لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وَقَوله - تَعَالَى -: {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} قيل: هَذَا قَول اليعقوبية من النَّصَارَى، قَالُوا: إِن الْمَسِيح إِلَه، وَقيل: إِنَّهُم لما قَالُوا: الْمَسِيح ابْن(2/23)
{الله من اتبع رضوانه سبل السَّلَام ويخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور بِإِذْنِهِ ويهديهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (16) لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم قل فَمن يملك من الله شَيْئا إِن أَرَادَ أَن يهْلك الْمَسِيح ابْن مَرْيَم وَأمه وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا يخلق مَا يَشَاء وَالله على كل شَيْء} الله، ابْن كل أحد يكون من جنسه، فكأنهم قَالُوا: الْمَسِيح هُوَ الله.
{قل فَمن يملك من الله شَيْئا} أَي: فَمن يقدر أَن يدْفع أَمر الله ( {إِن أَرَادَ أَن يهْلك الْمَسِيح ابْن مَرْيَم وَأمه وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا} وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا يخلق مَا يَشَاء وَالله على كل شَيْء قدير) فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الْمُسْتَحق للألوهية من لَهُ ملك السَّمَوَات، وَمن لَهُ هَذِه الْقُدْرَة فإياه فاعبدوا.(2/24)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه} يَعْنِي: أَن الله كَالْأَبِ لنا فِي الحنو، والعطف، وَنحن كالأبناء فِي الْقرب، والمنزلة، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ - فِي الْيَهُود -: إِنَّهُم وجدوا فِي التَّوْرَاة: " يَا أَبنَاء أحبارى " فبدلوا، وقرءوا: " يَا أَبنَاء أبكارى "؛ فَمن ذَلِك قَالُوا: نَحن أَبنَاء الله. وأحباؤه، وَأما فِي النَّصَارَى فَإِنَّهُم حكوا عَن عِيسَى انه قَالَ: " أذهب إِلَى أبي وأبيكم "؛ فَمن ذَلِك قَالُوا: نَحن أَبنَاء الله.
{قل فَلم يعذبكم بذنوبكم} يَعْنِي: أَن الْأَب لَا يعذب ابْنه، والحبيب لَا يعذب حَبِيبه، أَي: فَلم يعذبكم الله بذنوبكم، وَهُوَ على زعمكم أبوكم وحبيبكم، ثمَّ قَالَ: {بل أَنْتُم بشر مِمَّن خلق} أَي: آدميون من جملَة الْخلق {يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَإِلَيْهِ الْمصير} .(2/24)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم على فَتْرَة من الرُّسُل} أَي: على انْقِطَاع من الرُّسُل، وَاخْتلفُوا فِي زمَان الفترة، قَالَ أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ: زمَان الفترة: بَين عِيسَى وَمُحَمّد، وَكَانَ سِتّمائَة سنة، وَقيل خَمْسمِائَة سنة، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ زمَان الفترة، لِأَن الرُّسُل كَانُوا بعد مُوسَى تترى من غير انْقِطَاع، وَلم يكن بعد عِيسَى رَسُول سوى مُحَمَّد {أَن تَقولُوا مَا جَاءَنَا من بشير وَلَا نَذِير} قَالَ الْكُوفِيُّونَ: مَعْنَاهُ: أَن لَا تَقولُوا: وَقَالَ البصريون مَعْنَاهُ: كَرَاهَة أَن تَقولُوا، وَهُوَ(2/24)
{قدير (17) وَقَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه قل فَلم يعذبكم بذنوبكم بل أَنْتُم بشر مِمَّن خلق يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَإِلَيْهِ الْمصير (18) يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم على فَتْرَة من الرُّسُل أَن تَقولُوا مَا جَاءَنَا من بشير وَلَا نَذِير فقد جَاءَكُم بشير ونذير وَالله على كل شَيْء قدير (19) وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم} كالقولين فِي قَوْله: {يبين الله لكم أَن تضلوا} ، {فقد جَاءَكُم بشير ونذير وَالله على كل شَيْء قدير} .(2/25)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ جعل فِيكُم أَنْبيَاء} أَي: مِنْكُم أَنْبيَاء {وجعلكم ملوكا} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي أَصْحَاب خدم وحشم، قَالَ قَتَادَة: لم يكن لمن قبلهم خدم وحشم، فَلَمَّا كَانَ لَهُم خدم كَانُوا ملوكا، قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: لَا يدْخل عَلَيْكُم إِلَّا بإذنكم، وَمن لَا يدْخل عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَهُوَ ملك، وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من كَانَ لَهُ فِي بني إِسْرَائِيل خَادِم، وَامْرَأَة، ودابة، كَانَ ملكا " وروى أَن رجلا جَاءَ إِلَى عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، قَالَ: أَنا من فُقَرَاء الْمُهَاجِرين، فَقَالَ: أَلَك مسكن تأوي إِلَيْهِ؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ: أَلَك امْرَأَة تسكن إِلَيْهَا؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ: أَنْت من الْأَغْنِيَاء. قَالَ الرجل: ولي خَادِم يخدمني، فَقَالَ: أَنْت من الْمُلُوك.
وَقَالَ السّديّ - فِي الْمُتَقَدِّمين - مَعْنَاهُ: وجعلكم ملوكا تَمْلِكُونَ أَمر أَنفسكُم، وخلصكم من استعباد فِرْعَوْن. وَقَالَ المؤرج: أَرَادَ بِهِ: وجعلكم أخيارا، والملوك: الأخيار بلغَة هُذَيْل وكنانة.
{وآتاكم مَا لم يُؤْت أحدا من الْعَالمين} يَعْنِي: من الْمَنّ والسلوى، وانفجار الْحجر وتظليل الْغَمَام، وَنَحْو ذَلِك.(2/25)
{اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ جعل فِيكُم أَنْبيَاء وجعلكم ملوكا وآتاكم مَا لم يُؤْت أحدا من الْعَالمين (20) يَا قوم ادخُلُوا الأَرْض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم وَلَا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِن فِيهَا قوما جبارين}(2/26)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا قوم ادخُلُوا الأَرْض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم} قيل: هِيَ دمشق، وفلسطين وَبَعض الْأُرْدُن، وَقَالَ قَتَادَة: هِيَ جَمِيع الشَّام، وَقيل: هِيَ بَيت الْمُقَدّس، وَأَرْض الطّور.
وَقَوله {كتب الله لكم} أَي: وهب الله لكم، وَقيل: فرض الله لكم أَن تدخلوها {وَلَا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين}(2/26)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالُوا يَا مُوسَى إِن فِيهَا قوما جبارين} الْجَبَّار: هُوَ كل عَاتٍ يجْبر النَّاس على مُرَاده، وَالله - تَعَالَى - جَبَّار، يجْبر الْخلق على مُرَاده، وَذَلِكَ مِنْهُ حق وَله مدح، وَأما الجبروت لِلْخلقِ ذمّ، وأصل الْجَبَّار: المتعظم الْمُمْتَنع عَن الذل والقهر، وَمِنْه يُقَال: نَخْلَة جبارَة إِذا كَانَت طَوِيلَة ممتنعة على وُصُول الْأَيْدِي إِلَيْهَا، وسمى أُولَئِكَ الْقَوْم جبارين؛ لطولهم، وامتناعهم بِقُوَّة أَجْسَادهم، والقصة فِي ذَلِك: أَن هَؤُلَاءِ كَانُوا فِي مَدِينَة " أرِيحَا " بِالشَّام، وَكَانَ فِيهَا ألف قَرْيَة فِي كل قَرْيَة، ألف بُسْتَان، وَكَانَ فِيهَا العمالقة، وَبَقِيَّة من قوم عَاد وَهِي مَدِينَة الجبارين.
روى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ قد بعث أُولَئِكَ النُّقَبَاء، وهم اثْنَا عشر نَقِيبًا إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَة؛ ليتعرفوا أَحْوَالهم، فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهَا لَقِيَهُمْ رجل مِنْهُم، فَأَخذهُم جملَة فِي كمه وأتى بهم إِلَى الْملك، ونثرهم بَين يَدَيْهِ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ الَّذين جَاءُوا ليقاتلونا؛ فَقَالَ الْملك: ارْجعُوا وأخبروهم بِمَا لَقِيتُم، فَرَجَعُوا.
وَفِي بعض التفاسير: أَنهم أخذُوا عنقودا من الْعِنَب، وجعلوه على عَمُود بَين رجلَيْنِ حَتَّى قدرُوا على حمله، وَأخذُوا رمانتين، وحملوهما على دَابَّة كَادَت تعجز عَن حملهما فَلَمَّا رجعُوا إِلَى بني إِسْرَائِيل خوفوهم، وَقَالُوا: إِنَّكُم لَا تقاومونهم إِلَّا رجلَيْنِ مِنْهُم: يُوشَع بن نون وكالب بن يوقنا، وذكرهما فِي الْآيَة الْأُخْرَى، وَأما الْبَاقُونَ من بني إِسْرَائِيل خالفوا وامتنعوا من قِتَالهمْ، وَقَالُوا: يَا مُوسَى إِن فِيهَا قوما جبارين {وَإِنَّا لن ندْخلهَا حَتَّى يخرجُوا مِنْهَا فَإِن يخرجُوا مِنْهَا فَإنَّا داخلون} .(2/26)
{وَإِنَّا لن ندْخلهَا حَتَّى يخرجُوا مِنْهَا فَإِن يخرجُوا مِنْهَا فَإنَّا داخلون (22) قَالَ رجلَانِ من الَّذين يخَافُونَ أنعم الله عَلَيْهِمَا ادخُلُوا عَلَيْهِم الْبَاب فَإِذا دخلتموه فَإِنَّكُم غالبون}(2/27)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ رجلَانِ من الَّذين يخَافُونَ أنعم الله عَلَيْهِمَا} هما يُوشَع وكالب (قَالَا) : {ادخُلُوا عَلَيْهِم الْبَاب فَإِذا دخلتموه فَإِنَّكُم غالبون} وَذَلِكَ بَاب كَانُوا عرفُوا أَنهم إِذا دخلُوا من ذَلِك الْبَاب غلبوا، (وَيقْرَأ) فِي الشواذ: " قَالَ رجلَانِ من الَّذين يخَافُونَ " - ضم الْيَاء - فَيكون مَعْنَاهُ: رجلَانِ من أُولَئِكَ العمالقة، قيل: أسلم رجلَانِ مِنْهُم، وَقَالا هَذِه الْمقَالة {وعَلى الله فتوكلوا إِن كُنْتُم مُؤمنين} .(2/27)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
قَوْله - تَعَالَى - {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لن ندْخلهَا أبدا مَا داموا فِيهَا} وَهَذَا مَعْلُوم {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} قَالَ الْحسن: كفرُوا بِهَذِهِ الْمقَالة، وَقَالَ غَيره: بل فسقوا بمخالفة أمره، وَتَقْدِير قَوْله: {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} أَي: فَاذْهَبْ أَنْت، وليعنك رَبك على الْقِتَال، وَفِيه قَول آخر: أَن معنى قَوْله: {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك} أَي: وكبيرك، وَأَرَادُوا أَخَاهُ الْأَكْبَر هَارُون، وَالْعرب تسمي الْكَبِير رَبًّا، قَالَ الله - تَعَالَى - فِي قصَّة يُوسُف: {إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي} أَي: كبيري وَأَرَادَ بِهِ " عَزِيز مصر " وَيحْتَمل أَنهم قَالُوا ذَلِك لمُوسَى؛ جهلا وغباوة، ففسقوا بِهِ، وروى ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي " أَنه لما خرج يَوْم بدر، قَالَ لَهُ الْمِقْدَاد بن عَمْرو: لَا نقُول لَك مَا قَالَت بَنو إِسْرَائِيل لمُوسَى: اذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِن نقُول: سر أَنْت حَيْثُ شِئْت [فَإنَّا] مَعَك سائرون " وروى: " أَن الْأَنْصَار قَالُوا يَا رَسُول الله: لَو ضربت بأكبادها إِلَى برك الغماد سرنا مَعَك " يَعْنِي: بأكباد الْإِبِل إِلَى برك الغماد، وَهُوَ مَوضِع.(2/27)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ رب إِنِّي لَا أملك إِلَّا نَفسِي وَأخي} مَعْنَاهُ: لَا أملك إِلَّا(2/27)
{وعَلى الله فتوكلوا إِن كُنْتُم مُؤمنين (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لن ندْخلهَا أبدا مَا داموا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رب إِنِّي لَا أملك إِلَّا نَفسِي وَأخي فافرق بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الْفَاسِقين (25) } نَفسِي، وَأخي لَا يملك إِلَّا نَفسه، وَقيل مَعْنَاهُ: لَا تطيعني إِلَّا نَفسِي، وَلَا يطيعني إِلَّا أخي {فافرق بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الْفَاسِقين} أَي: فافصل بَيْننَا، و (قيل) مَعْنَاهُ: فَاقْض بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الْفَاسِقين.(2/28)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
قَوْله - تَعَالَى - {قَالَ فَإِنَّهَا مُحرمَة عَلَيْهِم} قيل هَا هُنَا تمّ الْكَلَام، وَمَعْنَاهُ: أَن الأَرْض المقدسة مُحرمَة عَلَيْهِم أبدا، وَلم يرد بِهِ: تَحْرِيم تعبد، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ: تَحْرِيم منع، فَإِنَّهُم منعُوا عَنْهَا، فَلم يدخلوها أبدا، وَإِنَّمَا دَخلهَا أَوْلَادهم، وَقيل الْآيَة مُتَّصِلَة بَعْضهَا بِالْبَعْضِ.
وَإِنَّمَا حرمت عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة كَمَا قَالَ: {فَإِنَّهَا مُحرمَة عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة}
(يتيهون فِي الأَرْض) وَقد أوقفهم الله - تَعَالَى - فِي التيه؛ عُقُوبَة لَهُم على مَا خالفوا، وَقيل: إِن أَرض التيه الَّتِي تاه فِيهَا بَنو إِسْرَائِيل كَانَت: سِتَّة فراسخ فِي طول اثنى عشر فرسخا، وَكَانَ عدد التائهين فِيهَا: سِتّمائَة ألف، قَامُوا فِيهَا، وَكَانُوا كلما أَمْسوا من مَوضِع للمسير، فَإِذا أَصْبحُوا (أَصْبحُوا) على ذَلِك الْموضع، وَكلما أَصْبحُوا من مَوضِع للمسير، فَإِذا أَمْسوا أَمْسوا على ذَلِك الْموضع، وَهَكَذَا كل يَوْم إِلَى أَن مَاتُوا فِيهَا، وَقيل: كَانَ مُوسَى وَهَارُون فيهم، وَإِنَّمَا توفيا فِي التيه، وَقيل: لم يَكُونَا فيهم، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك عُقُوبَة عَلَيْهِم، فَلَمَّا مَاتُوا فِي التيه وَنَشَأ أَوْلَادهم، أقبل يُوشَع بن نون بأولادهم إِلَى الأَرْض المقدسة، وَحَارب العمالقة وَنَصره الله تَعَالَى عَلَيْهِم حَتَّى فتح تِلْكَ الْمَدِينَة، وَكَانَ يَوْم الْجُمُعَة وضاق النَّهَار بهم فحبس الله - تَعَالَى - الشَّمْس سَاعَة حَتَّى فتح الْمَدِينَة ثمَّ غربت الشَّمْس من لَيْلَة السبت، إِذْ مَا كَانَ يجوز لَهُم عمل فِي السبت؛ فَفَزعَ الله قُلُوبهم يَوْم الْجُمُعَة؛ فَهَذَا جملَة الْكَلَام فِي قَوْله: ( {أَرْبَعِينَ سنة يتيهون فِي الأَرْض} فَلَا تأس) أَي فَلَا تحزن {على الْقَوْم الْفَاسِقين} .(2/28)
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحرمَة عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة يتيهون فِي الأَرْض فَلَا تأس على الْقَوْم الْفَاسِقين (26) واتل عَلَيْهِم نبأ ابْني آدم بِالْحَقِّ إِذْ قربا قربانا فَتقبل من أَحدهمَا وَلم يتَقَبَّل من}(2/29)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
قَوْله - تَعَالَى -: {واتل عَلَيْهِم نبأ ابْني آدم بِالْحَقِّ إِذْ قربا قربانا} قَالَ ابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَمُجاهد: أَرَادَ بِهِ ابنى آدم من صلبه هابيل، وقابيل، وَقَالَ الْحسن: أَرَادَ بِهِ رجلَيْنِ من بني إِسْرَائِيل، وَالأَصَح هُوَ الأول.
والقصة فِي ذَلِك: قيل: إِن حَوَّاء كَانَت تَلد كل بطن غُلَاما وَجَارِيَة، فَولدت بَطنا هابيل وَأُخْته، وَولدت بَطنا قابيل وَأُخْته، فَأمر الله - تَعَالَى - آدم أَن يُزَوّج أُخْت هابيل من قابيل، وَأُخْت قابيل من هابيل، وَلم يرض قابيل، (وَقَالَ) : أَنا أَحَق بأختي، وَكَانَت أحسن من أُخْت هابيل، وَفِي بعض التفاسير: أَن قابيل قَالَ: أَنا أَحَق بأختي؛ لِأَنِّي من نسل الْجنَّة، وهابيل من نسل الأَرْض، وَقيل: إِن حَوَّاء علقت بِهِ فِي الْجنَّة؛ فَمن ذَلِك قَالَ: إِنِّي من نسل الْجنَّة، فَأَمرهمَا آدم أَن يقربا قربانا، فَكل من يقبل قربانه فَهُوَ أولى بِتِلْكَ الْأُخْت.
وَكَانَ هابيل صَاحب غنم، وقابيل صَاحب زرع، فَعمد هابيل إِلَى كَبْش من أحسن غنمه، وَعمد قابيل إِلَى أَخبث زرعه، ووضعاه موضعا، فَجَاءَت النَّار، وأكلت قرْبَان هابيل، وَكَانَ ذَلِك عَلامَة الْقبُول يَوْمئِذٍ، وَلم تَأْكُل قرْبَان قابيل؛ (فَهَذَا) معنى قَوْله: {إِذْ قربا قربانا فَتقبل من أَحدهمَا} يَعْنِي هابيل {وَلم يتَقَبَّل من الآخر} يَعْنِي: قابيل {قَالَ لأَقْتُلَنك} حسده قابيل، وقصده ليَقْتُلهُ؛ فَأجَاب هابيل، وَقَالَ: {إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ} عَن الْمعاصِي، وَعَن أبي الدَّرْدَاء أَنه [قَالَ] : " لِأَن أعلم [أَن] الله - تَعَالَى - قبل صَلَاة من صَلَاتي أحب إِلَيّ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا؛ لِأَن الله - تَعَالَى - يَقُول: {إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ} قَالَ قَتَادَة: المتقون: أهل لَا إِلَه إِلَّا الله.(2/29)
{الآخر قَالَ لأَقْتُلَنك قَالَ إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بسطت إِلَيّ يدك لتقتلني مَا أَنا بباسط يَدي إِلَيْك لأقتلك إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين (28) إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي}(2/30)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
قَوْله - تَعَالَى -: {لَئِن بسطت إِلَيّ يدك لتقتلني مَا أَنا بباسط يَدي إِلَيْك لأقتلك إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين} قَالَ الْحسن، وَمُجاهد: كَانَ [من شرع آدم أَن] : من قصد بِالْقَتْلِ؛ فَوَاجِب عَلَيْهِ الْكَفّ عَن الدّفع، وَالصَّبْر على الْأَذَى، وَكَذَا كَانَ فِي شرع نَبينَا فِي الِابْتِدَاء، فَأَما قَوْله: {مَا أَنا بباسط يَدي إِلَيْك} يَعْنِي: بِالدفع. وَقيل: لم يكن ذَلِك شرعا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ استسلاما للْقَتْل؛ وطلبا لِلْأجرِ، وَهَذَا جَائِز لكل من يقْصد قَتله، أَن يستسلم وينقاد، وَكَذَا فعل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي، وَفِيه قَول ثَالِث: أَن المُرَاد بِهِ: لَئِن ابتدأت بقتلي مَا أَنا بمبتدئ بقتلك، وَالصَّحِيح [آخر] الْقَوْلَيْنِ.(2/30)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين} قَالَ ابْن عَبَّاس، وَابْن مَسْعُود: مَعْنَاهُ: أَن ترجع بإثم قَتْلِي وإثم مَعَاصِيك الَّتِي سبقت، فَإِن قابيل كَانَ رجل سوء، وَقيل: كَانَ كَافِرًا، وَقيل: هُوَ أحد اللَّذين ذكرهمَا الله - تَعَالَى - فِي " حم السَّجْدَة ": {وَقَالَ الَّذين كفرُوا رَبنَا أرنا اللَّذين أضلانا من الْجِنّ وَالْإِنْس} فَالَّذِي من الْجِنّ إِبْلِيس، وَالَّذِي من الْإِنْس قابيل، وَقَالَ مُجَاهِد: معنى قَوْله: {أَن تبوء بإثمي وإثمك} : أَن ترجع بإثم قَتْلِي، وإثم معصيتك الَّتِي لم يتَقَبَّل لأَجلهَا قربانك، أَو إِثْم حسدك إيَّايَ، وَهَذَا اخْتِيَار الزّجاج، وَقَالَ ابْن كيسَان: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ على طَرِيق التَّمْثِيل، يَعْنِي: لَو قتلت أَنا كَانَ عليّ الْإِثْم، وَلَو قتلت أَنْت كَانَ عَلَيْك الْإِثْم، فَأَنا لَا أقتل حَتَّى تقتل أَنْت؛ فتبوء بالإثمين، فَيكون كلا الإثمين عَلَيْك، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك، وَإِرَادَة الْقَتْل وَالْمَعْصِيَة لَا تجوز؟ أجابوا عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا: قَالُوا: لَيْسَ ذَلِك بِحَقِيقَة إِرَادَة، وَلكنه لما علم أَنه يقْتله لَا محَالة، ووطن نَفسه على الاستسلام؛ طلبا للثَّواب،(2/30)
{وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين (29) فطوعت لَهُ نَفسه قتل أَخِيه فَقتله فَأصْبح من الخاسرين (30) فَبعث الله غرابا يبْحَث فِي الأَرْض ليريه كَيفَ} فَكَأَنَّهُ مُرِيد لقَتله مجَازًا وَإِن لم يكن مرِيدا حَقِيقَة، وَقيل مَعْنَاهُ: إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بعقاب قَتْلِي، وعقاب قَتلك؛ فَتكون إِرَادَة على مُوَافقَة حكم الله - تَعَالَى - فِيهِ، وَلَا تكون إِرَادَة للْقَتْل بل لموجب الْقَتْل من الْإِثْم وَالْعِقَاب، وَفِيه قَول ثَالِث: أَن مَعْنَاهُ: إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك؛ فَكَأَنَّهُ كَانَ يمنعهُ عَن الْقَتْل، وَأَرَادَ ترك الْقَتْل؛ كَيْلا يبوء بالإثم.(2/31)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
قَوْله - تَعَالَى -: {فطوعت لَهُ نَفسه قتل أَخِيه} قَالَ مُجَاهِد: فشجعت لَهُ نَفسه، وَقَالَ قَتَادَة: زينت لَهُ نَفسه، وَقيل: سهلت، وانقادت لَهُ نَفسه، وَمِنْه يُقَال: ظَبْيَة أطاعت لَهَا أصُول الشَّجَرَة، أَي: انقادت لأكلها.
(فَقتله فَأصْبح من الخاسرين) أَي: خسر بقتْله الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، أما الدُّنْيَا: لِأَنَّهُ أَسخط وَالِديهِ، وَبَقِي بِلَا أَخ، وَأما الْآخِرَة: لِأَنَّهُ أَسخط ربه، واستوجب النَّار.
والقصة فِي قَتله إِيَّاه: أَنه لما أَرَادَ قَتله لم يعرف كَيفَ يقْتله، فجَاء إِبْلِيس بِحجر، وَقَالَ: اشدخ بِهِ رَأسه، فَفِي رِوَايَة أَنه رَمَاه بذلك الْحجر، وَهُوَ مستسلم لَهُ؛ فشدخ رَأسه، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: اغتاله فِي النّوم، وشدخ رَأسه؛ فَقتله، وشربت الأَرْض دَمه فَلَمَّا جَاءَ إِلَى آدم، قَالَ لَهُ: أَيْن هابيل؟ فَقَالَ: أجعلتني رقيبا عَلَيْهِ، مَا أَدْرِي! قَالَ لَهُ آدم: إِن الأَرْض تصرخ بدمه إِلَيّ، ثمَّ لعن الأَرْض الَّتِي شربت دَمه، فَلَا تشرب الأَرْض بعد ذَلِك دَمًا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَبكى آدم عَلَيْهِ كثيرا، وَأَنْشَأَ يَقُول:
(تَغَيَّرت الْبِلَاد وَمن عَلَيْهَا ... وَوجه الأَرْض مغبر قَبِيح)
(تغير كل ذِي لون وَطعم ... وَقل بشاشة الْوَجْه الْمليح)
وَهَذَا أول قتل جرى فِي بني آدم، وَفِي الْخَبَر " مَا من رجل يقتل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؛ إِلَّا وعَلى ابْن آدم كفل مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ أول من سنّ الْقَتْل ".(2/31)
{يواري سوءة أَخِيه قَالَ يَا ويلتي أعجزت أَن أكون مثل هَذَا الْغُرَاب فأواري سوءة أخي فَأصْبح من النادمين (31) من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إِسْرَائِيل أَنه من قتل نفسا بِغَيْر}(2/32)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَبعث الله غرابا يبْحَث فِي الأَرْض} فِي الْقَصَص: أَن قابيل لما (قَتله رَجَعَ إِلَيْهِ) ، وَأَخذه، وَجعله فِي جراب وَحمله على عَاتِقه أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقَالَ ابْن عَبَّاس، سنة كَامِلَة، قَالَ مُجَاهِد: مائَة سنة حَتَّى أنتن على عَاتِقه، وَمَا كَانَ يعرف مواراته: فَبعث الله غرابين فاقتتلا، [فَقتل] أَحدهمَا الآخر، ثمَّ إِن الْقَاتِل مِنْهُمَا بحث فِي الأَرْض ليواري الثَّانِي، وَقيل: كَانَ ملكا على صُورَة غراب {يبْحَث فِي الأَرْض ليريه كَيفَ يواري سوأة أَخِيه} أَي: جيفة أَخِيه، وَقيل: عَورَة أَخِيه؛ لِأَنَّهُ كَانَ قد سلبه ثِيَابه.
{قَالَ يَا ويلتي} وَهَذِه كلمة دُعَاء الْهَلَاك {أعجزت أَن أكون} أضعفت أَن أكون {مثل هَذَا الْغُرَاب فأواري سوأة أخي فَأصْبح من النادمين} فَإِن قَالَ قَائِل: هَل كَانَ ندمه على الْقَتْل تَوْبَة مِنْهُ؟
قيل: لم يكن نَدم على الْقَتْل، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنه أصبح من النادمين على حمله على عَاتِقه، (والتطواف) بِهِ؛ لما (لحقه) من التَّعَب فِيهِ، وَقيل: إِنَّمَا نَدم لقلَّة النَّفْع بقتْله؛ فَإِنَّهُ أَسخط وَالِديهِ، وَمَا نفع بقتْله شَيْئا؛ فندم على ذَلِك، لَا أَنه نَدم على الْقَتْل، وَفِي الْقِصَّة أَنه لما قَتله استوحش من النَّاس، وَكَانَ كلما لَقِي إنْسَانا ظن أَنه يَأْتِي ليَقْتُلهُ فهرب مِنْهُ، وَكَانَ هَكَذَا أبدا حَتَّى قَتله بعض أَوْلَاده.(2/32)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قَوْله - تَعَالَى -: {من أجل ذَلِك} أَي: من خِيَانَة ذَلِك {كتبنَا على بني إِسْرَائِيل أَنه من قتل نفسا بِغَيْر نفس أَو فَسَاد فِي الأَرْض} قَرَأَ الْحسن: " أَو فَسَاد فِي الأَرْض " تَقْدِيره بِغَيْر نفس، وَبِغير أَن عمل فَسَادًا فِي الأَرْض، وَالْمَعْرُوف: أَو فَسَاد فِي الأَرْض، وَتَقْدِيره: بِغَيْر نفس، وَبِغير فَسَاد فِي الأَرْض: من كفر، أَو زنا، وَنَحْوه،(2/32)
{نفس أَو فَسَاد فِي الأَرْض فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا وَمن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا وَلَقَد جَاءَتْهُم رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثمَّ إِن كثيرا مِنْهُم بعد ذَلِك فِي الأَرْض لمسرفون (32) إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو} يُوجب إِبَاحَة قَتله على مَا قَالَه: " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث كفر بعد إِيمَان أَو زنا بعد إِحْصَان أَو قتل نفس بِغَيْر نفس ".
{فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: من قتل نفسا بِغَيْر نفس فقد أوبق نَفسه كَمَا إِذا قتل النَّاس جَمِيعًا؛ (فقد أوبق نَفسه) {وَمن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا} أَي: وَمن امْتنع عَن قتل وَاحِد من النَّاس؛ فَيكون كَأَنَّهُ أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا، وَقَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ من قتل نفسا فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا من الْإِثْم، وَمن أَحْيَاهَا، أَي: تعفف وَامْتنع عَن قَتلهَا، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا فِي الثَّوَاب، وَقيل: مَعْنَاهُ: من قتل نفسا، فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا على معنى أَن جَمِيع النَّاس خصماؤه فِيهِ، وَمن أَحْيَاهَا، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا، على معنى أَنهم يشكرونه، ويحمدونه على الْعَفو، أَو ترك الْقَتْل.
{وَلَقَد جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ ثمَّ إِن كثيرا مِنْهُم بعد ذَلِك فِي الأَرْض لمسرفون} .(2/33)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف أَو ينفوا من الأَرْض} .
قَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة فِي قوم من الْمُشْركين، كَانَ بَينهم وَبَين النَّبِي عهد، فنقضوا الْعَهْد، وَسعوا فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ، وَقَالَ أنس: " الْآيَة فِي رَهْط من عرينة، أَتَوا النَّبِي ووجوههم مصفرة، وبطونهم منتفخة؛ فبعثهم رَسُول الله إِلَى إبل الصَّدَقَة؛ ليشربوا من أبوالها، وَأَلْبَانهَا، فَفَعَلُوا فَلَمَّا صحوا، قتلوا الرَّاعِي، وَاسْتَاقُوا الذود؛ فَبعث سَوَّلَ الله فِي طَلَبهمْ، فأدركوهم، فَأتي بهم إِلَى النَّبِي، فَقتل بَعضهم (وَقطع) بَعضهم من خلاف وسمل أعين بَعضهم، وتركهم فِي الْحرَّة حَتَّى(2/33)
{تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف أَو ينفوا من الأَرْض ذَلِك لَهُم خزي فِي الدُّنْيَا وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم (33) إِلَّا الَّذين تَابُوا من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم فاعلموا أَن الله} مَاتُوا " وَفِيهِمْ نزلت الْآيَة {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} .
قيل: مَعْنَاهُ يُحَاربُونَ أَوْلِيَاء الله، وَقيل: هُوَ صَحِيح فِي الْعَرَبيَّة، فَإِن من عصى غَيره فقد حاربه، فَهَؤُلَاءِ إِذا عصوا الله وَرَسُوله، فكأنهم حَاربُوا الله وَرَسُوله، وَيدخل فِي جُمْلَتهمْ كل العاصين، وقطاع الطَّرِيق، وَغَيرهم.
وَقَوله: {أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم} اخْتلفُوا فِيهِ، أَنه على التَّرْتِيب، أم على التَّخْيِير؟ قَالَ ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة، وَهُوَ قَول الْحسن، وَقَتَادَة، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَمُجاهد -: إِنَّهَا على التَّخْيِير، فَيُخَير الإِمَام فِي فعل هَذِه الْأَشْيَاء.
القَوْل الثَّانِي: - وَهُوَ الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ أَبُو مجلز لَاحق بن حميد -: إِنَّه على التَّرْتِيب، فَإِن قتلوا: قتلوا وصلبوا، وَإِن أخذُوا المَال: قطعُوا من خلاف، وَإِن جمعُوا بَين الْأَخْذ وَالْقَتْل: قطعُوا، وَقتلُوا، إِن أخافوا السَّبِيل وَلم يَأْخُذُوا المَال وَلم يقتلُوا: ينفوا من الأَرْض.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي النَّفْي، قَالَ الزُّهْرِيّ: إِن الإِمَام يَطْلُبهُ فِي كل بلد يُؤْخَذ، وينفى عَنهُ، وَهَكَذَا فِي كل بلد يذكر بِهِ، يطْلب؛ فينفى عَنهُ، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي.
وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز: إِنَّه ينفى من جَمِيع بِلَاد الْإِسْلَام، وَقَالَ أهل الْكُوفَة: النَّفْي من الأَرْض هُوَ الْحَبْس، وَالْحَبْس نفي من الأَرْض، قَالَ الشَّاعِر يصف قوما محبوسين:
(خرجنَا من الدُّنْيَا وَنحن من أَهلهَا ... فلسنا من الْأَحْيَاء فِيهَا وَلَا الْمَوْتَى)
(إِذا جَاءَنَا السجان يَوْمًا لحَاجَة ... عجبنا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا من الدُّنْيَا)
{ذَلِك لَهُم خزي فِي الدُّنْيَا} أَي: فضيحة: ونكال ( {وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم}(2/34)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
إِلَّا الَّذين تَابُوا من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم) قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: إِلَّا(2/34)
{غَفُور رَحِيم (34) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وابتغوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة وَجَاهدُوا فِي سَبيله لَعَلَّكُمْ تفلحون (35) إِن الَّذين كفرُوا لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه ليفتدوا} الَّذين أَسْلمُوا؛ لِأَنَّهُ حمل الْآيَة الأولى على الْمُشْركين، وَقيل: هُوَ على حَقِيقَة التَّوْبَة، فَإِذا تَابَ قطاع الطَّرِيق قبل الظفر بهم؛ أَمنهم الإِمَام، وَهَذَا محكي عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - فَإِنَّهُ أَمن [حَارِثَة] بن بدر لما قطع الطَّرِيق، ثمَّ تَابَ قبل قدرته عَلَيْهِ، وَقيل: إِنَّمَا تَنْفَعهُ التَّوْبَة من حُقُوق الله - تَعَالَى - فَأَما حق الْآدَمِيّ: من الْقود، وَالْمَال فَلَا يسْقط بِالتَّوْبَةِ، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي.
