عَلَيْهِم سُلْطَانا} أَي: حجَّة وعذرا، وَيُقَال: أم أنزلنَا عَلَيْهِم سُلْطَانا أَي: كتابا ينْطق بشركهم، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {فَهُوَ يتَكَلَّم بِمَا كَانُوا بِهِ يشركُونَ} .(4/214)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا أذقنا النَّاس رَحْمَة} أَي: الخصب وَكَثْرَة الْمَطَر، وَيُقَال: الْأَمْن والعافية.
وَقَوله: {فرحوا بهَا} الْفَرح هَاهُنَا فَرح البطر وَترك الشُّكْر.
وَقَوله: {إِن تصبهم سَيِّئَة} أَي: الجدب وَقلة الْمَطَر، وَيُقَال: الْخَوْف وَالْبَلَاء.(4/214)
( {36) أَو لم يرَوا أَن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (37) فَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه والمسكين وَابْن السَّبِيل ذَلِك خير للَّذين يُرِيدُونَ وَجه الله وَأُولَئِكَ هم المفلحون (38) وَمَا آتيتم من رَبًّا ليربو فِي أَمْوَال النَّاس فَلَا يَرْبُو عِنْد الله}
وَقَوله: {بِمَا قدمت أَيْديهم} يَعْنِي: من الذُّنُوب.
وَقَوله: {إِذا هم يقنطون} أَي: ييأسون، وَهَذَا عَلامَة غير الْمُؤمنِينَ، فَأَما عَلامَة الْمُؤمنِينَ فَهُوَ شكر الله عِنْد النِّعْمَة، ورجاء الْكَشْف عِنْد الشدَّة.(4/215)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
وَقَوله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا أَن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء} .
وَقَوله: {وَيقدر} أَي: يضيق.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ} أَي: يصدقون.(4/215)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
قَوْله تَعَالَى: {فَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد من إيتَاء ذِي الْقُرْبَى هَاهُنَا صلَة الرَّحِم بِالْعَطِيَّةِ والهدية، وَقَالَ قَتَادَة: من لم يُعْط قرَابَته، وَيَمْشي إِلَيْهِ برجليه فقد قطع رَحمَه. وَقد حمل بَعضهم الْآيَة على إِعْطَاء ذَوي قربى الرَّسُول.
قَوْله: {والمسكين} أَي: الطّواف.
وَقَوله: {وَابْن السَّبِيل} أَي: الْمُسَافِر، وَقيل: الضَّيْف.
وَقد صَحَّ أَن النَّبِي قَالَ: " من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَليُكرم ضَيفه ".
وروى عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ: " الضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام، وجائزته يَوْم وَلَيْلَة ".
قَالَ مَالك: وَمعنى الْجَائِزَة أَنه يتَكَلَّف لَهُ فِي يَوْم وَلَيْلَة، وَأما مَا سوى ذَلِك فَيقدم إِلَيْهِ مَا حضر.
وَقَوله: {ذَلِك خير للَّذين يُرِيدُونَ وَجه الله} أَي: يطْلبُونَ رضَا الله عَنهُ.
وَقَوله: {وَأُولَئِكَ هم المفلحون} أَي: الفائزون.(4/215)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتيتم من رَبًّا ليربوا فِي أَمْوَال النَّاس} أَكثر أهل التَّفْسِير أَن(4/215)
{وَمَا آتيتم من زَكَاة تُرِيدُونَ وَجه الله فَأُولَئِك هم المضعفون (39) الله الَّذِي خَلقكُم ثمَّ} المُرَاد من الْآيَة هُوَ أَن يُعْطي الرجل غَيره عَطِيَّة ليعطيه أَكثر مِنْهَا، وَهَذَا جَائِز للنَّاس أَن يَفْعَلُوا غير أَنه فِي الْقِيَامَة لَا يُثَاب عَلَيْهِ، فَهُوَ معنى قَوْله: {فَلَا يربوا عِنْد الله} وَقد كَانَ هَذَا الْفِعْل حَرَامًا على النَّبِي، قَالَ الله تَعَالَى لَهُ: {وَلَا تمنن تستكثر} أَي: لَا تعط وتطلب أَن تُعْطى أَكثر مِمَّا أَعْطَيْت. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: كَانَ الرجل يعْطى صديقه مَالا ليكْثر مَال الصّديق، وَلَا (يرد) بِهِ وَجه الله، فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم هَذِه الْآيَة. وَقُرِئَ " لتربوا فِي أَمْوَال النَّاس " من أَمْوَال النَّاس " فَلَا يربوا عِنْد الله " أَي: لَا يكثر عِنْد الله.
وَقَوله: {وَمَا آتيتم من زَكَاة} أَي: صَدَقَة.
وَقَوله: {تُرِيدُونَ وَجه الله} قد بَينا.
وَقَوله: {فَأُولَئِك هم المضعفون} أَي: ذُو الْأَضْعَاف.
تَقول الْعَرَب: الْقَوْم مسمنون ومهزلون وملبنون، وَالْمعْنَى مَا بَينا. قَالَ الشَّاعِر: ((يُخْبِرهُمْ على حذر وَقَالَت ... بنى (معلكم) بِظِل مسيف) أَي: ذُو سيف.(4/216)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي خَلقكُم ثمَّ رزقكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} الْآيَة ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: {هَل من شركائكم من يفعل من ذَلِكُم من شئ} أَي: مثل ذَلِكُم من شئ.
وَقَوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ} قد بَينا من قبل.(4/216)
{رزقكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ هَل من شركائكم من يفعل من ذَلِكُم من شَيْء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ (40) ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر بِمَا كسبت أَيدي النَّاس ليذيقهم بعض الَّذِي عمِلُوا لَعَلَّهُم يرجعُونَ (41) قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ}(4/217)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
قَوْله تَعَالَى: {ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر} فِي الْآيَة أَقُول: أَحدهَا: مَا روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْفساد فِي الْبر هُوَ قتل أحد ابْني آدم أَخَاهُ، وَالْفساد فِي الْبَحْر هُوَ غصب الْملك السَّفِينَة، فكلاهما فِي الْقُرْآن.
وَعَن الضَّحَّاك قَالَ: كَانَت الأَرْض خضرَة زهرَة نَضرة مؤنقة، وَكَانَ لَا يَأْتِي ابْن آدم شَجَرَة إِلَّا وجد عَلَيْهَا ثَمَرَة، وَكَانَ مَاء الْبَحْر عذبا، وَكَانَ لَا يقْصد الْأسد الْبَقر وَالْغنم، وَلَا السنور الْفَأْرَة، وَمَا أشبه ذَلِك، فَلَمَّا قتل أحد بني آدم أَخَاهُ اقشعرت الأَرْض وشاكت الْأَشْجَار، وَصَارَ مَاء الْبَحْر ملحا زعاقا، وَقصد الْحَيَوَانَات بَعْضهَا بَعْضًا.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة أَن المُرَاد من الْفساد فِي الْبر هُوَ الجدوبة والقحط، وَالْفساد فِي الْبَحْر قلَّة الْمَطَر، فَإِن قيل: وَأي فَسَاد بقلة الْمَطَر فِي الْبَحْر وَالْبر؟ قُلْنَا: أما فِي الْبر فظهور الشدَّة والقحط، وَأما فِي الْبَحْر فقد قَالُوا: إِنَّه إِذا لم يَأْتِ الْمَطَر فِي الْبَحْر عميت دَوَاب الْبَحْر، وَيُقَال: إِذا لم يَأْتِ الْمَطَر فِي الْبَحْر خلت أَجْوَاف الأصداف من اللُّؤْلُؤ، فَإِن الصدف إِذا جَاءَ الْمَطَر يرْتَفع إِلَى وَجه الْبَحْر، وَيفتح فَاه، فَمَا يَقع فِيهِ يصير لؤلؤا.
وَالْقَوْل الثَّالِث فِي الْآيَة - وَهُوَ الْأَظْهر - أَن الْبر هُوَ الْبَوَادِي والمفازة، وَالْبَحْر هُوَ الْقرى والأمصار، وَالْعرب تسمى كل قَرْيَة أَو مصر على مَاء جَار بحرا.
وَقَوله: {بِمَا كسبت أَيدي النَّاس} أَي: بِمَا أذنبوا، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء} .
وَقَوله: {ليذيقهم بعض الَّذِي عمِلُوا لَعَلَّهُم يرجعُونَ} أَي: يرجعُونَ إِلَى الله بِالتَّوْبَةِ.(4/217)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
قَوْله تَعَالَى: {قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبل} أَي: آخر أَمر الَّذين كَانُوا من قبل.(4/217)
{كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبل كَانَ أَكْثَرهم مُشْرِكين (42) فأقم وَجهك للدّين الْقيم من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا مرد لَهُ من الله يَوْمئِذٍ يصدعون (43) من كفر فَعَلَيهِ كفره وَمن عمل صَالحا فلأنفسهم يمهدون (44) ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات من فَضله إِنَّه}
وَقَوله: {كَانَ أَكْثَرهم مُشْرِكين} أَي: بِاللَّه.(4/218)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
قَوْله تَعَالَى: {فأقم وَجهك للدّين الْقيم} أَي: اقصد جِهَة الدّين الْقيم، وَقيل: سدد عَمَلك للدّين الْقيم، وَيُقَال: اسْتَقِم على الدّين الْقيم.
وَقَوله: {من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا مرد لَهُ} أَي: الْقِيَامَة لَا يقدر أحد على رده من الله.
وَقَوله: {يَوْمئِذٍ يصدعون} أَي: يتفرقون فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَكُنَّا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدَّهْر حَتَّى قيل لن يتصدعا)
أَي: لن يَتَفَرَّقَا.(4/218)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
وَقَوله تَعَالَى: {من كفر فَعَلَيهِ كفره} أَي: وبال كفره.
وَقَوله: {وَمن عمل صَالحا فلأنفسهم يمهدون} أَي: موطئون الْمضَاجِع، وَيُقَال: يبسطون الْفرش، قَالَ الشَّاعِر:
(أمهد لنَفسك حَان السقم والتلف ... وَلَا تضيعن نفسا مَا لَهَا خلف)(4/218)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
وَقَوله: {ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات من فَضله إِنَّه لَا يحب الْكَافرين} ظَاهر الْمَعْنى.(4/218)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته أَن يُرْسل الرِّيَاح مُبَشِّرَات} الرّيح: جسم رَقِيق يجْرِي فِي الجو يَمِينا وَشمَالًا على مَا دبر من حركاته فِي جهاته مُمْتَنع الْقَبْض عَلَيْهِ للطفه. وَعَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: الرِّيَاح أَرْبَعَة للرحمة، وَأَرْبَعَة للعذاب، وجملتها ثَمَانِيَة: فالتي للرحمة: الْمُبَشِّرَات، والناشرات، والذاريات، والمرسلات، وَالَّتِي للعذاب: الْعَقِيم، والصرصر فِي الْبر، والعاصف، والقاصف فِي الْبَحْر.(4/218)
{لَا يحب الْكَافرين (45) وَمن آيَاته أَن يُرْسل الرِّيَاح مُبَشِّرَات وليذيقكم من رَحمته ولتجري الْفلك بأَمْره ولتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون (46) وَلَقَد أرسلنَا من قبلك رسلًا إِلَى قَومهمْ فجاءوهم بِالْبَيِّنَاتِ فانتقمنا من الَّذين أجرموا وَكَانَ حَقًا علينا نصر}
وَقَوله: {وليذيقكم من رَحمته} أَي: الْمَطَر، وَيُقَال: طيب الرّيح ولذتها.
وَقَوله: {ولتجري الْفلك بأَمْره} أَي: لتجري الْفلك فِي الْبَحْر بِهَذِهِ الرِّيَاح بأَمْره.
وَقَوله: {ولتبتغوا من فَضله} أَي: لتطلبوا من فضل الله تَعَالَى بالتجارات فِي الْبَحْر.
وَقَوله: {ولعلكم تشكرون} يَعْنِي: تشكرون الله تَعَالَى.(4/219)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا من قبلك رسلًا إِلَى قَومهمْ فجاءوهم بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات.
وَقَوله: {فانتقمنا من الَّذين أجرموا} أَي: أجرموا بالتكذيب.
وَقَوله: {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} أَي: نصْرَة الْمُؤمنِينَ بإنجائهم، وَقيل: نصْرَة الْمُؤمنِينَ بالذب عَنْهُم، وَدفع الْعَذَاب [عَنْهُم] .
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أم الدَّرْدَاء أَن النَّبِي قَالَ: " من ذب عَن غَرَض أَخِيه الْمُسلم كَانَ حَقًا على الله أَن يرد عَنهُ النَّار يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} ".(4/219)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
وَقَوله تَعَالَى: {الله الَّذِي يُرْسل الرِّيَاح فتثير سحابا} أَي: ينشر السَّحَاب، وَفِي بعض التفاسير أَن الله تَعَالَى يُرْسل ريحًا فتقم الأَرْض قما، ثمَّ يُرْسل ريحًا فتدر(4/219)
{الْمُؤمنِينَ (47) الله الَّذِي يُرْسل الرِّيَاح فتثير سحابا فيبسطه فِي السَّمَاء كَيفَ يَشَاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فَإِذا أصَاب بِهِ من يَشَاء من عباده إِذا هم يستبشرون (48) وَإِن كَانُوا من قبل أَن ينزل عَلَيْهِم من قبله لمبلسين (49) فَانْظُر إِلَى} السَّحَاب بالمطر، فَهَذَا معنى الْآيَة.
وَقَوله تَعَالَى: {فيبسطه فِي السَّمَاء كَيفَ يَشَاء} أَي: مسيرَة يَوْم ومسيرة يَوْمَيْنِ وَأكْثر على مَا يَشَاء.
وَقَوله: {ويجعله كسفا} أَي: قطعا.
وَقَوله: {فترى الودق يخرج من خلاله} قَرَأَ الضَّحَّاك " " من خلله "، والودق: الْمَطَر، قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَا مزنة ودقت ودقها ... وَلَا أَرض أبقل إبقالها)
وَقيل: الودق: هُوَ الْبَرْق، وَالْأول أظهر.
وَقَوله: {فَإِذا أصَاب بِهِ من يَشَاء من عباده إِذا هم يستبشرون} أَي: يبشر بَعضهم بَعْضًا.(4/220)
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
وَقَوله: {وَإِن كَانُوا من قبل أَن ينزل عَلَيْهِم من قبله لمبلسين} أَي: آيسين. وَفِي حرف ابْن مَسْعُود: " وَإِن كَانُوا من قبل أَن ننزل عَلَيْهِم من قبله لمبلسين ".
فَإِن قيل: فَمَا معنى تكْرَار قَوْله: {من قبل} هَاهُنَا، وَأي فَائِدَة فِيهِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه على طَرِيق التَّأْكِيد وَهُوَ قَول أَكثر أهل النَّحْو، وَالْعرب تفعل كثيرا مثل هَذَا. وَالثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: من قبل: السَّحَاب، " وَمن قبل، إِنْزَال الْمَطَر؛ فأحدهما يرجع إِلَى إِنْزَال الْمَطَر، والأخر يرجع إِلَى إنْشَاء السَّحَاب.(4/220)
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
قَوْله تَعَالَى: {فَانْظُر إِلَى آثَار رَحْمَة الله} وَقُرِئَ: " أثر رَحْمَة الله " والْآثَار جمع(4/220)
{آثَار رحمت الله كَيفَ يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا إِن ذَلِك لمحيي الْمَوْتَى وَهُوَ على كل شَيْء قدير (50) وَلَئِن أرسلنَا ريحًا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون (51) فَإنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى وَلَا تسمع الصم الدُّعَاء إِذا ولوا مُدبرين (52) وَمَا أَنْت بهاد الْعمي عَن} الْأَثر، والأثر بِمَعْنى الْآثَار.
وَقَوله: {كَيفَ يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا} أَي: كَيفَ يحيي الله الأَرْض بالمطر بعد مَوتهَا؟ فَهُوَ يحيي الْمَوْتَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقد قَالَ بَعضهم: يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا أَي: الْقُلُوب الغافلة بِنور الْعلم وَالْيَقِين وَالتَّفْسِير.
وَقَوله: {وَهُوَ على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.(4/221)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أرسلنَا ريحًا فرأوه مصفرا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: رَأَوْا الرّيح مصفرا، وَإِذا كَانَ الرّيح على هَذَا الْوَجْه لم ينفع. وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ الْمَعْرُوف فرأوه مصفرا أَي: رَأَوْا الزَّرْع مصفرا.
وَقَوله: {لظلوا من بعده يكفرون} يُقَال: ظلّ فلَان يفعل كَذَا أَي: جعل يفعل كَذَا وَهُوَ مثل قَوْلهم: أضحى فلَان يفعل كَذَا، إِلَّا أَن قَوْله ظلّ يفعل فِي الْعَادة تسْتَعْمل فِي جَمِيع النَّهَار، وَقَوله أضحى تسْتَعْمل فِي أول النَّهَار.
وَقَوله: {يكفرون} أَي: يجحدون، وَقيل: يكفرون النِّعْمَة.(4/221)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
قَوْله تَعَالَى: {فَإنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} أَي: الْكفَّار، وجعلهم بِمَنْزِلَة الْمَيِّت؛ لأَنهم لم ينتفعوا بحياتهم.
وَقَوله: {وَلَا تسمع الصم الدُّعَاء} جعلهم بِمَنْزِلَة الصم؛ لأَنهم لم ينتفعوا بأسماعهم.
وَقَوله: {إِذا ولوا مُدبرين} أَي: معرضين، فَإِن قيل: الْأَصَم لَا يسمع سَوَاء أقبل أَو أدبر، فأيش معنى هَذَا الْكَلَام؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: إِذا كَانَ مُقبلا إِن لم يسمع يفهم بِالْإِشَارَةِ، وَإِذا كَانَ مُدبرا لم يسمع وَلَا يفهم بِالْإِشَارَةِ.(4/221)
{ضلالتهم إِن تسمع إِلَّا من يُؤمن بِآيَاتِنَا فهم مُسلمُونَ (53) الله الَّذِي خَلقكُم من ضعف ثمَّ جعل من بعد ضعف قُوَّة ثمَّ جعل من بعد قُوَّة ضعفا وَشَيْبَة يخلق مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيم}(4/222)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْت بهاد الْعمي عَن ضلالتهم} أَي: بصارف الْعمي عَن ضلالتهم، والعمي هم الْكفَّار. وَيُقَال: بمرشد الْعَمى من ضلالتهم.
وَقَوله: {إِن تسمع إِلَّا من يُؤمن بِآيَاتِنَا} أَي: مَا تسمع إِلَّا من يُؤمن بِآيَاتِنَا.
وَقَوله: {فهم مُسلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(4/222)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي خَلقكُم من ضعف} وَقُرِئَ: " من ضعف " بِالْفَتْح وَالضَّم جَمِيعًا، وهما بِمَعْنى وَاحِد. وَالْأولَى " من ضعف " بِالضَّمِّ لما رُوِيَ عَن عَطِيَّة أَنه قَالَ: " قَرَأت على عبد الله بن عمر هَذِه الْآيَة، فقرات: " من ضعف " بِالنّصب، فَقَالَ: " من ضعف " بِالضَّمِّ، وَقَالَ: أَخذ على رَسُول الله كَمَا أَخَذته عَلَيْك ".
وَقَوله: {من ضعف} أَي: من مَاء مهين، وَقيل: من ذِي ضعف.
وَقَوله: {ثمَّ جعل من بعد ضعف قُوَّة} أَي: شبَابًا، وَهُوَ وَقت الْقُوَّة.
وَقَوله: {ثمَّ جعل من بعد قُوَّة ضعفا وَشَيْبَة} وَهُوَ الْهَرم والشيب، [والشيب] : نَذِير الْمَوْت، قَالَ الشَّاعِر:
(رَأَيْت الشيب من نذر المنايا ... لصَاحبه وحسبك من نَذِير)
وَقَوله: {يخلق مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيم الْقَدِير} ظَاهر الْمَعْنى.(4/222)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم تقوم السَّاعَة يقسم المجرمون} أَي: يحلف المجرمون.(4/222)
{الْقَدِير (54) وَيَوْم تقوم السَّاعَة يقسم المجرمون مَا لَبِثُوا غير سَاعَة كَذَلِك كَانُوا يؤفكون (55) وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم وَالْإِيمَان لقد لبثتم فِي كتاب الله إِلَى يَوْم الْبَعْث فَهَذَا يَوْم الْبَعْث وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُم لَا تعلمُونَ (56) فَيَوْمئِذٍ لَا ينفع الَّذين ظلمُوا معذرتهم وَلَا هم يستعتبون (57) وَلَقَد ضربنا للنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآن من كل مثل وَلَئِن جئتهم بِآيَة}
وَقَوله: {مَا لَبِثُوا غير سَاعَة} أَي: فِي قُبُورهم، وَقيل: فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِك من هول مَا رَأَوْا من الْقِيَامَة؛ فنسوا مَا كَانَ قبل ذَلِك.
وَقَوله: {كَذَلِك كَانُوا يؤفكون} أَي: يصرفون عَن الْحق.(4/223)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم وَالْإِيمَان لقد لبثتم فِي كتاب الله} أَي: فِي حكم الله وَعلمه، قَالَ الشَّاعِر:
(وَمَال لولاء بالبلاء فملتم ... وَمَا ذَاك قَالَ الله [إِذْ] هُوَ يكْتب)
أَي: يحكم، وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير وَمَعْنَاهُ: وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم فِي كتاب الله وَالْإِيمَان لقد لبثتم إِلَى يَوْم الْبَعْث.
وَقَوله: {فَهَذَا يَوْم الْبَعْث} أَي: الْقِيَامَة.
وَقَوله: {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُم لَا تعلمُونَ} أَي: لَا تعلمُونَ أَن الْقِيَامَة حق.(4/223)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
قَوْله تَعَالَى: {فَيَوْمئِذٍ لَا ينفع الَّذين ظلمُوا معذرتهم} أَي: عذرهمْ، والمعذرة: إِظْهَار مَا يسْقط اللائمة.
وَقَوله: {وَلَا هم يستعتبون} أَي: لَا يستبانون. وَقيل: لَا يطْلب مِنْهُم العتبى.(4/223)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد ضربنا للنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآن من كل مثل} أَي: من كل شبه.
وَقَوله: {وَلَئِن جئتهم بِآيَة ليَقُولن الَّذين كفرُوا إِن أَنْتُم إِلَّا مبطلون} ظَاهر الْمَعْنى.(4/223)
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)
وَقَوله تَعَالَى: {كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الَّذين لَا يعلمُونَ} الطَّبْع والختم بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ الَّذِي يمْنَع الْقلب من الْبَصَر. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ:(4/223)
ً
{ليَقُولن الَّذين كفرُوا إِن أَنْتُم إِلَّا مبطلون (58) كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الَّذين لَا يعلمُونَ (59) فاصبر إِن وعد الله حق وَلَا يستخفنك الَّذين لَا يوقنون (60) } " أعوذ بِاللَّه من طمع يدني إِلَى طبع "، قَالَ الأعشي:
(لَهُ أكاليل بالياقوت فَضلهَا)
صواعها لَا ترى عَيْبا وَلَا طبعا)(4/224)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
قَوْله تَعَالَى: {فاصبر إِن وعد الله حق} يَعْنِي: وعد الْقِيَامَة.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يستخفنك الَّذين لَا يوقنون} أَي: لَا يستهجلنك؛ فَإِن الخفة تُؤدِّي إِلَى الْجَهْل، وَمَعْنَاهُ: لَا يحملنك الَّذين لَا يوقنون وأتباعهم فِي الغي، فَأمره الله تَعَالَى بِالصبرِ على الْحق وَترك أتباعهم فِي الضلالات، وَأَن لَا يصغي إِلَى أَقْوَالهم. وَقد رُوِيَ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ كَانَ يُصَلِّي مرّة فناداه رجل، وَقَالَ: لَا حكم إِلَّا لله، وَكَانَ الرجل من الْخَوَارِج؛ فَقَرَأَ عَليّ فِي صلَاته: {فاصبر إِن وعد الله حق وَلَا يستخفنك الَّذين لَا يوقنون} .(4/224)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{الم (1) تِلْكَ آيَات الْكتاب الْحَكِيم (2) هدى وَرَحْمَة للمحسنين (3) الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم بِالآخِرَة هم يوقنون (4) أُولَئِكَ على هذى من رَبهم وَأُولَئِكَ هم المفلحون (5) وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث ليضل عَن}
تَفْسِير سُورَة لُقْمَان
كلهَا مَكِّيَّة إِلَّا ثَلَاث آيَات نبينها إِذا وصلنا إِلَيْهَا، وَالله أعلم.(4/225)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)
قَوْله تَعَالَى: {الم تِلْكَ آيَات الْكتاب الْحَكِيم} أَي: الْمُحكم بالحلال وَالْحرَام وَذكر الْأَحْكَام، وَيُقَال: بالوعد والوعيد، وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب. وَقَالَ بَعضهم: الْحَكِيم الَّذِي يبين الْحِكْمَة، كالحكيم الَّذين ينْطق بالحكمة.(4/225)
هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)
وَقَوله: {هدى وَرَحْمَة} الْأَكْثَرُونَ قرءوا بِالنّصب، قَالَ الزّجاج: هُوَ نصب على الْحَال. وقرا حَمْزَة: " هدى وَرَحْمَة " أَي: هُوَ هدى وَرَحْمَة، وَمَعْنَاهُ: بَيَان من الضَّلَالَة، وَرَحْمَة من الْعَذَاب.
وَقَوله: {للمحسنين} أَي: للْمُسلمين، وَالْمُسلم محسن إِلَى نَفسه، وَقد صَحَّ الْخَبَر أَن النَّبِي سُئِلَ عَن الْإِحْسَان فَقَالَ: " أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ، فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك ". وَيُقَال: المحسن هُوَ الَّذِي يحب للنَّاس مَا يحب لنَفسِهِ.(4/225)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
وَقَوله: {الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم بِالآخِرَة هم يوقنون} قد بَينا.(4/225)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ على هدى من رَبهم} وَقَوله: {وَأُولَئِكَ هم المفلحون} أَي: السُّعَدَاء، وَيُقَال: الناجون، وَقيل: هم الَّذين أدركوا مَا أملوا، ونجوا مِمَّا عَنهُ هربوا.(4/225)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث} ذكر الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل أَن الْآيَة(4/225)
نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، وَكَانَ يَأْتِي الْحيرَة فيشتري أَحَادِيث الْعَجم، وَكَانَ النَّبِي إِذا قَرَأَ الْقُرْآن، قَامَ وَقَالَ: أَيهَا النَّاس إِن مُحَمَّدًا يحدث عَن عَاد وَثَمُود، وَأَنا أحدثكُم عَن رستم واسفنديار والعجم، فَأَنا أحسن حَدِيثا مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهِ هَذِه الْآيَة.
وروى أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ عَن لنَبِيّ أَنه قَالَ: " حرَام تَعْلِيم الْمُغَنِّيَات وبيعهن وشرائهن وَأَثْمَانُهُنَّ حرَام، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث} وَقَالَ: مَا من رجل رفع عقيرته بِالْغنَاءِ إِلَّا وَيَأْتِي شيطانان، فيقعد أَحدهمَا على كتفه الْأَيْمن، وَالْآخر على كتفه الْأَيْسَر، ويضربان برجلهما على ظَهره وصدره حَتَّى يكون هُوَ يسكت ".
وَعَن عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَبَّاس وَمُجاهد وَالْحسن وَعِكْرِمَة وَأكْثر الْمُفَسّرين أَن الْآيَة نزلت فِي الْغناء، وَكَانَ عبد الله بن مَسْعُود يحلف على ذَلِك. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب. قَالَ إِبْرَاهِيم: وَكَانُوا يسدون أَفْوَاه السكَك ويخرقون الدفوف. وَعَن الضَّحَّاك قَالَ: {وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث} هِيَ الشّرك بِاللَّه. وَعَن ابْن جريج: هُوَ الطبل. وَفِي الْأَخْبَار المسندة أَن النَّبِي قَالَ: " هُوَ المعازف والقيان ". وَعَن سهل بن عبد الله التسترِي قَالَ: لَهو الحَدِيث هُوَ الْجِدَال فِي الدّين، والخوض فِي الْبَاطِل.
وَقَوله: {ليضل عَن سَبِيل الله} أَي: دين الله، وَقُرِئَ " ليضل عَن سَبِيل الله ".(4/226)
{سَبِيل الله بِغَيْر علم ويتخذها هزوا أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب مهين (6) وَإِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا ولى مستكبرا كَأَن لم يسْمعهَا كَأَن فِي أُذُنَيْهِ وقرا فبشره بِعَذَاب أَلِيم (7) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم جنَّات النَّعيم (8) خَالِدين فِيهَا وعد الله حَقًا وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (9) خلق السَّمَوَات بِغَيْر عمد ترونها وَألقى فِي الأَرْض رواسي أَن} بِفَتْح الْيَاء، فَقَوله: {ليضل} أَي: ليضل غَيره.
وَقَوله: {ليضل} أَي: ليصير إِلَى الضلال.
وَقَوله: {بِغَيْر علم ويتخذها هزوا} أَي: يتَّخذ آيَات الله هزوا، وَيُقَال: يتَّخذ سَبِيل الله هزوا، والسبيل يذكر وَيُؤَنث، قَالَ الشَّاعِر:
(تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن أمت ... فَتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد)
وَقَوله: {أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب مهين} ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا من قبل.(4/227)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا ولى مستكبرا كَأَن لم يسْمعهَا} أَي: كَأَن لم يسمع الْآيَات.
وَقَوله: {كَأَن فِي أُذُنَيْهِ وقرا} أَي: صمما، وَإِنَّمَا جعله كَذَلِك؛ لِأَنَّهُ لم ينْتَفع بِمَا يسمع، فَصَارَ بِمَنْزِلَة الْأَصَم، والوقر هُوَ الثّقل فِي الْأذن.
وَقَوله: {فبشرناه بِعَذَاب أَلِيم} أَي: مؤلم، وَمعنى المؤلم: هُوَ الموجع.(4/227)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا لصالحات لَهُم جنَّات النَّعيم خَالِدين فِيهَا وعد الله حَقًا} وَمَعْنَاهُ: مقيمين فِي الْجنَّة كَمَا وعد الله.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} والعزيز هُوَ المنتقم من أعدائه، والحكيم هُوَ الْمُصِيب فِي تَدْبِير خلقه.(4/227)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
قَوْله تَعَالَى: {خلق السَّمَوَات بِغَيْر عمد} أَي: بِغَيْر عمد كَمَا، ترونها، والمعنمى الثَّانِي: أَي بِغَيْر عمد تَرَوْنَهُ، وَثمّ عمد لَا ترونها، وَذَلِكَ الْعمد هُوَ قدرَة الله تَعَالَى، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الله يمسك السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا} .
وَقَوله: {وَألقى فِي الأَرْض رواسي} أَي: جبالا ثوابت، وَذكر السّديّ أَن الله(4/227)
{تميد بكم وَبث فِيهَا من كل دَابَّة وأنزلنا من السَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا من كل زوج كريم (10) هَذَا خلق الله فأروني مَاذَا خلق الَّذين من دونه بل الظَّالِمُونَ فِي ضلال مُبين} تَعَالَى خلق الأَرْض فَجعلت تميل؛ فَقَالَت الْمَلَائِكَة: يَا رَبنَا، هَذِه الأَرْض لَا يسْتَقرّ على ظهرهَا أحد، فَأَصْبحُوا وَقد أرسى الله تَعَالَى بالجبال. فَقَالُوا: يَا رَبنَا، هَل خلقت شَيْئا أَشد من الْجبَال؟ قَالَ: نعم؛ الْحَدِيد. قَالُوا: يَا رَبنَا، وَهل خلقت شَيْئا أَشد من الْحَدِيد؟ قَالَ: نعم؛ النَّار. قَالُوا: وَهل خلقت شَيْئا أَشد من النَّار؟ قَالَ: نعم؛ المَاء. قَالُوا: وَهل خلقت شَيْئا أَشد من المَاء؟ قَالَ: نعم؛ الرّيح. قَالُوا: وَهل خلقت شَيْئا أَشد من الرّيح؟ قَالَ: نعم؛ الْآدَمِيّ. وَقد أسْند هَذَا بَعضهم إِلَى رَسُول الله، وَفِي آخر الْخَبَر: " الْآدَمِيّ يتَصَدَّق فيخفي صدقته حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تَصَدَّقت يَمِينه، فَهُوَ أقوى من الْجَمِيع ".
وَقَوله: {أَن تميد بكم} أَي: لِئَلَّا تميد بكم، وَيُقَال: كَرَاهَة أَن تميد بكم، والميد: هُوَ الْميل.
وَقَوله: {وَبث فِيهَا من كل دَابَّة} أَي: فرق فِيهَا من كل دَابَّة، وَالدَّابَّة كل حَيَوَان يدب على الأَرْض.
وَقَوله: {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا من كل زوج كريم} أَي: صنف حسن.(4/228)
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
قَوْله تَعَالَى: {هَذَا خلق الله فأروني مَاذَا خلق الَّذين من دونه} أَي: الَّذين يعْبدُونَ من دونه، وهم الْأَصْنَام، وَقد رُوِيَ عَن بعض السّلف قَالَ: مَا رَأَيْت شَيْئا إِلَّا وَرَأَيْت الله فِيهِ. وَذكر بَعضهم هَذَا عَن عَامر بن عبد قيس وَهُوَ عَامر بن عبد الله، وَهُوَ تلو أويس الْقَرنِي فِي زهاد التَّابِعين رَضِي الله عَنْهُم ورءوس الزهاد من التَّابِعين(4/228)
( {11) وَلَقَد آتَيْنَا لُقْمَان الْحِكْمَة أَن اشكر لله وَمن يشْكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ وَمن كفر} ثَمَانِيَة نفر: أَوَّلهمْ أويس، ثمَّ عَامر بن عبد قيس، ثمَّ هرم بن حَيَّان، ثمَّ أَبُو مُسلم الْخَولَانِيّ، ثمَّ الْأسود، ثمَّ مَسْرُوق بن الأجدع، ثمَّ الرّبيع بن خثيم، ثمَّ الْحسن.
وَقَوله: {بل لظالمون فِي ضلال مُبين} أَي: فِي خطأ بَين.(4/229)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا لُقْمَان الْحِكْمَة} اخْتلفُوا فِي لُقْمَان. هَل كَانَ نَبيا أَو لم يكن نَبيا؟ فَذهب أَكثر أهل الْعلم أَنه لم يكن نَبيا.
وَقَالَ الشّعبِيّ وَعِكْرِمَة: إِنَّه كَانَ نَبيا. وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى خَيره بَين النُّبُوَّة وَالْحكمَة، فَاخْتَارَ الْحِكْمَة؛ نَام نومَة فذريت الْحِكْمَة على لِسَانه، فانتبه ينْطق بالحكمة. وَذكر بَعضهم أَنه سُئِلَ: لم اخْتَرْت الْحِكْمَة على النُّبُوَّة؟ فَقَالَ: خشيت أَن أَضْعَف عَنْهَا، وَلَو كَانَ الله أعطانيها ابْتِدَاء وَلم يُخْبِرنِي أعانني عَلَيْهَا، فَلَمَّا خيرني خشيت الضعْف.
وَعَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: كَانَ لُقْمَان عبدا أسود من سودان مصر. وَعَن غَيره قَالَ: كَانَ عبدا حَبَشِيًّا غليظ الشفتين متشقق الْقَدَمَيْنِ، وَحكي أَن عبدا أسود سَأَلَ سعيد بن الْمسيب عَن مَسْأَلَة فَأجَاب، ثمَّ قَالَ لَهُ: لَا يحزنك سوادك، فقد كَانَ قبلك ثَلَاثَة من السودَان هم من خير النَّاس، ثمَّ ذكر لُقْمَان الْحَكِيم، وبلالا مُؤذن رَسُول الله، وَمهجع مولى عمر بن الْخطاب، وَهُوَ أول شَهِيد فِي الْإِسْلَام، اسْتشْهد يَوْم بدر.
وَاخْتلفُوا فِي صناعَة لُقْمَان؛ فَقَالَ بَعضهم: كَانَ خياطا. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ نجارا. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ راعي غنم. فَروِيَ أَن بَعضهم لقِيه وَهُوَ يتَكَلَّم بالحكمة فَقَالَ: أَلَسْت فلَانا الرَّاعِي! فَبِمَ بلغت مَا بلغت؟ فَقَالَ: بِصدق الحَدِيث، وَأَدَاء الْأَمَانَة، وتركي مَا لَا يعنيني.
وَمن (حكمه) المنقولة: أَن مَوْلَاهُ دفع إِلَيْهِ شَاة وَقَالَ: اذْبَحْهَا وائتني بأطيب مضغتين مِنْهَا، فَجَاءَهُ بلسانها وقلبها، فَسَأَلَهُ مَوْلَاهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: لَا شَيْء أطيب(4/229)
{فَإِن الله غَنِي حميد (12) وَإِذا قا لُقْمَان لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم (13) وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حَملته أمه وَهنا على وَهن وفصاله فِي عَاميْنِ أَن اشكر لي ولوالديك إِلَيّ الْمصير (14) وَإِن جَاهَدَاك على أَن تشرك بِي مَا} مِنْهُمَا إِذا طابا، وَلَا أَخبث مِنْهُمَا إِذا خبثا. وَعَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: تكلم لُقْمَان بِاثْنَيْ عشر ألف بَاب من الْحِكْمَة، أدخلها النَّاس فِي كَلَامهم ووصاياهم.
وَمعنى الْحِكْمَة الْمَذْكُورَة فِي هَذِه الْآيَة هُوَ الْفِقْه والإصابة فِي القَوْل. وَيُقَال: الْعقل الْكَامِل.
وَقَوله: {أَن اشكر لله} أَي: على نعمه.
وَقَوله: {وَمن شكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ} أَي: مَنْفَعَة الشُّكْر تعود إِلَيْهِ.
وَقَوله: {وَمن كفر فَإِن الله غَنِي حميد} أَي: غَنِي عَن خلقه، مَحْمُود فِي فعله.(4/230)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه} يُقَال: كَانَ اسْم ابْنه مشْكم، وَيُقَال: أنعم، وَقيل: غَيره.
وَقَوله: {يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم} أَي: لَا تعدل بِاللَّه أحدا فِي الربوبية.
وَقَوله: {إِن الشّرك لظلم عَظِيم} الظُّلم هُوَ وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، من أشرك مَعَ الله غَيره فقد وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه.(4/230)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
قَوْله تَعَالَى: {وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حَملته أمه وَهنا على وَهن} أَي: ضعفا على ضعف، وَيُقَال: مشقة على مشقة. قَالَ الزّجاج: الْمَرْأَة اذا حملت توالى عَلَيْهَا الضعْف وَالْمَشَقَّة. وَيُقَال: الْحمل ضعف، والطلق ضعف، والوضع ضعف.
وَقَوله: {وفصاله فِي عَاميْنِ} أَي: فطامه فِي عَاميْنِ، والحولان نِهَايَة مُدَّة الْفِطَام.
وَقَوله: {أَن اشكر لي ولوالديك} قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: من صلى الصَّلَوَات الْخمس فِي مواقيتها فقد شكر الله تَعَالَى، وَمن اسْتغْفر لِأَبَوَيْهِ فِي كل صَلَاة فقد شكر(4/230)
{لَيْسَ لَك بِهِ علم فَلَا تطعهما وصاحبهما فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ ثمَّ إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (15) يَا بني إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل} أَبَوَيْهِ.
وَقَوله: {إِلَى الْمصير} أَي: إِلَى الْمرجع.(4/231)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جَاهَدَاك على أَن تشرك بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} قد بَينا معنى هَذِه الْآيَة، وَذكرنَا أَنَّهَا نزلت فِي سعد بن أبي وَقاص، وَقَالَ بَعضهم: الْآيَة عَامَّة فِي الْجَمِيع.
وَقَوله: {فَلَا تطعهما} أَي: فَلَا تطعهما فِي الشّرك ومعصيتي.
وَقَوله: {وصاحبهما فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا} أَي: صَاحبهَا فِي الدُّنْيَا بِالْبرِّ والصلة، وَهُوَ الْمَعْرُوف من غير أَن تطيعهما فِي معصيتي.
وَقَوله: {وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ} الْأَكْثَرُونَ أَنه مُحَمَّد.
وَقَوله: {ثمَّ إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.
وَرُوِيَ [عَن] عَطاء عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ} أَن المُرَاد مِنْهُ أَبُو بكرالصديق رَضِي الله عَنهُ قَالَ ابْن عَبَّاس: لما أسلم أَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ جَاءَ عُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُم فَقَالُوا: يَا أَبَا بكر، قد صدقت هَذَا لرجل، وَآمَنت بِهِ؟ قَالَ: نعم، هُوَ صَادِق فآمنوا بِهِ، [و] حملهمْ إِلَى النَّبِي حَتَّى أَسْلمُوا، فَهَؤُلَاءِ الْقَوْم لَهُم سَابِقَة الْإِسْلَام، وَأَسْلمُوا بإرشاد أبي بكر رَضِي الله عَنْهُم وَأنزل الله تَعَالَى فِي أبي بكر، {وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ} .
وَقَوله: {أناب} أَي: رَجَعَ إِلَيّ، وعَلى هَذَا القَوْل هُوَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ.(4/231)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
قَوْله تَعَالَى: {يَا بني إِنَّهَا إِن تَكُ} فَإِن قيل: قَوْله: {إِنَّهَا} هَذِه كِنَايَة، وَالْكِنَايَة لَا بُد لَهَا من مكنى، فأيش المكنى؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه رُوِيَ أَن ابْن لُقْمَان قَالَ: يَا(4/231)
{فتكن فِي صَخْرَة أَو فِي السَّمَوَات أَو فِي الأَرْض يَأْتِ بهَا الله إِن الله لطيف خَبِير (16) يَا بني أقِم الصَّلَاة وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَن الْمُنكر واصبر على مَا أَصَابَك إِن ذَلِك من} (أبه) ، أَرَأَيْت لَو وَقع شَيْء فِي مقل الْبَحْر ومقل الْبَحْر مغاصيه أَي: وَسطه أيعلم الله تَعَالَى مَوْضِعه؟ فَقَالَ: يَا بني، إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل، يَعْنِي: إِن وَقعت حَبَّة على هَذَا الْوَزْن على [هَذَا] الْبَحْر فَالله تَعَالَى يعلم موضعهَا. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن لُقْمَان ألْقى خردلة فِي عرض نهر اليرموك، وَقعد على شطه وَبسط يَده، فغاصت ذُبَابَة وحملت الخردلة فَوَضَعتهَا على كَفه. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن قَوْله تَعَالَى: (إِنَّهَا إِن تَكُ) يرجع إِلَى الْخَطِيئَة، يَعْنِي: إِن تكن الْخَطِيئَة كمثقال حَبَّة من خَرْدَل يَأْتِ بهَا الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة أَي: يجازك بهَا. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: معنى الْآيَة: هُوَ الْإِحَاطَة بالأشياء صغيرها وكبيرها.
وَقَوله: {فتكن فِي صَخْرَة} أَي: فِي جبل، وَقَالَ السّديّ: هِيَ الصَّخْرَة الَّتِي عَلَيْهَا الأرضون السَّبع، وَهِي صَخْرَة خضراء، خضرَة السَّمَاء مِنْهَا.
وَقَوله: {أَو فِي السَّمَوَات أَو فِي الأَرْض يَأْتِ بهَا الله} .
وَقَوله: {إِن الله لطيف خَبِير} قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: لطيف باستخراج الخردلة، خَبِير بمكانها، وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذِه الْحِكْمَة آخر حِكْمَة تكلم بهَا لُقْمَان، فَلَمَّا تكلم بهَا انشقت مرارته من هيبتها فتوفى.(4/232)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
قَوْله: {يَا بني أقِم الصَّلَاة وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَن الْمُنكر} قد بَينا معنى الْمَعْرُوف وَمعنى الْمُنكر من قبل.
وَقَوله: {واصبر على مَا أَصَابَك} أَي: من الْأَذَى.
وَقَوله: {إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} أَي: من الْأُمُور الَّتِي يُؤمر بهَا ويعزم عَلَيْهَا، وَقد روى حُذَيْفَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَيْسَ لِلْمُؤمنِ أَن يذل نَفسه، فَقيل: وَكَيف يذل(4/232)
{عزم الْأُمُور (17) وَلَا تصعر خدك للنَّاس وَلَا تمش فِي الأَرْض مرحا إِن الله لَا يحب} نَفسه؟ قَالَ: يتَحَمَّل من الْبلَاء مَا لَا يُطيق ". وَفِي هَذَا الْخَبَر رخصَة فِي ترك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ على السلاطين والظلمة إِذا خشِي الْهَلَاك، وَإِن أَمر بِالْمَعْرُوفِ فَقتل فَهُوَ شَهِيد.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أفضل الْجِهَاد كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر ".
وَرُوِيَ عَن الني أَنه قَالَ: " سيد الشُّهَدَاء يَوْم الْقِيَامَة حَمْزَة بن عبد الْمطلب، ثمَّ رجل قَامَ إِلَى سُلْطَان يخَاف مِنْهُ ويرجو، فَأمره بِمَعْرُوف أَو نَهَاهُ عَن مُنكر، فَقتله على ذَلِك ".(4/233)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تصعر خدك للنَّاس} أيك لَا تعرض عَنْهُم تكبرا. والصعر هُوَ الْميل. وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " يَأْتِي عل النَّاس زمَان لَا يبْقى إِلَّا من هُوَ أصعر ". يَعْنِي: مَا يَدعِي الدّين ". وَيُقَال: إِن قَوْله: {وَلَا تصعر خدك للنَّاس} نهى عَن التشدق فِي الْكَلَام، وَعَن الرّبيع بن أنس قَالَ: ليكن الْغَنِيّ وَالْفَقِير عنْدك سَوَاء.
وَقَوله: {وَلَا تمش فِي الأَرْض مرحا} أَي: لَا تمشي فِي الأَرْض مختالا.
وَقَوله: {إِن الله لَا يحب كل مختال فخور} أَي: مختال على الأَرْض، فخور(4/233)
{كل مختال فخور (18) واقصد فِي مشيك واغضض من صَوْتك إِن أنكر الْأَصْوَات} بالدنيا.(4/234)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
قَوْله تَعَالَى: {واقصد فِي مشيك} يَعْنِي: أسْرع فِي مشيك، وَيُقَال مَعْنَاهُ: واقصد فِي مشيك أَي: لَا تسرع فِي مشيتك، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " سرعَة الْمَشْي تذْهب بهَا الْوَجْه ".
وَقَوله: {واغضض من صَوْتك} أَي: لَا تجْهر، وَمعنى اغضض أَي: انقص. يُقَال: غض فلَان من فلَان أَي: نقص من حَقه.
وَقَوله: {إِن أنكر الْأَصْوَات لصوت الْحمير} أَي: أقبح الْأَصْوَات لصوت الْحمير. يُقَال: جَاءَنِي فلَان بِوَجْه مُنكر أَي: قَبِيح، فَإِن قَالَ قَائِل: لم جعل صَوت الْحمار أقبح الْأَصْوَات؟ وَالْجَوَاب عَنهُ إِنَّمَا جعله أقبح الْأَصْوَات، لِأَن أَوله زفير، وَآخره شهيق، والزفير والشهيق: صَوت أهل النَّار. وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ قَالَ: كل شَيْء يسبح إِلَّا الْحمار؛ فَلهَذَا جعل صَوته أقبح الْأَصْوَات.
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يتنافسون فِي شدَّة الصَّوْت، وَكَانُوا يَقُولُونَ: من كَانَ أَجْهَر صَوتا فَهُوَ أعز عِنْد الله. وَكَانُوا يجهرون بأصواتهم ويرفعونها بغاية الْإِمْكَان، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَيست الْعِزَّة فِي شدَّة الصَّوْت، وَلَو كَانَ من هُوَ أَشد أعز، لَكَانَ الْحمار أعز من الْكل. وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الصَّادِق أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن أنكر الْأَصْوَات لصوت الْحمير} : هِيَ العطسة القبيحة الْمُنكرَة.(4/234)
{لصوت الْحمير (19) ألم تروا أَن الله سخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض}
وَمن حكم لُقْمَان سوى مَا ذكرنَا مَا رُوِيَ أَنه قَالَ: لَا مَال كصحة الْبدن، وَلَا نعيم كطيب النَّفس. وَمن حكمه أَيْضا أَنه قَالَ: أدب الْوَالِد لوَلَده كالسماد للزَّرْع.
وَحكى عِكْرِمَة أَن لُقْمَان دخل على دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ يصنع درعا، فَلم يدر مَا يصنع؛ فَأَرَادَ أَن يسْأَله، وَكَانَ (حكمه) تَمنعهُ مِنْهُ، فَلَمَّا أتم دَاوُد الدرْع لبسهَا، وَقَالَ: نعم جُبَّة الْحَرْب هِيَ. فَقَالَ لُقْمَان: الصمت حكم وَقَلِيل فَاعله.
وَحكى أَيْضا عِكْرِمَة أَن مَوْلَاهُ خاطر قوما على شرب مَاء الْبَحْر فِي حَال سكره، فَدَعَا لُقْمَان وَقَالَ: لمثل هَذَا الْيَوْم كنت أعدك، وَذكر لَهُ الْقِصَّة. فَقَالَ: اجْمَعْ الْقَوْم الَّذين خاطرتهم؛ فَجَمعهُمْ، فَقَالَ لَهُم: احْبِسُوا مواد الْبَحْر حَتَّى يشرب مَاء الْبَحْر. فَقَالُوا: كَيفَ نحبس مواد الْبَحْر؟ فَقَالَ: كَيفَ يشرب مَاء الْبَحْر ومواده غير مُنْقَطِعَة؟ فخلص مَوْلَاهُ.
وَحكى أَيْضا عِكْرِمَة أَنه كَانَ لمولى لُقْمَان عبيد سواهُ، وَلم يكن فيهم أخس مِنْهُ عِنْده، فبعثهم إِلَى بُسْتَان لَهُ ليحملوا لَهُ فَاكِهَة، فَذَهَبُوا وأكلوا الْفَاكِهَة؛ فَلَمَّا رجعُوا أحالوا على لُقْمَان أَنه هُوَ الَّذِي أكل، وَصدقهمْ مَوْلَاهُ لخسة لُقْمَان عِنْده، وَأَرَادَ أَن يُؤْذِيه، فَقَالَ لُقْمَان لمَوْلَاهُ: إِن ذَا اللسانين وَذَا الْوَجْهَيْنِ لَا يكون وجيها عِنْد الله، فاسقني مَاء حميما، واسق هَؤُلَاءِ العبيد مَاء حميما؛ فسقاهم، فقاء سَائِر العبيد مَا أكلُوا من الْفَاكِهَة، وقاء هُوَ مَاء بحتا، فَعرف صدقه وكذبهم.(4/235)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تروا أَن الله سخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} أَي: ذلل.
وَقَوله: {وأسبغ عَلَيْهِم نعْمَة} أَي: أتم عَلَيْكُم وأكمل نعمه ظَاهِرَة وباطنة، قَالَ ابْن عَبَّاس: النِّعْمَة الظَّاهِرَة هِيَ الْإِسْلَام وَحسن الْخلق، وَالنعْمَة الْبَاطِنَة هِيَ مَا يستر من الْعُيُوب. وَقَالَ بَعضهم: النِّعْمَة الظَّاهِرَة هِيَ الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، والباطنة هِيَ الِاعْتِقَاد
{وأسبع عَلَيْكُم نعمه ظَاهِرَة وباطنة وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب منيروإذا قيل لَهُم إتبعوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَو لَو كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم إِلَى عَذَاب السعير وَمن يسلم وَجهه إِلَى اللهوهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور وَمن كفر فَلَا} بِالْقَلْبِ. وَيُقَال النِّعْمَة الظَّاهِرَة: نعْمَة الدُّنْيَا، والباطنة: نعْمَة العقبى. وَقيل النِّعْمَة الظَّاهِرَة: نعْمَة الْأَبدَان، والباطنة: نعْمَة الْأَدْيَان. وَيُقَال: النِّعْمَة الظَّاهِرَة: تَمام الرزق، وَالنعْمَة الْبَاطِنَة: حسن الْخلق، وَيُقَال النِّعْمَة الظَّاهِرَة: الزى والرياش الْحسن. وَالنعْمَة الْبَاطِنَة: مَا أخْفى من الْمعْصِيَة وسترها. وَقَالَ بَعضهم: النِّعْمَة الظَّاهِرَة: الْوَلَد، والباطنة: الْوَطْء.
وَقَوله: {وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب مُنِير} نزلت هَذِه الْآيَة فِي أُميَّة بن خلف وَأبي بن خلف وَأبي جهل بن هِشَام وَالنضْر بن الْحَارِث وأشباههم؛ كَانُوا يجادلون النَّبِي بِالْبَاطِلِ فِي الله وَفِي صِفَاته.(4/235)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: {أَو لَو كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم} هَذَا جَوَاب عَن مَحْذُوف , والمحذوف: أيتبعون الشَّيْطَان، وَإِن كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم إِلَى عَذَاب السعير.(4/235)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
وَقَوله تَعَالَى: {وَمن يسلم وَجهه إِلَى الله} أى: وَمن يخلص دينه لله، وَقيل: يسلم نَفسه وَعَمله إِلَى الله. وَقَرَأَ أَبُو عبد الحمن السلمى: ((يسلم)) بِالتَّشْدِيدِ، وَقَوله: {يسلم} من التَّسْلِيم , وَقَوله: ((يسلم)) من الإنقياد.
وَقَوله: { [وَهُوَ محسن] فقد استمسك بالعروة الوثقى} : قَول لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقيل العروة الوثقى: السَّبَب الَّذِي يُوصل إِلَى رضَا الله تَعَالَى. والوثقى تَأْنِيث الأوثق. والعهد الوثيق، هوالعهد الْمُحكم الشَّديد، والأوثق الأشد.
وَقَوله: {وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور} أى: خَاتِمَة الْأُمُور.
{يحزنك كفره إِلَيْنَا مرجعهم فننبئهم بِمَا عمِلُوا إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور نمتعهم قَلِيلا ثمَّ نطرهم إِلَى عَذَاب غليظ وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله قل الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد وَلَو أَنما فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام وَالْبَحْر يمده من بعد سَبْعَة أبحر مَا نفدت كلما ت الله إِن الله عَزِيز حَكِيم مَا خَلقكُم}(4/235)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن كفر فَلَا يحزنك كفره} أى: لَا تحزن بِكُفْرِهِ.
وَقَوله: {إِلَيْنَا مرجعهم} أى: مصيرهم.
وَقَوله: {فننبئهم بِمَا عمِلُوا} أى: نخبرهم بِمَا عمِلُوا.
وَقَوله: {إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور} أى: عَالم بِمَا فِي الصُّدُور.(4/235)
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
قَوْله تَعَالَى: {نمتعهم قَلِيلا} الإمتاع هُوَ التَّمَتُّع بِمَا فِي الدُّنْيَا من نعيمها.
وَقَوله: {ثمَّ نضطرهم إِلَى عَذَاب غليظ} أى: نلجئهم إِلَى عَذَاب غليظ.(4/235)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله قل الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} قد بَينا.(4/235)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
قَوْله تَعَالَى: {لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِن الله هُوَ الْغنى الحميد} أى: الْغنى عَن خلقه، الْمَحْمُود فِي فعله.(4/235)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَن مَا فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام} روى أَن الْمُشْركين قَالُوا: إِن مَا أَتَى بِهِ مُحَمَّد من الْكَلَام يَنْقَطِع ويفنى، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، بِمَعْنى: أَن جَمِيع أَشجَار الْعَالم ونباتها لَو بريت أقلاما، وَصَارَت البحور مدادا مَا نفدت كَلِمَات الله أى: كَلَام الله وَعلمه.
وَقَوله: {إِن الله عَزِيز حَكِيم} قد بَينا.(4/235)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
قَوْله تَعَالَى: {مَا خَلقكُم وَلَا بعثكم إِلَّا كَنَفس وَاحِدَة} مَعْنَاهُ: مَا خَلقكُم إِلَّا(4/235)
{وَلَا بعثكم إِلَّا كَنَفس وَاحِدَة إِن الله سميع بَصِير (28) ألم تَرَ أَن الله يولج اللَّيْل فِي النَّهَار ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر كل يجْرِي إِلَى أجل مُسَمّى وَأَن الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير (29) ذَلِك بِأَن الله هُوَ الْحق وَأَن مَا يدعونَ من دونه الْبَاطِل وَأَن الله هُوَ الْعلي الْكَبِير (30) ألم تَرَ أَن الْفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بنعمت الله ليريكم من آيَاته إِن} كخلق نفس وَاحِدَة، وَلَا بعثكم إِلَّا كبعث نفس وَاحِدَة، يَعْنِي: فِي قدرته.
وَقَوله: {إِن الله سميع بَصِير} سميع لأقوال الْعباد، بَصِير بأفعالهم. وَالْآيَة الَّتِي تلِي هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا قد بَينا مَعْنَاهَا، وَأما الْآيَات الثَّلَاث الَّتِي نزلت بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ من قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَن مَا فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام} إِلَى آخر الْآيَات الثَّلَاث.
قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الْفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بِنِعْمَة الله} أَي: بإنعام الله.(4/236)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
وَقَوله: {ليريكم من آيَاته} أَي: من عجائب صنعه وَقدرته.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور} رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الصَّبْر نصف الْإِيمَان، وَالشُّكْر نصف الْإِيمَان، وَالْيَقِين هُوَ الْإِيمَان كُله ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أحب الْعباد إِلَى الله من يصبر عِنْد الْبلَاء، ويشكر عِنْد النعماء، ويرضى بِالْقضَاءِ.(4/236)
{فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور (31) وَإِذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر فَمنهمْ مقتصد وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا كل ختار كفور (32) يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم واخشوا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِد عَن وَلَده وَلَا مَوْلُود هُوَ جَازَ عَن}(4/239)
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
قَوْله: {وَإِذا غشيهم موج كالظلل} الظلل: جمع الظلة، والظلة: هِيَ الْجَبَل.
وَقَوله: {دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} أَي: أَخْلصُوا فِي الدُّعَاء، وَفِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة نزلت فِي عِكْرِمَة بن أبي جهل حِين هرب من مَكَّة يَوْم فتحهَا رَسُول الله، وَكَانَ رَسُول الله أَمن جَمِيع النَّاس إِلَّا نَفرا مِنْهُم عِكْرِمَة بن أبي جهل، فهرب عِكْرِمَة إِلَى الْبَحْر، فَجَاءَهُمْ ريح عاصف، فَقَالَ صَاحب السَّفِينَة: أَخْلصُوا، فَإِنَّهُ لَا ينجيكم إِلَّا الْإِخْلَاص. وَرُوِيَ أَنه قَالَ لَهُم: لَا تدعوا آلِهَتكُم؛ فَإِن آلِهَتكُم لَا تغني عَنْكُم شَيْئا، وَادعوا الله وَحده.
فَقَالَ عِكْرِمَة: إِنَّمَا هربت من هَذَا، وَلَئِن نجاني الله من هَذَا لأرجعن إِلَى مُحَمَّد، ولأضعن يَدي فِي يَده. ثمَّ سكن الرّيح، وَخرج عِكْرِمَة وَرجع إِلَى مَكَّة، وَأسلم وَحسن إِسْلَامه، وَاسْتشْهدَ يَوْم اليرموك بِالشَّام.
وَقَوله: {فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر فَمنهمْ مقتصد} أَي: عدل فِي فعله على معنى الْوَفَاء بِمَا وعده، وَمِنْهُم من قَالَ: مقتصد أَي: مقتصد فِي القَوْل لَا يسرف، وَمِنْهُم من يسرف.
وَقَوله: {وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا كل ختار كفور} الختر: هُوَ أَشد الْغدر.
قَالَ الشَّاعِر:
(فَإنَّك لَو رَأَيْت أَبَا عُمَيْر ... مَلَأت يَديك من ختر وغد)(4/239)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم واخشوا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِد عَن وَلَده} أَي:(4/239)
{وَالِده شَيْئا إِن وعد الله حق فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور (33) إِن الله عِنْده علم السَّاعَة وَينزل الْغَيْث وَيعلم مَا فِي لأرحام وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا وَمَا تَدْرِي نفس بِأَيّ أَرض تَمُوت إِن الله عليم خَبِير (34) } لَا يُغني وَالِد عَن وَلَده، قَالَ ابْن عَبَّاس: كل امرء تهمه نَفسه.
وَقَوله: {وَلَا مَوْلُود هُوَ جَازَ عَن وَالِده شَيْئا} أَي: مُغنِي عَن وَالِده شَيْئا.
وَقَوله: {إِن وعد الله حق فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور} يَعْنِي: الشَّيْطَان، وتغريره للْإنْسَان هُوَ تزيينه للمعاصي وتمنيه الْمَغْفِرَة من الله، وَعبر عَنهُ بتزيينه لَهُ الْمعاصِي وتمنيه الْمَغْفِرَة. وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " الْكيس من دَان نَفسه، وَعمل لما بعد الْمَوْت (أَي حاسب نَفسه) والفاجر من أتبع نَفسه هَواهَا، وَتمنى على الله (الْمَغْفِرَة) ".(4/240)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة وَينزل الْغَيْث} الْآيَة. فِي التَّفْسِير: أَن رجلا من بني محَارب بن خصفة أَتَى النَّبِي وَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِن أَرْضنَا أجدبت، فَمَتَى ينزل الْغَيْث؟ وَإِنِّي تركت امْرَأَتي حُبْلَى، فَمَاذَا تَلد؟ وَقد علمت مَا أعمل الْيَوْم، فَمَاذَا أعمل غَدا؟ وَأَخْبرنِي أَنى بِأَيّ أَرض أَمُوت؟ وَأَخْبرنِي مَتى السَّاعَة؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا.
وَقد روينَا بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " مَفَاتِيح الْغَيْب خَمْسَة، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا ". وَهُوَ خبر مَشْهُور.
وَقَوله: { [وَيعلم مَا فِي الْأَرْحَام وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا] وَمَا تَدْرِي نفس بِأَيّ أَرض تَمُوت} يُقَال مَعْنَاهُ: على أَي قدم تَمُوت. فَإِنَّهُ مَا من قدم يرفعها ويضعها إِلَّا وَيجوز أَن تَمُوت قبل ذَلِك {بِأَيّ أَرض تَمُوت} أَي: على أَي صفة تَمُوت من الشقاوة والسعادة.
وَقَوله: {إِن الله عليم خَبِير} ظَاهر الْمَعْنى.(4/240)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{الم (1) تَنْزِيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ من رب الْعَالمين (2) أم يَقُولُونَ افتراه بل هُوَ}
تَفْسِير سُورَة السَّجْدَة
وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا ثَلَاث آيَات نزلت فِي عَليّ رَضِي الله عَنهُ سنذكرها.
وَقد روى جَابر أَن النَّبِي كَانَ لَا ينَام كل لَيْلَة حَتَّى يقْرَأ. " الم تَنْزِيل " السَّجْدَة، و " تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك ".
وَقد ثَبت أَن النَّبِي كَانَ يقْرَأ فِي صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْجُمُعَة سُورَة السَّجْدَة، وَسورَة " هَل أَتَى ".(4/241)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {الم تَنْزِيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ من رب الْعَالمين} أَي: لَا شكّ فِيهِ، والريب: هُوَ الشَّك، وَقد بَينا من قبل(4/241)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
قَوْله: {أم يَقُولُونَ افتراه} مَعْنَاهُ: بل يَقُولُونَ افتراه، قَالَ الشَّاعِر فِي أم بِمَعْنى: بل:
(كذبتك عَيْنك أم رَأَيْت بواسط ... غلس الظلام على الربَاب جبالا)(4/241)
{الْحق من رَبك لتنذر قوما مَا أَتَاهُم من نَذِير من قبلك لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ (3) الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش مَا لكم من دونه من ولي وَلَا شَفِيع أَفلا تتذكرون (4) يدبر الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض ثمَّ يعرج إِلَيْهِ} مَعْنَاهُ: بل رَأَيْت.
وَقَوله: {بل هُوَ الْحق من رَبك لتنذر قوما مَا أَتَاهُم [من نَذِير من قبلك] }
مَا هَا هُنَا بِمَعْنى النَّفْي، وَمَعْنَاهُ: لتنذر قوما لم [يشاهدوا] وآباؤهم قبلك نَبيا، فَإِن قيل: إِذا لم يشاهدوا نَبيا وَلم ينذروا، كَيفَ يستجوبوا النَّار بترك الْإِيمَان؟ وَالْجَوَاب: أَنه لَزِمَهُم الْإِيمَان بِاللَّه بإرسال الرُّسُل الَّذين كَانُوا من قبل، وَقد سمعُوا ذَلِك.
وَقَالَ بَعضهم: إِن إِسْمَاعِيل كَانَ نَبيا إِلَى الْعَرَب، وَقد تركُوا دينه، وَيُقَال: إِنَّهُم تركُوا دين إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ.
وَقَوله: {لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ} أَي: يرشدون.(4/242)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام} قد بَينا، وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: هُوَ يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا. فَإِن قَالَ قَائِل: حِين خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض لم يكن نَهَارا وَلَا لَيْلًا، فَكيف يَسْتَقِيم هَذَا الْكَلَام؟ وَالْجَوَاب: أَن مَعْنَاهُ: بِقدر سِتَّة أَيَّام من أَيَّام الدُّنْيَا.
وَقَوله: {ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} قد بَينا.
وَقَوله: {مَا لكم من دونه ولي وَلَا شَفِيع أَفلا تتذكرون} مَعْنَاهُ: أَفلا تتعظون.(4/242)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {يدبر الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض} أَي: يحكم وَيَقْضِي الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض.(4/242)
{فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره ألف سنة مِمَّا تَعدونَ (5) ذَلِك عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْعَزِيز}
وَقَوله: {ثمَّ يعرج إِلَيْهِ} ثمَّ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: ثمَّ يعرج الْملك إِلَيْهِ بعد نُزُوله بِالْأَمر. وَالْقَوْل الثَّانِي: ثمَّ يعرج إِلَيْهِ أَي: يعرج الْأَمر إِلَيْهِ، وَمعنى عروج الْأَمر إِلَيْهِ: صيرورة الْأَمر كُله إِلَيْهِ، وَسُقُوط أَمر الْخلق كلهم.
وَقَوله: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره ألف سنة مِمَّا تَعدونَ} هَذِه الْآيَة تعد مشكلة، وَوجه الْإِشْكَال: أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة} قَالَ مُجَاهِد: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره ألف سنة} مَعْنَاهُ: أَن من السَّمَاء إِلَى الأَرْض إِذا نزل الْملك خَمْسمِائَة سنة، وَإِذا صعد خَمْسمِائَة سنة فَيكون ألف سنة.
وَأما قَوْله: {خمسين ألف سنة} هُوَ من قَرَار الأَرْض إِلَى الْعَرْش. وَقَالَ بَعضهم: خمسين ألف سنة، وَألف سنة كلهَا فِي الْقِيَامَة، فَيكون يَوْم الْقِيَامَة على بَعضهم ألف سنة، وعَلى بَعضهم خمسين ألف سنة، وَالْيَوْم وَاحِد.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى يقصره على الْمُؤمن حَتَّى يكون كَمَا بَين صَلَاتَيْنِ ".
وَقَالَ بَعضهم: يعرج بعض الْأَمْلَاك فِي مِقْدَار ألف سنة، ويعرج بعض الْأَمْلَاك فِي مِقْدَار خمسين ألف سنة، وَالله أعلم.(4/243)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} أَي: مَا غَابَ عَن الْعباد، وَمَا لم يغب(4/243)
{الرَّحِيم (6) الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه وَبَدَأَ خلق الْإِنْسَان من طين (7) ثمَّ جعل نَسْله من سلاسة من مَاء مهين (8) ثمَّ سواهُ وَنفخ فِيهِ من روحه وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون (9) وَقَالُوا أئذا ضللنا فِي الأَرْض أئنا لفي خلق} عَنْهُم، وَيُقَال: الْغَيْب مَا فِي الْآخِرَة، وَالشَّهَادَة مَا فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله: {الْعَزِيز الرَّحِيم} أَي: المنيع فِي ملكه، الرَّحِيم بخلقه.(4/244)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه} وَقُرِئَ: " خلقه " بِفَتْح اللَّام، فَمن قَرَأَ: " خلقه " أَي: أحسن خلق كل شَيْء، وَمن قَرَأَ: " خلقه " مَعْنَاهُ: حسن كل شَيْء خلقه. قَالَ ابْن عَبَّاس: {أحسن كل شَيْء خلقه} أَي: أتقن وَأحكم. وَقيل: أما إِن است القرد لَيْسَ بِحسن، وَلكنه مُحكم، وَقيل: خلق الْبَهَائِم على صُورَة الْبَهَائِم، والآدميين على صُورَة الْآدَمِيّين، وَلم يخلق الْآدَمِيّين على صُورَة الْبَهَائِم، وَلَا الْبَهَائِم على صُورَة الْآدَمِيّين، فَكل حَيَوَان كَامِل حسن فِي خلقته، وَهَذَا معنى قَول الْحُكَمَاء الَّذين مضوا: كل حَيَوَان كَامِل فِي نقصانه؛ يَعْنِي: أَنه لَو قوبل بِغَيْرِهِ كَانَ نَاقِصا، وَهُوَ فِي نَفسه وأداته كَامِل. وَذكر بَعضهم فِي معنى الْآيَة: طول رجل الْبَهِيمَة، وَطول عنق الطَّائِر؛ ليصل كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى معاشه.
وَقَوله: {وبدا خلق الْإِنْسَان من طين} أَي: آدم وَذريته.(4/244)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ جعل نَسْله من سلالة من مَاء مهين} قد بَينا معنى السلالة. وَقَوله: {من مَاء مهين} أَي: ضَعِيف.(4/244)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ سواهُ وَنفخ فِيهِ من روحه} قد ذكرنَا.
وَقَوله: {وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة} أَي: الأسماع والأبصار والأفئدة.
وَقَوله: {قَلِيلا مَا تشكرون} أَي: قَلِيلا تشكرون.(4/244)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا أئذا ضللنا فِي الأَرْض} أَي: هلكنا فِي الأَرْض، يُقَال: ضل(4/244)
{جَدِيد بل هم بلقاء رَبهم كافرون (10) قل يتوفاكم ملك الْمَوْت الَّذِي وكل بكم ثمَّ} اللَّبن فِي المَاء أَي: هلك، وَيُقَال: بلينا وصرنا تُرَابا، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " صللنا " بالصَّاد غير مُعْجمَة. أَي: تغيرنا، يُقَال: صل اللَّحْم إِذا أنتن.
وَقَوله: {أئنا لفي خلق جَدِيد} أَي: نرْجِع أَحيَاء بعد مَا متْنا، وَقَالُوا هَذَا على طَرِيق الْجحْد وَالْإِنْكَار.
وَقَوله: {بل هم بلقاء رَبهم كافرون} أَي: بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت جاحدون.(4/245)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {قل يتوفاكم ملك الْمَوْت الَّذِي وكل بكم} ملك الْمَوْت هُوَ عزرائيل، وَقيل: يتوفاكم بِنَفسِهِ، وَيُقَال: بأعوانه. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن ملك الْمَوْت على مِعْرَاج بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، فينزع أعوانه روح الْإِنْسَان فَإِذا بلغ ثغرة نَحره قَبضه ملك الْمَوْت. وروى أَن الدُّنْيَا عِنْد ملك الْمَوْت كطست بَين رجْلي إِنْسَان.
وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: لَقِي جِبْرِيل ملك الْمَوْت ببحر فَارس، فَقَالَ: يَا ملك الْمَوْت، كَيفَ تقبض أَرْوَاح النَّاس إِذا وَقع الوباء، فَيَمُوت من هَذَا الْجَانِب عشرَة آلَاف، وَمن هَذَا الْجَانِب عشرَة آلَاف؟ فَقَالَ: تزوي الأَرْض بَين عَيْني فألتقطهم التقاطا.
وروى جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه: " أَن النَّبِي دخل على رجل من الْأَنْصَار يعودهُ، فَرَأى ملك الْمَوْت عِنْد رَأسه، فقتال لَهُ: ارْفُقْ بِهَذَا الرجل من أَصْحَابِي، فَقَالَ: طب نفسا وقر عينا، فَإِنِّي بِكُل مُؤمن رَفِيق، ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أردْت قبض روح بعوضة مَا قدرت عَلَيْهِ حَتَّى يَأْمر الله بِقَبْضِهِ، وَإِنِّي أتصفح وُجُوه النَّاس كل يَوْم خمس مَرَّات " وَالْخَبَر غَرِيب.(4/245)
{إِلَى ربكُم ترجعون (11) وَلَو ترى إِذْ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عِنْد رَبهم رَبنَا أبصرنا وَسَمعنَا فارجعنا نعمل صَالحا إِنَّا موقنون (12) وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نسيتم}
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أنس أَن النَّبِي قَالَ: " الْأَمْرَاض والأوجاع رسل الْمَوْت، فَإِذا قبض ملك الْمَوْت روح عبد، فتصارخوا عَلَيْهِ قَالَ: مَاذَا تصرخون؟ وَالله مَا نقصت لَهُ رزقا، وَلَا قدمت لَهُ أَََجَلًا، وَلَا ظلمت مِنْكُم أحدا، وَإِنَّمَا دَعَاهُ الله فَأَجَابَهُ، فليبك كل امْرِئ على نَفسه، وَإِن لي إِلَيْكُم عودات ثمَّ عودات حَتَّى لَا أبقى مِنْكُم أحدا " وَالْخَبَر من الغرائب أَيْضا.
وَأما التوفي فَهُوَ اسْتِيفَاء الْعدَد، وَمَعْنَاهُ: أَنه يقبض أَرْوَاحهم حَتَّى لَا يبْقى أحد من الْعدَد الَّذِي كتب مَوْتهمْ، قَالَ الشَّاعِر:
(إِن بنى الأدرم لَيْسُوا من أحد ... وَلَا توفيهم قُرَيْش من عدد)
يَعْنِي: مَا استوفاهم قُرَيْش من عَددهمْ.
وَقَوله: {ثمَّ إِلَى ربكُم ترجعون} أَي: تصيرون.(4/246)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ المجرمون ناكسوا رُءُوسهم} مَعْنَاهُ: وَلَو ترى الْمُجْرمين ناكسين رُءُوسهم من فرط النَّدَم وَشدَّة الوجل، وَفِي الْآيَة حذف، والمحذوف هُوَ: أَنَّك لَو ترى الْمُجْرمين ناكسين رُءُوسهم عِنْد رَبهم لرأيت مَا يعْتَبر بِهِ.
وَقَوله: {رَبنَا أبصرنا وَسَمعنَا} أَي: قائلين رَبنَا أبصرنا وَسَمعنَا أَي: أبصرنا صدق وعيدك، وَسَمعنَا مِنْك تَصْدِيق رسلك. قَالَ قَتَادَة: أبصروا حِين لم يَنْفَعهُمْ الْبَصَر. وسمعوا حِين لم يَنْفَعهُمْ السّمع. وَيُقَال: أبصرنا معاصينا، وَسَمعنَا مَا قيل فِينَا.
وَقَوله: {فارجعنا نعمل صَالحا} أَي: ردنا نعمل صَالحا.
وَقَوله: {إِنَّا موقنون} أَي: مصدقون بِالْبَعْثِ.(4/246)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها} أَي: هدايتها، وَمَعْنَاهُ: لَو شِئْنَا(4/246)
{لِقَاء يومكم هَذَا إِنَّا نسيناكم وذوقوا عَذَاب الْخلد بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤمن} لأدخلناهم فِي الْإِيمَان.
وَقَوله: {وَلَكِن حق القَوْل مني} أَي: وَجب القَوْل مني، وَيُقَال: سبق القَوْل مني. قَالَ الشَّاعِر:
(فَإِن تكن العتبى فأهلا ومرحبا ... وحقت لَك العتبى لدينا وَقلت)
وَقَوله: {لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} ،
وَقَوله: {الْجنَّة} هم الْجِنّ، والجآن: أَب الْجِنّ، كآدم أَب (الْإِنْس) .
وَرفع خَارِجَة خَبرا إِلَى النَّبِي " أَنه سُئِلَ هَل يدْخل مؤمنو الْجِنّ الْجنَّة؟ فَقَالَ: نعم. قيل: هَل يصيبون من نعيمها؟ قَالَ: يلهمهم الله تَسْبِيحَة وَذكره، فيصيبون من لَدنه مَا يُصِيبهُ بَنو آدم من نعيم الْجنَّة " حَكَاهُ النقاش فِي تَفْسِيره.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " تَحَاجَّتْ الْجنَّة وَالنَّار؛ فَقَالَت النَّار: أُوثِرت بالجبابرة والمتكبرين، وَقَالَت الْجنَّة: مَا بالي يدخلني سفلَة النَّاس وَسَقَطهمْ وَفِي رِوَايَة: ضعفاء النَّاس ومساكينهم، وَهُوَ الْأَشْهر فَقَالَ الله تَعَالَى للجنة: أَنْت رَحْمَتي، أرْحم بك من شِئْت، وَقَالَ للنار: أَنْت عَذَابي، أعذب بك من شِئْت، وَلكُل وَاحِدَة مِنْكُمَا ملؤُهَا ".(4/247)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {فَذُوقُوا بِمَا نسيتم لِقَاء يومكم هَذَا} أَي: بِمَا تركْتُم من التَّصْدِيق بلقاء يومكم هَذَا.
وَقَوله: {إِنَّا نسيناكم} أَي تركناكم من الْخَيْر وَالرَّحْمَة، وَقيل: تركناكم فِي الْعَذَاب.
وَقَوله: {وذوقوا عَذَاب الْخلد بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: الْعَذَاب الدَّائِم جَزَاء على(4/247)
{بِآيَاتِنَا الَّذين إِذا ذكرُوا بهَا خروا سجدا وسبحوا بِحَمْد رَبهم وهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جنُوبهم عَن الْمضَاجِع يدعونَ رَبهم خوفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (16) } عَمَلكُمْ. وَحكى عَن قَتَادَة أَنه قَالَ فِي قَوْله: {وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} أَي: بِذُنُوبِهِمْ. قَالَ الْأَزْهَرِي: وَهُوَ كَمَا قَالَ.(4/248)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤمن بِآيَاتِنَا الَّذين إِذا ذكرُوا بهَا} أَي: إِذا دعوا إِلَى الصَّلَوَات الْخمس أجابوا إِلَيْهَا، حَكَاهُ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ، وَيُقَال: إِذا وعظوا بآيَات الله اتعظوا.
وَقَوله: {خروا سجدا} أَي: وَقَعُوا سجدا، والخرور فِي اللُّغَة: هُوَ السُّقُوط، وَعَن حَكِيم بن حزَام قَالَ: " بَايَعت رَسُول الله أَن لَا أخر إِلَّا قَائِما " أَي: لَا أَمُوت إِلَّا وَأَنا ثَابت على الْإِسْلَام، وَقَوله: {وسبحوا بِحَمْد رَبهم} أَي: وصلوا بِأَمْر رَبهم.
وَيُقَال: سبحوا [الله] وحمدوه.
وَقَوله: {وهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ} أَي: لَا يتكبرون، وَيُقَال: من سجد لله فقد طرح التكبر عَن رَأسه، وَفِي بعض الْأَخْبَار: من سجد لله سَجْدَة رَفعه الله بهَا دَرَجَة.(4/248)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
قَوْله تَعَالَى: {تَتَجَافَى جنُوبهم} أَي: تنبوا وترتفعوا، وَمَعْنَاهُ: أَنهم يتركون الْمضَاجِع ويقومون إِلَى الصَّلَاة، قَالَ حسان بن ثَابت:
(يبيت يُجَافِي جنبه عَن فرَاشه ... إِذا استثقلت بالمشركين الْمضَاجِع)
وَاخْتلف القَوْل فِي هَذِه الْآيَة، فروى عَن عَطاء أَنه قَالَ: كَانُوا لَا ينامون حَتَّى يصلوا الْعَتَمَة، فَانْزِل الله هَذِه الْآيَة.
وَعَن الْحسن وَقَتَادَة قَالَا: هُوَ الصَّلَاة بَين الْمغرب وَالْعشَاء.
وَقَالَ الضَّحَّاك: إِذا استيقظوا ذكرُوا الله وسبحوه.
وَعَن أبي الدَّرْدَاء وَأبي ذَر وَعبادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنْهُم أَنهم قَالُوا: هُوَ(4/248)
{فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (17) أَفَمَن كَانَ} صَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة وَالْفَجْر فِي جمَاعَة.
وَأشهر الْأَقَاوِيل: أَن المُرَاد مِنْهُ صَلَاة اللَّيْل، قَالَه مُجَاهِد وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَجَمَاعَة.
وَعَن النَّبِي أَنه قَالَ: " عَلَيْكُم بِصَلَاة اللَّيْل، فَإِنَّهَا دأب الصَّالِحين قبلكُمْ ".
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِي عبد الله بن عمر: نعم الرجل عبد الله لَو كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَلم يتْرك بعد ذَلِك صَلَاة اللَّيْل حَتَّى توفاه الله تَعَالَى ".
وَفِي حَدِيث معَاذ بن جبل أَن النَّبِي قَالَ: " الصَّوْم جنَّة، وَالصَّدَََقَة تكفر الْخَطِيئَة، وَالصَّلَاة جَوف اللَّيْل، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: (تَتَجَافَى جنُوبهم عَن الْمضَاجِع) ".
وَقَوله: {يدعونَ رَبهم خوفًا وَطَمَعًا} أَي: خوفًا من النَّار، وَطَمَعًا فِي الْجنَّة.
وَقَوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} يُقَال: إِن المُرَاد مِنْهَا الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَيُقَال: الصَّدَقَة والتطوع.(4/249)
{مُؤمنا كمن كَانَ فَاسِقًا لَا يستوون (18) أما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فَلهم جنَّات}(4/250)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين} وَقُرِئَ: " قرات أعين ".
وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن ابي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: أَعدَدْت لعبادي الصَّالِحين مَا لَا عين رَأَتْ، وَلَا أذن سَمِعت، وَلَا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إِن شِئْتُم قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين} ".
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا بِالْحَدِيثِ أَبُو عَليّ الشَّافِعِي، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن [فراس] أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُقْرِئ، أخبرنَا جدي مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد الْمُقْرِئ، أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن أبي الزِّنَاد. . الْخَبَر.
وَقَوله: {من قُرَّة أعين} أَي: مَا تقر بِهِ أَعينهم، وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره عَن مُوسَى بن يسَار قَالَ: يمْكث الْمُؤمن فِي الْجنَّة مَعَ زَوجته حينا، فَتَطلع عَلَيْهِ أُخْرَى، فَتَقول لَهُ: أما آن يكون لنا مِنْك دولة؟ فَيَقُول لَهَا: من أَنْت؟ فَتَقول: أَنا من الَّذين قَالَ الله تَعَالَى: {فَلَا تعلم نفس مَا اخفي لَهُم من قُرَّة أعين} فَينْتَقل إِلَيْهَا وَيمْكث مَعهَا حينا، فتشرف عَلَيْهِ أُخْرَى، وَتقول مثل مَا قَالَت الأولى، فَيَقُول لَهَا: من أَنْت؟ فَتَقول: أَنا من الَّذين قَالَ الله تَعَالَى: {ولدينا مزِيد} .
وَعَن ابْن سِيرِين قَالَ: مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين: هُوَ النّظر إِلَى الله تَعَالَى. (وَعَن بَعضهم) قَالَ: أخفوا أَعْمَالهم فأخفى الله ثوابهم.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْخفية بالخفية، وَالْعَلَانِيَة بالعلانية.
وَقَوله: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(4/250)
{المأوى نزلا بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (19) وَأما الَّذين فسقوا فمأواهم النَّار كلما أَرَادوا أَن يخرجُوا مِنْهَا أعيدوا فِيهَا وَقيل لَهُم ذوقوا عَذَاب النَّار الَّذِي كُنْتُم بِهِ تكذبون (20) ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر لَعَلَّهُم يرجعُونَ (21) وَمن أظلم}(4/251)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ مُؤمنا كمن كَانَ فَاسِقًا} أَكثر الْمُفَسّرين أَن الْآيَة نزلت فِي عَليّ بن أبي طَالب والوليد بن عقبَة بن أبي معيط، وَذكر بَعضهم: عقبَة، وَالأَصَح هُوَ الأول. قَالَ الْوَلِيد: أَنا أحد مِنْك سِنَانًا، وأبسط مِنْك لِسَانا، وَأَمْلَأُ مِنْك للكتيبة. فَقَالَ لَهُ عَليّ: اسْكُتْ، إِنَّمَا انت فَاسق، فَانْزِل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقد بَينا أَن ثَلَاث آيَات من هَذِه السُّورَة نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَهِي من هَذِه الْآيَة إِلَى آخر الثَّلَاث، وَاسْتدلَّ أهل الاعتزال بِهَذِهِ الاية فِي القَوْل بالمنزلة بَين المنزلتين، وَأَن الْفَاسِق لَا يكون مُؤمنا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِم ظَاهر. وَأما الْفَاسِق هَا هُنَا بِمَعْنى الْكَافِر. وَقَالَ بَعضهم: سَمَّاهُ فَاسِقًا على مُوَافقَة قَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَقيل: إِن الْآيَة على الْعُمُوم.
قَوْله تَعَالَى: {لَا يستوون} أَي: لَا يستوون فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.(4/251)
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)
قَوْله تَعَالَى: {أما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فَلهم جنَّات المأوى نزلا بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: عَطاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ، وجنات المأوى هِيَ الجنات الَّتِي يأوي الْمُؤْمِنُونَ إِلَيْهَا.(4/251)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَأما الَّذين فسقوا فمأواهم النَّار} أَي: [يأوون] إِلَى النَّار، ويأوون: يَنْقَلِبُون.
وَقَوله: {كلما أَرَادوا أَن يخرجُوا مِنْهَا أعيدوا فِيهَا} فِي بعض التفاسير: أَن لِجَهَنَّم ساحلا كساحل الْبَحْر، فَيخرج الْكفَّار إِلَيْهِ فَتحمل عَلَيْهِم حيات لَهَا أَنْيَاب كالنخيل، فيرجعون إِلَى النَّار ويستغيثون بهَا.
وَقَوله: {وَقيل لَهُم ذوقوا عَذَاب النَّار الَّذِي كُنْتُم بِهِ تكذبون} والأثر الَّذِي ذَكرْنَاهُ أوردهُ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره.(4/251)
{مِمَّن ذكر بآيَات ربه ثمَّ أعرض عَنْهَا إِنَّا من الْمُجْرمين منتقمون (22) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب فَلَا تكن فِي مرية من لِقَائِه وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل (23) وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة}(4/252)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
قَوْله تَعَالَى: {ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى} قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ الْجُوع الَّذِي أصَاب الْكفَّار حَتَّى أكلُوا الميتات والجيف، وَذَلِكَ بِمَا دَعَا عَلَيْهِم رَسُول الله من السنين، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هُوَ الْقَتْل ببدر، وَعَن جمَاعَة من التَّابِعين أَنهم قَالُوا: هُوَ المصائب. وَعَن بَعضهم: هُوَ الْحُدُود، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد: الْعَذَاب الْأَدْنَى هُوَ غلاء السّعر، وَالْعَذَاب الْأَكْبَر هُوَ خُرُوج الْمهْدي بِالسَّيْفِ. وعَلى أَقْوَال من ذكرنَا من قبل الْعَذَاب الْأَكْبَر: يَوْم الْقِيَامَة، ونعوذ بِاللَّه مِنْهَا.
وَقَوله: {دون الْعَذَاب الْكبر} أَي: سوى الْعَذَاب الْأَكْبَر.
وَقَوله: {لَعَلَّهُم يرجعُونَ} أَي: يرجعُونَ عَن الْكفْر.(4/252)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن أظلم مِمَّن ذكر بآيَات ربه} أَي: وعظ بآيَات ربه، وآيات ربه هُوَ الْقُرْآن.
وَقَوله: {ثمَّ أعرض عَنْهَا إِنَّا من لمجرمين منتقمون} روى معَاذ أَن النَّبِي قَالَ: " ثَلَاث من فعلهن فَهُوَ مجرم، من عقد لِوَاء بِغَيْر حق فَهُوَ مجرم وَمن مَشى مَعَ ظَالِم لِيَنْصُرهُ فَهُوَ مجرم، وَمن عق وَالِديهِ فَهُوَ مجرم، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا من الْمُجْرمين منتقمون} ".(4/252)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} أَي: التَّوْرَاة.
وَقَوله: {فَلَا تكن فِي مرية من لِقَائِه} أَي: فِي شكّ فِي لِقَائِه، وَفِي مَعْنَاهُ أقاويل:(4/252)
{يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يوقنون (24) إِن رَبك هُوَ يفصل بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَو لم يهد لَهُم كم أهلكنا من قبلهم من الْقُرُون} أَحدهَا: مَا روى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَن مَعْنَاهُ: فَلَا تكن فِي شكّ من لقائك مُوسَى، وَقد كَانَ لقِيه لَيْلَة الْإِسْرَاء. وَفِي الْخَبَر ان النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت مُوسَى آدم طوَالًا جعد الشّعْر كَأَنَّهُ من رجال شنُوءَة، وَرَأَيْت عِيسَى رجلا ربعَة إِلَى الْحمرَة سبط الشّعْر ... " وَالْخَبَر طَوِيل. وَالْقَوْل الثَّانِي: فَلَا تكن فِي مرية من لِقَائِه أَي: من لِقَاء مُوسَى الْكتاب، ولقاء مُوسَى الْكتاب: تلقيه بِالْقبُولِ، ذكره الزّجاج وَغَيره، وَالْقَوْل الثَّالِث: فَلَا تكن فِي مرية من لِقَاء مُوسَى ربه، حَكَاهُ النقاش، وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل.
وَقَوله: {فَلَا تكن فِي مرية من لِقَائِه} رَاجع إِلَى مَا سبق من قَوْله تَعَالَى: {ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر} وَمَعْنَاهُ: فَلَا تكن فِي مرية من لِقَاء يَوْم الْعَذَاب، وَالله أعلم. {وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل} يُقَال: إِنَّه رَاجع إِلَى مُوسَى، وَيُقَال: رَاجع إِلَى الْكتاب.(4/253)
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
وَقَوله: {وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة} أَي: قادة إِلَى الْخَيْر، وَقَالَ بَعضهم: هم الْأَنْبِيَاء، وَقَالَ بَعضهم: أَتبَاع الْأَنْبِيَاء.
وَقَوله: {يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا} أَي: يرشدون بوحينا لما صَبَرُوا، وَقُرِئَ " لما صَبَرُوا " أَي: عَن الْمعاصِي، وَقيل: عَن شهوات الدُّنْيَا.
وَقَوله: {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يوقنون} أَي: يصدقون.(4/253)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك هُوَ يفصل بَينهم يَوْم الْقِيَامَة} أَي: يحكم بَينهم حكم الْفَصْل.
وَقَوله: {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(4/253)
{يَمْشُونَ فِي مساكنهم إِن فِي ذَلِك لآيَات أَفلا يسمعُونَ (26) أَو لم يرَوا أَنا نسوق المَاء إِلَى الأَرْض الجرز فنخرج بِهِ زرعا تَأْكُل مِنْهُ أنعامهم وأنفسهم أَفلا يبصرون (27) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْفَتْح إِن كُنْتُم صَادِقين (28) قل يَوْم الْفَتْح لَا ينفع الَّذين كفرُوا}(4/254)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يهد لَهُم} مَعْنَاهُ: أَو لم يبين لَهُم مُحَمَّد؟ وَقيل: الْكتاب، وَقُرِئَ: " أَو لم نهد لَهُم " أَي: نبين لَهُم.
وَقَوله: {كَمَا أهلكنا من قبلهم من الْقُرُون يَمْشُونَ فِي مساكنهم} أَي: يمشي أهل مَكَّة فِي مساكنهم.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات أَفلا يسمعُونَ} أَي: سَماع قبُول.(4/254)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا أَنا نسوق المَاء إِلَى الأَرْض الجرز} أَي: الْيَابِس الَّذِي لَا ينْبت شَيْئا، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ ارْض بِالْيمن، وَقَالَ مُجَاهِد: بأندلس، وَيُقَال: الأَرْض الجرز هُوَ الَّذِي أكل زَرعهَا وَلم يبْق فِيهَا شَيْء.
وَقَوله: {فنخرج بِهِ زرعا تَأْكُل مِنْهُ أنعامهم} يَعْنِي: من العشب والتبن.
وَقَوله: {وأنفسهم} من الْحِنْطَة وَالشعِير وَسَائِر الأقوات.
وَقَوله: {أَفلا يبصرون} ظَاهر الْمَعْنى.(4/254)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)
وَقَوله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْفَتْح عَن كُنْتُم صَادِقين} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهمَا: أَن الْفَتْح هُوَ فتح مَكَّة. وَالْآخر: أَنه الْقَتْل بِالسَّيْفِ. وَالثَّالِث: هُوَ يَوْم الْقِيَامَة. وَالرَّابِع: هُوَ قَضَاء الله بَين الْعباد.(4/254)
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {قل يَوْم الْفَتْح لَا ينفع الَّذين كفرُوا إِيمَانهم} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة. وَمن حمل الْفَتْح على فتح مَكَّة أَو الْقَتْل بِالسَّيْفِ يَوْم بدر، فَقَالَ: معنى قَوْله: {لَا ينفع الَّذين كفرُوا إِيمَانهم} ، أَي: بعد الْمَوْت.
وَقَوله: {وَلَا هم ينظرُونَ} أَي: يمهلون ليتوبوا أَو يعتذروا، وَقد كَانُوا يمهلون فِي(4/254)
{إِيمَانهم وَلَا هم ينظرُونَ (29) فاعرض عَنْهُم وانتظر إِنَّهُم منتظرون (30) . الدُّنْيَا ليتوبوا أَو يعتذروا.(4/255)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
قَوْله تَعَالَى: {فَأَعْرض عَنْهُم} هَذِه الْآيَة قبل آيَة السَّيْف، وَقد نسختها آيَة السَّيْف، وَيُقَال: فَأَعْرض عَن أذاهم وَإِن أذوك.
وَقَوله: {وانتظر إِنَّهُم منتظرون} أَي: وانتظر عَذَابهمْ ووعيدنا فيهم فَإِنَّهُم منتظرون. كَذَلِك فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {إِنَّهُم منتظرون} الْعَذَاب، وَمَا كَانُوا آمنُوا بِالْعَذَابِ؟ وَالْجَوَاب: لما كَانَ الله تَعَالَى وعدهم بِالْعَذَابِ، وَكَانَ ذَلِك واصلا إِلَيْهِم لَا محَالة؛ سماهم: منتظرين على مجَاز الْكَلَام، وَيُقَال: فَإِنَّهُم منتظرون: أَي موتك وحوادث الدَّهْر لَك؛ ليستريحوا مِنْك.(4/255)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يَا أَيهَا النَّبِي اتَّقِ الله وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ إِن الله كَانَ عليما حكيما (1) وَاتبع مَا يُوحى إِلَيْك من رَبك إِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا (2) وتوكل على الله}
تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب
وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْجَمِيع(4/256)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
{يَا أَيهَا النَّبِي اتَّقِ الله} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: (أَي) دم على التَّقْوَى، كَالرّجلِ يَقُول لغيره وَهُوَ قَائِم قُم هَا هُنَا أَي: اثْبتْ قَائِما، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَالْمرَاد أمته.
وَقيل أَيْضا فِي الْآيَة: {اتَّقِ الله} أَي: استكثر من أَسبَاب التَّقْوَى، وَالتَّقوى: هِيَ الْعَمَل بِطَاعَة الله رَجَاء رَحْمَة الله على نور من الله، وَترك مَعْصِيّة الله خوف عَذَاب الله على نور من الله، وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن أَبَا سُفْيَان وَعِكْرِمَة بن أبي جهل وَأَبا الْأَعْوَر السّلمِيّ قدمُوا الْمَدِينَة فِي مُدَّة الْهُدْنَة، وطلبوا من رَسُول الله أَشْيَاء كريهة؛ فهم رَسُول الله والمسلمون أَن يقتلوهم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {يَا أَيهَا النَّبِي اتَّقِ الله} يَعْنِي: لَا تنقض الْعَهْد الَّذِي بَيْنك وَبينهمْ، ذكره الضَّحَّاك.
وَقَوله: {وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ} أى: الْكَافرين من أهل مَكَّة، وَالْمُنَافِقِينَ من أهل الْمَدِينَة.
وَقَوله: {إِن الله كَانَ عليما حكيما} أَي: عليما بخلقه قبل أَن يخلقهم، حكيما فِيمَا دبره لَهُم.(4/256)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
وَقَوله تَعَالَى: {وَاتبع مَا يُوحى إِلَيْك من رَبك} أَي: من الْقُرْآن.
وَقَوله: {إِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} أَي: خَبِيرا بأعمالكم.(4/256)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
قَوْله تَعَالَى: {وتوكل على الله} أَي: ثق بِاللَّه.(4/256)
{وَكفى بِاللَّه وَكيلا (3) مَا جعل الله لرجل من قلبين فِي جَوْفه وَمَا جعل أزواجكم اللائي تظاهرون مِنْهُنَّ أُمَّهَاتكُم وَمَا جعل أدعياءكم أبناءكم ذَلِكُم قَوْلكُم بأفواهكم}
وَقَوله: {وَكفى بِاللَّه وَكيلا} أَي: وَكفى بِاللَّه حَافِظًا لَك، وَيُقَال: وَكفى بِاللَّه كَفِيلا يرزقك.(4/257)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
قَوْله تَعَالَى: {مَا جعل الله لرجل من قلبين فِي جَوْفه} فِي الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا: مَا ذكر السّديّ وَغَيره: أَن رجلا كَانَ يُقَال لَهُ: جميل بن معمر وَالأَصَح أَبُو معمر جميل ابْن أَسد، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يسمونه ذَا القلبين لشدَّة ذكائه وفطنته، فَلَمَّا هزم الله تَعَالَى الْمُشْركين يَوْم بدر فَكَانَ هُوَ مَعَهم انهزم أَيْضا؛ فَلَقِيَهُ أَبُو سُفْيَان وَإِحْدَى نَعْلَيْه فِي رجله وَالْأُخْرَى قد علق بِيَدِهِ. فَقَالَ لَهُ: مَا شَأْن النَّاس؟ قَالَ: هزموا. فَقَالَ: مَا شَأْن نعلك بِيَدِك؟ فَقَالَ: مَا علمت إِلَّا أَنَّهَا فِي رجْلي؛ فَعَلمُوا أَنه لَيْسَ لَهُ إِلَّا قلب وَاحِد، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْمُنَافِقين كَانُوا يَقُولُونَ: لمُحَمد قلبان؛ قلب مَعكُمْ، وقلب مَعَ أَصْحَابه؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَأخْبر أَنه لَيْسَ لَهُ إِلَّا قلب وَاحِد.
وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يَقُول: إِن لي نفسا تَأْمُرنِي بِالْخَيرِ، ونفسا تَأْمُرنِي بِالشَّرِّ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأخْبر أَنه لَيْسَ لأحد إِلَّا نفس وَاحِدَة وقلب وَاحِد، وَإِنَّمَا الْأَمر بِالْخَيرِ بإلهام الله، وَالْأَمر بِالشَّرِّ بإلهام الشَّيْطَان.
وَالْقَوْل الرَّابِع: مَا جعل الله لرجل من قلبين فِي جَوْفه أَي: مَا جعل لرجل أبوين، وَقد احْتج بِهِ الشَّافِعِي فِي مَسْأَلَة القائفة، وَقَالَ هَذَا: لِأَن زيد بن حَارِثَة كَانَ ينْسب إِلَى النَّبِي بِالنُّبُوَّةِ، فَقَالَ الله تَعَالَى: {مَا جعل الله لرجل} أبوين أَي: هُوَ ابْن حَارِثَة، وَلَيْسَ بِابْن النَّبِي.
وَقَوله: {وَمَا جعل أزواجكم اللائي تظاهرون مِنْهُنَّ أُمَّهَاتكُم} وَالظِّهَار هُوَ أَن يَقُول الرجل لزوجته: أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي، وَقد كَانُوا يعدونه طَلَاقا، فَإِن قيل: كَيفَ(4/257)
{وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل (4) ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أقسط عِنْد الله فَإِن لم تعلمُوا آبَاءَهُم فإخوانكم فِي الدّين ومواليكم وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن} وَجه الْجمع بَين هَذَا وَبَين مَا سبق؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن مَعْنَاهُ لَيْسَ الْأَمر كَمَا زعمتم من اجْتِمَاع قلبين لرجل أَو أبوين، وَلَا كَمَا زعمتم من أَن الْمَرْأَة تصير كالأم بالظهار. وَأما معنى الظِّهَار وَحكمه فسنذكر فِي سُورَة المجادلة.
وَقَوله: {وَمَا جعل أدعياءكم أبناءكم} فِي الْآيَة نسخ التبني، وَقد كَانَ الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة يتبنى الرجل ويجعله ابْنا لَهُ مثل الابْن الْمَوْلُود، وعَلى ذَلِك تبنى رَسُول الله زيد بن حَارِثَة، فنسخ الله تَعَالَى ذَلِك.
وَقَوله: {ذَلِكُم قَوْلكُم بأفواهكم} أَي: هُوَ قَول لَا حَقِيقَة لَهُ.
وَقَوله: {وَالله يَقُول الْحق} أَي: قَوْله الْحق بِمَا نهى من التبني.
وَقَوله: {وَهُوَ يهدي السَّبِيل} أَي: يرشد إِلَى طَرِيق الْحق.(4/258)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
قَوْله تَعَالَى: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} قد ثَبت بِرِوَايَة مُوسَى بن عقبَة، عَن سَالم، عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: " مَا كُنَّا نَدْعُو زيد بن حَارِثَة إِلَّا زيد بن مُحَمَّد حَتَّى أنزل الله تَعَالَى: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ".
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بذلك مكي بن عبد الرَّزَّاق، أخبرنَا أَبُو الْهَيْثَم، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ أخبرنَا مُعلى بن أَسد، عَن عبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار عَن مُوسَى ابْن عقبَة. . الحَدِيث.
وَقَوله: {هُوَ أقسط عِنْد الله} أَي: أعدل عِنْد الله.
وَقَوله: {فَإِن لم تعلمُوا آبَاءَهُم فإخوانكم فِي الدّين} أَي: سموهم بأسماء إخْوَانكُمْ فِي الدّين، وَذَلِكَ مثل، عبد الله، وَعبد الْكَرِيم، وَعبد الرَّحْمَن، وَعبد الْعَزِيز، وَأَشْبَاه ذَلِك.(4/258)
{مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (5) النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله من الْمُؤمنِينَ}
وَقَوله: {ومواليكم} هَذَا قَول الرجل للرجل: أَنا أَخُوك ومولاك، أَو يَقُول: أَنا أَخُوك ووليك، وَيُقَال: إخْوَانكُمْ فِي الدّين من كَانُوا فِي الأَصْل أحرارا ومواليكم من أعتقوا، وَيُقَال: مواليكم من أسلم على أَيْدِيكُم.
وَقَوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ} الْخَطَأ فِي هَذَا أَن يَقُول لغيره: يَا بن فلَان، وَهُوَ يظنّ أَنه ابْنه، ثمَّ يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ بِابْنِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: الْخَطَأ هَا هُنَا هُوَ مَا فعلوا قبل النَّهْي، والتعمد مَا فَعَلُوهُ بعد النَّهْي.
وَقَوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} أَي: ستورا عطوفا.(4/259)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
قَوْله تَعَالَى: {النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم} أَي: من بَعضهم بِبَعْض.
وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " أَنا أولى بِكُل مُؤمن ومؤمنة من نَفسه، فَمن ترك مَالا فلورثته وَمن ترك دينا أَو ضيَاعًا فَإِلَيَّ ".
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ: أَن الرَّسُول إِذا دَعَاهُ إِلَى شَيْء، وَنَفسه دَعَتْهُ إِلَى شَيْء، فَيتبع الرَّسُول وَلَا يتبع النَّفس، وَالْقَوْل الثَّالِث: هُوَ مَا رُوِيَ أَن النَّبِي كَانَ يخرج إِلَى الْجِهَاد، فَيَقُول قوم: يَا رَسُول الله، نَذْهَب فنستأذن من آبَائِنَا وَأُمَّهَاتنَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {وأزواجه أمهاتهم} أَي: فِي الْحُرْمَة خَاصَّة دون النّظر إلَيْهِنَّ وَالدُّخُول عَلَيْهِنَّ، وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود وَأبي: " وأزواجه امهاتهم وَهُوَ أَب لَهُم ".(4/259)
{والمهاجرين إِلَّا أَن تَفعلُوا إِلَى أوليائكم مَعْرُوفا كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطورا (6) }
وَاخْتلفُوا فِي الْمَرْأَة الَّتِي فَارقهَا النَّبِي قبل الْوَفَاة على ثَلَاثَة أوجه: فأحد الْوُجُوه: أَنَّهَا مُحرمَة أَيْضا، وَالْوَجْه الآخر: أَنَّهَا لَيست بمحرمة، وَالْوَجْه الثَّالِث: أَنَّهَا إِن كَانَ دخل بهَا فَهِيَ مُحرمَة، وَإِن لم يكن دخل بهَا فَلَيْسَتْ بمحرمة.
وَاخْتلف الْوَجْه أَيْضا فِي أَنَّهُنَّ هَل يكن أُمَّهَات الْمُؤْمِنَات، فأحد الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُنَّ أُمَّهَات الْمُؤْمِنَات كَمَا أَنَّهُنَّ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ، وَالْوَجْه الآخر: انهن أُمَّهَات الرِّجَال دون النِّسَاء، وروى أَن امْرَأَة قَالَت لعَائِشَة: يَا أُمَّاهُ، فَقَالَت: أَنا أم رجالكم دون نِسَائِك.
وَأما أخوة أَزوَاج النَّبِي فليسوا بأخوال الْمُؤمنِينَ، وَكَذَلِكَ أَخَوَات أَزوَاج النَّبِي لستن خالات الْمُؤمنِينَ.
وَقد روى أَنه كَانَت عِنْد الزبير أَسمَاء بنت أبي بكر، فَقَالَت الصَّحَابَة: عِنْد الزبير أُخْت أم الْمُؤمنِينَ، وَلم يَقُولُوا: عِنْده خَالَة الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: {وأولو الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} أَي: أولى بَعضهم بِبَعْض مِيرَاثا فِي حكم الله، وَقد كَانُوا يتوارثون بِالْهِجْرَةِ، فنسخ الله تَعَالَى ذَلِك إِلَى التَّوَارُث بِالْقَرَابَةِ. وروى أَن النَّبِي آخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَكَانَ يَرث بَعضهم بَعْضًا "، ثمَّ نسخ ذَلِك.
وَقَوله: {من الْمُؤمنِينَ والمهاجرين} دَلِيل على أَن الْمُؤمنِينَ لَا يَرث الْكَافِر، وَالْكَافِر لَا يَرث الْمُؤمن.
وَقَوله: {والمهاجرين} دَلِيل على أَن المُهَاجر لَا يَرث من غير الْمُهَاجِرين، وَلَا غير المُهَاجر من المُهَاجر.
وَقَوله: {إِلَّا أَن تَفعلُوا إِلَى أوليائكم مَعْرُوفا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِلَّا أَن توصوا وَصِيَّة لغير الأقرباء الَّذين هم أهل دينكُمْ، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنه نسخ ميراثهم، وَأبقى جَوَاز الْوَصِيَّة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة هُوَ الْوَصِيَّة للْكفَّار، فَالْمَعْنى على(4/260)
{وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى ابْن مَرْيَم وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا (7) ليسأل الصَّادِقين عَن صدقهم وَأعد للْكَافِرِينَ عذَابا} هَذَا: أَن الْكفَّار لَا يَرِثُونَ الْمُسلمين، وَلَو أوصى لَهُم جَازَ.
وَقَوله: {كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطورا} أَي: فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَيُقَال: فِي الْقُرْآن وَسَائِر كتب الله.(4/261)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
وَقَوله: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم} الْمِيثَاق: الْعَهْد الغليظ، وَأَشد الْعَهْد هُوَ التَّحْلِيف بِاللَّه.
وَقَوله: {ومنك وَمن نوح} اخْتلف القَوْل فِي تَقْدِيم النَّبِي، فأحد الْقَوْلَيْنِ: مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَنا أول النَّبِيين خلقا وَآخرهمْ بعثا ".
وَعَن قَتَادَة قَالَ: بَدَأَ بِهِ فِي الْخلق، وَختم بِهِ فِي الْبَعْث، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْوَاو توجب الْجمع، وَلَا توجب تَقْدِيمًا وَلَا تَأْخِيرا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَخذنَا من هَؤُلَاءِ النَّبِيين ميثاقهم، وَخص هَؤُلَاءِ لأَنهم كَانُوا أَصْحَاب الشَّرَائِع وهم: نوح، وَإِبْرَاهِيم، ومُوسَى، وَعِيسَى [ابْن مَرْيَم] ، وَمُحَمّد. وَأما معنى الْمِيثَاق: قَالَ أهل التَّفْسِير: أَخذ عَلَيْهِم أَن يعبدوا الله ويدعوا إِلَى عبَادَة الله، وَيصدق بَعضهم بَعْضًا، وينصحوا النَّاس، وَيُقَال: أَخذ على نوح أَن يبشر بإبراهيم، وعَلى إِبْرَاهِيم أَن يبشر بمُوسَى، [وعَلى مُوسَى أَن يبشر بِعِيسَى] ، وَهَكَذَا إِلَى مُحَمَّد.
وَقَوله: {وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا} قد بَينا من قبل.
وروى عَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: أَخذ ذُرِّيَّة آدم من ظهر آدم، والنبيون فيهم،(4/261)
{أَلِيمًا (8) يَا أَيهَا وَا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ جاءتكم جنود فارسلنا عَلَيْهِم ريحًا وجنودا لم} كَأَنَّهُمْ سرج تزهو، وَأخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق. وَعَن بَعضهم: خلق الْأَرْوَاح قبل الأجساد، وَأخذ الْمِيثَاق على الْأَرْوَاح.(4/262)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
قَوْله تَعَالَى: {ليسأل الصَّادِقين عَن صدقهم} أَي: ليسأل النَّبِيين عَن تبليغهم الرسَالَة، فَإِن قَالَ قَائِل: وَأي حِكْمَة فِي سُؤَالهمْ عَن تَبْلِيغ الرسَالَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: الْحِكْمَة فِي ذَلِك تبكيت الَّذين أرْسلُوا إِلَيْهِم، وعَلى هَذَا الْمَعْنى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} .
وَيُقَال: ليسأل الصَّادِقين عَن عَمَلهم لله، وَقيل: ليسأل الصَّادِقين بأفواههم عَن صدقهم فِي قُلُوبهم.
وَقَوله: {وَأعد للْكَافِرِينَ عذَابا أَلِيمًا} قد تمّ الْكَلَام الأول، وَهَذَا ابْتِدَاء كَلَام، وَمَعْنَاهُ مَعْلُوم.(4/262)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم} أى: منَّة الله عَلَيْكُم.
وَقَوله: {إِذْ جاءتكم جنود} المُرَاد من الْجنُود هم الْأَحْزَاب الَّذين تحزبوا على رَسُول الله وهم: قُرَيْش عَلَيْهِم أَبُو سُفْيَان، وَأسد عَلَيْهِم طليحة بن (خويلد) ، وغَطَفَان عَلَيْهِم عُيَيْنَة بن حصن، وَكَانَت عدتهمْ بلغت اثْنَي عشر ألفا، (وَرَئِيس الْجَمَاعَة) أَبُو سُفْيَان، وقصدوا استئصال النَّبِي وَأَصْحَابه، وَدخل يهود قُرَيْظَة مَعَهم وَأمرهمْ مَعَهم، وَنَقَضُوا الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَينهم وَبَين النَّبِي فِي قصَّة طَوِيلَة؛ فَلَمَّا بلغ النَّبِي أَمرهم حفر الخَنْدَق حول الْمَدِينَة، [وَهَذِه هِيَ] غَزْوَة الخَنْدَق وَجمع الْأَحْزَاب.(4/262)
{تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا (9) إِذْ جاءوكم من فَوْقكُم وَمن أَسْفَل مِنْكُم وَإِذ زاغت الْأَبْصَار وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر وتظنون بِاللَّه الظنونا (10) هُنَالك ابْتُلِيَ}
وَقَوله: {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا} فِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى أرسل عَلَيْهِم ريح الصِّبَا حَتَّى هزمتهم، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " نصرت بالصبا، وأهلكت عَاد، بالدبور ". وَكَانَت الرّيح تقلع فساطيطهم، وتقلب قدورهم، وتسف التُّرَاب فِي وُجُوههم، وجالت خيلهم بَعْضًا فِي بعض؛ فَانْهَزَمُوا ومروا، وَكفى الله أَمرهم.