وَقَوله {من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم} خطاب للأئمة، أَي: من قبل الظفر بهم {فاعلموا أَن الله غَفُور رَحِيم} .(2/35)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وابتغوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة} الْوَسِيلَة: الْقرْبَة، وَقيل: هُوَ معنى مَا ورد فِي الْخَبَر " الْوَسِيلَة: دَرَجَة فِي الْجنَّة لَيْسَ فَوْقهَا دَرَجَة " وَقَالَ زيد بن أسلم: أَرَادَ بِهِ تحببوا إِلَى الله - تَعَالَى - فالوسيلة بِمَعْنى الْمحبَّة. {وَجَاهدُوا فِي سَبيله لَعَلَّكُمْ تفلحون} .(2/35)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الَّذين كفرُوا لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه ليفتدوا بِهِ} أَي: لَو كَانُوا مفتدين بِهِ من عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة {مَا تقبل مِنْهُم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} وَفِي الْخَبَر: " يَقُول الله - تَعَالَى - للْكَافِرِ يَوْم الْقِيَامَة: لَو كَانَ لَك ملْء الأَرْض ذَهَبا أَكنت مفتديا بِهِ الْيَوْم؟ فَيَقُول بلَى يَا رب، فَيَقُول الله - تَعَالَى - سُئِلت أَهْون من هَذَا ".(2/35)
{بِهِ من عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة مَا تقبل مِنْهُم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (36) يُرِيدُونَ أَن يخرجُوا من النَّار وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُم عَذَاب مُقيم (37) وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم (38) فَمن تَابَ من بعد ظلمه وَأصْلح}(2/36)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
قَوْله - تَعَالَى -: {يُرِيدُونَ أَن يخرجُوا من النَّار وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُم عَذَاب مُقيم} فَإِن قيل: إِذا لم يَكُونُوا خَارِجين مِنْهَا، كَيفَ يُرِيدُونَ الْخُرُوج؟ قيل: يُرِيدُونَ ذَلِك جهلا؛ ظنا أَنهم يخرجُون.
وَقيل: يتمنون ذَلِك، فَهِيَ إِرَادَة بِمَعْنى التَّمَنِّي، وَلَيْسَ بِحَقِيقَة الْإِرَادَة.(2/36)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَفِي مصحف ابْن مَسْعُود: فَاقْطَعُوا أيمانهما، وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ {أَيْدِيهِمَا} وَالْمَذْكُور اثْنَان، وَلم يقل: يديهما؟ قيل: لم يرد بِهِ سَارِقا وَاحِدًا، أَو سارقة وَاحِدَة، وَإِنَّمَا ذكر الْجِنْس؛ فَلذَلِك ذكر الْأَيْدِي. قَالَ الْفراء، والزجاج: كل مَا يوحد فِي الْإِنْسَان، فَإِذا ذكر مِنْهُ اثْنَان يجمع؛ يَقُول الله - تَعَالَى - {فقد صغت قُلُوبكُمَا} وَتقول الْعَرَب: مَلَأت ظهورهما وبطونهما ضربا، وَلكُل وَاحِد ظهر وبطن وَاحِد، فَكَذَلِك الْيَمين للْإنْسَان وَاحِدَة؛ فَيجمع عِنْد التَّثْنِيَة، فَإِن قيل: قد أَمر هُنَا بِقطع آلَة السّرقَة، وَلم يَأْمر فِي الزِّنَا بِقطع آلَة الزِّنَا، فَمَا الْحِكْمَة فِيهِ؟ قيل: كِلَاهُمَا ثَبت شرعا، غير مَعْقُول الْمَعْنى. وَقيل: الْحِكْمَة فِيهِ: أَن من قطع الذّكر قطع النَّسْل، وَلَيْسَ ذَلِك فِي قطع الْيَد؛ أَو لِأَن الْيَد إِذا قطعت، وانزجر عَن السّرقَة، تبقى لَهُ الْيَسَار؛ عوضا عَن الْيَمين، وَأما الذّكر إِذا قطع، وَحصل الانزجار، لَا يبْقى لَهُ عوض عَن الذّكر [فَلذَلِك] افْتَرقَا {جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله} النكال: كل عُقُوبَة تمنع الْإِنْسَان عَن فعل مَا عُوقِبَ عَلَيْهِ {وَالله عَزِيز حَكِيم} وَمَعْنَاهُ: مقتدر على معاقبة الْخلق، {حَكِيم} فِيمَا أوجب من الْعقُوبَة، وَحكى عَن الْأَصْمَعِي أَنه [قَالَ] : قد كنت أَقرَأ هَذِه الْآيَة وبجنبي أَعْرَابِي، فَقَرَأت: نكالا من الله وَالله غَفُور رَحِيم؛ فَقَالَ الْأَعرَابِي: هَذَا كَلَام من؟ فَقلت: كَلَام الله، فَقَالَ الْأَعرَابِي: لَيْسَ هَذَا من كَلَام الله.(2/36)
{فَإِن الله يَتُوب عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم (39) ألم تعلم أَن الله لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يعذب من يَشَاء وَيغْفر لمن يَشَاء وَالله على كل شَيْء قدير (40) يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم وَلم تؤمن} فتنبهت وقرأت {نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم} فَقَالَ الْأَعرَابِي: هَذَا كَلَام الله، ثمَّ سَأَلته عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِن الله لَا يذكر الْعقُوبَة على العَبْد ثمَّ يَقُول: " وَالله غَفُور رَحِيم "، وَإِنَّمَا يَلِيق بِذكر الْعقُوبَة: الْعَزِيز الْحَكِيم.(2/37)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
قَوْله - تَعَالَى -: (فَمن تَابَ من بعد ظلمه وَأصْلح فَإِن الله يَتُوب عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم) قَالَ مُجَاهِد: قطع السَّارِق تَوْبَته، فَإِذا قطع، فقد حصلت التَّوْبَة، وَالصَّحِيح: أَن الْقطع للجزاء على الْجِنَايَة، كَمَا قَالَ: {جَزَاء بِمَا كسبا} فَلَا بُد من التَّوْبَة بعده، وتوبته: النَّدَم على مَا مضى، والعزم على تَركه فِي الْمُسْتَقْبل.(2/37)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
قَوْله - تَعَالَى -: {ألم تعلم أَن الله لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض} الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَالْمرَاد بِهِ الْجَمِيع، وَقيل (مَعْنَاهُ) : ألم تعلم أَيهَا الْإِنْسَان؛ فَيكون خطابا لكل وَاحِد من النَّاس. {يعذب من يَشَاء وَيغْفر لمن يَشَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس: يعذب من يَشَاء على الصَّغِيرَة، وَيغْفر لمن يَشَاء الْكَبِيرَة، وَقَالَ غَيره: يعذب من يَشَاء: من مَاتَ مصرا، وَيغْفر لمن يَشَاء: من مَاتَ تَائِبًا {وَالله على كل شَيْء قدير} .(2/37)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر} أَي: لَا يحزنك مسارعتهم فِي الْكفْر؛ فَإِن قيل: كَيفَ لَا يحزنهُ كفرهم، وَالْإِنْسَان يحزن على كفر الْغَيْر ومعصيته؛ شَفَقَة على الدّين؟ قيل: مَعْنَاهُ: لَا يحزنك فعل الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر، على (معنى: أَن) فعلهم لَا يَضرك.
{من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم وَلم تؤمن قُلُوبهم} يَعْنِي: الْمُنَافِقين.
{وَمن الَّذين هادوا سماعون للكذب} يَعْنِي: الْيَهُود {سماعون للكذب} أَي: وهم سماعون للكذب، أَي: قَائِلُونَ للكذب، كَقَوْل الْمُصَلِّي: سمع الله لمن حَمده. أَي: قبل الله لمن حَمده. وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: سماعون لأجل الْكَذِب؛ فَإِنَّهُم كَانُوا(2/37)
{قُلُوبهم وَمن الَّذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخَرين لم يأتوك يحرفُونَ الْكَلم من بعد موَاضعه يَقُولُونَ إِن أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا وَمن يرد} يسمعُونَ من الرَّسُول، وَيخرجُونَ، ويكذبون {سماعون لقوم آخَرين لم يأتوك} أَي: جواسيس لقوم آخَرين لم يأتوك، وهم أهل خَيْبَر، يصف الْمُنَافِقين وَالْيَهُود، وَأما المُنَافِقُونَ: كَانُوا جواسيس الْيَهُود، وَأما الْيَهُود كَانُوا جواسيس لأهل خَيْبَر، وَسُئِلَ سُفْيَان: هَل فِي الْقُرْآن للجاسوس ذكر؟
فَقَالَ: (بلَى) وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة.
{يحرفُونَ الْكَلم من بعد موَاضعه} أَي: من بعد مَا وَضعه الله موَاضعه، وتحريفهم الْكَلم: هُوَ كتمان آيَة الرَّجْم.
{وَيَقُولُونَ إِن أويتم هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا} .
سَبَب نزُول الْآيَة [هَذِه] : أَن يهوديين زَنَيَا من أَشْرَاف الْيَهُود، فكرهوا رجمهما؛ فَقَالُوا: نبعث إِلَى مُحَمَّد نَسْأَلهُ، فَإِن أفتى بِالْجلدِ وتحميم الْوَجْه، نَأْخُذ بِهِ، وَإِن أفتى بِغَيْرِهِ، لَا نَأْخُذ بِهِ، فَهَذَا معنى قَوْله: {إِن أُوتِيتُمْ هَذَا} يَعْنِي: مَا توافقوا عَلَيْهِ من الْجلد وَالتَّحْمِيم {فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا} أَي: إِن أفتى بِالرَّجمِ فَلَا تَأْخُذُوا بِهِ، وَقيل: " إِن هَذَا كَانَ فِي يهود خَيْبَر، فبعثوا إِلَى يهود الْمَدِينَة حَتَّى يسألوه، فسألوا رَسُول الله، فَأفْتى بِالرَّجمِ " وَتَمام الْقِصَّة: " أَنه - عَلَيْهِ السَّلَام - دَعَا ابْن صوريا الْأَعْوَر، وَقَالَ: أنْشدك بِاللَّه الَّذِي أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى، مَا حد الزِّنَا فِي كتابكُمْ؟ فَقَالَ: أما إِنَّك إِذا أنشدتني بِاللَّه، فحد الزِّنَا فِي كتَابنَا: الرَّجْم، لَكِن كثر الزِّنَا فِي أشرافنا؛ فَكُنَّا إِذا زنى الشريف منا تَرَكْنَاهُ، وَإِذا زنا الوضيع رجمناه، ثمَّ اتفقنا على أَمر يَسْتَوِي فِيهِ الشريف والوضيع، وَهُوَ الْجلد وَالتَّحْمِيم، فَقَالَ: أَنا أَحَق بإحياء سنة أماتوها، ودعا باليهوديين اللَّذين زَنَيَا وَأمر برجمهما " والْحَدِيث فِي(2/38)
{الله فتنته فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا أُولَئِكَ الَّذين لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم (41) سماعون للكذب أكالون للسحت} صَحِيح مُسلم.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَنَّهَا فِي الْقَتْل، والقصة فِي ذَلِك: أَن بني النَّضِير كَانَ لَهُم قتل على بني قُرَيْظَة، وَكَانَ الْقرظِيّ إِذا قتل يسْأَل مُحَمَّدًا؛ فَإِن أفتى بِالدِّيَةِ يَأْخُذ بِهِ، وَإِن أفتى بغَيْرهَا يحذرهُ، فَسَأَلُوهُ. فَأفْتى بالقود. فَهَذَا معنى قَوْله: {إِن أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا} وَالْأول أصح {وَمن يرد الله فتنته} قَالَ السّديّ: ضلالته، وَقَالَ الْحسن: عَذَابه، وَقَالَ الزّجاج: فضيحته {فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا} أَي: فَلَنْ تقدر على دفع أَمر الله فِيهِ.
{أُولَئِكَ الَّذين لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم} وَفِيه دَلِيل على من يُنكر الْقدر {لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي} وَيرجع هَذَا إِلَى الْمُنَافِقين، وَالْيَهُود، أما خزي الْمُنَافِقين: أَنه أظهر نفاقهم فِي الدُّنْيَا، وَأما خزي الْيَهُود: أَنه بَين تحريفهم {وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم} .(2/39)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
قَوْله - تَعَالَى -: {سماعون للكذب} (ذكره) ثَانِيًا مُبَالغَة وتأكيدا {أكالون للسحت} قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ الرِّشْوَة، والسحت: الْحَرَام، قَالَ: (كل لحم نبت من سحت فَالنَّار أولى بِهِ " وأصل السُّحت: الاستئصال؛ فالحرام سحت؛ لِأَنَّهُ يستأصل الْبركَة، قَالَ الشَّاعِر:(2/39)
{فَإِن جاءوك فاحكم بَينهم أَو أعرض عَنْهُم وَإِن تعرض عَنْهُم فَلَنْ يضروك شَيْئا وَإِن حكمت فاحكم بَينهم بِالْقِسْطِ إِن الله يحب المقسطين (42) وَكَيف يحكّمونك وَعِنْدهم التوارة فِيهَا حكم الله ثمَّ يتولون من بعد ذَلِك وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إنّا}
(وعضّ زمَان يَا بن مَرْوَان لم يدع ... من المَال إِلَّا مسحت أَو مجلف)
يَعْنِي: إِلَّا مَال لَا بركَة فِيهِ، وَأَشْيَاء قَلَائِل {فَإِن جاءوك فاحكم بَينهم أَو أعرض عَنْهُم} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ مَنْسُوخ بقوله: {وان احكم بَينهم بِمَا أنزل الله} وَبِه قَالَ مُجَاهِد، وَعِكْرِمَة. وَقَالَ الشّعبِيّ: وَالنَّخَعِيّ - وَهُوَ قَول الْحسن - إِنَّهَا لَيست بمنسوخة. قَالَ الْحسن: لَيْسَ فِي الْمَائِدَة آيَة مَنْسُوخَة، وَقَالُوا: معنى قَوْله: {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله} يَعْنِي إِن حكمت واخترت الحكم، وَلَيْسَ بِأَمْر حتم هَذَا التَّخْيِير بَين الحكم والإعراض فِيمَا إِذا تحاكم ذميان، فَأَما إِذا تحاكم مُسلم وذمي يجب الحكم.
وَقيل: هَذَا التَّخْيِير فِي الحكم بِحُقُوق الله - تَعَالَى - وَأما فِي حُقُوق الْآدَمِيّين فَلَا بُد من الحكم.
{وَإِن تعرض عَنْهُم فَلَنْ يضروك شَيْئا وَإِن حكمت فاحكم بَينهم بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ {إِن الله يحب المقسطين} .(2/40)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَيف يحكمونك وَعِنْدهم التَّوْرَاة فِيهَا حكم الله} هَذَا تعجيب للرسول، يَعْنِي: كَيفَ يتحاكمون إِلَيْك، وَفِي زعمهم أَن عِنْدهم التَّوْرَاة وَهِي الْحق، وَأَنَّك كَاذِب؟
{ثمَّ يتولون من بعد ذَلِك} أَي: لَا يرضون بحكمك {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أَي: بمصدقين لَك.(2/40)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا} أَي: أَسْلمُوا لأمر الله، كَمَا قَالَ لإِبْرَاهِيم: {أسلم قَالَ أسلمت لرب(2/40)
{أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا للَّذين هادوا والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلَا تخشوا النَّاس واخشون} الْعَالمين) أَي: سلمت لأمر رب الْعَالمين، وَأَرَادَ بِهِ: النَّبِيين الَّذين بعثوا بعد مُوسَى؛ ليحكموا على حكم التَّوْرَاة، وَقَوله: {للَّذين هادوا} فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: فِيهَا هدى، وَنور للَّذين هادوا، ثمَّ قَالَ: {يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا والربانيون} وَقيل: هُوَ على مَوْضِعه، وَمَعْنَاهُ: يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا على الَّذين هادوا، وَهُوَ مثل قَوْله: {أُولَئِكَ لَهُم اللَّعْنَة} أَي: عَلَيْهِم اللَّعْنَة، وَقَالَ لعَائِشَة: " اشترطي لَهُم الْوَلَاء " أَي: عَلَيْهِم الْوَلَاء كَذَا قَالَ النّحاس، وَقيل: فِيهِ حذف، كَأَنَّهُ قَالَ: للَّذين هادوا على الَّذين هادوا؛ فَحذف أَحدهمَا؛ اختصارا {والربانيون} قَالَ أَبُو رزين: هم الْعلمَاء الْحُكَمَاء، وأصل الرباني: رب الْعلم، فزيد فِيهِ الْألف وَالنُّون؛ للْمُبَالَغَة، وَقيل: الربانيون من النَّصَارَى، والأحبار من الْيَهُود، وَقيل: كِلَاهُمَا من الْيَهُود، والربانيون فَوق الْأَبَّار. قَالَ الْمبرد: والأحبار: مَأْخُوذ من التحبير، وَهُوَ التحسين، وَمِنْه الحَدِيث: " يخرج من النَّار رجل قد ذهب حبره وسبره " أَي حسنه وجماله، وَقيل: هُوَ من التحبير بِمَعْنى التَّأْثِير، وَمِنْه الحبر، فَسمى الْعَالم: حبرًا؛ لتأثير علمه فِيهِ وَفِي غَيره، كَأَنَّهُ الْعَالم الْعَامِل، والحبر والحبر وَاحِد، وَجمعه الْأَحْبَار، قَالَ الْفراء: وَأكْثر مَا سَمِعت: الحبر - بِكَسْر الْحَاء - وَجمعه أَحْبَار.
{مَا استحفظوا} أَي: بِمَا استودعوا {من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلَا تخشوا النَّاس واخشون وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا} .(2/41)
{وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ (44) وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ وَالْعين بِالْعينِ وَالْأنف بالأنف وَالْأُذن بالأذن وَالسّن بِالسِّنِّ والجروح قصاص فَمن تصدق بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ (45) }
{وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} قَالَ الْبَراء بن عَازِب - وَهُوَ قَول الْحسن -: الْآيَة فِي الْمُشْركين. قَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة فِي الْمُسلمين، وَأَرَادَ بِهِ كفر دون كفر، وَاعْلَم أَن الْخَوَارِج يستدلون بِهَذِهِ الْآيَة، وَيَقُولُونَ: من لم يحكم بِمَا أنزل الله فَهُوَ كَافِر، وَأهل السّنة قَالُوا: لَا يكفر بترك الحكم، وللآية تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله ردا وجحدا فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ. وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: وَمن لم يحكم بِكُل مَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ، وَالْكَافِر هُوَ الَّذِي يتْرك الحكم بِكُل مَا أنزل الله دون الْمُسلم.(2/42)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قَوْله تَعَالَى: {وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ وَالْعين بِالْعينِ وَالْأنف بالأنف وَالْأُذن بالأذن وَالسّن بِالسِّنِّ والجروح قصاص} وَيقْرَأ بقراءتين من قَوْله: {وَالْعين بِالْعينِ} فَيقْرَأ بِالنّصب إِلَى آخِره، وَيقْرَأ بِالرَّفْع.
شرع الْقصاص فِي النَّفس والأطراف فِي هَذِه الْآيَة، وَأَشَارَ إِلَى أَنه كَانَ حكم التَّوْرَاة {فَمن تصدق بِهِ} يَعْنِي: بِالْعَفو عَن الْقصاص {فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ} اخْتلفُوا فِي أَن كِنَايَة الْهَاء رَاجِعَة إِلَى من؟ قَالَ ابْن مَسْعُود، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: هُوَ رَاجع إِلَى الْمَجْرُوح، يَعْنِي: الْعَفو، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ رَاجع إِلَى الْجَارِح، كَأَنَّهُ جعل الْعَفو كالاستيفاء مِنْهُ؛ فَيكون كَفَّارَة لَهُ كَمَا لَو اقْتصّ مِنْهُ {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} .(2/42)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
قَوْله - تَعَالَى -: {وقفينا على آثَارهم} يَعْنِي: أتبعنا على آثَارهم، وَأَرَادَ بِهِ: النَّبِيين الَّذين أَسْلمُوا {بِعِيسَى ابْن مَرْيَم مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من التوارة} يَعْنِي: عِيسَى مُصدقا بِالتَّوْرَاةِ.(2/42)
{وقفينا على آثَارهم بِعِيسَى ابْن مَرْيَم مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل فِيهِ هدى وَنور ومصدقا لما بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَهدى وموعظة لِلْمُتقين (46) وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ (47) وأنزلنا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب ومهيمنا عَلَيْهِ فاحكم بَينهم}
{وآتينا الْإِنْجِيل فِيهِ هدى وَنور ومصدقا} يَعْنِي: الْإِنْجِيل {لما بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَهدى وموعظة لِلْمُتقين} .(2/43)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
قَوْله - تَعَالَى -: {وليحكم أهل الْإِنْجِيل} يَعْنِي: وَقُلْنَا: وليحكم أهل الْإِنْجِيل {مَا أنزل الله فِيهِ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} .(2/43)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قَوْله - تَعَالَى -: {وأنزلنا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ} يَعْنِي: الْقُرْآن {مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب} يَعْنِي: سَائِر الْكتب الْمنزلَة قبله {ومهيمنا عَلَيْهِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي: أَمينا عَلَيْهِ. قَالَ (الْمبرد) : أَصله: مؤيمنا، فقلبت الْهمزَة هَاء، كَمَا يُقَال: أرقت المَاء وهرقته. وَمَعْنَاهُ: الْأمين، وَقيل: مَعْنَاهُ: شَاهدا عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي: رقيبا حَافِظًا، والمعاني مُتَقَارِبَة، وَمعنى الْكل أَن كل [كتاب] يصدقهُ الْقُرْآن، وَيشْهد بصدقه، فَهُوَ كتاب الله، وَمَا لَا فَلَا. وَقَرَأَ مُجَاهِد " ومهيمنا " بِفَتْح الْمِيم، يَعْنِي: مُحَمَّد مؤيمنا عَلَيْهِ، وَفِي الْأَثر أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِذا دَعَوْت الله فهيمنوا أَي أمنُوا " قَالَ الشَّاعِر:
(أَلا إِن خير النَّاس بعد مُحَمَّد ... مهيمنه تاليه فِي الْعرف والنكر)
أَرَادَ أَبَا بكر أمينة وحافظه، يتلوه فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر {فاحكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم عَمَّا جَاءَك من الْحق} أَي: لَا تعرض عَمَّا جَاءَك وتتبع أهواءهم.
{لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} فالشرعة: الطَّرِيق الْوَاضِح، وَكَذَلِكَ الْمِنْهَاج. قَالَ الْمبرد: الشرعة: ابْتِدَاء الطَّرِيق، والمنهاج: الطَّرِيق المستمر. وَاعْلَم أَن الشَّرَائِع مُخْتَلفَة، وَلكُل قوم شَرِيعَة، فلأهل التَّوْرَاة شَرِيعَة، وَلأَهل الْإِنْجِيل شَرِيعَة، وَلأَهل الْإِسْلَام شَرِيعَة، وَأما الدّين فِي الْكل وَاحِد، وَهُوَ التَّوْحِيد.(2/43)
{بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم عَمَّا جَاءَك من الْحق لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة وَلَكِن ليَبْلُوكُمْ فِي مَا آتَاكُم فاستبقوا الْخيرَات إِلَى الله مرجعكم جَمِيعًا فينبئكم بِمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون (48) وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم واحذرهم أَن يفتنوك عَن بعض مَا أنزل الله إِلَيْك فَإِن توَلّوا فَاعْلَم أَنما}
{وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة وَلَكِن ليَبْلُوكُمْ} أَي: ليختبركم. {فِيمَا آتَاكُم فاستبقوا الْخيرَات} فبادروا إِلَى الْخيرَات {إِلَى الله مرجعكم جَمِيعًا فينبئكم بِمَا كُنْتُم فِي تختلفون} .(2/44)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم واحذرهم أَن يفتنوك عَن بعض مَا أنزل الله إِلَيْك} قيل: سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن قوما من رُؤَسَاء الْيَهُود جَاءُوا إِلَى النَّبِي وَقَالُوا: يَا مُحَمَّد، لَو آمنا بك آمن بك غَيرنَا، وَلنَا خصومات بَين النَّاس؛ فَاقْض لنا عَلَيْهِم؛ نؤمن بك، ويتبعنا غَيرنَا "، وَلم يكن قصدهم الْإِيمَان بِهِ، وَإِنَّمَا قصدُوا التلبيس، ودعوته إِلَى الحكم بالميل؛ فَنزلت الْآيَة.
{واحذرهم أَن يفتنوك عَن بعض مَا أنزل الله إِلَيْك فَإِن توَلّوا} فَإِن أَعرضُوا {فَاعْلَم أَنما يُرِيد الله أَن يصيبهم بِبَعْض ذنوبهم} وَقيل: مَعْنَاهُ: بِكُل ذنوبهم، فَعبر بِالْبَعْضِ عَن الْكل، وَقيل: مَعْنَاهُ: يصيبهم بِبَعْض ذنوبهم فِي الدُّنْيَا {وَإِن كثيرا من النَّاس لفاسقون} .(2/44)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
وَقَوله: {أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ} يقْرَأ بِالْيَاءِ وَالتَّاء ومعناهما وَاحِد يَعْنِي أَنهم إِذا لم يرْضوا بِحكم الله، وَأَرَادُوا خلاف حكم الله، فقد طلبُوا حكم الْجَاهِلِيَّة، وَقَرَأَ الْحسن، وَقَتَادَة وَالْأَعْمَش، والأعرج: أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة بِمَعْنى: الْحَاكِم. يَبْغُونَ: يطْلبُونَ {وَمن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}(2/44)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} قيل: نزلت فِي عبَادَة بن الصَّامِت، وَعبد الله بن أبي سلول(2/44)
{يُرِيد الله أَن يصيبهم بِبَعْض ذنوبهم وَإِن كثيرا من النَّاس لفاسقون (49) أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ وَمن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن} اخْتَصمَا فَقَالَ عبَادَة: أَنا أَتَبرأ من الْيَهُود وَلَا أتولاهم، وَقَالَ عبد الله بن أبي: أَنا أتولاهم وَلَا أَتَبرأ مِنْهُم؛ فَإِنِّي أخْشَى الدَّوَائِر، فَنزلت الْآيَة وَقيل: نزلت فِي أبي لبَابَة بن عبد الْمُنْذر بَعثه النَّبِي إِلَى بني قُرَيْظَة حِين حَاصَرَهُمْ، فاستشاروا فِي النُّزُول، وَقَالُوا: مَاذَا يصنع بِنَا إِذا نزلنَا؟ فَأَشَارَ إِلَيْهِم بِالْقَتْلِ، وَجعل أُصْبُعه على حلقه يَعْنِي: يقتلكم؛ متنصحا لَهُم، وَقيل: نزلت فِي يَوْم أحد، فَإِنَّهُ لما انْقَضى حَرْب أحد، وَأصَاب الْمُسلمين مَا أَصَابَهُم، قَالَ بعض أهل الْمَدِينَة: نَحن نتولى الْيَهُود، وَقَالَ بَعضهم: نتولى النَّصَارَى؛ فَإنَّا نخشى أَن لَا يتم أَمر مُحَمَّد، وَأَن يَدُور الْأَمر علينا؛ فَنزلت الْآيَة: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} .(2/45)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
قَوْله - تَعَالَى -: {فترى الَّذين فِي قُلُوبهم مرض} أَي: نفاق {يُسَارِعُونَ فيهم} يَعْنِي: فِي معونتهم وموالاتهم، وَفِيه حذف، كَمَا قَالَ الله - تَعَالَى -: {واسأل الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة {يَقُولُونَ نخشى أَن تصيبنا دَائِرَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: نخشى أَن لَا يتم أَمر مُحَمَّد؛ فيدور الْأَمر علينا، وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ: نخشى أَن يكون قحط؛ فَلَا يتفضلوا علينا بالثمار؛ [إِذْ] كَانَت الْيَهُود أَصْحَاب النخيل وَالثِّمَار، وَالْأول أصح.
{فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح أَو أَمر من عِنْده} قيل: أَرَادَ بِهِ فتح مَكَّة. وَقيل (هُوَ فتح) قرى الْيَهُود مثل خَيْبَر، وفدك، وتيما ووادي الْقرى. {أَو أَمر من عِنْده} قيل: هُوَ إتْمَام أَمر مُحَمَّد، وَقيل: هُوَ إجلاء بني النَّضِير، وَقيل: قتل بني قُرَيْظَة، وَقيل:(2/45)
{الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (51) فترى الَّذين فِي قُلُوبهم مرض يُسَارِعُونَ فيهم يَقُولُونَ نخشى أَن تصيبنا دَائِرَة فعس الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح أَو أَمر من عِنْده فيصبحوا على مَا أَسرُّوا فِي أنفسهم نادمين (52) وَيَقُول الَّذين آمنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذين أَقْسمُوا بِاللَّه جهد} هُوَ الْإِخْبَار بأسماء الْمُنَافِقين؛ ليفتضحوا. {فيصبحوا على مَا أَسرُّوا فِي أنفسهم نادمين(2/46)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
وَيَقُول الَّذين آمنُوا) يَعْنِي: [للْيَهُود] حِين انْكَشَفَ حَال الْمُنَافِقين: {أَهَؤُلَاءِ الَّذين أَقْسمُوا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم إِنَّهُم لمعكم حبطت أَعْمَالهم فَأَصْبحُوا خاسرين} .(2/46)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه} وَقَرَأَ أهل الْمَدِينَة وَالشَّام: " من يرتدد " وَالْمعْنَى وَاحِد {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قَالَ عَليّ، وَالْحسن: نزل هَذَا فِي أبي بكر وَأَصْحَابه. وَكَانَ الْحسن يحلف على هَذَا، أَنه نزل فِي أبي بكر وَأَصْحَابه، وَذَلِكَ أَن النَّبِي لما خرج إِلَى رَحْمَة الله ارْتَدَّت الْعَرَب، وَلم يبْق الْإِسْلَام إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَسَاجِد: مَسْجِد مَكَّة، وَمَسْجِد الْمَدِينَة، وَمَسْجِد الْبَحْرين؛ فهم أَبُو بكر بِالْقِتَالِ، وَكره الصَّحَابَة ذَلِك، وَقَالُوا: إِن بَعضهم منع الزَّكَاة، وَلم يتْركُوا الصَّلَاة، وَقَالَ أَبُو بكر: وَالله (لأقاتلن من) فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، وَقيل: إِنَّه سل سَيْفه، وَخرج وَحده، وَقَالَ: أقَاتل وحدي، ثمَّ وَافقه الصَّحَابَة، قَالَ ابْن مَسْعُود: كرهنا ذَلِك لَك فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ حمدناه عَلَيْهِ فِي الِانْتِهَاء، قَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش: سَمِعت أَبَا حُصَيْن يَقُول: مَا ولد مَوْلُود بعد النَّبِيين أفضل من أبي بكر، لقد قَامَ مقَام نَبِي من الْأَنْبِيَاء، يَعْنِي: فِي قتال أهل الرِّدَّة، وردهم إِلَى الْإِسْلَام.
وروى عِيَاض الْأَشْعَرِيّ: " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم} وَأَشَارَ إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَقَالَ: هَذَا وَأَصْحَابه " وَكَانُوا من أهل الْيمن،(2/46)
{أَيْمَانهم إِنَّهُم لمعكم حبطت أَعْمَالهم فَأَصْبحُوا خاسرين (53) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على} وَلأَهل الْيمن أَمر عَظِيم فِي الْفتُوح الَّتِي وَقعت فِي الْإِسْلَام، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْإِيمَان يمَان، وَالْحكمَة يَمَانِية " وَقيل: أَرَادَ بِالْآيَةِ: قوما كَانَ أَكْثَرهم من أهل الْيمن؛ فتحُوا الْقَادِسِيَّة فِي زمَان عمر. وَالْأول أصح {أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ} لَيْسَ من الذل، وَإِنَّمَا هُوَ من الذلة، وَهِي اللين.
وَقَوله: {أعزة على الْكَافرين} لَيْسَ من الْعِزّ وَإِنَّمَا هُوَ من الْعِزَّة؛ وَهِي: الشدَّة، يَعْنِي: أَن جانبهم لين على الْمُؤمنِينَ، شَدِيد على الْكَافرين، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ غلظاء على الْكَافرين " وَهِي معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة.
{يجاهدون فِي سَبِيل الله لَا يخَافُونَ لومة لائم} يَعْنِي: لَا يخَافُونَ فِي الله لوم النَّاس، وروى ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أَرَادَ الْجنَّة لَا شكّ، فَلَا يخَاف فِي الله لومة لائم " {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم} .
قَوْله - تَعَالَى -: {إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله} هَذَا رَاجع إِلَى قَوْله: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} لما مَنعهم من مُوالَاة الْيَهُود وَالنَّصَارَى، دعاهم إِلَى مُوالَاة الله وَرَسُوله.
{وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ} يَعْنِي: مصلون؛ إِلَّا أَنه خص الرُّكُوع تَشْرِيفًا، وَقيل: مَعْنَاهُ: خاضعون، وَقَالَ السّديّ: - وَهُوَ رِوَايَة عَن مُجَاهِد - إِن هَذَا أنزل فِي عَليّ بن أبي طَالب، كَانَ فِي الرُّكُوع، ومسكين(2/47)
{الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم (54) إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ (55) وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله} يطوف فِي الْمَسْجِد فَنزع خَاتمه، وَدفع إِلَيْهِ، فَهَذَا معنى قَوْله: {وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ} وَعَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر أَنه قَالَ: نزلت الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ، فَقيل لَهُ: إِن قوما يَقُولُونَ: إِن الْآيَة نزلت فِي عَليّ بن أبي طَالب، فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: عَليّ من الْمُؤمنِينَ.(2/48)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
وَقَوله: {إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله} أَرَادَ بِهِ: الْولَايَة فِي الدّين، لَا ولَايَة الْإِمَارَة والسلطنة، وهم فَوق كل ولَايَة، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَكَذَلِكَ معنى قَوْله: " من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ " يَعْنِي: من كنت وليا لَهُ، أعينه وأنصره، فعلي يُعينهُ وينصره فِي الدّين.(2/48)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
قَوْله: {وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله هم الغالبون} أَي: جند الله هم الغالبون،(2/48)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هذوا وَلَعِبًا} هَذَا فِي الْيَهُود، كَانُوا إِذا سمعُوا الْمُؤَذّن ضحكوا، وتغامزوا بَينهم {من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} يَعْنِي: الْيَهُود {وَالْكفَّار} : سَائِر الْكَفَرَة {أَوْلِيَاء} أَي: لَا تَتَّخِذُوا هَؤُلَاءِ أَوْلِيَاء. وَقَرَأَ الْكسَائي، وَأَبُو عَمْرو: " وَالْكفَّار " بِكَسْر الرَّاء، يَعْنِي: وَمن الْكفَّار، وَكَذَا فِي حرف أبي بن كَعْب " وَمن الْكفَّار أَوْلِيَاء " ( {وَاتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين}(2/48)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا) هَذَا بَيَان لاتخاذهم الدّين هزوا فِي الْآيَة الأولى {ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ} .(2/48)
{هم الغالبون (56) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هزوا وَلَعِبًا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَالْكفَّار أَوْلِيَاء وَاتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين (57) وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ (85) قل يَا أهل الْكتاب هَل تَنْقِمُونَ منا إِلَّا أَن آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل من قبل وَأَن أَكْثَرَكُم}
و (فِي) الحكايات: أَن وَاحِدًا من الْمُنَافِقين يُقَال لَهُ: ضَمرَة، سمع الْمُؤَذّن يُؤذن، فَقَالَ: حرق الله الْكَاذِب؛ فَجَاءَهُ خادمه بسراج فِي بعض تِلْكَ اللَّيَالِي، فَوَقَعت شرارة من السراج، وَلم (يشْعر) بِهِ، فَاحْتَرَقَ هُوَ وَمَا فِي الْبَيْت.(2/49)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل يَا أهل الْكتاب هَل تَنْقِمُونَ منا} أَي: هَل تَكْرَهُونَ منا {إِلَّا أَن آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل من قبل وَأَن أَكْثَرَكُم فَاسِقُونَ} أَي: هَل تَنْقِمُونَ منا إِلَّا بإيماننا وفسقكم، قَالَ الشَّاعِر:
(مَا نقموا من بني أُميَّة إِلَّا ... أَنهم (يحملون) إِن غضبوا)
(وَأَنَّهُمْ سادة الْمُلُوك ... وَلَا يصلح إِلَّا عَلَيْهِم الْعَرَب)
أَي: كَرهُوا من بني أُميَّة.(2/49)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل هَل أنبئكم بشر من ذَلِك مثوبة عِنْد الله} أَي: قل: [هَل] أخْبركُم بشر من ذَلِك ثَوابًا وعاقبة عِنْد الله؟ {من لَعنه الله وَغَضب عَلَيْهِ} يَعْنِي: الْيَهُود {وَجعل مِنْهُم القردة والخنازير} قيل: جعل القردة القردة من الْيَهُود، والخنازير من النَّصَارَى، فَالَّذِينَ جعلهم قردة من الْيَهُود: أَصْحَاب السبت، وَالَّذين جعلهم خنازير من النَّصَارَى: أَصْحَاب الْمَائِدَة، وَقيل: كِلَاهُمَا من الْيَهُود، فَجعل شُبَّانهمْ قردة وشيوخهم خنازير {وَعبد الطاغوت} أَي: وَمن عبد الطاغوت، يَعْنِي من لَعنه الله وَمن عبد الطاغوت وَقَرَأَ حَمْزَة: " وَعبد الطاغوت " بِضَم الْبَاء فِي عبد، وَكسر التَّاء فِي الطاغوت، وَالْمعْنَى وَاحِد، قل الشَّاعِر:
(أبني لبينى إِن أمكُم ... أمة وَإِن وَإِنِّي أَبَاكُم عبد)(2/49)
فَاسِقُونَ (59) قل هَل أنبئكم بشر من ذَلِك مثوبة عِنْد الله من لَعنه الله وَغَضب عَلَيْهِ وَجعل مِنْهُم القردة والخنازير وَعبد الطاغوت أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا وأضل عَن سَوَاء السَّبِيل (60) وَإِذا جاءوكم قَالُوا آمنا وَقد دخلُوا بالْكفْر وهم قد خَرجُوا بِهِ وَالله أعلم بِمَا كَانُوا يكتمون (61) وَترى كثيرا مِنْهُم يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْم والعدوان وأكلهم السُّحت لبئس مَا كَانُوا يعْملُونَ (62) لَوْلَا ينهاهم الربانيون والأحبار عَن قَوْلهم الْإِثْم وأكلهم السُّحت لبئس مَا كَانُوا يصنعون (63) وَقَالَت الْيَهُود يَد الله مغلولة غلت أَيْديهم) أَي: كأعبد، وَقيل: هَذَا خطأ من حَمْزَة، وَالْأول أصح، وَيقْرَأ فِي الشواذ: " وَعباد الطاغوت " وَيقْرَأ: " وَعَبدَة الطاغوت " وَتَقْدِيره: وَجعل مِنْهُم عباد الطاغوت، وَالْكل فِي الْمَعْنى سَوَاء.
{أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا وأضل عَن سَوَاء السَّبِيل} أَي: عَن طَرِيق الْحق.(2/50)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا جاءوكم قَالُوا آمنا} قيل: نزلت الْآيَة فِي قوم من الْيَهُود، دخلُوا على النَّبِي، وَقَالُوا: إِنَّا آمنا بك، وَصَدَّقنَاك فِيمَا قلت، وهم يسرون الْكفْر؛ فَنزلت الْآيَة {وَإِذا جاؤكم} يَعْنِي: أُولَئِكَ قَالُوا: آمنا {وَقد دخلُوا بالْكفْر وهم قد خَرجُوا بِهِ} يَعْنِي: دخلُوا كَافِرين، وَخَرجُوا كَافِرين {وَالله أعلم بِمَا كَانُوا يكتمون} .(2/50)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَترى كثيرا مِنْهُم يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْم والعدوان} قيل: الْإِثْم: الْمعاصِي، والعدوان: الظُّلم، وَقيل: الْإِثْم: كتمان أَمر مُحَمَّد وَمَا كتموا من التَّوْرَاة، والعدوان مَا زادوا فِي التوارة. {وأكلهم السُّحت} قد بَينا معنى السُّحت، والسحت لُغَتَانِ، وَقيل: أَرَادَ بِهِ أكلهم الرِّبَا {لبئس مَا كَانُوا يعْملُونَ} .(2/50)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
قَوْله: {لَوْلَا ينهاهم الربانيون والأحبار عَن قَوْلهم الْإِثْم وأكلهم السُّحت} يَعْنِي: هلا ينهاهم الربانيون، وَقد ذكرنَا معنى الربانيين، وَقيل: هُوَ مَنْسُوب إِلَى الرب، كالبحراني مَنْسُوب إِلَى الْبَحْرين، والنجراني مَنْسُوب إِلَى نَجْرَان {لبئس مَا كَانُوا يصنعون} وَفِي حرف ابْن مَسْعُود: " يعْملُونَ " وَكِلَاهُمَا وَاحِد.(2/50)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت الْيَهُود يَد الله مغلولة} سَبَب هَذَا: أَن الْيَهُود كَانُوا فِي خصب وسعة رزق قبل هِجْرَة النَّبِي، فَلَمَّا هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، ضيق الله الرزق عَلَيْهِم فَقَالَت الْيَهُود: يَد الله مغلولة: أَي ممسكة لَا ينْفق، كَأَنَّهُمْ نسبوه إِلَى الْبُخْل،(2/50)
{ولعنوا بِمَا قَالُوا بل يَدَاهُ مبسوطتان ينْفق كَيفَ يَشَاء وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا وألقينا بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا وَالله لَا يحب المفسدين (64) وَلَو أَن} وَقَالَ الْحسن: أَرَادوا بِهِ: يَد الله مغلولة لَا يعذبنا [بهَا] {غلت أَيْديهم} يُجِيبهُمْ الله تَعَالَى؛ فَيَقُول: أَنا الْجواد، وهم البخلاء، وأيديهم هِيَ المغلولة الممسكة، قَالَه الزّجاج، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَنهم يُعَذبُونَ يَوْم الْقِيَامَة.
{ولعنوا بِمَا قَالُوا} فَمن عَنْهُم أَنهم: مسخوا قردة وَخَنَازِير، وَمن لعنهم: أَنهم ضربت عَلَيْهِم الذلة والجزية.
{بل يَدَاهُ مبسوطتان ينْفق كَيفَ يَشَاء} يَعْنِي: [يدا] الله مبسوطتان، يرْزق وَينْفق على مَشِيئَته كَيفَ يَشَاء، قَالَ أهل الْعلم: لَيْسَ فِي هَذَا رد على الْيَهُود فِي إثباتهم الْيَد لله - تَعَالَى - وَإِنَّمَا الرَّد عَلَيْهِم فِي نسبته إِلَى الْبُخْل، وَأما الْيَد: صفة لله - تَعَالَى - بِلَا كَيفَ، وَله يدان، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كلتا يَدَيْهِ يَمِين ". وَالله أعلم بكيفية المُرَاد.
{وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا} على معنى أَنه كلما نزلت آيَة كفرُوا بهَا، وازدادوا طغيانا وَكفرا {وألقينا بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء} قيل: بَين فرق الْيَهُود، وَقيل (بَين) الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَقَوله: {إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} دَلِيل على أَن الْيَهُودِيَّة والنصرانية تبقى إِلَى قريب من قيام السَّاعَة {كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله} معنى هَذَا: كلما اجْتَمعُوا ليفسدوا أَمر مُحَمَّد، شتت الله(2/51)
{أهل الْكتاب آمنُوا وَاتَّقوا لكفرنا عَنْهُم سيئاتهم ولأدخلناهم جنَّات النَّعيم (65) وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم مِنْهُم أمة مقتصدة وَكثير مِنْهُم سَاءَ مَا يعْملُونَ (66) يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا} جمعهم، وبدد شملهم. {ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا وَالله لَا يحب المفسدين} .(2/52)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو أَن أهل الْكتاب آمنُوا} بِمُحَمد {وَاتَّقوا} يَعْنِي: عَن الْمعاصِي {لكفرنا عَنْهُم سيئاتهم ولأدخلناهم جنَّات النَّعيم} .(2/52)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم} يَعْنِي: وَلَو أَنهم قَامُوا وَعمِلُوا مَا فِي التَّوْرَاة، وَمَا فِي الْإِنْجِيل وَمَا فِي الْقُرْآن {لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم} قيل: من فَوْقهم من مطر السَّمَاء، وَمن تَحت أَرجُلهم من نَبَات الأَرْض. وَقيل: من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم مَعْنَاهُ: أَنه يُوسع عَلَيْهِم الرزق، قَالَ الزّجاج، وَهُوَ نَظِير قَول الْقَائِل: فلَان فِي الْخَيْر من الْفرق إِلَى الْقدَم، أَي: وسع عَلَيْهِ الْخَيْر، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بقوله {من فَوْقهم} من الْأَشْجَار {وَمن تَحت أَرجُلهم} من النَّبَات، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ {من فَوْقهم} من كسب آبَائِهِم {وَمن تَحت أَرجُلهم} من كسب أبنائهم، وَهَذَا نَظِير قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض} وَنَظِير قَوْله تَعَالَى: {وَلَو استقاموا على الطَّرِيقَة لأسقيناهم مَاء غدقا} {مِنْهُم أمة مقتصدة} أَي: عادلة {وَكثير مِنْهُم سَاءَ مَا يعْملُونَ} .(2/52)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} قَالَت عَائِشَة: " من قَالَ: إِن مُحَمَّدًا كتم شَيْئا من الْوَحْي؛ فقد أعظم الْفِرْيَة، وَمن قَالَ: إِن مُحَمَّدًا رأى ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج؛ فقد أعظم الْفِرْيَة؛ فَإِن الله - تَعَالَى - يَقُول: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} " وَالْخَبَر فِي الصَّحِيح.(2/52)
{أنزل إِلَيْك من رَبك وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته وَالله يَعْصِمك من النَّاس إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين (67) قل يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا فَلَا تأس على الْقَوْم الْكَافرين (68) إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا والصابئون}
{وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: مَعْنَاهُ: إِن لم تبلغ الْجَمِيع، وَتركت وَاحِدًا، فَمَا بلغت شَيْئا، يَعْنِي: جرمك فِي ترك التَّبْلِيغ فِي وَاحِد كجرمك فِي ترك الْكل، وَقيل: مَعْنَاهُ: بلغ مَا أنزل إِلَيْك أَي: أظهر تبليغه، وَهَذَا مثل قَوْله - تَعَالَى -: ( {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} وَإِن لم تفعل) يَعْنِي: وَإِن لم تظهر تبليغه ( {فَمَا بلغت رسَالَته} وَالله يَعْصِمك من النَّاس) . قَالَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " كَانَ النَّبِي قبل نزُول هَذِه الْآيَة يَأْتِيهِ قوم فيحرسونه؛ فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة؛ أخرج رَأسه، وَقَالَ: انصرفوا، فَإِن الله يعصمني ". قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: نزلت الْآيَة فِي كَافِر سل سَيْفه، وهم (بقتل النَّبِي) ، فَسقط السَّيْف من يَده، وَجعل يضْرب رَأسه على شَجَرَة حَتَّى [انتثر] دماغه {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين} .(2/53)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} أَي: تعملوا بِالْكُلِّ {وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا} هُوَ مَا ذكرنَا {فَلَا تأس} أَي فَلَا تحزن {على الْقَوْم الْكَافرين} .(2/53)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا والصابئون وَالنَّصَارَى} قَالَ(2/53)
{وَالنَّصَارَى من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (69) لقد أَخذنَا مِيثَاق بني إِسْرَائِيل وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِم رسلًا كلما جَاءَهُم رَسُول بِمَا لَا تهوى أنفسهم فريقا كذبُوا وفريقا يقتلُون (70) وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة فعموا وصموا ثمَّ تَابَ الله عَلَيْهِم ثمَّ عموا وصموا كثير مِنْهُم وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ (71) لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم وَقَالَ الْمَسِيح يَا بني إِسْرَائِيل اعبدوا الله رَبِّي} الْكسَائي، ونحاة الْكُوفَة: تَقْدِيره: هم والصابئون. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير وَتَقْدِيره: إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ، والصابئون كَذَلِك.
وَقَوله: {من آمن بِاللَّه} يَعْنِي: الَّذين آمنُوا بِاللِّسَانِ، من آمن مِنْهُم بِالْقَلْبِ، وَقيل: إِن الَّذين آمنُوا على حَقِيقَة الْإِيمَان.
وَقَوله: {من آمن بِاللَّه} أَي: من ثَبت على الْإِيمَان بِاللَّه، وَأما فِي حق الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، فَهُوَ مَحْمُول على حَقِيقَة الْإِيمَان.(2/54)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
قَوْله - تَعَالَى -: (لقد أَخذنَا مِيثَاق بني إِسْرَائِيل) قد ذكرنَا الْمِيثَاق {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِم رسلًا كلما جَاءَهُم رَسُول بِمَا لَا تهوى أنفسهم فريقا كذبُوا} يَعْنِي: عِيسَى وَمُحَمّد {وفريقا يقتلُون} يَعْنِي: زَكَرِيَّا وَيحيى،(2/54)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
وَقَوله: {وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة} أَي: عَذَاب {فعموا وصموا ثمَّ تَابَ الله عَلَيْهِم} يَعْنِي: عموا وصموا بعد مُوسَى، ثمَّ تَابَ الله عَلَيْهِم؛ ببعث عِيسَى، {ثمَّ عموا وصموا كثيرا مِنْهُم} بالْكفْر بِمُحَمد {وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ} .(2/54)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
قَوْله - تَعَالَى -: {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} قد ذكرنَا معنى الْمَسِيح، قَالَ النَّخعِيّ: سمي مسيحا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يمسح الأَرْض، (وَأما) الدَّجَّال: يُسمى مسيحا، وَقد ورد الْخَبَر بِكَوْنِهِ مسيحا مُطلقًا؛ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام - قَالَ: " [يقبل] الْمَسِيح من قبل الْمشرق وهمه الْمَدِينَة ". وَورد فِي الْخَبَر: الْمَسِيح الدَّجَّال. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " لَا يدْخل رعب الْمَسِيح الدَّجَّال الْمَدِينَة أبدا ".(2/54)
{وربكم إِنَّه من يُشْرك بِاللَّه فقد حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ومأواه النَّار وَمَا للظالمين من أنصار (72) لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة وَمَا من إِلَه إِلَّا إِلَه وَاحِد وَإِن لم ينْتَهوا عَمَّا يَقُولُونَ ليمسن الَّذين كفرُوا مِنْهُم عَذَاب أَلِيم (73) أَفلا يتوبون إِلَى الله ويستغفرونه وَالله غَفُور رَحِيم (74) مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله}
{وَقَالَ الْمَسِيح يَا بني إِسْرَائِيل اعبدوا الله رَبِّي وربكم إِنَّه من يُشْرك بِاللَّه فقد حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ومأواه النَّار} روى أَبُو سُفْيَان طَلْحَة بن نَافِع عَن جَابر: " أَن النَّبِي سُئِلَ مَا الموجبتان؟ فَقَالَ: من وحد الله؛ لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا؛ وَجَبت لَهُ الْجنَّة، وَمن أشرك بِاللَّه؛ وَجَبت لَهُ النَّار " {وَمَا للظاليمن من أنصار} .(2/55)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
قَوْله - تَعَالَى -: {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة} فِيهِ حذف، أَي: ثَالِث ثَلَاثَة آلِهَة، وَلَا بُد من هَذَا التَّقْدِير؛ لِأَنَّهُ يجوز أَن يُقَال: هُوَ ثَالِث ثَلَاثَة، كَمَا قَالَ: {مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم} ، وَقَوله: {ثَالِث ثَلَاثَة} هُوَ قَوْلهم: أَب، وَابْن وروح الْقُدس، وَهَذَا قَول اليعقوبية مِنْهُم، وَقَالُوا: روح الْقُدس لَا هُوَ وَلَا غَيره، وَكَذَلِكَ الابْن، وَالله مَجْمُوع الْكل {وَمَا من إِلَه إِلَّا إِلَه وَاحِد وَإِن لم ينْتَهوا عَمَّا يَقُولُونَ ليمسن الَّذين كفرُوا} أَي: ليصيبن الَّذين {كفرُوا مِنْهُم عَذَاب أَلِيم} .(2/55)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
قَوْله تَعَالَى: {أَفلا يتوبون إِلَى الله ويستغفرونه} أرشدهم إِلَى التَّوْبَة وَالْإِسْلَام {وَالله غَفُور رَحِيم} .(2/55)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
قَوْله تَعَالَى: {مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله} أَي: مَضَت، وَسميت الْأَيَّام الْمَاضِيَة خَالِيَة؛ لخلوها، وَمعنى هَذَا: أَنا أرسلنَا عِيسَى كَمَا أرسلنَا غَيره [وأعطيناه] من المعجزات مَا أعطينا غَيره من الرُّسُل {وَأمه صديقَة} وَالصديق: كثير الصدْق، وَهُوَ للْمُبَالَغَة، وَمِنْه سمى أَبُو بكر [الصّديق]- رَضِي الله عَنهُ -: صديقا، وَقيل: سمي صديقا؛ لِأَنَّهُ قيل لَهُ: إِن صَاحبك يَقُول: أسرى بِي إِلَى السَّمَاء فَقَالَ: إِن (هُوَ قَالَ) ذَلِك فقد صدق.(2/55)
{الرُّسُل وَأمه صديقَة كَانَا يأكلان الطَّعَام انْظُر كَيفَ نبين لَهُم الْآيَات ثمَّ انْظُر أَنى يؤفكون (75) قل أتعبدون من دون الله مَا لَا يملك لكم ضرا وَلَا نفعا وَالله هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (76) قل يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل (77) لعن الَّذين كفرُوا}
{كَانَا يأكلان الطَّعَام} أَي: يتغذيان بِالطَّعَامِ، وَمَعْنَاهُ: أَن من يتغذى بِالطَّعَامِ لَا يكون إِلَهًا يعبد، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ كِنَايَة عَن الْحَدث، يَعْنِي: أَنَّهُمَا يأكلان، ويشربان، ويبولان، ويتغوطان، وَمثل هَذَا لَا يكون إِلَهًا يعبد {انْظُر كَيفَ نبين لَهُم الْآيَات ثمَّ انْظُر أَنى يؤفكون} قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَهَذَا من ألطف الْبَيَان، وَقَوله: {يؤفكون} أَي: يصرفون، وَمِنْه سمي الْكَذِب: إفكا؛ لِأَنَّهُ مَصْرُوف عَن الْحق.(2/56)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل أتعبدون من دون الله مَا لَا يملك لكم ضرا وَلَا نفعا} يَعْنِي: عِيسَى وَمثله. {وَالله هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} .(2/56)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق} الغلو: مُجَاوزَة الْحَد، وَهُوَ مَذْمُوم، وَكَذَلِكَ التَّقْصِير، وَدين الله بَين الغلو، وَالتَّقْصِير {وَلَا تتبعوا أهواء قوم} الْأَهْوَاء: جمع الْهوى، وَهُوَ مَقْصُور، وَأما الْهَوَاء الْمَمْدُود: فَهُوَ الجو، والهوى: كل مَا تَدْعُو إِلَيْهِ شَهْوَة النَّفس، لَا الْحجَّة {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل} . فَإِن قيل: مَا معنى هَذَا التكرير، قَالَ الزّجاج: معنى قَوْله: {ضلوا عَن سَوَاء السَّبِيل} يَعْنِي: بالإضلال، وَالْأول من الضَّلَالَة، وَقيل: ضلوا من قبل الإضلال، وَضَلُّوا بعد الإضلال؛ فكأنهم ضلوا مرَّتَيْنِ.(2/56)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
قَوْله - تَعَالَى -: {لعن الَّذين كفرُوا من بني إِسْرَائِيل على لِسَان دَاوُد وَعِيسَى ابْن مَرْيَم} فَالَّذِينَ لعنُوا على لِسَان دَاوُد: هم أَصْحَاب السبت، وَالَّذين لعنُوا على لِسَان عِيسَى: أَصْحَاب الْمَائِدَة، وَأُولَئِكَ الَّذين جعلهم الله قردة، وَهَؤُلَاء الَّذين جعلهم الله خنازير {ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون} .(2/56)
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
قَوْله - تَعَالَى -: {كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} التناهي: تفَاعل من النَّهْي، وَالْمُنكر: كل مَا أنكرهُ الشَّرْع، وَفِي الْخَبَر قَالَ: أول مَا(2/56)
{من بني إِسْرَائِيل على لِسَان دَاوُود وَعِيسَى ابْن مَرْيَم ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون (78) كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) ترى كثيرا مِنْهُم يتولون الَّذين كفرُوا لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ (80) وَلَو كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيّ وَمَا أنزل إِلَيْهِ مَا اتخذوهم أَوْلِيَاء وَلَكِن كثيرا مِنْهُم فَاسِقُونَ (81) لتجدن أَشد النَّاس عَدَاوَة للَّذين آمنُوا الْيَهُود وَالَّذين} دخل النَّقْص فِي بني إِسْرَائِيل: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ إِذا نهى صَاحبه عَن مُنكر، كَانَ لَا يمنعهُ بعد ذَلِك أَن يكون جليسه، وأكيله، وشريبه، فَضرب الله - تَعَالَى - قلب بَعضهم بِالْبَعْضِ، وعمهم بالعقاب، ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، حَتَّى تَأْخُذُوا على يَد الظَّالِم فتأطروه على الْحق أطرا " أَي: تعطفوه.(2/57)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
قَوْله: (ترى كثيرا مِنْهُم يتولون الَّذين كفرُوا) أَي: يوالونهم {لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ(2/57)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
وَلَو كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيّ وَمَا أنزل إِلَيْهِ مَا اتخذوهم أَوْلِيَاء) يَعْنِي: الْكفَّار {وَلَكِن كثيرا مِنْهُم فَاسِقُونَ} فَإِن قيل: لم سماهم فاسقين وهم كافرون؟ قيل: مَعْنَاهُ: (خارجون) عَن أَمر الرب، وَالْكفَّار خارجون عَن كل أمره، وَقيل: مَعْنَاهُ: متمردون، أَي: هم مَعَ كفرهم متمردون.(2/57)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
قَوْله - تَعَالَى -: {لتجدن أَشد النَّاس عَدَاوَة للَّذين آمنُوا الْيَهُود وَالَّذين أشركوا} يَعْنِي: مُشْركي مَكَّة، {ولتجدن أقربهم مَوَدَّة للَّذين آمنُوا الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} قيل: إِن الْآيَة فِي قوم من النَّصَارَى، (أَرْبَعِينَ) نَفرا: اثْنَان وَثَلَاثُونَ من الْحَبَشَة، وَثَمَانِية من رُهْبَان الشَّام، جَاءُوا إِلَى النَّبِي، وَأَسْلمُوا، وَفِيهِمْ نزلت الْآيَة لَا فِي النَّصَارَى الْكَفَرَة؛ لأَنهم فِي عَدَاوَة الْمُسلمين مثل الْيَهُود، وَقيل: إِن الَّذين أَسْلمُوا من الْحَبَشَة كَانَ فيهم النَّجَاشِيّ؛ فَقدم جَعْفَر الطيار الْحَبَشَة، فَدَعَاهُ النَّجَاشِيّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ(2/57)
أشركوا ولتجدن أقربهم مَوَدَّة للَّذين آمنُوا الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِك بِأَن مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول ترى) سُورَة مَرْيَم، وَعِنْده الأساقفة والرهبان؛ فبكوا حَتَّى أخضلوا لحاهم، وَأخذ النَّجَاشِيّ قذاة بِيَدِهِ، وَقَالَ: لم يعد عِيسَى مَا قلت، وَلَا قدر هَذَا، وَأَسْلمُوا.
وَقيل: نزلت الْآيَة فِي قوم من النَّصَارَى كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بدين عِيسَى، لم يحرفوا، فآمنوا بِمُحَمد.
وَقيل: هُوَ فِي كل النَّصَارَى، وَمَعْنَاهُ: أَنهم أَلين عَدَاوَة من الْيَهُود.
{ذَلِك بِأَن مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} قَالَ قطرب: القسيس العابد بلغَة الرّوم، وَهُوَ التَّمام فِي اللُّغَة، قَالَ الشَّاعِر:
(يمسين من قس (الحَدِيث) غوافلا ... إِلَّا جعبر يات وَلَا [طهاملا] )
والرهبان جمع الراهب، وروى سلمَان: " أَن النَّبِي قَرَأَ: " ذَلِك بِأَن مِنْهُم صديقين وَرُهْبَانًا " وَهَذَا فِي الغرائب.(2/58)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول} يَعْنِي: الْقُرْآن، فَإِن النَّبِي كَانَ قد قَرَأَ عَلَيْهِم الْقُرْآن؛ فبكوا وَأَسْلمُوا، فَذَلِك معنى قَوْله: {ترى أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين} يَعْنِي: من أمة مُحَمَّد؛ فَإِنَّهُم الشاهدون على سَائِر الْأُمَم.(2/58)
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
قَوْله - تَعَالَى - {وَمَا لنا لَا نؤمن بِاللَّه وَمَا جَاءَنَا من الْحق} وَذَلِكَ أَن الْيَهُود قَالُوا: لَو لم آمنتم؟ فَأَجَابُوا: وَمَا لنا لَا نؤمن بِاللَّه وَمَا جَاءَنَا من الْحق {ونطمع أَن يدخلنا(2/58)
{أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين (83) وَمَا لنا لَا نؤمن بِاللَّه وَمَا جَاءَنَا من الْحق ونطمع أَن يدخلنا رَبنَا مَعَ الْقَوْم الصَّالِحين (84) فأثابهم الله بِمَا قَالُوا جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم (86) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب} رَبنَا مَعَ الْقَوْم الصَّالِحين) الطمع: هُوَ تعلق النَّفس بالشَّيْء مَعَ قُوَّة.(2/59)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
قَوْله - تَعَالَى -: {فأثابهم الله بِمَا قَالُوا جنَّات} أَي: أَعْطَاهُم الله بِمَا قَالُوا جنَّات {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ} .
فَإِن قيل: هَذَا أول قَوْله - تَعَالَى -: {فأثابهم الله بِمَا قَالُوا} على أَن الْإِيمَان قَول فَرد.
قيل: قد ذكر فِي الْآيَة الأولى {مِمَّا عرفُوا من الْحق} فَذكر الْمعرفَة فِي تِلْكَ الْآيَة، وَالْقَوْل فِي هَذِه الْآيَة، ومجموعهما إِيمَان {وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم} .(2/59)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم} قَالَ (ابْن عَبَّاس) ، وَعَطَاء [وَسعد] ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَالسُّديّ: سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن عليا، وَابْن مَسْعُود، وَعُثْمَان بن مَظْعُون، تشاوروا فِي أَن يترهبوا، ويلبسوا المسوح، ويقطعوا المذاكير، ويصوموا الدَّهْر؛ فَبلغ ذَلِك رَسُول الله فَقَالَ: أما إِنِّي أَنَام وأقوم، وَأفْطر وَأَصُوم، وآكل وأشرب، وأنكح، فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني وَنزلت الْآيَة {لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم} وَرُوِيَ: أَن عُثْمَان بن مَظْعُون قَالَ: " يَا رَسُول الله، ائْذَنْ لي فِي الرهبانية. فَقَالَ: رَهْبَانِيَّة أمتِي الْجُلُوس فِي الْمَسَاجِد. فَقَالَ: ائْذَنْ لي فِي السياحة فِي الأَرْض. فَقَالَ سياحة أمتِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله. فَقَالَ: ائْذَنْ لي فِي الإخصاء. فَقَالَ: إخصاء أمتِي الصَّوْم ". وَقيل: سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أُصِيب اللَّحْم؛ فأنتشر واشتهي النِّسَاء فَحرمت اللَّحْم على نَفسِي " فَنزل قَوْله [تَعَالَى] : {لَا تحرموا طبيات مَا أحل الله(2/59)
{الْمُعْتَدِينَ (87) وكلوا مِمَّا رزقكم الله حَلَالا طيبا وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان فكفارته} لكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ) رَوَاهُ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، والاعتداء: هُوَ مُجَاوزَة مَاله إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ(2/60)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
{وكلوا مِمَّا رزقكم الله حَلَالا طيبا وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ} أكد ذَلِك النَّهْي بِهَذَا الْأَمر.(2/60)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
قَوْله - تَعَالَى -: {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} إِنَّمَا عقب تِلْكَ الْآيَة بِهَذِهِ؛ لِأَن الْقَوْم الَّذين تشاوروا أَن يترهبوا كَانُوا قد حلفوا؛ فَبين حكم الْإِيمَان، واللغو: هُوَ المطرح الَّذِي لَا يعبأ بِهِ، وَعَن عَائِشَة: أَن لَغْو الْيَمين: قَول الْإِنْسَان: لَا وَالله، وبلى وَالله، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن عَبَّاس، وَأَبُو هُرَيْرَة: لَغْو الْيَمين: هُوَ أَن يحلف على شَيْء على ظن أَنه كَذَلِك فَإِذا هُوَ على خِلَافه، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب الْكَفَّارَة فِي يَمِين اللَّغْو، قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: تجب فِيهَا الْكَفَّارَة، وَقَوله: {لَا يُؤَاخِذكُم} يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة. وَسَائِر الْعلمَاء على أَن لَا كَفَّارَة فِي يَمِين اللَّغْو؛ لظَاهِر الْقُرْآن {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} فِيهِ ثَلَاث قراءات: {عقدتم} بِالتَّخْفِيفِ قِرَاءَة الْكسَائي وَحَمْزَة وَأَبُو بكر. و {عقدتم} بِالتَّشْدِيدِ قَرَأَهُ أَبُو عَمْرو وَمن بَقِي، غير ابْن ذكْوَان، و {عاقدتم} قِرَاءَة ابْن عَامر بِرِوَايَة ابْن ذكْوَان.
قَالَ الْكسَائي: عقدتم، أَي: أوجبتم، وَقَالَ أَبُو عَمْرو: عقدتم، أَي: وكدتم، وَاخْتلفُوا فِي هَذَا التوكيد، قَالَ ابْن جريج: سَأَلت عَطاء عَن قَوْله: {عقدتم} أَنه مَاذَا؟ فَقَالَ: هُوَ قَول الْقَائِل: وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ؛ كَأَنَّهُ فسر التوكيد بِهِ، وروى نَافِع عَن ابْن عمر: أَن توكيد الْيَمين بالتكرار، قَالَ نَافِع: وَكَانَ ابْن عمر إِذا وكد الْيَمين أعتق رَقَبَة، وَإِذا لم يوكد: أطْعم الْمَسَاكِين فِي كَفَّارَته. {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين} على قَول النَّخعِيّ يرجع هَذَا إِلَى يَمِين اللَّغْو، وعَلى قَول البَاقِينَ يرجع إِلَى الْيَمين المعقودة، وَهِي الْمَقْصُودَة، وَعقد الْيَمين: هُوَ الْقَصْد بِالْقَلْبِ، وَالذكر بِاللِّسَانِ. {من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم} قَالَ ابْن عمر: الْأَوْسَط هُوَ الْخبز وَالزَّيْت، أَو الْخبز(2/60)
{إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة فَمن لم} وَالتَّمْر، وَقَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي: هُوَ الْخبز وَالسمن، وَقَالَ أَبُو رزين: (هُوَ الْخبز والخل وَأما الْأَعْلَى) : هُوَ الْخبز وَاللَّحم، والأدنى: هُوَ الْخبز البحت، وَالْكل مجزئ، والأوسط فِي الْقدر، قَالَ زيد بن ثَابت، وَعَائِشَة، وَابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - هُوَ الْمَدّ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - وَذَلِكَ رَطْل وَثلث، وَقَالَ عمر، وَعلي - وَهُوَ رِوَايَة ابْن عَبَّاس - أَنه مدان، نصف صَاع، وَبِه قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ.
{أَو كسوتهم} قَالَ عَطاء، وطاووس: لكل مِسْكين ثوب، وَقَالَ مُجَاهِد: مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْكسْوَة، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: لكل مِسْكين ثوب جَامع يصلح [لِليْل] وَالنَّهَار مثل الكساء، الملحفة وَنَحْوهمَا. وَقَالَ ابْن عمر: ثَلَاثَة أَثوَاب. وَقيل: ثَوْبَان، وَهُوَ قَول الْحسن، وَابْن سِيرِين، مثل إِزَار ورداء، أَو إِزَار وعمامة. وَقيل: مَا يستر الْعَوْرَة، وتجزئ بِهِ الصَّلَاة.
وَالصَّحِيح: أَن الْوَاجِب لكل مِسْكين مَا يصلح بِهِ الْكسْوَة فِي الْعرف {أَو تَحْرِير رَقَبَة} هُوَ عتق الرَّقَبَة، وَفِيه كَلَام فِي الْفِقْه.
{فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام} ظَاهِرَة: أَنه يجوز مُتَفَرقًا، وَهُوَ الْأَصَح، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود، وَأبي بن كَعْب: " ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات " فعلى هَذَا يجب التَّتَابُع فِيهِ، وَبِه قَالَ مَالك، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي {ذَلِك كَفَّارَة أَيْمَانكُم إِذا حلفتم} قيل: الْحِنْث مُضْمر فِيهِ، يَعْنِي: إِذا حلفتم وحنثتم، وَلَا تجب الْكَفَّارَة إِلَّا بعد الْحِنْث، وَأما جَوَاز التَّكْفِير قبل الْحِنْث عرفنَا بِالسنةِ {واحفظوا أَيْمَانكُم} ظَاهره للنَّهْي عَن الْحِنْث، وَقيل: أَرَادَ بِهِ حفظ الْيَمين لَا أَن يحلف، وَالْأول أصح {كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تشكرون} .(2/61)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر} أما الْخمر فقد سبق الْكَلَام فِيهِ، وَكَذَلِكَ الميسر، قَالَ الْأَصْمَعِي: كَانَ ميسرهم على الْجَزُور، فَكَانُوا يشْتَرونَ جزورا وينحرونه، ويجعلونه على ثَمَانِيَة وَعشْرين سَهْما، وَقيل: على عشرَة(2/61)
{يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام ذَلِك كَفَّارَة أَيْمَانكُم إِذا حلفتم واحفظوا أَيْمَانكُم كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تشكرون (89) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب} أسْهم، ثمَّ يقامرون عَلَيْهِ، فَكل من خرج عَلَيْهِ قدر نصِيبه مجَّانا، وَيكون الثّمن على البَاقِينَ، وَهَكَذَا يقامرون على كل سهم مِنْهُ، إِلَى أَن يبْقى وَاحِد، فَيكون كل الثّمن عَلَيْهِ، ويفوز الْآخرُونَ بسهامهم مجَّانا. وَسُئِلَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن النَّرْد وَالشطْرَنْج: أهوَ من الميسر؟ قَالَ: كل مَا صد عَن ذكر الله، وَعَن الصَّلَاة، فَهُوَ من الميسر، وَقَوله: {والأنصاب والأزلام رِجْس} أما الأنصاب والأزلام فقد بَينا، وَقَوله: {رِجْس} أَي: خَبِيث مستقذر، وَفِي الْخَبَر: " أعوذ بِاللَّه من الرجس النَّجس " {من عمل الشَّيْطَان} أَي: من تَزْيِين الشَّيْطَان {فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون} .(2/62)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر} أما وُقُوع الْعَدَاوَة فِي الْخمر: أَن [شاربيه] إِذا سَكِرُوا عربدوا، وتشاجروا، (وتشاحجوا) .