وَقَوله: {وجنودا لم تَرَوْهَا} أَي: الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا} ظَاهر الْمَعْنى.(4/263)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ جاءوكم من فَوْقكُم} فِي التَّفْسِير: أَن الَّذين جَاءُوا من فَوْقهم هم أَسد وغَطَفَان.
وَقَوله: {وَمن أَسْفَل مِنْكُم} هم قُرَيْش وكنانة. وَيُقَال: الَّذين جَاءُوا من فَوْقهم قُرَيْظَة، وَمن أَسْفَل مِنْكُم قُرَيْش وغَطَفَان.
وَقَوله: {وَإِذ زاغت الْأَبْصَار} أَي: شخصت الْأَبْصَار، وَفِي الْعَرَبيَّة معنى زاغت: مَالَتْ، فَكَأَنَّهَا مَالَتْ شاخصة، فَهَذَا من الرعب وَالْخَوْف.
وَقَوله: {وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر} أَي: بنت عَن أماكنها وَارْتَفَعت، قَالَ قَتَادَة: لَو وجدت مسلكها لَخَرَجت من الْحَنَاجِر، وَلكنهَا ضَاقَتْ عَلَيْهَا. وَالأَصَح من الْمَعْنى أَن هَذَا على طَرِيق التَّمْثِيل، وَالْعرب تَقول: بلغ قلب فلَان حنجرته، أَي: من الرعب وَالْخَوْف والحنجرة حرف الْحُلْقُوم وَهُوَ كلمة عبارَة عَن شدَّة الْفَزع.
وَقَوله: {وتظنون بِاللَّه الظنونا} أَي: وَدخلت الْألف لموافقة (أَوَاخِر) الْآيَات فِي السُّورَة.(4/263)
{الْمُؤْمِنُونَ وزلزلوا زلزالا شَدِيدا (11) وَإِذ يَقُول المُنَافِقُونَ الَّذين فِي قُلُوبهم مرض مَا وعدنا الله وَرَسُوله إِلَّا غرُورًا (12) وَإِذ قَالَت طَائِفَة مِنْهُم يَا أهل يثرب لَا مقَام لكم}
قَالَ الشَّاعِر:
(أقلى اللوم عاذل والعتابا ... وَقَوْلِي إِن أصبت لقد أصابا)
أَي: أقلى يَا عاذلي اللوم والعتاب.(4/264)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
قَوْله تَعَالَى: {هُنَالك ابتلى الْمُؤْمِنُونَ} هُنَالك فِي اللُّغَة للبعيد، وَهنا للقريب، وَهُنَاكَ للوسط، وَمعنى هُنَالك هَا هُنَا أَي: عِنْد ذَلِك ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ.
وَقَوله: {وزلزلوا زلزالا شَدِيدا} أَي: حركوا حَرَكَة شَدِيدَة، وَقُرِئَ: " زلزالا " بِفَتْح الزَّاي، وَالْأَشْهر بِكَسْر الزَّاي " زلزالا "، وَهُوَ الْأَصَح فِي الْعَرَبيَّة. وَمن الْأَخْبَار الْمَشْهُورَة: أَن رجلا قَالَ لِحُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ: رَأَيْت رَسُول الله وصحبته، وَالله لَو رَأَيْنَاهُ حملناه على أعناقنا. فَقَالَ حُذَيْفَة: أخْبرك أَيهَا الرجل أَنا كُنَّا مَعَ رَسُول الله فِي غَزْوَة الخَنْدَق، فَبلغ بِنَا الْجهد والجوع وَالْخَوْف مَا الله بِهِ أعلم، فَقَالَ رَسُول الله من مِنْكُم يذهب فَيَأْتِي بِخَبَر الْقَوْم، وَالله يَجعله رفيقي فِي الْجنَّة؟ فَمَا أَجَابَهُ منا أحد من شدَّة الْأَمر، ثمَّ قَالَ ثَانِيًا، فَمَا أَجَابَهُ منا أحد، ثمَّ قَالَ ثَالِثا، فَمَا أَجَابَهُ منا أحد فَقَالَ: يَا حُذَيْفَة، فَلم أستطع أَن لَا أُجِيب فَجِئْته، فَقَالَ: اذْهَبْ وأتنى بِخَبَر الْقَوْم، وَلَا تحدثن أمرا حَتَّى تَأتِينِي، وَدَعَانِي فَذَهَبت، وأتيته بِخَبَر الْقَوْم فِي قصَّة. . ".
وَإِنَّمَا أَرَادَ حُذَيْفَة بِهَذِهِ الرِّوَايَة أَن لَا يتَمَنَّى ذَلِك الرجل مَا لم يُدْرِكهُ، فَلَعَلَّهُ لَا يصبر على الْبلوى إِن أَدْرَكته.(4/264)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض مَا وعدنا الله وَرَسُوله إِلَّا غرُورًا} اخْتلفُوا فِي الْقَائِل لهَذَا القَوْل، قَالَ بَعضهم: هُوَ أَوْس بن قيظي، وَقَالَ(4/264)
بَعضهم: عبد الله بن أبي، وَقَالَ بَعضهم: معتب بن قُشَيْر، وَأما الْوَعْد الَّذِي سموهُ غرُورًا فَهُوَ مَا رُوِيَ " أَن النَّبِي لما أَمر بِحَفر الخَنْدَق قسم الْحفر على أَصْحَابه، فَوَقع سلمَان مَعَ بني هَاشم، فَجعل يحْفر فَبلغ صَخْرَة لَا يَسْتَطِيع حفرهَا، فَأخذ رَسُول الله الْمعول من يَده، وَضرب على الصَّخْرَة ضَرْبَة فاضاءت كالشهاب، ثمَّ كَذَلِك فِي الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة، فَقَالَ سلمَان: يَا رَسُول الله، لقد رَأَيْت عجبا! فَقَالَ رَسُول الله: وَلَقَد رَأَيْتهَا؟ قَالَ نعم، رَأَيْت فِي الضَّرْبَة الأولى قُصُور الْيمن، وَفِي الضَّرْبَة الثَّانِيَة الْمَدَائِن الْبيض أَي: قصر كسْرَى، وَفِي الضَّرْبَة الثَّالِثَة رَأَيْت قُصُور الشَّام، فَقَالَ:: ليفتحنها الله على أمتِي، فانتشر ذَلِك فِي النَّاس؛ فَلَمَّا بلغ بهم الْأَمر مَا بلغ، قَالَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم: إِن مُحَمَّدًا يعدنا ملك كسْرَى وَقَيْصَر، وَإِن أَحَدنَا لَا يَسْتَطِيع أَن يُفَارق رَحْله (وَيذْهب) إِلَى الْخَلَاء، مَا هَذَا إِلَّا الْغرُور، فَأنْزل الله تَعَالَى مَا ذكرنَا من الْآيَة ".(4/265)
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَت طَائِفَة مِنْهُم يَا أهل يثرب} هُوَ الْمَدِينَة، وَيُقَال: يثرب مَوضِع وَالْمَدينَة مِنْهُ، قَالَ حسان بن ثَابت شعرًا:
(سأهدي لَهَا فِي كل عَام قصيدة ... وأقعد مكفيا بِيَثْرِب مكرما) .
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن النَّبِي نهى أَن تسمى الْمَدِينَة يثرب، وَقَالَ: هِيَ طابة " كَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كره هَذِه اللَّفْظَة؛ لِأَنَّهُ من التثريب.
وَقَوله: {لَا مقَام لكم} وَقُرِئَ " لَا مقَام لكم " بِرَفْع الْمِيم، فَقَوله: {لَا مقَام لكم} أَي: لَا إِقَامَة لكم، وَقَوله: {لَا مقَام لكم} بِفَتْح الْمِيم أَي: لَا منزل لكم.(4/265)
{فَارْجِعُوا ويستأذن فريق مِنْهُم النَّبِي يَقُولُونَ إِن بُيُوتنَا عَورَة وَمَا هِيَ بِعَوْرَة إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَو دخلت عَلَيْهِم من أقطارها ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة لآتوها وَمَا تلبثوا بهَا إِلَّا يَسِيرا (14) وَلَقَد كَانُوا عَاهَدُوا الله من قبل لَا يولون الأدبار وَكَانَ عهد الله مسئولا}
وَقَوله: {فَارْجِعُوا} أَي: ارْجعُوا عَن أَتبَاع مُحَمَّد، وخذوا أمانكم من الْمُشْركين.
وَقَوله: {ويستأذن فريق مِنْهُم النَّبِي} هَؤُلَاءِ بَنو سَلمَة وَبَنُو حَارِثَة، وَقيل: غَيرهم.
وَقَوله: {يَقُولُونَ إِن بُيُوتنَا عَورَة} أَي: ذَات عَورَة، وَقيل: معورة يسهل عَلَيْهَا دُخُول السراق، وَيُقَال: إِن بُيُوتنَا عَورَة أَي: ضائقة، وَقَالَ الْفراء: عَورَة ذليلة الْحِيطَان، وَلَيْسَت بحريزة، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " عَورَة " بِفَتْح الْعين وَكسر الْوَاو، وَالْمعْنَى يرجع إِلَى مَا بَينا.
وَقَوله: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَة} يَعْنِي: إِنَّهُم كاذبون فِي قَوْلهم، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ الْفِرَار، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} وأنشدوا فِي الْعَوْرَة:
(حَتَّى إِذا أَلْقَت يدا فِي كَافِر ... وأجن عورات الثغور ظلامها)(4/266)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو دخلت عَلَيْهِم من أقطارها} أَي: من نَوَاحِيهَا.
وَقَوله: {ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة} أَي: الشّرك، وَيُقَال: الْقِتَال فِي العصبية.
وَقَوله: {لآتوها} بِالْمدِّ، وَقُرِئَ: " لأتوها "، فَقَوله " لآتوها " بِالْمدِّ أَي: لأعطوها، وَقَوله: " لآتوها ". أَي: [لقصدوها] .
وَقَوله: {وَمَا تلبثوا بهَا إِلَّا يَسِيرا} أَي: مَا احتسبوا إِلَّا يَسِيرا، وأعطوا مَا طلب مِنْهُم طيبَة بهَا أنفسهم.(4/266)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد كَانُوا عَاهَدُوا الله من قبل لَا يولون الأدبار} الأدبار: جمع(4/266)
( {15) قل لن ينفعكم الْفِرَار إِن فررتم من الْمَوْت أَو الْقَتْل وَإِذا لَا تمتعون إِلَّا قَلِيلا (16) قل من ذَا الَّذِي يعصمكم من الله إِن أَرَادَ بكم سوءا أَو أَرَادَ بكم رَحْمَة وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا (17) قد يعلم الله المعوقين مِنْكُن والقائلين} الدبر، أَي: لَا ينهزمون. وَذكر مقَاتل وَغَيره أَن هَذَا فِي الَّذين بَايعُوا مَعَ رَسُول الله لَيْلَة الْعقبَة، وَقَالُوا: يَا رسوا الله، اشْترط لِرَبِّك، فَقَالَ: أَن تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، فَقَالُوا: اشْترط لنَفسك. فَقَالَ: أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ أَنفسكُم وَأَوْلَادكُمْ " وَكَانَ الَّذين بَايعُوا لَيْلَة الْعقبَة [سبعين] نَفرا، وَأول من بَايع أَبُو الْهَيْثَم بن التيهَان، وَهَذَا القَوْل لَيْسَ بِمَرَض؛ لِأَن أَصْحَاب الْعقبَة لم يكن فيهم شَاك، وَلَا من يَقُول مثل هَذَا القَوْل، وَإِنَّمَا الْآيَة فِي قوم عَاهَدُوا أَن يقاتلوا وَلَا يَفروا حَتَّى يقتلُوا وَنَقَضُوا الْعَهْد.
وَقَوله: {وَكَانَ عهد الله مسئولا} أَي: مسئولا عَنهُ.(4/267)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
قَوْله تَعَالَى: {قل لن ينفعكم الْفِرَار إِن فررتم من الْمَوْت الْمَوْت أَو الْقَتْل} يَعْنِي: أَن الْأَجَل يدرككم فِي وقته.
وَقَوله: {وَإِذا لَا تمتعون إِلَّا قَلِيلا} مَعْنَاهُ: إِلَى مُنْتَهى آجالكم، وَفِي بعض الحكايات: أَن رجلا انهزم [فِي] بعض الحروب، فَكَانَ يلام على ذَلِك، وَيقْرَأ عَلَيْهِ هَذِه الْآيَة {قل لن ينفعكم الْفِرَار إِن فررتم من الْمَوْت أَو الْقَتْل إِذا لَا تمتعون إِلَّا قَلِيلا} فَقَالَ: ذَلِك الْقَلِيل أطلب.(4/267)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
قَوْله تَعَالَى: {قل من ذَا الَّذِي يعصمكم من الله} أَي: يجيركم ويمنعكم.
وَقَوله: {إِن أَرَادَ بكم سوءا} أَي: الْهَزِيمَة وظفر عَدوكُمْ بكم.
وَقَوله: {أَو أَرَادَ بكم رَحْمَة} أَي: خيرا ونصرة.
وَقَوله: {وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا} أَي: قَرِيبا يَنْفَعهُمْ، وناصرا يمنعهُم.(4/267)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)
قَوْله تَعَالَى: {قد يعلم الله المعوقين مِنْكُم} يُقَال: عاقه واعتاقه وعوقه إِذا صرفه(4/267)
{لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يأْتونَ الْبَأْس إِلَّا قَلِيلا (18) أشحة عَلَيْكُم فَإِذا جَاءَ الْخَوْف رَأَيْتهمْ ينظرُونَ إِلَيْك تَدور أَعينهم كَالَّذي يغشى عَلَيْهِ من الْمَوْت فَإِذا ذهب الْخَوْف عَمَّا يُريدهُ. وَيُقَال: المعوقين مِنْكُم أَي: المثبطين مِنْكُم.
وَقَوله: {والقائلين لإخوانكم هَلُمَّ إِلَيْنَا} أَي: ارْجعُوا إِلَيْنَا
وَقَوله: {وَلَا يأْتونَ الْبَأْس إِلَّا قَلِيلا} أَي: لَا يُقَاتلُون إِلَّا قَلِيلا رِيَاء وَسُمْعَة من غير حسبَة، وَالْآيَة نزلت فِي قوم من الْمُنَافِقين قَالُوا حِين أحَاط الْجنُود بِالْمُسْلِمين: إِن مُحَمَّدًا وَقَومه أكله رَأس، وَالله لَو كَانَ مُحَمَّد وَأَصْحَابه لَحْمًا لالتهمهم أَبُو سُفْيَان وَحزبه أَي: ابتلعهم، وَكَانُوا يَقُولُونَ لأَصْحَاب مُحَمَّد من الْأَنْصَار: دعوا مُحَمَّد، فَإِن مُحَمَّدًا يُرِيد أَن يقتلكم جَمِيعًا. وَقَالَ الْكَلْبِيّ فِي قَوْله: {إِلَّا قَلِيلا} يَعْنِي: إِلَّا رميا بِالْحِجَارَةِ.(4/268)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
قَوْله تَعَالَى: {أشحة عَلَيْكُم} أَي: بخلا بالنصرة والموافقة فِي الْقِتَال، وَقَالَ قَتَادَة: بخلاء عِنْد الْغَنِيمَة، فَكَأَن الله تَعَالَى قَالَ: هم احسن قوم عِنْد الْقِتَال، وأشح قوم عِنْد الْغَنِيمَة.
وَقَوله: {فَإِذا جَاءَ الْخَوْف رَأَيْتهمْ ينظرُونَ إِلَيْك تَدور أَعينهم كَالَّذي يغشى عَلَيْهِ من الْمَوْت} والمغشي عَلَيْهِ من الْمَوْت قد ذهب عقله، وشخص بَصَره، وَهُوَ المحتضر الَّذِي قرب من الْمَوْت.
وَقَوله: {فَإِذا ذهب الْخَوْف سلقوكم} قَالَ الْفراء: وَقَعُوا فِيكُم بألسنة سليطة ذُرِّيَّة. وَعَن بَعضهم: سلقوكم بألسنة حداد يَعْنِي: عِنْد طلب الْغَنَائِم، وَعند المجادلات بِالْبَاطِلِ، وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْبذاء (وَالْبَيَان) شعبتان من النِّفَاق، وَالْحيَاء والعي شعبتان من الْإِيمَان ".(4/268)
{سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الْخَيْر أُولَئِكَ لم يُؤمنُوا فأحبط الله أَعْمَالهم وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا (19) يحسبون الْأَحْزَاب لم يذهبوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَاب يودوا لَو أَنهم بادون فِي الْأَعْرَاب يسْأَلُون عَن أنبائكم وَلَو كَانُوا فِيكُم مَا قَاتلُوا إِلَّا قَلِيلا (20)
وَتقول الْعَرَب: خطيب مسلاق وسلاق إِذا كَانَ بليغا فِي الخطابة، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: سلقوكم أَي: عضهوكم وتناولوكم بِالنَّقْصِ والغيبة، قَالَ الْأَعْشَى:
(فيهم الخصب والسماحة والنجدة فيهم والخاطب السلاق}
وَقَوله: {أشحة على الْخَيْر} قد بَينا أَنَّهَا عِنْد الْغَنِيمَة.
وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي قَالَ للْأَنْصَار: إِنَّكُم لتكثرون عِنْد الْفَزع، وتقلون عِنْد الطمع " أَي: تجمعون عِنْد الْقِتَال، وتتفرقون عِنْد أَخذ المَال، وَأما وصف الْمُنَافِقين على الضِّدّ من هَذَا، فَإِنَّهُم كَانُوا جبناء عِنْد الْقِتَال، بخلاء عِنْد المَال.
وَقَوله: {أُولَئِكَ لم يُؤمنُوا فأحبط الله أَعْمَالهم} أَي: أبطل الله أَعْمَالهم.
وَقَوله: {وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا} أَي: سهلا.(4/269)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
قَوْله تَعَالَى: {يحسبون الْأَحْزَاب لم يذهبوا} أَي: من الْجُبْن وَالْخَوْف.
وَقَوله: {وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَاب} أَي: يرجِعوا بعد الذّهاب.
وَقَوله: {يودوا لَو أَنهم بادون فِي الْأَعْرَاب} البادون: خلاف الْحَاضِرين، وهم الَّذين يسكنون الْبَادِيَة، وقولة: {فِي الْأَعْرَاب} أَي: مَعَ الْأَعْرَاب.
وَقَوله: {يسْأَلُون عَن أنبأكم} أَي: [عَن] أخباركم، وَمعنى سُؤَالهمْ عَن الْأَخْبَار هُوَ أَن الظفر كَانَ للْمُشْرِكين، أَو لمُحَمد وَأَصْحَابه.
وَقَوله: {وَلَو كَانُوا فِيكُم مَا قَاتلُوا إِلَّا قَلِيلا} أَي: تعذيرا، وَمعنى تعذيرا أَي:(4/269)
{لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَذكر الله كثيرا (21) وَلما رأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَاب قَالُوا هَذَا مَا وعدنا الله وَرَسُوله وَصدق الله} يُقَاتلُون شَيْئا يَسِيرا يُقِيمُونَ بِهِ عذرهمْ، فَيَقُولُونَ قد قاتلنا.(4/270)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} أَي: قدوة حَسَنَة، والتأسي: هُوَ الإقتداء، وَإِنَّمَا ذكر الأسوة هَا هُنَا حَتَّى ينصرُوا (ويقومون) ويصبروا على مَا يصيبهم، كَمَا فعل رَسُول الله فَإِنَّهُ كسرت رباعيته يَوْم أحد، وشج فِي جَبهته، وَكسرت الْبَيْضَة على رَأسه، وَقتل عَمه فَلم يفتر فِي أَمر الله، وصبر على جَمِيع ذَلِك.
وَقَوله: {لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} أَي: يَرْجُو ثَوَاب الله، وَقيل: لمن كَانَ يخْشَى الله وَالْيَوْم الآخر، والرجاء يكون بِمَعْنى الخشية، وَقد يكون بِمَعْنى الطمع.
وَقَوله: {وَذكر الله كثيرا} أَي: فِي جَمِيع المواطن على السَّرَّاء وَالضَّرَّاء.(4/270)
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
قَوْله تَعَالَى: {وَلما رأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَاب قَالُوا هَذَا مَا وعدنا الله وَرَسُوله وَصدق الله وَرَسُوله} قَالَ قَتَادَة: معنى هَذِه الْآيَة رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْبَقَرَة: {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ مستهم البأساء وَالضَّرَّاء وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه مَتى نصر الله} وَالْآيَة تَتَضَمَّن أَن الْمُؤمنِينَ يلقاهم ويستقبلهم مثل هَذَا الْبلَاء، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك يَوْم الخَنْدَق قَالُوا: هَذَا مَا وعدنا الله وَرَسُوله.
وَعَن بَعضهم أَن النَّبِي قَالَ لأَصْحَابه: " إِن الْمُشْركين سائرون إِلَيْكُم فنازلون بكم عشرا " أَو كَمَا قَالَ فَلَمَّا رأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَاب [قَالُوا: هَذَا مَا وعدنا الله(4/270)
3 - {وَرَسُوله وَمَا زادهم إِلَّا إِيمَانًا وتسليما (22) من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله وَرَسُوله] وَقد سَارُوا إِلَيْهِم {وَمَا زادهم إِلَّا إِيمَانًا وتسليما} أَي: تَصْدِيقًا بِاللَّه، وتسليما لأمر الله.(4/271)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
قَوْله تَعَالَى: {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ} أَي: قَامُوا بِمَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ، وَيُقَال: قَامُوا بِالْأَمر على الْوَفَاء والصدق.
وَقَوله: {فَمنهمْ من قضى نحبه} النحب يرد بمعاني كَثِيرَة، وَأولى الْمعَانِي أَنه بِمَعْنى الْعَهْد، فَمَعْنَى الْآيَة: اتم الْعَهْد وَقَامَ بِهِ، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: أَي أَقَامَ بِالْوَفَاءِ والصدق. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: النحب هُوَ النّذر، وَمعنى قضى نحبه هَا هُنَا أَي: قتل فِي سَبِيل الله، كَأَن الْقَوْم بقبولهم الْإِيمَان نذروا أَن يموتوا على مَا يرضاه الله، فَمن قتل فِي سَبِيل الله فقد قضى نَذره.
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: الْآيَة فِي الَّذين اسْتشْهدُوا يَوْم أحد، وهم حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ وَمن اسْتشْهد مَعَه.
وَقد ثَبت بِرِوَايَة يزِيد بن هَارُون، عَن حميد، عَن انس رَضِي الله عَنهُ أَن عَمه النَّضر بن أنس كَانَ تخلف عَن بدر فَقَالَ: تخلفت عَن أول غَزْوَة غَزَاهَا رَسُول الله، لَئِن أَرَانِي الله قتالا مَعَ الْمُشْركين ليرين الله مَا أصنع، فَلَمَّا كَانَ يَوْم أحد وَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ، وَرَأى ذَلِك النَّضر بن أنس قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعْتَذر إِلَيْك مَا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُسلمين وابرأ إِلَيْك مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُشْركين ثمَّ مضى بِوُجُوه الْكفَّار، فلقي سعد بن معَاذ دون أحد، فَقَالَ لَهُ سعد: أَنا مَعَك، قَالَ سعد: فَلم أستطع أَن أصنع مَا صنع، فَوجدَ بِهِ بضع وَثَمَانُونَ من ضَرْبَة سيف، وطعنة بِرُمْح، ورمية بِسَهْم. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: فَلم تعرفه إِلَّا أُخْته بثناياه. قَالَ أنس: فَفِيهِ وفيمن اسْتشْهد نزل قَوْله: {فَمنهمْ من قضى نحبه وَمِنْهُم من ينْتَظر} .(4/271)
{عَلَيْهِ فَمنهمْ من قضى نحبه وَمِنْهُم من ينْتَظر وَمَا بدلُوا تبديلا (23) ليجزي الله الصَّادِقين بصدقهم ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ أَو يَتُوب عَلَيْهِم إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما (24) ورد الله الَّذين كفرُوا بغيظهم لم ينالوا خيرا وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وَكَانَ}
يَعْنِي: من الْمُؤمنِينَ من بَقِي بعد هَؤُلَاءِ الَّذين اسْتشْهدُوا، وهم ينتظرون أحد الْأَمريْنِ إِمَّا الشَّهَادَة فِي سَبِيل الله وَإِمَّا الظفر، وأنشدوا فِي النحب شعرًا:
(قضى نحب الْحَيَاة وكل حَيّ ... إِذا يَدعِي لميتته أجابا)
وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا أَن النحب هُوَ الْخطر الْعَظِيم. قَالَ جرير فِي النحب:
(بطخفة جالدنا الْمُلُوك وخلينا ... عَشِيَّة بسطَام جرين على نحب)
أَي: على الْخطر الْعَظِيم
وَقَوله: {وَمَا بدلُوا تبديلا} أَي: لم يتْركُوا مَا قبلوه وعاهدوا عَلَيْهِ.(4/272)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
قَوْله تَعَالَى: {ليجزي الله الصَّادِقين بصدقهم} أَي: جَزَاء صدقهم، وَصدقهمْ هُوَ وفاؤهم بالعهد.
وَقَوله: {ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ أَو يَتُوب عَلَيْهِم} فيهديهم للْإيمَان.
وَقَوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} أَي: ستورا عطوفا.(4/272)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
قَوْله تَعَالَى: {ورد الله الَّذين كفرُوا بغيظهم} أَي: ردهم وَلم يشتفوا من مُحَمَّد وَأَصْحَابه، وَقد كَانُوا قصدُوا قصد الإستئصال.
وَقَوله: {لم ينالوا} أَي: لم يظفروا بِمَا أَرَادوا.
وَقَوله: { [خيرا] وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال} أَي: بِمَا أرسل من الرّيح عَلَيْهِم، وَفِي بعض الرِّوَايَات الغريبة عَن ابْن عَبَّاس: وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال أَي: لعَلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَقد كَانَ قتل عَمْرو بن عبدود فِي ذَلِك الْيَوْم، وَكَانَ رَأْسا من رُءُوس الْكفَّار كَبِيرا فيهم، وضربه عَمْرو بن عبدود فِي ذَلِك الْيَوْم على رَأسه(4/272)
{الله قَوِيا عَزِيزًا (25) وَانْزِلْ الَّذين ظاهروهم من أهل الْكتاب من صياصيهم وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا (26) وأورثكم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ} ضَرْبَة فَلَمَّا ضربه، ابْن ملجم وَقعت ضَرْبَة ابْن ملجم على مَوضِع ضَرْبَة عَمْرو بن عبدود، فَهَلَك فِي ذَلِك رَضِي الله عَنهُ.
وَقَوله: {وَكَانَ الله قَوِيا عَزِيزًا} أَي: قَوِيا فِي ملكه، عَزِيزًا فِي انتقامه.(4/273)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
قَوْله تَعَالَى: {وَأنزل الَّذين ظاهروهم من أهل الْكتاب} أَي: عاونوهم من أهل الْكتاب، وهم قُرَيْظَة، وَقد كَانُوا فِي عهد النَّبِي، وسيدهم كَعْب بن أَسد، وَأما بَنو النَّضِير فسيدهم حييّ بن أَخطب، فَلَمَّا أجلى رَسُول الله بني النَّضِير إِلَى الشَّام، ذهب حييّ بن أَخطب، إِلَى قُرَيْش و (استنصرهم) ، وَجمع الْأَحْزَاب وَجَاء بهم لقِتَال النَّبِي، ثمَّ جَاءَ إِلَى قُرَيْظَة وَحَملهمْ على نقض الْعَهْد فِي قصَّة طَوِيلَة، وَعَاهد مَعَهم أَن الْمُشْركين لَو رجعُوا وَلم يظفروا دخل مَعَهم فِي حصنهمْ ليصيبه مَا يصيبهم، فَلَمَّا هزم الْمُشْركُونَ دخل مَعَهم فِي حصنهمْ، وَأما قُرَيْظَة فنقضوا الْعَهْد، وقصدوا حَرْب النَّبِي مَعَ الْأَحْزَاب فِي قصَّة مَذْكُورَة فِي الْمَغَازِي.
وَقَوله: {من صياصيهم} أَي: من حصونهم، وَمِنْه صياصي الْبَقر أَي: قُرُونهَا لِأَنَّهَا تمْتَنع بهَا.
وَقَوله: {وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب} أَي: الْخَوْف.
وَقَوله: {فريقا تقتلون} قتل رَسُول الله من قُرَيْظَة أَرْبَعمِائَة وَخمسين، وَفِي رِوَايَة سِتّمائَة، وَفِيهِمْ حييّ بن أَخطب وسادتهم، وَكَانُوا يَقُولُونَ: هَذَا ذبح كتبه الله على بني إِسْرَائِيل.
وَقَوله: {وتأسرون فريقا} أسر مِنْهُم سَبْعمِائة وَخمسين، وَفِي رِوَايَة سَبْعمِائة(4/273)
{وأرضا لم تطئووها وَكَانَ الله على كل شَيْء قَدِيرًا (27) يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك إِن}(4/274)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
{وأورثكم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ} أَي: أغنمكم.
وَقَوله: {وأرضا لم تطئوها} أظهر الْأَقَاوِيل: أَنَّهَا خَيْبَر، وَقَالَ عِكْرِمَة: جَمِيع مَا فتح الله تَعَالَى ويفتحه من أَرَاضِي الْمُشْركين إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَعَن بَعضهم فَارس وَالروم.
وَقَوله: {وَكَانَ الله على كل شَيْء قَدِيرًا} أَي: قَادِرًا.
وَأما قصَّة قتل قُرَيْظَة [فَهُوَ على] مَا روى " أَن النَّبِي لما رَجَعَ من الخَنْدَق إِلَى بَيته وَوضع لامته أَي: درعه واغتسل جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على فرس وَدعَاهُ، فَلَمَّا خرج من بَيته قَالَ: أتضع سِلَاحك وَلم تضع الْمَلَائِكَة أسلحتكم! وَكَانَ الْغُبَار على وَجهه وَوجه فرسه، وَقَالَ: يَا جِبْرِيل، إِلَى أَيْن؟ قَالَ: إِلَى قُرَيْظَة "، " فَخرج النَّبِي وَخرج أَصْحَابه إِلَى قُرَيْظَة، ونادى فِي أَصْحَابه: لَا يصلين أحد مِنْكُم الْعَصْر إِلَّا فِي [بني] قُرَيْظَة، فَلم يصلوا حَتَّى غربت الشَّمْس، فبعضهم صلى الْعَصْر، وَبَعْضهمْ لم يصل حَتَّى وصل، فَلم يعنف وَاحِدًا من الْفَرِيقَيْنِ " وحاصرهم إِحْدَى وَعشْرين لَيْلَة، ونزلوا على حكم سعد بن معَاذ، وَكَانُوا حلفاءه فِي الْجَاهِلِيَّة وَسعد بن معَاذ سيد الْأَوْس، وَسعد بن عبَادَة سيد الْخَزْرَج فَلَمَّا نزلُوا على حكمه، وَكَانَ سعد مَرِيضا بِالْمَدِينَةِ فِي بَيته برمية أَصَابَت أكحله يَوْم الخَنْدَق، وَكَانَ الدَّم لَا يرقأ، فَدَعَا الله تَعَالَى وَقَالَ: اللَّهُمَّ أبقني حَتَّى تريني مَا يقر عَيْني فِي قُرَيْظَة، فرقأ الدَّم.(4/274)
{كنتن تردن الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا فتعالين أمتعتكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وَإِن}
فَلَمَّا نزلُوا على حكمه استحضره رَسُول الله، فجَاء على حمَار موكف وَقد حف بِهِ قومه، وَجعلُوا يَقُولُونَ لَهُ: حلفاؤك ومواليك، فَقَالَ سعد: قد آن لسعد أَن لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِي قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام للْأَنْصَار: قومُوا إِلَى سيدكم، ثمَّ إِنَّه حكم بِأَن يقتل الْمُقَاتلَة، وتسبى الذُّرِّيَّة، وَيقسم المَال، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: حكمت بِحكم الْملك. وروى أَنه قَالَ: حكمت بِحكم الله من فَوق عَرْشه، ثمَّ إِنَّه فعل بهم مَا حكم، ثمَّ إِن سَعْدا قَالَ لما قتلوا: اللَّهُمَّ إِن كنت أبقيت حَربًا بَين رَسُولك وَبَين قُرَيْش فأبقني لَهَا، وَإِن كنت قد وضعت الْحَرْب بَين رَسُولك وَبَين قُرَيْش فاقبضني إِلَيْك، فانفجر كَلمه فِي الْحَال، فَلم يرعهم إِلَّا وَالدَّم يسيل إِلَيْهِم، وَتوفى فِي ذَلِك رَضِي الله عَنهُ.(4/275)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)
قَوْله تَعَالَى: {يأيها النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك إِن كنتن تردن الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا} الْآيَة. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَبَب نزُول الْآيَة أَن نسَاء النَّبِي سألنه شَيْئا من الدُّنْيَا، وَلم يكن عِنْده، وطلبن مِنْهُ زِيَادَة فِي النَّفَقَة، وآذينه بِغَيْرِهِ بَعضهنَّ على بعض؛ فَأنْزل الله تَعَالَى آيَة التَّخْيِير.
وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره عَن الضَّحَّاك: أَن زينت بنت جحش سَأَلته ثوبا ممصرا، وَهُوَ الْبرد المخطط، ومَيْمُونَة سَأَلته حلَّة يَمَانِية، وَأم حَبِيبَة سَأَلته ثوبا من ثِيَاب خضر، وَجُوَيْرِية سَأَلته معجرا، وَعَن بَعضهنَّ: أَنَّهَا سَأَلته قطيفة، وَلم يكن عِنْده شَيْء من ذَلِك. وَحكى أَنَّهُنَّ قُلْنَ: لَو كُنَّا عِنْد غَيره كَانَ لنا حليا وثيابا، فَأنْزل الله تَعَالَى آيَة التَّخْيِير. وَقد ثَبت أَن النَّبِي آلى مِنْهُنَّ شهرا وَاعْتَزل فِي غرفَة فِي قصَّة(4/275)
{كنتن تردن الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة فَإِن الله أعد للمحسنات مِنْكُن أجرا عَظِيما (29) يَا نسَاء النَّبِي من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة مبينَة يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين وَكَانَ} طَوِيلَة.
وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي كَانَ فِي بَيت حَفْصَة فتشاجرا، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله: أجعَل بيني وَبَيْنك رجلا، أَتُرِيدِينَ أَبَاك؟ قَالَت: نعم، فَدَعَا عمر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا دخل قَالَ النَّبِي لحفصة: تكلمي.
فَقَالَت حَفْصَة: يَا رَسُول الله، تكلم وَلَا تقل إِلَّا حَقًا. فَرفع عمر يَده وَضرب وَجههَا، وَقَالَ: يَا عدوة نَفسهَا، أتقولين هَذَا لرَسُول الله؟ ثمَّ إِن رَسُول الله آلى مِنْهُنَّ شهرا وَاعْتَزل، وَأنزل الله تَعَالَى آيَة التَّخْيِير، فَلَمَّا أنزل الله آيَة التَّخْيِير بَدَأَ بعائشة رَضِي الله عَنْهَا.
وَقد ثَبت هَذَا بِرِوَايَة الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة أَن النَّبِي بَدَأَ بهَا لما أنزل الله تَعَالَى آيَة التَّخْيِير، قَالَت عَائِشَة: فَدخل عَليّ وَقَالَ: " يَا عَائِشَة، إِنِّي ذَاكر لَك أمرا فَلَا عَلَيْك أَن تعجلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك، وَقد علم أَن أَبَوي لَا يأمرانني بِفِرَاقِهِ، ثمَّ تَلا على الْآيَة، فَقلت: أَفِي هَذَا أَستَأْمر أبواي؟ لقد اخْتَرْت الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة، ثمَّ عرض ذَلِك على سَائِر نِسَائِهِ؛ فَقُلْنَ مثل ذَلِك ". وروى هَذَا الْخَبَر البُخَارِيّ عَن أبي الْيَمَان، عَن شُعَيْب، عَن الزُّهْرِيّ، والإسناد كَمَا بَينا من قبل، وَأما أَزوَاجه اللَّاتِي خيرهن فَكُن تسعا، خَمْسَة قرشيات هن: عَائِشَة بنت أبي بكر، وَحَفْصَة بنت عمر، وَأم سَلمَة بنت أُميَّة، وَأم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان، وَسَوْدَة بنت زَمعَة، وَأما غير الْقُرَشِيَّات: فزينب بنت جحش الأَسدِية، وَصفِيَّة بنت حييّ الْخَيْبَرِية، ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، وَجُوَيْرِية بنت الْحَارِث الْمُصْطَلِقِيَّة.(4/276)
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَلَمَّا اخترنه شكر الله تَعَالَى لَهُنَّ ذَلِك، فَنهى النَّبِي أَن يتَزَوَّج بسواهن أَو يتبدل بِهن، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد وَلَا أَن تبدل بِهن من أَزوَاج وَلَو أعْجبك حسنهنَّ} وَسَنذكر حكم ذَلِك من بعد وَاخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْخِيَار، أَكَانَ طَلَاقا؟ وَإِنَّمَا خيرهن على إِن اخْترْنَ الدُّنْيَا فارقهن بِلَا طَلَاق، وَإِن اخترنه أمسكهن، وَذهب جمَاعَة إِلَى أَن هَذَا الْخِيَار كَانَ طَلَاقا فَكَأَنَّهُ خيرهن، وَلَو اخْترْنَ أَنْفسهنَّ كَانَ طَلَاقا.
وَاخْتلف الصَّحَابَة فِي الرجل يَقُول لإمرأته: اخْتَارِي. فَتَقول: اخْتَرْت نَفسِي، فَذهب عمر إِلَى أَنَّهَا لَو اخْتَارَتْ زَوجهَا لَا تكون شَيْئا، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فطلقة وَاحِدَة، وَالزَّوْج أَحَق برجعتها.
وَقَالَ عَليّ: إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فطلقة وَاحِدَة، وَالزَّوْج أَحَق برجعتها، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَوَاحِدَة بَائِنَة، وَلَا يملك الزَّوْج رَجعتهَا، وَذهب إِلَى أَنَّهَا إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَوَاحِدَة رَجْعِيَّة، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَثَلَاث، وَقد قيل غير هَذَا. وَهَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة هِيَ الْمَعْرُوفَة، وَقد ذهب إِلَى كل قَول من هَذِه الْأَقْوَال جمَاعَة من الْعلمَاء، وَالدَّلِيل على أَنَّهَا إِذا اخْتَارَتْ زَوجهَا لَا تكون طَلَاقا أَن عَائِشَة قَالَت: خيرنا رَسُول الله فاخترناه، أَفَكَانَ طَلَاقا؟ !
وَقَوله: {فتعالين أمتعكن} أَي: مُتْعَة الطَّلَاق، وَقد بَينا فِي سُورَة الْبَقَرَة.
وَقَوله تَعَالَى: {وأسرحكن سراحا جميلا} السراح الْجَمِيل هُوَ الْمُفَارقَة الجميلة، وَذَلِكَ من غير تعنيف وَلَا أَذَى.(4/277)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كنتن تردن الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة فَإِن الله أعد للمحسنات} والمحسنات هِيَ اللَّاتِي اخْترْنَ الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة، وَجَمِيع نسَاء النَّبِي قد اخْترْنَ ذَلِك، فجميعهن محسنات. وَيجوز أَن تذكر " من " وَلَا تكون للتَّبْعِيض، فَلَا يدل ذَلِك على أَن مِنْهُنَّ من لَيست بمحسنة.(4/277)
{ذَلِك على الله يَسِيرا (30) وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله وتعمل صَالحا نؤتها أجرهَا}
وَقَوله: {أجرا عَظِيما} وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى خيرهن بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَبَين الْجنَّة وَالنَّار، فاخترن الْآخِرَة على الدُّنْيَا، وَالْجنَّة على النَّار.(4/278)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
قَوْله تَعَالَى: {يَا نسَاء النَّبِي من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة مبينَة} فَإِن قيل: أيدل هَذَا الْخطاب على أَن مِنْهُنَّ من أَتَت بِفَاحِشَة أَو تَأتي بِفَاحِشَة؟ قُلْنَا: لَا، كَمَا أَن الله تَعَالَى قَالَ للنَّبِي: {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} وَهَذَا لَا يدل على أَنه قد أَتَى بشرك أَو يَأْتِي.
جَوَاب آخر: أَنه قد حكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْفَاحِشَة هَا هُنَا بِمَعْنى النُّشُوز وَسُوء الْخلق.
وَقَوله: {يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين} وَقُرِئَ: " يضعف " من التَّضْعِيف، وَقُرِئَ: " نضعف " بالنُّون، فَقَوله {نضعف} بالنُّون ظَاهر الْمَعْنى، وَهُوَ نِسْبَة الْفِعْل إِلَى نَفسه، وَقَوله: " يضعف " و " يُضَاعف " خبر.
وَقَوله: {ضعفين من الْعَذَاب} أَي: مثلي عَذَاب غَيرهَا، فَإِن قيل: وَلم تسْتَحقّ مثلي عَذَاب غَيرهَا؟ قُلْنَا: لشرف حَالهَا بِصُحْبَة النَّبِي، وَهَذَا كَمَا أَن الْحرَّة تحد مثلي حد الْأمة لشرف حَالهَا. وَقد اسْتدلَّ أَبُو بكر الْفَارِسِي فِي أَحْكَام الْقُرْآن بِهَذِهِ الْآيَة على أَنَّهُنَّ أشرف نسَاء الْعَالم.
وَقَوله: {وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا} أَي: هينا، وَقد ذكر بَعضهم أَن قَوْله: {يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب} يقتضى ثَلَاثَة أعذبة؛ لِأَن ضعف الْوَاحِد مثلاه، وَالأَصَح هُوَ الأول.(4/278)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله} الْقُنُوت هُوَ المداومة على الطَّاعَة، وَمِنْه الْقُنُوت فِي الصَّلَاة، وَهُوَ المداومة على الدُّعَاء.
وَقَوله: {وتعمل صَالحا نؤتها أجرهَا مرَّتَيْنِ} أَي: مثلي أجر غَيرهَا، وَهَذَا على(4/278)
{مرَّتَيْنِ وأعتدنا لَهَا رزقا كَرِيمًا (31) يَا نسَاء النَّبِي لستن كَأحد من النِّسَاء إِن اتقيتن فَلَا تخضعن بالْقَوْل فيطمع الَّذِي فِي قلبه مرض وقلن قولا مَعْرُوفا (32) وَقرن فِي بيوتكن وَلَا تبرجن تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى وأقمن الصَّلَاة وآتين الزَّكَاة وأطعن الله وَرَسُوله إِنَّمَا} طَرِيق مُقَابلَة الثَّوَاب بالعقاب.
وَقَوله: {وأعتدنا لَهَا رزقا كَرِيمًا} أَي: الْجنَّة.(4/279)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
قَوْله تَعَالَى: {يَا نسَاء النَّبِي لستن كَأحد من النِّسَاء} فَإِن قيل: هلا قَالَ كواحدة من النِّسَاء؟ وَالْجَوَاب، أَنه قَالَ: {كَأحد من النِّسَاء} ليَكُون أَعم فِي الْكل.
وَقَوله: {إِن اتقيتن} التَّقْوَى هِيَ الِاحْتِرَاز عَن الْمعاصِي، والحذر عَمَّا نهى الله عَنهُ.
وَقَوله: {فَلَا تخضعن بالْقَوْل} أَي: لَا تلن فِي القَوْل، وَلَا ترققن فِيهِ. وَيُقَال: الخضوع فِي القَوْل أَن تَتَكَلَّم على وَجه يَقع بِشَهْوَة الْمُرِيب.
وَقَوله: {فيطمع الَّذِي فِي قلبه مرض} قَالَ قَتَادَة: أَي النِّفَاق، وَقَالَ عِكْرِمَة: شَهْوَة الزِّنَا.
وَقَوله: {وقلن قولا مَعْرُوفا} أَي: قولا يُوجِبهُ الدّين وَالْإِسْلَام بِصَرِيح وَبَيَان.(4/279)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
قَوْله تَعَالَى: {وَقرن فِي بيوتكن} وَقُرِئَ بِكَسْر الْقَاف؛ فَقَوله بِالْكَسْرِ من السّكُون والهدوء وَترك الْخُرُوج. وَالْقِرَاءَة بِالنّصب تحْتَمل هَذَا، وتحتمل الْأَمر بالوقار. وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: مَا تعبدت الله امْرَأَة بِمثل تقوى الله وجلوسها فِي بَيتهَا. وَفِي بعض الْآثَار، أَنه قيل لسودة: أَلا تخرجين كَمَا تخرج أخواتك؟ قَالَت: قد حججْت واعتمرت، وَقد أَمرنِي الله تَعَالَى أَن أقرّ فِي بَيْتِي، فَلَا أُرِيد أَن أعصي الله تَعَالَى، فَلم تخرج من بَيتهَا حَتَّى أخرجت على جنازتها.
وَقَوله: {وَلَا تبرجن تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى} قَالَ الْمبرد: التبرج هُوَ أَن تظهر من(4/279)
{يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا (33) واذكرن مَا يُتْلَى} نَفسهَا مَا أمرت بستره. وَعَن ابْن أبي نجيح قَالَ: هُوَ التَّبَخْتُر. وَعَن قَتَادَة قَالَ: الْمَشْي بالتغنج والتكسر. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: هُوَ الْمَشْي بَين يَدي الرِّجَال.
وَأما الْجَاهِلِيَّة الأولى فَقيل: هِيَ زمَان نمروذ، وَقد كَانَت الْمَرْأَة تخرج وَعَلَيْهَا قَمِيص من لُؤْلُؤ ثمَّ تخيط جانباه، وَعَن بَعضهم: مَا بَين نوح وَإِدْرِيس، وَعَن الشّعبِيّ: مل بَين عِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَيُقَال: إِن أول مَا ظهر من الْفَاحِشَة فِي بني آدم أَنه كَانَ بطْنَان من بني آدم أَحدهمَا يسكنون الْجَبَل، وَالْآخر يسكنون السهل، وَكَانَ رجال الْجَبَل صباحا، وَفِي النِّسَاء دمامة، وَنسَاء السهل صبيحات، وَفِي الرِّجَال دمامة، فاحتال إِبْلِيس حِيلَة حَتَّى أَتَّخِذ عيدا، وَجمع بَينهم فارتكب بَعضهم من بعض الْفَاحِشَة. وَذكر بَعضهم أَن فِي الْجَاهِلِيَّة الأولى [كَانَت الْمَرْأَة تكون] بَين رجلَيْنِ، فنصفها الْأَسْفَل لأَحَدهمَا والأعلى للْآخر، فيجتمع على الْمَرْأَة زَوجهَا وحبها، وَقَالَ فِي ذَلِك بَعضهم شعرًا:
(أترغب فِي البدال أَبَا جُبَير ... وأرضى بالكواعب والعجوز)
وَأما الْجَاهِلِيَّة الْأُخْرَى فقوم يَفْعَلُونَ مثل فعلهن وَذَلِكَ فِي آخر الزَّمَان، وَقَالَ بَعضهم: يجوز أَن يذكر الأولى وَإِن لم يكن لَهَا أُخْرَى، أَلا ترى أَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَأَنه أهلك عادا الأولى} وَلم يكن لَهَا أُخْرَى.
وَقَوله: {وأقمن الصَّلَاة وآتين الزَّكَاة وأطعن الله وَرَسُوله} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} فِي الْآيَة أَقْوَال: روى سعيد بن جُبَير عَن أبن عَبَّاس: أَنَّهَا نزلت فِي نسَاء النَّبِي، وَقد [قَالَه] عِكْرِمَة وَجَمَاعَة.(4/280)
وَذهب أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأم سَلمَة وَجَمَاعَة كَثِيرَة من التَّابِعين مِنْهُم مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيرهمَا أَن الْآيَة فِي أهل بَيت النَّبِي، وهم عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن.
وروت أم سَلمَة " أَن النَّبِي كَانَ فِي بَيتهَا وَعِنْده عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة فجللهم بكساء وَقَالَ: اللَّهُمَّ؛ هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي. قَالَت أم سَلمَة: فَقلت: يَا رَسُول الله، وَأَنا من أهل بَيْتك، فَقَالَ: إِنَّك إِلَى خير ". ذكره أَبُو عِيسَى فِي جَامعه.
وروى أَيْضا بطرِيق أنس " أَن النَّبِي كَانَ يمر بعد نزُول هَذِه الْآيَة على بَيت فَاطِمَة بِسِتَّة أشهر، وَيَقُول: إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا ".
وَاسْتدلَّ من قَالَ بِهَذَا القَوْل أَن الله تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس} وَلم يقل: " عنكن "، وَلَو كَانَ المُرَاد بِهِ نسَاء النَّبِي لقَالَ: " عنكن " أَلا ترى أَنه فِي الإبتداء والإنتهاء لما كَانَ الْخطاب مَعَ نسَاء النَّبِي خاطبهن بخطاب الْإِنَاث.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْآيَة عَامَّة فِي الْكل، وَهَذَا أحسن الْأَقَاوِيل، فآله قد دخلُوا فِي الْآيَة، ونساؤه قد دخلن فِي الْآيَة. وَاسْتدلَّ من قَالَ: إِن نِسَاءَهُ قد دخلن فِي الْآيَة؛ أَنه قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} وَأهل بَيت الرَّسُول هن نِسَاءَهُ؛ (وَلِأَنَّهُ تقدم ذكر نِسَائِهِ) ، وَالْأَحْسَن مَا بَينا من التَّعْمِيم.(4/281)
{فِي بيوتكن من آيَات الله وَالْحكمَة إِن الله كَانَ لطيفا خَبِيرا (34) إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات}
وَقد روى أَن زيد بن أَرقم سُئِلَ: من آل النَّبِي. فَقَالَ: هم الَّذين حرم عَلَيْهِم الصَّدَقَة. وَأما الرجس فَمَعْنَاه: مَا يَدْعُو إِلَى الْمعْصِيَة. وَقَالَ بَعضهم: عمل الشَّيْطَان. والرجس فِي اللُّغَة هُوَ كل مستقذر مستخبث.
وَقَوله: {وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} أَي: من الْمعاصِي بتقوى الله تَعَالَى، وَذهب بعض (أَصْحَاب) الخواطر إِلَى أَن معنى قَوْله: {وَيذْهب عَنْكُم الرجس} أَي: الْأَهْوَاء والبدع {وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} بِالسنةِ، وَقَالَ بَعضهم: يذهب عَنْكُم الرجس أَي: الغل والحسد (وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا) بالتوفيق وَالْهِدَايَة، وَقَالَ بَعضهم: يذهب عَنْكُم الرجس: الْبُخْل والطمع {وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} بالقناعة والإيثار، وَالتَّفْسِير مَا بَينا من قبل.(4/282)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
قَوْله تَعَالَى: {واذكرن مَا يُتْلَى فِي بيوتكن من آيَات الله وَالْحكمَة} أَي: الْقُرْآن وَالسّنة.
وَقَوله: {إِن الله كَانَ لطيفا خَبِيرا} أَي: رحِيما بهم، خَبِيرا بأعمالهم.(4/282)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات} سَبَب نزُول الْآيَة مَا روى أَن أم سَلمَة قَالَت: " يَا رَسُول الله، مَا بَال الرّحال يذكرُونَ فِي الْقُرْآن، وَلَا يذكر النِّسَاء، ونخشى أَلا يكون فِيهِنَّ خير ".
وَفِي رِوَايَة أَسمَاء بنت عُمَيْس: قدمت من الْحَبَشَة فَدخلت على نسَاء النَّبِي: وَقَالَت لَهُنَّ: هَل ذكر الله تَعَالَى النِّسَاء بِخَير فِي الْقُرْآن؟ قُلْنَ: لَا. قَالَت: هَذَا هُوَ(4/282)
ً
{وَالصَّابِرِينَ والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين} الخيبة والخسار، أخْشَى أَلا يكون لله فِيهِنَّ حَاجَة، ثمَّ أَتَت النَّبِي وَذكرت ذَلِك لَهُ ".
وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة: " أَن الَّتِي قَالَت ذَلِك أم عمَارَة الْأَنْصَارِيَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَذكر النِّسَاء بِخَير كَمَا ذكر الرِّجَال ".
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} قد بَينا معنى الْإِسْلَام وَمعنى الْإِيمَان، وَقد فرق بعض أهل السّنة بَين الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، وَلم يفرق بَعضهم. وَالْمَسْأَلَة فِيهَا كَلَام كثير.
وَقَوله: {والقانتين والقانتات} المطيعين والمطيعات.
وَقَوله: {والصادقين والصادقات} أَي الصَّادِقين فِي إِيمَانهم، والصادقات فِي إيمانهن. يُقَال: إِن المُرَاد بِالصّدقِ هُوَ صدق القَوْل فِي جَمِيع الْأَشْيَاء.
وَقَوله: {وَالصَّابِرِينَ والصابرات} أَي: الصابرين على الطَّاعَة، وَالصَّابِرِينَ عَن الْمعْصِيَة، وَكَذَلِكَ معنى الصابرات.
وَقَالَ قَتَادَة: الصَّبْر عَن الْمعْصِيَة أفضل من الصَّبْر على الطَّاعَة، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ.
وَقَوله: {والخاشعين والخاشعات} أَي: المتواضعين والمتواضعات. وَيُقَال: إِن المُرَاد بالخشوع هُوَ الْخُشُوع فِي الصَّلَاة.
وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: الْخُشُوع فِي الصَّلَاة أَلا يعلم من على يَمِينه وَلَا من على(4/283)
{والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا وَالذَّاكِرَات أعد الله} يسَاره. وَقَالَ غَيره: من الْخُشُوع أَن لَا تلْتَفت.
وَقَوله: {والمتصدقين والمتصدقات} أَي: المتصدقين على الْفُقَرَاء والمتصدقات عَلَيْهِم.
وَقَوله: {والصائمين والصائمات} مَعْلُوم. وروى عَن بَعضهم: من صَامَ ثَلَاثَة أَيَّام فِي كل شهر فَهُوَ من الصائمين والصائمات، وَمن تصدق فِي كل أُسْبُوع بدرهم فَهُوَ من المتصدقين، وَمن لم يلْتَفت فِي صلَاته فَهُوَ من الخاشعين، أوردهُ النقاش فِي تَفْسِيره.
وَقَوله: {والحافظين فروجهم والحافظات} أَي: من ارْتِكَاب الْفَوَاحِش.
وَحكى النقاش: أَن من لم يزن فَهُوَ من الحافظين لفروجهم.
وَقَوله: {والحافظات} أَي: والحافظاتها.
وَقَوله: {والذاكرين الله كثيرا وَالذَّاكِرَات} أَي: والذاكراته، قَالَ الشَّاعِر:
(فكمتا مدماة كَأَن متونها ... جرى فَوْقهَا واستشعرت لون مَذْهَب)
يَعْنِي: جرى فَوْقهَا لون مَذْهَب واستشعرته.
وَأما الذّكر الْكثير، فروى عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: لَا يكون العَبْد من الذَّاكِرِينَ الله كثيرا حَتَّى يذكرهُ قَائِما وَقَاعِدا ومضطجعا.
وروى الضَّحَّاك بن مُزَاحم، عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ: " من قَالَ سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، كتب من الذَّاكِرِينَ الله كثيرا، وتحات عَنهُ خطاياه كَمَا يتحات الْوَرق عَن الشّجر، وَنظر الله إِلَيْهِ، وَمن نظر إِلَيْهِ (لم) يعذبه ".
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " أَيّمَا رجل أيقظ(4/284)
{لَهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما (35) وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا} امْرَأَته من اللَّيْل، فقاما وتوضيا وصليا رَكْعَتَيْنِ، كتبا من الذَّاكِرِينَ الله كثيرا وَالذَّاكِرَات ".
وَقَوله: {أعد لَهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما} أَي: مغْفرَة للذنوب، وَأَجرا عَظِيما: هُوَ الْجنَّة.(4/285)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة} الْآيَة نزلت فِي شَأْن زَيْنَب بنت جحش وأخيها عبد الله بن جحش، وَكَانَا وَلَدي عمَّة رَسُول الله، وَهِي أُمَيْمَة بنت عبد الْمطلب، فَكَانَا من قبل الْأَب من بني أَسد من أَوْلَاد غنم بن دودان، فروى " أَن النَّبِي خطب زَيْنَب لزيد بن حَارِثَة مَوْلَاهُ، فَكرِهت ذَلِك، وَقَالَت: أَنا بنت عَمَّتك، أتزوجني من مَوْلَاك؟ ! وَكَذَلِكَ كره أَخُوهَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن} أَي: عبد الله بن جحش {وَلَا مُؤمنَة} أَي: زَيْنَب ".
وَقَوله: {إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا} أَي: أَرَادَ الله وَرَسُوله أمرا، وَذَلِكَ هُوَ نِكَاح زيد لِزَيْنَب.(4/285)
{أَن يكون لَهُم الْخيرَة من أَمرهم وَمن يعْص الله وَرَسُوله فقد ضل ضلالا مُبينًا (36) وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت أمسك عَلَيْك عَلَيْهِ زَوجك وَاتَّقِ الله وتخفي فِي}
وَقَوله: {أَن يكون لَهُم الْخيرَة من أَمرهم} أَي: يكون لَهُم الِاخْتِيَار، وَالْمعْنَى: أَن يُرِيد غير مَا أَرَادَ الله، أَو يمْتَنع مِمَّا أَمر الله وَرَسُوله بِهِ.
وَقَوله: {وَمن يعْص الله وَرَسُوله فقد ضل ضلالا مُبينًا} أَي: أَخطَأ خطأ ظَاهرا؛ فَلَمَّا سمعا ذَلِك سلما الْأَمر، وَزوجهَا رَسُول الله من زيد بن حَارِثَة.(4/286)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ} أَي: أنعم الله عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ.
وَقَوله: {وأنعمت عَلَيْهِ} أَي: بِالْعِتْقِ، وَهُوَ زيد بن حَارِثَة، وَقد كَانَ جرى عَلَيْهِ سبي فِي الْجَاهِلِيَّة، فَاشْتَرَاهُ رَسُول الله وَأعْتقهُ وتبناه على عَادَة الْعَرَب.
وَقَوله: {أمسك عَلَيْك زَوجك} أَي: امْرَأَتك، وَأما سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة: " أَن النَّبِي لما زوج زَيْنَب من زيد وَمَضَت على ذَلِك مُدَّة، دخل عَلَيْهَا رَسُول الله يَوْمًا فرآها قَائِمَة، وَكَانَت بَيْضَاء جميلَة ذَات خلق، وَهِي فِي درع وخمار، فَلَمَّا رَآهَا وَقعت فِي قلبه وَأَعْجَبهُ حسنها، وَقَالَ: سُبْحَانَ مُقَلِّب الْقُلُوب. وَسمعت ذَلِك زَيْنَب، وَخرج رَسُول الله وَفِي قلبه مَا شَاءَ الله، فَلَمَّا دخل عَلَيْهَا زيد ذكرت ذَلِك لَهُ ". وَفِي بعض التفاسير: " أَن زيدا جَاءَ يشكو زَيْنَب، وَكَانَت امْرَأَة لسنة، فَذهب رَسُول الله ليعظها، فَكَانَ الْأَمر على مَا ذكرنَا، ثمَّ إِن زيدا أَتَى رَسُول الله وَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك سوء خلق زَيْنَب، وَإِن فِيهَا كبرا، وَإِنِّي أُرِيد أَن أطلقها، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله: أمسك عَلَيْك زَوجك أَي امْرَأَتك وَاتَّقِ الله فِي أمرهَا ".(4/286)
{نَفسك مَا الله مبديه وتخشى النَّاس وَالله أَحَق أَن تخشاه فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا}
وَقَوله: {وتخفي فِي نَفسك مَا الله مبديه} قَالَ قَتَادَة: هُوَ محبته لَهَا. وَقَالَ الْحسن: ود النَّبِي طَلاقهَا وَلم يظهره. وَذكر عَليّ بن الْحُسَيْن أَن معنى الْآيَة: هُوَ أَن الله تَعَالَى كَانَ أخبرهُ أَن زيدا يطلقهَا وَهُوَ يتَزَوَّج بهَا، فَالَّذِي أخفاه هُوَ هَذَا، وَهَذَا القَوْل هُوَ الأولى وأليق بعصمة الْأَنْبِيَاء. وَمِنْهُم من قَالَ: الَّذِي أُخْفِي فِي نَفسه هُوَ أَنه لَو طَلقهَا زيد تزوج بهَا، وَهَذَا أَيْضا قَول حسن.
وَقَوله: {وتخشى النَّاس} أَي: تَسْتَحي من النَّاس، وَيُقَال: تخشى مقَالَة النَّاس ولائمتهم، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّه تزوج بِامْرَأَة ابْنه.
وَقَوله: {وَالله أَحَق أَن تخشاه} فَإِن قيل: هَذَا يدل على أَنه لم يخْش الله فِيمَا سبق مِنْهُ فِي هَذِه الْقِصَّة. وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {وَالله أَحَق أَن تخشاه} ابْتِدَاء كَلَام فِي جَمِيع الْأَشْيَاء، وَقد أَمر الله تَعَالَى جَمِيع عباده بالخشية فِي عُمُوم الْأَحْوَال.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَنَّك أضمرت شَيْئا وَلم تظهره، فَإِن خشيت الله تَعَالَى فِي إِظْهَاره فاخشه فِي إضماره. وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنه لَا خشيَة إِلَّا من الله فِيمَا تظهر و [إِلَّا] فِيمَا تضمر، فَلَا تراقب النَّاس.
فَإِن قيل: إِذا كَانَ قد ود أَن يطلقهَا كَيفَ قَالَ أمسك عَلَيْك زَوجك؟ وَالْجَوَاب: أَن ذَاك الود ود طبع وميل نفس، والبشر لَا يَخْلُو عَنهُ.
وَأما قَوْله: {أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله} أَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِثْم فِيمَا يَقع فِي قلبه من غير اخْتِيَاره، وعَلى أَنا قد ذكرنَا سوى هَذَا من الْأَقْوَال، وَقد ثَبت بِرِوَايَة مَسْرُوق عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: " لَو كتم النَّبِي شَيْئا من الْوَحْي لكَتم هَذِه الْآيَة "، وروى أَنه لم تكن آيَة أَشد عَلَيْهِ من هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {فَلَمَّا قضي زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا} فِي التَّفْسِير: أَن زيدا لما أخبر(4/287)
بِالْأَمر طَلقهَا، وَقد ذكر بَعضهم: أَن النَّبِي تَركهَا حَتَّى انْقَضتْ عدتهَا ثمَّ تزَوجهَا ".
وَلَيْسَ فِي أَكثر التفاسير ذكر عدَّة، وَلَا ذكر تَزْوِيج من ولي، وَإِنَّمَا الْمَنْقُول أَن زيدا طَلقهَا، وَأَن الله زَوجهَا مِنْهُ، وَهُوَ ظَاهر.
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا} وَقَوله: {وطرا} أَي: حَاجَة، وَهُوَ بُلُوغ مُنْتَهى مَا فِي النَّفس، قَالَ الشَّاعِر:
(أَيهَا الرايح الْمجد ابتكارا ... قد قضى من تهَامَة الأوطار)
وَقَالَ جرير:
(وَبَان الخليط غَدَاة الجناب ... وَلم تقض نَفسك أوطارها)
وَقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَن زَيْنَب كَانَت تفتخر على سَائِر زَوْجَات النَّبِي وَتقول: زوجكن أهلوكن، وزوجني الله من فَوق سبع سموات ".
وروى " أَن النَّبِي لما أَرَادَ أَن يَتَزَوَّجهَا بعث زيدا يخطبها، فَدخل عَلَيْهَا زيد وخطبها لرَسُول الله، فَقَالَت: حَتَّى أوآمر رَبِّي، وَقَامَت إِلَى مَسْجِدهَا، وَأنزل الله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا} " وَهَذَا خبر مَعْرُوف، قَالَ أهل التَّفْسِير: " وَلما نزلت هَذِه الْآيَة جَاءَ رَسُول الله وَدخل عَلَيْهَا بِغَيْر إِذن، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بالخبز وَاللَّحم ". وَقد ثَبت بِرِوَايَة أنس " أَن النَّبِي مَا أولم على أحد من نِسَائِهِ مَا أولم على زَيْنَب بنت جحش، أشْبع النَّاس من الْخبز وَاللَّحم ". وَمن فَضَائِل زَيْنَب " أَن النَّبِي قَالَ لنسائه عِنْد الْوَفَاة: " أَسْرَعكُنَّ بِي لُحُوقا أَطْوَلكُنَّ،(4/288)
{زَوَّجْنَاكهَا لكَي لَا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج فِي أَزوَاج أدعيائهم إِذا قضوا مِنْهُنَّ وطرا وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا (37) مَا كَانَ على النَّبِي من حرج فِيمَا فرض الله لَهُ سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا (38) الَّذين يبلغون رسالات الله} يدا " فَكَانَت زَيْنَب أول من توفيت من أَزوَاج النَّبِي بعده، وَكَانَت امْرَأَة صناعًا، تكْثر الصَّدَقَة بكسب يَدهَا، فعرفوا أَن معنى طول الْيَد هُوَ كَثْرَة الصَّدَقَة ".
وَهِي أَيْضا أول من اتخذ عَلَيْهَا النعش، فَإِنَّهُ روى أَنَّهَا لما مَاتَت فِي زمن عمر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَت امْرَأَة خَلِيقَة، كره عمر أَن تخرج كَمَا يخرج الرِّجَال؛ فَبعثت أَسمَاء بنت عُمَيْس النعش فَأمر عمر حَتَّى (اتخذ) ذَلِك، وأخرجت فِي النعش، وَقَالَ عمر: نعم خباء الظعينة هَذَا، فجرت السّنة على ذَلِك إِلَى يَوْمنَا هَذَا. قَالُوا: وَقد كَانَت أَسمَاء رَأَتْ ذَلِك بِالْحَبَشَةِ.
وَقَوله: {لكيلا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج} أَي: إِثْم.
وَقَوله: {فِي أَزوَاج أدعيائهم} أَي: فِي نسَاء يتبنونهم، وَقد كَانَت الْعَرَب تعد ذَلِك حَرَامًا، فنسخ الله التبني، وَأحل امْرَأَة (المتبنين) .
وَقَوله: {إِذا قضوا مِنْهُنَّ وطرا} قد ذكرنَا.
وَقَوله: {وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا} أَي: كَانَ حكم الله نَافِذا لَا يرد.(4/289)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ على النَّبِي من حرج فِيمَا فرض الله} أَي: فِيمَا أحل الله.
وَقَوله: { [لَهُ] سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل} أَي: كَسنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل، فَلَمَّا نزع (الْخَافِض انتصب) ، وَقيل: إِنَّه نصب على الإغراء كَأَنَّهُ قَالَ: الزموا سنة الله.
أما قَوْله: {فِي الَّذين خلوا من قبل} أَي: دَاوُد وَسليمَان، فقد بَينا عدد مَا كَانَ(4/289)
{ويخشونه وَلَا يَخْشونَ أحدا إِلَّا الله وَكفى بِاللَّه حسيبا (39) مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أحد من} لداود وَسليمَان من النِّسَاء. وَذكر (بَعضهم) ، أَن المُرَاد من الْآيَة تَشْبِيه حَال النَّبِي بِحَال دَاوُد؛ فَإِن دَاوُد هوى امْرَأَة فَجمع الله بَينهمَا على وَجه الْحَلَال، وَكَذَلِكَ الرَّسُول هوى امْرَأَة فَجمع الله بَينهمَا على وَجه الْحَلَال.
قَوْله: {وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا} أَي: قَضَاء مقضيا.(4/290)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يبلغون رسالات الله ويخشونه وَلَا يَخْشونَ أحدا إِلَّا الله} أَي: [خشيَة] تحول بَينهم وَبَين مَعْصِيَته، وَهَذَا هُوَ الخشية حَقِيقَة.
وَقَوله: {وَلَا يَخْشونَ أحدا إِلَّا الله} أَي: غير الله، وَمَعْنَاهُ: أَنهم لَا يراقبون أحدا فِيمَا أحل لَهُم. وَفِي بعض (الْآثَار) : من لم يستح مِمَّا أحل الله لَهُ خفت مُؤْنَته.
وَقَوله: {وَكفى بِاللَّه حسيبا} أَي: حَافِظًا، وَيُقَال: محاسبا، تَقول الْعَرَب: (أحسبني) الشَّيْء أَي: كفاني.(4/290)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أحد من رجالكم} أَكثر الْمُفَسّرين أَن المُرَاد مِنْهُ زيد بن حَارِثَة، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَيْسَ بِأبي زيد بن حَارِثَة، فَإِن قيل: أَلَيْسَ انه قد كَانَ لَهُ أَوْلَاد ذُكُور وإناث، وَكَذَلِكَ الْحسن وَالْحُسَيْن كَانَا ولديه.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ لِلْحسنِ بن عَليّ: " إِن ابْني هَذَا سيد يصلح الله بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين ".
وَفِيه إِشَارَة إِلَى الصُّلْح الَّذِي وَقع بَين أهل الْعرَاق وَأهل الشَّام حِين بَايع الْحسن مُعَاوِيَة وَسلم إِلَيْهِ الْأَمر، والقصة مَعْرُوفَة. وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن
{رجالكم وَلَكِن رَسُول الله وَخَاتم النَّبِيين وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما (40) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا الله ذكرا كثيرا (41) وسبحوه بكرَة وَأَصِيلا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي} معنى قَوْله: {مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أحد من رجالكم} أَي: أَبَا رجل لم يلده، وَلم يكن ولد زيد بن حَارِثَة؛ فَلم يكن أَبَاهُ، وَقد كَانَ لَهُ أَوْلَاد ذُكُور ولدهم وهم: الْقَاسِم، وَالطّيب، والطاهر، وَإِبْرَاهِيم رَضِي الله عَنْهُم وَجعل بَعضهم بدل الطَّاهِر المطهر.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَنه قَالَ: {من رجالكم} وَهَؤُلَاء كَانُوا صغَارًا، وَالرِّجَال اسْم يتَنَاوَل الْبَالِغين. وروى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَن الله تَعَالَى لما حكم أَنه لَا نَبِي بعده لم يُعْطه ولدا ذكرا يصير رجلا، وَلَو أعطَاهُ ولدا ذكرا يصير رجلا لجعله نَبيا.
وَقد قَالَ بعض الْعلمَاء: لَيْسَ هَذَا بمستنكر، وَيجوز أَن يكون لَهُ ولد رجل وَلَا يكون نَبيا، وَمَا ذَكرْنَاهُ محكى عَن ابْن عَبَّاس، وَالله أعلم.
وَقَوله: {وَلَكِن رَسُول الله وَخَاتم النَّبِيين} وَقُرِئَ: " خَاتم " بِنصب التَّاء، فَأَما قَوْله: {وَخَاتم النَّبِيين} بِالْفَتْح أَي: آخر النَّبِيين، وَأما بِالْكَسْرِ أَي: ختم بِهِ النَّبِيين.
وَقَوله: {وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما} أَي: عَالما، وَقد ثَبت بِرِوَايَة جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي قَالَ: " مثلي وَمثل الْأَنْبِيَاء قبلي كَمثل رجل بنى دَارا فأكملها وأحسنها إِلَّا مَوضِع لبنة مِنْهَا، فَجعل كل من يدْخل الدَّار يَقُول: مَا أحْسنهَا وأكملها لَوْلَا مَوضِع اللبنة، فَأَنا اللبنة، وَلَا نَبِي بعدِي ".
وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يبْعَث دجالون كذابون قَرِيبا من ثَلَاثِينَ، كلهم يزْعم أَنه نَبِي، وَلَا نَبِي بعدِي ".(4/290)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا الله ذكرا كثيرا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا:(4/290)
{عَلَيْكُم وَمَلَائِكَته ليخرجكم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رحِيما (43) } أَن المُرَاد بِالذكر الْكثير هُوَ الصَّلَوَات الْخمس، وَالثَّانِي: أَن المُرَاد بِالذكر الْكثير هُوَ التَّسْبِيح والتحميد والتهليل وَالتَّكْبِير وأشباهها، وَهَذِه الْأَذْكَار هِيَ الَّتِي لَا يمْنَع مِنْهَا مُسلم بجنابة وَلَا حدث وَلَا بِغَيْر ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: الذّكر الْكثير يكون بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الذّكر الَّذِي يستديم بِهِ طَاعَة الله، وَيَنْتَهِي بِهِ عَن مَعْصِيَته.(4/292)
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
وَقَوله: {وسبحوه بكرَة وَأَصِيلا} أَي: صلوا لله بكرَة وَأَصِيلا، والأصيل: مَا بَين الْعَصْر وَالْمغْرب، وَيُقَال: صَلَاة الْأَصِيل هِيَ الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء الْآخِرَة.(4/292)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلَائِكَته} اخْتلفُوا فِي معنى (الصَّلَوَات) من الله تَعَالَى؛ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: هُوَ الثَّنَاء من الله على عباده، (وَعَن) بَعضهم: إِشَاعَة الذّكر الْجَمِيل لَهُم، وَأشهر الْأَقْوَال: ان الصَّلَاة من الله تَعَالَى بِمَعْنى الرَّحْمَة وَالْمَغْفِرَة، وَأما صَلَاة الْمَلَائِكَة بِمَعْنى الاسْتِغْفَار للْمُؤْمِنين. وَذكر الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن بني إِسْرَائِيل قَالُوا لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: أيصلي رَبك؟ فَذكر مُوسَى ذَلِك لله تَعَالَى؛ فَقَالَ الله تَعَالَى: إِنِّي أُصَلِّي، وصلواتي أَن رَحْمَتي سبقت غَضَبي ".
وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى لما أنزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي} قَالَت الصَّحَابَة: يَا رَسُول الله، هَذَا لَك! فَمَا لنا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلَائِكَته} .
وَقَوله: {ليخرجكم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} أَي: من ظلمَة الضَّلَالَة إِلَى نور الْهِدَايَة، وَمن ظلمَة الْكفْر إِلَى نور الْإِيمَان، وَقيل: من ظلمَة النَّار إِلَى نور الْجنَّة.
وَقَوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رحِيما} يَعْنِي: لما حكم لَهُم من السَّعَادَة.(4/292)
{تحيتهم يَوْم يلقونه سَلام وَأعد لَهُم أجرا كَرِيمًا (44) يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا (45) وداعيا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجا منيرا (46) وَبشر الْمُؤمنِينَ بِأَن}(4/293)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
قَوْله تَعَالَى: {تحيتهم يَوْم يلقونه سَلام} وَفِيه أَقْوَال: أَحدهَا: أَن معنى " يلقونه " أَي: يلقون الله تَعَالَى، وَالسَّلَام من الله تَعَالَى لَهُم إِثْبَات السَّلامَة الأبدية والأمن من الْآفَات. وَقيل: يسلم الله عَلَيْهِم تَسْلِيمًا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: " يلقونه " أَي: ملك الْمَوْت عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد وَردت الْكِنَايَة عَن غير مَذْكُور فِي مَوَاضِع كَثِيرَة من الْقُرْآن. قَالَ الْبَراء بن عَازِب: مَا من مُؤمن إِلَّا وَيسلم عَلَيْهِ ملك الْمَوْت إِذا أَرَادَ قبض روحه. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن المُرَاد مِنْهُ تَسْلِيم الْمَلَائِكَة، وَمَعْنَاهُ: أَنهم إِذا بعثوا سلم عَلَيْهِم مَلَائِكَة الله وبشروهم بِالْجنَّةِ.
وَقَوله: {وَأعد لَهُم أجرا كَرِيمًا} أَي: الْجنَّة، وَاعْلَم أَنه قد ورد أَخْبَار فِي الْحَث على ذكر الله تَعَالَى؛ مِنْهَا مَا ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي، وَأَنا مَعَه حِين يذكرنِي ".
وَقد ثَبت أَيْضا عَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: إِذا ذَكرنِي العَبْد فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي، وَإِن ذَكرنِي فِي مَلأ ذكرته فِي مَلأ خير مِنْهُم. . " الْخَبَر.
وَفِي بعض المسانيد أَن النَّبِي قَالَ: " من عجز عَن اللَّيْل أَن يكابده، وَجبن عَن الْعَدو أَن يجاهده، وبخل بِالْمَالِ أَن يُنْفِقهُ، فَعَلَيهِ بِذكر الله تَعَالَى ".(4/293)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)
{يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا} أَي: شَاهدا على إبلاغ الرُّسُل رِسَالَة رَبهم.
وَقَوله: {وَمُبشرا} أَي: بِالْجنَّةِ، وَقَوله: {وَنَذِيرا} أَي: من النَّار.(4/293)
{لَهُم من الله فضلا كَبِيرا (47) وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ ودع أذاهم وتوكل على الله وَكفى بِاللَّه وَكيلا (48) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتموهن من}(4/294)
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
وَقَوله: {وداعيا إِلَى الله} أَي: إِلَى الْإِسْلَام. وَقيل: إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله.
وَقَوله: {بِإِذْنِهِ} أَي: بأَمْره. وَقَوله: {وسراجا منيرا} أَي: ذَا سراج مُنِير، والسراج الْمُنِير هُوَ الْقُرْآن. وَقيل: وسراجا هُوَ الرَّسُول؛ سَمَّاهُ سِرَاجًا لِأَنَّهُ يَهْتَدِي بِهِ كالسراج يستضاء بِهِ، قَالَ الشَّاعِر:
(إِن الرَّسُول لنُور يستضاء بِهِ ... مهند من سيوف الله مسلول)(4/294)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)
وَقَوله: {وَبشر الْمُؤمنِينَ بِأَن لَهُم من الله فضلا كَبِيرا} روى أَن الله تَعَالَى لما أنزل قَوْله: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} قَالَت الصَّحَابَة: يَا رَسُول الله، هَذَا لَك فَمَا لنا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَبشر الْمُؤمنِينَ بِأَن لَهُم من الله فضلا كَبِيرا} .(4/294)
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ} الْكَافرين: أَبُو سُفْيَان، وَعِكْرِمَة بن أبي جهل وَقد أَسْلمُوا من بعد وَأَبُو الْأَعْوَر السّلمِيّ، وَالْمُنَافِقِينَ: عبد الله بن أبي، وطعمة بن أُبَيْرِق، وَابْن (سفنة) ، وأشباههم.
وَقَوله: {ودع أذاهم} قَالَ مُجَاهِد: اصبر على أذاهم، وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نسختها آيَة السَّيْف.
وَقَوله: {وتوكل على الله} أَي: ثق بِاللَّه.
وَقَوله: {وفكى بِاللَّه وَكيلا} أَي: حَافِظًا.(4/294)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتموهن} فِي الْآيَة دَلِيل على أَن الطَّلَاق لَا يجوز قبل النِّكَاح؛ لِأَنَّهُ رتب الطَّلَاق على النِّكَاح فَدلَّ [على] أَنه لَا يتقدمه، وَقد حكى هَذَا الْمَعْنى عَن ابْن عَبَّاس.(4/294)
{قبل أَن تمَسُّوهُنَّ فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا (49) يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَحللنَا لَك أَزوَاجك اللَّاتِي آتيت أُجُورهنَّ وَمَا ملكت يَمِينك مِمَّا}
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا طَلَاق قبل النِّكَاح " وَهَذَا يُقَوي مَا ذَكرْنَاهُ من الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ.
وَقَوله: {من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها} فِي الْآيَة دَلِيل على أَنه لَو طلق قبل الدُّخُول لَا تجب الْعدة، وَأما إِذا خلا بِالْمَرْأَةِ ثمَّ طَلقهَا هَل تجب الْعدة؟ فِي الْمَسْأَلَة خلاف مَعْرُوف على مَا عرف.
وَقَوله: {تعتدونها} أَي: تستوفون عدتهَا.
وَقَوله: {فمتعوهن} قد بَينا الْمُتْعَة فِي سُورَة الْبَقَرَة. وَعَن بَعضهم: أَن هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة فَنصف مَا فرضتم} وَلِهَذَا وَجب نصف الْمَفْرُوض قبل الدُّخُول وَلم تجب الْمُتْعَة، وَإِنَّمَا تجب الْمُتْعَة للمطلقة الَّتِي لَا تجب لَهَا نصف الْمَفْرُوض.
وَقَوله: {وسرحوهن سراحا جميلا} والتسريح الْجَمِيل هُوَ الطَّلَاق مَعَ قَضَاء الْحُقُوق.(4/295)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَحللنَا لَك أَزوَاجك اللَّاتِي آتيت أُجُورهنَّ} أَي: مهورهن.
قَوْله: {وَمَا ملكت يَمِينك مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْك} أَي: أغنمك الله. وَيُقَال: رد الله عَلَيْك من الْكفَّار، وَمِمَّا أَفَاء الله عَلَيْهِ صَفِيَّة بنت حييّ بن أَخطب وَجُوَيْرِية بنت أبي ضرار الْمُصْطَلِقِيَّة، وَقد كَانَت مَارِيَة مِمَّا ملكت يَمِينه، وَولد لَهُ مِنْهَا إِبْرَاهِيم ابْنه.
وَقَوله: {وَبَنَات عمك} أَي: أَوْلَاد عبد الْمطلب.(4/295)
{أَفَاء الله عَلَيْك وَبَنَات عمك وَبَنَات عَمَّاتك وَبَنَات خَالك وَبَنَات خَالَاتك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي إِن أَرَادَ النَّبِي أَن يستنكحها خَالِصَة لَك من}
وَقَوله: {وَبَنَات عَمَّاتك} أَي: من أَوْلَاد بَنَات عبد الْمطلب.
وَقَوله: {وَبَنَات خَالك وَبَنَات خَالَاتك} أَي: من أَوْلَاد عبد منَاف بن زهرَة بن كلاب.
وَقَوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أسلمت مَعَك، فيقتضى أَن غير الْمسلمَة لَا تحل لَهُ وَإِن كَانَت يَهُودِيَّة أَو نَصْرَانِيَّة، وَهِي حَلَال لأمته. وَالْقَوْل الثَّانِي: هَاجَرْنَ مَعَك إِلَى الْمَدِينَة، فاقتضت الْآيَة أَن غير المهاجرة لَا تحل لَهُ؛ وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن غير المهاجرة لَا تحل لَهُ من الأجنبيات والقرابات. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن غير المهاجرة لَا تحل من الْقرَابَات واللاتي ذكرهن، فَأَما من الأجنبيات فحلال.
وروى أَبُو صَالح عَن أم هَانِئ أَن رَسُول الله لما فتح مَكَّة خطبني، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، فَلم أحل لَهُ لِأَنِّي لم أكن من الْمُهَاجِرَات، وَكنت من الطُّلَقَاء. وَأم هَانِئ أُخْت عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ.
وَقَوله: {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي} وَقُرِئَ: " إِن وهبت " بِالْفَتْح إِذْ بِالْكَسْرِ على الْعُمُوم، وبالفتح على امْرَأَة بِعَينهَا.
وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: لم يكن مِمَّن أمْسكهَا النَّبِي من النِّسَاء أحد وهبت نَفسهَا.
وَعَن غَيره أَن مَيْمُونَة بنت الْحَارِث كَانَت مِمَّن وهبت، وَمِمَّنْ وهبت نَفسهَا أم شريك، وَكَانَت امْرَأَة صَالِحَة. وروى أَنَّهَا عطشت فِي سفر، فَأنْزل الله تَعَالَى عَلَيْهَا دلوا من السَّمَاء، وعلقت عكة فارغة فَأصَاب فِيهَا سمنا، فَيُقَال: من آيَات الله عكة أم(4/296)
{دون الْمُؤمنِينَ قد علمنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم وَمَا ملكت أَيْمَانهم لكيلا يكون} شريك، " وَقد كَانَ رَسُول الله عهدها جميلَة، فَسَأَلَ عَنْهَا يَوْم فتح مَكَّة فبلغها ذَلِك، فَجَاءَت ووهبت نَفسهَا للنَّبِي، فَلم يرهَا كَمَا عهدها فَتَركهَا ".
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن خَوْلَة بنت حَكِيم مِمَّن وهبت نَفسهَا للنَّبِي.
وَعَن الشّعبِيّ: أَن الَّتِي وهبت نَفسهَا للنَّبِي زَيْنَب بنت خُزَيْمَة الْأَنْصَارِيَّة أم الْمَسَاكِين.
وَقَوله: {إِن أَرَادَ النَّبِي أَن يستنكحها} أَي: يطْلب نِكَاحهَا.
وَقَوله: {خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن معني خَالِصَة: أَنَّهَا حَلَال لَك بِغَيْر صدَاق، وَلَا تحل لغيرك بِغَيْر صدَاق، وَهَذَا قَول عِكْرِمَة وَجَمَاعَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {خَالِصَة لَك} يَعْنِي: أَن جَوَاز النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة [خَالص] لَك، نسب هَذَا إِلَى الشَّافِعِي رَحمَه الله.
وَقَوله: {قد علمنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم} أَي: أَوجَبْنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم من الْأَحْكَام؛ وَالْأَحْكَام أَن النِّكَاح لَا يجوز إِلَّا بِشُهُود وَولي وصداق وفراغ عَن الْعدة وَأَشْبَاه ذَلِك.
وَقَوله: {وَمَا ملكت أَيْمَانهم} أَي: وَمَا أَوجَبْنَا من الْأَحْكَام فِيمَا ملكت أَيْمَانهم.
وَقَوله: ( {عَلَيْهِم و} أَيْمَانهم) ينْصَرف إِلَى الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: {لكيلا يكون عَلَيْك حرج} أَي: ضيق. مَعْنَاهُ: وسعنا عَلَيْك الْأَمر لكَي لَا يكون عَلَيْك حرج.(4/297)
{عَلَيْك حرج وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (50) ترجي من تشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك من تشَاء وَمن ابْتَغَيْت مِمَّن عزلت فَلَا جنَاح عَلَيْك ذَلِك أدنى أَن تقر أعينهن وَلَا يحزن ويرضين}
وَقَوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} قد بَينا.(4/298)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
قَوْله تَعَالَى: {ترجى من تشَاء مِنْهُنَّ} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: تطلق من تشَاء مِنْهُنَّ، وَتُؤْوِي إِلَيْك من تشَاء أَي: تمسك من تشَاء مِنْهُنَّ، حُكيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس. وَالْقَوْل الثَّانِي: ترجى من تشَاء مِنْهُنَّ: لَا تتزوجهن. وَقَوله: {وتؤوى إِلَيْك من تشَاء} أى: من تشَاء نِكَاحهنَّ. وَالْقَوْل الثَّالِث: ترجى من تشَاء مِنْهُنَّ أَي: تؤخرهن فيخرجن من الْقسم.
وَقَوله: {وَتُؤْوِي إِلَيْك من تشَاء} أَي: تدخلهن فِي الْقسم، وَهَذَا أشهر الْأَقَاوِيل، فَكَأَن الله تَعَالَى جوز أَن يقسم لمن شَاءَ، وَيتْرك من شَاءَ مِنْهُنَّ. ثمَّ اخْتلف القَوْل فِي أَنه هَل أخرج احدا مِنْهُنَّ عَن الْقسم؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه لم يخرج أحدا مِنْهُنَّ عَن الْقسم. وَالْقَوْل الثَّانِي: حَكَاهُ أَبُو رزين أَنه أخرج خَمْسَة وَقسم لأربعة، فالخمسة الَّتِي أخرجهن: سَوْدَة، وَأم حَبِيبَة، وَصفِيَّة، وَجُوَيْرِية، ومَيْمُونَة، وَأما اللَّاتِي قسم لَهُنَّ: فعائشة، وَحَفْصَة، وَأم سَلمَة، وَزَيْنَب، وَالْأَظْهَر هُوَ القَوْل الأول.
وَقد روى " أَنه كَانَ فِي مرض مَوته يَدُور على نِسَائِهِ حَتَّى رضين بِأَن يمرض فِي بَيت عَائِشَة ".
وَقَوله: {وَمن ابْتَغَيْت مِمَّن عزلت} أَي: مِمَّن رَأَيْت مِنْهُنَّ وَقد أخرتها {فَلَا جنَاح عَلَيْك} أَي: لَا إِثْم عَلَيْك.
وَقَوله: {ذَلِك أدنى أَن تقر أعينهن وَلَا يحزن ويرضين بِمَا آتيتهن كُلهنَّ} مَعْنَاهُ: أَنَّهُنَّ إِذا علِمْنَ أَن هَذَا مِمَّا أنزل الله تَعَالَى كَانَ أطيب لأنفسهن، وَأَقل لحزنهن، وَأقرب إِلَى رضاهن. وَيُقَال: إِذا علِمْنَ أَن لَك أَن تؤوي من شِئْت، فَمن عزلت كَانَ أقرب إِلَى(4/298)
{بِمَا آتيتهن كُلهنَّ وَالله يعلم مَا فِي قُلُوبكُمْ وَكَانَ الله عليما حَلِيمًا (51) لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد وَلَا من أَن تبدل بِهن من أَزوَاج وَلَو أعْجبك حسنهنَّ إِلَّا مَا ملكت يَمِينك} مَا ذكرنَا. وَفِي بعض التفاسير: " أَن النَّبِي أَرَادَ أَن يُطلق جمَاعَة من نِسَائِهِ، فَقُلْنَ لَهُ: اتركنا على حَالنَا، واقسم كَمَا شِئْت ".
وَقَوله: {وَالله يعلم مَا فِي قُلُوبكُمْ وَكَانَ الله عليما حَلِيمًا} أَي: عليما بِأَمْر خلقه، حَلِيمًا عَن فعل خلقه.(4/299)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
قَوْله تَعَالَى: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} قد بَينا أَن الله تَعَالَى لما أَمر رَسُوله أَن يُخَيّر أَزوَاجه فاخترن الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة؛ شكر لَهُنَّ اختيارهن وَحرم عَلَيْهِ مَا سواهن من النِّسَاء، وَنَهَاهُ عَن الِاسْتِبْدَال بِهن، ثمَّ اخْتلف القَوْل أَنه هَل أحل لَهُ النِّسَاء من بعد أَولا؟ فَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " مَا توفّي رَسُول الله حَتَّى أحل لَهُ النِّسَاء ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْحُرْمَة بقيت إِلَى أَن توفّي النَّبِي.
وَقَوله: {وَلَو أعْجبك حسنهنَّ} ظَاهر الْمَعْنى، وَفِي الْآيَة قَول آخر. وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد وَلَا أَن تبدل بِهن من أَزوَاج} أَي: لَيْسَ لَك أَن تخْتَار غير المسلمات على المسلمات، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يجوز لَهُ أَن يتَزَوَّج يَهُودِيَّة وَلَا نَصْرَانِيَّة. وَفِي بعض التفاسير: أَن الَّتِي أَعْجَبته هِيَ أَسمَاء بنت عُمَيْس الخثعمية، وَكَانَت عِنْد جَعْفَر بن أبي طَالب، فَلَمَّا اسْتشْهد عَنْهَا أَرَادَ النَّبِي أَن يخطبها، فَنهى عَن ذَلِك.
وَقَوله: {إِلَّا مَا ملكت يَمِينك} يَعْنِي: سوى مَا ملكت يَمِينك، وَقَوله {وَكَانَ الله على كل شَيْء وقيبا} أَي: حفيظا.(4/299)
{وَكَانَ الله على كل شَيْء رقيبا (52) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي إِلَّا أَن يُؤذن لكم إِلَى طَعَام غير ناظرين إناه وَلَكِن إِذا دعيتم فادخلوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشرُوا وَلَا}(4/300)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي} سَبَب نزُول الْآيَة: مَا روى أَن الصَّحَابَة كَانُوا يدْخلُونَ بيُوت النَّبِي بِغَيْر إِذن، وينتظرون إِدْرَاك الطَّعَام، فَإِذا فرغوا من الطَّعَام جَلَسُوا يتحدثون وأطالوا الْجُلُوس، وَكَانَ النَّبِي يتَأَذَّى بهم ويستحي مِنْهُم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وعلمهم هَذَا الْأَدَب بَينهم وَبَين النَّبِي.
وَقد ثَبت بِرِوَايَة أنس " أَن النَّبِي أَو لم على زَيْنَب بنت جحش ودعا أَصْحَابه، فَلَمَّا فرغوا وَخَرجُوا، جلس رجلَانِ يتحدثان، وَأحب النَّبِي أَن يخرجَا فيخلوا بأَهْله فَلم يخرجَا ". وَفِي رِوَايَة: أَنه خرج مَرَّات ليتبعاه فَلم يخرجَا أَيْضا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا أَن نسَاء النَّبِي لم يكن يحتجبن عَن الرِّجَال على عَادَة الْعَرَب، وَكَانَ عمر يَقُول: يَا رَسُول الله، احجب نِسَاءَك؛ فَإِنَّهُ يدْخل عَلَيْك الْبر والفاجر؛ وَكَانَ النِّسَاء يتزرن بِاللَّيْلِ، ويخرجن إِلَى المناصع لحاجتهن، فَخرجت سَوْدَة لَيْلَة وَكَانَت امْرَأَة طَوِيلَة، فَقَالَ عمر: قد عرفناك يَا سَوْدَة، وَرفع صَوته حرصا على أَن ينزل الْحجاب، فَأنْزل الله تَعَالَى آيَة الْحجاب ". وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا " أَن النَّبِي كَانَ يَأْكُل مَعَ عَائِشَة حَيْسًا، فَمر عمر فَدَعَاهُ فَجعل يَأْكُل مَعَهُمَا، فَوَقع أُصْبُعه على أصْبع عَائِشَة، فَقَالَ عمر: حس لَو أطَاع فيكُن [مَا رَأَتْكُنَّ] عين، فأنزلت آيَة الْحجاب ".(4/300)
{مستئنسين لحَدِيث إِن ذَلِكُم كَانَ يُؤْذِي النَّبِي فيستحي مِنْكُم وَالله لَا يستحي من الْحق وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب ذَلِكُم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وَمَا كَانَ}
وَقَوله: {غير ناظرين إناه} أَي: إِدْرَاكه ونضجه، قَالَ الشَّاعِر:
(تمخضت الْمنون لَهُ بِيَوْم ... أَنى وَلكُل حاملة تَمام)
وَقَوله: {وَلَكِن إِذا دعيتم فادخلوا}
وَقَوله: {فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشرُوا} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره: نزلت الْآيَة فِي الثُّقَلَاء. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: من عرف أَنه ثقيل فَلَيْسَ بثقيل.
وَقَوله: {وَلَا مستأنسين لحَدِيث} أَي: لَا يقعدوا فِي بَيت النَّبِي بعد الْفَرَاغ من الطَّعَام يتحدثون مستأنسين بِالْحَدِيثِ.
وَقَوله: {إِن ذَلِكُم كَانَ يُؤْذِي النَّبِي فيستحي مِنْكُم} أَي: يستحي من إخراجكم.
وَقَوله: {وَالله لَا يستحي من الْحق} أَي: لَا يتْرك بَيَان الْحق [وَذكره] حَيَاء.
وَقَوله: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا} أَي: حَاجَة.
وَقَوله: {فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب} أَي: من وَرَاء ستر. وَفِي التَّفْسِير: أَنه لم يكن يحل بعد آيَة الْحجاب لأحد أَن ينظر إِلَى امْرَأَة من نسَاء النَّبِي، منتقبة كَانَت أَو غير منتقبة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {من وَرَاء حجاب} وروى أَن عَائِشَة كَانَت إِذا طافت ستروا وَرَاءَهَا.
وَقَوله: {ذَلِكُم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} أَي: أطهر من الريب.
وَقَوله: {وَمَا كَانَ لكم أَن تُؤْذُوا رَسُول الله} قَالَ أهل التَّفْسِير: لما نزلت آيَة الْحجاب وَمنع الرِّجَال من الدُّخُول فِي بيُوت النَّبِي، قَالَ رجل من الصَّحَابَة: مَا بالنا نمْنَع من الدُّخُول على بَنَات أعمامنا، وَالله لَئِن حدث أَمر لأَتَزَوَّجَن عَائِشَة، وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْقَائِل لهَذَا طَلْحَة بن عبيد الله، وَكَانَ من رَهْط أبي بكر الصّديق.(4/301)
{لكم أَن تُؤْذُوا رَسُول الله وَلَا أَن تنْكِحُوا أَزوَاجه من بعده أبدا أَن ذَلِكُم كَانَ عِنْد الله عَظِيما (53) إِن تبدوا شَيْئا أَو تُخْفُوهُ فَإِن الله كَانَ بِكُل شَيْء عليما (54) لَا جنَاح} وَكَانَ ذَلِك القَوْل زلَّة مِنْهُ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى [قَوْله هَذَا] : {وَمَا كَانَ لكم أَن تُؤْذُوا رَسُول الله} .
وَقَوله: {وَلَا أَن تنْكِحُوا أَزوَاجه من بعده أبدا إِن ذَلِكُم كَانَ عِنْد الله عَظِيما} أَي: ذَنبا عَظِيما.(4/302)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
قَوْله تَعَالَى: {إِن تبدوا شَيْئا أَو تُخْفُوهُ} وَالَّذِي أبدى وأظهرهو قَول ذَلِك الْقَائِل: مَا بالنا نمْنَع من الدُّخُول على بَنَات أعمامنا.
وَقَوله: {أَو تُخْفُوهُ} وَالَّذِي أُخْفِي هُوَ إضماره نِكَاح عَائِشَة بعد النَّبِي، وروى أَنه لم يقل هَذَا، وَلكنه أضمر.
وَقَوله: {فَإِن الله كَانَ بِكُل شَيْء عليما} أَي: عَالما. فِي تَفْسِير النقاش: أَن النَّبِي خطب بعد نزُول هَذِه الْآيَة، وَقَالَ: " أَيهَا النَّاس، إِن الله فضلني على سَائِر الرِّجَال، وَفضل نسَائِي على سَائِر النِّسَاء، وَإِن الله حرمهن عَلَيْكُم وجعلهن كأمهاتكم، فَلَا تَعْتَدوا حُدُوده فسيحتكم بِعَذَاب أَلِيم، أَلا وَإِن صفوتي من نسَائِي عَائِشَة بنت أبي بكر إِلَّا مَا كَانَ من خَدِيجَة بنت خويلد، وَإِن فَاطِمَة سيدة نسَاء الْعَالمين إِلَّا مَا كَانَ من مَرْيَم بنت عمرَان، وَالْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا سيدا شباب أهل الْجنَّة، وَإِن أَبَا بكر وَعمر سيدا كهول أهل الْجنَّة مَا خلا النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ ".(4/302)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
قَوْله تَعَالَى: {لَا جنَاح عَلَيْهِنَّ فِي آبائهن} الْآيَة. روى أَن الْآيَة الأولى لما نزلت قَامَ الْآبَاء وَالْأَبْنَاء، فَقَالُوا: مَا حَالنَا يَا رَسُول الله أندخل عَلَيْهِنَّ أم لَا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {لَا جنَاح عَلَيْهِنَّ} أَي: لَا إِثْم عَلَيْهِنَّ {فِي آبائهن وَلَا أبنائهن، وَلَا إخوانهن وَلَا أَبنَاء إخوانهن وَلَا أَبنَاء أخواتهن} فَإِن قيل: لم يذكر الْأَعْمَام، وبالإجماع يجوز للأعمام أَن يدخلُوا عَلَيْهِنَّ، إِنَّه قد قَالَ: {فِي آبائهن} وَقد دخل الْأَعْمَام فِي جملَة(4/302)
{عَلَيْهِنَّ فِي آبائهن وَلَا أبنائهن وَلَا إخوانهن وَلَا أَبنَاء إخوانهن وَلَا أَبنَاء أخواتهن وَلَا نسائهن وَلَا مَا ملكت أيمانهن واتقين الله إِن الله كَانَ على كل شَيْء شَهِيدا (55) إِن} الْآبَاء وَقد سمى الله تَعَالَى الْعم أَبَا فِي الْقُرْآن، قَالَ الله تَعَالَى حاكيا عَن الأسباط أَنهم قَالُوا ليعقوب: {نعْبد إلهك وإله آبَائِك إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق} وَقد كَانَ إِسْمَاعِيل عَم يَعْقُوب.
وَقَوله: {وَلَا نسائهن} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد من نسائهن المسلمات، فعلى هَذَا القَوْل لم يكن يجوز لليهوديات والنصرانيات الدُّخُول عَلَيْهِنَّ. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَلَا نسائهن} عَام فِي المسلمات وَغير المسلمات، فعلى هَذَا القَوْل إِنَّمَا قَالَ: {وَلَا نسائهن} لِأَنَّهُنَّ من أجناسهن، وعَلى القَوْل الأول قَالَ: {وَلَا نساءهن} لِأَن نسائهن المسلمات دون غير المسلمات.
وَقَوله: {وَلَا مَا ملكت أيمانهن} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَا ملكت أيمانهن هن الْإِمَاء، قَالَ سعيد بن الْمسيب: لَا يَغُرنكُمْ قَوْله: {وَلَا مَا ملكت أيمانهن} فَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهُ الْإِمَاء دون العبيد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد مِنْهُ العبيد وَالْإِمَاء.
وَاخْتلف القَوْل أَن العبيد إِلَى مَاذَا يحل لَهُم النّظر على هَذَا القَوْل؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه يحل لَهُم النّظر إِلَى مَا يحل للمحارم.
وَالْقَوْل الآخر: أَنه يحل [النّظر] إِلَى مَا يَبْدُو فِي الْعَادة من الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ والقدمين، وَلَا يحل النّظر إِلَى مَا سوى ذَلِك، هَذَا هُوَ الْأَحْوَط.
وَقَوله: {واتقين الله} هَذَا خطاب لِأَزْوَاج النَّبِي حَتَّى لَا يبرزن وَلَا يكشفن السّتْر عَن أَنْفسهنَّ.
وَقَوله: {إِن الله كَانَ على كل شَيْء شَهِيدا} أَي: شَاهدا.(4/303)
{الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا (56) إِن}(4/304)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
وَقَوله تَعَالَى: {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي} الصَّلَاة من الله بِمَعْنى الرَّحْمَة وَالْمَغْفِرَة، وَالْمَلَائِكَة وَالْمُؤمنِينَ بِمَعْنى الدُّعَاء.
قَالَ ثَعْلَب: قَول الْقَائِل: اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد أى: زده بركَة وَرَحْمَة، وأصل الصَّلَاة فِي اللُّغَة الدُّعَاء، وَقد بَينا من قبل. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: ((صلى على مرّة صلى الله عَلَيْهِ عشرا)) .
وَفِي بعض الْأَخْبَار: ((أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لما نزل بِهَذَا سجد الرَّسُول الله شكرا)) .
وَقد ثَبت بِرِوَايَة كَعْب بن عجْرَة أَنه قَالَ: يارسول الله، قد عرفنَا السَّلَام عَلَيْك، فَكيف نصلي عَلَيْك؟ فَقَالَ: ((قُولُوا اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد كَمَا صليت على إِبْرَاهِيم وعَلى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد)) .
وَعَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: إِذا صليتم على رَسُول الله فَأحْسنُوا الصَّلَاة عَلَيْهِ؛ فلعلها تعرض عَلَيْهِ؛ قَالُوا لَهُ: فَعلمنَا. قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد عَبدك وَنَبِيك، سيد الْمُرْسلين، وَإِمَام الْمُتَّقِينَ، وَخَاتم النَّبِيين، إِمَام الْخَيْر، وقائد الْخَيْر، وَرَسُول الرَّحْمَة، اللَّهُمَّ ابعثه الْمقَام الْمَحْمُود الَّذِي يغبطه بِهِ الْأَولونَ
{الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله لعنهم الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأعد لَهُم عذَابا مهينا} وَالْآخرُونَ.
وروى الْأَصْمَعِي قَالَ: سَمِعت الْمهْدي وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن جَعْفَر المنصوري على مِنْبَر الْبَصْرَة يَقُول: إِن الله تَعَالَى أَمركُم بِأَمْر بَدَأَ فِيهِ بِنَفسِهِ، وثنى بملائكته، فَقَالَ: {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا} .
وَأما السَّلَام على الرَّسُول فَهُوَ أَن تَقول: السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، هَذَا فِي حق أَصْحَاب رَسُول الله، وَكَانَت السّنة لَهُم أَن يواجهوا الرَّسُول على هَذَا الْوَجْه، فَأَما فِي حق سَائِر الْمُؤمنِينَ فَفِي التَّشَهُّد يَقُول على مَا هُوَ الْمَعْرُوف.
وَقد ذكر بعض الْعلمَاء أَنه يَقُول فِي التَّشَهُّد: السَّلَام على النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. وَلَا يَقُول: عَلَيْك.
وَالصَّحِيح مَا بَينا، وَإِنَّمَا خَارج الْمصلى، فَإِنَّهُ يَقُول: السَّلَام على النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
ويستدل بِهَذِهِ الْآيَة فِي وجوب الصَّلَاة على النَّبِي إِذا صلى، على مَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله وَوجه الِاسْتِدْلَال: أَن الله تَعَالَى أمرنَا بِالصَّلَاةِ على النَّبِي، وَأولى مَوضِع بِوُجُوب الصَّلَاة فِيهِ هُوَ الصَّلَاة. فَوَجَبَ فِي الصَّلَاة، أَن يُصَلِّي على رَسُول الله.(4/304)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله} قد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: يَشْتمنِي عَبدِي، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يَشْتمنِي، ويكذبني عَبدِي، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يكذبنِي. أما شَتمه إيَّايَ هُوَ أَن يزْعم أَنِّي اتَّخذت ولدا. وَأما تَكْذِيبه إيَّايَ هُوَ أَنه يزْعم أَنِّي لن أُعِيد خلقي، وَأَنا المبدئ المعيد ".(4/304)
{وَالَّذين يُؤْذونَ الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَيْر مَا اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مُبينًا (58) يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك وبناتك وَنسَاء الْمُؤمنِينَ يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن}
وَقَالَ بَعضهم: {إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله} أَي: أَوْلِيَاء الله.
وَأَصَح الْقَوْلَيْنِ أَن قَوْله: {يُؤْذونَ الله} على طَرِيق الْمجَاز، وَأما على الْحَقِيقَة فَلَا يلْحقهُ أَذَى من قبل أحد.
وَقَوله: {لعنهم الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} أَي: طردهم وأبعدهم من رَحمته.
وَقَوله: {وَأعد لَهُم عذَابا مهينا} أَي: يهينهم ويخزيهم.(4/306)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يُؤْذونَ الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَيْر مَا اكتسبوا} أَي: يقعون فيهم، ويعيبونهم بِغَيْر جرم وجد من قبلهم.
وَذكر [هُنَا] مقَاتل أَن الْآيَة نزلت فِي قوم كَانُوا يُؤْذونَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَذكر الْكَلْبِيّ أَن الْآيَة نزلت فِي قوم من الْمُنَافِقين كَانُوا يَمْشُونَ فِي الطَّرِيق ويغمزون النِّسَاء.
وَقَوله: {فقد احتملوا بهتانا وإثما مُبينًا} ظَاهر الْمَعْنى.(4/306)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك وبناتك وَنسَاء الْمُؤمنِينَ يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن} ذكر الْمُفَسِّرُونَ أَن الْمَدِينَة كَانَت ضيقَة الْمنَازل، وَكَانَ النِّسَاء يخْرجن إِلَى الْبَوَار بالليالي لقَضَاء الْحَاجَات، وَكَانَ قوم من الْمُنَافِقين والفاسقين يرصدونهن ويتعرضون لَهُنَّ، فَمن كَانَت عفيفة مِنْهُنَّ صاحت وتركوها، وَمن كَانَت غير عفيفة أعطوها شَيْئا وواقعوها.
وَفِي رِوَايَة: أَنهم كَانُوا يتعرضون للإماء، وَلَا يتعرضون للحرائر، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله تَعَالَى: {يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن} أَي: يشتملن بالجلابيب، والجلباب(4/306)
{ذَلِك أدنى أَن يعرفن فَلَا يؤذين وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (59) لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض والمرجفون فِي الْمَدِينَة لنغرينك بهم ثمَّ لَا يجاورونك فِيهَا إِلَّا} هُوَ الرِّدَاء، وَهُوَ الملاءة الَّتِي تشْتَمل بهَا الْمَرْأَة فَوق الدرْع والخمار.
قَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي: تتغطى الْمَرْأَة بجلبابها فتستر رَأسهَا ووجهها وَجَمِيع بدنهَا إِلَّا إِحْدَى عينيها.
وروى أَن الله تَعَالَى لما أنزل هَذِه الْآيَة اتخذ نسَاء الْأَنْصَار أكيسة سَوْدَاء واشتملن بهَا فخرجن كَأَن رءوسهن الْغرْبَان.
وَقَوله: {ذَلِك أدنى أَن يعرفن فَلَا يؤذين} أَي: يعرفن أَنَّهُنَّ حرائر {فَلَا يؤذين} أَي: لَا يتَعَرَّض لَهُنَّ.
وَقَوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} قد بَينا من قبل.
وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ إِذا رأى أمة قد تقنعت وتجلببت علاها بِالدرةِ، وَيَقُول: أتتشبهين بالحرائر.(4/307)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
قَوْله تَعَالَى: {لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض} أَي: شَهْوَة الزِّنَا.
وَقَوله: {والمرجفون فِي الْمَدِينَة} قد كَانَ قوم من الْمُنَافِقين يكثرون الأراجيف، وَكَانَ إِذا خرجت سَرِيَّة أَو غَازِيَة، قَالُوا: قد هزموا وَقتلُوا، ويوقعون بَين الْمُسلمين أَمْثَال هَذِه الْأَشْيَاء؛ لتضعف قُلُوبهم ويحزنوا.
وَقَوله: {لنغرينك بهم} أَي: نسلطنك عَلَيْهِم، ونحملنك على قَتلهمْ.
وَفِي بعض التفاسير: أَن قوما منن الْمُنَافِقين هموا بِإِظْهَار الْكفْر، فَأمر الله تَعَالَى رَسُوله أَن يقتلهُمْ إِذا أظهرُوا.
وَقَالَ السّديّ: من تتبع امْرَأَة فِي طَرِيق وكابرها قتل مُحصنا كَانَ أَو غير مُحصن لهَذِهِ الْآيَة.(4/307)
(قَلِيلا (60) ملعونين أَيْنَمَا ثقفوا أخذُوا وَقتلُوا تقتيلا (61) سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا (62) يَسْأَلك النَّاس عَن السَّاعَة قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله وَمَا يدْريك لَعَلَّ السَّاعَة تكون قَرِيبا (63) إِن الله لعن الْكَافرين وَأعد لَهُم سعيرا)
وَقَوله: {ثمَّ لَا يجاورونك فِيهَا} أَي: فِي الْمَدِينَة.
وَقَوله: {إِلَّا قَلِيلا} أَي: إِلَّا وقتا قَلِيلا.(4/308)
مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
قَوْله تَعَالَى: {ملعونين} وَهُوَ نصب على الْحَال.
وَقَوله: {أَيْنَمَا ثقففوا} مَعْنَاهُ: أَيْنَمَا صدفوا ووجدوا.
وَقَوله: {أخذُوا وَقتلُوا تقتيلا} فَقَوله: قتلوا تقتيلا، قَالَ السّديّ: (مَا قَالَ)(4/308)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
قَوْله تَعَالَى: {سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل} وفعلوا مثل هَذَا الْفِعْل.
وَقَوله: {وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} أَي: تغييرا.(4/308)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلك النَّاس عَن السَّاعَة} أَي: مَتى قِيَامهَا.
وَقَوله: {قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله} أَي: علم قِيَامهَا عِنْد الله.
وَقَوله: {وَمَا يدْريك} أَي: وَمَا يعلمك؟ أَي: لَا تعلم وَقت قِيَامهَا.
وَقَوله: {لَعَلَّ السَّاعَة تكون قَرِيبا} أَي: قريبَة.(4/308)
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لعن الْكَافرين} أَي: أبعدهم عَن الرَّحْمَة، وطردهم من الْخيرَات.
وَقَوله: {وَأعد لَهُم سعيرا} أَي: نَارا مسعرة.(4/308)
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)
وَقَوله: {خَالِدين فِيهَا أبدا} قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: { [لَا يَجدونَ وليا وَلَا نَصِيرًا](4/308)
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)
يَوْم تقلب وُجُوههم فِي النَّار) أَي:(4/308)
( {64) خَالِدين فِيهَا أبدا لَا يَجدونَ وليا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْم تقلب وُجُوههم فِي النَّار يَقُولُونَ يَا ليتنا أَطعْنَا الله وأطعنا الرسولا (66) وَقَالُوا رَبنَا إِنَّا أَطعْنَا سادتنا وكبراءنا فأضلوا السبيلا (67) رَبنَا آتهم ضعفين من الْعَذَاب والعنهم لعنا كَبِيرا (68) يَا أَيهَا} يسْحَبُونَ على وُجُوههم فِي النَّار.
وَقَوله: {يَقُولُونَ يَا ليتنا أَطعْنَا الله وأطعنا الرسولا} أَي: الرَّسُول، وَذكر الرسولا على مُوَافقَة رُءُوس الْآي على مَا بَينا من قبل.(4/309)
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا رَبنَا إِنَّا أَطعْنَا سادتنا وكبراءنا} وَقُرِئَ: " سَادَاتنَا "، وَقَوله: {وكبراءنا} هم الْأَشْرَاف ورءوس النَّاس.