وَأما الْعَدَاوَة فِي الميسر: قَالَ قَتَادَة: هُوَ أَنهم كَانُوا يقامرون على الْأَهْل وَالْمَال، ثمَّ إِذا لم يبْق لَهُ شَيْء، يجلس زينا، مسلوبا، مغتاظا على قرنائه {ويصدكم عَن ذكر الله(2/62)
{والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون (90) إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر ويصدكم عَن ذكر الله عَن الصَّلَاة} وَعَن الصَّلَاة) يَعْنِي: الشَّيْطَان يمنعكم بهما عَن ذكر الله (وَعَن الصَّلَاة) {فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ} مَعْنَاهُ: انْتَهوا، قَالَ الْفراء: سَمِعت بعض الْأَعْرَاب يَقُول لغيره: هَل أَنْت سَاكِت؟ (هَل أَنْت سَاكِت) ؟ يُرِيد بِهِ: اسْكُتْ، وَهَذَا كَلَام الْعَرَب العاربة.
وَسبب نزُول الْآيَة: " أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: اللَّهُمَّ بَين لنا فِي الْخمر بَيَانا شافيا؛ فَنزل (قَوْله) فِي سُورَة الْبَقَرَة: {يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر} فَدَعَا عمر، وَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَقَالَ ثَانِيًا: اللَّهُمَّ بَين لنا فِي الْخمر بَيَانا شافيا؛ فَنزل قَوْله فِي سُورَة النِّسَاء: {لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى} فَقَرَأَ عَلَيْهِ؛ فَدَعَا ثَالِثا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ بَين لنا فِي الْخمر بَيَانا شافيا؛ فَنزلت هَذِه الْآيَة، فَدَعَا وَقَرَأَ عَلَيْهِ؛ فَلَمَّا بلغ قَوْله: {فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ} قَالَ: انتهينا يَا رب "، وَقيل: سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن قدامَة بن مَظْعُون اتخذ دَعْوَة، وشوى رَأس بعير، ودعا سعد بن أبي وَقاص، وَجَمَاعَة، فَأَكَلُوا، وَشَرِبُوا، فَلَمَّا سَكِرُوا تفاخروا، فَقَامَ رجل من الْأَنْصَار إِلَى لحى الْبَعِير، وَضرب بِهِ وَجه سعد،(2/63)
{فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ (91) وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول واحذروا فَإِن توليتم فاعلموا أَنما} فَضرب أَنفه، فَذكر ذَلِك لرَسُول الله؛ فَنزلت هَذِه الْآيَة " [وَقيل: نزلت] فِي قبيلتين من الْأَنْصَار تخاصمتا فِي حَال السكر، وَقد ورد فِي الْخمر أَخْبَار مِنْهَا: قَوْله: " مدمن الْخمر كعابد الوثن " وَقَالَ: " الْخمر أم الْخَبَائِث، من شربهَا لم يقبل الله لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ يَوْمًا، من مَاتَ وَفِي بَطْنه شَيْء من الْخمر؛ حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ".(2/64)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول واحذروا} لما حرم الْخمر، وَأمر بالاجتناب عَنْهَا؛ ندبهم إِلَى طَاعَة الله وَالرَّسُول، والتوقي {فَإِن توليتم فاعلموا أَنما على رَسُولنَا الْبَلَاغ الْمُبين} .(2/64)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
قَوْله - تَعَالَى -: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} سَبَب نزُول الْآيَة هَذِه أَن الصَّحَابَة قَالُوا لما ورد تَحْرِيم الْخمر: يَا رَسُول الله كَيفَ حَال من مَاتَ منا وَهُوَ يشرب الْخمر؟ فَنزلت الْآيَة: وَقيل: إِنَّهُم قَالُوا: إِن حَمْزَة بن عبد الْمطلب،(2/64)
{على رَسُولنَا الْبَلَاغ الْمُبين (92) لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ثمَّ اتَّقوا وآمنوا ثمَّ اتَّقوا وأحسنوا وَالله} وَمصْعَب بن عُمَيْر اسْتشْهدُوا يَوْم أحد، وَكَانَا يشربان الْخمر، فَكيف حَالهمَا؟ فَنزلت الْآيَة وَبَين الله تَعَالَى أَنه لَا جنَاح عَلَيْهِم فِيمَا طعموا فِي حَال الْإِبَاحَة {إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ثمَّ اتَّقوا وآمنوا ثمَّ اتَّقوا وأحسنوا} (فِي هَذَا مقدم معنى مُؤخر أَقْوَال) : أَحدهَا: أَن معنى الأول: إِذا مَا اتَّقوا الشّرك وآمنوا، أَي: صدقُوا، وَعمِلُوا الصَّالِحَات {ثمَّ اتَّقوا} أَي: داموا على ذَلِك التَّقْوَى {وآمنوا} أَي ازدادوا إِيمَانًا {ثمَّ اتَّقوا وأحسنوا} أَي: اتَّقوا بِالْإِحْسَانِ فِي كل محسن، وكل مُطِيع متق.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن التَّقْوَى الأول: اجْتِنَاب الشّرك، وَالتَّقوى الثَّانِي: اجْتِنَاب الْكَبَائِر وَالتَّقوى الثَّالِث: اجْتِنَاب الصَّغَائِر، وَهَذَانِ قَولَانِ معروفان فِي الْآيَة، وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: أَنه أَرَادَ بِهِ: إِذا مَا اتَّقوا قبل تَحْرِيم الْخمر، ثمَّ اتَّقوا بعد تَحْرِيم الْخمر، وَقيل هَذَا لَا يَصح؛ لِأَن قَوْله: {إِذا مَا اتَّقوا} إِنَّمَا يصلح للمستقبل لَا للماضي؛ فَإِن حرف " إِذا " للمستقبل.
{وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} ، روى أَن قدامَة بن مَظْعُون شرب الْخمر؛ فَدَعَاهُ عمر ليحده، فَقَالَ: أَلَيْسَ يَقُول الله - تَعَالَى -: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} فَقَالَ: أَخْطَأت التَّأْوِيل، لقد قَالَ: {إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا} وَأَنت لم تتق النَّهْي.
وروى: " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة، ثمَّ قَالَ ابْن مَسْعُود: وأينا من هَؤُلَاءِ؟ ! "(2/65)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ليبلونكم الله بِشَيْء من الصَّيْد} أَي: ليختبرنكم الله بِشَيْء من الصَّيْد، وَفَائِدَة الْبلوى والاختبار: إِظْهَار الْمُطِيع من العَاصِي، وَإِلَّا فَلَا حَاجَة لَهُ إِلَى الْبلوى، وَسبب هَذَا: أَن رَسُول الله لما نزل بِالْحُدَيْبِية مَعَ(2/65)
{يحب الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ليبلونكم الله بِشَيْء من الصَّيْد تناله أَيْدِيكُم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بِالْغَيْبِ فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم (94) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا فجزاء مثل مَا قتل من} أَصْحَابه، وَكَانُوا محرمين، كَانَ يدنوا مِنْهُم الصيود والوحوش؛ فَهموا بِالْأَخْذِ؛ فَنزلت الْآيَة.
{تناله أَيْدِيكُم} يَعْنِي: فِي صغَار الصيود {ورماحكم} يَعْنِي: من كبار الوحوش، قَالَ مُجَاهِد {تناله أَيْدِيكُم} يَعْنِي: الفرخ وَالْبيض {ورماحكم} يَعْنِي: الصيود الْكِبَار.
{ليعلم الله من يخافه بِالْغَيْبِ} قيل: مَعْنَاهُ: ليعلم الله من يخافه بِالْغَيْبِ، فيعامله مُعَاملَة من يطْلب الْعلم للْعَمَل؛ إِظْهَار للعدل، وَقيل: مَعْنَاهُ: ليرى من يخافه بِالْغَيْبِ، وَقَوله: {من يخافه بِالْغَيْبِ} هُوَ أَن يخَاف الله وَهُوَ لَا يرَاهُ {فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم} .(2/66)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} سَبَب هَذَا أَن رجلا يُقَال لَهُ: أَبُو الْيُسْر، شدّ على حمَار وَحش؛ فَقتله وَهُوَ محرم؛ فَنزلت الْآيَة {لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} ، وَالْحرم: يكون من الْإِحْرَام، وَيكون من دُخُول الْحرم، يُقَال: أحرم، إِذا عقد الْإِحْرَام، وَأحرم إِذا دخل الْحرم، وَيُقَال أَيْضا لمن أدْرك الشَّهْر الْحَرَام: محرم.
{وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا} ذكر حَالَة الْعمد لبَيَان الْكَفَّارَة، فَاخْتلف الْعلمَاء، قَالَ سعيد بن جُبَير: لَا تجب كَفَّارَة الصَّيْد فِي قتل الْخَطَأ، بل تخْتَص بالعمد، وَبِه قَالَ دَاوُد.
وَسَائِر الْعلمَاء على أَنَّهَا تجب فِي الْحَالين، قَالَ الزُّهْرِيّ: على الْمُتَعَمد بِالْكتاب، وعَلى الْمُخطئ بِالسنةِ.
{فجزاء مثل مَا قتل من النعم} قَرَأَ الْأَعْمَش " فَجَزَاؤُهُ مثل مَا قتل من النعم "، وَالْمَعْرُوف فِيهِ قراءتان " فجزاء مثل " على الْإِضَافَة، وَقَرَأَ بَعضهم " فجزاء مثل " بتنوين(2/66)
{النعم يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم هَديا بَالغ الْكَعْبَة أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين أَو عدل ذَلِك} الْجَزَاء، وَرفع اللَّام من الْمثل، وَمعنى الْكل وَاحِد، والمثلية مُعْتَبرَة فِي الْجَزَاء؛ فَيجب فِيمَا قتل مثله من النعم شبها؛ فَيجب فِي النعامة: بَدَنَة، وَفِي الأروى: بقرة، وَفِي الطير والضبع والحمامة: شَاة، وَفِي الأرنب: عنَاق، وَفِي اليربوع: جفرة، وكل هَذَا مَرْوِيّ عَن الصَّحَابَة.
{يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم} وَفِيه دَلِيل على جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام {هَديا بَالغ الْكَعْبَة} نصب على التَّمْيِيز، قَوْله: {بَالغ الْكَعْبَة} يَقْتَضِي أَن يكون إِعْطَاء الْهَدْي فِي الْحرم، يفرق على مَسَاكِين الْحرم، وَهُوَ الْوَاجِب {أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين} وَذَلِكَ أَن يقوم (الْمثل) من النعم بِالدَّرَاهِمِ، وَيَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَام مَسَاكِين، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو حنيفَة يقوم بالصيد الْمَقْتُول أبدا {أَو عدل ذَلِك صياما} قَرَأَ عَاصِم الجحدري، وَطَلْحَة بن، مصرف: {أَو عدل ذَلِك} بِكَسْر الْعين، ثمَّ قَالَ بَعضهم: لَا فرق بَينهمَا، وَمَعْنَاهُ: الْمثل، وَفرق الْفراء بَينهمَا، فَقَالَ: الْعدْل - بِالْكَسْرِ -: الْمثل من جنسه، وَالْعدْل: الْمثل من غير جنسه، وَقد قيل: الْعدْل - بِالْفَتْح -: هُوَ الْمثل، وَالْعدْل بِالْكَسْرِ -: الْحمل، وَالْأول أصح، وَصَوْم الْعدْل: أَن يَصُوم بدل كل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مد يَوْمًا، وَقيل: يَوْمَانِ، ثمَّ هَذَا على التَّخْيِير أم على التَّرْتِيب؟
قَالَ الشّعبِيّ، وَالنَّخَعِيّ - وَهُوَ رِوَايَة عَن مُجَاهِد -: إِنَّه على التَّرْتِيب، وَقَالَ غَيرهم - وَبِه قَالَ ابْن عَبَّاس -: إِنَّه على التَّخْيِير؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين أَو عدل ذَلِك صياما} وَكلمَة " أَو " للتَّخْيِير {ليذوق وبال أمره} أَي: شدَّة أمره {عَفا الله عَمَّا سلف} يَعْنِي: فِي الْجَاهِلِيَّة {وَمن عَاد فينتقم الله مِنْهُ وَالله عَزِيز ذُو انتقام} .
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْعَامِد إِلَى قتل الصَّيْد ثَانِيًا، هَل تجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة ثَانِيًا، أم(2/67)
{صياما ليذوق وبال أمره عَفا الله عَمَّا سلف وَمن عَاد فينتقم الله مِنْهُ وَالله عَزِيز ذُو انتقام (95) أحل لكم صيد الْبَحْر وَطَعَامه مَتَاعا لكم وللسيارة وَحرم عَلَيْكُم صيد الْبر مَا دمتم حرما وَاتَّقوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون (96) جعل الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام قيَاما} لَا؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تجب، وَيُقَال لَهُ. أَسَأْت، وينتقم الله مِنْك. وَعَامة الْعلمَاء على أَنه تجب الْكَفَّارَة ثَانِيًا، وَقَوله: {فينتقم الله مِنْهُ} يَعْنِي: فِي الْآخِرَة.(2/68)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
قَوْله - تَعَالَى -: {أحل لكم صيد الْبَحْر وَطَعَامه} قَالَ عمر، وعَلى: صيد الْبَحْر مَا صيد مِنْهُ، وَطَعَامه مَا قذف، وَهُوَ رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس. وَعنهُ رِوَايَة أُخْرَى: أَن طَعَامه مَا نضب عَنهُ المَاء. وَقَالَ مُجَاهِد: صَيْده: الطري وَطَعَامه: المالح، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا. {مَتَاعا لكم} أَي: مَنْفَعَة لكم {وللسيارة} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَتَاعا لكم: خطاب مَعَ أهل الْقرى، والسيارة أهل الْأَمْصَار، وَقَالَ مُجَاهِد: السيارة: المسافرون.
{وَحرم عَلَيْكُم صيد الْبر مَا دمتم حرما} حرم الِاصْطِيَاد على الْمحرم، وَقد ذكرنَا {وَاتَّقوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون} وَاخْتلف الْعلمَاء فِي صيد الْحَلَال: هَل يحل للْمحرمِ، وَأَن يَأْكُل مِنْهُ؟ قَالَ عمر، وَعُثْمَان: يحل. وَبِه أَخذ اكثر الْفُقَهَاء، وَقَالَ عَليّ، وَابْن عَبَّاس: إِنَّه لَا يحل، وَبِه قَالَ جمَاعَة من التَّابِعين.(2/68)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
قَوْله - تَعَالَى -: {جعل الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام} قَالَ ثَعْلَب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن يحيى: إِنَّمَا سميت كعبة؛ لتربيعها {الْبَيْت الْحَرَام} وَهُوَ الْكَعْبَة، وَفِي الْخَبَر: " إِن الله - تَعَالَى - حرم مَكَّة مُنْذُ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض " {قيَاما للنَّاس} الْقيام والقوام وَاحِد، قَالَ الله - تَعَالَى -: {أَمْوَالكُم الَّتِي جعل الله لكم قيَاما} أَي: قواما لمعايشكم، وَقَالَ الشَّاعِر: يمدح النَّبِي.
(ونشهد أَنَّك عبد المليك ... أتيت بشرع وَدين قيم)(2/68)
{للنَّاس والشهر الْحَرَام وَالْهَدْي والقلائد ذَلِك لِتَعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا}
وَأَرَادَ بِهِ: أَن الْبَيْت الْحَرَام قوام للنَّاس لدينهم ومعايشهم، أما فِي الدّين؛ لِأَن بِهِ تقوم الْمَنَاسِك وَالْحج، وَأما فِي المعايش؛ فَلِأَن (أهل الْحرم) كَانُوا يأمنون أهل (الْغَارة) ، حَتَّى كَانَ يُغير بَعضهم على بعض، ثمَّ لَا يتعرضون لأهل الْحرم، وَيَقُولُونَ: هم أهل الله.
{والشهر الْحَرَام} أَرَادَ بِهِ: جنس الْأَشْهر الْحرم، وَهِي أَرْبَعَة أشهر: ثَلَاثَة سرد، وَوَاحِد فَرد كَمَا سبق، وَالْمرَاد بِهِ: أَنه جعل الشَّهْر الْحَرَام قواما للنَّاس؛ يأمنون فِيهِ الْقِتَال؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يكفون عَن الْقَتْل والقتال فِي الْأَشْهر الْحرم.
{وَالْهَدْي والقلائد} وَقد بَينا كَيفَ يكون الْهَدْي والقلائد، وَكَونه قواما للنَّاس: أَنهم كَانُوا يأمنون بتقليد الْهَدْي، وَكَانَ أهل الْحرم يتعيشون بِالْهَدْي والقلائد.
{ذَلِك لِتَعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَن الله بِكُل شَيْء عليم} فَإِن قَالَ قَائِل: أَي اتِّصَال لهَذَا بِمَا سبق من الْكَلَام فِي الْآيَة؟ قَالَ الْمبرد أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يزِيد: مَعْنَاهُ: أَن ألهمتهم ذَلِك الاحترام، وَأَن لَا يتَعَرَّضُوا لأهل الْحرم؛ فَكَأَنَّهُ بَين فِي الْآيَة صَنْعَة مَعَ أهل الْحرم، قَالَ: ذَلِك لِتَعْلَمُوا أَن كل ذَلِك بعلمي، وإلهامي إيَّاهُم.
وَقَالَ الزّجاج: [قد سبق] فِي هَذِه السُّورَة من الله - تَعَالَى - الْإِخْبَار عَن الغيوب، والكشف عَن الْأَسْرَار، مثل قَوْله: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخَرين لم يأتوك} وَمثل إخْبَاره بتحريفهم الْكتب، وَنَحْو ذَلِك؛ فَقَوله: {ذَلِك لِتَعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} رَاجع إِلَيْهِ.(2/69)
{فِي الأَرْض وَأَن الله بِكُل شَيْء عليم (97) اعلموا أَن الله شَدِيد الْعقَاب وَأَن الله غَفُور رَحِيم (98) مَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ وَالله يعلم مَا تبدون وَمَا تكتمون (99) قل لَا}(2/70)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
قَوْله - تَعَالَى -: {اعلموا أَن الله شَدِيد الْعقَاب وَأَن الله غَفُور رَحِيم} وَفِي الْخَبَر: " لَو يعلم الْمُؤمن مَا عِنْد الله من الْعَذَاب لم يطْمع فِي جنته أحد، وَلَو يعلم الْكَافِر مَا عِنْد الله من الرَّحْمَة لم يقنط من جنته أحد ".(2/70)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
وَقَوله: {مَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ وَالله يعلم مَا تبدون وَمَا تكتمون} مَعْلُوم الْمَعْنى.(2/70)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل لَا يَسْتَوِي الْخَبيث وَالطّيب} قَالَ السّديّ: يَعْنِي الْكَافِر وَالْمُؤمن. وَقَالَ غَيره: الْخَبيث: الْحَرَام، وَالطّيب: الْحَلَال، وَفِي الْخَبَر: " حلوان الكاهن خَبِيث وَمهر الْبَغي خَبِيث " أَي: حرَام {وَلَو أعْجبك} مَعْنَاهُ: وَلَو سرك {كَثْرَة الْخَبيث} .
{فَاتَّقُوا الله يَا أولي الْأَلْبَاب لَعَلَّكُمْ تفلحون} وَفِي الْمثل: حرَام يَأْتِي جزفا (والحلال) يَأْتِي قوتا. وَعَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: " دِرْهَم من الْحَلَال خير من مائَة ألف [دِرْهَم] وقر من الْحَرَام ".(2/70)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ} سَبَب نزُول الْآيَة: أَن الصَّحَابَة أَكْثرُوا السُّؤَال على النَّبِي حَتَّى غضب، وَقَامَ(2/70)
{يَسْتَوِي الْخَبيث وَالطّيب وَلَو أعْجبك كَثْرَة الْخَبيث فَاتَّقُوا الله يَا أولي الْأَلْبَاب لَعَلَّكُمْ تفلحون (100) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ وَإِن تسألوا} خَطِيبًا، وَقَالَ: " إِنَّكُم لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء فِي مقَامي هَذَا إِلَّا أنبأتكم بِهِ، فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، من أَبى؟ - وَكَانَ السَّائِل عبد الله بن حذافة السَّهْمِي، وَكَانَ يُقَال فِي نسبه شَيْء، فَلَمَّا قَالَ: من أَبى؟ - قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: أَبوك حذافة، فَقَامَ آخر، وَقَالَ: من أَبى؟ فنسبه إِلَى غير أَبِيه - كَأَنَّهُ كَانَ من حرَام - وَسَأَلَهُ رجل، فَقَالَ: أَيْن أكون غَدا؟ فَقَالَ: فِي النَّار، فَقَامَ آخر، وَقَالَ أَيْن أكون غَدا؟ فَقَالَ: فِي الْجنَّة؛ فبكوا، وَقَالَ عمر: اسْتُرْ علينا يَا رَسُول الله؛ فَإنَّا حَدِيث عهد بالجاهلية، وَجَثَا على رُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّه رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دينا؛ وَنزلت الْآيَة ".
وروى أَبُو البخْترِي عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " (لما) نزل قَوْله: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} قَامَ رجل، وَقَالَ: أَفِي كل عَام يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: لَا، وَلَو قلت: نعم لَوَجَبَتْ، وَلم تطيقوه، ثمَّ قَالَ: ذروني مَا تركْتُم، فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بِكَثْرَة سُؤَالهمْ، وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ، فَمَا أَمرتكُم بِهِ فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنهُ، فَانْتَهوا، وَنزلت الْآيَة ".
{وَإِن تسألوا عَنْهَا حِين ينزل الْقُرْآن تبد لكم} مَعْنَاهُ: وَإِن صَبَرْتُمْ حَتَّى ينزل الْقُرْآن؛ وجدْتُم فِيهِ بَيَان مَا تحتاجون إِلَيْهِ {عَفا الله عَنْهَا وَالله غَفُور حَلِيم} .(2/71)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
{قد سَأَلَهَا قوم من قبلكُمْ ثمَّ أَصْبحُوا بهَا كَافِرين} قَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ أَصْحَاب(2/71)
{عَنْهَا حِين ينزل الْقُرْآن تبد لكم عَفا الله عَنْهَا وَالله غَفُور حَلِيم (101) قد سَأَلَهَا قوم من قبلكُمْ ثمَّ أَصْبحُوا بهَا كَافِرين (102) مَا جعل الله من بحيرة وَلَا سائبة وَلَا وصيلة وَلَا} الْمَائِدَة، وسألوا الْمَائِدَة ثمَّ كفرُوا، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ: قوم صَالح، سَأَلُوا النَّاقة، ثمَّ كفرُوا بهَا، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ الْكفَّار فِي الْجَاهِلِيَّة، سَأَلُوا رَسُول الله أَن يَجْعَل الصَّفَا ذَهَبا.(2/72)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
قَوْله - تَعَالَى -: {مَا جعل الله من بحيرة وَلَا سائبة وَلَا وصيلة وَلَا حام}
قَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَ سُؤَالهمْ الَّذِي تقدم عَن هَذِه الأوضاع، وَهَذِه الْآيَة لبَيَان مَا سَأَلُوا ردا عَلَيْهِم، وَقَالَ ابْن عَبَّاس فِي بَيَان هَذِه الأوضاع الْأَرْبَعَة، قَالَ:
أما الْبحيرَة: هِيَ النَّاقة كَانَت إِذا ولدت خَمْسَة أبطن شَقوا أَنَّهَا، وتركوها وَلم يحملوا عَلَيْهَا، وَلم يمنعوها الْكلأ؛ وَبِذَلِك سميت بحيرة من الْبَحْر، وَهُوَ الشق، ثمَّ نظرُوا إِلَى خَامِس وَلَدهَا، فَإِن كَانَ ذكرا نحروه، وَأكله الرِّجَال دون النِّسَاء، وَإِن كَانَت أثنى تركوها كالأم، وَإِن كَانَ مَيتا، أكله الرِّجَال وَالنِّسَاء؛ فَهَذَا معنى الْبحيرَة.
وَأما السائبة: كَانَ الرجل من أهل الْجَاهِلِيَّة إِذا مرض لَهُ مَرِيض، أَو غَابَ لَهُ قريب، يَقُول: إِن رد الله غائبي، أَو إِن شفى الله مريضي؛ فناقتي هَذِه سائبة، ثمَّ يسيبها، تذْهب حَيْثُ تشَاء، (أَو) يَقُول: إِن كَانَ كَذَا؛ فَعَبْدي عَتيق سائبة. يَعْنِي: من غير وَلَاء، وَلَا مِيرَاث؛ فَهَذَا معنى السائبة.
وَأما الوصيلة: فَكَانَت فِي الْغنم، كَانَت الشَّاة إِذا ولدت سَبْعَة أبطن، نظرُوا إِلَى الْبَطن السَّابِع، فَإِن كَانَ ذكرا ذبحوه وَأكله الرِّجَال دون النِّسَاء، وَإِن كَانَت أُنْثَى تركوها، وَإِن كَانَ مَيتا أكله الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَإِن كَانَ ذكرا وَأُنْثَى فِي بطن وَاحِد تركوهما، وَقَالُوا: وصلت أخاها، فَهَذِهِ هِيَ الوصيلة.
وَأما الحام: كَانَ بَعضهم إِذا ولدت نَاقَته عشرَة أبطن؛ تركوها وَلم يركبوها، وَقَالُوا: حمى ظهرهَا، وَكَذَلِكَ إِذا ركب ولد وَلَدهَا؛ يَقُولُونَ: حمى ظهرهَا وتركوها، وَرُبمَا تركوها لآلهتهم على مَا سَيَأْتِي فِي سُورَة الْأَنْعَام؛ فَهَذَا هُوَ الحام، وَهَذِه أوضاع وَضعهَا أهل الْجَاهِلِيَّة على آرائهم، فجَاء الشَّرْع برفعها، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ:(2/72)
{حام وَلَكِن الَّذين كفرُوا يفترون على الله الْكَذِب وَأَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ (103) وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول قَالُوا حَسبنَا مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَو لَو كَانَ آباؤهم لَا يعلمُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا} " رَأَيْت النَّار؛ فَرَأَيْت فِيهَا عَمْرو بن لحي يجر قَصَبَة فِي النَّار " أَي: أمعاءه، وَكَانَ أول من سيب السوائب {وَلَكِن الَّذين كفرُوا يفترون على الله الْكَذِب وَأَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ}(2/73)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
{وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول} يَعْنِي: إِذا دعوا إِلَى الْكتاب وَالسّنة {قَالُوا حَسبنَا مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} يَعْنِي: كفانا دين آبَائِنَا {أَو لَو كَانَ آباؤهم لَا يعلمُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ} .(2/73)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم} يَعْنِي: تَخْلِيصهَا من النَّار {لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَقُول: " عَلَيْكُم أَنفسكُم " وَقد أمرنَا بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر؟ قيل: قَالَ مُجَاهِد، وَسَعِيد بن جُبَير: الْآيَة فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى، يَعْنِي: عَلَيْكُم أَنفسكُم، لَا يضركم من ضل من الْيَهُود وَالنَّصَارَى إِذا اهتديم؛ فَخُذُوا مِنْهُم الْجِزْيَة، وَلَا تتعرضوا لَهُم، واتركوهم وَمَا يَزْعمُونَ؛ فَإِنَّهُ لَا يضركم.
(وَعَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ -: " أَنه خطب وَقَالَ: إِنَّكُم تقرءون هَذِه الْآيَة {عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم} من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ) ، وَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله يَقُول: إِذا رَأَيْتُمْ الظَّالِم فَخُذُوا على يَدَيْهِ، أَو يُوشك أَن [يعمكم] الله (بعقاب) " وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: " مروا بِالْمَعْرُوفِ، وانهوا عَن(2/73)
{يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى الله مرجعكم جَمِيعًا فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم} الْمُنكر؛ فَإِن قيل مِنْكُم؛ فَذَاك وَإِن رد عَلَيْكُم أَنفسكُم "، [وَيرد] هَذَا مَا روى عَن أبي أُميَّة الشَّيْبَانِيّ أَنه قَالَ: " سَأَلت أَبَا ثَعْلَبَة الْخُشَنِي، فَقلت: إِن الله - تَعَالَى - يَقُول: {عَلَيْكُم أَنفسكُم} وَقد أمرنَا بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، فَقَالَ: لقد سَأَلت عَنْهَا خَبِيرا، سَمِعت رَسُول الله - وَقد سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة - يَقُول: مروا بِالْمَعْرُوفِ وانهو عَن الْمُنكر؛ فَإِذا رَأَيْت شحا مُطَاعًا، وَهوى مُتبعا، وَدُنْيا مُؤثرَة، وَإِعْجَاب كل ي رَأْي بِرَأْيهِ، فَعَلَيْك بخويصة نَفسك، ودع أَمر الْعَامَّة " {إِلَى الله مرجعكم ميعا فينبئكم بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ} .(2/74)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم} سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن تَمِيم الدَّارِيّ وعدي (بن بداء) ؟ خرجا إِلَى التِّجَارَة، وَكَانَا نَصْرَانِيين، ومعهما بديل مولى عَمْرو بن الْعَاصِ، وَكَانَ مُسلما؛ فَمَرض، وَكتب مَا مَعَه من الْمَتَاع فِي صحيفَة، وألقها بَين الْمَتَاع، ثمَّ أوصى إِلَى هذَيْن النصرانيين أَن يردا مَتَاعه إِلَى مَوْلَاهُ إِن مَاتَ هُوَ، وَكَانَ بَين الْمَتَاع جَام [مخوص] بِالذَّهَب منقوش بِهِ؛ فخانا فِي ذَلِك الْجَام، وأديا سَائِر الْمَتَاع إِلَى أَهله، فوجدوا تِلْكَ الصَّحِيفَة بَين الْمَتَاع؛ فطلبوا الْجَام، فافتقدوه؛ فسألوا عديا، وتميما عَن ذَلِك فأنكرا، وَقَالا: لَا نَدْرِي، وحلفا عَلَيْهِ، ثمَّ إِن ذَلِك الْجَام وجد عِنْد رجل بِالْمَدِينَةِ، فَسئلَ الرجل عَنهُ؛ فَقَالَ: إِنَّمَا أعطانيه عدي وَتَمِيم؛ فاختصموا إِلَى النَّبِي؛ فأصر على الْإِنْكَار، وحلفا عَلَيْهِ؛ فَحلف عَمْرو بن الْعَاصِ وَالْمطلب بن أبي(2/74)
{إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت حِين الْوَصِيَّة اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ إِن أَنْتُم ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فأصابتكم مُصِيبَة الْمَوْت تحبسونهما من بعد الصَّلَاة فيقسمان} ودَاعَة على أَنَّهُمَا قد خَانا فِي الْجَام، فَأخذ الْجَام ثمَّ إِن تميما أسلم بعد ذَلِك؛ وَأقر بِتِلْكَ الْخِيَانَة " فَهَذِهِ قصَّة الْآيَة وَعَلَيْهَا نزلت الْآيَة.
فَقَوله: {شَهَادَة بَيْنكُم} يقْرَأ فِي الشواذ " شَهَادَة بَيْنكُم " وَقَرَأَ الْأَعْرَج " شَهَادَة بَيْنكُم " بِالرَّفْع والتنوين، وَالْمَعْرُوف " شَهَادَة بَيْنكُم " {إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} أَي: أَسبَاب الْمَوْت {حِين الْوَصِيَّة اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم} ذكر اثْنَان على الرّفْع؛ لِأَنَّهُ خبر الِابْتِدَاء، وَمعنى هَذَا الْكَلَام: أَن الشَّهَادَة فِيمَا بَيْنكُم على الْوَصِيَّة عِنْد الْمَوْت: اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم.
{أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول شُرَيْح، وَالنَّخَعِيّ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَجَمَاعَة -: أَن مَعْنَاهُ من غير أهل ملتكم، يَعْنِي: من أهل الذِّمَّة، وَقَالَ الْحسن، وَالزهْرِيّ: مَعْنَاهُ: من غير قبيلتكم.
{إِن أَنْتُم ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض} أَي: سافرتم {فأصابتكم مُصِيبَة الْمَوْت تحبسونهما من بعد الصَّلَاة} أَكثر الْعلمَاء على أَنه أَرَادَ بِهِ: صَلَاة الْعَصْر، (وَقَالَ الْحسن: بعد صَلَاة الظّهْر، وَالْأول أصح؛ وَإِنَّمَا خص بِهِ صَلَاة الْعَصْر؛ لِأَن وَقت الْعَصْر) مُعظم مُحْتَرم عِنْد (جَمِيع) أهل الْأَدْيَان، وَكَأن النَّاس بعد الْعَصْر يكون أجمع فِي الْأَسْوَاق والمساجد. وَالْمرَاد بِهِ: حبس الحالفين بعد الْعَصْر.(2/75)
{بِاللَّه إِن ارتبتم لَا نشتري بِهِ ثمنا وَلَو كَانَ ذَا قربى وَلَا نكتم شَهَادَة الله إِنَّا إِذا لمن الآثمين (106) فَإِن عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا فآخران يقومان مقامهما من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان فيقسمان بِاللَّه لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا وَمَا اعتدينا إِنَّا إِذا}
{فيقسمان بِاللَّه إِن ارتبتم} يَعْنِي: إِن وَقعت لكم رِيبَة فِي قَول الحالفين أَو الشَّاهِدين يحلفان أَنا {لَا نشتري بِهِ ثمنا وَلَو كَانَ ذَا قربى} أَي: لَا نقُول إِلَّا الصدْق وَلَو كَانَ على الْقَرِيب {وَلَا نكتم شَهَادَة الله إِنَّا إِذا لمن الآثمين} وَإِنَّمَا قَالَ: شَهَادَة الله؛ لِأَن الشَّهَادَة تكون بِأَمْر الله(2/76)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
{فَإِن عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا} يَعْنِي: فَإِن اطلع، وَأظْهر خيانتهما {فآخران يقومان مقامهما من الَّذين لستحق عَلَيْهِم الأوليان} يقْرَأ هَذَا على ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: " من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان ". وَقَرَأَ (حَفْص عَن عَاصِم) " من الَّذين اسْتحق " بِنصب التَّاء والحاء {عَلَيْهِم الأوليان} وَقَرَأَ أَبُو بكر عَن عَاصِم، وَحَمْزَة: " من الَّذين اسْتحق " - بِضَم التَّاء وَكسر الْحَاء - عَلَيْهِم الْأَوَّلين.