قَوْله: {فأضلونا السبيلا} أَي: السَّبِيل، وَمَعْنَاهُ: صدونا عَن طَرِيق الْحق.(4/309)
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا آتهم ضعفين من الْعَذَاب} أَي: عذبهم ضعْفي عَذَاب غَيرهم. وَقيل: عذبهم عَذَاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَالْأول أولى.
وَقَوله: {والعنهم لعنا كَبِيرا} أَي: مرّة بعد مرّة، وَقُرِئَ: " كثيرا " بالثاء، وَالْمعْنَى وَاحِد.(4/309)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى} مَعْنَاهُ: لَا تُؤْذُوا مُحَمَّدًا فتكونوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى، وَفِيمَا أوذي بِهِ الرَّسُول قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم آذوه فِي أَمر زيد بن حَارِثَة ونكاحه زَيْنَب.
وَالثَّانِي: مَا روى أَنه قسم غنيمَة فَقَامَ رجل وَقَالَ: اعْدِلْ، فَإنَّك لم تعدل، فَقَالَ النَّبِي: " رحم الله مُوسَى؛ لقد أوذي بِأَكْثَرَ من هَذَا فَصَبر ".
وَأما الَّذِي أوذي بِهِ مُوسَى فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا وَعَلِيهِ أَكثر أهل التَّفْسِير مَا روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " كَانَ مُوسَى رجلا حييا، وَكَانَ لَا يغْتَسل إِلَّا وَحده، وَكَانَ بَنو إِسْرَائِيل يغتسلون عُرَاة ينظر بَعضهم إِلَى (عَورَة(4/309)
{الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى فبرأه الله مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْد الله وجيها (69) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدا (70) يصلح لكم أَعمالكُم} الْبَعْض) ، فَقَالُوا: إِن مُوسَى لَا يغْتَسل إِلَّا وَحده؛ لِأَن بِهِ آفَة، وَقَالُوا: إِنَّه آدر، فاغتسل مُوسَى مرّة وَوضع ثَوْبه على حجر، فَعدا الْحجر بِثَوْبِهِ، فَأخذ مُوسَى الْعَصَا وَجعل يَقُول: ثوبي يَا حجر، ثوبي يَا حجر، حَتَّى مر على مَلأ من بني إِسْرَائِيل فنظروا إِلَيْهِ وَلم يرَوا بِهِ بَأْسا، وَقَامَ الْحجر فَطَفِقَ يضْربهُ بالعصا ".
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ رَسُول الله: " وَكَأَنِّي بِالْحجرِ ندبا من أثر ضربه أَرْبعا أَو خمْسا ". وَالْخَبَر فِي الصَّحِيحَيْنِ ".
وَفِي الْخَبَر: " أَن الله تَعَالَى أنزل فِي هَذَا قَوْله [تَعَالَى] : {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى} الْآيَة.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن الْحجر قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى، لم تضربني، إِنَّمَا أَنا عبد مَأْمُور.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: مَا روى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: صعد هَارُون ومُوسَى الْجَبَل، فَمَاتَ هَارُون وَنزل مُوسَى وَحده، فَقَالَت لَهُ بَنو إِسْرَائِيل: أَنْت قتلت هَارُون، وَقد كَانَ أَلين جانبا مِنْك وَأحب إِلَيْنَا، فَبعث الله الْمَلَائِكَة حَتَّى حملُوا هَارُون مَيتا إِلَيْهِم، وَتَكَلَّمُوا بِمَوْتِهِ حَتَّى سمعُوا بني إِسْرَائِيل ذَلِك، ثمَّ إِن الْمَلَائِكَة حملُوا هَارُون ودفنوه فَلم يعرف أحد مَوضِع قَبره إِلَّا الرخم، فَجعله الله تَعَالَى أَصمّ أبكم.
وَقَوله: {فبرأه الله مِمَّا قَالُوا} أَي: طهره الله مِمَّا قَالُوا.
وَقَوله: {وَكَانَ عِنْد الله وجيها} أَي: بتكليمه إِيَّاه، والوجيه فِي اللُّغَة هُوَ ذُو الجاه.(4/310)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدا} أَي: صَوَابا،(4/310)
{وَيغْفر لكم ذنوبكم وَمن يطع الله وَرَسُوله فقد فَازَ فوزا عَظِيما (71) إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة} وَيُقَال: صدقا.
وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقَالَ بَعضهم: سديدا، أَي: مُسْتَقِيمًا، يُقَال: سدد أَي: اسْتَقِم، قَالَ زُهَيْر:
(فَقلت لَهُ سدد وَأبْصر طَرِيقه ... وَمَا هُوَ فِيهِ عَن وصاتي شاغله)
أَي: عَن وصيتي، وَقَالَ بَعضهم: قولا سديدا أَي: قولا يُوَافق بَاطِنه ظَاهره.(4/311)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
وَقَوله: {يصلح لكم أَعمالكُم} أَي: يزك لكم أَعمالكُم. وَقيل: يصلح لكم أَعمالكُم: يتَقَبَّل مِنْكُم الْحَسَنَات.
وَقَوله: {وَيغْفر لكم ذنوبكم} أَي: يَسْتُرهَا ويعف عَنْهَا.
وَقَوله: {وَمن يطع الله وَرَسُوله فقد فَازَ فوزا عَظِيما} أَي: ظفر بِالْخَيرِ كُله.(4/311)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: الْأَمَانَة الْفَرَائِض. وَقَالَ الضَّحَّاك: الطَّاعَة. وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي: مَا أَمر بِهِ وَنهى عَنهُ. وَقَالَ أبي بن كَعْب: الْأَمَانَة هَا هُنَا حفظ الْفرج.
وَأولى الْأَقَاوِيل مَا ذكرنَا عَن ابْن عَبَّاس، وَقَول الضَّحَّاك وَأبي الْعَالِيَة قريب من ذَلِك. وَفِي بعض التفاسير: أَن أول مَا خلق الله تَعَالَى من ابْن آدم فرجه وأتمنه عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِن حفظته حفظتك.
وَعَن أبي حَمْزَة السكرِي أَنه قَالَ: إِنِّي أعلم من نَفسِي أَنِّي أؤدي الْأَمَانَة فِي مائَة ألف دِينَار، وَمِائَة ألف دِينَار، وَمِائَة ألف دِينَار إِلَى أَن يَنْقَطِع النَّفس، وَلَو باتت عِنْدِي امْرَأَة وأتمنت عَلَيْهَا خفت أَلا أسلم مِنْهَا.
وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: من الْأَمَانَة أَدَاء الصَّلَاة، وإيتاء الزَّكَاة، وَصَوْم رَمَضَان، وَحج الْبَيْت، والصدق فِي الحَدِيث، وَقَضَاء الدّين، وَالْعدْل فِي المكاييل والموازين، قَالَ: وَأَشد من هَذَا كُله الودائع. وَهَذَا القَوْل قريب من قَول ابْن عَبَّاس.(4/311)
{على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها وأشفقن مِنْهَا وَحملهَا الْإِنْسَان إِنَّه}
وَقَالَ أهل الْعلم: الْأَمَانَة قطب الْإِيمَان، قَالَ النَّبِي: " لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ ".
وَمن الْأَمَانَة أَن يكون الْبَاطِن مُوَافقا للظَّاهِر، فَكل من عمل عملا يُخَالف عقيدته فقد خَان الله وَرَسُوله. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم} نزلت فِي أبي لبَابَة بن عبد الْمُنْذر، وَقد كَانَ وضع أُصْبُعه على حلقه، يُشِير إِلَى بني النَّضِير إِنَّكُم إِن نزلتم فَهُوَ الذّبْح، وَقد بَينا.
وَقَوله: {على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال} فِيهِ أَقْوَال:
الأول: وَهُوَ قَول أَكثر السّلف، وَهُوَ المحكي عَن ابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة التَّابِعين: هُوَ أَن الله تَعَالَى عرض أوامره على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال عرض تَخْيِير لَا عرض إِلْزَام، وَقَالَ لَهُنَّ: أتحملن هَذِه الْأَمَانَة بِمَا فِيهَا؟ قُلْنَ: وَمَا فِيهَا؟ ! فَقَالَ: إِن أحسنتن جوزيتن، وَإِن عصيتن عوقبتن، فَقُلْنَ: لَا نتحمل الْأَمَانَة، وَلَا نُرِيد ثَوابًا وَلَا عقَابا، وعرضها على آدم فتحملها بِمَا فِيهَا. وَفِي بعض التفاسير: أَنه قَالَ: بَين أُذُنِي وعاتقي.
قَالَ ابْن جريج: عرض على السَّمَاء، فَقَالَت: يَا رب، خلقتني وجعلتني سقفا مَحْفُوظًا، وأجريت فِي الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم، وَمَالِي قُوَّة لحمل الْأَمَانَة، ثمَّ عرضهَا على الأَرْض، فَقَالَت: يَا رب، خلقتني وجعلتني بساطا ممدودا، وأجريت فِي الْأَنْهَار، وَأنْبت فِي الْأَشْجَار، وَمَا لي قُوَّة لحمل الْأَمَانَة، وَذكر عَن الْجبَال قَرِيبا من هَذَا، وجملها آدم وَأَوْلَاده. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: أَبَت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال أَن يحملوا الْأَمَانَة، وجملها آدم فَمَا كَانَ بَين أَن حملهَا وخان فِيهَا وَأخرج من الْجنَّة إِلَّا مَا بَين الظّهْر وَالْعصر.
وَحكى النقاش بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: مثلت الْأَمَانَة كصخرة ملقاة،(4/312)
{كَانَ ظلوما جهولا (72) ليعذب الله الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات} ودعيت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال إِلَيْهَا فَلم يقربُوا مِنْهَا، وَقَالُوا: لَا نطيق حملهَا، وَجَاء آدم من غير أَن يَدعِي وحرك الصَّخْرَة، وَقَالَ: لَو أمرت بحملها. فَقُلْنَ لَهُ: احْمِلْ، فحملها إِلَى رُكْبَتَيْهِ ثمَّ وَضعهَا وَقَالَ: وَالله لَو أردْت أَن أزداد لزدت فَقُلْنَ: احْمِلْ، فحملها حَتَّى بلغ حقوه ثمَّ وَضعهَا وَقَالَ: وَالله لَو أردْت أَن أزداد لزدت، فَقُلْنَ: احْمِلْ، فحملها حَتَّى وضع على عَاتِقه، وَأَرَادَ أَن يَضَعهَا، فَقَالَ الله تَعَالَى: مَكَانك، فَهِيَ فِي عُنُقك وعنق ذريتك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ عرضهَا على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال، وَهِي لَا تعقل شَيْئا؟ قُلْنَا: قد بَينا الْجَواب عَن أَمْثَال هَذَا من قبل. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: يحْتَمل أَن الله تَعَالَى خلق فِيهَا عقلا وتمييزا حِين عرض الْأَمَانَة عَلَيْهِنَّ حَتَّى أعقلت الْخطاب، وأجابت بِمَا أجابت.
وَأما قَوْله: {فأبين أَن يحملنها وأشفقن مِنْهَا} أَي: لم يقبلُوا حمل الْأَمَانَة وخافوا مِنْهَا.
وَقَوله: {وَحملهَا الْإِنْسَان} يَعْنِي: آدم عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: {إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: ظلوما لنَفسِهِ، جهولا بربه، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس. وَالْقَوْل الثَّانِي: ظلوما لنَفسِهِ بِأَكْل الشَّجَرَة، جهولا بعاقبة أمره.
وَعَن جمَاعَة من الْعلمَاء: أَن المُرَاد بالظلوم الجهول هُوَ الْمُنَافِق والمشرك. وَقد حكى هَذَا عَن الْحسن فِي رِوَايَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي، فِي أصل الْآيَة أَن المُرَاد من الْعرض على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال هُوَ الْعرض على أهل السَّمَوَات وَأهل الأَرْض وَأهل الْجبَال وَهُوَ مثل قَوْله: {واسأل الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة.(4/313)
{وَيَتُوب الله على الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (73) .}
وَالْقَوْل الثَّالِث ذكره الزّجاج وَغَيره من أهل الْمعَانِي قَالُوا: إِن الله تَعَالَى ائْتمن آدم وَأَوْلَاده على شَيْء، وأتمن السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال على شَيْء، فَأَما الْأَمَانَة فِي حق بني آدم مَعْلُومَة، وَأما الْأَمَانَة فِي حق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فَهُوَ بِمَعْنى الخضوع وَالطَّاعَة. قَالَ الله تَعَالَى: {ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا أوكرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} .
وَحكى السُّجُود عَن السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب، وَذكر فِي الْحِجَارَة قَوْله: {وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله} .
وَقَوله: {فأبين أَن يحملنها} أَي: أدين الْأَمَانَة فِيهَا، يُقَال: فلَان لم يتَحَمَّل الْأَمَانَة أَي: لم يخن فِيهَا.
وَقَوله: {وأشفقن مِنْهَا} أَي: أدين الْأَمَانَة خوفًا مِنْهَا.
وَقَوله: {وَحملهَا الْإِنْسَان} أَي: خَان فِيهَا وأثم، يُقَال: فلَان حمل الْأَمَانَة أَي: أَثم فِيهَا بالخيانة، قَالَ الله تَعَالَى: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مَعَ أثقالهم} وَقَوله: {إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا} قد بَينا، قَالَ الْأَزْهَرِي: وَقد أحسن وأجاد أَبُو إِسْحَاق الزّجاج فِي هَذَا القَوْل وَأثْنى عَلَيْهِ، وَقَول السّلف مَا بَينا من قبل.(4/314)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
قَوْله تَعَالَى: {ليعذب الله الْمُنَافِقين والمنافقات} اللَّام هَا هُنَا لَام كي، وَمَعْنَاهُ: كي يعذب الله الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات يَعْنِي إِذا خانوا.
وَقَوله: {وَيَتُوب الله على الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} أَي: يهْدِيهم ويرحمهم إِذا أَدّوا الْأَمَانَة. وَعَن ابْن قُتَيْبَة قَالَ مَعْنَاهُ: ليظْهر الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات، ويعذبهم على الْخِيَانَة فِي الْأَمَانَات، وَيظْهر الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بأَدَاء الْأَمَانَة.
وَقَوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} ظَاهر الْمَعْنى.(4/314)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{الْحَمد لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَله الْحَمد فِي الْآخِرَة وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير (1) يعلم مَا يلج فِي الأَرْض وَمَا يخرج مِنْهَا وَمَا ينزل من السَّمَاء وَمَا يعرج}
تَفْسِير سُورَة سبأ
وَهِي مَكِّيَّة.(4/315)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
{الْحَمد لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السموت وَمَا فِي الأَرْض} أَي: لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَيُقَال: خلق مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض.
وَقَوله: {وَله الْحَمد فِي الْآخِرَة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ لَهُ الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة على مَا قَالَ فِي مَوضِع آخر. وَفِي الأولى وَالْآخِرَة وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنَّهُمَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَالْآخر: أَنَّهُمَا السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَله الْحَمد فِي الْآخِرَة} وَهُوَ مَا جَاءَ من ذكر الْحَمد عَن أهل الْجنَّة، وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين} ، وَفِي قَوْله: {الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن} ، وَفِي قَوْله: {الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده} .
وَقَوله: {وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير} أَي: الْحَكِيم فِي ملكه، الْخَبِير بخلقه.(4/315)
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
وَقَوله تَعَالَى: {يعلم مَا يلج فِي الأَرْض} أَي: يدْخل فِيهَا من الْمَطَر.
وَقَوله: {وَمَا يخرج مِنْهَا} أَي: من الزَّرْع، وَيُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ الْأَمْوَات يدْخلُونَ إِذا قبروا، وَيخرجُونَ إِذا حشروا.
وَقَوله: {وَمَا ينزل من السَّمَاء} أَي: من الْمَطَر وَالْمَلَائِكَة وَالْأَحْكَام والأقضية.
وَقَوله: {وَمَا يعرج فِيهَا} أَي: يصعد إِلَيْهَا من الْمَلَائِكَة والأعمال والأدعية(4/315)
{فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيم الغفور (2) وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَة قل بلَى وربي لتأتينكم عَالم الْغَيْب لَا يعزب عَنهُ مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض وَلَا أَصْغَر من ذَلِك وَلَا أكبر إِلَّا فِي كتاب مُبين (3) ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ} المقبولة.
وَقَوله: {وَهُوَ الرَّحِيم الغفور} قد بَينا.(4/316)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَة} قَالُوا هَذَا تَكْذِيبًا بِالْبَعْثِ.
وَقَوله: {قل بلَى وربي لتأتينكم عَالم الْغَيْب} فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: قل بلَى وربي عَالم الْغَيْب لتأتينكم السَّاعَة، وَقَرَأَ حَمْزَة: " علام الْغَيْب ".
وَقَوله: {لَا يعزب عَنهُ} أَي: لَا يغيب عَنهُ، وَقَرَأَ يحيى بن وثاب: " لَا يغرب عَنهُ " بالغين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء.
وَقَوله: {مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي وَالْأَرْض} أَي: وزن ذرة {وَلَا أَصْغَر من ذَلِك وَلَا أكبر} أَي: أَصْغَر من الذّرة إِلَى أَن لَا يُحِيط بِهِ الْعقل، وأكبر إِلَى أَلا يُحِيط بِهِ الْعقل، وَالْمعْنَى أَن كل ذَلِك فِي علمه.
وَقَوله: {إِلَّا فِي كتاب مُبين} أَي: بَين.(4/316)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قَوْله تَعَالَى: {ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} أَي: ليثيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات.
وَقَوله: {أُولَئِكَ لَهُم مغْفرَة ورزق كريم} أَي: الْعَيْش الهنيء.(4/316)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا معاجزين} مَعْنَاهُ: اضْطَرَبُوا وَعمِلُوا فِي التَّكْذِيب بِآيَاتِنَا.
وَقَوله: {معاجزين} أَي: مشاقين، وَيُقَال: مسابقين، وَيُقَال: فائتين، وَقُرِئَ: " معجزين " أَي: مثبطين، وَقيل: ظانين أَنا نعجز عَنْهُم، فَيكون معنى معجزين أَنهم نسبوا الْعَجز إِلَيْنَا.(4/316)
{لَهُم مغْفرَة ورزق كريم (4) وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا معاجزين أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب من رجز أَلِيم (5) وَيرى الَّذين أُوتُوا الْعلم الَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك هُوَ الْحق وَيهْدِي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد (6) وَقَالَ الَّذين كفرُوا هَل ندلكم على رجل ينبئكم إِذا مزقتم كل ممزق إِنَّكُم لفي خلق جَدِيد (7) أفترى على الله كذبا أم بِهِ جنَّة بل الَّذين}
وَقَوله: {أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب من رجز أَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى.(4/317)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَيرى الَّذين أُوتُوا الْعلم} قَالَ بَعضهم: هَذَا فِي مؤمني أهل الْكتاب مثل عبد الله بن سَلام وَغَيره، وَالصَّحِيح أَن الْآيَة فِي الَّذين آمنُوا بِالنَّبِيِّ من أهل مَكَّة وَغَيرهم، وَهُوَ بِمَكَّة؛ لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة، وَعبد الله بن سَلام وأشباهه إِنَّمَا آمنُوا بِالْمَدِينَةِ.
وَقَوله: {الَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك هُوَ الْحق} يَعْنِي: أَنه من الله تَعَالَى.
وَقَوله: {وَيهْدِي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد} يَعْنِي: أَن الْقُرْآن الَّذِي أنزلهُ الله يهدي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد، وَهُوَ الله تَعَالَى.(4/317)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا هَل ندلكم على رجل ينبئكم} أَي: يُخْبِركُمْ.
وَقَوله: {إِذا مزقتم كل ممزق} أَي: إِذا فرقتم كل تَفْرِيق، وقطعتم كل تقطيع، وَالْمعْنَى: إِذا أكلْتُم الأَرْض، وصرتم رفاقا وترابا ينبئكم مُحَمَّد إِنَّكُم لفي خلق جَدِيد، قَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْجحْد والتكذيب.(4/317)
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
وَقَوله: {أفترى على الله كذبا} وَقُرِئَ بِنصب الْألف وَكسرهَا، أما من قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ رَاجع إِلَى الْحِكَايَة عَن الْكفَّار، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: افترى مُحَمَّد على الله كذبا.
وَقَوله: {أم بِهِ جنَّة} مَعْنَاهُ: أَو بِهِ جُنُون لَا يدْرِي مَا يَقُول.
وَأما من قَرَأَ بِالنّصب فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: أفترى على الله كذبا يَعْنِي: لم يفتر، وَيكون ابْتِدَاء كَلَام من الله تَعَالَى. قَالَ الشَّاعِر:(4/317)
{لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة فِي الْعَذَاب والضلال الْبعيد (8) أفلم يرَوا إِلَى مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم من السَّمَاء وَالْأَرْض إِن نَشأ نخسف بهم الأَرْض أَو نسقط عَلَيْهِم كسفا من السَّمَاء إِن فِي ذَلِك لآيَة لكل عبد منيب (9) وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُود منا فضلا يَا جبال أوبي}
(استحدث الْقلب من أشياعهم خَبرا ... أم رَاجع الْقلب من أطرابهم طرب)
وَمَعْنَاهُ: استحدث. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {أفترى على الله كذبا} أَي أفترونه افتراء على الله كذبا.
وَقَوله: {بل الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة فِي الْعَذَاب والضلال الْبعيد} فعلى الْقِرَاءَة الأولى وَهُوَ بِالْكَسْرِ هَذَا ابْتِدَاء كَلَام من الله تَعَالَى ردا عَلَيْهِم، وعَلى الْقِرَاءَة الثَّانِيَة هُوَ مسوق على مَا تقدم.
وَقَوله: {فِي الْعَذَاب والضلال الْبعيد} أَي: الشَّقَاء الطَّوِيل؛ ذكره السّديّ، وَقَالَ: فِي الْخَطَأ الْبعيد من الْحق.(4/318)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
قَوْله تَعَالَى: {أفلم يرَوا إِلَى مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم من السَّمَاء وَالْأَرْض} قَالَ أهل التَّفْسِير: إِنَّمَا ذكر هَذَا؛ لِأَن الْإِنْسَان إِذا خرج من دَاره لَا يرى إِلَّا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا فيهمَا. وَيُقَال: إِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَن السَّمَاء وَالْأَرْض محيطتان بالخلق، فَكَأَن أَحدهمَا بَين أَيْديهم، وَالْأُخْرَى خَلفهم بِمَعْنى الْإِحَاطَة.
وَقَوله: {إِن نَشأ نخسف بهم الأَرْض} أَي: يغيبهم فِي الأَرْض.
وَقَوله: {أَو نسقط عَلَيْهِم كسفا من السَّمَاء} أَي: جانبا من السَّمَاء. وَقيل: قِطْعَة من السَّمَاء.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة لكل عبد منيب} أَي: رَاجع إِلَى الله تَعَالَى بِقَلْبِه. وَقيل: منيب: أَي: مُجيب.
قَالَ الشَّاعِر:
(أناب إِلَى قولي فَأَصْبَحت مرْصدًا ... لَهُ بالمكافأة المنيبة وَالشُّكْر)(4/318)
{مَعَه وَالطير وألنا لَهُ الْحَدِيد (10) أَن اعْمَلْ سابغات وَقدر فِي السرد وَاعْمَلُوا صَالحا}(4/319)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُد منا فضلا} اخْتلف القَوْل فِي الْفضل الَّذِي أُوتِيَ دَاوُد؛ فَقَالَ بَعضهم: هُوَ النُّبُوَّة. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الْملك. وَيُقَال: الْقَضَاء بِالْعَدْلِ. وَقيل: حسن الصَّوْت. وَقيل: تليين الْحَدِيد لَهُ، وَجَمِيع مَا أعطي وَخص بِهِ.
وَقَوله: {يَا جبال أوبي مَعَه} أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن مَعْنَاهُ: سبحي مَعَه؛ وَهُوَ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره، وَيُقَال: رَجْعِيّ مَعَه.
وَقَرَأَ الْحسن: " أوبي مَعَه " بِضَم الْألف وَسُكُون الْوَاو، وَهُوَ فِي معنى الأول.
وَفِي بعض التفاسير: أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا لحقه فتور أسمعهُ الله تَعَالَى تَسْبِيح الْجبَال منشطا لَهُ.
وَقَوله: {وَالطير} أَي: وأمرنا الطير أَن تسبح مَعَه.
وَقَوله: {وألنا لَهُ الْحَدِيد} قَالَ قَتَادَة: كَأَن الْحَدِيد جعل لَهُ كالعجين، فَيعْمل الدرْع من غير نَار وَلَا مطرقة.(4/319)
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
وَقَوله: {أَن اعْمَلْ سابغات} أَي: الدروع الكوامل. وَيُقَال: الطوَال الَّتِي تسحب فِي الأَرْض.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَأَكْثَرهم دروعا سابغات ... وأمضاهم إِذا طعنوا سِنَانًا)
وَقَوله: {وَقدر فِي السرد} أَي: عدل فِي السرد، وَمَعْنَاهُ: قدر المسامير فِي حلق الدروع حَتَّى يكون بِمِقْدَار لَا يغلظ المسمار ويضيق الْخلق فتفصم الْحلقَة، وَلَا توسع الْحلقَة وتدقق المسمار فيسلس ويقلق وَهَذَا قَول مُجَاهِد، وَقَالَ: قدر فِي السرد أَي: احكم نسج الدرْع. وَقَالَ قَتَادَة: السرد: المسامير فِي الْحلق. وَهُوَ قريب من قَول مُجَاهِد، وأنشدوا:
(أَجَاد المسدي سردها وأذا لَهَا)(4/319)
{إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (11) ولسليمان الرّيح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا لَهُ عين الْقطر وَمن الْجِنّ من يعْمل بَين يَدَيْهِ بِإِذن ربه وَمن يزغ مِنْهُم عَن أمرنَا نذقه من عَذَاب}
يَقُول: وسعهَا وأجاد حلقها يُقَال: درع مسرودة إِذا كَانَت مسمورة الْحلق، وَيُقَال: قدر فِي السرد أَي: اجْعَلْهُ على الْقَصْد وَقدر الْحَاجة.
وَقَوله: {وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ظَاهر الْمَعْنى.
وَفِي الْقِصَّة: أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يعْمل كل يَوْم درعا، ويبيعه بِسِتَّة آلَاف دِرْهَم، فينفق أَلفَيْنِ مِنْهَا على نَفسه وَعِيَاله، وَيتَصَدَّق بأَرْبعَة آلَاف على فُقَرَاء بني إِسْرَائِيل. وَفِي بعض التفاسير: أَنه عمل ألف درع.(4/320)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
قَوْله تَعَالَى: {ولسليمان الرّيح غدوها شهر} أَي: وسخرنا لِسُلَيْمَان الرّيح.
وَقَوله: {غدوها شهر ورواحها شهر} أَي: مسيرَة غدوها شهر، ومسيرة رواحها شهر، وَمَعْنَاهُ: أَنه كَانَ يسير مسيرَة شَهْرَيْن فِي يَوْم وَاحِد. وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ يسير من بَيت الْمُقَدّس إِلَى اصطخر مسيرَة شهر للراكب المسرع غدْوَة، ويقيل بهَا ثمَّ يروح مسيرَة شهر إِلَى بابل مسيرَة شهر للركب المسرع. وَقيل: كَانَ يتغدى بِالريِّ، ويتعشى بسمرقند. وَقيل: كَانَ يتغدى بِصَنْعَاء، ويتعشى بِبَابِل وَهُوَ الْعرَاق وَالله أعلم.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الرّيح كَانَت تحمله وَجُنُوده وَلَا تثير تُرَابا وَلَا تقلب ورقة على الأَرْض، وَلَا تؤذي طائرا فِي السَّمَاء.
وَقَوله: {وأسلنا لَهُ عين الْقطر} أى: أسلنا لَهُ عين النّحاس.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى أذاب لَهُ النّحاس، وَجعل يسيل ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر مثل المَاء.
وَقَوله: {وَمن الْجِنّ من يعْمل بَين يَدَيْهِ بِإِذن ربه} أَي: بِأَمْر ربه.
وَقَوله: {وَمن يزغ مِنْهُم عَن أمرنَا} أَي: يعدل مِنْهُم عَن أمرنَا فَلَا يعْمل لِسُلَيْمَان.
وَقَوله: {نذقه من عَذَاب السعير} أَي: فِي الْآخِرَة، هَذَا أحد الْقَوْلَيْنِ، وَالْقَوْل(4/320)
{السعير (12) يعْملُونَ لَهُ مَا يَشَاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور} الآخر: أَنه كَانَ (يكون) عِنْد سُلَيْمَان ملك قَائِم بِيَدِهِ سَوط من نَار، فَإِذا عصى أحد من الشَّيَاطِين ضربه فيحرقه، فَهُوَ معنى قَوْله: {نذقه من عَذَاب السعير} .(4/321)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
قَوْله تَعَالَى: {يعْملُونَ لَهُ مَا يَشَاء من محاريب} أَي: الْمَسَاجِد، وَيُقَال: الْأَبْنِيَة المرتفعة. وَفِي الْقِصَّة: أَنه أَمرهم بِبِنَاء الْحُصُون بالصخر، فبنوا بِالْيمن حصونا كَثِيرَة عَجِيبَة، وَهِي صرواح ومرواح وفلتون وهندة وهنيدة وغمدان وَغير ذَلِك.
وَقَوله: {وتماثيل} أَي: الصُّور. فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ أَن عمل الصُّور مَكْرُوه؟ قُلْنَا: هُوَ فِي هَذِه الشَّرِيعَة، وَيحْتَمل أَنَّهَا كَانَت مُبَاحَة فِي شَرِيعَته، وَقد كَانَ عِيسَى يصور من الطين وينفخ فِيهِ فَيَجْعَلهُ الله طيرا. وَاخْتلف القَوْل فِي الصُّور الَّتِي اتخذتها الشَّيَاطِين؛ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهَا صُورَة السبَاع والطيور من العقبان والنسور، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أَمرهم باتخاذ صُورَة الْأَنْبِيَاء والزهاد والعباد، حَتَّى إِذا نظرت بَنو إِسْرَائِيل إِلَيْهِم ازدادوا عبَادَة.
وَقَوله: {وجفان كالجواب} أَي: كالحياض، والجفان جمع جَفْنَة. وَفِي الْقِصَّة: أَن كل جَفْنَة كَانَ يقْعد عَلَيْهَا ألف إِنْسَان. وَأنْشد حسان فِي الْجَفْنَة شعرًا:
(لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا من نجدة تقطر الدما)
وأنشدوا فِي الْجَابِيَة:
(كجابية الشَّيْخ الْعِرَاقِيّ تفهق)
أَي: تمتلئ.
وَحكى عُثْمَان بن عَطاء عَن أَبِيه أَنه رأى مرّة من هَذِه القصاع الصغار فَقَالَ: وَالله لقد ذهبت الْبركَة من كل شَيْء، وَقَرَأَ قَوْله: {وجفان كالجواب} .
وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام سماط يسع أَرْبَعمِائَة ألف إِنْسَان،(4/321)
{راسيات اعْمَلُوا آل دَاوُود شكرا وَقَلِيل من عبَادي الشكُور (13) فَلَمَّا قضينا عَلَيْهِ الْمَوْت مَا دلهم على مَوته إِلَّا دَابَّة الأَرْض تَأْكُل منسأته فَلَمَّا خر تبينت الْجِنّ أَن لَو كَانُوا} وَكَانَ يَأْكُل خبز الشّعير، وَيطْعم أَهله وحاشيته خبز الخشكار وَيطْعم الْفُقَرَاء الدَّرْمَك، وَهُوَ الْخبز النقي.
وَقَوله: {وقدور راسيات} أَي: ثابتات مرتفعات، وَمِنْه الْجبَال الرواسِي. وَفِي الْقِصَّة، أَنه كَانَ يصعد إِلَيْهَا بالسلاليم.
وَقَوله: {اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا} قَالَ: تقدر اشكروا الله شكرا، وَيُقَال: إِن الشُّكْر هُوَ تقوى الله وَالْعَمَل بِطَاعَتِهِ. وَقيل: إِن آل دَاوُد هُوَ دَاوُد نَفسه، وَيُقَال: دَاوُد وَسليمَان وَأهل بَيته. وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما نزل هَذَا على دَاوُد قَالَ: وَالله لَا يزَال منا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار قَائِم وصائم، فَكَانَ لَا يَأْتِي يَوْم إِلَّا وَمن آل دَاوُد فِيهِ صَائِم، وَلَا تَأتي سَاعَة من اللَّيْل إِلَّا وَمن آل دَاوُد فِيهَا قَائِم. وروى أَنه ناوب سَاعَات اللَّيْل وَكَانَ يقوم مَا شَاءَ الله، فَإِذا أَرَادَ أَن يرقد أيقظ بعض أَهله.
وروى أَنه قَالَ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام يَا بني، اكْفِنِي أَمر النَّهَار يَعْنِي: فِي الْعِبَادَة أكفك أَمر اللَّيْل، فَقَالَ سُلَيْمَان: لَا أقدر، فَقَالَ: اكْفِنِي أول النَّهَار وأكفك الْبَاقِي. وروى أَنه قَالَ: يَا رب، كَيفَ أشكرك وشكري لَك نعْمَة مِنْك عَليّ؟ فَقَالَ: الْآن شكرتني.
وَقَوله: {وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} ظَاهر الْمَعْنى. وَالْفرق بَين الشاكر والشكور: أَن الشكُور هُوَ الَّذِي يتَكَرَّر مِنْهُ الشُّكْر، والشاكر الَّذِي يشْكر مرّة. وَقيل: هما وَاحِد.(4/322)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
قَوْله تَعَالَى: {قَلما قضينا عَلَيْهِ الْمَوْت} أَي: على سُلَيْمَان الْمَوْت.
وَقَوله: {مَا دلهم على مَوته إِلَّا دَابَّة الأَرْض} قَالَ بعض الْمُفَسّرين: كَانَت الْجِنّ تعْمل لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فِي بِنَاء مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس؛ فَقرب موت سُلَيْمَان وَقد بَقِي من الْعَمَل بَقِيَّة، فَقبض الله روح سُلَيْمَان وَهُوَ متكئ على عَصا، وَكَانُوا يظنون أَنه حَيّ، ويجتهدون فِي الْعَمَل، فَأكلت الأرضة الْعَصَا فَخر سُلَيْمَان عَلَيْهِ(4/322)
السَّلَام مَيتا بعد حول، وَقد فرغوا من الْعَمَل؛ فَلَمَّا عرفُوا مَوته تفَرقُوا بعد أَن بقوا فِي الْعَمَل سنة بعد مَوته. قَالَ ابْن عَبَّاس: فَشَكَرت الْجِنّ ذَلِك للأرضة، فهم يأتونه بالطين وَالْمَاء فِي جَوف الْخشب. وَذكر بَعضهم: أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا رأى شَجَرَة نابتة سَأَلَهَا: مَا اسْمك؟ فتخبره إِن كَانَت للغرس غرست، وَإِن كَانَت للدواء كتب اسْمهَا، فصلى مرّة فَرَأى شَجَرَة نَبتَت فِي مصلاة، فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمك؟ قَالَت: الخروب، فَقَالَ: لم نبت؟ قَالَت: لخراب هَذِه الأَرْض، فَعلم أَن مَوته قد قرب، فَسَأَلَ الله تَعَالَى أَن يعمي على الْجِنّ مَوته. فَقَالَ أهل التَّفْسِير: وَكَانَت الْجِنّ تزْعم أَنهم يعلمُونَ الْغَيْب، فَأمر الله تَعَالَى سُلَيْمَان أَن يتَّخذ عَصا ويتوكأ عَلَيْهَا. وَقيل: اتخذها من تِلْكَ الشَّجَرَة فَقبض الله تَعَالَى روحه وَهُوَ قَائِم متوكئ على الْعَصَا، فَكَانَت الْجِنّ ينظرُونَ إِلَيْهِ ويظنون أَنه حَيّ، ويعملون إِلَى أَن سقط بعد حول. وَأَرَادَ الله تَعَالَى بذلك أَن يعلم الْجِنّ أَنهم لَا يعلمُونَ الْغَيْب، وَقيل: ليعلم الْإِنْس أَن الْجِنّ لَا يعلمُونَ الْغَيْب وَكَانُوا قد شبهوا على الْإِنْس ذَلِك، فَإِن قيل على التَّأْوِيل الأول: كَيفَ يشْتَبه على أحد أَنه يعلم الْغَيْب أَو لَا يعلم الْغَيْب؟ وَإِن خَفِي عَلَيْهِ أَمر غَيره لَا يخفى عَلَيْهِ أَمر نَفسه؟ وَالْجَوَاب: أَن مَرَدَة الْجِنّ كَانُوا صوروا لِضُعَفَاء الْجِنّ أَنهم يعلمُونَ الْغَيْب، وَكَانَ يَقع بعض الاتفاقات، فَكَانُوا يظنون أَنهم يعلمُونَ الْغَيْب لغَلَبَة الْجَهْل، وَعند بَعضهم: أَن عَمَلهم لم يكن فِي بِنَاء مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس، فَإِنَّهُ قد كَانَ وَقع الْفَرَاغ عَن فعل ذَلِك بسنين، وَإِنَّمَا كَانُوا يعْملُونَ غير ذَلِك من الْأَعْمَال.
وَقَوله: {تَأْكُل منسأته} أَي: عصاته، والمنسأة: الْعَصَا بلغَة الْحَبَشَة، وَقُرِئَ: " منسأته " بِسُكُون الْهمزَة، وَهِي مَا بَينا.
قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا ادببت على المنساة من كبر ... فقد تبَاعد عَنْك اللَّهْو والغزل)
وَيُقَال كِلَاهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ. وَيُقَال: نسأت الْغنم إِذا زجرتها وسقتها وَيُقَال: نسأ الله فِي أَجلك أَي: أَخّرهُ.
وَقَوله: {فَلَمَّا خر تبينت الْجِنّ} أَي: تبينت الْجِنّ للإنس أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ(4/323)
{يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين (14) لقد كَانَ لسبأ فِي مسكنهم آيَة جنتان} الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين أَي: التَّعَب والشقاء الطَّوِيل، ذكره الْأَزْهَرِي على هَذَا التَّقْرِير. وَأما المتقدمون قَالُوا مَعْنَاهُ: تبينت الْإِنْس أَن الْجِنّ لَو كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين، وَالْقِرَاءَة هَكَذَا فِي مصحف ابْن مَسْعُود، وَهَكَذَا قَرَأَ ابْن عَبَّاس أَيْضا. والتأويل الثَّالِث: أَن، معنى الْآيَة: {تبينت الْجِنّ} أَي: عرفت الْجِنّ أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين. وروى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن سُلَيْمَان لم يكن متوكئا على الْعَصَا، وَإِنَّمَا كَانَ فِي بَيت مغلق وتوفاه الله تَعَالَى، وأكلت الأرضة عتبَة الْبَاب، فَسقط الْبَاب بعد حول، وَظهر للجن مَوته.
وَأشهر الْقَوْلَيْنِ هُوَ الأول، وَفِي الْقِصَّة: أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لما فرغ من بِنَاء الْمَسْجِد ذبح [اثْنَتَيْ عشرَة] ألف بقرة وَمِائَة وَعشْرين ألف شَاة تقربا إِلَى الله تَعَالَى وأطعمها النَّاس، وَكَانَ بناه بالصخر والقار، وزخرف الْحِيطَان، وزين الْمِحْرَاب بالجواهر واليواقيت، وَعمِلُوا شَيْئا عجيبا، ثمَّ إِنَّه قَامَ على الصَّخْرَة وَقَالَ: اللَّهُمَّ، أَنْت أَعْطَيْتنِي هَذَا السُّلْطَان الْعَظِيم، وسخرت لي مَا سخرت، فأوزعني أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت عَليّ، وَلَا تزغ قلبِي بعد إِذْ هديتني وتوفني مُسلما، وألحقني بالصالحين، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك لمن دخل هَذَا الْمَسْجِد ليُصَلِّي فِيهِ خمس خِصَال: إِن كَانَ مذنبا تغْفر لَهُ ذَنبه، وَإِن كَانَ فَقِيرا أغنيته، وَإِن كَانَ سقيما شفيته، وَإِن كَانَ خَائفًا أمنته، وَأَسْأَلك أَلا تصرف بَصرك عَمَّن دخله حَتَّى يخرج مِنْهُ، إِلَّا من دخله بإلحاد أَو ظلم.(4/324)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ لسبأ} أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن سبأ اسْم رجل، ونسبت الْقَبِيلَة إِلَيْهِ، كَمَا أَن تميما اسْم رجل، ونسبت الْقَبِيلَة إِلَيْهِ. وروى فَرْوَة بن (مسيك الغطيفي) أَن رَسُول الله قَالَ: سبأ اسْم رجل ولد عشرَة من الذُّكُور(4/324)
{عَن يَمِين وشمال من رزق ربكُم واشكروا لَهُ بَلْدَة طيبَة وَرب غَفُور (15) فأعرضوا فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل} فتيامن مِنْهُم سِتَّة، وتشام أَرْبَعَة، وَأما السِّتَّة الَّذين تيامنوا: فحيمر، وَكِنْدَة، ومذحج، والأزد، والأشعر، وأنمار، وَأما الْأَرْبَعَة الَّذين تشاموا: فعاملة، وغسان، ولخم، وجذام ". وَأما سبأ فَهُوَ ابْن يشخب بن يعرب بن قحطان. وَقد قيل: إِن سبأ اسْم بلد، وَالأَصَح هُوَ الأول.
وَقَوله: {فِي مساكنهم آيَة} وَقُرِئَ: " فِي مسكنهم " وَالْآيَة هِيَ الْعَلامَة، وَمَعْنَاهَا: أَنا جعلنَا لَهُم آيَة تدلهم على أَن النعم الَّتِي لَهُم من الله تَعَالَى.
وَقَوله: {جنتان عَن يَمِين وشمال} فِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ لَهُم وَاد يسيل، وعَلى يَمِين الْوَادي جنَّات مصطفة أَي: الْبَسَاتِين وَكَذَلِكَ على يسَار الْوَادي.
وَقَوله: {كلوا من رزق ربكُم} أَي: قُلْنَا لَهُم كلوا من رزق ربكُم.
وَقَوله: {واشكروا لَهُ} أَي: واشكروا الله على نعمه.
وَقَوله: {بَلْدَة طيبَة} أَي: طيبَة الْهَوَاء، عذبة المَاء، كَثِيرَة الْفَوَاكِه، وَذكر ابْن زيد: أَنه لم يكن بهَا بعوض وَلَا بق وَلَا ذُبَاب وَلَا عقرب وَلَا حَيَّة وَلَا شَيْء من أَمْثَال هَذَا، وَكَانَ الرجل الْغَرِيب يدخلهَا وَفِي ثِيَابه الْقمل، فَيَمُوت الْقمل فِي ثِيَابه من صِحَة الْهَوَاء وطيبه.
وَقَوله: {وَرب غَفُور} أَي: وَرب غَفُور للذنوب إِن شكرتم نعمه.
فَإِن قيل: أَي فَائِدَة لتخصيصهم بِهَذَا، وَالله غَفُور لكل الْعباد؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن مغْفرَة الرب مَعَ طيب الْبَلدة على تِلْكَ الْغَايَة لم تكن إِلَّا لَهُم.(4/325)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
قَوْله تَعَالَى: {فأعرضوا} أَي: فأعرضوا عَن شكر النعم.
وَقَوله: {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم سيل العرم} اخْتلفُوا فِي العرم على أَرْبَعَة أقاويل: أَولهَا:(4/325)
أَنه اسْم الْوَادي، وَالْآخر: أَنه اسْم المسنأة، وَقد كَانُوا بنوا المسناة بالصخر والقار بَينه وَبَين المَاء، وَجعلُوا على المسناة أبوابا تفتح وتسد، فَإِذا احتاجوا إِلَى المَاء فتحُوا، وَإِذا استغنوا سدوا.
وَذكر النقاش: أَنه كَانَ ذَلِك من عمل بلقيس، وَكَانَت جعلت على المسناة اثْنَي عشرَة مخرجا، يخرج مِنْهَا اثْنَا عشر نَهرا، وَكَانَت المسناة سدا بَين جبلين، والمياه وَرَاء السد تَجْتَمِع من السُّيُول. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن العرم هُوَ السَّيْل الشَّديد أَي: أرسلنَا عَلَيْهِم السَّيْل الشَّديد. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن العرم هُوَ اسْم الجرذ، وَهُوَ الْفَأْرَة، وَقيل: كَانَ اسْم الْخلد، وسلطه الله تَعَالَى على المسناة حَتَّى نقبها، وَدخل المَاء وغرق الْبَلَد والبساتين. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: العرم وَالْبر من أَسمَاء الْفَأْرَة، وَمِنْه قَوْلهم: فلَان لَا يعرف هرا من برا أَي: السنور من الْفَأْرَة، وَذكر أَبُو (الْحُسَيْن) بن فَارس فِي تَفْسِيره: أَن الْقَوْم كَانُوا قد سمعُوا أَن هَلَاك بلدهم بالفأر من كهانهم، فَجَاءُوا بالسنانير وربطوها عِنْد كل جرف (فِي المسناة) ، فَجَاءَت فَأْرَة حَمْرَاء كَبِيرَة وساورت السنور وهزمته وَدخلت فِي الجرف، وتغلغلت المسناة حَتَّى نقبتها وخرقتها.
وَقَوله: {وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي} أَي: بَدَّلْنَاهُمْ بجنتيهم اللَّتَيْنِ كَانَتَا ذواتي فَاكِهَة بجنتين ذواتي {أكل خمط} بتنوين اللَّام، وَقُرِئَ: " أكل خمط " بِغَيْر التَّنْوِين على الْإِضَافَة، وَالْقِرَاءَة على الْإِضَافَة أظهر القرائتين فِي الْمَعْنى لِأَن الخمط اسْم لشجر لَهُ شوك. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل شجر لَهُ شوك فَهُوَ خمط إِذا لم يكن لَهُ ثَمَر. وَعَن بَعضهم: أَن الخمط شجر لَهُ ثَمَر يُسمى فسوة الضبع، لَا ينْتَفع بِهِ ويتفرك إِذا أدْرك من غير أَن ينفع أحدا، وَالْمَعْرُوف فِي التَّفْسِير أَن ثَمَر الخمط هُوَ البربر، والبربر ثَمَر الْأَرَاك، فالخمط هُوَ الْأَرَاك، فَهُوَ معنى قَوْله: {أكل خمط} . وَالْأكل هُوَ الثَّمر.(4/326)
{وَشَيْء من سدر قَلِيل (16) ذَلِك جريناهم بِمَا كفرُوا وَهل نجازي إِلَّا الكفور (17) وَجَعَلنَا بَينهم وَبَين الْقرى الَّتِي باركنا فِيهَا قرى ظَاهِرَة وقدرنا فِيهَا السّير سِيرُوا فِيهَا}
وَأما قِرَاءَة التَّنْوِين: قَالَ الْفراء والزجاج: كل نبت لَهُ مرَارَة وعصوفة فَهُوَ خمط، فعلى هَذَا قَوْله: {خمط} صفة الْأكل، وَمَعْنَاهُ: ذواتي ثَمَر على هَذَا الْوَصْف، وَهُوَ المرارة والعفوصة.
وَقَوله: { [وأثل] وَشَيْء من سدر قَلِيل} السدر: شجر مَعْرُوف، وَهُوَ شجر النبق. وَقيل: إِن هَذَا السدر كَانَ بريا لَا ينْتَفع بِهِ، وَأما السدر الَّذِي ينْتَفع بِهِ لغسل الْيَد وَغَيره، فَهُوَ الَّذِي كُنَّا نَعْرِف فِي الْبَسَاتِين، وَلم يكن لَهُم ذَلِك.(4/327)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
وَقَوله: {ذَلِك جزيناهم بِمَا كفرُوا} النِّعْمَة.
وَقَوله: {وَهل نجازي إِلَّا الكفور} يُقَال فِي الْعقُوبَة: نجازي، وَفِي المثوبة: نجزي، يَعْنِي: وَهل نجازى مثل هَذِه المجازاة إِلَّا من كفر النعم؟ وَيُقَال: وَهل نجازى إِلَّا الكفور؟ أى: هَل نحاسب إِلَّا الكفور؟ وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي قَالَ: " من نُوقِشَ الْحساب عذب ". قَالَت عَائِشَة: فَقلت يَا رَسُول الله: أَلَيْسَ قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} فَقَالَ: ذَلِك الْعرض، وَمن نُوقِشَ [الْحساب] عذب ".
فَإِن قيل: قد قَالَ: {بَدَّلْنَاهُمْ بجنتيهم جنتين} وَالْأَرْض الَّتِي فِيهَا أَشجَار الأثل والخمط لَا تسمى جنَّة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: إِنَّمَا سمي ذَلِك على طَرِيق الْمُقَابلَة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} وَقَوله: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} .(4/327)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا بَينهم وَبَين الْقرى الَّتِي باركنا فِيهَا قرى ظَاهِرَة} الْقرى الَّتِي(4/327)
{ليَالِي وأياما آمِنين (18) فَقَالُوا رَبنَا باعد بَين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم} باركنا فِيهَا (هِيَ) الشَّام، وَمعنى الْقرى الظَّاهِرَة أَي: الْمُتَّصِلَة، وَقيل: ظَاهِرَة يَعْنِي: [للرائي] ، على معنى أَنهم كَانُوا إِذا نزلُوا بقرية رَأَوْا قَرْيَة أُخْرَى.
وَقَوله: {وقدرنا فِيهَا السّير} أَي: السّير أَي: قَدرنَا سيرهم بَين هَذِه الْقرى، وَالْمعْنَى: أَنهم كَانُوا إِذا غدوا يقيلون بقرية، وَإِذا رجعُوا يبيتُونَ بقرية. وَقيل: تَقْدِير السّير أَن سيرهم كَانَ فِي الرواح والغدو على قدر نصف يَوْم، فَكَانُوا إِذا (جازوا) نصف يَوْم وصلوا إِلَى قَرْيَة ذَات مياه وأشجار. قَالَ قَتَادَة: كَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ أَن يحملوا زادا. وَقَالَ أَيْضا: كَانَت الْمَرْأَة تضع مكتلها على رَأسهَا، وتمر تَحت الْأَشْجَار فيمتلئ المكتل من الثِّمَار من غير اجتناء.
وَقَوله: {سِيرُوا فِيهَا ليَالِي وأياما آمِنين} أَي: قُلْنَا لَهُم سِيرُوا فِيهَا بالليالي وَالْأَيَّام آمِنين من الْخَوْف والجوع والظمأ، وَمعنى قَوْله: {سِيرُوا} أَي: مكناهم من السّير. وَيُقَال: إِن معنى قَوْله: {سِيرُوا} أَي: يَسِيرُونَ، أَمر بِمَعْنى الْخَبَر، وَمَعْنَاهُ: يَسِيرُونَ فِيهَا ليَالِي وأياما آمِنين، وعَلى مَا ذكرنَا.(4/328)
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
قَوْله تَعَالَى: {فَقَالُوا رَبنَا باعد بَين أسفارنا} وَقُرِئَ: " بعد بَين أسفارنا " بِغَيْر ألف، وَقَرَأَ يحيى بن يعمر: " رَبنَا باعد بَين أسفارنا " بِنصب الْعين وَالدَّال، فعلى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة معنى الْآيَة سُؤال، وعَلى الْقِرَاءَة الشاذة معنى الْآيَة على وَجه الْخَبَر. قَالَ مُجَاهِد: بطروا النِّعْمَة وسأموا الرَّاحَة. وَمثله عَن ابْن عَبَّاس فَقَالُوا: [رَبنَا] بعد بَين الْقرى لنركب الرَّوَاحِل، ونحمل الأزواد فِي الفلوات، وَهَذَا مثل قَول بني إِسْرَائِيل: {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نصبر على طَعَام وَاحِد} الْآيَة. وَأما الْقِرَاءَة الشاذة فكأنهم استبعدوا الْقَرِيب على مَا يَفْعَله الجهلة.
وَقَوله: {وظلموا أنفسهم} أَي: بترك الشُّكْر.(4/328)
{أَحَادِيث ومزقناهم كل ممزق إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور (19) وَلَقَد صدق عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنّه فَاتَّبعُوهُ إِلَّا فريقا من الْمُؤمنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم من سُلْطَان إِلَّا}
وَقَوله: {فجعلناهم أَحَادِيث ومزقناهم كل ممزق} أَي: أَحَادِيث فِي الْقُرُون الَّتِي تَأتي، وفرقناهم وبددناهم كل مفرق ومبدد. قَالَ الشّعبِيّ: تفَرقُوا فِي الْبِلَاد لما غرقت قراهم وَهَلَكت جناتهم، فَمر الأزد إِلَى عمان، وخزاعة إِلَى تهَامَة، وغسان إِلَى الشَّام، وَآل (خُزَيْمَة) إِلَى الْعرَاق، والأوس والخزرج إِلَى يثرب. وَكَانَ الَّذِي قدم الْمَدِينَة مِنْهُم عَمْرو بن عَامر وَهُوَ جد الْأَوْس والخزرج.
وَفِي بعض التفاسير: أَن قراهم كَانَت [أَربع] آلَاف وَسَبْعمائة قَرْيَة، وَكَانَت مُتَّصِلَة من سبأ إِلَى الشَّام قَرْيَة قَرْيَة. وَعَن بَعضهم فِي معنى قَوْله: {فجعلناهم أَحَادِيث} أَن النَّاس يضْربُونَ بهم الْمثل فِي التمزق والتفرق، وَالْعرب تَقول: صَارَت بَنو فلَان أَيدي سبأ وأيادي سبأ إِذا تفَرقُوا وتبددوا. وَأنْشد الْأَزْهَرِي:
(غيبا نرى النَّاس إِلَيْهِ تنسبا ... من صادر أَو وَارِد أَيدي سبا)
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور} أَي: صبار على الْبلَاء، شكور للنعمة.(4/329)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد صدق عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنّه} وَقُرِئَ: " صدق " بِالتَّخْفِيفِ أما بِالتَّشْدِيدِ فَمَعْنَاه: أَنه ظن ظنا وَصدقه، وظنه فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لآتينهم من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم} إِلَى قَوْله: {وَلَا تَجِد أَكْثَرهم شاكرين} وَيُقَال: إِنَّه ظن أَنه إِذا أغواهم اتَّبعُوهُ، وَكَانَ كَذَلِك.
وَفِي التَّفْسِير أَن إِبْلِيس قَالَ: لقد أخرجت آدم من الْجنَّة مَعَ كَثْرَة علمه وأغويته، فَأَنا على ذُريَّته أقدر.(4/329)
{لنعلم من يُؤمن بِالآخِرَة مِمَّن هُوَ مِنْهَا فِي شكّ وَرَبك على كل شَيْء حفيظ (21) قل ادعوا الَّذين زعمتم من دون الله لَا يملكُونَ مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض وَمَا}
وَأما قِرَاءَة التَّخْفِيف فَمَعْنَاه: صدق عَلَيْهِم فِي ظَنّه.
وَقَوله: {فَاتَّبعُوهُ إِلَّا فريقا من الْمُؤمنِينَ} يَعْنِي: إِلَّا كل الْمُؤمنِينَ، هَكَذَا قَالَه أَكثر أهل التَّفْسِير؛ لِأَن الْمُؤمنِينَ لم يتبعوه فِي أصل الدّين، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ وَعَن بَعضهم: إِلَّا فريقا من الْمُؤمنِينَ: خَواص الْمُؤمنِينَ؛ وهم الَّذين يطيعون الله وَلَا يعصونه.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: وَالله إِنَّه لم يسل عَلَيْهِم سَيْفا وَلَا ضَربهمْ بِسَوْط، وَإِنَّمَا وعدهم ومناهم فاغتروا.(4/330)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم من سُلْطَان} أَي: من سُلْطَان على الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: {إِلَّا لنعلم} مَعْنَاهُ: لكَي نعلم {من يُؤمن بِالآخِرَة مِمَّن هُوَ مِنْهَا فِي شكّ} أَي: لنعلم الْمُؤمن من الْكَافِر علم وُقُوع، وَقد علم علم الْغَيْب، وَقد بَينا هَذَا من قبل. قَالَ ابْن فَارس: هَذَا على عَادَة كَلَام الْعَرَب مَعَ الجهلة، فَإنَّك لَو قلت: السكين تقطع اللَّحْم، أَو اللَّحْم يقطع السكين، وَقد علم قطعا أَن السكين هُوَ الَّذِي يقطع اللَّحْم، وَلَكِن يخرج الْكَلَام على خطاب الْجَاهِل، وَتَقْرِير الْأَمر لَهُ.