فَأَما معنى الْقِرَاءَة الأولى فَقَوله: {اسْتحق عَلَيْهِم} يَعْنِي: اسْتحق فيهم، أَو اسْتحق مِنْهُم كَقَوْلِه: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} أَي: على جُذُوع النّخل، يَعْنِي: الَّذين وَقعت الْخِيَانَة فِي حَقهم، وهم أَوْلِيَاء الْمَيِّت، و {الأوليان} تَثْنِيَة: الأولى، وَالْأولَى: هُوَ الْأَقْرَب، وَمَعْنَاهُ: إِن عثر على خِيَانَة الحالفين؛ يقوم الأوليان من أَوْلِيَاء الْمَيِّت؛ فيحلفان، وَأما قَوْله: {من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم} أَي حق وَوَجَب فيهم، وَمَعْنَاهُ وَمعنى الْقِرَاءَة الأولى سَوَاء.
وَأما الْقِرَاءَة الثَّالِثَة: {من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الْأَوَّلين} فَهُوَ بدل عَن قَوْله: {من الَّذين} أَو عَن الِاسْم الْمُضمر تَحت قَوْله: {عَلَيْهِم} ؛ فَيكون المُرَاد بِهِ أَيْضا أَوْلِيَاء الْمَيِّت وَيكون الْمَعْنى مَا بَينا.(2/76)
{لمن الظَّالِمين (107) ذَلِك أدنى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ على وَجههَا أَو يخَافُوا أَن ترد أَيْمَان بعد أَيْمَانهم وَاتَّقوا الله واسمعوا وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين (108) يَوْم يجمع الله الرُّسُل فَيَقُول مَاذَا أجبتم قَالُوا لَا علم لنا إِنَّك أَنْت علام الغيوب (109) إِذْ قَالَ الله يَا}
ثمَّ بَين كَيْفيَّة قسهما؛ فَقَالَ: {فيقسمان بِاللَّه لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا وَمَا اعتدينا إِنَّا إِذا لمن الظَّالِمين}(2/77)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
{ذَلِك أدنى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ على وَجههَا} يَعْنِي: ذَلِك أقرب وَأَحْرَى أَن تُؤَدُّوا الشَّهَادَة على وَجههَا {أَو يخَافُوا أَن ترد أَيْمَان بعد أَيْمَانهم} يَعْنِي: وَإِن يخَافُوا رد الْيَمين بعد يمينهم على المدعين؛ فَلَا يحلفوا على الْكَذِب؛ خوفًا من أَن يرد الْيَمين عَلَيْهِم، وَيكون يمينهم أولى.
{وَاتَّقوا الله واسمعوا وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} قَالَ النَّخعِيّ، وَشُرَيْح: الْآيَة مَنْسُوخَة، وَقَوله: {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} لقد كَانَت شَهَادَة أهل الذِّمَّة مَقْبُولَة على الْوَصِيَّة ثمَّ نسخ، وَقد جوز بَعضهم شَهَادَة أهل الذِّمَّة فِي الْوَصِيَّة؛ خَاصَّة من لَا يرى نسخ الْآيَة مِنْهُم، وَقَالَ الْحسن: الْآيَة محكمَة، وَقد حمل قَوْله: " أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ " على غير قبيلتكم كَمَا بَينا.(2/77)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
قَوْله: {يَوْم يجمع الله الرُّسُل فَيَقُول مَاذَا أجبتم قَالُوا لَا علم لنا} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَقُولُونَ: لَا علم لنا، وَقد علمُوا مَا أجابوا؟ قيل: إِن جَهَنَّم تزفر زفرَة تذهل (بهَا) عُقُولهمْ؛ فَيَقُولُونَ من شدَّة الْفَزع: لَا علم لنا؛ ثمَّ يرد الله - تَعَالَى - عَلَيْهِم عُقُولهمْ، فيخبرون بِالْجَوَابِ، وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا علم لنا إِلَّا الْعلم الَّذِي أَنْت أعلم بِهِ منا، أَو إِلَّا مَا علمتنا، وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا علم لنا بِوَجْه الْحِكْمَة فِي سؤالك إيانا عَن أَمر أَنْت أعلم بِهِ منا، وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا علم بعاقبة أَمرهم، وَبِمَا أَحْدَثُوا من بعد، وَأَن أَمرهم على مَاذَا ختم، وعَلى هَذَا دلّ شَيْئَانِ: أَحدهمَا: من الْآيَة قَوْله {إِنَّك أَنْت علام الغيوب} ، وَالثَّانِي: مَا روى صَحِيحا عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " يسْلك بطَائفَة من أَصْحَابِي ذَات الشمَال - يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة - فَأَقُول: يَا رب، أَصْحَابِي أَصْحَابِي، فَيَقُول الله - تبَارك وَتَعَالَى -: إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بعْدك، إِنَّهُم لم يزَالُوا مرتدين على أَعْقَابهم مُنْذُ فَارَقْتهمْ. فَأَقُول مَا قَالَ العَبْد الصَّالح: {وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت(2/77)
{عِيسَى ابْن مَرْيَم اذكر نعمتي عَلَيْك وعَلى والدتك إِذْ أيدتك بِروح الْقُدس تكلم النَّاس فِي المهد وكهلا وَإِذ علمتك الْكتاب وَالْحكمَة والتوراة وَالْإِنْجِيل وَإِذ تخلق من الطين كَهَيئَةِ الطير بإذني فتنفخ فِيهَا فَتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وَإِذ تخرج الْمَوْتَى بإذني وَإِذ كَفَفْت بني إِسْرَائِيل عَنْك إِذْ جئتهم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذين كفرُوا مِنْهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين (110) وَإِذ أوحيت إِلَى الحواريين أَن آمنُوا بِي} فيهم فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد) ".(2/78)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم اذكر نعمتي عَلَيْك وعَلى والدتك} أمره بشكر النِّعْمَة، ثمَّ عد عَلَيْهِ نعْمَة؛ فَقَالَ: {إِذْ أيدتك بِروح الْقُدس تكلم النَّاس فِي المهد وكهلا وَإِذ علمتك الْكتاب وَالْحكمَة والتوراة وَالْإِنْجِيل} وَقد ذكرنَا الْكَلَام فِيهِ.
{وَإِذ تخلق من الطين كَهَيئَةِ الطير بإذني فتنفخ فِيهَا فَتكون طيرا بإذني} وَقد بَينا فِيمَا سبق كيفيته. {وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وَإِذ تخرج الْمَوْتَى بإذني وَإِذ كَفَفْت بني إِسْرَائِيل عَنْك إِذْ جئتهم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذين كفرُوا مِنْهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} .(2/78)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذ أوحيت إِلَى الحواريين أَن آمنُوا بِي وبرسولي} هَذَا الْوَحْي بِمَعْنى الإلهام، أَو بِمَعْنى الْأَمر، أَي: ألهمتهم وأمرتهم، قَالَ العجاج:
(الْحَمد لله الَّذِي اسْتَقَلت بِهِ السَّمَاء فاطمأنت
(أوحى) لَهَا الْقَرار فاستقرت)
أَي: أمرهَا بالقرار.
{قَالُوا آمنا واشهد بأننا مُسلمُونَ} وَقد ذكرنَا معنى الحواريين.(2/78)
{وبرسولي قَالُوا آمنا واشهد بأننا مُسلمُونَ (111) إِذْ قَالَ الحواريون يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم هَل يَسْتَطِيع رَبك أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء قَالَ اتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين (112) }(2/79)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِذْ قَالَ الحواريون يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم هَل تَسْتَطِيع رَبك} وَقَرَأَ الْكسَائي: " هَل يَسْتَطِيع " - بِالتَّاءِ - " رَبك " بِفَتْح الْبَاء، وَهَذِه قِرَاءَة عَليّ، ومعاذ وَعَائِشَة، وَكَانَت عَائِشَة تحلف أَن الحواريين أعرف بِاللَّه من أَن يَقُولُوا: هَل يَسْتَطِيع رَبك.
ولقراءتهم مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهِ هَل تسْأَل رَبك، وَالثَّانِي: هَل تستدعي طَاعَة رَبك بإجابته سؤالك إِيَّاه؟ وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة فَفِي مَعْنَاهَا أَقْوَال:
أَحدهَا مَعْنَاهُ: هَل يفعل رَبك. وَقَالَ الْفراء: يَقُول الرجل لغيره: هَل تَسْتَطِيع أَن تفعل كَذَا، يُرِيد بِهِ: هَل تفعل كَذَا؟ .
وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: هَل يُطِيع رَبك اسْتَطَاعَ بِمَعْنى أطَاع، كَقَوْلِهِم: اسْتَجَابَ، يَعْنِي: أجَاب، فَيكون مَعْنَاهُ: هَل يطيعك رَبك؛ بإجابة سؤالك، وَفِي الْآثَار: " من أطَاع الله أطاعه الله " أَي: يُجيب دعاءه.
وَقيل: إِن الحواريين قَالُوا ذَلِك قبل استحكام الْمعرفَة، وَأَرَادَ بِهِ: الْقُدْرَة، وَلَو استحكمت معرفتهم لم يَقُولُوا ذَلِك، وَالصَّحِيح أحد الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين، وَهَذَا لِأَن الِاسْتِطَاعَة لَا تنْسب إِلَى الله غَالِبا؛ وَإِنَّمَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ، وَأما الِاسْتِطَاعَة تكون للْعَبد.
وَقَوله: {أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء} اعْلَم أَن الْمَائِدَة: اسْم لما يكون عَلَيْهِ طَعَام؛ فَإِذا لم يكن عَلَيْهِ طَعَام لَا يُسمى مائدة، وَاخْتلفُوا فِي اشتقاق الْمَائِدَة: مِنْهُم من قَالَ: هِيَ من الميد، بِمَعْنى الْإِعْطَاء، وَمِنْه: قَالُوا لأمير الْمُؤمنِينَ: الممتاد، يَعْنِي: الَّذِي يطْلب عطاؤه؛ فعلى هَذَا سميت مائدة؛ لِأَنَّهَا تُعْطِي من عَلَيْهَا الطَّعَام.
وَقيل: هُوَ من [الميد] بِمَعْنى الْحَرَكَة؛ فعلى هَذَا سميت مائدة؛ لِأَنَّهَا تتحرك بِمَا(2/79)
{قَالُوا نُرِيد أَن نَأْكُل مِنْهَا وتطمئن قُلُوبنَا ونعلم أَن قد صدقتنا ونكون عَلَيْهَا من الشَّاهِدين (113) قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم اللَّهُمَّ رَبنَا أنزل علينا مائدة من السَّمَاء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وَآيَة مِنْك وارزقنا وَأَنت خير الرازقين (114) قَالَ الله إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم فَمن يكفر بعد مِنْكُم فَإِنِّي أعذبه عذَابا لَا أعذبه أحدا من الْعَالمين (115) وَإِذ قَالَ الله يَا} عَلَيْهَا من الطَّعَام.
{قَالَ اتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين} نَهَاهُم عَن اقتراح الْآيَات بعد الْإِيمَان، وَقيل: أَرَادَ بِهِ أَي: اكتفوا بِطَعَام الأَرْض عَن طَعَام السَّمَاء.(2/80)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
قَوْله - تَعَالَى: {قَالُوا نُرِيد أَن نَأْكُل مِنْهَا} يَعْنِي: أكل تبرك لَا أكل حَاجَة {وتطمئن قُلُوبنَا} أَي: يزْدَاد إيمَانهَا، وَهُوَ مثل قَوْله: ( {وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} ونعلم أَن قد صدقتنا) أَي: نزداد إِيمَانًا بصدقك، وَفِي بعض التفاسير: أَن عِيسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - كَانَ قد أَمرهم أَن يَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا لما سَأَلُوهُ أَن يسْأَل الْمَائِدَة، قَالَ لَهُم: صُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ فَإِذا أفطرتم لَا تسْأَلُون الله شَيْئا إِلَّا أَعْطَاكُم، فَفَعَلُوا ذَلِك، فَلَمَّا أعْطوا الْمَائِدَة، عرفُوا صدقه؛ فَذَلِك معنى قَوْله: {ونعلم أَن قد صدقتنا ونكون عَلَيْهَا من الشَّاهِدين} .(2/80)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم اللَّهُمَّ رَبنَا أنزل علينا مائدة من السَّمَاء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا} قيل: إِنَّه لما أَرَادَ سُؤال الْمَائِدَة اغْتسل، وَصلى رَكْعَتَيْنِ، فطأطأ رَأسه، وغض بَصَره، وَبكى، ثمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ رَبنَا أنزل علينا مائدة من السَّمَاء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا " والعيد: المُرَاد بِهِ: يَوْم السرُور لَهُم {وَآيَة مِنْك وارزقنا وَأَنت خير الرازقين} .(2/80)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ الله إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم فَمن يكفر بعد مِنْكُم فَإِنِّي أعذبه عذَابا لَا أعذبه أحدا من الْعَالمين} أَي: جنس عَذَاب لم أعذب بِهِ أحدا، وَقيل: إِن ذَلِك الْعَذَاب (أَنه) مسخهم خنازير على مَا سنبين فِي الْقِصَّة.
ثمَّ اخْتلفُوا، قَالَ الْحسن، وَمُجاهد: إِن الْمَائِدَة لم تنزل أصلا، فَإِن الله - تَعَالَى -(2/80)
لما أوعد على كفرهم بعد نزُول الْمَائِدَة؛ خَافُوا أَن يكفر بَعضهم؛ فاستعفوا عَن إِنْزَال الْمَائِدَة؛ فعلى هَذَا تَقْدِير قَوْله: {إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم} يَعْنِي: إِن سَأَلْتُم، إِلَّا أَنهم استعفوا فَلم ينزل، وَالصَّحِيح - وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ - أَنَّهَا منزلَة؛ لِأَن الله تَعَالَى لَا يعد شَيْئا ثمَّ يخلف، وَقد قَالَ: {إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم} .
والقصة فِي ذَلِك: أَن عِيسَى لما سَأَلَ الْمَائِدَة؛ نزلت من السَّمَاء سفرة حَمْرَاء بَين غمامتين كَانُوا يرونها، بسطت بَين أَيْديهم، وَكَانَت مغطاة، فَقَامَ عِيسَى إِلَيْهَا، وَرفع عَنْهَا الغطاء، فَإِذا عَلَيْهَا سَبْعَة أرغفة، وَسَبْعَة أحوات، وَفِي رِوَايَة: كَانَ عَلَيْهَا خَمْسَة أرغفة، وسمكة مشوية لَيْسَ فِيهَا فلوس وَلَا شوك كَمَا يكون فِي سمك الأَرْض، وَكَانَ حولهَا من كل بقل إِلَّا الكرات، وَكَانَ عِنْد رَأسهَا الْملح وَعند ذنبها الْخلّ، وَكَانَ عَلَيْهَا خمس رمانات وتميرات، وَقيل: كَانَت الأرغفة من خبز الْأرز، وَقَالَ عَطِيَّة: كَانَت عَلَيْهَا سَمَكَة لَهَا طعم جَمِيع الأَرْض، وَقيل: كَانَ عَلَيْهَا ثَمَر من ثمار الْجنَّة. وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن عِيسَى سُئِلَ: أَهَذا من طَعَام الْجنَّة؟ فَقَالَ: لَا من طَعَام الْجنَّة، وَلَا من طَعَام الأَرْض، إِنَّمَا هُوَ طَعَام خلقه الله - تَعَالَى - لكم. وَفِي الْقِصَّة: أَن هَذَا الْمَائِدَة لما نزلت؛ دَعَا عِيسَى لَهَا الْفُقَرَاء، والزمني، وَالْمَسَاكِين، حَتَّى يَأْكُلُوا، وَكَانَت تنزل عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ يَوْمًا، يَأْكُل مِنْهَا كل يَوْم أَرْبَعَة آلَاف، أَو خَمْسَة آلَاف نفر، فَكَانُوا يَأْكُلُون، وَلَا ينقص مِنْهَا شَيْء، ثمَّ تصعد، ثمَّ تنزل، هَكَذَا كل يَوْم حَتَّى خانوا فِيهَا، فمسخوا قردة وَخَنَازِير، وَرفعت الْمَائِدَة. ثمَّ اخْتلفُوا فِي تِلْكَ الْخِيَانَة، فروى عمار بن يَاسر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أنزلت عَلَيْهِم الْمَائِدَة، وَعَلَيْهَا الْخبز وَاللَّحم، وَأمرُوا أَن لَا يدخروا مِنْهَا للغد، فادخروا وخانوا؛ فَأَصْبحُوا قردة وَخَنَازِير " وَفِي رِوَايَة: " أَصْبحُوا خنازير ". وَقيل: كَانَت خيانتهم أَن الْيَهُود قَالُوا لَهُم: إِن عِيسَى سحركم بالمائدة، وَلم يكن ثمَّ مائدة؛ فشكوا فِيهِ؛ فمسخوا خنازير، وَقيل: كَانَت خيانتهم أَن فِي الِابْتِدَاء كَانَ يَأْكُل مِنْهَا الْأَغْنِيَاء والفقراء؛ فَأَمرهمْ الله - تَعَالَى - أَن يَدْعُو لَهَا الْفُقَرَاء دون(2/81)
{عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يكون لي أَن أَقُول مَا لَيْسَ لي بِحَق إِن كنت قلته فقد عَلمته تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم} الْأَغْنِيَاء؛ ابْتَلَاهُم؛ فَأكل الْأَغْنِيَاء وخالفوا، فَأَصْبحُوا خنازير.(2/82)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم} اخْتلفُوا فِي أَن هَذَا القَوْل مَتى يكون؟ قَالَ السّديّ: إِنَّمَا قَالَ الله - تَعَالَى - ذَلِك حِين رَفعه إِلَى السَّمَاء؛ لِأَن قَوْله: " إِذْ للماضي، وَالصَّحِيح أَنه يكون فِي الْقِيَامَة، وَالْقِيَامَة وَإِن لم تكن بعد، وَلكنهَا فِي علم الله، فَلَمَّا كَانَت كائنة لَا محَالة فَهِيَ كالكائنة؛ فصح قَوْله: {وَإِذ قَالَ الله} وَقيل: إِذا بِمَعْنى إِذْ وَيجوز مثل ذَلِك قَالَ الشَّاعِر:
(لم يجزه بِهِ الْإِلَه إِذْ جزا ... جنَّات عدن فِي السَّمَوَات الْعلَا)
يَعْنِي: إِذا جزى {أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} قيل: هَذَا سُؤال توبيخ وَالْمرَاد بِهِ: قومه، وَكَانَت الْحِكْمَة فِي سُؤَاله عَنهُ؛ حَتَّى يسمع قومه إِنْكَاره؛ لأَنهم كَانُوا يدعونَ أَن عِيسَى أَمرهم (باتخاذه إِلَهًا) ؛ فَإِن قَالَ قَائِل: هم لم يتخذوا أمه إِلَيْهَا؛ فَمَا معنى قَوْله: {اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} ؟ قيل: إِنَّه - جلّ وَعز - لما أَرَادَ ذكر عِيسَى مَعَ أمه، قَالَ: إِلَهَيْنِ، وَهَذَا كَمَا يُقَال عِنْد ذكر أبي بكر وَعمر مَعًا: عمرَان، وَقَالُوا: هَذَا سنة عمرين، وَيُقَال للشمس وَالْقَمَر: قمران، قَالَ الفرزدق:
(لنا قمراها والنجوم طوالع ... )
يَعْنِي: الشَّمْس وَالْقَمَر، وَقيل: إِن عِيسَى كَانَ بَعْضًا لِمَرْيَم، فَلَمَّا اتخذوه إِلَهًا؛ فكأنهم اتَّخذُوا أمه إِلَهًا؛ فَقَالَ: {إِلَهَيْنِ من دون الله} {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يكون لي أَن أَقُول مَا لَيْسَ لي بِحَق إِن كنت قلته فقد عَلمته} اشْتغل أَولا بالثناء عَلَيْهِ والتنزيه، وَنسبه إِلَى الْقُدس وَالطَّهَارَة {تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك} قَالَ(2/82)
{مَا فِي نَفسك إِنَّك أَنْت علام الغيوب (116) مَا قلت لَهُم إِلَّا مَا أَمرتنِي بِهِ أَن اعبدوا الله رَبِّي وربكم وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت فيهم فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد (117) إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت} الزّجاج: نفس النَّبِي: جملَته وَحَقِيقَته، فَمَعْنَاه: تعلم حَقِيقَة أَمْرِي، وَلَا أعلم حَقِيقَة أَمرك، وَقيل: مَعْنَاهُ: تعلم مَا فِي غيبي وَلَا أعلم مَا فِي غيبك، وَعَلِيهِ دلّ قَوْله: {إِنَّك أَنْت علام الغيوب} وَهُوَ معنى الأول،(2/83)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
{مَا قلت لَهُم إِلَّا مَا أَمرتنِي بِهِ أَن اعبدوا الله بِي وربكم وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت فيهم فَلَمَّا توفيتني} أَي: رفعتني {كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم} وَقد بَينا معنى التوفي فِيمَا سبق {وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد} .(2/83)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ طلب الْمَغْفِرَة لَهُم، وهم كفار؟ {وَكَيف قَالَ: وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم، وَهَذَا لَا يَلِيق بسؤال الْمَغْفِرَة؟} قيل: أما الأول فَمَعْنَى قَوْله: وَإِن تغْفر لَهُم، يَعْنِي: بعد الْإِيمَان، وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم على قَول السّديّ؛ لِأَن الْإِيمَان لَا ينفع فِي الْقِيَامَة، وَالصَّحِيح آخر الْقَوْلَيْنِ، قَالَ بَعضهم: هَذَا فِي فريقين مِنْهُم فَقَوله: {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك} يَعْنِي: من كفر مِنْهُم {وَإِن تغْفر لَهُم} يَعْنِي: من آمن مِنْهُم. وَقَالَ أهل الْمعَانِي من أَرْبَاب النَّحْو: لَيْسَ هَذَا على وَجه طلب الْمَغْفِرَة، وَإِنَّمَا هَذَا على تَسْلِيم الْأَمر إِلَيْهِ، وتفويضه إِلَى مُرَاده؛ أَلا ترَاهُ يَقُول: " فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم " وَلَو كَانَ على وَجه طلب الْمَغْفِرَة لقَالَ: " فَإنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم ".
وَأما السُّؤَال الثَّانِي: اعْلَم أَن فِي مصحف ابْن مَسْعُود: " وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم " وَكَانَ ابْن شنبوذ يقْرَأ كَذَلِك زَمَانا بِبَغْدَاد؛ فَمنع عَنهُ، وَفِيه قصَّة، (وَقيل) : فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِير الْآيَة: إِن تغْفر لَهُم فَإِنَّهُم عِبَادك، وَإِن تُعَذبهُمْ فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم. وَقيل: مَعْنَاهُ: إِن تغْفر لَهُم لَا ينقص من (عزك)(2/83)
{الْعَزِيز الْحَكِيم (118) قَالَ الله هَذَا يَوْم ينفع الصَّادِقين صدقهم لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم (119) لله ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كل شَيْء قدير (120) } شَيْء وَلَا يخرج من حكمتك. وَيدخل فِي حِكْمَة الله - تَعَالَى - وسعة رَحمته أَن يغْفر للْكفَّار، وَلكنه أخبر أَن لَا يغْفر، وَهُوَ لَا يخلف خَبره وَمن قَالَ: إِنَّه على تَسْلِيم الْأَمر لَا على وَجه طلب الْمَغْفِرَة، استقام النّظم على قَوْله، كَمَا بَينا.(2/84)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ الله هَذَا يَوْم ينفع الصَّادِقين صدقهم} يقْرَأ: " يَوْم " بِالرَّفْع على الإبتداء، وَيقْرَأ: " يَوْم " على بِالنّصب، كَأَنَّهُ أَرَادَ فِي يَوْم؛ فَحذف فِي وَنصب يَوْم.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ ينفع الصَّادِقين صدقهم بالقيامة، وَلَيْسَت بدار النَّفْع؟ قيل: مَعْنَاهُ: ينفع الصَّادِقين صدقهم فِي الدُّنْيَا لَا صدقهم فِي الْقِيَامَة، وَقيل: نفعهم بِالصّدقِ فِي الْقِيَامَة: أَنهم لَو كذبُوا؛ نطقت جوارحهم فافتضحوا، فَإِذا صدقُوا لم يفتضحوا ( {لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم} لله ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كل شَيْء قدير) وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.(2/84)
تَفْسِير سُورَة الْأَنْعَام
قَالَ - رَضِي الله عَنهُ -: اعْلَم أَن سُورَة الْأَنْعَام مَكِّيَّة، روى يُوسُف بن مهْرَان عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: سُورَة الْأَنْعَام نزلت جملَة بِمَكَّة لَيْلًا، مَعهَا سَبْعُونَ ألف ملك يحدونها بالتسبيح. وَقد روى هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي، وَفِي تَمام الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من قَرَأَهَا فِي لَيْلَة اسْتغْفر لَهُ السبعون ألف ملك أُولَئِكَ ليله ونهاره إِلَى أَن يصبح "، وَفِي بعض الرِّوَايَات: " أَن تِلْكَ الْمَلَائِكَة كَانَ لَهُم زجل بالتسبيح، وَكَانَت الأَرْض ترتج، وَالنَّبِيّ يَقُول: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم حَتَّى نزلت " وَفِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ عَن [أبي] صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: نزلت سُورَة الْأَنْعَام جملَة بِمَكَّة إِلَّا آيَتَيْنِ: قَوْله - تَعَالَى -: {قل تَعَالَوْا} الْآيَة. وَقَوله: {مَا قدرُوا الله حق قدره} الْآيَة وَفِي بعض الرِّوَايَات: " إِلَّا ثَلَاث آيَات: من قَوْله: {قل تَعَالَوْا} إِلَى آخر الْآيَات الثَّلَاث، وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: سُورَة الْأَنْعَام من نَجَائِب الْقُرْآن، وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: من قَرَأَ سُورَة الْأَنْعَام فقد انْتهى فِي رضَا ربه.(2/85)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{الْحَمد لله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَجعل الظُّلُمَات والنور ثمَّ الَّذين كفرُوا}
قَوْله - تَعَالَى -: {الْحَمد لله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} حُكيَ عَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ: هَذِه الْآيَة أول آيَة فِي التَّوْرَاة، وَآخر آيَة فِي التَّوْرَاة:(2/86)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَقل الْحَمد لله الَّذِي لم يتَّخذ ولدا} الْآيَة.
فَقَوله: {الْحَمد لله} مَعْنَاهُ: احمدوا الله، ذكر الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر، وَفَائِدَته: الْأَمر بِالْحَمْد وَتَعْلِيم الْحَمد؛ فَإِنَّهُ لَو قَالَ: احمدوا الله؛ دعت الْحَاجة إِلَى بَيَان كَيْفيَّة الْحَمد، وَقَوله: {الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} إِنَّمَا خصهما بِالذكر؛ لِأَنَّهُمَا أعظم الْمَخْلُوقَات فِيمَا يرى الْعباد؛ وَلِأَن فيهمَا العبر وَالْمَنَافِع للعباد.
{وَجعل الظُّلُمَات والنور} والجعل: بِمَعْنى الْخلق، ثمَّ اخْتلفُوا، قَالَ بَعضهم: الظُّلُمَات: اللَّيْل، والنور: النَّهَار، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بالظلمات: الْكفْر، وبالنور: الْإِيمَان، وَيدخل فِي الظُّلُمَات جَمِيع الظُّلُمَات، حَتَّى ظلمَة الْقلب، وظلمة الشَّك، وَنَحْو ذَلِك.
وَيدخل فِي النُّور جَمِيع الْأَنْوَار، حَتَّى نور الْقلب، وَنور الْيَقِين، وَنَحْو ذَلِك، وَقيل: أَرَادَ بالظلمات: الْجَهْل، وبالنور: الْعلم، وَقيل: أَرَادَ بالظلمات: الْمعْصِيَة، وبالنور: الطَّاعَة.
وروى عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: إِن الله - تَعَالَى - خلق السَّمَاء قبل الأَرْض، وَاللَّيْل قبل النَّهَار، وَالْجنَّة قبل النَّار، وَقد قَالَ غَيره: خلق الأَرْض قبل السَّمَاء، وَسَيَأْتِي.
{ثمَّ الَّذين كفرُوا برَبهمْ يعدلُونَ} قَالَ الْكسَائي: عدل الشَّيْء بالشَّيْء: إِذا ساواه بِهِ، وَمِنْه الْعدْل. وَمَعْنَاهُ: يعدلُونَ بِاللَّه غير الله، وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: ثمَّ الَّذين كفرُوا برَبهمْ يشركُونَ، والمعنيان متقاربان؛ لِأَن من سَاوَى غير الله بِاللَّه؛ فقد أشرك. وَقيل: قَوْله: {ثمَّ الَّذين كفرُوا} معنى لطيف، وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل: أَنْعَمت عَلَيْك كَذَا، وتفضلت عَلَيْك بِكَذَا ثمَّ لَا تشكرني، ثمَّ تكفر بنعمتي.(2/86)
{برَبهمْ يعدلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلقكُم من طين ثمَّ قضى أَََجَلًا وَأجل مُسَمّى عِنْده ثمَّ أَنْتُم تمترون (2) وَهُوَ الله فِي السَّمَوَات وَفِي الأَرْض يعلم سركم وجهركم وَيعلم مَا تكسبون (3) وَمَا تأتيهم من آيَة من آيَات رَبهم إِلَّا كَانُوا عَنْهَا معرضين (4) فقد}(2/87)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
قَوْله - تَعَالَى -: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من طين} هُوَ مَا بَينا أَن الله - تَعَالَى - أَمر ملك الْمَوْت حَتَّى قبض قَبْضَة من تُرَاب؛ فخلق مِنْهَا آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - فَهَذَا معنى قَوْله: ( {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من طين} ثمَّ قضى أَََجَلًا وَأجل مُسَمّى عِنْده) قَالَ ابْن عَبَّاس: الْأَجَل الأول: من الْولادَة إِلَى الْمَوْت، وَالْأَجَل الثَّانِي: من الْمَوْت إِلَى الْبَعْث وَقَالَ أَيْضا: لكل أحد أجلان: أجل إِلَى الْمَوْت، وَأجل من الْمَوْت إِلَى الْبَعْث، فَإِن كَانَ برا وصُولا للرحم؛ زيد لَهُ من أجل الْبَعْث فِي أجل الْعُمر، وَإِن كَانَ غير ذَلِك، نقص من أجل الْعُمر، وَزيد ذَلِك فِي أجل الْبَعْث.
وَقيل: الْأَجَل الأول: أجل الدُّنْيَا كَمَا بَينا، وَالْأَجَل الثَّانِي من ابْتِدَاء الْآخِرَة، وَذَلِكَ مُسَمّى عِنْد الله لَا يُعلمهُ غَيره {ثمَّ أَنْتُم تمترون} تشكون.(2/87)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الله فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض يعلم سركم وجهركم} قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ: وَهُوَ الله المعبود فِي السَّمَوَات وَفِي الأض، وَقَالَ غَيره: تَقْدِيره: وَهُوَ الله يعلم سركم وجهركم فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَهُوَ قَول الزّجاج {وَيعلم مَا تكسبون} الْكسْب: كل عمل يعمله الْإِنْسَان بكده؛ لجلب نفع، أَو دفع ضرّ، وَلذَلِك لَا يُوصف فعل الله بِالْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ فعله برِئ عَن جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار.(2/87)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا تأتيهم من آيَة من آيَات رَبهم إِلَّا كَانُوا عَنْهَا معرضين} أَرَادَ بِهَذِهِ الْآيَة: انْشِقَاق الْقَمَر؛ فَإِن الْكفَّار سَأَلُوا رَسُول الله أَن يَأْتِيهم بِآيَة؛ فَقَالَ عَلَيْهِ [الصَّلَاة و] السَّلَام - مَاذَا تُرِيدُونَ؟ فاقترحوا انْشِقَاق الْقَمَر، فَأَتَاهُم بِهِ، فَكَفرُوا وأعرضوا.(2/87)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
قَوْله - تَعَالَى -: {فقد كذبُوا بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم} يَعْنِي: مَا ذكرنَا {فَسَوف(2/87)
{كذبُوا بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم فَسَوف يَأْتِيهم أنباء مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون (5) ألم يرَوا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فِي الأَرْض، مَا لم نمكن لكم وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم} يَأْتِيهم أنباء مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون) مَعْنَاهُ: فَسَوف يؤول إِلَيْهِ وبال مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون.(2/88)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
قَوْله - تَعَالَى -: {ألم يرَوا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} قيل: ثَمَانُون سنة، وَقيل: سِتُّونَ سنة، وَقيل: أَرْبَعُونَ سنة، وَقيل: ثَلَاثُونَ سنة، والقرن عِنْد حفاظ الحَدِيث: مائَة سنة؛ فَإِنَّهُ روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ لعبد [الله] بن (بسر) الْمَازِني: " إِنَّك تعيش قرنا "، فَعَاشَ مائَة سنة، فاستدلوا بِهِ على أَن الْقرن مائَة سنة، وَفِي الْأَخْبَار: كَانَ بَين آدم ونوح: عشرَة قُرُون، وَبَين نوح وَإِبْرَاهِيم: عشرَة قُرُون، والقرن فِي الْحَقِيقَة: هُوَ أهل كل زمَان، سَوَاء بعث فيهم نَبِي أَو لم يبْعَث؛ وَعَلِيهِ دلّ قَوْله: " خير النَّاس قَرْني، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذين بلونهم " يَعْنِي: ثمَّ الْقرن الَّذين يَلُونَهُمْ.(2/88)
{مدرارا وَجَعَلنَا الْأَنْهَار تجْرِي من تَحْتهم فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وأنشأنا من بعدهمْ قرنا آخَرين (6) وَلَو نزلنَا عَلَيْك كتابا فِي قرطاس فلمسوه بِأَيْدِيهِم لقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين (7) وَقَالُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ ملك وَلَو أنزلنَا ملكا لقضي الْأَمر ثمَّ لَا}
وَقَوله: {مكناهم فِي الأَرْض مَا لم نمكن لكم} أَي: أعطيناهم مَا لم نعطكم.
{وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مدرارا} أَي: مُتَتَابِعًا، قَالَ الشَّاعِر:
(وسقاك من نوء الثريا ... مزقة عَن الْحَلب وابلا مدرارا)
أَي: مُتَتَابِعًا، قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مدرارا: أَي: مُتَتَابِعًا فِي أَوْقَات الْحَاجَات، وَلم يرد بِهِ: التوالي على الدوم {وَجَعَلنَا الْأَنْهَار تجْرِي من تَحْتهم فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وأنشأنا من بعدهمْ قرنا آخَرين} .(2/89)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو نزلنَا عَلَيْك كتابا فِي قرطاس} سَبَب هَذَا: أَن عبد الله بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي أَخا أم سَلمَة، قَالَ لرَسُول الله: لن نؤمن بك حَتَّى تنزل علينا صحيفَة من السَّمَاء جملَة فَنزل قَوْله: {وَلَو نزلنَا عَلَيْك كتابا فِي قرطاس} . والقرطاس: مَا يكون مَكْتُوبًا، فَإِذا لم يكن مَكْتُوبًا سمي: طرسا {فلمسوه بِأَيْدِيهِم} فَإِن قَالَ قَائِل: لم لم يقل: فرأوه بأعينهم؟ قيل: لِأَن اللَّمْس أبلغ فِي إِيقَاع الْعلم من الرُّؤْيَة؛ لِأَن السحر يجْرِي على المرئي، وَلَا يجْرِي على الملموس؛ لِأَن الملموس يصير مرئيا، والمرئي لَا يصير ملموسا؛ فَذكر اللَّمْس ليَكُون أبلغ.
{لقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا ينفع مَعَهم شَيْء فَإنَّا وَإِن أنزلنَا عَلَيْهِم مَا اقترحوا قَالُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين.(2/89)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ ملك} وَهَذَا قَول عبد الله بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي (اقترح) إِنْزَال ملك {وَلَو أنزلنَا ملكا لقضي الْأَمر} قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: لقامت الْقِيَامَة، وَقيل: مَعْنَاهُ: لاستؤصلوا بِالْعَذَابِ، وَهَذِه سنة الله فِي الْكفَّار؛ أَنهم(2/89)
{ينظرُونَ (8) وَلَو جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عَلَيْهِم مَا يلبسُونَ (9) وَلَقَد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا مِنْهُم مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون (10) قل سِيرُوا فِي الأَرْض ثمَّ انْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين (11) قل لمن مَا فِي السَّمَوَات} مَتى اقترحوا آيَة، فَإِذا أَعْطَاهُم الله لَك؛ فَكَفرُوا بهَا، استأصلهم بِالْعَذَابِ، كدأب قوم نوح، وَعَاد وَثَمُود، وَقوم لوط، وأمثالهم { [ثمَّ] لَا ينظرُونَ} أَي: ثمَّ لَا يمهلون.(2/90)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا} أَي: فِي صُورَة رجل؛ لِأَن الرجل أأنس بِالرجلِ، وَأفهم مِنْهُ، وَقد جَاءَ جِبْرِيل إِلَى النَّبِي فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ وَجَاء الْملكَانِ إِلَى دَاوُد فِي صُورَة رجلَيْنِ {وللبسنا عَلَيْهِم مَا يلبسُونَ} قَالَ ابْن عَبَّاس، وَالضَّحَّاك، وَجَمَاعَة: مَعْنَاهُ: خلطنا عَلَيْهِم مَا يخلطون، وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم شبهوا على ضعفائهم فتشبه عَلَيْهِم كَمَا شبهوا، وَينزل الْملك فِي صُورَة رجل (حَيّ) يشْتَبه عَلَيْهِم؛ فَيَقُول بَعضهم: هُوَ ملك، وَيَقُول بَعضهم: لَيْسَ بِملك، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: أضللناهم بإنزال الْملك فِي صُورَة رجل، كَمَا ضلوا من قبل، أَي: لَو حسبوا أَن يهتدوا بإنزال الْملك، فإنزال الْملك لَا يعجزنا من إضلالهم بِهِ.(2/90)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد استهزئ برسل من قبلك} سَبَب هَذَا: " أَن رَسُول الله مر على الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَأُميَّة بن خلف، وَأبي جهل، فضحكوا هزوا بِهِ؛ فَنزلت الْآيَة تَسْلِيَة لَهُ " {فحاق بالذين} أَي: فَنزل بالذين {سخروا مِنْهُم مَا كَانُوا} أَي: وبال مَا كَانُوا {بِهِ يستهزءون} .(2/90)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل سِيرُوا فِي الأَرْض} يحْتَمل هَذَا السّير بالفكرة والعقول، وَيحْتَمل السّير بالأقدام {ثمَّ انْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين} يَعْنِي: مِمَّن سبق من الْأُمَم.(2/90)
{وَالْأَرْض قل لله كتب على نَفسه الرَّحْمَة ليجمعنكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ الَّذين خسروا أنفسهم فهم لَا يُؤمنُونَ (12) وَله مَا سكن فِي اللَّيْل وَالنَّهَار وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (13) قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ يطعم وَلَا يطعم قل إِنِّي}(2/91)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل لمن مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض قل لله} أَمر بِالْجَوَابِ عقيب السُّؤَال؛ ليَكُون أبلغ فِي التَّأْثِير، وآكد فِي الْحجَّة؛ لِأَن من سَأَلَ غَيره عَن شَيْء ثمَّ عقبه بِالْجَوَابِ كَانَ ذَلِك أبلغ تَأْثِيرا {كتب على نَفسه الرَّحْمَة} أَي: (قضى) ، وَقد صَحَّ بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله قَالَ: " إِن الله كتب كتابا قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَهُوَ عِنْده فَوق عَرْشه: سبقت رَحْمَتي غَضَبي ".
{ليجمعنكم} اللَّام لَام الْقسم أَي: وَالله ليجمعنكم. {إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ} أَي: لَا شكّ فِيهِ {الَّذين خسروا أنفسهم} غبنوا أنفسهم {فهم لَا يُؤمنُونَ} .(2/91)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَله مَا سكن فِي اللَّيْل وَالنَّهَار} وَقيل: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: وَله مَا سكن وَمَا تحرّك، وَقيل: هُوَ السّكُون خَاصَّة، وَإِنَّمَا خص السّكُون؛ لِأَن النِّعْمَة فِي السّكُون أَكثر مِنْهَا فِي الْحَرَكَة {وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} .(2/91)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض} الفاطر: الْخَالِق، المنشئ لِلْخلقِ، قَالَ الْأَصْمَعِي: مَا كنت أعرف معنى الفاطر، حَتَّى أختصم إِلَى أعربيان فِي بِئْر؛ فَقَالَ أَحدهمَا: أَنا فطرته، وَقَالَ الآخر: أَنا فطرته؛ فَعرفت أَنه [إنْشَاء] الْخلق {وَهُوَ يطعم وَلَا يطعم} قَرَأَ الْأَعْمَش: " وَهُوَ يطعم وَلَا يطعم " بِفَتْح الْيَاء، أَي: يُؤْكَل وَلَا يَأْكُل، وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، فَمَعْنَاه: وَهُوَ يرْزق وَلَا يرْزق.
{قل إِنِّي أمرت أَن أكون أول من أسلم} يَعْنِي: من هَذِه الْأمة، وَالْإِسْلَام يَعْنِي الاستسلام لأمر الله - تَعَالَى - {وَلَا تكونن من الْمُشْركين} وَهُوَ وَإِن كَانَ مَعْصُوما(2/91)
{أمرت أَن أكون أول من أسلم وَلَا تكونن من الْمُشْركين (14) قل إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم (15) من يصرف عَنهُ يَوْمئِذٍ فقد رَحمَه وَذَلِكَ الْفَوْز الْمُبين (16) وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يمسسك بِخَير فَهُوَ على} عَن الشّرك، لَكِن الْأَمر (بالثبات) على الْإِيمَان، وَترك الْإِشْرَاك يجوز أَن يكون مُتَوَجها عَلَيْهِ، وَقيل: الْخطاب مَعَه، وَالْمرَاد بِهِ: الْأمة.(2/92)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{قَالَ إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم} أَي: عَذَاب الْقِيَامَة(2/92)
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
{من يصرف عَنهُ} يَعْنِي: الْعَذَاب، وَقَرَأَ حَمْزَة، وَالْكسَائِيّ، وَأَبُو بكر عَن عَاصِم: بِفَتْح الْيَاء، يَعْنِي: من يصرف الله عَنهُ الْعَذَاب {يَوْمئِذٍ فقد رَحمَه وَذَلِكَ الْفَوْز الْمُبين} .(2/92)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ} الضّر: خلاف النَّفْع وَمَعْنَاهُ: إِن يصبك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ {وَإِن يمسسك بِخَير فَهُوَ على كل شَيْء قدير} وروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " كنت رَدِيف النَّبِي، فَقَالَ: أَلا أعلمك كَلِمَات تنْتَفع بِهن فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؟ قلت: (نعم) ؛ (فَقَالَ) : احفظ الله يحفظك ... " الْخَبَر إِلَى أَن قَالَ: " فَلَو اجْتمع الْخلق على أَن ينفعوك بِشَيْء لم يَكْتُبهُ الله لَك لم يقدروا عَلَيْهِ، وَلَو اجْتَمعُوا على أَن يمنعوك شَيْئا كتبه الله لَك لم يقدروا عَلَيْهِ ... " - الْخَبَر.(2/92)
{كل شَيْء قدير (17) وَهُوَ القاهر فَوق عباده وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير (18) قل أَي شَيْء أكبر شَهَادَة قل الله شَهِيد بيني وَبَيْنكُم وأوحي إِلَيّ هَذَا الْقُرْآن لأنذركم بِهِ وَمن بلغ أئنكم لتشهدون أَن مَعَ الله آلِهَة أُخْرَى قل لَا أشهد قل إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد وإنني بَرِيء مِمَّا تشركون (19) الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم الَّذين خسروا}(2/93)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ القاهر فَوق عباده} القاهر: الْغَالِب الَّذِي لَا يغلب، وَقيل: هُوَ الْمُنْفَرد بِالتَّدْبِيرِ، يجْبر الْخلق على مُرَاده، وَقَوله: {فَوق عباده} هُوَ صفة الاستعلاء الَّذِي لله - تَعَالَى - الَّذِي يعرفهُ أهل السّنة {وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير} .(2/93)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل أَي شَيْء أكبر شَهَادَة} سَبَب هَذَا: أَن الْكفَّار قَالُوا: يَا مُحَمَّد، من يشْهد لَك بِالصّدقِ؟ فَنزلت الْآيَة: {قل أَي شَيْء أكبر شَهَادَة} يَعْنِي: من الله، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا على أَن الله شَيْء. {قل الله شَهِيد بيني وَبَيْنكُم} أَي: يشْهد لي بِالْحَقِّ، وَعَلَيْكُم بِالْبَاطِلِ.
{وأوحي إِلَيّ هَذَا الْقُرْآن لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} أَي: وَمن بلغه الْقُرْآن إِلَى قيام السَّاعَة، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " نضر الله وَجه امْرِئ سمع مني مقَالَة، فوعاها، ثمَّ بلغَهَا؛ فَرب مبلغ أوعى من سامع " وَقيل: مَعْنَاهُ: لأنذركم بِهِ، يَعْنِي: الْعَرَب، وَمن بلغ، يَعْنِي: الْعَجم.
{أئنكم لتشهدون أَن مَعَ الله آلِهَة أُخْرَى قل لَا أشهد قل إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد وإنني بَرِيء مِمَّا تشركون} أمره بِالْجَوَابِ عقيب السُّؤَال لما بَينا.(2/93)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
{الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه} قيل: أَرَادَ بِهِ: مُحَمَّدًا، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الْقُرْآن يعرفونه {كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} .(2/93)
{أنفسهم فهم لَا يُؤمنُونَ (20) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا ثمَّ نقُول للَّذين أشركوا أَيْن شركاؤكم الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ (22) ثمَّ لم تكن فتنتهم إِلَّا أَن قَالُوا وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين}
{الَّذين خسروا أنفسهم فهم لَا يُؤمنُونَ} أَي: غبنوا أنفسهم، وغبنهم: أَنهم خسروا رَأس المَال، وَفِي الْخَبَر: أَن الله - تَعَالَى - خلق لكل آدَمِيّ منَازِل فِي الْجنَّة، فَإِن كفر خسر تِلْكَ الْمنَازل، وَجعلهَا الله - تَعَالَى - لمُؤْمِن.(2/94)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا} أَي: قَالَ عَلَيْهِ مَا لم يقلهُ {أَو كذب بآياته} يَعْنِي: آيَات الْقُرْآن {إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ} .(2/94)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا} أَرَادَ بِهِ: حشر الْقِيَامَة {ثمَّ [نقُول] للَّذين أشركوا أَيْن شركاءكم الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ} يَعْنِي أَيْن الشُّرَكَاء الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ أَنهم شُرَكَاء الله، والزعم قَول الْكَذِب، قَالَ ابْن عَبَّاس: الزَّعْم الْكَذِب فِي كل مَوضِع، وَفِي الْآثَار: " زَعَمُوا مَطِيَّة الْكَذِب ".(2/94)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
قَوْله - تَعَالَى -: {ثمَّ لم تكن فتنتهم إِلَّا أَن قَالُوا وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين} قَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ: ثمَّ لم تكن معذرتهم - وَقَالَ غَيره: ثمَّ لم يكن كَلَامهم - إِلَّا أَن قَالُوا.
قَالَ الزّجاج: فِي قَوْله: {ثمَّ لم تكن فتنتهم} معنى لطيف، وَذَلِكَ مثل الرجل يفتن (بمحبوب) ثمَّ تصيبه فِي ذَلِك محنة؛ فيتبرأ من محبوبه؛ فَيُقَال: لم تكن فتنته إِلَّا هَذَا، كَذَلِك الْكفَّار لما فتنُوا بمحبة الْأَصْنَام، ثمَّ إِذا رَأَوْا الْعَذَاب يتبرءون مِنْهَا.
يَقُول الله - تَعَالَى -: {ثمَّ لم تكن فتنتهم إِلَّا أَن قَالُوا وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين(2/94)
( {23) انْظُر كَيفَ كذبُوا على أنفسهم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (24) وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة أَن يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا حَتَّى إِذا جاءوك يجادلونك يَقُول الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين}(2/95)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
انْظُر كَيفَ كذبُوا على أنفسهم) كذبهمْ عل أنفسهم: تبرئهم من الشّرك {وضل} أَي: ذهب {عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون} .(2/95)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة} هَذَا فِي رُؤَسَاء الْمُشْركين، مثل: أبي سُفْيَان بن حَرْب - حِين كَانَ مُشْركًا - وَأبي جهل بن هِشَام، وَعتبَة، وَشَيْبَة ابْني ربيعَة، والوليد بن الْمُغيرَة، وَغَيرهم، كَانُوا يَسْتَمِعُون الْقُرْآن؛ فَقَالُوا: لأبي سُفْيَان: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: أرى فِيهِ حَقًا وباطلا. فَقَالَ أَبُو جهل: حَتَّى تفاخرنا واستوينا فِي الْمجد، واستوت بِنَا الركب، تَزْعُمُونَ أَن مِنْكُم نَبيا يَا بني عبد منَاف، وَالله لَا نقر بِهَذَا، وَفِي رِوَايَة: [للْمَوْت] أَهْون علينا من هَذَا.
{وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة} هِيَ جمع " الكنان " كالأعنة جمع الْعَنَان وَهِي الأغطية {أَن يفقهوه} قَالَ بَعضهم: كَرَاهَة أَن يفقهوه، وَقَالَ آخَرُونَ: أَن لَا يفقهوه {وَفِي آذانهم وقرا} أَي: وَجَعَلنَا فِي آذانهم صمما، قَالَ ابْن عَبَّاس: والوقر: أَصله الثّقل؛ وَمن ثقل الْأذن جَاءَ الصمم.
{وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا} هَذَا فِي معجزات النَّبِي، وَمَا أَرَاهُم من الْآيَات.
يَقُول الله - تَعَالَى -: وَإِن يرَوا جَمِيع تِلْكَ الْآيَات لَا يُؤمنُوا بهَا، وَقيل: إِنَّهُم اقترحوا آيَة؛ فَنزل قَوْله: {وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا} وَهَذَا فِي قوم مخصوصين، علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ.
{حَتَّى إِذا جاءوك يجادلونك يَقُول الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين} مجادلتهم: أَنهم قَالُوا للنضر بن الْحَارِث بن كلدة، وَكَانَ قد نظر فِي الْكتب الْمنزلَة،(2/95)
( {25) وهم ينهون عَنهُ وينئون عَنهُ وَإِن يهْلكُونَ إِلَّا أنفسهم وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَو} وَكَانَ مِمَّن يستمع الْقُرْآن؛ فَقَالُوا لَهُ: مَا تَقول فِي هَذَا؟ قَالَ: إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين، مثل أقاصيص رستم واسفنديار، وصحف الْأَوَّلين، قَالَ ثَعْلَب: الأساطير: جمع الأسطورة، وَهِي الْمَكْتُوبَة.(2/96)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
قَوْله - تَعَالَى -: {وهم ينهون عَنهُ وينئون عَنهُ} أَي: ينهون النَّاس عَن اتِّبَاع مُحَمَّد، وتباعدون عَنهُ بِأَنْفسِهِم، وَقيل: معنى قَوْله {ينهون عَنهُ} أَي: يَذبُّونَ عَنهُ، وَيمْنَعُونَ النَّاس عَن أَذَاهُ {وينئون عَنهُ} أَي: يتباعدون عَن الْإِيمَان بِهِ، وَذَلِكَ مثل أبي طَالب، كَانَ يذب عَنهُ حَال حَيَاته، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ فِي أبي طَالب. حَتَّى روى أَنه اجْتمع عَلَيْهِ رُؤَسَاء قُرَيْش، وَقَالُوا لَهُ: اختر شَابًّا من أَصْحَابنَا وجيها، واتخذه ابْنا لَك، وادفع إِلَيْنَا مُحَمَّدًا؛ فَقَالَ أَبُو طَالب: مَا أنصفتموني، أدفَع إِلَيْكُم وَلَدي ليقْتل، وأربي ولدكم؟ !
وروى أَنه قَالَ لرَسُول الله: " لَوْلَا أَن قُريْشًا تعيرني لأقررت عَيْنك بِالْإِيمَان "، وَكَانَ يذب عَنهُ إِلَى أَن توفّي، وروى: " أَنه قَرَأَ عَلَيْهِ قَوْله - تَعَالَى -: {وهم ينهون عَنهُ وينئون عَنهُ} فَقَالَ أَبُو طَالب: أما أَن أَدخل فِي دينك فَلَا أَدخل أبدا، وَلَكِنِّي أذب عَنْك مَا حييت "، وَله فِيهِ أَبْيَات:
(وَالله لن يصلوا إِلَيْك بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّد فِي التُّرَاب دَفِينا)
(فَاصْدَعْ بِأَمْرك مَا عَلَيْك غَضَاضَة ... وأبشر بِذَاكَ وقر مِنْك عيُونا)
(وَدَعَوْتنِي وَعلمت أَنَّك ناصحي ... وصدقتني ولكنت ثمَّ أَمينا)(2/96)
{ترى إِذْ وقفُوا على النَّار فَقَالُوا يَا ليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا ونكون من الْمُؤمنِينَ (27) بل بدا لَهُم مَا كَانُوا يخفون من قبل وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ وَإِنَّهُم}
(وَلَقَد علمت بِأَن دين مُحَمَّد ... من خير أَدْيَان الْبَريَّة دينا)
(لَوْلَا الْمَلَامَة أَو حذار مسَبَّة ... لَوَجَدْتنِي سَمحا بِذَاكَ مُبينًا)
{وَإِن يهْلكُونَ إِلَّا أنفسهم} أَي: لَا يرجع وبال فعلهم إِلَّا إِلَيْهِم {وَمَا يَشْعُرُونَ} .(2/97)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على النَّار} أَي: دخلُوا النَّار، (وَقيل: عرضوا على النَّار) ، وَالْوُقُوف: الِاطِّلَاع على حَقِيقَة الشَّيْء {فَقَالُوا يَا ليتنا نرد} إِلَى الدُّنْيَا {وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا} قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هُوَ ابْتِدَاء كَلَام، يَعْنِي: لَا نكذب أبدا، رددنا أَو لم نرد، وَقَالَ غَيره: هُوَ على نسقه، أَي: يَا ليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا، أَي: لَا نكفر بعد الرَّد إِلَى الدُّنْيَا {ونكون من الْمُؤمنِينَ} وَيقْرَأ " ونكون " بِنصب النُّون، وَتَقْدِيره: ولنكون من الْمُؤمنِينَ.(2/97)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
قَوْله - تَعَالَى -: {بل بدا لَهُم} قَوْله: " بل " بحتة، رد لما قَالُوا، وَقَوله: {بدا لَهُم مَا كَانُوا يخفون من قبل} أَي: ظهر لَهُم مَا أخفوا من قبل من تبرئهم عَن الشّرك بقَوْلهمْ: وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين؛ وَذَلِكَ أَنهم إِذا قَالُوا ذَلِك؛ يخْتم الله على أَفْوَاههم، وتنطق جوارحهم بشركهم؛ فيبدو لَهُم مَا كَانُوا يخفون من قبل.
{وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ} أَي: وَلَو ردوا إِلَى الدُّنْيَا لعادوا إِلَى الْكفْر، والشرك بِاللَّه {وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} يَعْنِي: فِي قَوْلهم {يَا ليتنا نرد لَا نكذب بآيَات رَبنَا} وَفِي الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى يعْتَذر إِلَى آدم يَوْم الْقِيَامَة بِثَلَاث معاذير، أَحدهَا هَذَا بقوله: إِنِّي لَا أَدخل من ذريتك النَّار إِلَّا من أعلم أَنِّي لَو رَددته إِلَى الدُّنْيَا سبعين(2/97)
{لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِن هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا وَمَا نَحن بمبعوثين (29) وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على رَبهم قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بلَى وربنا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون (30) قد خسر الَّذين كذبُوا بلقاء الله حَتَّى إِذا جَاءَتْهُم السَّاعَة بَغْتَة قَالُوا يَا} مرّة لكفر (بِي) ".(2/98)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا إِن هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا وَمَا نَحن بمبعوثين} هَذَا فِي إنكارهم الْبَعْث وَالْقِيَامَة،(2/98)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على رَبهم} أَي: عرضوا على رَبهم، {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} وَذَلِكَ حِين تكشف [لَهُم] الغيوب والسرائر.
{قَالُوا بلَى وربنا} فيقرون بهَا، قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا فِي موقف، وَقَوله: {وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين} فِي موقف آخر، وَفِي الْقِيَامَة مَوَاقِف، فَفِي موقف يُنكرُونَ، وَفِي موقف يقرونَ، {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون} .(2/98)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
قَوْله - تَعَالَى -: {قد خسر الَّذين كذبُوا بلقاء الله} أَي: خسروا أنفسهم بتكذيبهم بالمصير إِلَى الله؛ فاللقاء هَا هُنَا بِمَعْنى الْمصير إِلَيْهِ {حَتَّى إِذا جَاءَتْهُم السَّاعَة بَغْتَة} أَي: فَجْأَة {قَالُوا يَا حسرتنا} هَذَا على الْمُبَالغَة، كَقَوْلِهِم: يَا عجبا، وَقَول الْقَائِل: يَا عجبا، أبلغ من قَوْله: أَنا متعجب؛ فَكَذَلِك قَوْله: {يَا حسرتنا} أبلغ من قَوْله: أَنا متحسر، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هَذَا على وَجه النداء، كَأَنَّهُ يَقُول: أيتها الْحَسْرَة هَذَا أوانك وأيها الْعجب جَاءَ أوانك.
{على مَا فرطنا فِيهَا} أَي: قَصرنَا فِيهَا، أَي: فِي أَمر الْقِيَامَة {وهم يحملون(2/98)
{حسرتنا على مَا فرطنا فِيهَا وهم يحملون أوزارهم على ظُهُورهمْ أَلا سَاءَ مَا يزرون (31) وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لعب وَلَهو وللدار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون (32) قد} أوزارهم على ظُهُورهمْ) الأوزار: الأثقال، وَاحِدهَا: وزر، وَمِنْه الْوزر، وَهُوَ الْحَبل فِي قَوْله - تَعَالَى -: {كلا لَا وزر} أَي: لَا حَبل وَلَا ملاذ، وَحَملهمْ الأوزار بَيَانه فِي الْخَبَر، وَهُوَ مَا روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يحْشر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة، فَمن كَانَ مِنْهُم برا تَلقاهُ صُورَة حَسَنَة طيبَة الرّيح، فَتَقول: أما تعرفنِي؟ أَنا عَمَلك الصَّالح، فاركبني فقد طَال مَا ركبتك، وَمن كَانَ فَاجِرًا تَلقاهُ صُورَة قبيحة مُنْتِنَة الرّيح، فَتَقول: أما تعرفنِي؟ أَنا عَمَلك الْخَبيث، وَقد طَال مَا ركبتني فَأَنا الْيَوْم أركبك ". فَهَذَا معنى قَوْله: ( {وهم يحملون أوزارهم على ظُهُورهمْ أَلا سَاءَ مَا يزرون}(2/99)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لعب وَلَهو وللدار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون) وصف كلا الدَّاريْنِ فِي هَذِه الْآيَة.(2/99)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
قَوْله - تَعَالَى -: {قد نعلم إِنَّه ليحزنك الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون} سَبَب هَذَا: " أَن رَسُول الله مر على أبي جهل، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أَنْت صَادِق عندنَا، وَإِنَّمَا نكذب بِمَا جِئْت بِهِ " فَهَذَا معنى الْآيَة. وَقيل: إِنَّمَا نزل هَذَا تَسْلِيَة للرسول، يَقُول الله - تَعَالَى -: لَا تحزن؛ فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك، وَيقْرَأ: " فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك " مخففا، وَالْفرق بَين التَّكْذِيب والإكذاب: أَن التَّكْذِيب: هُوَ أَن يَقُول لَهُ: كذبت، والإكذاب: هُوَ أَن يجده كَاذِبًا.(2/99)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد كذبت رسل من قبلك فصبروا على مَا كذبُوا وأوذوا} فِيهِ(2/99)
{نعلم إِنَّه ليحزنك الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون (33) وَلَقَد كذبت رسل من قبلك فصبروا على مَا كذبُوا وأوذوا حَتَّى أَتَاهُم نصرنَا وَلَا مبدل لكلمات الله وَلَقَد جَاءَك من نبأ الْمُرْسلين (34) وَإِن كَانَ كبر عَلَيْك إعراضهم فَإِن اسْتَطَعْت أَن تبتغي نفقا فِي الأَرْض أَو سلما فِي السَّمَاء فتأتيهم بِآيَة وَلَو شَاءَ الله} حذف، وَتَقْدِيره: وَلَقَد كذبت رسل من قبلك وأوذيت، فصبروا على مَا كذبُوا وأوذوا {حَتَّى أَتَاهُم نصرنَا وَلَا مبدل لكلمات الله} أَي: لعلم الله وَأَحْكَامه {وَلَقَد جَاءَك من نبأ الْمُرْسلين} أَي: أَخْبَار الْمُرْسلين.(2/100)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِن كَانَ كبر عَلَيْك إعراضهم فَإِن اسْتَطَعْت أَن تبتغي نفقا فِي الأَرْض} النفق: السرب فِي الأَرْض، وَمِنْه: " النافقاء " وَهُوَ جُحر اليربوع؛ وَمِنْه: النِّفَاق، لِأَن الْمُنَافِق يدْخل نفقين {أَو سلما فِي السَّمَاء [فتأتيهم بِآيَة] } أَي: درجا فِي السَّمَاء فتأتيهم بِآيَة، سَبَب هَذَا: أَن الْكفَّار كَانُوا يقترحون الْآيَات؛ وود النَّبِي أَن (يعطيهم) الله مَا اقترحوا من الْآيَات (طَمَعا) فِي أَن يرَوا الْآيَات؛ فيسلموا فَنزل قَوْله: {فَإِن اسْتَطَعْت أَن تبتغي نفقا فِي الأَرْض أَو سلما فِي السَّمَاء فتأتيهم بِآيَة} وَتَقْدِيره: إِن اسْتَطَعْت ذَلِك فافعل، وَفِيه حذف.
{وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} أَي: بِأَن يُرِيهم آيَة؛ يضطرون إِلَى الْإِيمَان بهَا، وَالصَّحِيح: أَن المُرَاد بِهِ: وَلَو شَاءَ الله لطبعهم وخلقهم على الْإِيمَان؛ فَهَذَا أقرب إِلَى قَول أهل السّنة؛ لِأَن إِيمَان الضَّرُورَة لَا ينفع، وَإِنَّمَا ينفع الْإِيمَان بِالْغَيْبِ اخْتِيَارا {فَلَا تكونن من الْجَاهِلين} أَي: بِهَذَا الْحَرْف، وَذَلِكَ قَوْله: {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} .(2/100)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِنَّمَا يستجيب الَّذين يسمعُونَ} هَاهُنَا الْوَقْف، وَمَعْنَاهُ: إِنَّمَا يستجيب الَّذين يسمعُونَ سَماع الْقبُول {والموتى يَبْعَثهُم الله} يَعْنِي: الْكفَّار {ثمَّ(2/100)
{لجمعهم على الْهدى فَلَا تكونن من الْجَاهِلين (35) إِنَّمَا يستجيب الَّذين يسمعُونَ والموتى يَبْعَثهُم الله ثمَّ إِلَيْهِ يرجعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ آيَة من ربه قل إِن الله قَادر على أَن ينزل آيَة وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (37) وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر إِلَيْهِ يرجعُونَ} .(2/101)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ آيَة من ربه قل إِن الله قَادر على أَن ينزل آيَة} يَعْنِي: أَنه قَادر على إِنْزَال الْآيَات، وَقد أنزل كثيرا من الْآيَات والمعجزات، وَلَكِن لَا ينزل الْآيَات على اقتراح الْكفَّار {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} .(2/101)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه} إِنَّمَا قيد الطيران بالجناح تَأْكِيدًا {إِلَّا أُمَم أمثالكم} أَي: أَصْنَاف أمثالكم، وَفِي الْخَبَر: " لَوْلَا أَن الْكلاب أمة؛ لأمرتكم بقتلها؛ فَاقْتُلُوا مِنْهَا كل أسود بهيم، فَإِنَّهُ شَيْطَان "، وَمعنى الْآيَة: أَنَّهَا أمثالكم فِي الْخلق، وَالْمَوْت، والبعث، يَعْنِي: يخلقها كَمَا يخلقكم، ويميتها كَمَا يميتكم ويبعثها كَمَا يبعثكم، وَقيل: معنى قَوْله: {أُمَم أمثالكم} يَعْنِي: فِي الْعلم بالضار والنافع، والتوقي عَن الْهَلَاك، وَمَعْرِفَة الْعَدو.
{مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} فَإِن قَالَ قَائِل: نرى كثيرا من الْأَحْكَام لَيست فِي الْكتاب، فَمَا معنى قَوْله: {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} ؟ قيل: مَا من شَيْء إِلَّا وَأَصله فِي الْكتاب، وَقيل: مَا قَالَه الرَّسُول، فَإِنَّمَا قَالَه من الْكتاب؛ لِأَنَّهُ قد قَالَ فِي خبر مَعْرُوف: " أُوتيت الْقُرْآن وَمثله " وَقد قَالَ الله - تَعَالَى - {وَمَا ينْطق عَن(2/101)
{يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون (38) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا صم وبكم فِي الظُّلُمَات من يَشَأْ الله يضلله وَمن يَشَأْ يَجعله على صِرَاط مُسْتَقِيم (39) قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله أَو أتتكم السَّاعَة أغير الله} لهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى) فَكل مَا ثَبت بِالسنةِ؛ فَكَأَنَّهُ ثَابت فِي الْكتاب، وَقيل: [مَعْنَاهُ] : مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء تقع الْحَاجة إِلَيْهِ.
{ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون} وَلَا شكّ فِي حشر الْبَهَائِم والحيوانات يَوْم الْقِيَامَة، حَتَّى روى: أَن الله - تَعَالَى - يحشرها ويقتص للجماء من القرناء، وروى أَبُو ذَر: " أَن النَّبِي رأى شَاتين تنتطحان؛ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَر، أَتَدْرِي فِيمَا نتطحان؟ فَقلت: لَا. فَقَالَ لَكِن الله يدْرِي، وسيقضي بَينهمَا وأمثال هَذَا كثير "، وسبيل النَّاس أَن يُؤمنُوا بِهِ، ويكلوا علمه إِلَى الله - تَعَالَى - فَإِنَّهُ شَيْء لَا تهتدي إِلَيْهِ الْعُقُول، وعَلى هَذِه الْآيَة حِكَايَة: حُكيَ أَن بهْلُول الْمَجْنُون رأى أَبَا يُوسُف القَاضِي فِي الطَّرِيق؛ فَسَأَلَهُ وَقَالَ: إِن الله - تَعَالَى - يَقُول: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم} ثمَّ يَقُول: {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} فَمَا نَذِير الْكلاب؟ فتحير أَبُو يُوسُف عَن الْجَواب، فَأخذ بهْلُول حجرا من الأَرْض، وَقَالَ: هَذَا نَذِير الْكلاب.(2/102)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا صم وبكم فِي الظُّلُمَات} أَي: صم عَن سَماع الْحق، وبكم عَن قَول الْحق {من يَشَأْ الله يضلله وَمن يَشَأْ يَجعله على صِرَاط مُسْتَقِيم} .(2/102)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله} قيل: عَذَاب الله: هُوَ(2/102)
{تدعون إِن كُنْتُم صَادِقين (40) بل إِيَّاه تدعون فَيكْشف مَا تدعون إِلَيْهِ إِن شَاءَ وتنسون مَا تشركون (41) وَلَقَد أرسلنَا إِلَى أُمَم من قبلك فأخذناهم بالبأساء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ (42) فلولا إِذْ جَاءَهُم بأسنا تضرعوا وَلَكِن قست قُلُوبهم وزين لَهُم} الْمَوْت {أَو أتتكم السَّاعَة} يَعْنِي: الْقِيَامَة {أغير الله تدعون إِن كُنْتُم صَادِقين} هَذَا اسْتِفْهَام بِمَعْنى التَّقْرِير، يَعْنِي: لَا تدعون إِلَّا الله، وَأَرَادَ بِهِ فِي أَحْوَال الضرورات؛ فَإِن الْكفَّار فِي حَال الضرورات يدعونَ الله - تَعَالَى - كَمَا قَالَ: {وَإِذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} .(2/103)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
قَوْله - تَعَالَى -: {بل إِيَّاه تدعون} هَذَا تَقْرِير لما استفهم مِنْهُ فِي الْآيَة الأولى، يَعْنِي: بل تدعون الله، وَلَا تدعون غَيره {فَيكْشف مَا تدعون إِلَيْهِ إِن شَاءَ} قيد إِجَابَة الدعْوَة بِالْمَشِيئَةِ هَا هُنَا، وأطلقها فِي قَوْله: {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} .
قَالَ أهل الْعلم: وَذَلِكَ مُقَيّد بِالْمَشِيئَةِ أَيْضا، بِدَلِيل هَذِه الْآيَة.