وَقَوله: {وَرَبك على كل شَيْء حفيظ} أَي: رَقِيب.(4/330)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
قَوْله تَعَالَى: {قل ادعوا الَّذين زعمتم من دون الله} أَي: الَّذين زعمتم [أَنهم] آلِهَة من دون الله. وَفِي الْآيَة حذف، والمحذوف ادعوهُمْ ليكشفوا عَنْكُم الضّر الَّذِي نزل بكم، وَذَلِكَ فِي سني الْجُوع، وَكَانَ الله تَعَالَى ضَربهمْ بِالْجُوعِ حَتَّى أكلُوا الميتات يَعْنِي قُرَيْش ثمَّ قَالَ: {لَا يملكُونَ مِثْقَال ذرة} أَي: الْأَصْنَام لَا تملك مِثْقَال ذرة أَي: وزن ذرة من النَّفْع والضر، والذرة هِيَ النملة الْحَمْرَاء.(4/330)
{لَهُم فيهمَا من شرك وَمَا لَهُ مِنْهُم من ظهير (22) وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إِلَّا لمن أذن لَهُ حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم قَالُوا الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير (23) قل}
وَقَوله: {فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض} ظَاهر.
وَقَوله: {وَمَا لَهُم فيهمَا من شرك} أَي: مَا للآلهة الَّتِي تدعون من دون الله شركَة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقَوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُم من ظهير} أَي: معِين.(4/331)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إِلَّا لمن أذن لَهُ} أَي: أذن الله لَهُ، وَقُرِئَ: " إِلَّا لمن أذن لَهُ " أَي: إِلَّا لمن أذن لَهُ فِي شَفَاعَته.
وَقَوله: {حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم} لَا بُد أَن يكون هَا هُنَا مَحْذُوف؛ لِأَن حَتَّى من ضَرُورَته أَن يتَّصل بِمَا تقدم، وَلم يُوجد شَيْء يتَّصل بِهِ، فَيجوز أَن يكون الْمَحْذُوف إِثْبَات فزع وَالْمَلَائِكَة وخوفهم إِذا قضى الله تَعَالَى بِأَمْر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض.
وَقَوله: {فزع عَن قُلُوبهم} أَي: كشف الْفَزع عَن قُلُوبهم.
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " فزع عَن قُلُوبهم " أَي: فرغت قُلُوبهم عَن الْخَوْف.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة: " أَن الْمَلَائِكَة تسمع صَوت الْوَحْي شبه السلسلة على الصفوان فيصعقون، ويضربون بأجنحتهم خضعانا لله تَعَالَى ".
وَفِي رِوَايَة: " يخرون على جباههم، فَإِذا كشف الْفَزع عَنْهُم {قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم} " أَي: قَالَ بَعضهم لبَعض: مَاذَا قَالَ ربكُم؟
وَقَوله: {قَالُوا الْحق} أَي: قَالُوا: قَالَ الله تَعَالَى الْحق أَي: الْوَحْي وَذكر السّديّ وَغَيره: أَنه لما كَانَ زمَان الفترة بَين عِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَت بِمِقْدَار سِتّمائَة سنة، فَلم تسمع الْمَلَائِكَة وَحيا فِي هَذِه الْمدَّة، فَلَمَّا بعث مُحَمَّد(4/331)
{من يرزقكم من السَّمَوَات وَالْأَرْض قل الله وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين} نزل جِبْرِيل بِالْوَحْي، ففزعوا لذَلِك خوفًا من قيام السَّاعَة، فَلَمَّا كشف الْفَزع عَن قُلُوبهم سَأَلُوا عَمَّا قَضَاهُ الله من أمره، فَذكر لَهُم أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَى مُحَمَّد.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعلي الْكَبِير} أَي: المتعالي الْعَظِيم فِي صِفَاته.(4/332)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
قَوْله تَعَالَى: {قل من يرزقكم من السَّمَوَات وَالْأَرْض} فالرزق من السَّمَوَات هُوَ الْمَطَر، وَمن الأَرْض هُوَ النَّبَات.
وَقَوله: {قل الله} يَعْنِي: إِن لم يَقُولُوا: إِن رازقنا هُوَ الله تَعَالَى، فَقل أَنْت إِن رازقكم هُوَ الله تَعَالَى.
وَقَوله: {وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين} فَإِن قيل: " أَو " فِي كَلَام الْعَرَب للشَّكّ، فَكيف تستقيم كلمة أَو فِي هَذَا الْموضع؟ وَلَا يجوز لأحد أَن يشك أَنه على الْهدى أَو على الضلال، وَالْجَوَاب عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا: مَا ذكره الْفراء وَهُوَ: أَو هَا هُنَا بِمَعْنى الْوَاو، وَالْألف صلَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " وَإِنَّا وَإِيَّاكُم لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين " يَعْنِي: نَحن على الْهدى وَأَنْتُم فِي الضلال. قَالَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي شعرًا:
(يَقُول الأرذلون بَنو قُشَيْر ... طوال الدَّهْر لَا تنسى عليا؟)
(أحب مُحَمَّدًا حبا شَدِيدا ... وعباسا وَحَمْزَة والوصيا)
(فَإِن يَك حبهم رشدا أصبه ... وَفِيهِمْ أُسْوَة إِن كَانَ غيا)
فَقيل: مَا شَككت، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ لعلى هذى أَو فِي ضلال مُبين} . وروى معنى هَذَا القَوْل عَن عِكْرِمَة.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ} خرج على شدَّة الاستبصار، وعَلى طَرِيق المناصفة فِي الْكَلَام، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: أَحَدنَا كَاذِب، فَهَل من سامع؟ وَهُوَ مُتَيَقن أَن الصَّادِق هُوَ، والكاذب صَاحبه. وَكَذَلِكَ يَقُول الْمولى لعَبْدِهِ عِنْد شدَّة الْغَضَب: تعال نَنْظُر أَيّنَا يضْرب صَاحبه، وَهُوَ يعلم أَنه هُوَ الَّذِي يضْرب غُلَامه.
وَالثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه فال معنى الْآيَة: مَا نَحن وَأَنْتُم على طَريقَة وَاحِدَة،(4/332)
( {24) قل لَا تسْأَلُون عَمَّا أجرمنا وَلَا نسْأَل عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قل يجمع بَيْننَا رَبنَا ثمَّ يفتح بَيْننَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفتاح الْعَلِيم (26) قل أروني الَّذين ألحقتم بِهِ شُرَكَاء كلا بل هُوَ الله الْعَزِيز الْحَكِيم (27) وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس بشيرا وَنَذِيرا وَلَكِن أَكثر النَّاس} بل أَحَدنَا على الْهدى، وَالْآخر على الضَّلَالَة، ثمَّ المهتدى من الْفَرِيقَيْنِ مَعْلُوم، والضال من الْفَرِيقَيْنِ مَعْلُوم، وَهَذَا القَوْل قريب من الأول، وَهُوَ حسن.(4/333)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
قَوْله تَعَالَى: {قل لَا تسْأَلُون عَمَّا أجرمنا} أَي: عَن جرمنا.
وَقَوله: {وَلَا نسْأَل عَمَّا تَعْمَلُونَ} أَي: عَن عَمَلكُمْ من الْكفْر والمعاصي.(4/333)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
قَوْله تَعَالَى: {قل يجمع بَيْننَا رَبنَا} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {ثمَّ يفتح بَيْننَا} أَي: يحكم بَيْننَا، وَالْعرب تسمي الْحَاكِم فتاحا، وَقد ذكرنَا.
وَقَوله: {وَهُوَ الفتاح الْعَلِيم} ظَاهر. وَيُقَال: هُوَ الْحَاكِم الْعَالم بِوُجُوه الْمصلحَة.(4/333)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قَوْله تَعَالَى: {قل أروني الَّذين ألحقتهم بِهِ شُرَكَاء} أَي: ألحقتموهم بِاللَّه شُرَكَاء.
وَقَوله: {أروني} أَي: أعلموني مَاذَا خلقُوا؟ وماذا صَنَعُوا؟
وَقَوله: {كلا} يَعْنِي: فَإِن لم تجيبوا بِالْحَقِّ، فَقل: كلا أَي: لَيْسَ الْأَمر على مَا زعمتم.
وَقَوله: {بل هُوَ الله الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب على أمره، الْحَكِيم فِي تَدْبيره.(4/333)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس} أَي: جَامعا بالإنذار والإبلاغ. وَقيل: وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا للنَّاس كَافَّة، على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " بعثت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود ".
وَعَن ابْن زيد: كَافَّة للنَّاس أَي: كافا للنَّاس عَن الْكفْر، وَالْهَاء للْمُبَالَغَة.
وَقَوله: {بشيرا وَنَذِيرا} أى: مبشرا ومنذرا.
وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ أَنَّك نَبِي. وَفِي بعض التفاسير: أَن أجل فَائِدَة للعباد من الله هُوَ الْعلم وَالْقُدْرَة؛ لِأَن بهما يكْتَسب الْإِنْسَان(4/333)
{لَا يعلمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (29) قل لكم ميعاد يَوْمًا لَا تستأخرون عَنهُ سَاعَة وَلَا تستقدمون (30) وَقَالَ الَّذين كفرُوا لن نؤمن بِهَذَا الْقُرْآن وَلَا بِالَّذِي بَين يَدَيْهِ وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ موقوفون عِنْد رَبهم يرجع بَعضهم إِلَى بعض القَوْل يَقُول الَّذين استضعفوا للَّذين استكبروا لَوْلَا أَنْتُم لَكنا مُؤمنين (31) قَالَ الَّذين استكبروا للَّذين استضعفوا أَنَحْنُ صددناكم عَن الْهدى بعد إِذْ جَاءَكُم بل كُنْتُم مجرمين} مَا يوصله إِلَى رضَا الله تَعَالَى، قَالَ: وَالْعلم أَكثر فَائِدَة من الْقُدْرَة؛ لِأَن الْعلم يتمخض نفعا، وَالْقُدْرَة قد يكْتَسب بهَا الْمعْصِيَة.(4/334)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين} يَعْنِي: الْقِيَامَة.(4/334)
قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
وَقَوله: {قل لكم ميعاد يَوْم لَا تستأخرون عَنهُ سَاعَة وَلَا تستقدمون} قد فسر هَذَا بِيَوْم الْبَعْث، وَقد فسر بِيَوْم الْمَوْت، وَكِلَاهُمَا صَحِيح.(4/334)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لن نؤمن بِهَذَا الْقُرْآن} إِي: أشركوا.
وَقَوله: {وَلَا بِالَّذِي بَين يَدَيْهِ} يَعْنِي: من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَقَوله: {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ موقوفون عِنْد رَبهم} أَي: محبوسون عِنْد رَبهم.
وَقَوله: {يرجع بَعضهم إِلَى بعض القَوْل} أَي: يُجَادِل بَعضهم بَعْضًا.
وَقَوله: {يَقُول الَّذين استضعفوا} أَي: استحقروا، وهم الأتباع.
وَقَوله: {للَّذين استكبروا} أَي: تجبروا، وهم القادة والأشراف.
وَقَوله: {لَوْلَا أَنْتُم لَكنا مُؤمنين} أَي: لَوْلَا أَنكُمْ كُنْتُم قادتنا ورؤساءنا لآمَنَّا بِاللَّه وبرسوله.(4/334)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الَّذين استكبروا} أَي: تكبروا.
وَقَوله: {للَّذين استضعفوا} أَي: الأتباع.
وَقَوله: {أَنَحْنُ صددناكم عَن الْهدى بعد إِذْ جَاءَكُم} أَي: منعناكم.(4/334)
( {32) وَقَالَ الَّذين استضعفوا للَّذين استكبروا بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار إِذْ تأمروننا أَن نكفر بِاللَّه ونجعل لَهُ أندادا وأسروا الندامة لما رَأَوْا الْعَذَاب وَجَعَلنَا الأغلال فِي أَعْنَاق الَّذين كفرُوا هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ (33) وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون (34) وَقَالُوا نَحن أَكثر أَمْوَالًا وأولادا وَمَا نَحن}
وَقَوله: {بل كُنْتُم مجرمين} أَي: الجرم كَانَ لكم فِي اتباعكم أهواءكم.(4/335)
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين استضعفوا للَّذين استكبروا بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار} أَي: مكركم بِنَا فِي اللَّيْل وَالنَّهَار. وَالْعرب قد تضيف الْفِعْل إِلَى اللَّيْل وَالنَّهَار على توسع الْكَلَام، قَالَ الشَّاعِر:
(لقد لمتنا يَا أم غيلَان فِي السرى ... ونمت وَمَا ليل الْمطِي بنائم)
وَقيل: بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار مَعْنَاهُ: طول الأمل، وَطول الأمل هُوَ مكر اللَّيْل وَالنَّهَار على طَرِيق الْمجَاز، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار " أَي: كرور اللَّيْل وَالنَّهَار.
وَقَوله: {إِذْ تأمروننا أَن نكفر بِاللَّه ونجعل لَهُ أندادا} أَي: أشباها.
وَقَوله: {وأسروا الندامة} قد بَينا أَن قَوْله: {وأسروا} قد يكون بِمَعْنى أخفوا، وَقد يكون بِمَعْنى أظهرُوا.
قَوْله: {لما رَأَوْا العاب} أَي: عاينوه.
وَقَوله: {وَجَعَلنَا الأغلال فِي أَعْنَاق الَّذين كفرُوا} هُوَ فرع من عَذَاب أهل النَّار.
وَقَوله: {هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: يعْملُونَ من الْكفْر والمعاصي.(4/335)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها} أَي: منعموها وأغنياؤها، والترفة: النِّعْمَة.
وَقَوله: {إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون} أَي: جاحدون.(4/335)
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا نَحن أَكثر أَمْوَالًا وأولادا} يَعْنِي: قَالَ المترفون للْفُقَرَاء الَّذين آمنُوا نَحن أَكثر أَمْوَالًا وأولادا.(4/335)
{بمعذبين (35) قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم بِالَّتِي تقربكم عندنَا زلفى إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا}
وَقَوله: {وَمَا نَحن بمعذبين} الْعَذَاب الَّذِي يُعَذبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْفقر. وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ أظهر الْقَوْلَيْنِ أَن الَّذِي خولنا وأعطانا الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد فِي الدُّنْيَا لَا يعذبنا فِي الْآخِرَة.(4/336)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر} الْآيَة. وَردت لرد قَوْلهم، وَمَعْنَاهُ: يبسط الرزق امتحانا وابتلاء، ويضيق الرزق (نظرا) .
وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} ظَاهر.(4/336)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ بِالَّتِي تقربكم عندنَا زلفى} أَي: قربى. وروى عَن طَاوس الْيَمَانِيّ أَنه كَانَ يَدْعُو، وَيَقُول: اللَّهُمَّ جنبني المَال وَالْولد، وارزقني الْإِيمَان وَالْعَمَل.
وَفِي الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " اللَّهُمَّ من أَحبَّنِي فارزقه العفاف والكفاف، وَمن أبغضني فَأكْثر مَاله وَولده ".
وَقَوله: {إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن [من] آمن وَعمل صَالحا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة {إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا} فَأُولَئِك تقربهم أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ إِلَى طَاعَة الله، وَهَذَا أظهر الْقَوْلَيْنِ.(4/336)
{فَأُولَئِك لَهُم جَزَاء الضعْف بِمَا عمِلُوا وهم فِي الغرفات آمنون (37) وَالَّذين يسعون فِي آيَاتنَا معاجزين أُولَئِكَ فِي الْعَذَاب محضرون (38) قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء}
وَقَوله: {فَأُولَئِك لَهُم جَزَاء الضعْف} أَي: التَّضْعِيف، وَيُقَال: جَزَاء المضاعفة. والمضاعفة هُوَ أَنه يَجْزِي بِالْوَاحِدِ عشرا إِلَى سَبْعمِائة.
وَقَوله: {وهم فِي الغرفات آمنون} أَي: (فِي) غرفات الْجنَّة آمنون من الْعَذَاب، وَقيل: من الْمَوْت، وَقيل: من الأحزان.(4/337)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يسعون فِي آيَاتنَا معاجزين} قد بَينا معنى قَوْله: {معاجزين} و {معجزين} .
وَقَوله: {أُولَئِكَ فِي الْعَذَاب محضرون} أَي: مدخلون.(4/337)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَهُ} فَإِن قيل: هَذَا تكْرَار لِلْآيَةِ الأولى فَلَا يكون فِيهِ فَائِدَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن فِيهِ فَائِدَة، وَهُوَ أَن الْآيَة الأولى فِيمَن لَا يعلم؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} وَالْآيَة الثَّانِيَة فِيمَن يعلم حِكْمَة الله تَعَالَى (فِي) الْبسط وَالتَّقْدِير.
وَقَوله: {وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه} أَي: يُعْطي خَلفه. وَاخْتلف القَوْل فِي مَوضِع إِعْطَاء الْخلف فالأكثرون أَن (ذَلِك) فِي الْآخِرَة أَو الدُّنْيَا.
روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من صباح إِلَّا وينادي ملكان، يَقُول أَحدهمَا: اللَّهُمَّ أعْط منفقا خلفا، وَيَقُول الآخر: اللَّهُمَّ أعْط ممسكا تلفا ".
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: هُوَ فِي الدُّنْيَا خَاصَّة، وَلَو لم يكن يخلف فِي الدُّنْيَا لبقي العَبْد بِلَا رزق. وَالْقَوْل الأول أحسن.(4/337)
{من عباده وَيقدر لَهُ وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه وَهُوَ خير الرازقين (39) وَيَوْم يحشرهم جَمِيعًا ثمَّ يَقُول للْمَلَائكَة أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يعْبدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْت ولينا من دونهم بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ أَكْثَرهم بهم مُؤمنُونَ (41) فاليوم لَا يملك بَعْضكُم لبَعض نفعا أَو ضرا ونقول للَّذين ظلمُوا ذوقوا عَذَاب النَّار الَّتِي كُنْتُم بهَا}
وَقَوله: {وَهُوَ خير الرازقين} أَي: خير من يرْزق وَيُعْطِي.(4/338)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم يحشرهم جَمِيعًا ثمَّ يَقُول للْمَلَائكَة أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يعْبدُونَ} يَقُول الله تَعَالَى ذَلِك للْمَلَائكَة توبيخا لمن عبدهم، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} وَالْمعْنَى على مَا بَينا.(4/338)
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ} تَسْبِيح الله: تَعْظِيم لَهُ على وَجه يَنْفِي عَنهُ كل سوء.
وَقَوله: {أَنْت ولينا من دونهم} أَي: نَحن نتولاك وَلَا نتولاهم.
وَقَوله: {بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ} (فَإِن قيل: كَيفَ يَصح قَوْله: {بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ} ) وهم عبدُوا الْمَلَائِكَة؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه قَالَ: {بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ} لِأَن الْجِنّ هم الَّذين زَينُوا لَهُم عبَادَة الْمَلَائِكَة، (وَالْمرَاد من الْجِنّ الشَّيَاطِين، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم صوروا صور الْجِنّ، وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة) فاعبدوهم.
وَقَوله: {أَكْثَرهم بهم مُؤمنُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(4/338)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
قَوْله تَعَالَى: {فاليوم لَا يملك بَعْضكُم لبَعض نفعا وَلَا ضرا} أَي: جلب نفع وَدفع ضرّ.
وَقَوله: {ونقول للَّذين ظلمُوا ذوقوا عَذَاب النَّار الَّتِي كُنْتُم بهَا تكذبون} أَي:(4/338)
{تكذبون (42) وَإِذ تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رجل يُرِيد أَن يصدكم عَمَّا كَانَ يعبد آباؤكم وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إفْك مفترى وَقَالَ الَّذين كفرُوا للحق لما جَاءَهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين (43) وَمَا آتَيْنَاهُم من كتب يدرسونها وَمَا أرسلنَا إِلَيْهِم قبلك من نَذِير (44) وَكذب الَّذين من قبلهم وَمَا بلغُوا معشار مَا آتَيْنَاهُم فكذبوا رُسُلِي فَكيف} تجحدون.(4/339)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات} أَي: واضحات.
وَقَوله: {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رجل يُرِيد أَن يصدكم} أَي: يمنعكم {غما كَانَ يعبد آباؤكم} أَي: من الْأَصْنَام.
وَقَوله: {وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إفْك مفترى} يَعْنِي: الْقُرْآن كذب مختلق.
وَقَوله: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للحق لما جَاءَهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} أَي: بَين.(4/339)
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَيْنَاهُم من كتب يدرسونها} أَي: يقرءونها.
وَقَوله: {وَمَا أرسلنَا إِلَيْهِم قبلك من نَذِير} أَي: لم يَأْتِ الْعَرَب قبلك نَبِي، وَلَا ينزل عَلَيْهِم كتاب، وَالْمرَاد مِنْهُ قُرَيْش.(4/339)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
قَوْله تَعَالَى: {وَكذب الَّذين من قبلهم} مَعْنَاهُ: الَّذين مضوا من قبلهم، وهم عَاد وَثَمُود وَقوم مُوسَى وَقوم إِبْرَاهِيم وَقوم لوط وَغَيرهم.
وَقَوله: {وَمَا بلغُوا معشار مَا آتَيْنَاهُم} أَكثر أهل التَّفْسِير أَن المُرَاد من الْآيَة هُوَ أَن هَؤُلَاءِ الْكفَّار وهم قُرَيْش مَا بلغُوا معشار مَا آتَيْنَا الَّذين من قبلهم فِي الْقُوَّة وَالْمَال والآلة. وَالْقَوْل الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: وَمَا بلغ الَّذين من قبلهم معشار مَا آتَيْنَا هَؤُلَاءِ يَعْنِي: أَن كتاب هَؤُلَاءِ أبين كتاب، ورسولهم أفضل رَسُول، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَعْرُوف. وَأما المعشار فَهُوَ الْعشْر، وَقيل: عشر الْعشْر، وَذَلِكَ جُزْء من مائَة (جُزْء) ، وَقيل: هُوَ عشر عشر الْعشْر، وَهُوَ جُزْء من ألف جُزْء.(4/339)
{كَانَ نَكِير (45) قل إِنَّمَا أعظكم بِوَاحِدَة أَن تقوموا لله مثنى وفرادى ثمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بصاحبكم من جنَّة إِن هُوَ إِلَّا نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد (46) قل مَا سألتكم من أجر فَهُوَ لكم إِن أجري إِلَّا على الله وَهُوَ على كل شَيْء شَهِيد (47) قل إِن رَبِّي يقذف}
وَقَوله: {فكذبوا رُسُلِي فَكيف كَانَ نَكِير} أَي: إنكاري وتغييري.(4/340)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِنَّمَا أعظكم بِوَاحِدَة} وَقَالَ مُجَاهِد: بِطَاعَة الله. وَقيل: بتوحيد الله، وَهُوَ قَوْله لَا إِلَه إِلَّا الله. وَذكر أهل الْمعَانِي مثل الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا أَن معنى قَوْله: {أعظكم بِوَاحِدَة} أَي: آمركُم بخصلة وَاحِدَة، ثمَّ بَين الْخصْلَة (فَقَالَ) : {أَن تقوموا لله مثنى وفرادى} أَي: تجتمعون فتنظرون وتحاورون وتنفردون، وتخلون فتتفكرون وَالْمعْنَى: انْظُرُوا فِي حَال مُحَمَّد عِنْد الِاجْتِمَاع وَعند الْخلْوَة فتعرفوا أَنه لَيْسَ بساحر، وَلَا بكاهن، وَلَا بِهِ جُنُون، وَلَا الَّذِي أَتَى بِهِ شعرًا.
وَقَوله: {تقوموا لله} قَالَ أهل التَّفْسِير: لَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الْقيام الَّذِي هُوَ ضد الْجُلُوس، وَإِنَّمَا هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَأَن تقوموا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} .
وَقَوله: {ثمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بصاحبكم من جنَّة} أَي: جُنُون.
وَقَوله: {إِن هُوَ إِلَّا نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد} أَي: عَظِيم.(4/340)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
قَوْله تَعَالَى: {قل مَا سألتكم من أجر} أَي: من جعل فَهُوَ لكم أَي: تركته لكم. وَالْمعْنَى: أَنِّي مَا سألتكم من جعل، لَا أَنه سَأَلَ وَترك.
وَقَوله: {إِن أجري إِلَّا على الله} أَي: مَا ثوابي إِلَّا على الله.
وَقَوله: {وَهُوَ على كل شَيْء شَهِيد} أَي: شَاهد.(4/340)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِن رَبِّي يقذف بِالْحَقِّ} أَي: يَأْتِي بِالْحَقِّ.
وَقَوله: {علام الغيوب} مَنْصُوب بِأَن، وَقُرِئَ: " علام الغيوب " بِالرَّفْع أَي: هُوَ علام الغيوب.(4/340)
{بِالْحَقِّ علام الغيوب (48) قل جَاءَ الْحق وَمَا يبدئ الْبَاطِل وَمَا يُعِيد (49) قل إِن ضللت فَإِنَّمَا أضلّ على نَفسِي وَإِن اهتديت فبمَا يوحي إِلَيّ رَبِّي إِنَّه سميع قريب}(4/341)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
قَوْله تَعَالَى: {قل جَاءَ الْحق} أَي: الْقُرْآن، وَقيل: الرَّسُول.
وَقَوله: {وَمَا يبدئ الْبَاطِل} قَالَ قَتَادَة: الْبَاطِل هُوَ الشَّيْطَان هَا هُنَا أَي: مَا يبدئ الشَّيْطَان شَيْئا [ {وَمَا يُعِيد} ] . وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن الله تَعَالَى يقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل، فَيذْهب الْبَاطِل وَلَا يبْقى مِنْهُ بَقِيَّة تبدئ شَيْئا أَو تعيده. وَقيل: الْبَاطِل هُوَ الْأَصْنَام.(4/341)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِن ضللت فَإِنَّمَا أضلّ على نَفسِي} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما بعث رَسُول الله وَجعل يعيب الْأَصْنَام، قَالَ لَهُ الْمُشْركُونَ: إِنَّك قد ضللت بتركك دين آبَائِك؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {فَإِنَّمَا أضلّ على نَفسِي} أَي: إِثْم ضلالتي عَليّ.
وَقَوله: {وَإِن اهتديت فبمَا يوحي إِلَيّ رَبِّي} أَي: من الْقُرْآن والحجج.
وَقَوله: {إِنَّه سميع قريب} ظَاهر الْمَعْنى.(4/341)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ فزعوا} مَعْنَاهُ: وَلَو ترى إِذْ فزعوا حِين يبعثون، وَفِي الْآيَة جَوَاب مَحْذُوف، والمحذوف: وَلَو ترى إِذا فزعوا حِين يبعثون لرأيت عِبْرَة يعتير بهَا، وَيُقَال: وَلَو ترى إِذْ فزعوا أَرَادَ بِهِ وَقت الْمَوْت.
وَقَوله: {فَلَا فَوت} أى: لَا يفوتون من الله، كَمَا قَالَ الله فِي مَوضِع آخر: {ولات حِين مناص} .
وَقَوله: {وَأخذُوا من مَكَان قريب} فِي التَّفْسِير: أخذُوا من تَحت أَقْدَامهم. وَيُقَال: أخذُوا من بطن الأَرْض (إِلَى ظهرهَا) .(4/341)
( {50) وَلَو ترى إِذْ فزعوا فَلَا فَوت وَأخذُوا من مَكَان قريب (51) وَقُولُوا آمنا بِهِ وأنى لَهُم التناوش من مَكَان بعيد (52) وَقد كفرُوا بِهِ من قبل ويقذفون بِالْغَيْبِ من مَكَان}(4/341)
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
قَوْله: {وَقَالُوا آمنا بِهِ} يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة، وَقيل: عِنْد الْمَوْت، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده} .
وَقَوله: {وأنى لَهُم التناوش} قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَكثير من الْمُفَسّرين: التناوش هُوَ التَّنَاوُل قَالَ الشَّاعِر:
(وَهِي تنوش الْحَوْض نوشا من علا
(نوشا بِهِ تقطع) أجواز الفلا)
وَمعنى الْآيَة على هَذَا أَنهم يُرِيدُونَ أَن يتناولوا الْإِيمَان، وَقد بعد عَنْهُم ذَلِك وفاتهم، فَأنى لَهُم ذَلِك. وَقُرِئَ " وأنى لَهُم التناوش " بِالْهَمْز، وَذكر أهل اللُّغَة أَن النئيش هُوَ الْحَرَكَة فِي إبطاء، فَالْمَعْنى على هَذَا أَنه من أَنى لَهُم حركتهم فِيمَا لَا حِيلَة لَهُم فِيهِ. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: معنى قَوْله: {وأنى لَهُم التناوش} أَنهم يسْأَلُون الرَّد إِلَى الدُّنْيَا، وأنى لَهُم الرَّد.
وَقَوله: {من مَكَان بعيد} أى: من الْآخِرَة إِلَى الدُّنْيَا.(4/341)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
وَقَوله تَعَالَى: {وَقد كفرُوا بِهِ من قبل} أَي: بِالْقُرْآنِ، وَقيل: بِمُحَمد.
وَقَوله: {من قبل} أَي: فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله: {ويقذفون بِالْغَيْبِ} أَي: يظنون ظن الْغَيْب، وَمعنى ظن الْغَيْب: أَنهم يَقُولُونَ مَا لَا يعلمُونَ؛ وَقَوْلهمْ فِيمَا لَا يعلمُونَ هُوَ أَنهم قَالُوا: مُحَمَّد سَاحر، وكاذب، وكاهن، وشاعر، وَيُقَال: قَوْلهم فِيمَا لَا يعلمُونَ أَنهم يَقُولُونَ: (لَا بعث وَلَا جنَّة) وَلَا نَار.(4/341)
{بعيد (53) وحيل بَينهم وَبَين مَا يشتهون كَمَا فعل بأشياعهم من قبل إِنَّهُم كَانُوا فِي شكّ مريب (54) .
وَقَوله: {من مَكَان بعيد} أَنهم يَقُولُونَ: مَا أبعد هَذَا، (وَيُقَال) : من مَكَان بعيد أَي: بعيد من (علمهمْ) . وَالْقَذْف هُوَ الرَّجْم وَالرَّمْي، وَجُمْلَة الْمَعْنى أَنهم يَخُوضُونَ فِيمَا لَا علم لَهُم بِهِ.(4/343)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قَوْله تَعَالَى: {وحيل بَينهم وَبَين مَا يشتهون} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الْإِيمَان وَقبُول التَّوْبَة. وَيُقَال: المَال وَالْولد. (وَقيل) : نعْمَة الدُّنْيَا وزهوتها. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: مَا تَلَوت هَذِه الْآيَة إِلَّا وَذكرت المَاء الْبَارِد.
وَقَوله: {كَمَا فعل بأشياعهم من قبل} أَي: الْأُمَم الْمَاضِيَة. وَقيل: بأصحاب الْفِيل. والأشياع: جمع شيعَة، وهم الْفرق.
وَقَوله: {إِنَّهُم كَانُوا فِي شكّ مريب} أَي: فِي شكّ مرتابين، وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن الشاك كَافِر بِخِلَاف مَا قَالَه بعض النَّاس، وَهُوَ غلط عَظِيم فِي الدّين، وَقد دلّت هَذِه الْآيَة على أَن الشاك كَافِر وَهُوَ فِي النَّار، وَكَذَلِكَ دلّ على هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا ذَلِك ظن الَّذين كفرُوا فويل للَّذين كفرُوا من النَّار} فقد أوجب لَهُم الْكفْر وَالنَّار بِالظَّنِّ. وَقد رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا آمنا بِهِ وأنى لَهُم التناوش} قَالَ: هَذِه الْآيَة نزلت فِي جَيش السفياني، وَهُوَ رجل [يخرج] فِي أَخْوَاله من كلب، فَخسفَ الله بهم بِالْبَيْدَاءِ إِلَّا رجلا وَاحِدًا يخبر النَّاس مَا صنع الله بهم، وَفِيه قصَّة.(4/343)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{الْحَمد لله فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث}
تَفْسِير سُورَة فاطر
وَهِي مَكِّيَّة(4/344)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
{الْحَمد لله فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض} قد بَينا معنى الْحَمد، قَوْله: {فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: مبدعهما ومنشئهما بِلَا مِثَال.
(وَقَوله) : {جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا أولى أَجْنِحَة} أَي: ذَوي أَجْنِحَة.
وَقَوله: {مثنى وَثَلَاث وَربَاع} أَي: مثنى مثنى، وَثَلَاث وَثَلَاث، وَربَاع وَربَاع أَي: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَثَلَاثَة ثَلَاثَة، وَأَرْبَعَة أَرْبَعَة. شعر فِي الْمثنى:
(أحم الله ذَلِك من لِقَاء ... أحاد أحاد فِي شهرحلال)
قَالَ الضَّحَّاك: مثنى جِبْرِيل، وَثَلَاث مِيكَائِيل، وَربَاع إسْرَافيل، وَمن الْمَشْهُور أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت جِبْرِيل (عَلَيْهِ السَّلَام) وَله سِتّمائَة جنَاح قد سد الْأُفق ". وَرُوِيَ أَنه لما رَآهُ على هَذِه الصُّورَة صعق ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يغْتَسل كل يَوْم فِي نهر ثمَّ ينتقضن فَمَا تقع قَطْرَة إِلَّا خلق الله تَعَالَى مِنْهَا ملكا ". وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا أَن الله تَعَالَى خلق ملكا فِي(4/344)
{وَربَاع يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء إِن الله على كل شَيْء قدير (1) مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (2) يَا} السَّمَاء شرفه وَرَفعه، وَذَلِكَ فِي الْخَبَر مَا شَاءَ الله من عظمه، فَهُوَ يسبح الله تَعَالَى، فَمَا ينْطق بتسبيحه إِلَّا خلق الله تَعَالَى مِنْهَا ملكا.
وَقَوله: {يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء} أظهر الْأَقَاوِيل: أَن الله تَعَالَى يزِيد فِي خلق الْمَلَائِكَة وأجنحتهم مَا يَشَاء على مَا ذكرنَا. وَعَن قَتَادَة قَالَ: يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء: هُوَ الملاحة فِي الْعَيْش. وَعَن الزُّهْرِيّ قَالَ: هُوَ حسن الصَّوْت. وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره: أَنه الشّعْر الْجَعْد. وَعَن بعض التفاسير: أَنه زِيَادَة الْعقل والتمييز. وَعَن بَعضهم: هُوَ الْعلم بالصناعات.
وَقَوله: {إِن الله على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.(4/345)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
قَوْله تَعَالَى: {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا} أَي: من رزق وغيث. وَقيل: من عَافِيَة {فَلَا مُمْسك لَهَا} أَي: لَا حَابِس لَهَا.
وَقَوله: {وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده} أَي: مَا يمْنَع فَلَا مُرْسل لَهُ من بعد الله أَي: سوى الله وَقد ثَبت أَن النَّبِي كَانَ يَقُول عقيب صَلَاة الْفَرِيضَة: " لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد، وَهُوَ على كل شَيْء قدير، اللَّهُمَّ لَا مَانع لما أَعْطَيْت، وَلَا معطي لما منعت، وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد ".
وَثَبت هَذِه اللَّفْظَة عَنهُ أَنه قَالَهَا فِي الْقيام بَين الرُّكُوع وَالسُّجُود.
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب فِي ملكة (الْجَحِيم فِي تَدْبِير خلقه) .(4/345)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم} أَي: منَّة الله عَلَيْكُم.(4/345)
{أَيهَا النَّاس اذْكروا نعمت الله عَلَيْكُم هَل من خَالق غير الله يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تؤفكون (3) وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذبت رسل من قبلك وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (4) يَا أَيهَا النَّاس إِن وعد الله حق فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور (5) إِن الشَّيْطَان لكم عَدو فاتخذوه عدوا إِنَّمَا يَدْعُو حزبه ليكونوا من}
وَقَوله: {هَل من خَالق غير الله} اسْتِفْهَام على وَجه التَّقْرِير، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا خَالق غير الله.
وَقَوله: {يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض} أَي: من السَّمَاء الْمَطَر، وَمن الأَرْض النَّبَات.
وَقَوله: {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تؤفكون} أَي: تصرفون عَن الْحق.(4/345)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
وَقَوله: {وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذبت رسل من قبلك وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور} أَي: ترد الْأُمُور.(4/345)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس إِن وعد الله حق} يَعْنِي: وعد الْقِيَامَة حق.
وَقَوله: {فَلَا [تغرنكم] الْحَيَاة الدُّنْيَا} وَفِي الْأَثر: أَن الله تَعَالَى مَا أعطي أحدا شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا اغْتِرَارًا، وَمَا زوى من أحد شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا اختبارا.
وَقَوله: {وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور} أَي: لَا يَغُرنكُمْ الْغرُور، وَهُوَ الشَّيْطَان. قَالَ الْحسن: من الْغرُور أَن تعْمل الْمعْصِيَة، وتتنمى على الله الْمَغْفِرَة.(4/345)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الشَّيْطَان لكم عَدو فاتخذوه عدوا} أَي: عادوه بِطَاعَة الله.
وَقَوله: {إِنَّمَا يَدْعُو حزبه} أَي: أَتْبَاعه.
وَقَوله: {ليكونوا من أَصْحَاب السعير} أَي: ليكونوا فِي السعير، والسعير هُوَ النَّار المتوقدة.(4/345)
{أَصْحَاب السعير (6) الَّذين كفرُوا لَهُم عَذَاب شَدِيد وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة وَأجر كريم (7) أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا فَإِن الله}(4/347)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين كفرُوا لَهُم عَذَاب شَدِيد وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصلحات لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير} أَي: عَظِيم.(4/347)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله} نزلت الْآيَة فِي أبي جهل وَأبي بن خلف وَعتبَة وَشَيْبَة وَالْعَاص بن وَائِل وَالْأسود بن عبد يَغُوث وَعقبَة بن أبي معيط وأشباههم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة نزلت فِي أهل الْأَهْوَاء والبدع، وَالْأولَى أَن يُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي الْكفَّار؛ لِأَن عَلَيْهِ أَكثر أهل التَّفْسِير. وَعَن قَتَادَة: أَنه قَالَ: مِنْهُم الْخَوَارِج الَّذين يسْتَحلُّونَ الدِّمَاء وَالْأَمْوَال، قَالَ: وَأما أهل الْكَبَائِر فَلَيْسَ مِنْهُم؛ لأَنهم لَا يسْتَحلُّونَ الْكَبَائِر. وَكَذَلِكَ الْعمَّال الظلمَة، لأَنهم يظْلمُونَ، ويعلمون أَنَّهَا لَيست بحلال لَهُم.
وَقَوله: {فَرَآهُ حسنا} (وَفِي الْآيَة حذف على طريقتين أَحدهمَا: أَن معنى الْآيَة أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا) كمن هداه الله {فَإِن الله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} وَالطَّرِيق الثَّانِي، أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا ذهبت نَفسك عَلَيْهِ حسرة، فَلَا تذْهب نَفسك عَلَيْهِم حسرات، فَإِن الله يضل من يَشَاء، وَيهْدِي من يَشَاء، وَالْحَسْرَة هُوَ النَّدَم الشَّديد على مَا فَاتَ.
وَقَوله: {إِن الله عليم بِمَا يصنعون} ظَاهر الْمَعْنى.(4/347)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَالله الَّذِي أرسل الرِّيَاح فتشير سحابا فسقناه إِلَى بلد ميت} أى: لَا ينْبت فِيهَا.
وَقَوله: {فأحيينا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا [كَذَلِك] النشور} أَي: كَذَلِك النشور(4/347)
{يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء فَلَا تذْهب نَفسك عَلَيْهِم حسرات إِن الله عليم بِمَا يصنعون (8) وَالله الَّذِي أرسل الرِّيَاح فتثير سحابا فسقناه إِلَى بلد ميت فأحيينا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا كَذَلِك النشور (9) من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا إِلَيْهِ يصعد} فِي الْآخِرَة. وروى وَكِيع بن عدس عَن أبي رزين الْعقيلِيّ أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، كَيفَ يحيي الله الْمَوْتَى؟ قَالَ لَهُ: هَل مَرَرْت قطّ بِأَرْض قحل أَي: يَابِس ثمَّ مَرَرْت بهَا وَهِي تهتز خضرًا قَالَ: نعم. قَالَ: كَذَلِك يحيي الله الْمَوْتَى ".(4/348)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة} الْعِزَّة: هِيَ المنعة.
وَقَوله: {فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا} قَالَ الْفراء: معنى الْآيَة: من كَانَ يُرِيد أَن يعلم لمن الْعِزَّة، فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا. وَقَالَ قَتَادَة مَعْنَاهُ: من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فليتعزز بِطَاعَة الله. قَالَ أهل النَّحْو: هَذَا مثل مَا يَقُول الْإِنْسَان: من كَانَ يُرِيد المَال فَالْمَال لفُلَان أَي: ليطلب المَال عِنْد فلَان، كَذَلِك معنى قَوْله: {من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا} أَي: فليطلب الْعِزَّة من عِنْده. وَقَالَ بعض أهل التَّفْسِير: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يعْبدُونَ الْأَصْنَام، ويتقربون بذلك إِلَى الله تَعَالَى، وَيطْلبُونَ الْعِزّ من عِنْد الْأَصْنَام، قَالَ الله تَعَالَى {وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة ليكونوا لَهُم عزا} فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأمرهمْ أَن يطلبوا الْعِزّ من الله لَا من الْأَصْنَام.
وَقَوله: {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب} فِي الْكَلم الطّيب أَقْوَال أَحدهَا: أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله. وَالْآخر: أَنه الْقُرْآن، ذكره شهر بن حَوْشَب، وَالثَّالِث: أَنه ذكر الله. وَعَن قَتَادَة(4/348)
{الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ وَالَّذين يمكرون السَّيِّئَات لَهُم عَذَاب شَدِيد ومكر} قَالَ: إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب [أَي] : يقبل الله الْكَلم الطّيب. وَعَن (ابْن مَسْعُود) قَالَ: مَا نحدثكم بِحَدِيث إِلَّا أَتَيْنَاكُم تَصْدِيق ذَلِك من كتاب الله تَعَالَى، ثمَّ قَالَ: مَا من عبد يَقُول سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر وتبارك الله، إِلَّا قبض عَلَيْهِنَّ (ملك) وضمهن تَحت جنَاحه، ثمَّ يصعد بهَا إِلَى السَّمَاء، ثمَّ [لَا] يمر بِجمع من الْمَلَائِكَة إِلَّا اسْتَغْفرُوا لِقَائِلِهِنَّ حَتَّى يَجِيء بِهن وَجه الرَّحْمَن ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ} وَقيل: الْكَلم الطّيب هُوَ الدُّعَاء من الْعباد.
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أنس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى كل يَوْم: أَنا الْعَزِيز، فَمن أَرَادَ عز الدَّاريْنِ فليطع الْعَزِيز ".
وَقَوله: {وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: مَا رُوِيَ عَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَغَيرهم أَنهم قَالُوا: وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ أَي: الْعَمَل الصَّالح يرفع الْكَلم الطيبِ، وَالْقَوْل الثَّانِي: قَول قَتَادَة؛ قَالَ: وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ أَي: يرفعهُ الله.
وَالْقَوْل الثَّالِث: وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ الْكَلم الطّيب. وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ الأول،(4/349)
{أُولَئِكَ هُوَ يبور (10) وَالله خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ جعلكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تحمل من أُنْثَى وَلَا تضع إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يعمر من معمر وَلَا ينقص من عمره إِلَّا فِي كتاب إِن} وَقد رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: يعرض القَوْل على الْعَمَل، فَإِن وَافقه رفع القَوْل مَعَ الْعَمَل، وَإِن خَالفه كَانَ الْعَمَل أولى بِهِ. وَفِي بعض الْآثَار: أَن العَبْد إِذا قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله بنية صَادِقَة رفع إِلَى الله تَعَالَى وَله دوى كدوى النَّحْل، حَتَّى يلقى بَين يَدَيْهِ فَينْظر الله تَعَالَى [لَهُ] نظرة لَا ييأس بعْدهَا أبدا؛ هَذَا إِذا وَافقه عمله، وَإِن خَالفه وقف قَوْله حَتَّى يَتُوب من عمله. (وَإِن خَالفه وقف) .
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يمكرون السَّيِّئَات} أَي: يعْملُونَ السَّيِّئَات، وَيُقَال: نزلت فِي مكر الْكفَّار برَسُول الله حَتَّى خرج من مَكَّة مُهَاجرا إِلَى الْمَدِينَة على مَا ذكرنَا.
وَقَوله: {لَهُم عَذَاب شَدِيد ومكر أُولَئِكَ هُوَ يبور} أَي: يهْلك وَيبْطل.(4/350)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
قَوْله تَعَالَى: {وَالله خَلقكُم من تُرَاب} التُّرَاب (جسم) مدقق من جنس الطين.
وَقَوله: {ثمَّ من نُطْفَة} ذكر السّديّ أَن النُّطْفَة إِذا وَقعت فِي الرَّحِم طارت فِي كل عظم وَشعر و (عصب) فَإِذا مَضَت أَرْبَعُونَ يَوْمًا نزلت إِلَى الرَّحِم، وَخلق الله مِنْهَا الْعلقَة.
وَقَوله: {ثمَّ جعلكُمْ أَزْوَاجًا} أَي: أصنافا. وَفِي تَفْسِير ابْن فَارس: {جعلكُمْ أَزْوَاجًا} أَي: زوج بَعْضكُم من بعض.
وَقَوله: {وَمَا تحمل من أُنْثَى وَلَا تضع إِلَّا بِعِلْمِهِ} أَي: لَا يغيب عَنهُ شَيْء من ذَلِك.
وَقَوله: {وَمَا يعمر من معمر} يَعْنِي: مَا يطول عمر معمر حَتَّى يُدْرِكهُ الْهَرم. وَقَوله: {وَلَا ينقص من عمره} فَيرجع إِلَى الأول، وَالْجَوَاب: أَنه يجوز أَن يذكر على(4/350)
{ذَلِك على الله يسير (11) وَمَا يَسْتَوِي البحران هَذَا عذب فرات سَائِغ شرابه وَهَذَا ملح أجاج وَمن كل تَأْكُلُونَ لَحْمًا طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وَترى الْفلك فِيهِ} هَذَا الْوَجْه، وَيُرَاد بِهِ غير الأول، وَهَذَا كَمَا أَن الرجل يَقُول: عِنْدِي دِرْهَم وَنصفه أَي: نصف دِرْهَم آخر، أوردهُ الزّجاج وَغَيره. وَالْقَوْل الثَّانِي: {وَمَا يعمر من معمر وَلَا ينقص من عمره} هُوَ منصرف إِلَى الأول. قَالَ كَعْب الْأَحْبَار حِين حضرا [عمر] الْوَفَاة: وَالله لَو دَعَا عمر ربه أَن يُؤَخر أَجله لأخره، فَقَالُوا لَهُ: إِن الله يَقُول: {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} . فَقَالَ: هَذَا إِذا حَضَره الْأَجَل، فَأَما قبل ذَلِك فَيجوز أَن يُزَاد وَينْقص، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة. وَذكر بَعضهم: أَن مِثَال هَذَا أَن الله تَعَالَى يكْتب أَن عمر فلَان مائَة سنة إِن أَطَاعَنِي، وعمره خَمْسُونَ أَو سِتُّونَ إِن عَصَانِي، وَهَذَا جَائِز.
وَقَوله: {إِلَّا فِي كتاب} مَعْنَاهُ: إِلَّا وَهُوَ مَكْتُوب فِي كتاب. وَفِي التَّفْسِير أَن الله تَعَالَى يكْتب أجل العَبْد فِي كتاب، ثمَّ يكْتب فِي كتاب (آخر) : قد انْتقصَ من عمره يَوْم، شهر، سنة، إِلَى أَن يسْتَوْفى أَجله. وَذكر بَعضهم أَنه يكْتب تَحت ذَلِك الْكتاب الأول.
وَقَوله: {إِن ذَلِك على الله يسير} أَي: هَين.(4/351)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي البحران هَذَا عذب فرات} أَي: شَدِيد العذوبة.
وَقَوله: {سَائِغ شرابه} أَي: سهل الْمدْخل.
وَقَوله: {وَهَذَا ملح أجاج} أَي: ملح شَدِيد الملوحة. وَفِي الْآيَة بَيَان الْقُدْرَة فِي خلق المَاء العذب والأجاج.
وَقَوله: {وَمن كل تَأْكُلُونَ لَحْمًا طريا} أَي: الْحيتَان.
وَقَوله: {وتستخرجون حلية تلبسونها} الدّرّ والمرجان والجواهر. قَالَ عِكْرِمَة: مَا(4/351)
{مواخر لتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون (12) يولج اللَّيْل فِي النَّهَار ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر كل يجْرِي لأجل مُسَمّى ذَلِكُم الله ربكُم لَهُ الْملك وَالَّذين تدعون من دونه مَا يملكُونَ من قطمير (13) إِن تدعوهم لَا يسمعوا دعاءكم وَلَو} قطرت من السَّمَاء قَطْرَة إِلَى الأَرْض إِلَّا أنبتت عشبة، وَمَا قطرت فِي الْبَحْر قَطْرَة إِلَّا صَارَت درة، فَإِن قيل: قد قَالَ: {وتستخرجون حلية تلبسونها} والدر والمرجان والجواهر لَا تخرج من الأجاج، وَإِنَّمَا تخرج من العذب؟ وَقد قَالَ: {وَمن كل تَأْكُلُونَ لَحْمًا طريا وتستخرجون [حلية] } الْجَواب عَنهُ: يجوز أَن ينْسب إِلَيْهِمَا وَإِن كَانَ يسْتَخْرج من أَحدهمَا، وَمثل هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب كثير.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَن فِي الْبَحْر الأجاج تكون عيُونا عذبة، فتمتزج بالملح، وَتَكون من بَين ذَلِك الْجَوَاهِر.
وَقَوله: {وَترى الْفلك فِيهِ مواخر} قَالَ الْحسن: مواقير أَي: ممتلئة. وَعَن بَعضهم: مُعْتَرضَة تَجِيء وَتذهب. وَقيل: جواري. والمخر: هُوَ الشق، فَكَأَن الْفلك يشق المَاء بصدره، فَذكر مواخر على هَذَا الْمَعْنى.
وَقَوله: {ولتبتغوا من فَضله} أَي: لتطلبوا من فَضله، وفضله هُوَ التِّجَارَات فِي الْبَحْر.
وَقَوله: {ولعلكم تشكرون} أَي: تشكرون نعم الله.(4/352)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
قَوْله تَعَالَى: {يولج اللَّيْل فِي النَّهَار} قد بَينا هَذَا من قبل.
وَقَوله: { [ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل] وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر} قَالَ قَتَادَة: طول الشَّمْس ثَمَانُون فرسخا، وعرضها سِتُّونَ فرسخا. وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: جرم الشَّمْس كسعة الدُّنْيَا (وَزِيَادَة ثلث، وجرم الْقَمَر كسعة الدني) بِلَا زِيَادَة.
وَقَوله: {كل يجْرِي لأجل مُسَمّى} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: {ذَلِكُم الله ربكُم لَهُ الْملك وَالَّذين تدعون من دونه} أَي: من الْأَصْنَام.(4/352)
{سمعُوا مَا اسْتَجَابُوا لكم وَيَوْم الْقِيَامَة يكفرون بشرككم وَلَا ينبئك مثل خَبِير (14) يَا أَيهَا النَّاس أَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد (15) إِن يَشَأْ}
وَقَوله: {مَا يملكُونَ من قمطير} قَالَ مُجَاهِد: القطمير: لفافة النواة، وَهُوَ كسحل البصلة، وَعَن بَعضهم: القمطير وسط النواة، وَالْمعْنَى أَنه يملك شَيْئا قَلِيلا وَلَا كثيرا.(4/353)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
قَوْله تَعَالَى: {إِن تدعوهم لَا يسمعوا دعاءكم} يَعْنِي: إِن تدعوا الْأَصْنَام لَا يسمعوا دعاءكم.
وَقَوله: {وَلَو سمعُوا مَا اسْتَجَابُوا لكم} أَي: مَا أجابوكم.
وَقَوله: {وَيَوْم الْقِيَامَة يكفرون بشرككم} أَي: يجحدون بشرككم وموالاتكم إيَّاهُم.
وَقَوله: {وَلَا ينبئك مثل خَبِير} أَي: وَلَا ينبئك بِهَذَا أحد مثلي، والخبير هُوَ الله تَعَالَى، وَالْمعْنَى أَن الَّذِي أَنْبَأَك بِهَذَا خَبِير بالأمور، عَالم بهَا.(4/353)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس أَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَى الله} أَي: إِلَى فضل الله، وَالْفَقِير هُوَ الْمُحْتَاج.
وَقَوله: {وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} أَي: الْغَنِيّ عَن خلقه، الْمَحْمُود فِي إحسانه بخلقه.(4/353)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16)
قَوْله تَعَالَى: {إِن يَشَأْ يذهبكم} أَي: يهلككم حَتَّى لَا يبْقى مِنْكُم عين تطرف.
وَقَوله: {وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد} أَي: خلق لم يَكُونُوا أنشأهم وابتدأهم.(4/353)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
وَقَوله: {وَمَا ذَلِك على الله بعزيز} أَي: بشديد.(4/353)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} أَي: لَا يُؤَاخذ أحد بذنب غَيره.
وَقَوله: {وَإِن تدع مثقلة} أَي: مثقلة بِالذنُوبِ {إِلَى حملهَا} أَي: إِن دَعَوْت أحدا أَن يحمل ذنُوبه عَنهُ.(4/353)
{يذهبكم وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد (16) وَمَا ذَلِك على الله بعزيز (17) وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى وَإِن تدع مثقلة إِلَى حملهَا لَا يحمل مِنْهُ شَيْء وَلَو كَانَ ذَا قربى إِنَّمَا تنذر الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَمن تزكّى فَإِنَّمَا يتزكى لنَفسِهِ وَإِلَى الله الْمصير (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير (19) وَلَا الظُّلُمَات وَلَا النُّور (20) وَلَا الظل وَلَا}
وَقَوله: {لَا يحمل مِنْهُ شَيْء وَلَو كَانَ ذَا قربى} أَي: لَا يجد من يحمل عَنهُ، وَإِن كَانَ الْمَدْعُو قَرِيبا أَبَا أَو أَبنَاء. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِن الرجل (يلقِي) يَوْم الْقِيَامَة أَبَاهُ أَو ابْنه، فَيَقُول: احْمِلْ عني بعض ذُنُوبِي، فَيَقُول: لَا أَسْتَطِيع، حسبي مَا عَليّ. وَفِي بعض التفاسير: أَن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي قَالَ لمن اسْلَمْ من بني مَخْزُوم: ارْجعُوا عَن الْإِسْلَام، وَأَنا أحمل ذنوبكم يَوْم الْقِيَامَة إِن خِفْتُمْ من الذُّنُوب؛ فَانْزِل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {إِنَّمَا تنذر الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ} قد بَينا الخشية بِالْغَيْبِ.
وَقَوله: {وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَمن تزكّى فَإِنَّمَا يتزكى لنَفسِهِ} معنى التزكي هَا هُنَا هُوَ الْعَمَل الصَّالح.
وَقَوله: {وَإِلَى الله الْمصير} أَي: الْمرجع.(4/354)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} معنى الْأَعْمَى: عَن الْهدى، والبصير بِالْهدى. وَعَن بَعضهم: الْأَعْمَى عَن الْحق، والبصير بِالْحَقِّ.(4/354)
وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)
وَقَوله: {وَلَا الظُّلُمَات وَلَا النُّور} والظلمات هِيَ الضلالات {وَلَا النُّور} هُوَ الْهِدَايَة وَالْبَيَان من الله تَعَالَى. وَقيل: هَذَا تَمْثِيل الْكفْر وَالْإِيمَان.(4/354)
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)
وَقَوله: {وَلَا الظل وَلَا الحرور} أَي: الْجنَّة وَالنَّار. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الحرور يكون بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْس. وَعَن غَيره: السمُوم بِالنَّهَارِ، والحرور بِاللَّيْلِ. وَعَن بَعضهم: الحرور هُوَ الْحر الدَّائِم لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا، قَالَ الشَّاعِر:(4/354)
{الحرور (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَات إِن الله يسمع من يَشَاء وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور (22) إِن أَنْت إِلَّا نَذِير (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير (24) وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذب الَّذين من قبلهم جَاءَتْهُم}
(وهاجرة يشوي الْوُجُوه حرورها ... )(4/355)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
وَقَوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَات} أَي: الْمُؤْمِنُونَ وَالْكفَّار. وَعَن [ابْن] قُتَيْبَة قَالَ: الْعلمَاء والجهال.
وَقَوله: {إِن الله يسمع من يَشَاء} أَي: من يَشَاء إسماعه.
وَقَوله: {وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور} أَي: لَا تسمع الْكفَّار، وشبههم بالأموات فِي الْقُبُور.(4/355)
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
وَقَوله: {إِن أَنْت إِلَّا نَذِير} أَي: مُنْذر.(4/355)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا} أَي مبشرا ومنذرا.
وَقَوله: {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} أَي: مُنْذر. وَفِي بعض التفاسير: إِلَّا الْعَرَب لم يكن لَهُم نَبِي سوى النَّبِي. وَفِي بعض الحكايات: أَن بهْلُول الْمَجْنُون لَقِي أَبَا يُوسُف القَاضِي، فَقَالَ لَهُ: إِن الله تَعَالَى يَقُول: {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} وَقَالَ النَّبِي: " لَوْلَا أَن الْكلاب أمة من الْأُمَم لأمرت بقتلها "، فَمَا نَذِير الْكلاب؟ ! فتحير أَبُو يُوسُف؛ فَأخْرج حجرا من كمه وَقَالَ: هَذَا نَذِير الْكلاب.(4/355)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذب الَّذين من قبلهم جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ وبالزبر وبالكتاب الْمُنِير} أَي: الْكتاب الْوَاضِح، وَذكر الْكتاب بعد الزبر على طَرِيق(4/355)
{رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ وبالزبر وبالكتاب الْمُنِير (25) ثمَّ أخذت الَّذين كفرُوا فَكيف كَانَ نَكِير (26) ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فأخرجنا بِهِ ثَمَرَات مُخْتَلفا ألوانها وَمن الْجبَال جدد بيض وحمر مُخْتَلف ألوانها وغرابيب سود (27) وَمن النَّاس وَالدَّوَاب والأنعام مُخْتَلف ألوانه كَذَلِك إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء إِن الله عَزِيز غَفُور} التَّأْكِيد.(4/356)
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أخذت الَّذين كفرُوا فَكيف كَانَ نَكِير} أَي: إنكاري وتغييري.(4/356)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء} (قَوْله) : {فأخرجنا بِهِ ثَمَرَات مُخْتَلفا ألوانها} أَي: أَبيض وأحمر وأصفر، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَقَوله: {وَمن الْجبَال جدد} أَي: طرائق (وخطط) {بيض} ، والجدد: جمع جدة، وَهُوَ الطَّرِيق.
وَقَوله: ( {وحمر} ) أَي: طرائق حمرَة.
قَوْله: {مُخْتَلف ألوانها وغرابيب سود} أَي: سود غرابيب على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، يُقَال: أسود غربيب أَي: شَدِيد السوَاد، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الله يكره الشَّيْخ الغربيب " أَي الَّذِي يسود لحيته، والخضاب بالحمرة سنة، أما بِالسَّوَادِ مَكْرُوه. وَمعنى الْآيَة أى: طرائق سود.(4/356)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
وَقَوله: {وَمن النَّاس وَالدَّوَاب والأنعاممختلف ألوانه كَذَلِك} أى: مُخْتَلف ألوان هَذِه الْأَشْيَاء، كَمَا اخْتلفت ألوان مَا سبق ذكره.(4/356)
( {28) إِن الَّذين يَتلون كتاب الله وَأَقَامُوا الصَّلَاة وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سرا وَعَلَانِيَة يرجون تِجَارَة لن تبور (29) ليوفيهم أُجُورهم ويزيدهم من فَضله إِنَّه غَفُور شكور (30) وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك من الْكتاب هُوَ الْحق مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ إِن الله بعباده}
وَقَوله: {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء} وَمن الْمَعْرُوف فِي الْآثَار: " رَأس الْعلم خشيَة الله ". وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا: كفى بخشية الله علما، وبالاغترار بِهِ جهلا. وَيُقَال: أول كلمة فِي الزبُور رَأس الْحِكْمَة خشيَة الله. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء أَي: من يعلم ملكي وعزي وسلطاني. وَعَن بَعضهم: إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء الَّذين يعلمُونَ أَن الله على كل شَيْء قدير، وَعَن بعض التَّابِعين قَالَ: من لم يخْش الله فَلَيْسَ بعالم. وَيُقَال: خف الله بِقدر قدرته عَلَيْك، واستح من الله بِقدر قربه مِنْك.
وَقَوله: {إِن الله عَزِيز غَفُور} أَي: عَزِيز فِي ملكه، غَفُور (لذنوب عباده) .(4/357)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَتلون كتاب الله وَأَقَامُوا الصَّلَاة وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سرا وَعَلَانِيَة يرجون تِجَارَة لن تبور} أَي: لن تهْلك وَلنْ تفْسد، وَالْمرَاد من التِّجَارَة مَا وعده الله من الثَّوَاب.(4/357)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
قَوْله تَعَالَى: {ليوفيهم أُجُورهم} أَي: ثَوَاب أَعْمَالهم.
وَقَوله: {ويزيدهم من فَضله} هُوَ تَضْعِيف الْحَسَنَات، قَالَ بَعضهم: هُوَ الشَّفَاعَة لمن أحسن إِلَيْهِم، فعلى هَذَا يشفع الْفَقِير للغنى الَّذِي تصدق عَلَيْهِ.
وَقَوله: {إِنَّه غَفُور شكور} يُقَال: يغْفر الْكثير من الذُّنُوب، ويشكر الْيَسِير من الطَّاعَات.(4/357)
{لخبير بَصِير (31) ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق بالخيرات بِإِذن الله ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير (32) جنَّات}(4/358)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك من الْكتاب هُوَ الْحق مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ} أَي: من الْكتب الْمُتَقَدّمَة.
وَقَوله: {إِن الله بعباده لخبير بَصِير} أَي خَبِير بِمَا فِي ضمائرهم، بَصِير [بأفعالهم] .(4/358)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا} الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد من قَوْله: {الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا} هَذِه الْأمة، وَعَن بَعضهم: أَن المُرَاد مِنْهُ الْأَنْبِيَاء، وَعَن بَعضهم: أَن المُرَاد مِنْهُ بَنو إِسْرَائِيل، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَشْهُور.
وَقَوله: {وأورثنا الْكتاب} المُرَاد من الْكتاب: هُوَ الْقُرْآن.
وَمعنى الْآيَة: أى انْتهى إِلَيْهِم الْأَمر بإنزالنا عَلَيْهِم الْقُرْآن، وبإرسالنا مُحَمَّدًا إِلَيْهِم.
وَقَوله: {فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ} اخْتلف القَوْل فِي المُرَاد بالظالم، فَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بالظالم هُوَ الْكَافِر، ذكره الْكَلْبِيّ وَغَيره. وَعَن بَعضهم: أَن المُرَاد مِنْهُ الْمُنَافِق، فعلى هَذَا لَا يدْخل الظَّالِم فِي قَوْله: {جنَّات عدن يدْخلُونَهَا} وَقد رُوِيَ هَذَا القَوْل أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس أَنه حمل الظَّالِم على الْكَافِر.
وَالْقَوْل الْمَشْهُور أَن الظَّالِم لنَفسِهِ من الْمُؤمنِينَ، وعَلى هَذَا يَسْتَقِيم نسق الْآيَة، وعَلى القَوْل الأول يحمل قَوْله: {الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا} على الاصطفاء فِي الْخلقَة وإرسال الرَّسُول وإنزال الْكتاب، وعَلى القَوْل الثَّانِي يحمل الأصطفاء على الزِّيَادَة الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة من بَين سَائِر الْأُمَم. وَقد روى شهر بن جوشب أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: سَابِقنَا سَابق، وَمُقْتَصِدنَا نَاجٍ، وَظَالِمنَا مغْفُور. وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: السَّابِق هم الَّذين مضوا على عهد النَّبِي، والمقتصد هم الَّذين اتَّبَعُوهُمْ، والظالم مثلي وَمثلك، تَقول ذَلِك للمخاطب.(4/358)
{عدن يدْخلُونَهَا يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فِيهَا حَرِير (33)
وَعَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: السَّابِق هُوَ الَّذِي لَا يُحَاسب أصلا يَوْم الْقِيَامَة، والمقتصد هُوَ الَّذِي يُحَاسب حسابا يَسِيرا وَيدخل الْجنَّة، والظالم هُوَ الَّذِي يُحَاسب حسابا شَدِيدا وَيدخل النَّار ثمَّ ينجو.
وَعَن بَعضهم: أَن الظَّالِم لنَفسِهِ هم أَصْحَاب المشأمة، والمقتصد هم أَصْحَاب الميمنة، وَالسَّابِقُونَ هم المقربون، ذكره السّديّ، فعلى هَذَا الظَّالِم لنَفسِهِ كَافِر. وَعَن بَعضهم: أَن الظَّالِم لنَفسِهِ هم أَصْحَاب الْكَبَائِر، والمقتصد هم أَصْحَاب الصَّغَائِر، وَالسَّابِق هُوَ الَّذِي لم يرتكب صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة، وَعبر بَعضهم عَن هَذَا؛ قَالَ: المقتصد هم أَصْحَاب التَّوَسُّط فِي الطَّاعَات، فعلى هَذَا من غلبت سيئاته على حَسَنَاته فَهُوَ ظَالِم، وَمن اسْتَوَت سيئاته وحسناته فَهُوَ مقتصد، وَمن غلبت حَسَنَاته على سيئاته فَهُوَ سَابق، وَهَذَا قَول مَعْرُوف مأثور [عَن رَسُول الله] .
وَعَن بَعضهم قَالَ: الظَّالِم آدم، والمقتصد إِبْرَاهِيم، وَالسَّابِق هُوَ مُحَمَّد. وَقَالَ بَعضهم: الظَّالِم هُوَ المريد، والمقتصد هُوَ الْمُحب، وَالسَّابِق هُوَ الواله. وَقَالَ بَعضهم: الظَّالِم هُوَ الَّذِي همه نَفسه وَالدُّنْيَا، والمقتصد هُوَ الَّذِي همه الْجنَّة، وَالسَّابِق هُوَ الَّذِي همه ربه.
وَعَن بَعضهم قَالَ: الظَّالِم هُوَ الْوَاقِف، والمقتصد هُوَ السائر، وَالسَّابِق هُوَ الْوَاصِل. وَفِي الْآيَة كَلَام كثير.
وَقَوله: { [وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق] بالخيرات بِإِذن الله} أَي: بالطاعات: بِعلم الله.
وَقَوله: {ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير} أَي: الْفضل الْعَظِيم.(4/359)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
قَوْله تَعَالَى: {جنَّات عدن يدْخلُونَهَا} رُوِيَ عَن جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ(4/359)
{وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن إِن رَبنَا لغَفُور شكور (34) الَّذِي أحلنا دَار المقامة من فَضله لَا يمسنا فِيهَا نصب وَلَا يمسنا فِيهَا لغوب (35) وَالَّذين كفرُوا لَهُم} أَنه قَالَ: أَرْجَى آيَة فِي كتاب الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة؛ لِأَنَّهُ جمع بَين الظَّالِم والمقتصد وَالسَّابِق، ثمَّ قَالَ: {جنَّات عدن يدخلوها} وَعَن بَعضهم قَالَ: إِن الْوَاو فِي قَوْله: {يدْخلُونَهَا} أحب إِلَيّ من كَذَا وَكَذَا. وَعَن كثير من السّلف أَنهم قَالُوا: كل هَؤُلَاءِ من هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب} ظَاهر الْمَعْنى. والأساور: جمع السوار.
وَقَوله: {ولؤلؤ} أَي: من ذهب ولؤلؤ، وَقُرِئَ: " ولؤلؤا " بِالنّصب أَي: يحلونَ لؤلؤا.
وَقَوله: {ولباسهم فِيهَا حَرِير} أَي: الديباج. وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " من لبس الْحَرِير فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة "، وَقَالَ: " هُوَ لَهُم فِي الدُّنْيَا، وَلنَا فِي الْآخِرَة ".(4/360)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن} قَالَ ابْن عَبَّاس: حزن النَّار. وَعَن قَتَادَة: حزن الْمَوْت. وَعَن بَعضهم: هم الْمَعيشَة.
وَقَالَ مُجَاهِد: هم الْخبز. وَالْأولَى أَن يحمل على جَمِيع الأحزان، فهم ينجون عَن كلهَا، وَمن الْمَعْرُوف أَن الْحزن: هُوَ حزن أهوال الْقِيَامَة.
وَقَوله: {إِن رَبنَا لغَفُور شكور} قد بَينا.(4/360)
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي أحلنا دَار المقامة من فَضله} قد بَينا معنى المقامة والمقامة.
وَقَوله تَعَالَى: {لَا يمسنا فِيهَا نصب وَلَا يمسنا فِيهَا لغوب} أَي: تَعب وإعياء.(4/360)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كفرُوا لَهُم نَار جَهَنَّم لَا يقْضى عَلَيْهِم فيموتوا} أَي: لَا يقْضِي عَلَيْهِم الْمَوْت فيموتوا.
وَقَوله: {وَلَا يُخَفف عَنْهُم من عَذَابهَا} أَي: من عَذَاب النَّار.(4/360)
{نَار جَهَنَّم لَا يقْضى عَلَيْهِم فيموتوا وَلَا يُخَفف عَنْهُم من عَذَابهَا كَذَلِك نجزي كل كفور (36) وهم يصطرخون فِيهَا رَبنَا أخرجنَا نعمل صَالحا غير الَّذِي كُنَّا نعمل أَو لم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر وَجَاءَكُم النذير فَذُوقُوا فَمَا للظالمين من نصير (37) }
وَقَوله: {كَذَلِك نجزي كل كفور} أَي: كفور للنعمة.(4/361)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
قَوْله تَعَالَى: {وهم يصطرخون فِيهَا} يصطرخون يفتعلون من الصُّرَاخ، وَهُوَ الصياح.
وَقَوله: {رَبنَا أخرجنَا} أَي: يصطرخون وَيَقُولُونَ: {رَبنَا أخرجنَا نعمل صَالحا غير الَّذِي كُنَّا نعمل} أَي: نعمل من الصَّالِحَات بدل مَا كُنَّا نعمل من السَّيِّئَات.
وَقَوله: {أَو لم نُعَمِّركُمْ} أَي: يَقُول الله تَعَالَى لَهُم: {أَو لم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر} مَعْنَاهُ: أَو لم نُعَمِّركُمْ الْعُمر الَّذِي يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر. وَاخْتلف القَوْل فِي ذَلِك الْعُمر؛ فالأكثرون على أَنه سِتُّونَ سنة، (وَهَذَا) مَرْوِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَقد روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من عمره الله سِتِّينَ سنة فقد أعذر إِلَيْهِ فِي الْعُمر ". وَعَن بَعضهم: أَنه أَرْبَعُونَ سنة. وَعَن بَعضهم: ثَمَانِيَة عشر سنة. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الْبلُوغ. وَعَن بَعضهم: هُوَ سَبْعُونَ سنة؛ لِأَنَّهُ، عِنْد ذَلِك يدْخل فِي الْهَرم.
وَقَوله: {وَجَاءَكُم النذير} أَي: مُحَمَّد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الشيب، حكى ذَلِك عَن وهب بن مُنَبّه وَغَيره. وَفِي الْأَثر: مَا من شَعْرَة تبيض إِلَّا قَالَت لأختها: يَا أُخْتِي، استعدي فقد قرب الْمَوْت. وَقَالَ بَعضهم: الشيب (حطام) الْمنية. وَسَماهُ بَعضهم بريد الْمَوْت.(4/361)
{إِن الله عَالم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (38) هُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف فِي الأَرْض فَمن كفر فَعَلَيهِ كفره وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم عِنْد رَبهم إِلَّا مقتا وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم إِلَّا خسارا (39) قل أَرَأَيْتُم شركاءكم الَّذين تدعون من دون}
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن قَوْله: {وَجَاءَكُم النذير} كل مَا ينذر ويخوف بهَا. وَفِي غَرِيب التَّفْسِير: أَنه الْحمى. وَقيل أَيْضا: هُوَ الْعقل.
وَقَوله: {فَذُوقُوا فَمَا للظالمين من نصير} أَي: نَاصِر.(4/362)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الله عَالم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض} (الْآيَة) ظَاهر الْمَعْنى.(4/362)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف فِي الأَرْض} أَي: يخلف بَعْضكُم بَعْضًا، وكل من تَلا إنْسَانا، وَقَامَ بعده فَهُوَ خَلِيفَته، وَلِهَذَا سمي أَبُو بكر خَليفَة رَسُول الله؛ لِأَنَّهُ قَامَ بِالْأَمر بعده، وَإِلَّا فَعِنْدَ أهل الْعلم أَن الرَّسُول توفّي، وَلم يسْتَخْلف أحدا. وَمن هَذَا قَول عمر رَضِي الله عَنهُ حِين حَضرته الْوَفَاة. وَقيل لَهُ: اسْتخْلف. فَقَالَ: إِن لم أستخلف فَلم يسْتَخْلف رَسُول الله، وَإِن اسْتخْلف فقد أستخلف أَبُو بكر، وَهَذَا قو ل ثَابت عَن عمر.
وَقَوله: {فَمن كفر فَعَلَيهِ كفره} أَي: فَعَلَيهِ وبال كفره.
وَقَوله: {وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم عِنْد رَبهم إِلَّا مقتا} أَي: بغضا. وَقيل: مَا يُوجب لَهُم المقت.
وَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم إِلَّا خسارا} أَي: خسرانا.(4/362)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم شركاءكم الَّذين تدعون من دون الله} أَي: الَّذين جعلتموهم شركائي على زعمكم من الْأَصْنَام وَالْمَلَائِكَة.
وَقَوله: {اروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض} أَي: أعلموني.
وَقَوله: {أم لَهُم شرك فِي السَّمَوَات} أَي: شركَة.(4/362)
{الله أروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض أم لَهُم شرك فِي السَّمَوَات أم آتَيْنَاهُم كتابا فهم على بَيِّنَة مِنْهُ بل إِن يعد الظَّالِمُونَ بَعضهم بَعْضًا إِلَّا غرُورًا (40) إِن الله يمسك السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا وَلَئِن زالتا إِن أمسكهما من أحد من بعده إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) }
وَقَوله: {أم آتَيْنَاهُم كتابا فهم على بَيِّنَة مِنْهُ} أَي: على دَلَائِل وَاضِحَة مِنْهُ.
وَقَوله: {بل إِن يعد الظَّالِمُونَ} أَي: مَا يعد الظَّالِمُونَ بَعضهم بَعْضًا إِلَّا غرُورًا، والغرور كل مَا يغر الْإِنْسَان مِمَّا لَا أصل لَهُ.(4/363)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يمسك السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا} مَعْنَاهُ: لِئَلَّا تَزُولَا، وَقيل: كَرَاهَة أَن تَزُولَا.
وَقَوله: {وَلَئِن زالتا إِن أمسكهما من أحد من بعده} أَي: لَا يمسكهما أحد سواهُ، فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: {وَلَئِن زالتا} وَهِي لَا تَزُول؟
وَالْجَوَاب: أَن الله تَعَالَى قد قَالَ: {تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا أَن دعوا للرحمن ولدا} وَالله تَعَالَى يمسكهما عَن هَذِه الْأَشْيَاء. وَفِي بعض الْآثَار: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: يَا رب، كَيفَ أعلم [أَنَّك] لَا تنام؟ فَوضع فِي يَدَيْهِ قَارُورَتَيْنِ على مَا ذكرنَا.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الأَرْض ثَقيلَة متسلفة، وَالسَّمَاء خَفِيفَة مستطيرة، وَقد ألصق الله تَعَالَى أَطْرَاف السَّمَوَات بأطراف الْأَرْضين، فالسماء تمنع الأَرْض بتصعدها عَن التسفل، وَالْأَرْض تمنع السَّمَاء بثقلها عَن الصعُود، حَكَاهُ النقاش، وَالله أعلم.
وَقَوله: {إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} فَإِن قيل: مَا معنى ذكر الْحلم هَا هُنَا؟
قُلْنَا: لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء هَمت بِمَا هَمت عُقُوبَة للْكفَّار، فَأَمْسكهَا الله تَعَالَى، وَلم يَدعهَا أَن تَزُول تركا للمعالجة فِي الْعقُوبَة، وَكَانَ ذَلِك حلما مِنْهُ جلّ جَلَاله.(4/363)
{وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانكُم لَئِن جَاءَهُم نَذِير لَيَكُونن أهْدى من إِحْدَى الْأُمَم فَلَمَّا جَاءَهُم نَذِير مَا زادهم إِلَّا نفورا (42) استكبارا فِي الأَرْض ومكر السَّيئ وَلَا يَحِيق الْمَكْر السَّيئ إِلَّا بأَهْله فَهَل ينظرُونَ إِلَّا سنت الْأَوَّلين فَلَنْ تَجِد لسنت الله تبديلا وَلنْ تَجِد لسنت الله تحويلا (43) أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين}(4/364)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)
قَوْله تَعَالَى: {وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم} هَذَا فِي مُشْركي مَكَّة، فَإِنَّهُم كَانُوا قَالُوا: لَو جَاءَنَا نَذِير لَكنا أهْدى أَي: أقبل للْكتاب، وألزم لَهُ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَلم يفوا بِمَا قَالُوا حِين جَاءَهُم الرَّسُول، فَأنْزل الله تَعَالَى فِي شَأْنهمْ، فَهُوَ معنى قَوْله: {لَئِن جَاءَهُم نَذِير لَيَكُونن أهْدى من إِحْدَى الْأُمَم} أَي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
وَقَوله: {فَلَمَّا جَاءَهُم نَذِير} أَي: مُحَمَّد {مَا زادهم إِلَّا نفورا} أَي: مَا زادهم الْمَجِيء إِلَّا نفورا.(4/364)
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
قَوْله تَعَالَى: {استكبارا فِي الأَرْض} يَعْنِي: أَنهم ردوا مَا ردوا استكبارا فِي الأَرْض.
وَقَوله: {ومكر السَّيئ} أَي: وَفعل الْمَكْر السَّيئ، وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " ومكرا سَيِّئًا ". وَفِي الْمَكْر السَّيئ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الشّرك، وَالْآخر: أَنه الْمَكْر برَسُول الله.
وَقَوله: {وَلَا يَحِيق الْمَكْر السَّيئ إِلَّا بأَهْله} أَي: لَا تنزل عُقُوبَة الْمَكْر السَّيئ إِلَّا بأَهْله، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن وبال الْمَكْر رَاجع إِلَيْهِم.
وَقَوله: {فَهَل ينظرُونَ إِلَّا سنة الْأَوَّلين} (أَي: طَريقَة الْأَوَّلين) فِي الإهلاك ونزول الْعَذَاب لَهُم.
وَقَوله: {فَلَنْ تَجِد لسنة الله تبديلا وَلنْ تَجِد لسنة الله تحويلا} ظَاهر الْمَعْنى، وَالْمرَاد من التّكْرَار هُوَ التَّأْكِيد.(4/364)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم وَكَانُوا أَشد مِنْهُم قُوَّة وَمَا كَانَ الله ليعجزه} أَي: ليفوت عَنهُ.(4/364)
{من قبلهم وَكَانُوا أَشد مِنْهُم قُوَّة وَمَا كَانَ الله ليعجزه من شَيْء فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض إِنَّه كَانَ عليما قَدِيرًا (44) وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بِمَا كسبوا مَا ترك على ظهرهَا من دَابَّة وَلَكِن يؤخرهم إِلَى أجل مُسَمّى فَإِذا جَاءَ أَجلهم فَإِن الله كَانَ بعباده بَصيرًا (45) } .
وَقَوله: {من شَيْء فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض إِنَّه كَانَ عليما قَدِيرًا} ظَاهر الْمَعْنى.(4/365)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بِمَا كسبوا} من القبائح والمعاصي.
وَقَوله: {مَا ترك على ظهرهَا من دَابَّة} أَي: على ظهر الأَرْض بِمَا كسب النَّاس من الذُّنُوب. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: إِن الْجعل تعذب فِي حجرها بذنب ابْن آدم.
وَقَوله: {وَلَكِن يؤخرهم إِلَى أجل مُسَمّى} أَي: إِلَى مُدَّة مَعْلُومَة.
وَقَوله: {فَإِذا جَاءَ أَجلهم فَإِن الله كَانَ بعباده بَصيرًا} أَي: بَصيرًا بأعمالهم يجازيهم عَلَيْهَا، الْحَسَنَة بِالْحَسَنَة، والسيئة بِالسَّيِّئَةِ.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يس (1) وَالْقُرْآن الْكَرِيم (2) إِنَّك لمن الْمُرْسلين (3) على صِرَاط مُسْتَقِيم}
تَفْسِير سُورَة يس
وَهِي مَكِّيَّة، وروى مقَاتل بن حَيَّان، عَن قَتَادَة، عَن أنس، عَن النَّبِي قَالَ: " إِن لكل شَيْء قلبا، وَإِن قلب الْقُرْآن سُورَة يس، وَمن قَرَأَ سُورَة يس أعطَاهُ الله ثَوَاب قِرَاءَة الْقُرْآن عشر مَرَّات.
وَالْخَبَر غَرِيب أوردهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامعه، وَالله أعلم.(4/365)
يس (1)
قَوْله تَعَالَى: {يس} قَالَ ابْن عَبَّاس: قسم أقسم الله بِهِ، وَقَالَ قَتَادَة: اسْم للسورة، وَقَالَ مُجَاهِد: يس من فواتح الْقُرْآن، وَقَالَ (الْحسن) وَسَعِيد بن جُبَير وَالضَّحَّاك وَجَمَاعَة معنى قَوْله: {يس} يَا إِنْسَان، وَهَذَا هُوَ أشهر الْأَقَاوِيل، قَالَ ثَعْلَب: هُوَ يَا إِنْسَان بلغَة طي، وَقَالَ غَيره: بلغَة كلب، وَقَرَأَ عِيسَى بن عمر: " يسن " بِالنّصب، وَيُقَال مَعْنَاهُ: يَا مُحَمَّد.(4/365)
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
وَقَوله: {وَالْقُرْآن الْحَكِيم} يَعْنِي: وَالْقُرْآن الَّذِي أحكم بِالْأَمر وَالنَّهْي وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب،(4/365)
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)
وَقَوله، {إِنَّك لمن الْمُرْسلين} على هَذَا وَقع الْقسم؛ فَكَأَن الله تَعَالَى أقسم بِالْقُرْآنِ أَن مُحَمَّدًا من الْمُرْسلين.
وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: سمى الله رَسُوله مُحَمَّدًا فِي(4/365)
( {4) تَنْزِيل الْعَزِيز الرَّحِيم (5) لتنذر قوما مَا أنذر آباؤهم فهم غافلون (6) لقد حق القَوْل على أَكْثَرهم فهم لَا يُؤمنُونَ (7) إِنَّا جعلنَا فِي أَعْنَاقهم أغلالا فَهِيَ إِلَى} الْقُرْآن بسبعة أَسمَاء: مُحَمَّد، وَأحمد، وطه، وَيس، والمدثر، والمزمل، وَعبد الله.(4/367)
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
وَقَوله: {على صِرَاط مُسْتَقِيم} فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنه خبر بعد خبر، وَالْآخر أَن مَعْنَاهُ: إِنَّك لمن الْمُرْسلين الَّذين هم على صِرَاط مُسْتَقِيم.(4/367)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
وَقَوله: {تَنْزِيل الْعَزِيز الرَّحِيم} أَي: هُوَ تَنْزِيل الْعَزِيز الرَّحِيم، وَقُرِئَ: " تَنْزِيل " بِنصب اللَّام أَي: أنزلهُ الله تَنْزِيل الْعَزِيز الرَّحِيم.(4/367)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {لتنذر قوما مَا أنذر آباؤهم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن " مَا " للنَّفْي، وَالْمعْنَى. لم ينذر آباؤهم أصلا؛ فَإِن الله تَعَالَى مَا بعث إِلَى قُرَيْش سوى النَّبِي.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " مَا " هَا هُنَا بِمَعْنى الَّذِي، فَمَعْنَى الْآيَة على هَذَا لتنذر قوما بِالَّذِي أنذر آباؤهم.
وَقَوله: {فهم غافلون} أَي: عَن الْإِنْذَار، وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره عَن النَّبِي " أَن مُضر كَانَ قد أسلم ".
وَحكى أَبُو عُبَيْدَة أَن تميما كَانَ يكنى أَبَا زيد، وَكَانَ لَهُ صنم يعبده، فَأسلم وَدفن صنمه، ثمَّ إِن ابْنه زيدا استخرج الصَّنَم من ذَلِك الْمَكَان، وَعَبده فَسمى زيد مَنَاة.(4/367)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {لقد حق القَوْل} أَي: وَجب القَوْل على أَكْثَرهم، وَمعنى وجوب القَوْل هُوَ وجوب الحكم بِالْعَذَابِ، وَقَوله: { [على أَكْثَرهم] فهم لَا يُؤمنُونَ} أَي: لَا يصدقون.(4/367)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا جعلنَا فِي أَعْنَاقهم أغلالا} فَإِن قيل: الغل إِنَّمَا يكون على الْيَد! وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْعَادة أَن الْيَد تغل إِلَى الْعُنُق، فَذكر الْأَعْنَاق لهَذَا الْمَعْنى، وَاكْتفى(4/367)
{الأذقان فهم مقحمون (8) وَجَعَلنَا من بَين أَيْديهم سدا وَمن خَلفهم سدا فأغشيناهم} بذكرها عَن ذكر الْأَيْدِي، قَالَ الْأَزْهَرِي: معنى الْآيَة: إِنَّا جعلنَا فِي أَعْنَاقهم وأيديهم أغلالا، فَهِيَ كِنَايَة عَن الْأَيْدِي.
فَإِن قيل: فَكيف يكنى عَن الْأَيْدِي وَلم يجر لَهَا ذكر؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْعَرَب تكني عَن الشَّيْء وَإِن لم تجر لَهُ ذكرا، إِذا كَانَ مَعْلُوما.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا ... أُرِيد الْخَيْر أَيهمَا يليني)
(أألخير الَّذِي أَنا أبتغيه ... أم الشَّرّ الَّذِي هُوَ يبتغيني)
فقد كنى بقوله: أَيهمَا عَن الشَّرّ وَالْخَيْر، وَالشَّر غير مَذْكُور.
وَقَوله: {إِلَى الأذقان} مَعْنَاهُ: إِلَى الْأَعْنَاق إِلَّا أَنه ذكر الأذقان لقرب الْأَعْنَاق من الأذقان، وَقَوله: {فهم مقحمون} المقمح: هُوَ الَّذِي رفع رَأسه وغض طرفه، وَالْعرب تسمى الكانونين شَهْري القماح؛ لِأَن الْإِبِل ترد المَاء وتشرب، فَترفع رَأسهَا من شدَّة الْبرد، قَالَ الشَّاعِر:
(وَنحن على جوانبه قعُود ... نغض الطّرف كَالْإِبِلِ القماح)
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " إِنَّا جعلنَا فِي أَيْمَانهم أغلالا "، وَهِي قِرَاءَة مَعْرُوفَة عَنهُ.(4/368)
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا من بَين أَيْديهم سدا} وَقُرِئَ: " سدا " بِرَفْع السِّين.
قَالَ عِكْرِمَة: مَا كَانَ من صنع الله فَهُوَ سد، وَمَا كَانَ من صنع المخلوقين فَهُوَ سد، وَقَالَ غَيره: السد مَا يرى، والسد مَا لَا يرى، وَمِنْهُم من لم يفرق بَينهمَا، وَقَالَ هما بِمَعْنى وَاحِد.
قَالَ أهل التَّفْسِير: ذكر السد هَا هُنَا على طَرِيق ضرب الْمثل، وَكَذَلِكَ ذكر الأغلال فِي الْآيَة الأولى على قَول بَعضهم، وَالْمعْنَى من ذكر الأغلال مَنعهم عَن الْإِنْفَاق فِي(4/368)
{فهم لَا يبصرون (9) وَسَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ (10) إِنَّمَا تنذر من اتبع الذّكر وخشي الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فبشره بمغفرة وَأجر كريم (11) إِنَّا نَحن} سَبِيل الله. وَالْمعْنَى من السد هُوَ الْمَنْع من الْهِدَايَة. وَذكر بَعضهم: أَن الْآيَة نزلت على سَبَب، وَهُوَ أَن قوما من بني مَخْزُوم تشاوروا فِي قتل النَّبِي، فجَاء أحدهم ليَقْتُلهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاة؛ فَجعل يسمع صَوته وَلَا يرى شخصه، وَجَاء آخر فَرَأى شَيْئا عَظِيما يَقْصِدهُ بِالْهَلَاكِ، فخاف وَرجع، وَيُقَال: إِن الثَّانِي كَانَ أَبُو جهل عَلَيْهِ لعنة الله، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة فِي هَذَا، وَهُوَ قَوْله " {وَجَعَلنَا من بَين أَيْديهم سدا} .
وَقَوله: {فأغشيناهم} من التغشية والتغطية، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَعمر بن عبد الْعَزِيز " فأغشيناهم " بِالْعينِ غير الْمُعْجَمَة، من قَوْله تَعَالَى: {وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا [فَهُوَ لَهُ قرين] } أَي: تعمى، فَمَعْنَى قَوْله: [ {أغشيناهم} ] أَي: أعميناهم.
وَقَوله: {فهم لَا يبصرون} أى: طَرِيق الْحق.(4/369)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَسَوَاء عَلَيْهِم أانذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ} هَذَا فِي أَقوام بأعيانهم، وَقد مضوا وَلم يُؤمنُوا على مَا قَالَ الله تَعَالَى.(4/369)
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا تنذر من اتبع الذّكر} أَي: اسْتمع الذّكر، وَهُوَ الْقُرْآن، وَاتبع مَا فِيهِ، وَقَوله: {وخشي الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} أَي: خَافَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ.
وَقَوله تَعَالَى: {فبشره بمغفرة وَأجر كريم} أَي: الْجنَّة.(4/369)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا نَحن نحيي الْمَوْتَى} أَي: فِي الْآخِرَة، وَيُقَال: يحيي الْقُلُوب الْميتَة بِنور الْإِيمَان، وَقَوله: {ونكتب مَا قدمُوا} أَي: مَا عجلوا.
وَقَوله: {وآثارهم} أَي: ونكتب آثَارهم، وَفِي آثَارهم قَولَانِ:(4/369)
{نحيي الْمَوْتَى ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم وكل شَيْء أحصيناه فِي إِمَام مُبين (12) وَاضْرِبْ لَهُم مثلا أَصْحَاب الْقرْيَة إِذْ جاءها المُرْسَلُونَ (13) إِذْ أرسلنَا إِلَيْهِم اثْنَيْنِ} أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهَا مَا سنوا من سنة حَسَنَة أَو سَيِّئَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وآثارهم} أَي: الخطا إِلَى الْمَسَاجِد، وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن بني سَلمَة كَانَت مَنَازِلهمْ فِي نَاحيَة من الْمَسْجِد أَي: بعيدَة؛ فأرادوا أَن يَنْتَقِلُوا إِلَى قرب الْمَسْجِد، وَقَالَ لَهُم النَّبِي: مَنَازِلكُمْ، مَنَازِلكُمْ، تكْتب آثَاركُم، فتركوا الِانْتِقَال ".
وَقد ورد فِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، لَا ينقص من أُجُورهم شَيْء، وَمن سنّ سنة سَيِّئَة فَلهُ وزرها ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، لَا ينقص من أوزارهم شَيْء ".
وَقَوله: {وكل شَيْء أحصيناه فِي إِمَام مُبين} أَي: جمعناه فِي كتاب مُبين، وَالْإِمَام الْمُبين هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ.(4/370)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
قَوْله تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُم مثلا} ضرب الْمثل هُوَ تَمْثِيل الْمثل، وَمعنى الْآيَة: وَاذْكُر لَهُم مثل حَالهم من قصَّة أَصْحَاب الْقرْيَة.
وَأما الْقرْيَة: فَأكْثر أهل التَّفْسِير أَن الْقرْيَة هِيَ أنطاكية، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ بلد من بِلَاد الرّوم، وَقَوله: {إِذْ جاءها المُرْسَلُونَ} فِي الْقِصَّة: أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَيْهِم برجلَيْن من الحواريين، ثمَّ بعث بثالث بعدهمَا، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى:(4/370)
(فكذبوهما فعززنا بثالث فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مرسلون (14) قَالُوا مَا أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا وَمَا أنزل الرَّحْمَن من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا تكذبون (15) قَالُوا رَبنَا يعلم إِنَّا إِلَيْكُم لمرسلون (16) وَمَا علينا إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين (17) قَالُوا إِنَّا تطيرنا بكم لَئِن لم تنتهوا لنرجمنكم)(4/371)
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
{إِذا أرسلنَا إِلَيْهِم اثْنَيْنِ فكذبوهما فعززنا بثالث} وَالثَّالِث كَانَ اسْمه شَمْعُون رَأس الحواريين، وَقَوله: {عززنا} أَي: شددنا وقوينا، وَقَرَأَ عَاصِم وَحده: " فعززنا " بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ فِي معنى الأول.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الْقَوْم كذبُوا الرسولين الْأَوَّلين وهموا بِقَتْلِهِمَا، فجَاء هَذَا الثَّالِث وتلطف الدُّخُول على الْملك، وَكَانَت قد توفيت ابْنَته ودفنت، فَقَالَ للْملك: اطلب من [هذَيْن] الرجلَيْن أَن يحييا ابْنَتك، فَإِن أحيياها فهما [صادقان] فَطلب مِنْهُمَا الْملك ذَلِك؛ فقاما وصليا [ودعيا] الله تَعَالَى، ودعا شَمْعُون مَعَهُمَا فِي السِّرّ، فأحيا الله تَعَالَى الْمَرْأَة، وَانْشَقَّ الْقرب عَنْهَا وَخرجت، وَقَالَت للْقَوْم: أَسْلمُوا، فَإِنَّهُمَا صادقان، وَلَا أظنكم تسلمون، ثمَّ طلبت من الرسولين أَن يرادها إِلَى مَكَانهَا، فذريا تُرَابا على رَأسهَا، وعادت إِلَى قبرها كَمَا كَانَت، وَلم يُؤمن الْقَوْم.(4/371)
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا مَا أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا وَمَا أنزل الرَّحْمَن من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا تكذبون} ظَاهر الْمَعْنى.(4/371)
قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا رَبنَا يعلم إِنَّا إِلَيْكُم لمرسلون} فَإِن قيل: كَيفَ يكون علم الله تَعَالَى أَنهم رسل الله حجَّة عَلَيْهِم؟
الْجَواب عَنهُ: أَن مَعْنَاهُ: رَبنَا يعلم إِنَّا إِلَيْكُم لمرسلون بِمَا أظهر على أَيْدِينَا من الْآيَات والمعجزات؛ فَصَارَت الْحجَّة قَائِمَة بِالْآيَاتِ والمعجزات، لَا بِنَفس الْعلم.(4/371)
وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)
وَقَوله: {وَمَا علينا إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} أَي: الإبلاغ الْبَين.(4/371)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا تطيرنا بكم} أَي: تشاءمنا بكم، وَفِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ(4/371)
{وليمسنكم منا عَذَاب أَلِيم (18) قَالُوا طائركم مَعكُمْ أئن ذكرْتُمْ بل أَنْتُم قوم مسرفون (19) وَجَاء من أقصا الْمَدِينَة رجل يسْعَى قَالَ يَا قوم اتبعُوا الْمُرْسلين (20) اتبعُوا من} حبس عَنْهُم الْمَطَر حِين جَاءَهُم هَؤُلَاءِ الرُّسُل.
وَاخْتلف القَوْل فِي أَنهم كَانُوا رسل الله أَو رسل عِيسَى، فأحد الْقَوْلَيْنِ: انهم كَانُوا رسل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا بَينا، وَالْقَوْل الآخر: أَنهم كَانُوا رسل الله.
قَوْله: {لَئِن لم تنتهوا لنرجمنكم} أَي: [لنقتلنكم] بِالْحِجَارَةِ، وَقيل: نشتمنكم، وَالْأول أولى.
وَقَوله: {وليمسنكم منا عَذَاب أَلِيم} أَي: مؤلم، والمؤلم هُوَ الموجع.(4/372)
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا طائركم مَعكُمْ} أَي: شؤمكم مَعكُمْ بكفركم وتكذيبكم الرُّسُل. وَقيل: طائركم مَعكُمْ أَي: أقداركم وَأَعْمَالكُمْ تَابِعَة إيَّاكُمْ، تَقول الْعَرَب: طَار بِمَعْنى صَار قَالَ الشَّاعِر:
(تطير غدائر الْإِشْرَاك شفعا ... ووترا والزعامة للغلام)
وَقيل: طائركم مَعكُمْ أَي: مَا طَار لكم من عمل خير أَو شَرّ فَهُوَ مَعكُمْ ولازم إيَّاكُمْ. وَقَوله: {أئن ذكرْتُمْ} مَعْنَاهُ: أئن ذكرْتُمْ بِاللَّه تطيرتم، وَقُرِئَ " أَن ذكرْتُمْ " أَي: لِأَن ذكرْتُمْ تطيرتم. وَقَوله: {بل أَنْتُم قوم مسرفون} أَي: مجاوزون الْحَد.(4/372)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَجَاء من أقْصَى الْمَدِينَة رجل يسْعَى} ذهب أَكثر الْمُفَسّرين أَنه كَانَ رجل يُسمى حبيب النجار، وَقَالَ السّديّ: كَانَ قصارا. وَعَن بَعضهم: أَنه كَانَ إسكافا قَالَ قَتَادَة: كَانَ رجلا يعبد الله فِي غَار؛ فَسمع بِخَبَر الرُّسُل فَجَاءَهُمْ، وَقَالَ: أتطلبون جعلا على رسالتكم؛ قَالُوا: لَا؛ فَأقبل على قومه، وَقَالَ لَهُم مَا قَالَ الله، وَهُوَ قَوْله: {يَا قوم اتبعُوا الْمُرْسلين} وَالْمَدينَة: هِيَ الْقرْيَة الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَهِي الأنطاكية.(4/372)
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
وَقَوله: {اتبعُوا من لَا يسألكم أجرا وهم مهتدون} ظَاهر الْمَعْنى.
وَعَن بَعضهم أَنه قَالَ: مسكن الْأَشْرَاف الْأَطْرَاف، وَاسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة، وَهُوَ قَوْله:(4/372)
{لَا يسألكم أجرا وهم مهتدون (21) وَمَا لي لَا أعبد الَّذِي فطرني وَإِلَيْهِ ترجعون (22) أأتخذ من دونه آلِهَة إِن يردن الرَّحْمَن بضر لَا تغن عني شفاعتهم شَيْئا وَلَا ينقذون (23) إِنِّي إِذا لفي ضلال مُبين (24) إِنِّي آمَنت بربكم فاسمعون (25) قيل ادخل الْجنَّة قَالَ يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ (26) بِمَا غفر لي رَبِّي وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين (27) } {وَجَاء من أقْصَى الْمَدِينَة رجل يسْعَى} أَي: من أبعد مَوضِع بِالْمَدِينَةِ.(4/373)
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لي لَا أعبد الَّذِي فطرني} مَعْنَاهُ: وَلم لَا أعبد الَّذِي فطرني {وَإِلَيْهِ ترجعون} .
فَإِن قيل: كَيفَ أضَاف الْفطْرَة إِلَى نَفسه وَالرُّجُوع إِلَيْهِم؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه أضَاف الْفطْرَة إِلَى نَفسه؛ لِأَن النِّعْمَة كَانَت عَلَيْهِ أظهر، وأضاف الرُّجُوع إِلَيْهِم؛ لِأَن الزّجر كَانَ بهم أَحَق، وَفِي ذكر الرُّجُوع معنى الزّجر.(4/373)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)
قَوْله تَعَالَى: {أأتخذ من دونه آلِهَة} اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار أَي: لَا أَتَّخِذ، وَقَوله: {إِن يردن الرَّحْمَن بضر} أَي: بِسوء ومكروه، وَقَوله: {لَا تغن عني شفاعتهم شَيْئا} أَي: لَا تغني عني الْأَصْنَام شَيْئا؛ لِأَنَّهُ لَا شَفَاعَة لَهُنَّ، وَقد كَانُوا يَزْعمُونَ الْكفَّار أَنَّهَا تشفع لَهُم يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {وَلَا ينقذون} أَي: لَا ينقذونني من الْعَذَاب لَو عذبني الله.(4/373)
إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
قَوْله: {إِنِّي إِذا لفي ضلال مُبين} أَي: فِي خطأ ظَاهر لَو فعلت هَذَا.(4/373)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي آمَنت بربكم فاسمعون} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مجازه فَاسْمَعُوا مني،(4/373)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
قَوْله: {قيل ادخل الْجنَّة} فِي التَّفْسِير: أَنه لما قَالَ هَذَا القَوْل وثب الْقَوْم عَلَيْهِ وثبة وَاحِدَة فوطئوه بأرجلهم حَتَّى قَتَلُوهُ، وَحكى هَذَا عَن ابْن مَسْعُود، وَيُقَال: وطئوه حَتَّى خرج قصبه من دبره؛ فَأدْخلهُ الله الْجنَّة، فَهُوَ ثمَّ حَيّ يرْزق، وَهُوَ معنى قَوْله: {قيل ادخل الْجنَّة} .
وَقَوله: {يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ بِمَا غفر لي رَبِّي} أَي: بمغفرة رَبِّي لي، قَالَ قَتَادَة:(4/373)
{وَمَا أنزلنَا على قومه من بعده من جند من السَّمَاء وَمَا كُنَّا منزلين (28) إِن كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذا هم خامدون (29) يَا حسرة على الْعباد مَا يَأْتِيهم من رَسُول إِلَّا} نصحهمْ حَيا وَمَيتًا، وَقَوله: {وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين} أَي: مِمَّن دخل الْجنَّة، وَمن أَدخل الْجنَّة فقد أكْرم، وَمن أَدخل النَّار فقد أهين.(4/374)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أنزلنَا على قومه من بعده من جند من السَّمَاء} أَي: من مَلَائِكَة، وَقَوله: {وَمَا كُنَّا منزلين} أَي: وَمَا كُنَّا لنفعل هَذَا، بل الْأَمر فِي هلاكهم كَانَ أيسر مِمَّا تظنون.(4/374)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {إِن كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة} أَي: مَا كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة. وَفِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَ ووقف على بَاب الْمَدِينَة وَصَاح بهم صَيْحَة فَخَروا ميتين كَأَن لم يَكُونُوا، وصاروا كرماد خامدين هامدين.
وَفِي الْأَخْبَار: أَن عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ لما أسلم اسْتَأْذن من رَسُول الله أَن يذهب لى قومه وهم ثَقِيف ويدعوهم إِلَى الْإِسْلَام، فَقَالَ رَسُول الله: " إِنِّي أخْشَى أَن يَقْتُلُوك، فَقَالَ: لَو كنت نَائِما مَا أيقظوني، ثمَّ إِنَّه ذهب إِلَيْهِم ودعاهم إِلَى الْإِسْلَام، فَرَمَاهُ رجل بِسَهْم فَأصَاب أكحله وَمَات، فَبلغ النَّبِي فَقَالَ: هُوَ فِي هَذِه الْأمة مثل صَاحب يس، وَهُوَ حبيب النجار ".(4/374)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)
قَوْله تَعَالَى: {يَا حسرة على الْعباد} فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم نِدَاء الْحَسْرَة، وَالْحَسْرَة لَا تعقل شَيْئا؟ وَأَيْضًا كَيفَ يتحسر الله تَعَالَى على الْعباد الَّذين أهلكهم،(4/374)
{كَانُوا بِهِ يستهزءون (30) ألم يرَوا كم أهلكنا قبلهم من الْقُرُون أَنهم إِلَيْهِم لَا يرجعُونَ (31) وَإِن كل لما جَمِيع لدينا محضرون (32) وَآيَة لَهُم الأَرْض الْميتَة أحييناها} وَلَا يجوز عَلَيْهِ هَذِه الصّفة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَول الْقَائِل يَا حسرة مثل قَوْله: يَا عجبا، وَكَذَلِكَ قَوْله: يَا حسرتاه، مثل قَوْله: يَا عجباه، وَالْعرب تَقول هَذَا على طَرِيق الْمُبَالغَة، والنداء عِنْدهم بِمَعْنى التَّنْبِيه، فيستقيم فِيمَن يعقل وفيمن لَا يعقل، وَقَوله: يَا عجباه أبلغ من قَوْلهم: أَنا أتعجب من كَذَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَيهَا الْعجب هَذَا وقتك، وأيها الْحَسْرَة هَذَا زَمَانك، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن هَذَا الزَّمَان زمَان الْحَسْرَة والتعجب.
وَأما قَوْله: إِن الْحَسْرَة على الله لَا تجوز، قُلْنَا: نعم، وَمعنى الْآيَة: يَا حسرة على الْعباد من أنفسهم؛ وَكَأَنَّهُم يتحسرون على أنفسهم غَايَة الْحَسْرَة، وَالْحَسْرَة هِيَ التلهف على أَمر فَائت بأبلغ وجوهه حَتَّى يبْقى الرجل حسيرا مُنْقَطِعًا من شدته، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يَا حسرة الْعباد " وَجَوَاب آخر: أَنه تَعَالَى قَالَ: {يَا حسرة على الْعباد} لأَنهم صَارُوا بِمَنْزِلَة يتحسر عَلَيْهِم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: يَا حسرة الرُّسُل وَالْمَلَائِكَة على الْعباد، وَالْجَوَاب الأول أحسن الْأَجْوِبَة.
وَقَوله: {مَا يَأْتِيهم من رَسُول إِلَّا كَانُوا بِهِ يستهزءون} أَي: استهزاء التَّكْذِيب.(4/375)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {ألم يرَوا كم أهلكنا} قَرَأَ ابْن مَسْعُود " ألم يرَوا من أهلكنا "، وَالْمَعْرُوف كم أهلكنا، وَهُوَ للتكثير.
وَقَوله: {قبلهم من الْقُرُون} اخْتلفُوا فِي مُدَّة الْقرن، وَقد بَينا من قبل، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي: أَنه قَالَ لعبد الله بن بسر الْمَازِني: " إِنَّك تعيش قرنا؛ فَعَاشَ مائَة سنة "، وَقَوله: {أَنهم إِلَيْهِم لَا يرجعُونَ} أَي: لَا يرجعُونَ إِلَى الدُّنْيَا.(4/375)
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كل لما} " إِن " هَا هُنَا بِمَعْنى: مَا، و " لما " بِمَعْنى: إِلَّا، فَمَعْنَى الْآيَة: وَمَا كل إِلَّا جَمِيع لدينا محضرون، وَفِي مصحف أبي بن كَعْب على هَذَا الْوَجْه.(4/375)
{وأخرجنا مِنْهَا حبا فَمِنْهُ يَأْكُلُون (33) وَجَعَلنَا فِيهَا جنَّات من نخيل وأعناب وفجرنا فِيهَا من الْعُيُون (34) ليأكلوا من ثمره وَمَا عملته أَيْديهم أَفلا يشكرون (35) سُبْحَانَ}(4/376)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {وَآيَة لَهُم الأَرْض الْميتَة} وَقُرِئَ: " الْميتَة " بِالتَّشْدِيدِ.
وَقَوله: {أحييناها} أَي: بالمطر.
وَقَوله: {وأخرجنا مِنْهَا حبا} أَي: الْحِنْطَة وَالشعِير وَمَا أشبه هَذَا، وَقَوله: {فَمِنْهُ يَأْكُلُون} أَي: من الْحبّ يَأْكُلُون.(4/376)
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)
وَقَوله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا فِيهَا جنَّات من نخيل وأعناب} أَي: فِي الأَرْض جنَّات من نخيل وأعناب.
وَقَوله: {وفجرنا فِيهَا من الْعُيُون ليأكلوا من ثمره} أَي: وفجرنا فِيهَا الْمِيَاه من الْعُيُون؛ ليأكلوا من الثَّمر الْحَاصِل بِالْمَاءِ.
وَقَوله: {وَمَا عملته أَيْديهم} أَي: وليأكلوا مِمَّا عملته أَيْديهم مِمَّا يحرثون ويزرعون ويغرسون، وَقُرِئَ: " وَمَا عملت أَيْديهم " بِمَعْنى الأول.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن " مَا " للنَّفْي هَا هُنَا، وَمَعْنَاهُ: أَنا رَزَقْنَاهُمْ مِمَّا لم تعمله أَيْديهم.
وَقَوله: {أَفلا يشكرون} يَعْنِي: هَذِه النعم.(4/376)
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الله الَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا} أى: الْأَصْنَاف كلهَا.
وَقَوله: {سُبْحَانَ الَّذِي} أَي: سبحوا الله الَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا. وَقَوله: {مِمَّا تنْبت الأَرْض وَمن أنفسهم وَمِمَّا لَا يعلمُونَ} أَي: من النَّبَات، وَالْحَيَوَان الَّذِي لَا يعلمونه.
وَذكر بعض أهل التَّفْسِير: أَن مَا لَا يعلمُونَ هَا هُنَا هُوَ الرّوح، وَالله تَعَالَى خلق الرّوح فِي النَّفس وَلَا يُعلمهُ أحد، وَذكر بَعضهم أَن قَوْله: {وَمَا عملته أَيْديهم} رَاجع إِلَى الْعُيُون، وَمن الْعُيُون والأنهار مَا لم تعلمهَا أَيدي الْخلق مثل: دجلة،(4/376)
{الَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا مِمَّا تنْبت الأَرْض وَمن أنفسهم وَمِمَّا لَا يعلمُونَ (36) وَآيَة لَهُم اللَّيْل نسلخ مِنْهُ النَّهَار فَإِذا هم مظلمون (37) وَالشَّمْس تجْرِي لمستقر لَهَا ذَلِك} والفرات، والنيل، وسيحان، وجيجان.(4/377)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
قَوْله تَعَالَى: {وَآيَة لَهُم اللَّيْل نسلخ مِنْهُ النَّهَار} أَي: نكشط ونزيل، وَمَعْنَاهُ: نَذْهَب بِالنَّهَارِ، وَنَجِيء بِاللَّيْلِ، فَكَأَنَّهُ استخرج مِنْهُ، وَقَوله: {فَإِذا هم مظلمون} أَي: داخلون فِي الظلمَة.(4/377)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّمْس تجْرِي لمستقر لَهَا} قَرَأَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا " وَالشَّمْس تجْرِي لمستقر لَهَا " أَي: تسير وتجري أبدا من غير قَرَار وَلَا وقُوف. وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة " لمستقر لَهَا " وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مستقرها هُوَ نِهَايَة دورانها إِذا قَامَت السَّاعَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مستقرها نِهَايَة ارتفاعها فِي السَّمَاء فِي الصَّيف، وَنِهَايَة هبوطها فِي الشتَاء، وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة الْأَعْمَش، عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن أَبِيه، عَن أبي ذَر أَنه قَالَ: " كنت عِنْد النَّبِي حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَر، أَتَدْرِي أَيْن تذْهب؟ قلت: الله وَرَسُوله أعلم، فَقَالَ: إِنَّهَا تذْهب وتستأذن فِي السُّجُود ". وَفِي رِوَايَة: " تذْهب إِلَى تَحت الْعَرْش وتستأذن فِي السُّجُود؛ فَيُؤذن لَهَا فِي السُّجُود، وَيُقَال لَهَا: اطلعِي من حَيْثُ كنت تطلعين، وَكَأَنَّهَا قد قيل لَهَا يَوْمًا يَا أَبَا ذَر: اطلعِي من حَيْثُ جِئْت؛ فَتَطلع من مغْرِبهَا، ثمَّ قَرَأَ النَّبِي قَوْله تَعَالَى: " وَذَلِكَ مُسْتَقر لَهَا ". قَالَ: وَفِي هَذَا الْخَبَر أَنه كَذَلِك فِي قِرَاءَة عبد الله بن مَسْعُود.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الْخَبَر عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس الطَّحَّان، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن مَحْبُوب، أخبرنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ، أخبرنَا(4/377)
{تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم (38) وَالْقَمَر قدرناه منَازِل حَتَّى عَاد كالعرجون الْقَدِيم (39) لَا} [هناد بن السّري، أخبرنَا] أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير، عَن الْأَعْمَش. . الْخَبَر.
وَقَوله: {ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى، وَذكر البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح بِرِوَايَة أبي ذَر أَيْضا: " أَنه سَأَلَ النَّبِي عَن قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّمْس تجْرِي لمستقر لَهَا} قَالَ: مستقرها تَحت الْعَرْش ".
وَذكر الْأَزْهَرِي فِي قَوْله: {تجْرِي لمستقر لَهَا} أَي: تجْرِي للأجل الَّذِي أجل لَهَا، وَالتَّقْدِير الَّذِي قدر لَهَا.(4/378)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
قَوْله تَعَالَى: {وَالْقَمَر قدرناه منَازِل} قرئَ بِالرَّفْع، وَقُرِئَ بِالنّصب، فَأَما بِالنّصب: وقدرنا الْقَمَر منَازِل، وَأما بِالرَّفْع فَمَعْنَاه: وَآيَة لَهُم الْقَمَر قدرناه منَازِل.