{وتنسون مَا تشركون} وَذَلِكَ أَنهم لما تركُوا الْأَصْنَام فِي حَال الضرورات إِلَى دُعَاء الله؛ فكأنهم نسوا مَا يشركُونَ، وَفِي الْآيَة مجَاز، وَتَقْدِير قَوْله: {فَيكْشف مَا تدعون إِلَيْهِ} أَي: فَيكْشف ضرّ مَا تدعون إِلَيْهِ.(2/103)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
وَقَوله - تَعَالَى -: {وَلَقَد أرسلنَا إِلَى أُمَم من قبلك فأخذناهم بالبأساء وَالضَّرَّاء} البأساء: الْجُوع، والفقر، وَالضَّرَّاء: الْمَرَض، والبلوى فِي النَّفس وَالْمَال.
{لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ} التضرع: السُّؤَال بالتذلل، وَحكى أَبُو عبيد عَن الْفراء: فلَان يتَضَرَّع، ويتصدى [أَي] أَنه سَأَلَ متذللا وبتضرع.(2/103)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
قَوْله - تَعَالَى -: {فلولا إِذْ جَاءَهُم بأسنا تضرعوا} أَي: فَهَلا تضرعوا ( {إِذْ جَاءَهُم بأسنا} وَلَكِن قست قُلُوبهم) قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: بلغت قُلُوبهم فِي(2/103)
{الشَّيْطَان مَا كَانُوا يعْملُونَ (43) فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء حَتَّى إِذا فرحوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَة فَإِذا هم مبلسون (44) فَقطع دابر الْقَوْم الَّذين} القساوة أَنا أرسلنَا إِلَيْهِم الرُّسُل، وأريناهم الْآيَات، وأخذناهم بالبأساء وَالضَّرَّاء، فَلم يتضرعوا، وَلم يعودوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ {وزين لَهُم الشَّيْطَان مَا كَانُوا يعْملُونَ} يَعْنِي: حَتَّى مضوا على عَمَلهم وكفرهم.(2/104)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء} هَذَا فتح اسْتِدْرَاج ومكر، وَفِي الْآثَار: " من فتح عَلَيْهِ بَاب نعْمَة، فَلم ير أَنه مكر بِهِ فَلَا رَأْي لَهُ، وَمن أَصَابَته شدَّة فَلم ير أَنه نظر لَهُ، فَلَا رَأْي لَهُ " يَعْنِي: فِي الدّين.
{حَتَّى إِذا فرحوا بِمَا أُوتُوا} هَذَا فَرح بطر، وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ، وَذَلِكَ مثل فَرح قَارون بِمَا أصَاب من الدُّنْيَا حَتَّى قَالَ لَهُ قومه: " لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين ".
{أَخَذْنَاهُم بَغْتَة} أَي: فَجْأَة {فَإِذا هم مبلسون} قَالَ ابْن عَبَّاس: آيسون من حمل خير، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: المبلس: النادم الحزين، وَقَالَ الْفراء: هُوَ السَّاكِت الْمُنْقَطع عَن الْحجَّة، وأنشدوا:
(يَا صَاح هَل تعرف رسما مكرسا ... قَالَ نعم أعرفهُ وأبلسا)
وَقَالَ آخر:
(ملك إِذا طَاف الغفاة بِبَابِهِ ... غبطوا وأنجي مِنْهُم المتبلس)(2/104)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَقطع دابر الْقَوْم الَّذين ظلمُوا} الدابر: الأَصْل هَا هُنَا؛ فَيكون الدابر بِمَعْنى: الآخر؛ وَمِنْه قَوْله: " من أَشْرَاط السَّاعَة كَذَا وَكَذَا، وَلَا يأْتونَ الصَّلَاة إِلَّا دبرا "، أَي: آخرا {وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين} حمد الله نَفسه على إهلاكهم واستئصالهم، وَفِيه تعليمنا الْحَمد لله على هَلَاك الْكفَّار.(2/104)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل أَرَأَيْتُم إِن أَخذ الله سمعكم وأبصاركم وَختم على قُلُوبكُمْ(2/104)
{ظلمُوا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين (45) قل أَرَأَيْتُم إِن أَخذ الله سمعكم وأبصاركم وَختم على قُلُوبكُمْ من إِلَه غير الله يأتيكم بِهِ انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات ثمَّ هم يصدفون (46) قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله بَغْتَة أَو جهرة هَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نرسل الْمُرْسلين إِلَّا مبشرين ومنذرين فَمن آمن وَأصْلح فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا} من إِلَه غير الله يأتيكم بِهِ) ذكر أَشْيَاء، ثمَّ قَالَ: {يأتيكم بِهِ} فَاخْتَلَفُوا؛ فَقَالَ (بَعضهم) مَعْنَاهُ: يأتيكم بِمَا (أَخذ. و) قَالَ آخَرُونَ: قَوْله: {يأتيكم بِهِ} يرجع إِلَى السّمع خَاصَّة، واندرج فِيهِ الْأَبْصَار والقلوب. وَمن هَذَا ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن السّمع أفضل من سَائِر الْحَواس؛ حَيْثُ خصّه بِالْكِنَايَةِ، وَقَالُوا: هُوَ مثل قَوْله - تَعَالَى -: {وَالله وَرَسُوله أَحَق أَن يرضوه} و " الْهَاء " رَاجِعَة إِلَى الله - تَعَالَى - واندرج فِيهِ الرَّسُول {انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات ثمَّ هم يصدفون} أَي: يعرضون.(2/105)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله} حكى الْفراء عَن الْعَرَب أَنهم يَقُولُونَ: أرأيتك بِمَعْنى أَخْبرنِي، [وأرأيتكما] بِمَعْنى أخبراني، وأرأيتكم يَعْنِي: أخبروني وأرأيتك بِمَعْنى: للْمَرْأَة بِمَعْنى: أَخْبِرِينِي، هَكَذَا {بَغْتَة أَو جهرة} مَعْنَاهُ: لَيْلًا أَو نَهَارا وَقيل: مَعْنَاهُ: فَجْأَة أَو عيَانًا {هَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الظَّالِمُونَ} .(2/105)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا نرسل الْمُرْسلين إِلَّا مبشرين ومنذرين} وَقد بَينا هَذَا {فَمن آمن وَأصْلح فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.(2/105)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
{وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا يمسهم الْعَذَاب} أَي: يصيبهم عَذَاب النَّار {بِمَا كَانُوا يفسقون} .(2/105)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله} أنزل هَذَا حِين اقترحوا الْآيَات، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لن نؤمن لَك حَتَّى تنزل علينا كتابا من السَّمَاء، وَسَائِر مَا(2/105)
{هم يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا مسهم الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يفسقون (49) قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله وَلَا أعلم الْغَيْب وَلَا أَقُول لكم إِنِّي ملك إِن اتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير أَفلا تتفكرون (50) وأنذر بِهِ الَّذين يخَافُونَ} اقترحوا من الْآيَات؛ فَنزل قَوْله: {قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله} فأعطيكم مَا تُرِيدُونَ (وَلَا أعلم الْغَيْب) . والغيب. كل مَا غَابَ عَنْك وَيكون مَاضِيا، وَيكون فِي الْمُسْتَقْبل، والماضي مِنْهُ يجوز أَن يُعلمهُ الْإِنْسَان بِخَبَر مخبر وَنَحْوه. فَأَما الْمُسْتَقْبل فَلَا يُعلمهُ إِلَّا الله، وَرَسُول ارْتَضَاهُ، كَمَا قَالَ فِي سُورَة الْجِنّ، وَقَوله: {وَلَا أعلم الْغَيْب} فِيهِ إِضْمَار، أَي: وَلَا أعلم الْغَيْب إِلَّا مَا أعلمنيه الله {وَلَا أَقُول لكم إِنِّي ملك} إِنَّمَا أمره بذلك؛ لِأَن الْملك يقدر على مَا لَا يقدر عَلَيْهِ الْآدَمِيّ، وَقيل: لِأَن الْملك يُشَاهد مَا لَا يُشَاهد الْآدَمِيّ، وَاسْتدلَّ بِهَذَا من فضل الْمَلَائِكَة على الْآدَمِيّين، وَلَيْسَ فِيهِ مستدل، وَمَعْنَاهُ: مَا بَينا.
{إِن اتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} قَالَ قَتَادَة: الْكَافِر وَالْمُؤمن، وَقَالَ مُجَاهِد: الضال والمهتدي، وَقيل: الْجَاهِل والعالم {أَفلا تتفكرون} .(2/106)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
قَوْله - تَعَالَى -: {وانذر بِهِ} أَي: خوف بِهِ {الَّذين يخَافُونَ أَن يحْشرُوا إِلَى رَبهم} قيل: هم الْمُسلمُونَ، وَقيل: كل من يُؤمن بِالْبَعْثِ من الْمُسلمين وَأهل الْكتاب.
{لَيْسَ لَهُم من دونه ولي وَلَا شَفِيع لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} فَإِن قيل: أَلَيْسَ يشفع الْأَنْبِيَاء والأولياء يَوْم الْقِيَامَة، فَمَا معنى قَوْله: {لَيْسَ لَهُم من دونه ولي وَلَا شَفِيع} ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ: لَا شَفَاعَة إِلَّا بِإِذْنِهِ، وهم إِنَّمَا يشفعون [بِإِذْنِهِ، أَو هَذَا رد لما زَعَمُوا أَن الْمَلَائِكَة والأصنام يشفعون] لنا.(2/106)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
قَوْله: {وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي} سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن الْمُشْركين بِمَكَّة أَتَوا رَسُول الله، وَقَالُوا: إِنَّك تجَالس الْفُقَرَاء، وَأَرَادُوا بِهِ: بِلَالًا،(2/106)
{أَن يحْشرُوا إِلَى رَبهم لَيْسَ لَهُم من دونه ولي وَلَا شَفِيع لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ (51) وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه مَا عَلَيْك من حسابهم من شَيْء وَمَا} وصهيبا، وَابْن مَسْعُود، وعمار بن يَاسر، وخباب بن الْأَرَت، وَمهجع، وَنَحْوهم من فُقَرَاء أهل الصّفة، وَقَالُوا: لَو طردتهم آمنا بك؛ كَأَنَّهُمْ استنكفوا الْجُلُوس مَعَهم فهم النَّبِي بذلك طَمَعا فِي إِيمَانهم؛ فَنزلت الْآيَة ". قَالَ سعد بن أبي وَقاص: " فِي نزلت الْآيَة وَابْن مَسْعُود ... " وعد جمَاعَة، وَقَالَ مُجَاهِد: نزلت الْآيَة فِي بِلَال وَجَمَاعَة، وَفِيه قَول آخر: أَن الْآيَة نزلت بِالْمَدِينَةِ، وروى: " أَن الْأَقْرَع بن حَابِس التَّمِيمِي، وعيينة بن حصن الْفَزارِيّ أَتَيَا رَسُول الله، كَانَا من أكَابِر الْكفَّار؛ فَقَالَا: إِنَّا نستنكف من الْجُلُوس مَعَ هَؤُلَاءِ، فَلَو اتَّخذت لنا مَجْلِسنَا مِنْك؛ آمنا بك؛ فهم بذلك، طَمَعا فِي إِيمَانهم؛ فَنزلت الْآيَة " فعلى هَذَا تكون الْآيَة من الْآيَات المبينة الَّتِي نزلت بِالْمَدِينَةِ.
قَوْله: {وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم} اخْتلفُوا فِي هَذِه الدعْوَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: يصلونَ الصَّلَوَات الْخمس، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: هُوَ ذك الله، وَقَالَ الضَّحَّاك: كل الطَّاعَات.(2/107)
{من حِسَابك عَلَيْهِم من شَيْء فَتَطْرُدهُمْ فَتكون من الظَّالِمين (52) وَكَذَلِكَ فتنا بَعضهم بِبَعْض لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ من الله عَلَيْهِم من بَيْننَا أَلَيْسَ الله بِأَعْلَم بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جَاءَك الَّذين يُؤمنُونَ بِآيَاتِنَا فَقل سَلام عَلَيْكُم كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة أَنه من عمل}
وَقَوله: {يُرِيدُونَ وَجهه} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي: يُرِيدُونَ إِيَّاه بِالطَّاعَةِ، ويريدون خَالص وَجهه، وَالْوَجْه صفة لله - تَعَالَى - بِلَا كَيفَ؛ وَجه لَا كالوجوه.
{فَتَطْرُدهُمْ فَتكون من الظَّالِمين} يَعْنِي: إِن طردتهم، وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه فَتكون من الظَّالِمين، (ثمَّ قَالَ) : {مَا عَلَيْك من حسابهم من شَيْء وَمَا من حِسَابك عَلَيْهِم من شَيْء}(2/108)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ فتنا بَعضهم بعض} هُوَ فتْنَة الْأَغْنِيَاء بالفقراء، [وَالله - تَعَالَى - يفتن الْأَغْنِيَاء بالفقراء] ، ويفتن الْفُقَرَاء بالأغنياء، وَالْمرَاد هَاهُنَا: فتْنَة أكابرهم بفقرائهم؛ حَيْثُ امْتَنعُوا عَن الْإِيمَان بسببهم؛ وَذَلِكَ كَانَ فتْنَة لَهُم.
{وليقولوا أَهَؤُلَاءِ من الله عَلَيْهِم من بَيْننَا} يَقُول الْأَغْنِيَاء: أَهَؤُلَاءِ الْفُقَرَاء سبقُونَا بِالْإِيمَان، ثمَّ يَقُول الله - تَعَالَى -: {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَم بِالشَّاكِرِينَ} يَعْنِي: أَلَيْسَ الله بِأَعْلَم من هُوَ أهل لِلْإِسْلَامِ؛ فَيدْخل فِي الْإِسْلَام؟ ! .(2/108)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا جَاءَك الَّذين يُؤمنُونَ بِآيَاتِنَا} هم الْفُقَرَاء الَّذين ذكرنَا {فَقل سَلام عَلَيْكُم} أَمر رَسُوله ببدائتهم بِالسَّلَامِ، وَقد ذكرنَا معنى السَّلَام فِيمَا سبق، وَقيل: مَعْنَاهُ: [سلمكم] الله فِي دينكُمْ، وَقيل: مَعْنَاهُ السَّلامَة لكم.
{كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة} أَي قضى بِالرَّحْمَةِ لكم {أَنه من عمل مِنْكُم سَوَاء بِجَهَالَة} أَي خطيئه، وَقد بَينا أَن كل عَاص جَاهِل {ثمَّ تَابَ من بعده وَأصْلح فَأَنَّهُ غَفُور رَحِيم} يقْرَأ: أَنه، وفأنه، كِلَاهُمَا بِنصب الْألف؛ فَيكون بَدَلا عَن قَوْله:(2/108)
{مِنْكُم سوءا بِجَهَالَة ثمَّ تَابَ من بعده وَأصْلح فَأَنَّهُ غَفُور رَحِيم (54) وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين (55) قل إِنِّي نهيت أَن اعبد الَّذين تدعون من دون الله قل لَا أتبع أهواءكم قد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين (56) قل إِنِّي على بَيِّنَة من} {كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة} وَيقْرَأ: كِلَاهُمَا بِكَسْر الْألف على الِابْتِدَاء، وَيقْرَأ: الأول بِالْفَتْح وَالثَّانِي بِالْكَسْرِ.(2/109)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين} يقْرَأ بِثَلَاثَة أوجه ولتستبين - بِالتَّاءِ، سَبِيل: بِنصب اللَّام. وَمَعْنَاهُ: ولتستبين يَا مُحَمَّد سَبِيل الْمُجْرمين؛ فَإِن قيل: ألم يكن مستبينا لَهُ؟ قيل: مَعْنَاهُ: لتزداد بَيَانا، وَقَالَ الزّجاج: الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَالْمرَاد بِالْآيَةِ: الْأمة.
وَيقْرَأ وليستبين: بِالْيَاءِ وَالتَّاء سَبِيل: بِرَفْع اللَّام، وَقَالُوا: لِأَن السَّبِيل يذكر وَيُؤَنث؛ قَالَ الله - تَعَالَى -: {قل هَذِه سبيلي} وَمَعْنَاهُ: وليظهر سَبِيل الْمُجْرمين؛ (فَإِن قيل: لم خص سَبِيل الْمُجْرمين؟) قيل: تَقْدِيره: ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين وسبيل الْمُؤمنِينَ؛ فَحذف أَحدهمَا اختصارا، وَالأَصَح أَن تَقْدِيره: ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين عَن سَبِيل الْمُؤمنِينَ.(2/109)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل إِنِّي نهيت أَن أعبد الَّذين تدعون من دون الله} هُوَ النَّهْي عَن الشّرك {قل لَا أتبع أهواءكم قد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين} يَعْنِي: إِن اتبعت أهواءكم،(2/109)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل إِنِّي على بَيِّنَة من رَبِّي} على بَيَان من رَبِّي {وكذبتم بِهِ} أَي: بِمَا [جِئْت] بِهِ {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ} قيل: أَرَادَ بِهِ استعجالهم الْآيَات والمعجزات، وَقيل: أَرَادَ بِهِ استعجالهم الْقِيَامَة، قَالَ الله - تَعَالَى - {يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا} وَقيل: أَرَادَ بِهِ استعجال الْعَذَاب، قَالَ الله -(2/109)
{رَبِّي وكذبتم بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ إِن الحكم إِلَّا لله يقص الْحق وَهُوَ خير الفاصلين (57) قل لَو أَن عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ لقضي الْأَمر بيني وَبَيْنكُم وَالله أعلم بالظالمين (58) وَعِنْده مفاتح الْغَيْب لَا يعلمهَا إِلَّا هُوَ وَيعلم مَا فِي الْبر وَالْبَحْر وَمَا} تَعَالَى -: " ويستعجلونك بِالْعَذَابِ " وَكَانُوا يَقُولُونَ: {إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم} .
{إِن الحكم إِلَّا لله يقْضِي الْحق وَهُوَ خير الفاصلين} وَيقْرَأ: يقص بالصَّاد، وَاسْتدلَّ بِالْكِتَابَةِ فِي الْمَصَاحِف؛ فَإِن هَذِه الْكَلِمَة تكْتب بِغَيْر الْيَاء.(2/110)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
قَوْله تَعَالَى: {قل لَو أَن عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ لقضي الْأَمر بيني وَبَيْنكُم} مَعْنَاهُ: لقامت الْقِيَامَة، وَقيل: هُوَ فِي الْعَذَاب، وَمَعْنَاهُ: لَو كَانَ الْعَذَاب بيَدي لعجلته؛ حَتَّى أتخلص مِنْكُم {وَالله أعلم بالظالمين} .(2/110)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَعِنْده مَفَاتِيح الْغَيْب لَا يعلمهَا إِلَّا هُوَ} روى ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مفاتح الْغَيْب خَمْسَة " وَذكر (الْخمس) الْمَذْكُورَة فِي قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة} ثمَّ قَرَأَ الْآيَة. {وَيعلم مَا فِي الْبر وَالْبَحْر} قَالَ مُجَاهِد: الْبَحْر: الْقرى والأمصار هَاهُنَا، (وَالْبر: المفاوز) ، يُقَال: هَذَا الْمصر بَحر، وَهَذِه الْقرْيَة بَحر؛ لاجتماعها وَكَثْرَة أَهلهَا، وَقيل: هُوَ الْبر وَالْبَحْر الْمَعْرُوف.
{وَمَا تسْقط من ورقة إِلَّا يعلمهَا} فَإِن قَالَ قَائِل: لم خص [الْوَرق] السَّاقِط(2/110)
{تسْقط من ورقة إِلَّا يعلمهَا وَلَا حَبَّة فِي ظلمات الأَرْض وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين (59) وَهُوَ الَّذِي يتوفاكم بِاللَّيْلِ وَيعلم مَا جرحتم بِالنَّهَارِ ثمَّ يبعثكم فِيهِ ليقضى أجل مُسَمّى ثمَّ عَلَيْهِ مرجعكم ثمَّ ينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ القاهر فَوق عباده} وَهُوَ يعلم السَّاقِط وَالثَّابِت؟ قيل: هَذَا مَعْنَاهُ: أَي: وَمَا تسْقط من ورقة إِلَّا يعلمهَا سَاقِطَة وثابتة، قَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق: أَرَادَ بِالْوَرَقَةِ الساقطة: السقط.
{وَلَا حَبَّة فِي ظلمات الأَرْض} هُوَ الْحبّ الْمَعْرُوف، وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق: هُوَ الْوَلَد {وَلَا رطب وَلَا يَابِس} قيل: مَعْنَاهُ: وَلَا حَيّ وَلَا موَات، وَقيل: هُوَ عبارَة عَن كل شَيْء {إِلَّا فِي كتاب مُبين} يَعْنِي: أَن الْكل مَكْتُوب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَهُوَ مثل قَوْله - تَعَالَى -: {وكل صَغِير وكبير مستطر} .(2/111)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي يتوفاكم بِاللَّيْلِ} أَي: يقبض أرواحكم بِاللَّيْلِ إِذا نمتم، وَهَذَا نَظِير قَوْله: {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها} . فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ من نَام فروحه مَعَه؛ فَمَا معنى هَذَا الْقَبْض؟ قيل: هُوَ قبض النَّفس المميزة المتصرفة {وَيعلم مَا جرحتم بِالنَّهَارِ} أَي: كسبتم بِالنَّهَارِ {ثمَّ يبعثكم فِيهِ} قَالَ قَتَادَة: الْبَعْث الْيَقَظَة هَاهُنَا، أَي: ثمَّ يوقظكم فِي النَّهَار {ليقضي أجل مُسَمّى} الْقَضَاء: هُوَ فصل الحكم على التَّمام، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا: اسْتِيفَاء أجل الْعُمر على التَّمام.
(ثمَّ إِلَيْهِ مرجعكم ثمَّ ينئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ) .(2/111)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ القاهر فَوق عباده وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة} أما معنى القاهر، وَصفَة الفوق، فقد ذكرنَا؛ وَأما إرْسَال الْحفظَة: هُوَ إرْسَال الْمَلَائِكَة الْحفاظ، وَهُوَ مَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى {وَإِن عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين} وَقَالَ: {لَهُ مُعَقِّبَات(2/111)
{وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة حَتَّى إِذا جَاءَ أحدكُم الْمَوْت توفته رسلنَا وهم لَا يفرطون (61) ثمَّ ردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق أَلا لَهُ الحكم وَهُوَ أسْرع الحاسبين (62) قل من ينجيكم} من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله) وحفظهم: أَن [يحفظوا] على الْعباد الْعَمَل وَالْأَجَل والرزق {حَتَّى إِذا جَاءَ أحدكُم الْمَوْت توفته رسلنَا} وَيقْرَأ: " توفيه " بِالْيَاءِ {وهم لَا يفرطون} أَي: لَا يؤخرون.
فَإِن قيل: قد قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {قل يتوفاكم ملك الْمَوْت} وَقَالَ هَاهُنَا: {توفته رسلنَا} فَكيف وَجه الْجمع؟ قيل: قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: لملك الْمَوْت أعوان من الْمَلَائِكَة، يتوفون عَن أمره؛ فَهُوَ معنى قَوْله: {توفته رسلنَا} وَيكون ملك الْمَوْت هُوَ الْمُتَوفَّى فِي الْحَقِيقَة؛ لأَنهم يصدرون عَن أمره، وَلذَلِك نسب الْفِعْل إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْآيَة، وَقيل: مَعْنَاهُ: ذكر الْوَاحِد بِلَفْظ الْجمع، وَالْمرَاد بِهِ: ملك الْمَوْت، وَفِي الْقَصَص أَن الله - تَعَالَى - جعل الدُّنْيَا بَين يَدَيْهِ كالمائدة الصَّغِيرَة؛ فَيقبض من هَاهُنَا وَمن هَاهُنَا؛ فَإِذا كثرت الْأَرْوَاح يَدْعُو الْأَرْوَاح فتجيب لَهُ.(2/112)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
قَوْله - تَعَالَى -: {ثمَّ ردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق} فَإِن قَالَ قَائِل: الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار، فَكيف قَالَ: {مَوْلَاهُم الْحق} وَقد قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم} ؟ قيل: الْمولى فِي تِلْكَ الْآيَة بِمَعْنى: النَّاصِر، وَلَا نَاصِر للْكفَّار، وَالْمولى هَاهُنَا بِمَعْنى: الْمَالِك، وَالله مَالك الْكل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ رد الْمُؤمنِينَ إِلَيْهِ، وَيدخل الْكفَّار فِيهِ تبعا.
{أَلا لَهُ الحكم وَهُوَ أسْرع الحاسبين} أَي: يُحَاسب الْكل فِي لَحْظَة.(2/112)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
قَوْله تَعَالَى: {قل من ينجيكم من ظلمات الْبر وَالْبَحْر} يَعْنِي: من شَدَائِد الْبَحْر وَالْبر، تَقول الْعَرَب: يَوْم مظلم. إِذا كَانَ يَوْم شدَّة، ويسمونه أَيْضا: يَوْمًا ذَا كَوْكَب. كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ كالليل لِشِدَّتِهِ، قَالَ الشَّاعِر:(2/112)
{من ظلمات الْبر وَالْبَحْر تَدعُونَهُ تضرعا وخفية لَئِن أنجانا من هَذِه لنكونن من الشَّاكِرِينَ (63) قل الله ينجيكم مِنْهَا وَمن كل كرب ثمَّ أَنْتُم تشركون (64) قل هُوَ الْقَادِر على}
(بني أَسد هَل تعلمُونَ (بلاءنا)
إِذا كَانَ يَوْمًا ذَا كواكب أشهبا)
وَقَالَ آخر:
(فدا لبني ذهل بن شَيبَان نَاقَتي ... إِذا كَانَ يَوْمًا ذَا كواكب أشنعا)
{تَدعُونَهُ تضرعا وخفية} أَي: عَلَانيَة وسرا، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن يكون السِّرّ مَعَ الْجَهْر فِي الدُّعَاء بِحَيْثُ يَدْعُو بِاللِّسَانِ وسره مَعَه، وَيقْرَأ " وخفية " بِكَسْر الْخَاء ومعناهما وَاحِد {لَئِن أنجيتنا من هَذِه لنكونن من الشَّاكِرِينَ} وَالشُّكْر: [هُوَ] معرفَة النِّعْمَة مَعَ الْقيام [بِحَقِّهَا] ، وَلَا بُد من هذَيْن حَتَّى يتَحَقَّق الشُّكْر.(2/113)
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل الله ينجيكم مِنْهَا وَمن كل كرب ثمَّ أَنْتُم تشركون} الكرب: غَايَة الْهم.(2/113)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل هُوَ الْقَادِر على أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم} قَالَ ابْن عَبَّاس، وَالْحسن، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة: نزلت الْآيَة فِي أهل الْإِيمَان وَأهل الصَّلَاة. وَقَالَ غَيرهم: نزلت فِي الْمُشْركين، وَقَوله: {عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم} قَالَ مُجَاهِد، وَسَعِيد بن جُبَير: عذَابا من فَوْقكُم: هُوَ الرَّمْي بِالْحِجَارَةِ، كَمَا كَانَ فِي قوم لوط. أَو من تَحت أَرْجُلكُم هُوَ الْخَسْف والرجفة.
وَحكي عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: عذَابا من فَوْقكُم: تسليط أَئِمَّة السوء، وَمن تَحت أَرْجُلكُم: تسليط الخدم السوء، وَقيل: عذَابا من فَوْقكُم: الطوفان وَالْغَرق، وَمن تَحت(2/113)
{أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم أَو يلْبِسكُمْ شيعًا وَيُذِيق بَعْضكُم بَأْس بعض انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات لَعَلَّهُم يفقهُونَ (65) وَكذب بِهِ قَوْمك وَهُوَ} أَرْجُلكُم: الرّيح، كَمَا كَانَ فِي قوم عَاد {أَو يلْبِسكُمْ شيعًا} قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: يخلطكم خلط اضْطِرَاب لَا خلط اتِّفَاق، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن يبث فِيكُم الْأَهْوَاء المتفرقة؛ فتصيرون فرقا وأحزابا.
(وَيُذِيق بَعْضكُم بَأْس بعض) هُوَ وُقُوع الْقَتْل بَينهم؛ وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة، وَسمع الْأَوَّلين؛ قَالَ: " أعوذ بِوَجْهِك؛ فَلَمَّا سمع الآخرين؛ قَالَ: هَاتَانِ أيسر " وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: " أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة؛ دَعَا لأمته وناجى طَويلا؛ حَتَّى نزل جِبْرِيل أَن الله رفع الْأَوَّلين، وَأجَاب دعوتك فيهمَا، وَلم يجب فِي الآخرين ". فبثت الْأَهْوَاء والقتال فِي هَذِه الْأمة، وَقد سل السَّيْف من زمَان عُثْمَان، فَلَا يغمد إِلَى قيام السَّاعَة، وَقد روى أَن الدُّعَاء الْمَعْرُوف الَّذِي كَانَ يَدْعُو بِهِ رَسُول الله، دَعَا بِهِ حَيْثُ نزلت هَذِه الْآيَة، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بعفوك من عقابك، وَأَعُوذ برضاك من سخطك وَأَعُوذ بك مِنْك " أَي: بقضاءك من قضاءك {انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات} يَعْنِي: مرّة هَكَذَا، وَمرَّة هَكَذَا {لَعَلَّهُم يفقهُونَ} .(2/114)
{الْحق قل لست عَلَيْكُم بوكيل (66) لكل نبأ مُسْتَقر وسوف تعلمُونَ (67) وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره وَإِمَّا ينسينك الشَّيْطَان فَلَا تقعد بعد الذكرى مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين (68) وَمَا على الَّذين يَتَّقُونَ من حسابهم من شَيْء وَلَكِن ذكرى لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ (69) وذر الَّذين اتَّخذُوا دينهم لعبا}(2/115)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَكذب بِهِ قَوْمك وَهُوَ الْحق} يَعْنِي: الْقُرْآن {قل لست عَلَيْكُم بوكيل} أَي: بمسلط؛ فألزمكم الْإِسْلَام شِئْتُم أَو أَبَيْتُم، قَالَ ابْن جريج: كَانَ هَذَا فِي الِابْتِدَاء ثمَّ نسخ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} .(2/115)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
{لكل نبأ مُسْتَقر} قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: لكل خبر من أَخْبَار الْقُرْآن حَقِيقَة إِمَّا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي الْآخِرَة {وسوف تعلمُونَ} .(2/115)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم} أَرَادَ بِهِ: يَخُوضُونَ فِيهَا بِالرَّدِّ والاستهزاء، قَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: وَيدخل فِي هَذَا: الْخَوْض فِي كل الْآيَات لَا على وفْق الْكتاب وَالسّنة.
{فَأَعْرض عَنْهُم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره وَإِمَّا ينسينك الشَّيْطَان فَلَا تقعد بعد الذكرى مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين} يَعْنِي: قَوْله: {وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم} قَالَت الصَّحَابَة: إِذا كَيفَ تقعد فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَكَيف نطوف بِالْبَيْتِ، وهم يَخُوضُونَ أبدا؟ فَنزلت هَذِه الْآيَة:(2/115)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
{وَمَا على الَّذين يَتَّقُونَ من حسابهم من شَيْء} يَعْنِي: إِذا لقوهم، وَلم يخوضوا فِيمَا يَخُوضُونَ {وَلَكِن ذكرى لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} أَمر [بتذكيرهم] ومنعهم عَن ذَلِك، وَقيل: مَعْنَاهُ: فِي حَال الذّكر، وَلَيْسَ عَلَيْهِم شَيْء فِي حَال مَا يذكرونهم إِذا لم يرْضوا بِمَا خَاضُوا فِيهِ.(2/115)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
قَوْله - تَعَالَى -: {وذر الَّذين اتَّخذُوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا} .
قَالَ الْفراء فِي كِتَابه: عيد [أهل كل مِلَّة] يَوْم لَهو وَلعب إِلَّا عيد الْمُسلمين؛(2/115)
{ولهوا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَذكر بِهِ أَن تبسل نفس بِمَا كسبت لَيْسَ لَهَا من دون الله ولي وَلَا شَفِيع وَإِن تعدل كل عدل لَا يُؤْخَذ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذين أبسلوا بِمَا كسبوا لَهُم شراب من حميم وَعَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكفرون (70) قل أندعوا من دون الله مَا لَا ينفعنا وَلَا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إِذْ هدَانَا الله كَالَّذي استهوته الشَّيَاطِين فِي} فَإِنَّهُ (يَوْم) الصَّلَاة وَفعل الْخَيْر وَالتَّكْبِير.
{وَذكر بِهِ أَن تبسل نفس بِمَا كسبت} قَالَ مُجَاهِد: أَن تسلم للهلاك، وَقَالَ قَتَادَة: أَن تحبس، وَقَالَ الْفراء: أَن ترتهن، وَقَالَ الْكسَائي، والأخفش: أَن تجزي. وَالصَّحِيح هُوَ الأول، يُقَال: فلَان مستبسل إِذا استسلم للهلاك، قَالَ الشَّاعِر:
(وإبسالي بني بِغَيْر جرم ... [بعوه وَلَا بِغَيْر دم مراق] )
وَحَقِيقَة الْمَعْنى: وَذكر بِهِ، لِأَن لَا تسلم نفس للهلاك بعملها {لَيْسَ لَهَا من دون الله ولي وَلَا شَفِيع} وَقد ذكرنَا {وَإِن تعدل كل عدل} هُوَ الْفِدْيَة {لَا يُؤْخَذ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذين أبسلوا بِمَا كسبوا} هُوَ مَا ذكرنَا {لَهُم شراب من حميم وَعَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكفرون} .(2/116)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل أندعوا من دون الله مَا لَا ينفعنا وَلَا يضرنا} فَإِن قيل: كَيفَ لَا يضرهم وَفِي الْأَصْنَام ضرهم؟ قيل: مَعْنَاهُ: لَا يجلب نفعا، وَلَا يدْفع ضرا، قيل: مَعْنَاهُ: لَيْسَ بيدهم شَيْء.