وروى أَن سعيد بن الْمسيب سمع رجلا ينشد:
(وَغَابَ قمير كنت أَرْجُو أفوله ... وروح رعيان ونوم سمر)
فَقَالَ: قَاتله الله، لقد صغر مَا عظمه الله، قَالَ الله تَعَالَى: {وَالْقَمَر قدرناه منَازِل} .
وَقَوله: {حَتَّى عَاد كالعرجون الْقَدِيم} قَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد: كعذق النَّخْلَة الْقَدِيمَة، وَالْأَكْثَرُونَ أَن العرجون هُوَ عود الكباسة إِذا دق ويبس وتقوس.
وَقَوله: {الْقَدِيم} هُوَ البال، وَيُقَال الْقَدِيم هُوَ الَّذِي مضى عَلَيْهِ حول.
وَأما منَازِل الْقَمَر فَهِيَ ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا: السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة،(4/378)
{الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار وكل فِي فلك يسبحون (40) } والعواء، والسماك، والغفر، والزبانا، والإكليل، وَالْقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وَسعد الذَّابِح، وَسعد بلع وَسعد السُّعُود، وَسعد الأخبية، وفزع الدَّلْو الْمُقدم وفزع الدَّلْو الْمُؤخر، وبطن الْحُوت.
فَهَذِهِ ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا للقمر ينزل كل لَيْلَة منزلا مِنْهَا، وَيكون أَرْبَعَة عشر مِنْهَا أبدا ظَاهِرَة، وَأَرْبَعَة عشر مِنْهَا غَائِبَة، كلما طلع منزل غَابَ منزل، وَيُقَال: الَّذِي يغرب رَقِيب الَّذِي يطلع، وَاثنا عشر مِنْهَا تكون فِي سَواد اللَّيْل من وَقت غرُوب الشَّمْس إِلَى وَقت طُلُوع الصُّبْح، وَاثْنَانِ مِنْهَا من عِنْد طُلُوع الصُّبْح إِلَى طُلُوع الشَّمْس.(4/379)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
قَوْله تَعَالَى: {لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر} أَي: لَا يدْخل اللَّيْل على النَّهَار قبل انقضائه، وَلَا يدْخل النَّهَار على اللَّيْل قبل انقضائه.
قَوْله: {وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار} أَي: يتعاقبان بِحِسَاب مَعْلُوم إِلَى أَن تَنْقَضِي الدُّنْيَا، وَيَقُول: لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر، يَعْنِي: لَا تطلع الشَّمْس بِاللَّيْلِ، وَلَا يطلع الْقَمَر بِالنَّهَارِ، وَيكون لَهُ ضوء، فَلَا يدْخل وَاحِد مِنْهُمَا فِي سُلْطَان الآخر.
وَقيل: لَا يذهب وَاحِد مِنْهُمَا بِمَعْنى الآخر، وَذكر يحيى بن سَلام أَن قَوْله تَعَالَى: {لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر} هَذَا لَيْلَة الْبَدْر خَاصَّة؛ فَإِن الشَّمْس لَا تطلع إِلَّا وَقد غَابَ الْقَمَر، فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي رُؤْيَة الْعين، وَيُقَال: لَا تُدْرِكهُ أَي: لَا يجْتَمع مَعَه فِي فلك وَاحِد؛ فَإِنَّهُم قَالُوا: إِن الشَّمْس فِي السَّمَاء الرَّابِعَة، وَالْقَمَر فِي السَّمَاء الدُّنْيَا.
وَقَوله: {وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار} أَي: لَا يتَّصل ليل بلَيْل لَا يكون بَينهمَا نَهَار فاصل.
وَقَوله: {وكل فِي فلك يسبحون} أَي: يجرونَ ويدورون.(4/379)
{وَآيَة لَهُم أَنا حملنَا ذُرِّيتهمْ فِي الْفلك المشحون (41) وخلقنا لَهُم من مثله مَا يركبون (42) وَإِن نَشأ نغرقهم فَلَا صريخ لَهُم وَلَا هم ينقذون (43) إِلَّا رَحْمَة منا ومتاعا إِلَى حِين (44) وَإِذا قيل لَهُم اتَّقوا مَا بَين أَيْدِيكُم وَمَا خلفكم لَعَلَّكُمْ ترحمون (45) وَمَا}(4/380)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
قَوْله تَعَالَى: {وَآيَة لَهُم أَنا حملنَا ذُرِّيتهمْ} أَي: آبَاءَهُم، هَكَذَا قَالَه ثَعْلَب وَغَيره، وَاسم الذُّرِّيَّة كَمَا يَقع على الْأَبْنَاء يَقع على الْآبَاء.
وَقَوله: {فِي الْفلك المشحون} أَي: الموفر، وَقيل: الممتلئ، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: المُرَاد بِالْآيَةِ أَنا حملناهم فِي بطُون الْأُمَّهَات، وَشبه بطُون الْأُمَّهَات بالسفن المشحونة.(4/380)
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)
قَوْله تَعَالَى: {وخلقنا لَهُم من مثله مَا يركبون} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهِ الزواريق الصغار والسفن الَّتِي تجْرِي فِي الْأَنْهَار، فَهِيَ فِي الْأَنْهَار كالسفن الْكِبَار فِي الْبَحْر، وَهَذَا القَوْل قَول قَتَادَة وَالضَّحَّاك وَغَيرهمَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى قَوْله: {وخلقنا لَهُم من مثله مَا يركبون} أَي: الْإِبِل، الْإِبِل فِي الْبَوَادِي كالسفن فِي الْبحار.(4/380)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن نَشأ نغرقهم فَلَا صريخ لَهُم} أى: لَا مغيث لَهُم (وَلَا هم ينقذون) أى: وَلَا هم ينجون،(4/380)
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
وَقَوله: {إِلَّا رَحْمَة منا} مَعْنَاهُ: أَن إنقاذهم برحمتنا.
وَقَوله: {ومتاعا إِلَى حِين} وليمتعوا إِلَى مُدَّة مَعْلُومَة.(4/380)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم اتَّقوا مَا بَين أَيْدِيكُم وَمَا خلفكم} أَي: اتَّقوا مَا بَين أَيْدِيكُم أَي: الْقِيَامَة فاحذروها {وَمَا خلفكم} أَي: الدُّنْيَا فَلَا تغتروا بهَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {اتَّقوا مَا بَين أَيْدِيكُم} أَي: اتَّقوا مثل عَذَاب الْأُمَم الَّذين كَانُوا بَين أَيْدِيكُم؛ لِئَلَّا يُصِيبكُم مثل مَا أَصَابَهُم.
وَقَوله: {وَمَا خلفكم} أَي: اتَّقوا عَذَاب النَّار، وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ ترحمون} أَي: كونُوا على رَجَاء الرَّحْمَة.(4/380)
{تأتيهم من آيَة من آيَات رَبهم إِلَّا كَانُوا عَنْهَا معرضين (46) وَإِذا قيل لَهُم أَنْفقُوا مِمَّا رزقكم الله قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ضلال مُبين (47) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (48) مَا ينظرُونَ إِلَّا}(4/381)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تأتيهم من آيَة من آيَات رَبهم إِلَّا كَانُوا عَنْهَا معرضين} أَي: معرضين بالجحد والتكذيب.(4/381)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم أَنْفقُوا مِمَّا رزقكم الله} أَي: مِمَّا أَعْطَاكُم الله.
وَقَوله: {قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ}
قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ بِمَكَّة زنادقة، فَكَانَ إِذا قيل لَهُم: أَنْفقُوا على الْفُقَرَاء مِمَّا (أَعْطَاكُم) الله؛ قَالُوا هَذَا القَوْل على سَبِيل الِاسْتِهْزَاء، وَعَن الْبَصْرِيّ قَالَ: هَذَا قَول الْيَهُود، وَكَانُوا يَقُولُونَ: كَيفَ نعطيهم وَقد أفقرهم الله تَعَالَى، وَلَو شَاءَ أَن يعطيهم أَعْطَاهُم؟ وَذكر القتيبي فِي كتاب " المعارف ": أَن أَبَا الْأسود الدؤَلِي كَانَ من خلقه أغناهم، فَهَذَا حجَّة البخلاء فِي الْبُخْل، وَهِي حجَّة بَاطِلَة؛ لِأَن الله تَعَالَى منع الدُّنْيَا من الْفُقَرَاء لَا بخلا وَلَكِن ابتلاء، وَأمر الْأَغْنِيَاء بِالْإِنْفَاقِ لَا بِحكم الْحَاجة إِلَى أَمْوَالهم لَكِن ابتلاء شكرهم.
وَقَوله: {إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ضلال مُبين} أَي: فِي خطأ بَين.(4/381)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي: وعد الْقِيَامَة.(4/381)
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
قَوْله تَعَالَى: {مَا ينظرُونَ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة تأخذهم وهم يخصمون} أَي: يختصمون، وَهَكَذَا فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب، وَيُقَال: هم يخصمون أَي: يتقاولون فِي حاجاتهم، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " إِن السَّاعَة تقوم وَالرجل يسْقِي مَاشِيَته، وَتقوم وَالرجل يلط حَوْضه، وَتقوم وَالرجل يعرض سلْعَته على البيع، وَتقوم وَالرجل قد رفع لقمته ليضعها فِي فِيهِ، فتقوم قبل أَن يَضَعهَا فِي فِيهِ ".(4/381)
{صَيْحَة وَاحِدَة تأخذهم وهم يخصمون (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ توصية وَلَا إِلَى أهلهم يرجعُونَ (50) وَنفخ فِي الصُّور فَإِذا همم من الأجداث إِلَى رَبهم يَنْسلونَ (51) قَالُوا يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا هَذَا مَا وعد الرَّحْمَن وَصدق المُرْسَلُونَ (52) إِن كَانَت إِلَّا}(4/382)
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ توصية} أَي: إيصاء وَقَوله: {وَلَا إِلَى أهلهم يرجعُونَ} أَي: يَنْقَلِبُون، وَالْمعْنَى: أَن السَّاعَة لَا تمهلهم بِشَيْء.(4/382)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
قَوْله تَعَالَى: {وَنفخ فِي الصُّور} الأول: هِيَ النفخة الأولى، وَالثَّانِي: هِيَ النفخة الْأُخْرَى، وَبَينهمَا أَرْبَعُونَ سنة.
وَقَوله: {فَإِذا هم من الأجداث إِلَى رَبهم يَنْسلونَ} أَي: من الْقُبُور.
وَقَوله: {إِلَى رَبهم يَنْسلونَ} أَي: يسرعون، قَالَ الشَّاعِر:
((عسلان) الذِّئْب أَمْسَى قاربا ... برد الَّيْلِ عَلَيْهِ فنسل)
وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(فسلى ثِيَابِي من ثِيَابك تنسل ... )
والنسلان فَوق الْمَشْي وَدون الْعَدو.(4/382)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
وَقَوله تَعَالَى: {قَالُوا يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا} قَالَ ابْن عَبَّاس: يرفع عَنْهُم الْعَذَاب مَا بَين النفختين. وَعَن أبي بن كَعْب قَالَ: ينامون نومَة قبل الْبَعْث. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: يرفع عَنْهُم الْعَذَاب فيهجعون ويرقدون.
وَعَن بَعضهم: أَن هَذَا القَوْل من الْمُؤمنِينَ. وَأظْهر الْقَوْلَيْنِ هُوَ القَوْل الأول، وَأَنه قَول الْكَافرين، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " من أهبنا من مرقدنا ".
وَقَوله: {هَذَا مَا وعد الرَّحْمَن} هُوَ قَول الْمُؤمنِينَ إِجَابَة للْكفَّار، وعَلى القَوْل الآخر قَول الْمُؤمنِينَ، ويجيبون بِهِ أنفسهم وَقَوله: {وَصدق المُرْسَلُونَ} ظَاهر.(4/382)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)
وَقَوله: {إِن كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذا هم جَمِيع لدينا محضرون} أَي:(4/382)
{صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذا هم جَمِيع لدينا محضرون (53) فاليوم لَا تظلم نفس شَيْئا وَلَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (54) إِن أَصْحَاب الْجنَّة الْيَوْم فِي شغل فاكهون (55) هم وأزواجهم فِي ظلال على الأرائك متكئون (56) لَهُم فِيهَا فَاكِهَة وَلَهُم مَا يدعونَ} حاضرون.(4/383)
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
قَوْله تَعَالَى: {فاليوم لَا تظلم نفس شَيْئا وَلَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(4/383)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
قَوْله تَعَالَى: {إِن أَصْحَاب الْجنَّة الْيَوْم فِي شغل} وَقُرِئَ: " فِي شغل " بِالْجَزْمِ، قَالَ ابْن عَبَّاس: فِي افتضاض الْأَبْكَار، وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: فِي ضرب الأوتار، وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف بَين الْمُفَسّرين.
وَالْقَوْل الثَّالِث: فِي شغل عَن عَذَاب أهل النَّار.
وَقَوله: {فاكهون} وَقُرِئَ: " فكهون " فَمنهمْ من قَالَ: هما بِمَعْنى وَاحِد مثل الحذر والحاذر، وَمِنْهُم من فرق بَينهمَا، قَالَ: الفكه هُوَ طيب النَّفس معجب بِحَالهِ، والفاكه هُوَ ذُو الْفَاكِهَة. والمزاح يُسمى فكاهة، قَالَ الحطيئة:
(وَدَعَوْتنِي وَزَعَمت أَنَّك لِابْنِ بالضيف تامر)
أَي: ذُو تمر، وَذُو لبن، وَقَالَ آخر:
(فكه إِلَى جنب الخوان إِذا غَدَتْ ... نكبا تقلع ثَابت الْأَطْنَاب)(4/383)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)
قَوْله تَعَالَى: {هم وأزواجهم فِي ظلال} الظلال: جمع الظل، وَقَوله: {على الأرائك} فِي التَّفْسِير: سرر من الذَّهَب مكللة بالدر والزبرجد والياقوت، عَلَيْهَا حجال.
قَالَ ثَعْلَب: لَا تكون الأرائك أريكة حَتَّى تكون تَحت حجلة.
وَقَوله: {متكئون} أَي: أَنهم ذَوُو اتكاة، وَذكر الاتكاء فِي الْجنَّة؛ لأَنهم لَا ينامون.(4/383)
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
قَوْله تَعَالَى: {لَهُم فِيهَا فَاكِهَة وَلَهُم مَا يدعونَ} أَي: مَا يتمنون، تَقول الْعَرَب: ادْع على مَا شِئْت أَي تمن على مَا شِئْت، قَالَ الْأَعْشَى:(4/383)
( {57) سَلام قولا من رب رَحِيم (58) وامتازوا الْيَوْم أَيهَا المجرمون (59) ألم أَعهد إِلَيْكُم يَا بني آدم أَن لَا تعبدوا الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (60) وَأَن اعبدوني هَذَا}
(ركا شهي نشأة الَّذِي ... سَار ملكه لَهُ مَا ادّعى)
(رَاح عَتيق مَا ادّعى ... )(4/384)
سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
قَوْله تَعَالَى: {سَلام قولا من رب رَحِيم} أَكثر الْمُفَسّرين أَن مَعْنَاهُ: يسلم الله عَلَيْهِم سَلاما. وَقَوله: {قولا} أَي: يَقُول قولا.
وَفِي رِوَايَة جَابر عَن النَّبِي قَالَ: " بَيْنَمَا أهل الْجنَّة فِي نعيمهم إِذْ سَطَعَ لَهُم نور وأشرف عَلَيْهِم رَبهم جلّ وَعلا فَيسلم عَلَيْهِم " الْخَبَر إِلَى آخِره، وَيُقَال: تسلم عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة من رَبهم، وَقيل: يعطيهم الله السَّلامَة، وَيَقُول: اسلموا السَّلامَة الأبدية، وَقَوله: {من رب رَحِيم} أَي: عطوف.(4/384)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
قَوْله تَعَالَى: {وامتازوا الْيَوْم أَيهَا المجرمون} أَي: امتازوا من الْمُؤمنِينَ. وَفِي التَّفْسِير: الْيَهُود قوم، وَالنَّصَارَى قوم، وَالْمَجُوس قوم، والصابئون قوم، وَالْمُشْرِكُونَ قوم، والمؤمنون قوم، وَالْمعْنَى أَن الله تَعَالَى يُمَيّز بَين أهل الصّلاح وَأهل الْفساد، وَبَين الْمُشْركين وَبَين الْمُؤمنِينَ، وَبَين الْمُنَافِقين وَبَين المخلصين.(4/384)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
قَوْله تَعَالَى: {ألم أَعهد إِلَيْكُم} أَي: ألم آمركُم {يَا بني آدم أَلا تعبدوا الشَّيْطَان} أَي: لَا تطيعوا الشَّيْطَان، وَعبادَة الشَّيْطَان طَاعَته، وَقَوله: {إِنَّه لكم عَدو مُبين} أَي: عَدو بَين الْعَدَاوَة.(4/384)
وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَقَوله: {وَأَن اعبدوني هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: طَرِيق مُسْتَقِيم على الْحق.(4/384)
{صِرَاط مُسْتَقِيم (61) وَلَقَد أضلّ مِنْكُم جبلا كثيرا أفلم تَكُونُوا تعقلون (62) هَذِه جَهَنَّم الَّتِي كُنْتُم توعدون (63) اصلوها الْيَوْم بِمَا كُنْتُم تكفرون (64) الْيَوْم نختم على}(4/385)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أضلّ مِنْكُم جبلا} وَقُرِئَ: " جبلا كثيرا "، وَقُرِئَ: " جبلا " بِرَفْع الْجِيم وَالْبَاء، وَمَعْنَاهُ: خلقا كثيرا، قَالَ الضَّحَّاك: عشرَة آلَاف فَمَا زَاد، وَعَن بَعضهم: خلقا كثيرا لَا يُحْصى عَددهمْ إِلَّا الله، وَقَوله: {أفلم تَكُونُوا تعقلون} يَعْنِي: أفلم تعقلوا آياتي، وتنظروا فِيهَا نظر من يعقل،(4/385)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)
قَوْله تَعَالَى: {هَذِه جَهَنَّم الَّتِي كُنْتُم توعدون} أَي: توعدون دُخُولهَا بكفركم.(4/385)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
قَوْله تَعَالَى: {اصلوها الْيَوْم} أَي: ادخلوها وقاسوا حرهَا [ {بِمَا كُنْتُم تكفرون} ] ،(4/385)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْم نختم على أَفْوَاههم} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا حِين يُنكر الْكفَّار كفرهم وتكذيبهم رسل الله، فيختم الله على أَفْوَاههم، وَيَأْذَن للجوارح فِي الشَّهَادَة بِمَا عملت، وَفِي الْمَشْهُور من الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول العَبْد يَوْم الْقِيَامَة: يَا رب، لَا أُجِيز على نَفسِي إِلَّا شَاهدا مني، فيختم الله على فَمه، وَيَقُول لجوارحه: انْطِقِي، فتتكلم الْجَوَارِح بِمَا عملت، ثمَّ يخلي بَينه وَبَين لِسَانه، فَيَقُول لجوارحه: بعدا لَكِن وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ أُنَاضِل ".
وَفِي الْخَبَر أَيْضا أَن النَّبِي قَالَ: " يجاء بِالنَّاسِ يَوْم الْقِيَامَة مفدمة أَفْوَاههم بالفدام، وَتشهد جوارحهم بِمَا عملت، فَأول مَا يشْهد فَخذ الْإِنْسَان وكفه ".(4/385)
{أَفْوَاههم وتكلمنا أَيْديهم وَتشهد أَرجُلهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَو نشَاء لطمسنا على أَعينهم فاستبقوا الصِّرَاط فَأنى يبصرون (66) وَلَو نشَاء لمسخناهم على مكانتهم فَمَا اسْتَطَاعُوا مضيا وَلَا يرجعُونَ (67) وَمن نعمره ننكسه فِي الْخلق أَفلا يعْقلُونَ}
وَقَوله: {وتكلمنا أَيْديهم وَتشهد أَرجُلهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قد بَينا.
وَقد أنكر بَعضهم كَلَام الْجَوَارِح، وَقَالَ: معنى الْكَلَام وجود دلَالَة تدل على أَنَّهَا قد عملت مَا عملت، وَالصَّحِيح أَنَّهَا تَتَكَلَّم حَقِيقَة، وَغير مستبعد كَلَام الْجَوَارِح فِي قدرَة الله تَعَالَى.(4/386)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو نشَاء لطمسنا على أَعينهم} أَي: أعميناهم، وَيُقَال: أضللناهم عَن الْهدى. قَالَ الْمبرد وثعلب: المطموس والطميس هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِي عَيْنَيْهِ شقّ.
قَوْله تَعَالَى: {فاستبقوا الصِّرَاط} أى: فتبادروا الطَّرِيق، وَقَوله: {فَأنى يبصرون} مَعْنَاهُ: من أَيْن يبصرون؟ وَقيل: فَكيف يبصرون؟(4/386)
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو نشَاء لمسخناهم على مكانتهم} أَي: جعلناهم قردة وَخَنَازِير فِي مَنَازِلهمْ، وَقيل: أقعدناهم من أَرجُلهم، وَقَوله: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مضيا} أَي: ذَاهِبًا، وَقَوله: {وَلَا يرجعُونَ} أَي: لَا يرجعُونَ إِلَى أَهَالِيهمْ.(4/386)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن نعمره ننكسه فِي الْخلق} وقرىء: ((ننكسه فِي الْخلق)) أى: وَمن نطل عمره ننكسه فِي الْخلق أَي: نرده إِلَى أرذل الْعُمر، وَيُقَال: التنكيس فِي الْخلق هُوَ ضعف الْجَوَارِح بعد قوتها، وَقَوله: {أَفلا يعْقلُونَ} مَعْنَاهُ: أَفلا يعْقلُونَ آياتي؟ .(4/386)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} قَالُوا: كَانَ الْمُشْركُونَ يَزْعمُونَ أَن مُحَمَّدًا شَاعِر، وَأَن الْقُرْآن شعر؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أَي: لَا يسهل وَلَا يتزن لَهُ شعر، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي أنْشد(4/386)
( {68) وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين (69) لينذر من كَانَ حَيا ويحق القَوْل على الْكَافرين (70) أَو لم يرَوا أَنا خلقنَا لَهُم مِمَّا عملت أَيْدِينَا أنعاما} يَوْمًا:
(كفى الْإِسْلَام والشيب للمرء ناهيا ... )
فَقَالَ أَبُو بكر: بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله هُوَ:
(كفى الشيب وَالْإِسْلَام للمرء ناهيا ... )
فَقَالَ النَّبِي: " كِلَاهُمَا وَاحِد " فَقَالَ أَبُو بكر: أشهد أَنَّك لَا تَقول الشّعْر، وَلَا يَنْبَغِي لَك ".
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي أنْشد شعر طرفَة:
(ستبدي لَك الْأَيَّام مَا كنت جَاهِلا ... ويأتيك بالأخبار من [لم] تزَود)
فَقَالَ النَّبِي: " ويأتيك من لم تزَود بالأخبار ".
وَقَوله: {إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين} أَي: تذكرة وَقُرْآن بَين.(4/387)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
قَوْله تَعَالَى: {لينذر من كَانَ حَيا} أَي: عَاقِلا، وَقيل: مُؤمنا، وَقَالَ قَتَادَة: حَيّ الْقلب، وَقَوله: {ويحق القَوْل على الْكَافرين} أَي: تجب حجَّة الْعَذَاب على الْكَافرين.(4/387)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا أَنا خلقنَا لَهُم مِمَّا عملت أَيْدِينَا} أَي: مِمَّا تولينا خلقه وإبداعه، وَالْأولَى فِي الْأَيْدِي أَن يُؤمن بهَا وَلَا تفسر.
وَقَوله: {أنعاما فهم لَهَا مالكون} أَي: ضابطون، وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ:(4/387)
{فهم لَهَا مالكون (71) وذللناها لَهُم فَمِنْهَا ركوبهم وَمِنْهَا يَأْكُلُون (72) وَلَهُم فِيهَا مَنَافِع ومشارب أَفلا يشكرون (73) وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة لَعَلَّهُم ينْصرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصرهم وهم لَهُم جند محضرون (75) فَلَا يحزنك قَوْلهم إِنَّا نعلم مَا}
((لست من أجمل الْأَنَام السَّلَام ... وَلَا أملك رَأس الْبَعِير إِذْ نَفرا))
أَي: أضبط.(4/388)
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
قَوْله تَعَالَى: {وذللناها لَهُم} أَي: جعلناها ذليلة لَهُم، وَقَوله: {فَمِنْهَا ركوبهم} الرّكُوب: مَا يركب، وَقَوله: {وَمِنْهَا يَأْكُلُون} ظَاهر الْمَعْنى.(4/388)
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم فِيهَا مَنَافِع ومشارب أَفلا يشكرون} أَي: فِي الْأَنْعَام مَنَافِع من الأصواف والأوبار والأشعار، وَقَوله: {ومشارب} أَي: من الألبان، وَقَوله: {أَفلا يشكرون} يَعْنِي: هَذِه النعم.(4/388)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)
قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة لَعَلَّهُم ينْصرُونَ} أَي: تدفع عَنْهُم الْعَذَاب،(4/388)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصرهم} أَي: لَا تَسْتَطِيع الْأَصْنَام دفع الْعَذَاب عَنْهُم.
وَقَوله: {وهم لَهُم جند محضرون} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وهم لَهُم جند أَي: الْكفَّار للأصنام جند وَأَتْبَاع.
القَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا فِي الْقِيَامَة، وَهُوَ أَنه يدعا بِكُل معبود عبد من دون الله، فيجاء بِهِ وَمَعَهُ أَتْبَاعه، وَالَّذين عبدوه كَأَنَّهُمْ جنده، وَقَوله: {فهم محضرون} أَي: يحْضرُون النَّار، وَمَعْنَاهُ: يدْخلُونَهَا.(4/388)
فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
قَوْله: {فَلَا يحزنك قَوْلهم} أَي: قَوْلهم فِيك إِنَّه سَاحر أَو كَاذِب أَو شَاعِر.
وَقَوله: {إِنَّا نعلم} هَذَا ابْتِدَاء كَلَام، وَقَوله: {مَا يسرون} يَعْنِي: من(4/388)
{يسرون وَمَا يعلنون (76) أَو لم ير الْإِنْسَان أَنا خلقناه من نُطْفَة فَإِذا هُوَ خصيم مُبين (77) وَضرب لنا مثلا وَنسي خلقه قَالَ من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم (78) قل يُحْيِيهَا} التَّكْذِيب، وَقَوله: {وَمَا يعلنون} أَي: من عبَادَة الْأَصْنَام.(4/389)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم ير الْإِنْسَان أَنا خلقناه من نُطْفَة فَإِذا هُوَ خصيم مُبين} نزلت الْآيَة فِي شَأْن أبي بن خلف، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنه أَخذ عظما بَالِيًا ففتته بَين أَصَابِعه، وَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أتزعم أَن هَذَا يحيي وَيبْعَث.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الْقَائِل هَذَا كَانَ هُوَ الْعَاصِ بن وَائِل السَّهْمِي، وَالْأول أشهر؛ فَقَالَ رَسُول الله: " نعم، وَإِن الله تَعَالَى يُمِيتك ثمَّ يَبْعَثك ثمَّ يدْخلك نَار جَهَنَّم ".
وَقَوله: {فَإِذا هُوَ خصيم مُبين} أَي: مخاصم بَين الخصمومة. وَأما وَجه الْحجَّة عَلَيْهِم فِي خلق الْإِنْسَان من نُطْفَة، هُوَ أَن إِعَادَة الْخلق أَهْون فِيمَا يعقله النَّاس من إنْشَاء الْخلق.(4/389)
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
قَوْله تَعَالَى: {وَضرب لنا مثلا وَنسي خلقه} ضربه الْمثل مَا بَينا من قَوْله. وَقَوله: {وَنسي خلقه} أَي: وَترك النّظر فِي إنْشَاء خلقه.
وَقَوله: {قَالَ من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم} الرمة: من الْعِظَام هِيَ الَّتِي بليت.(4/389)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
قَوْله تَعَالَى: {قل يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أول مرّة وَهُوَ بِكُل خلق عليم} أَي: عَالم.(4/389)
{الَّذِي أَنْشَأَهَا أول مرّة وَهُوَ بِكُل خلق عليم (79) الَّذِي جعل لكم من الشّجر الْأَخْضَر نَارا فَإِذا أَنْتُم مِنْهُ توقدون (80) }(4/390)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي جعل لكم من الشّجر الْأَخْضَر نَارا} قَالَ أهل التَّفْسِير: وَالْمرَاد مِنْهُ هُوَ المرح والعفار، وهما خشبتان توري الْعَرَب مِنْهُمَا النَّار كَمَا يوري النَّاس من الْحَدِيد وَالْحجر، وَقَوله: يوري أَي: يقْدَح، تَقول الْعَرَب: فِي كل شجر نَار واستمجد المرح والعفار وَعَن أبي صَالح قَالَ: فِي الْأَشْجَار نَار سوى شَجَرَة العفار.
وَقَوله: {فَإِذا أَنْتُم مِنْهُ توقدون} أَي: تقدحون وتورون.
وَقَوله: {أَو لَيْسَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِقَادِر على أَن يخلق مثلهم} على أَن ينشىء خلقا مثلهم، وَقيل: على أَن يعيدهم يَوْم الْقِيَامَة؛ فَيَكُونُوا خلقا كَمَا كَانُوا.
وَقَوله: {بلَى وَهُوَ الخلاق الْعَلِيم} مَعْنَاهُ: قل: بلَى، وَهُوَ خطاب للرسول، وَقد بَينا [الْفرق] بَين بلَى وَنعم فِيمَا سبق، وَلَا يَسْتَقِيم فِي جَوَاب النَّفْي إِلَّا بِكَلِمَة بلَى، وَقيل: إِن الله تَعَالَى قَالَ مجيبا لنَفسِهِ: بلَى وَهُوَ الخلاق الْعَلِيم، والخلاق هُوَ الَّذِي يخلق مرّة بعد مرّة، والعليم هُوَ (الْعَالم) بخلقه.
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} قد بَينا هَذَا من قبل، قَوْله: {فسبحان الَّذِي بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء} أَي: ملك كل شَيْء.
وَقَوله: {وَإِلَيْهِ ترجعون} أَي: تردون يَوْم الْقِيَامَة.(4/390)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَالصَّافَّات صفا (1) فالزاجرات زجرا (2) فالتاليات ذكرا (3) إِن إِلَهكُم لوَاحِد (4) رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَرب الْمَشَارِق (5) إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا}
تَفْسِير سُورَة الصافات
وَهِي مَكِّيَّة(4/391)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)
قَوْله تَعَالَى: {وَالصَّافَّات صفا} روى مَسْرُوق عَن ابْن مَسْعُود، وَعِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَنهم الْمَلَائِكَة، وروى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَنهم عباد السَّمَاء.
وَعَن بَعضهم: أَن المُرَاد مِنْهُ صُفُوف الْمُسلمين فِي الْجَمَاعَات، وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَلا تصفون كَمَا تصف الْمَلَائِكَة عِنْد رَبهَا) .
وَأشهر الْأَقَاوِيل هُوَ القَوْل الأول، وَالْمَلَائِكَة صُفُوف فِي السَّمَاء يذكرُونَ الله تَعَالَى وَيذكرهُمْ، وَيُقَال: إِن معنى الْآيَة أَن الْمَلَائِكَة تصف أَجْنِحَتهَا إِذا نزلت إِلَى الأَرْض.(4/391)
فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)
وَقَوله تَعَالَى: {فالزاجرات زجرا} ذهب أَكثر الْمُفَسّرين أَن المُرَاد بهم الْمَلَائِكَة تزجر السَّحَاب لتسوقه إِلَى الْموضع الَّذِي يُريدهُ الله تَعَالَى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا زواجر الْقُرْآن.(4/391)
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)
فَأَما قَوْله: {فالتاليات ذكرا} ذهب أَكْثَرهم أَن المُرَاد بهَا الْمَلَائِكَة وَهِي تتلوا ذكر الله.
وَالْقَوْل الثَّانِي: انهم الْأَنْبِيَاء يَتلون مَا أنزل الله تَعَالَى وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا آيَات الْقُرْآن تتلى لذكر الله تَعَالَى.(4/391)
إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)
وَقَوله: {إِن إِلَهكُم لوَاحِد} هَذَا هُوَ مَوضِع الْقسم، فأقسم الله تَعَالَى بِمَا قدم ذكره، وَقَوله: {وَالصَّافَّات} أَي: وَرب الصافات صفا، وَهَكَذَا فِيمَا بعده.(4/391)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
وَقَوله: {رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا} وَمعنى الْآيَة أَن إِلَهكُم لوَاحِد، وَهُوَ(4/391)
{بزينة الْكَوَاكِب (6) وحفظا من كل شَيْطَان مارد (7) لَا يسمعُونَ إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى} رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا {وَرب الْمَشَارِق} أَي: وَرب المسارق والمغارب.
فَإِن قيل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر {رب الْمشرق وَالْمغْرب} وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: {رب المشرقين وَرب المغربين} وَقَالَ هَا هُنَا: {رب الْمَشَارِق} فَكيف وَجهه التَّوْفِيق بَين هَذِه الْآيَة وَأَخَوَاتهَا؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: أما قَوْله: {رب الْمشرق وَالْمغْرب} فَالْمُرَاد مِنْهُ الْجِهَة، وللمشرق جِهَة وَاحِدَة، وللمغرب جِهَة وَاحِدَة.
وَأما قَوْله: {رب المشرقين وَرب المغربين} فَالْمُرَاد من المشرقين: مشرق الشتَاء، ومشرق الصَّيف، فَأَما قَوْله: {وَرب الْمَشَارِق} فللشمس مَشَارِق تطلع كل يَوْم من مشرق غير الْمشرق الَّذِي طلعت فِيهِ أمس، وَكَذَلِكَ المغارب، فاستقام على هَذَا وُجُوه الْآيَات.(4/392)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بزينة الْكَوَاكِب} أَي: بِحسن الْكَوَاكِب وضيائها، وَقَرَأَ عَاصِم: " بزينة الْكَوَاكِب " أَي: بتزيينا الْكَوَاكِب، وَقَرَأَ حَمْزَة: " بزينة الْكَوَاكِب " بخفض الْبَاء وتنوين الزِّينَة، وَالْكَوَاكِب على هَذِه الرِّوَايَة تدل على الزِّينَة، وَالْمعْنَى: إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بالكواكب.(4/392)
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
وَقَوله: {وحفظا} أَي: وحفظناها حفظا، وَقَوله: {من كل شَيْطَان مارد} أَي: متمرد، والشيطان: كل متمرد عَاتٍ من إنس أَو جن أَو جنَّة، قَالَ الشَّاعِر:
(مَا لَيْلَة القفير إِلَّا شَيْطَان ... )
والقفير: الْبِئْر الْبَعِيدَة القعر،(4/392)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)
قَوْله {لَا يسمعُونَ} وَقُرِئَ: " لَا يسمعُونَ " بِنصب السِّين، وَقَوله: {لَا يسمعُونَ} أَي: لَا يَسْتَمِعُون، وَقَوله: {لَا يسمعُونَ} أَي: لَا يَسْتَمِعُون.(4/392)
{ويقذفون من كل جَانب (8) دحورا وَلَهُم عَذَاب واصب (9) إِلَّا من خطف الْخَطفَة فَأتبعهُ شهَاب ثاقب (10) فاستفتهم أهم أَشد خلقا أم من خلقنَا إِنَّا خلقناهم من}
وَقَوله: {إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى} أَي: الْمَلَائِكَة، وَمعنى الْآيَة: أَنهم لَا يَسْتَطِيعُونَ الِاسْتِمَاع إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى.
وَقَوله: {ويقذفون} أَي: يرجمون، وَقَوله: {من كل جَانب} من جَوَانِب السَّمَاء،(4/393)
دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)
وَقَوله: {دحورا} قَالَ مُجَاهِد: أَي: مطرودين، وَقَالَ قَتَادَة: يرْمونَ رميا، والدحر هُوَ الإبعاد، وَيُقَال: دحره الله أَي: أبعده الله.
وَقَوله: {وَلَهُم عَذَاب واصب} أَي: دَائِم،(4/393)
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا من خطف الْخَطفَة} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن من خطف الْخَطفَة، والخطف هُوَ الاستلاب بِسُرْعَة، واختطافهم واستلابهم كَلَام الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: {فَأتبعهُ شهَاب ثاقب} أَي: شهَاب مضيء، وَقيل: محرق، وَعَن يزِيد الرقاشِي قَالَ: ثاقب أَي: يثقبهم فَينفذ من جَانب آخر، والشهاب: هُوَ النَّجْم هَا هُنَا.(4/393)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
قَوْله تَعَالَى: {فاستفتهم} أَي: فاسألهم {أهم أَشد خلقا أم من خلقنَا} قَالَ ابْن عَبَّاس وَغَيره: المُرَاد مِنْهُ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال، وَزعم أهل الْمعَانِي: أَنه لَا بُد أَن تكون الْمَلَائِكَة وَمَا خلقه الله من الْجِنّ وَالَّذين يعْقلُونَ مرَادا بِالْآيَةِ؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {أم من خلقنَا} وَمن لَا تذكر إِلَّا فِيمَا يعقل.
وَقَوله: {إِنَّا خلقناهم من طين لازب} أَي: لاصق، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ لَازم؛ قَالَ الشَّاعِر: {وَلَا تحسبون الْخَيْر لَا شَرّ بعده ... وَلَا تحسبون الشَّرّ ضَرْبَة لازب}
أَي: لَازم.(4/393)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
وَقَوله: {بل عجبت} وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: " بل عجبت " على إِضَافَة التَّعَجُّب إِلَى الله، وَهِي قِرَاءَة عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس.(4/393)
{طين لازب (11) بل عجبت ويسخرون (12) وَإِذا ذكرُوا لَا يذكرُونَ (13) وَإِذا}
وَفِي بعض الْآثَار المسندة عَن شَقِيق بن سَلمَة أَنه قَالَ: كنت عِنْد شُرَيْح؛ فَقَرَأت " بل عجبت ويسخرون " فَقَالَ شُرَيْح: بئس الْقِرَاءَة هَكَذَا، وَالله تَعَالَى لَا يتعجب من شَيْء، وَهُوَ عَالم بالأشياء كلهَا؛ فَقَالَ شَقِيق: قد ذكرت ذَلِك لإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِن شريحا رجل معجب بِعِلْمِهِ، وَعبد الله بن مَسْعُود أعلم مِنْهُ.
فَأَما الْقِرَاءَة بِالنّصب، فَهُوَ خطاب للنَّبِي وَمَعْنَاهُ: بل عجبت من وحينا إِلَيْك، وَقيل: من تكذيبهم إياك مَعَ وضوح الدَّلَائِل.
وَقَوله: {ويسخرون} أَي: يسخرون ويستهزءون بك، وَأما الْقِرَاءَة بِضَم التَّاء فالتعجب من الله لَيْسَ هُوَ مثل التَّعَجُّب من الْآدَمِيّين، وَقد قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع آخر: {فيسخرون مِنْهُم سخر الله مِنْهُم} وَقَالَ تَعَالَى: {الله يستهزئ بهم} فَمَعْنَى قَوْله: {عجبت} أَي: عظم حلمي عَن ذنوبهم، والمتعجب هُوَ الَّذِي يرى مَا يعظم عِنْده، وَقيل: {بل عجبت} أَي: حل فعلهم مَحل مَا يتعجب مِنْهُم.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " عجب ربكُم من شَاب لَيْسَ لَهُ صبوة))
وروى عَن النَّبِي - أَنه قَالَ: ((عجب ربكُم من إِلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ وَسُرْعَة(4/394)
{رَأَوْا آيَة يستسخرون (14) وَقَالُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين (15) أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمبعوثون (16) أَو آبَاؤُنَا الْأَولونَ (17) قل نعم وَأَنْتُم داحرون (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة فَإِذا هم ينظرُونَ (19) وَقَالُوا يَا ويلنا هَذَا يَوْم الدّين (20) هَذَا} إجَابَته [إيَّاكُمْ] ".(4/395)
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13)
وَقَوله: {وَإِذا ذكرُوا لَا يذكرُونَ} وَإِذا وعظوا لَا يتعظون.(4/395)
وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
وَقَوله: {وَإِذا رَأَوْا آيَة يستسخرون} أَي: يسخرون، وَيُقَال: يستدعى بَعضهم من بعض سخريا،(4/395)
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
وَقَوله: {وَقَالُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} أَي: سحر بَين.(4/395)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
وَقَوله: {أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما ائنا لمبعوثون} قَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْإِنْكَار،(4/395)
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)
وَقَوله: {أَو آبَاؤُنَا الْأَولونَ} أَي: نبعث وَيبْعَث آبَاؤُنَا الْأَولونَ.(4/395)
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {قل نعم} أَي: نعم لتبعثون، وَقَوله: {وَأَنْتُم داخرون} أَي: صاغرون ذليلون، قَالَ الشَّاعِر:
((وَلم يبْق إِلَّا داخر فِي مخيس ... ومنجحر فِي غير أَرْضك فِي جحري))(4/395)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة} أَي: صَيْحَة وَاحِدَة.
قَوْله: {فَإِذا هم ينظرُونَ} أَي: ينتظرون، وَقيل: ينظر بَعضهم إِلَى بعض.(4/395)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا يَا ويلنا هَذَا يَوْم الدّين} أَي: يَوْم الْحساب وَيَوْم الْجَزَاء،(4/395)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
قَوْله تَعَالَى: {هَذَا يَوْم الْفَصْل} أَي: يَوْم الْقَضَاء، وَقيل: يَوْم الْفَصْل بَين المحسن والمسيء، وَقَوله: {الَّذِي كُنْتُم بِهِ تكذبون} أَي: تجحدون.(4/395)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)
قَوْله تَعَالَى: {احشروا الَّذين ظلمُوا وأزواجهم} الَّذين ظلمُوا هم الْمُشْركُونَ.(4/395)
{يَوْم الْفَصْل الَّذِي كُنْتُم بِهِ تكذبون (21) احشروا الَّذين ظلمُوا وأزواجهم وَمَا كَانُوا يعْبدُونَ (22) من دون الله فاهدوهم إِلَى صِرَاط الْجَحِيم (23) وقفوهم إِنَّهُم مسئولون (24) مَا لكم لَا تناصرون (25) بل هم الْيَوْم مستسلمون (26) وَأَقْبل}
وَقَوله: {وأزواجهم} أَي: وأشباههم، وَقيل: وقرناءهم، وَيُقَال: وأتباعهم.
وَقَوله: {وَمَا كَانُوا يعْبدُونَ من دون الله} من الْأَصْنَام، وَقَوله تَعَالَى: {فاهدوهم إِلَى صِرَاط الْجَحِيم} أَي: ارشدوهم إِلَى طَرِيق النَّار.(4/396)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
قَوْله تَعَالَى: {وقفوهم} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: (فاهدوهم إِلَى صِرَاط الْجَحِيم) ثمَّ قَالَ: {وقفوهم} قُلْنَا: لأَنهم يوقفون على الصِّرَاط للمساءلة، وَيُقَال: إِن هَذَا أَشد فِي التعذيب والتوبيخ. وَفِي الْخَيْر عَن النَّبِي قَالَ: " لَا تَزُول قدما بني آدم يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يسْأَل عَن أَربع: عَن شبابه فِيمَا أبلاه، وَعَن عمره فِيمَا أفناه، وَعَن مَاله من أَيْن اكْتَسبهُ وَأَيْنَ وَضعه، وَعَن علمه مَاذَا فعل بِهِ؟ ".(4/396)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)
قَوْله تَعَالَى: {مَا لكم لَا تناصرون} أَي: لَا تتناصرون؛ فينصر بَعْضكُم بَعْضًا. وَفِي التَّفْسِير: أَن أَبَا جهل هُوَ الْقَائِل: نَحن جَمِيع منتصر، على مَا حكى الله تَعَالَى فَقَالَ الله تَعَالَى ردا لقَوْله: {مَا لكم لَا تناصرون} أَي: لينصر بَعْضكُم الْبَعْض الْيَوْم إِن كُنْتُم صَادِقين.(4/396)
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
قَوْله تَعَالَى: {بل هم الْيَوْم مستسلمون} يَعْنِي: استسلموا وعضوا بِأَيْدِيهِم، وَعرفُوا أَنه لَا خلاص لَهُم من الْهَلَاك وَالْعَذَاب.(4/396)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)
وَقَوله: {وَأَقْبل بَعضهم على بعض يتساءلون} مَعْنَاهُ أَي: ويتلاومون، قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّكُم كُنْتُم تأتوننا عَن الْيَمين} قَالَ الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا من أهل الْمعَانِي: أَي من قبل الَّذين تلبسونه علينا، وَقيل: من قبل الْجنَّة تثبطوننا عَنْهَا، وَذكر بَعضهم: أَن رُؤَسَاء الْكفَّار كَانَ يحلفُونَ [للأتباع] أَنهم على الْحق.(4/396)
{بَعضهم على بعض يتساءلون (27) قَالُوا إِنَّكُم تأتوننا عَن الْيَمين (28) قَالُوا بل لم تَكُونُوا مُؤمنين (29) وَمَا كَانَ لنا عَلَيْكُم من سُلْطَان بل كُنْتُم قوما طاغين (30) فَحق علينا قَول رَبنَا إِنَّا لذائقون (31) فأغويناكم إِنَّا كُنَّا غاوين (32) فَإِنَّهُم يَوْمئِذٍ فِي الْعَذَاب مشتركون (33) إِنَّا كَذَلِك نَفْعل بالمجرمين (34) إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أئنا لتاركوا آلِهَتنَا لشاعر مَجْنُون (36) بل جَاءَ}(4/397)
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)
فَقَوله: {إِنَّكُم كُنْتُم تأتوننا عَن الْيَمين} أَي: عَن الْأَيْمَان الَّتِي حلفوا بهَا أَنهم صَادِقُونَ، وَالْيَمِين يذكر وَيُرَاد بِهِ الْقُوَّة، قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا مَا راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة بِالْيَمِينِ)
أَي: بِالْقُوَّةِ.(4/397)
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا بل لم تَكُونُوا مُؤمنين} أَي: رُؤَسَاء يَقُولُونَ ذَلِك للأتباع،(4/397)
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)
وَقَوله: {وَمَا كَانَ لنا عَلَيْكُم من سُلْطَان بل كُنْتُم قوما طاغين} يَعْنِي: إِنَّكُم فَعلْتُمْ مَا فَعلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، وَلم نَفْعل بكم شَيْئا.(4/397)
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {فَحق علينا قَول رَبنَا} أَي: وَجب علينا عَذَاب رَبنَا، قَالَ الْحسن: الضال والمضل جَمِيعًا فِي النَّار؛ فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا لذائقون} أَي: ذائقون الْعَذَاب.(4/397)
فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)
قَوْله تَعَالَى: {فأغويناكم إِنَّا كُنَّا غاوين} أَي: أضللناكم إِنَّا كُنَّا ضَالِّينَ.(4/397)
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)
قَوْله: {فَإِنَّهُم يَوْمئِذٍ فِي الْعَذَاب مشتركون} يَعْنِي: أَنهم جَمِيعًا فِي الْعَذَاب.(4/397)
إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كَذَلِك نَفْعل بالمجرمين} ظَاهر الْمَعْنى، والجرم هَا هُنَا هُوَ الشّرك.(4/397)
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ} عَن كلمة التَّوْحِيد، ويمتنعون مِنْهَا.(4/397)
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
قَوْله تَعَالَى: {أئنا لتاركوا آلِهَتنَا لشاعر مَجْنُون} قَالُوا ذَلِك للنَّبِي، فَقَالَ الله تَعَالَى ردا عَلَيْهِم:(4/397)
بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
{بل جَاءَ بِالْحَقِّ وَصدق الْمُرْسلين} أَي: الْمُرْسلين الَّذين سبقوا فِي الرسَالَة.(4/397)
{بِالْحَقِّ وَصدق الْمُرْسلين (37) إِنَّكُم لذائقوا الْعَذَاب الْأَلِيم (38) وَمَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عباد الله المخلصين (40) أُولَئِكَ لَهُم رزق مَعْلُوم (41) فواكه وهم مكرمون (42) فِي جنَّات النَّعيم (43) على سرر مُتَقَابلين (44) يُطَاف عَلَيْهِم بكأس من معِين (45) بَيْضَاء لَذَّة للشاربين (46) لَا فِيهَا غول وَلَا هم عَنْهَا ينزفون}(4/398)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكُم لذائقوا الْعَذَاب الْأَلِيم وَمَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى،(4/398)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)
قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا عباد الله المخلصين} أَي: الَّذين أَخْلصُوا فِي التَّوْحِيد.(4/398)
أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)
قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَهُم رزق مَعْلُوم} أَي: مُقَدّر، ورزقهم الْمُقدر هُوَ رزقهم بكرَة وعشيا،(4/398)
فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)
وَقَوله: {فواكه وهم مكرمون} الْفَوَاكِه جمع الْفَاكِهَة.
وَقَوله: {وهم مكرمون} أَي: بإدخالهم الْجنَّة.(4/398)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)
قَوْله تَعَالَى: {فِي جنَّات النَّعيم} يَعْنِي: إِنَّهُم فِي جنَّات النَّعيم.(4/398)
عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)
وَقَوله: {على سرر مُتَقَابلين} قَالَ أهل التَّفْسِير: لَا ينظر بَعضهم فِي قفا الْبَعْض.(4/398)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
قَوْله تَعَالَى: {يُطَاف عَلَيْهِم بكأس من معِين} أَي: الْخمر الْجَارِي.(4/398)
بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)
وَقَوله: {بَيْضَاء لَذَّة للشاربين} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: خمر الْجنَّة أَبيض من اللَّبن، قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " صفراء لَذَّة للشاربين ".(4/398)
لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
قَوْله تَعَالَى: {لَا فِيهَا غول} أَي: لَا تغتال عُقُولهمْ، قَالَ الشَّاعِر:
(فَمَا زَالَت الكأس تغتالنا ... وتصرع بِالْأولِ الأول)
وَيُقَال: الْخمر غول الْعقل، وَالْحَرب غول النَّفس، وَيُقَال: الغول هُوَ الغائلة، وَمن الغائلة ذهَاب عقلهم، وَسَائِر الْمَفَاسِد الَّتِي فِي الْخمر، وَيُقَال فِي الْخمر أَرْبَعَة أَشْيَاء: السكر، والصداع، والقيء، و (الْبَوْل) ، وَلَا يُوجد من هَذِه الْأَرْبَع فِي خمر الْجنَّة.
وَقَوله: {وَلَا هم عَنْهَا ينزفون} يُقَال: أنزف الرجل إِذا سكر، قَالَ الشَّاعِر:
(لعمري لَئِن أنزفتم أَو صحوتم ... لبئس الندامى كُنْتُم آل أبجرا)(4/398)
( {47) وَعِنْدهم قاصرات الطّرف عين (48) كأنهن بيض مَكْنُون (49) فَأقبل بَعضهم على بعض يتساءلون (50) قَالَ قَائِل مِنْهُم إِنِّي كَانَ لي قرين (51) يَقُول أئنك لمن}(4/399)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)
قَوْله تَعَالَى: {وَعِنْدهم قاصرات الطّرف} أَي: اللَّاتِي قصرن أطرافهن على أَزوَاجهنَّ أَي: عينهن أَي: حبسن فَلَا ينظرن إِلَى غير أَزوَاجهنَّ.
وَقَوله: {عين} أَي: حسان الْأَعْين، وَفِي التَّفْسِير: الْبيَاض شَدِيد الْبيَاض، والسواد شَدِيد السوَاد، يَعْنِي فِي الْعين.(4/399)
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
وَقَوله: {كأنهن بيض مَكْنُون} الْعَرَب تشبه وَجه الْمَرْأَة فِي الْبيَاض بَيْضَة النعامة، وَيَقُولُونَ: أحسن اللَّوْن بَيَاض اللَّوْن مشوب بالصفرة، قَالَ ذُو الرمة:
(كحلاء فِي بزخ صفراء فِي دعجٌ ... كَأَنَّهَا فضَّة قد مَسهَا ذهب)
وَقَوله: {مَكْنُون} أَي: مَسْتُور مصون من الريش (والخمار) .
وَقَالَ بَعضهم: فِي قَوْله {بيض مَكْنُون} شبههن ببياض الْبَيْضَة عِنْد خُرُوجهَا من قشرتها، وَقيل: شبه بالسحاء الَّذِي بَين القشر الْأَعْلَى وَبَين الْبيَاض.(4/399)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)
قَوْله تَعَالَى: {فَأقبل بَعضهم على بعض يتساءلون} أَي: يسْأَل بَعضهم بَعْضًا عَن حَاله فِي الدُّنْيَا.(4/399)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ قَائِل مِنْهُم إِنِّي كَانَ لي قرين} قَالَ مُجَاهِد: القرين هَا هُنَا: هُوَ الشَّيْطَان (يغويه) ، وَيُقَال: القرين هَا هُنَا: قرينه الَّذِي كَانَ يَدعُوهُ إِلَى الْكفْر.
قَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي: نزلت الْآيَة فِي رجلَيْنِ كَانَا فِي بني إِسْرَائِيل اكتسبا مَالا عَظِيما، وَيُقَال: ورثا مَالا عَظِيما واقتسماه، فأنفق أَحدهمَا نصِيبه على الْفُقَرَاء، وَأما الآخر فَاشْترى بِهِ عقارا ودورا وأثرى، وهما اللَّذَان ذكرهمَا الله تَعَالَى فِي سُورَة الْكَهْف، وَقَالَ بَعضهم: هما أَخَوان سواهُمَا.(4/399)
{المصدقين (52) أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمدينون (53) قَالَ هَل أَنْتُم مطلعون (54) فَاطلع فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم (55) قَالَ تالله إِن كدت لتردين (56) وَلَوْلَا نعْمَة رَبِّي لَكُنْت من المحضرين (57) أفما نَحن بميتين (58) إِلَّا موتتنا الأولى وَمَا نَحن بمعذبين (59) إِن هَذَا لَهو الْفَوْز الْعَظِيم (60) لمثل هَذَا فليعمل الْعَامِلُونَ (61) }(4/400)
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)
وَقَوله: {يَقُول أئنك لمن المصدقين} أَي: المصدقين بِالْبَعْثِ.(4/400)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
وَقَوله: {أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمدينون} هَذَا قَول قرينه، وَقَوله: {لمدينون} أَي: محاسبون، وَقيل: مجزيون، يُقَال: كَمَا تدين تدان.(4/400)
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ هَل أَنْتُم مطلعون} اخْتلف القَوْل فِي هَذَا، فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَن الله تَعَالَى يَقُول لَهُم: {هَل أَنْتُم مطلعون} .
وَالْآخر: أَن هَذَا الْمُؤمن يَقُول لإخوانه من أهل الْجنَّة هَل أَنْتُم مطلعون؟(4/400)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
قَوْله تَعَالَى: {فَاطلع فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم} أَي: فِي وسط الْجَحِيم، وَإِنَّمَا سمي وسط الشَّيْء سَوَاء لِاسْتِوَاء الجوانب مِنْهُ.(4/400)
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ تالله إِن كدت لتردين} أَي: لتهلكني، يُقَال: كَاد يفعل كَذَا أَي: قَارب، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " إِن كدت لتغويني " من الإغواء.(4/400)
وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا نعْمَة رَبِّي لَكُنْت من المحضرين} أَي: وَلَوْلَا رَحْمَة رَبِّي لَكُنْت من المحضرين النَّار أَي: الَّذين دخلُوا النَّار.(4/400)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)
قَوْله تَعَالَى: {أفما نَحن بميتين إِلَّا موتتنا الأولى وَمَا نَحن بمعذبين} فَيُقَال: أجيبونا فَلَا يجيبون لاستغراقهم فِي الْعَذَاب، يَقُولُونَ: {إِن هَذَا لَهو الْفَوْز الْعَظِيم} وَعَن بَعضهم: " أَنه يجاء بِالْمَوْتِ على صُورَة كَبْش فَيذْبَح على مَا ورد بِهِ الْخَبَر "، فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ: أفما نَحن بميتين إِلَّا موتتنا الأولى على طَرِيق الْإِقْرَار والتعجب وَالسُّرُور بذلك.(4/400)
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
{لمثل هَذَا فليعمل الْعَامِلُونَ} أَي: لمثل هَذَا الْمنزل، ولمثل هَذَا النَّعيم، فليعمل(4/400)