{ونرد على أعقابنا بعد إِذْ هدَانَا الله} أَي: مرتدين على أعقابنا بعد الْهِدَايَة بِهِ وَالْإِسْلَام {كَالَّذي استهوته الشَّيَاطِين فِي الأَرْض حيران} أضلته الشَّيَاطِين وغلبته حَتَّى هوى، والحيران: المتردد بَين شَيْئَيْنِ لَا يدْرِي كَيفَ يفعل.(2/116)
{الأَرْض حيران لَهُ أَصْحَاب يَدعُونَهُ إِلَى الْهدى ائتنا قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى وأمرنا لنسلم لرب الْعَالمين (71) وَأَن أقِيمُوا الصَّلَاة واتقوه وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون (72) وَهُوَ الَّذِي حلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ وَيَوْم يَقُول كن فَيكون قَوْله الْحق وَله الْملك يَوْم ينْفخ فِي الصُّور عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير (73) وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم}
{لَهُ أَصْحَاب يَدعُونَهُ إِلَى الْهدى ائتنا} ضرب مثلا للَّذي يرْتَد عَن الْإِسْلَام بِرَجُل يكون فِي الطَّرِيق مَعَ رفْقَة؛ فيضل بِهِ الغول، ويدعوه أَصْحَابه من أهل الرّفْقَة إِلَى الطَّرِيق، فَيبقى حيران، لَا يدْرِي أَيْن يذهب. ( {قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى وأمرنا لنسلم لرب الْعَالمين}(2/117)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
وَأَن أقِيمُوا الصَّلَاة واتقوه) أَي: وأمرنا بِإِقَامَة الصَّلَاة وَالتَّقوى ( {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون}(2/117)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ) أَي: لإِظْهَار الْحق؛ لِأَنَّهُ جعل صنعه دَلِيلا على وحدانيته {وَيَوْم يَقُول كن فَيكون} قيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله: {خلق السَّمَوَات} يَعْنِي: وَخلق يَوْم يَقُول، فَإِن قيل: كَيفَ يَصح هَذَا التَّقْدِير، وَالْقِيَامَة غير مخلوقة بعد؟ قيل: هِيَ كائنة فِي علم الله - تَعَالَى -[فَتكون] كالمخلوقة؛ إِذْ الْحلق بِمَعْنى: الْقَضَاء وَالتَّقْدِير، وَهِي مقضية مقدرَة، وَقيل: تَقْدِيره: وَاذْكُر يَوْم يَقُول: كن فَيكون ( {قَوْله الْحق} وَله الْملك يَوْم ينْفخ فِي الصُّور) قرئَ فِي الشواذ: " يَوْم ينْفخ فِي الصُّور " وَهِي جمع الصُّورَة، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الصُّور: هُوَ الصُّور فِي كل مَوضِع، وَقَالَ ابْن مَسْعُود فِي تَفْسِير الْآيَة: الصُّور: قرن ينْفخ فِيهِ، وَهُوَ مَعْرُوف فِي الْأَخْبَار. {عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير} .(2/117)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ آزر} يقْرَأ " آزر " بِرَفْع الرَّاء، وَهُوَ فِي الشواذ، وَمَعْنَاهُ: يَا آزر، وَكَذَلِكَ فِي حرف أبي بن كَعْب: يَا آزر، وَالْمَعْرُوف " آزر " بِنصب(2/117)
{لِأَبِيهِ آزر أتتخذ أصناما آلِهَة إِنِّي أَرَاك وقومك فِي ضلال مُبين (74) وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض وليكون من الموقنين (75) فَلَمَّا جن عَلَيْهِ اللَّيْل} الرَّاء، وَهُوَ اسْم أعجمي غير منصرف؛ فينصب فِي مَوضِع الْخَفْض.
قَالَ الْفراء، والزجاج: اسْم أَبِيه: تارخ، أجمع عَلَيْهِ النسابون، وآزر لقب لَهُ، قَالَ الْفراء: واللقب قد غلب على الِاسْم، وَقيل: كَانَ لَهُ اسمان: آزر، وتارخ، قَالَ الْحسن: اسْمه: آزر لَا غير، كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْكتاب، وَقَالَ مُجَاهِد: آزر: اسْم صنم، وَتَقْدِير الْآيَة: وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ: {أتتخذ} آزر إِلَهًا {أصناما آلِهَة إِنِّي أَرَاك وقومك فِي ضلال مُبين} .(2/118)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض} الملكوت وَالْملك وَاحِد، وَإِنَّمَا أَدخل التَّاء فِيهِ للْمُبَالَغَة، مثل: رهبوت ورحموت، وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ، مِنْهُم من قَالَ: أرَاهُ أَبْوَاب السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَمِنْهُم من قَالَ: فرج لَهُ السَّمَوَات حَتَّى رَآهَا كلهَا وَمَا فِيهَا، وخرق لَهُ الْأَرْضين حَتَّى رَآهَا كلهَا، وَقيل: رَفعه إِلَى السَّمَاء حَتَّى رأى السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَفِي الْخَبَر: " أَنه لما رَفعه إِلَى السَّمَاء رأى فِي الأَرْض رجلا على الْمعْصِيَة، فَدَعَا الله حَتَّى أهلكه، ثمَّ رأى آخر، فَدَعَا الله حَتَّى أهلكه، ثمَّ رأى ثَالِثا كَذَلِك؛ فَدَعَا الله حَتَّى أهلكه فَقَالَ الله - تَعَالَى -: أهبطوه، ثمَّ أوحى الله - تَعَالَى -: إِلَيْهِ: مهلا يَا إِبْرَاهِيم؛ فَإِن عبَادي مني على ثَلَاث خِصَال: إِمَّا أَن يتوبوا فَأغْفِر لَهُم، وَإِمَّا أَن يتْركُوا ولدا يَدْعُو لَهُم فَأغْفِر لَهُم، وَإِن لم يكن [لَهُم] فجهنم من ورائهم " {وليكون من الموقنين} .(2/118)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَلَمَّا جن عَلَيْهِ اللَّيْل رأى كوكبا} .(2/118)
{رأى كوكبا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أفل قَالَ لَا أحب الآفلين (76) فَلَمَّا رأى الْقَمَر بازغا قَالَ}
وَفِي الْقِصَّة: أَن وَاحِدًا من الكهنة، قَالَ لنمروذ: إِن ملكك يهْلك على (يَدي) ولد فِي زَمَانك، فَكَانَ يقتل الْبَنِينَ مِمَّن يُولد فِي زَمَانه؛ فَلَمَّا أَتَت أم إِبْرَاهِيم بإبراهيم، جَاءَ بِهِ أَبوهُ إِلَى سرب الأَرْض شبه مغار، وَوَضعه فِي مَوضِع يُقَال لَهُ: كوثاء؛ فَقيل: إِنَّه كَانَ فِيهِ سبع سِنِين، وَقيل: ثَلَاث عشرَة سنة، وَقيل سبع عشرَة سنة، ثمَّ إِنَّه لما شب، قَالَ لأمه: من رَبِّي؟ فَقَالَت لَهُ: اسْكُتْ، ثمَّ جَاءَت وأخبرت أَبَاهُ مَا قَالَ؛ فجَاء أَبوهُ؛ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: من رَبِّي؟ فَقَالَ: أمك، قَالَ: وَمن رب أُمِّي،؟ قَالَ: أَنا، قَالَ: وَمن رَبك؟ قَالَ: اسْكُتْ، وتركوه، ثمَّ لما جن عَلَيْهِ اللَّيْل خرج من السرب، وَلم يكن رأى شَيْئا قطّ، فَرَأى كوكبا، قيل: هُوَ المُشْتَرِي.
قَالَ السّديّ: كَانَ الْكَوْكَب: زهرَة، وَهِي أَضْوَأ كَوْكَب فِي السَّمَاء. {قَالَ هَذَا رَبِّي} قيل: إِنَّه قَالَ ذَلِك فِي صغره حِين لَا يعبأ بقوله، وَقيل: إِنَّمَا كَانَ مستدلا بِهِ؛ فَقَالَ ذَلِك فِي حَال الِاسْتِدْلَال؛ فَلم يضرّهُ هَذَا القَوْل، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضعيفان، وَفِيه ثَلَاثَة أَقْوَال مَعْرُوفَة: أَحدهَا: قَالَ قطرب: قَوْله: هَذَا رَبِّي. على وَجه الِاسْتِفْهَام، وَتَقْدِيره أَهَذا رَبِّي؟ وَمثله قَول الشَّاعِر:
(رفوني وَقَالُوا يَا خويلد (لم ترع)
فَقلت وَأنْكرت الْوُجُوه هم هم)
وَإِنَّمَا قَالَ: هم على طَرِيق الِاسْتِفْهَام، وَتَقْدِيره: أهم هم؟ وَأما الزّجاج وَغَيره لم يرْضوا مِنْهُ هَذَا، وَقَالُوا: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب " هَذَا " بِمَعْنى الِاسْتِفْهَام.
وَذكر الزّجاج قَوْلَيْنِ آخَرين فِيهِ: أَحدهمَا: قَالَ: " هَذَا رَبِّي " على زعم قومه، فَإِن قيل: هم كَانُوا يعْبدُونَ الْكَوَاكِب، فَكيف قَالَه على زعمهم؟ قيل: كَانَ مِنْهُم أهل نُجُوم، وَكَانُوا يرَوْنَ أَنه إِلَى الْكَوَاكِب الْأُمُور؛ وَكَأَنَّهُم يعْبدُونَ الْكَوَاكِب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن القَوْل مُضْمر فِيهِ، وَتَقْدِيره: يَقُولُونَ: هَذَا رَبِّي.(2/119)
{هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أفل قَالَ لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين (77) فَلَمَّا رأى الشَّمْس بازغة قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أكبر فَلَمَّا أفلت قَالَ يَا قوم إِنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون (78) إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين (79) وحاجه قومه قَالَ أتحاجوني فِي الله وَقد هدان وَلَا أَخَاف مَا تشركون بِهِ إِلَّا أَن}(2/120)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
{فَلَمَّا أفل قَالَ لَا أحب الآفلين} .
قَوْله - تَعَالَى -: {فَلَمَّا رأى الْقَمَر بازغا} أَي: طالعا: {قَالَ هَذَا رَبِّي} وَكَانَ ذَلِك فِي لَيْلَة قد تَأَخّر طُلُوع الْقَمَر فِيهَا قَلِيلا {فَلَمَّا أفل قَالَ لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين} والأفول: الْغُرُوب.(2/120)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَلَمَّا رأى الشَّمْس بازغة قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أكبر} أَي: أَضْوَأ وأنور فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: هَذَا رَبِّي، وَالشَّمْس مُؤَنّثَة، وَلم يقل هَذِه؟ قيل: لِأَن مَا لَيْسَ عَلَيْهِ عَلامَة التَّأْنِيث يجوز أَن يذكر، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَا مزنة وَقد دقَّتْ ... ودقها وَلَا أَرض ذَا بقل أبقالها)
وَلم يقل [أبقلت] ، وَإِن كَانَت الأَرْض مُؤَنّثَة؛ إِذْ لم يكن عَلَيْهَا عَلامَة التَّأْنِيث، وَقيل: إِن قَوْله: هَذَا رَبِّي، يرجع إِلَى الْمَعْنى، وَهُوَ الضياء والنور {فَلَمَّا أفلت قَالَ يَا قومِي إِنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون} .(2/120)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين} الحنيف: الثَّابِت على الدّين، المائل إِلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ.(2/120)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
قَوْله - تَعَالَى -: {وحاجه قومه قَالَ أتحاجوني} (أَي) : جادله قومه؛ قَالَ: أتجادلوني {فِي الله وَقد هدان} .(2/120)
{يَشَاء رَبِّي شَيْئا وسع رَبِّي كل شَيْء علما أَفلا تذكرُونَ (80) وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم وَلَا تخافون أَنكُمْ أشركتم بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ عَلَيْكُم سُلْطَانا فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن إِن كُنْتُم تعلمُونَ (81) الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن وهم}
{وَلَا أَخَاف مَا تشركون بِهِ} لأَنهم كَانُوا يخوفونه بالأصنام، وَكَانُوا يَقُولُونَ: احذر الْأَصْنَام؛ فَإنَّا نَخَاف عَلَيْك الخبل وَالْجُنُون؛ فَقَالَ: {وَلَا أَخَاف مَا تشركون بِهِ إِلَّا أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئا} قَوْله: إِلَّا أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئا. لَيْسَ باستثناء عَن الأول؛ إِذْ لَا يجوز أَن يَشَأْ الله أَن يُصِيبهُ شَيْء من الْأَصْنَام، وَمَا يشركُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن إِن شَاءَ رَبِّي أَن يأخذني بِشَيْء، أَو يُعَذِّبنِي بجرمي؛ فَلهُ ذَلِك.
{وسع رَبِّي كل شَيْء علما أَفلا تتذكرون} .(2/121)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم وَلَا تخافون أَنكُمْ أشركتم بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ عَلَيْكُم سُلْطَانا} الْإِشْرَاك: هُوَ الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ فِي معنى؛ فالإشراك بِاللَّه: هُوَ أَن يجمع مَعَ الله غير الله فِيمَا لَا يجوز إِلَّا لله، وَمعنى الْآيَة: وَكَيف أَخَاف الْأَصْنَام وَمَا أشركتم، وَأَنْتُم أَحَق بالخوف مني حَيْثُ أشركتم بِاللَّه، وَلَا تخافون الله بشرككم أَو فعلكم الَّذِي لم ينزل بِهِ الله حجَّة وسلطانا؟ {فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن} يَعْنِي الموحد أَو الْمُشرك {إِن كُنْتُم تعلمُونَ} .(2/121)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
قَوْله - تَعَالَى -: {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ بَعضهم: هَذَا من قَول الله - تَعَالَى -، وَقيل: هُوَ من قَول إِبْرَاهِيم، وَمَعْنَاهُ: الَّذين آمنُوا، وَلم يخلطوا إِيمَانهم بشرك، هَذَا هُوَ قَول أبي بكر، وَعلي، وَحُذَيْفَة، وسلمان أَن المُرَاد بالظلم الشّرك، وَقد صَحَّ بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود: " أَنه لي نزلت هَذِه الْآيَة؛ شقّ ذَلِك على الصَّحَابَة، وَقَالُوا: أَيّنَا لم يظلم نَفسه؟ ! فَقَالَ: لَيْسَ الْأَمر كَمَا تظنون، إِنَّمَا الظُّلم هَاهُنَا بِمَعْنى الشّرك، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم} ". وَمعنى الْآيَة: الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَلم يشركوا بِهِ {أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن(2/121)
{مهتدون (82) وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء إِن رَبك حَكِيم عليم (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب كلا هدينَا ونوحا هدينَا من قبل وَمن ذُريَّته دَاوُود وَسليمَان وَأَيوب ويوسف ومُوسَى وَهَارُون وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ (84) وزَكَرِيا وَيحيى وَعِيسَى وإلياس كل من الصَّالِحين (85) وَإِسْمَاعِيل وَالْيَسع} هم مهتدون) .(2/122)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
قَوْله - تَعَالَى: {وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه} اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ بَعضهم: هِيَ احتجاجه عَلَيْهِم بقوله: {فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن} ، وحجته فِي ذَلِك أَن الَّذِي يعبد الله لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا أَحَق بالأمن من الَّذِي يعبد الله ويشرك بِهِ. وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْحجَّاج الَّذِي حَاج بِهِ نمروذ، على مَا سبق فِي سُورَة الْبَقَرَة.
{نرفع دَرَجَات من نشَاء} يَعْنِي: (بالحجاج) ، وَالِاسْتِدْلَال، وَيقْرَأ: " نرفع دَرَجَات " منونا، وَتَقْدِيره: نرفع من نشَاء دَرَجَات {إِن رَبك حَكِيم عليم} .(2/122)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب كلا هدينَا ونوحا هدينَا من قبل وَمن ذُريَّته} اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ: ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم، وَالصَّحِيح أَنه أَرَادَ بِهِ: وَمن ذُرِّيَّة نوح؛ لِأَنَّهُ عد فِي الْجُمْلَة يُونُس ولوطا، وهما من ذُرِّيَّة نوح لَا من ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم {وَمن ذُريَّته دَاوُد وَسليمَان وَأَيوب ويوسف ومُوسَى وَهَارُون وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ} وَلَيْسَ هَذَا على تَرْتِيب الْأَزْمَان؛ إِذْ كَانَ هَؤُلَاءِ على أزمان مُخْتَلفَة، بَعضهم سَابق على الْبَعْض، (فالواو لَا) تَقْتَضِي التَّرْتِيب وَإِنَّمَا هِيَ للْجمع.(2/122)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
قَوْله - تَعَالَى -: {وزَكَرِيا وَيحيى وعيس} هَذَا دَلِيل على أَن عِيسَى من ذُرِّيَّة آدم، وَإِن كَانَ انتماؤه إِلَى الْأُم؛ لِأَنَّهُ عده من ذُرِّيَّة نوح؛ فَيكون آدم أَبَاهُ من قبل الْأُم {وإلياس كل من الصَّالِحين} قَالَ ابْن مَسْعُود: إلْيَاس هُوَ إِدْرِيس، وَالصَّحِيح أَنه رجل آخر.(2/122)
{وَيُونُس ولوطا وكلا فضلنَا على الْعَالمين (86) وَمن آبَائِهِم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (87) ذَلِك هدى الله يهدي بِهِ من يَشَاء من عباده وَلَو أشركوا لحبط عَنْهُم مَا كَانُوا يعْملُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب}(2/123)
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِسْمَاعِيل وَالْيَسع} وَيقْرَأ: " والليسع " وَهُوَ اسْم أعجمي مثل: زيد، وَيزِيد، وَنَحْوه، وَإِنَّمَا وصل فِيهِ الْألف وَاللَّام نَادرا، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(وجدنَا (الْوَلِيد بن اليزيد) مُبَارَكًا ... شَدِيدا (بأعباء) الْخلَافَة كَاهِله)
{وَيُونُس ولوطا وكلا فضلنَا على الْعَالمين} .(2/123)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَمن آبَائِهِم} " من " فِيهِ للتَّبْعِيض؛ لِأَن آبَاء بَعضهم كَانُوا مُسلمين ومهتدين {وذرياتهم} أَي: وَمن ذرياتهم، وَأَرَادَ بِهِ: ذُرِّيَّة بَعضهم أَيْضا؛ لِأَن عِيسَى وَيحيى لم يكن لَهما ذُرِّيَّة، وَكَانَ فِي ذُرِّيَّة بَعضهم من كَانَ كَافِرًا {وإخوانهم واجتبيناهم} أَي: اصطفيناهم {وهديناهم} أرشدناهم {إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} .(2/123)
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
قَوْله - تَعَالَى -: {ذَلِك هدى الله يهدي بِهِ من يَشَاء} أَي: يرشد بِهِ من يَشَاء من عباده {وَلَو أشركوا لحبط عَنْهُم مَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: لبطل عَنْهُم، والحبوط: البطول وَهَذَا مثل قَوْله - تَعَالَى -: ( {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك}(2/123)
أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
أُولَئِكَ الَّذين أتيناهم الْكتاب) الْكتاب: اسْم الْجِنْس، وَأَرَادَ بِهِ: الْكتب الْمنزلَة عَلَيْهِم {وَالْحكم} يَعْنِي: الْعلم وَالْفِقْه {والنبوة فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ فقد وكلنَا بهَا قوما لَيْسُوا بهَا بكافرين} يَعْنِي: أهل الْمَدِينَة، وَمن كَانَ بهَا من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَقَالَ قَتَادَة: فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ يَعْنِي: الْكفَّار، فقد وكلنَا بهَا قوما [يَعْنِي](2/123)
{وَالْحكم والنبوة فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ فقد وكلنَا بهَا قوما لَيْسُوا بهَا بكافرين (89) أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِن هُوَ إِلَّا ذكرى للْعَالمين (90) وَمَا قدرُوا الله حق قدره إِذْ قَالُوا مَا أنزل الله على بشر من شَيْء قل من} الْأَنْبِيَاء الَّذين سبق ذكرهم، وَقَالَ أَبُو رَجَاء العطاردي: مَعْنَاهُ: فَإِن يكفر بهَا أهل الأَرْض، فقد وكلنَا بهَا أهل السَّمَاء، وهم الْمَلَائِكَة {لَيْسُوا بهَا بكافرين} .(2/124)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
قَوْله - تَعَالَى -: {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله} أَي: هدَاهُم الله {فبهداهم اقتده} وَهَذِه هَاء الْوَقْف، كَمَا فِي قَوْله: {ماليه} و {سلطانيه} ، وَنَحْو ذَلِك، وَيقْرَأ: " فبهديهم اقتده " بِكَسْر الْهَاء، وَتَقْدِيره: فبهديهم اقتد اقْتِدَاء، هَكَذَا قيل: إِن الْمصدر مقدس فِيهِ {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين} أَي: تذكره.(2/124)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا عظموا الله حق عَظمته، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَا عرفُوا الله حق مَعْرفَته، وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد: مَا وصفوا الله حق وَصفته، يُقَال: قدرت الشَّيْء، وَقدرته؛ إِذا عرفت حَقِيقَته.
{إِذْ قَالُوا مَا أنزل الله على بشر من شَيْء} قيل: هَذَا قَول مَالك بن الصَّيف، كَانَ حبر الْيَهُود، فحاج النَّبِي، فَجرى على لِسَانه فِي المحاجة: مَا أنزل الله على بشر من شَيْء، وَكَانَ ذَلِك بِمَكَّة؛ فَنزلت الْآيَة.
{قل من أنزل الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نورا وَهدى للنَّاس} أَي: أجبه يَا مُحَمَّد، وَقل: من أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى وَأَنْتُم تؤمنون بِهِ؟ .
وَفِي الْقِصَّة: أَن الْيَهُود سمعُوا مِنْهُ تِلْكَ الْمقَالة؛ فعتبوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: أَلَيْسَ أَن الله قد أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى؟ فَلم قلت مَا أنزل الله على بشر من شَيْء؟ ! فَقَالَ مَالك بن الصَّيف: أَغْضَبَنِي مُحَمَّد؛ فَقلت مَا قلت؛ فَقَالُوا: وَأَنت إِذا غضِبت تَقول على الله(2/124)
{أنزل الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نورا وَهدى للنَّاس تجعلونه قَرَاطِيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم مَا لم تعلمُوا أَنْتُم وَلَا آباؤكم قل الله ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك مُصدق الَّذِي بَين يَدَيْهِ ولتنذر أم الْقرى وَمن حولهَا وَالَّذين} غير الْحق؛ فَنَزَعُوهُ عَن الحبرية، وأجلسوا مَكَانَهُ كَعْب بن الْأَشْرَف.
{تجعلونه قَرَاطِيس تبدونها} أَي: تكبون مِنْهَا كتبا تبدونها {وتخفون كثيرا} أَي: تخفون مَا فِيهِ نعت مُحَمَّد، وتبدون مِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ نعت مُحَمَّد {وعلمتم مَا لم تعلمُوا أَنْتُم وَلَا (آباؤكم} ) قيل: هُوَ رَاجع إِلَى الْيَهُود، وَقيل: هُوَ خطاب للصحابة.
قَالَ الله - تَعَالَى -: (يَعْنِي: قل من أنزلهُ) وَهُوَ رَاجع إِلَى مَا تقدم {قل الله ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلْعَبُونَ} وكل من خَاضَ فِيمَا لَا ينفح بِهِ فَهُوَ لاعب.(2/125)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك} يصف الْقُرْآن بِالْبركَةِ: وأصل الْبركَة الثُّبُوت، وَمِنْه بروك الْبَعِير إِذا ثَبت وَاسْتقر، وَمِنْه قَوْله: {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} أَي: ثَبت لَهُ مَا يسْتَحقّهُ من التَّعْظِيم والجلال فِيمَا لم يزل وَلَا يزَال.
{مُصدق الَّذِي بَين يَدَيْهِ} يَعْنِي: من الْكتب الْمنزلَة قبله {ولتنذر أم الْقرى} يَعْنِي: أهل أم الْقرى {وَمن حولهَا} وَأم الْقرى مَكَّة: وَسميت أم الْقرى؛ لِأَن سَائِر الْقرى [يقصدونها ويأتونها] ، وَقيل: لِأَن الأَرْض دحيت من تحتهَا، (وَقيل: لِأَنَّهَا) معظمة تقصد بالتعظيم، وَمِنْه سميت الْأُم أما؛ لِأَنَّهَا تعظم، وَقد قَالَ: " إِن الْمَدِينَة قَرْيَة تَأْكُل سَائِر الْقرى " يَعْنِي: أَن أهل الْمَدِينَة يقتحمون سَائِر الْقرى(2/125)
{يُؤمنُونَ بِالآخِرَة يُؤمنُونَ بِهِ وهم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ (92) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو قَالَ أُوحِي إِلَيّ وَلم يُوح إِلَيْهِ شَيْء وَمن قَالَ سَأُنْزِلُ مثل مَا أنزل الله} بِالسَّيْفِ.
{وَالَّذين يُؤمنُونَ بِالآخِرَة يُؤمنُونَ بِهِ وهم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ} .
فَإِن قيل: الْيَهُود وَالنَّصَارَى يُؤمنُونَ بِالآخِرَة، وَلَا يُؤمنُونَ بِهِ، فَمَا معنى قَوْله " وَالَّذين يُؤمنُونَ بِالآخِرَة يُؤمنُونَ بِهِ "؟ قيل: أَرَادَ بِهِ الْمُؤمنِينَ؛ لأَنهم الَّذين يُؤمنُونَ بِالآخِرَة حَقِيقَة، فَأَما الَّذين يُؤمنُونَ بِالآخِرَة، وَلَا يصدقون مُحَمَّدًا، وَمَا جَاءَ بِهِ؛ فكأنهم لم يُؤمنُوا بِالآخِرَة على الْحَقِيقَة.(2/126)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو قَالَ أُوحِي إِلَيّ وَلم يُوح إِلَيْهِ شَيْء} قَالَ ابْن عَبَّاس: " [نزل] هَذَا فِي عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وَكَانَ قد أسلم؛ فَجعله النَّبِي كتابا للوحي، وَكَانَ يملي عَلَيْهِ الْوَحْي؛ فَيكْتب، فَقيل: إِنَّه كَانَ يملي عَلَيْهِ: " إِن الله سميع عليم "، فَيكْتب: " إِن الله غَفُور رَحِيم " ويملي عَلَيْهِ: إِن الله غَفُور رَحِيم " فَيكْتب: " إِن الله عليم حَكِيم " هَكَذَا كَانَ يُبدل؛ فروى أَنه لما نزل قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين} الْآيَة فأملى النَّبِي ذَلِك؛ فَلَمَّا رأى تَفْضِيل خلق الله تعجب، وَقَالَ: تبَارك الله أحسن الْخَالِقِينَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: هَكَذَا أنزل {فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} فَشك الرجل فِي الْوَحْي، وَقَالَ: أُوحِي إِلَيّ كَمَا يُوحى إِلَيْهِ، وارتد عَن الْإِسْلَام " فَقَوله: {أَو قَالَ أُوحِي إِلَيّ} هُوَ هَذَا.
وَقيل: نزلت الْآيَة فِي مُسَيْلمَة الْكذَّاب، وَالْأسود الْعَنسِي، خرجا بِالْيمن، وادعيا(2/126)
{وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم أخرجُوا أَنفسكُم الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون بِمَا كُنْتُم تَقولُونَ على الله غير الْحق وكنتم عَن آيَاته تستكبرون (93) وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة وتركتم مَا خولناكم وَرَاء} النُّبُوَّة وَالْوَحي إِلَيْهِمَا، وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رَأَيْت فِي الْمَنَام سِوَارَيْنِ من ذهب فِي يَدي، فنفخت فيهمَا، فطَارَا، فَأَوَّلْتهمَا عل كَذَّابين يخرجَانِ بعدِي " مُسَيْلمَة الْكذَّاب كَانَ بِالْيَمَامَةِ، وَالْأسود الْعَنسِي كَانَ بِصَنْعَاء الْيمن.
{وَمن قَالَ سَأُنْزِلُ مثل مَا أنزل الله} هَذَا فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، ادّعى مُعَارضَة الْقُرْآن، فروى أَنه قَالَ فِي مُعَارضَة الْقُرْآن: والطاحنات طحنا، فالعاجنات عَجنا، والخابزات خبْزًا فاللاقمات لقما.
{وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت} يَعْنِي: فِي شَدَائِد الْمَوْت، قَالَ الشَّاعِر:
(الغمرات ثمَّ تنجلينا ... ثمَّة تذهبن فَلَا تجينا)
{وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم} قيل: للعذاب، وَقيل: لقبض الْأَرْوَاح {أخرجُوا أَنفسكُم} أَي: أرواحكم، فَإِن قَالَ قَائِل: الرّوح إِنَّمَا تخرج كرها؛ فَمَا معنى قَوْله: أخرجُوا أَنفسكُم؟ قيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك تَغْلِيظًا عَلَيْهِم، كمن يخرج من الدَّار كرها، وَيُقَال لَهُ: اخْرُج.
{الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون بِمَا كُنْتُم تَقولُونَ على الله غير الْحق وكنتم عَن آيَاته تستكبرون} الْهون: من الهوان، والهون: من اللين والرفق، كَمَا فِي قَوْله: {يَمْشُونَ على الأَرْض هونا} .(2/127)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى} أَي وحدانا فَردا فَردا {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة} بِلَا أهل وَلَا مَال {وتركتم مَا خولناكم وَرَاء ظهوركم} أَي: ملكناكم، والخول: المماليك. {وَمَا نرى مَعكُمْ شفعاءكم الَّذين زعمتم انهم فِيكُم شُرَكَاء}(2/127)
{ظهوركم وَمَا نرى مَعكُمْ شفعاءكم الَّذين زعمتم أَنهم فِيكُم شُرَكَاء لقد تقطع بَيْنكُم وضل عَنْكُم مَا كُنْتُم تَزْعُمُونَ (94) إِن الله فالق الْحبّ والنوى يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت ومخرج الْمَيِّت من الْحَيّ ذَلِكُم الله فَأنى تؤفكون (95) فالق الإصباح وَجعل اللَّيْل} أَرَادَ بِهِ: مَا زَعَمُوا من أَن الْأَصْنَام وَالْمَلَائِكَة شفعاؤنا عِنْد الله {لقد تقطع بَيْنكُم} أَي: وصلكم، وَهُوَ مثل قَوْله: {وتقطعت بهم الْأَسْبَاب} أَي: الموصلات، وَيقْرَأ: " لقد تقطع بَيْنكُم " - بِفَتْح النُّون - وَمَعْنَاهُ: تقطع الْأَمر بَيْنكُم {وضل عَنْكُم مَا كُنْتُم تَزْعُمُونَ} .(2/128)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الله فالق الْحبّ والنوى} الفلق: الشق، وَمَعْنَاهُ: أَنه يشق الْحبَّة؛ فيستخرج السنبلة من الْحبَّة، ويشق النواة؛ فيستخرج النَّخْلَة من النواة، [وَيدخل] فِي قَوْله: {فالق الْحبّ} جَمِيع البذور والحبوب، وَيدخل فِي قَوْله: {والنوى} نواة جَمِيع الْأَشْجَار؛ مثل نواة المشمش، ونواة الخوخ، ونواة الغبيراء، وَنَحْو ذَلِك، وَقيل: فالق الْحبّ والنوى بِمَعْنى: خَالق الْحبّ والنوى.
{يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت ومخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} وَقد ذكرنَا هَذَا وَاخْتِلَاف الْقِرَاءَة فِيهِ، وَالْفرق بَين الْمَيِّت وَالْمَيِّت {ذَلِكُم الله فَأنى تؤفكون} أَي تصرفون.(2/128)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
قَوْله - تَعَالَى -: {فالق الإصباح} مَعْنَاهُ: أَنه يسْتَخْرج الصُّبْح من اللَّيْل، والإصباح: مصدر، وَهُوَ بِمَعْنى: الصُّبْح هَاهُنَا، أَي: فالق الصُّبْح، وَقَرَأَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: " فلق الإصباح " وَقَرَأَ الْحسن: " فالق الإصباح " - بِنصب الْقَاف - وهما فِي الشواذ.
{وَجعل اللَّيْل سكنا} أَي: يسكن فِيهِ، وَيقْرَأ: " وَجعل اللَّيْل سكنا "، أَي: جعل الله اللَّيْل سكنا {وَالشَّمْس وَالْقَمَر حسبانا} أَي: بِحِسَاب عُلُوم، والحسبان: هُوَ الْحساب هَاهُنَا بِمَعْنى أَنَّهُمَا يدوران بِحِسَاب مَعْلُوم مُقَدّر. وَحكى مَنْصُور بن(2/128)
{سكنا وَالشَّمْس وَالْقَمَر حسبانا ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم (96) وَهُوَ الَّذِي جعل لكم النُّجُوم لتهتدوا بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر قد فصلنا الْآيَات لقوم يعلمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أنشأكم من نفس وَاحِدَة فمستقر ومستودع قد فصلنا الْآيَات لقوم يفقهُونَ (98) الْمُعْتَمِر - وَهُوَ الثِّقَة من رُوَاة النَّخعِيّ - عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: يجوز أَن يتَعَلَّم الْإِنْسَان من النُّجُوم بِقدر مَا يعرف منَازِل الْقَمَر، وسير الْكَوَاكِب لمعرف الْقبْلَة وأوقات الصَّلَاة {ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} .(2/129)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي جعل لكم النُّجُوم لتهتدوا بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر} هَذِه إِحْدَى فَوَائِد النُّجُوم، وَالله - تَعَالَى - خلق النُّجُوم لفوائد: مِنْهَا تَزْيِين السَّمَاء، كَمَا قَالَ - عز وَعلا -: {وزينا السَّمَاء دينا بمصابيح} وَمِنْهَا رمى الشَّيَاطِين بهَا كَمَا قَالَ: {وجعلناهم رجوما للشياطين} وَمِنْهَا الاهتداء فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر كَمَا قَالَ هَاهُنَا.
وَحكى أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس عَن بعض التَّابِعين أَنه أَرَادَ بالنجوم هَاهُنَا: الصَّحَابَة، يَهْتَدِي بهم فِي ظلمات الشّرك، وَهَذَا مثل قَوْله: " أَصْحَابِي [كَالنُّجُومِ] بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ "، {قد فصلنا الْآيَات لقوم يعلمُونَ} .(2/129)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي أنشأكم من نفس وَاحِدَة} يَعْنِي: آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - {فمستقر ومستودع} قَالَ عَطاء، وَمُجاهد: أَرَادَ بالمستقر: أَرْحَام الْأُمَّهَات، وبالمستودع: أصلاب الْآبَاء، وَحكى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا، ويروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ - على عَكسه -: المستقر: أصلاب الْآبَاء، والمستودع: أَرْحَام(2/129)
{وَهُوَ الَّذِي أنزل من السَّمَاء مَاء فأخرجنا بِهِ نَبَات كل شَيْء فأخرجنا مِنْهُ خضرًا نخرج مِنْهُ حبا متراكبا وَمن النّخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان} الْأُمَّهَات، وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: المستقر: أَرْحَام الْأُمَّهَات، والمستودع: الْقُبُور، وَفِيه قَول ثَالِث: أَن المُرَاد بالمستقر الدُّنْيَا والمستودع: الْآخِرَة، وَيقْرَأ: " فمستقر " بِكَسْر الْقَاف، وَتَقْدِيره: فمنكم مُسْتَقر، وَمِنْه مستودع {قد فصلنا الْآيَات لقوم يفقهُونَ} .(2/130)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي أنزل من السَّمَاء مَاء فأخرجنا بِهِ نَبَات كل شَيْء، فأخرجنا مِنْهُ خضرًا} هُوَ الْغُصْن الطري {نخرج مِنْهُ حبا متراكبا} أَي: متراكما بعضه على بعض {وَمن النّخل من طلعها قنوان دانية} الطّلع: مَا يخرج من شجر النّخل، والقنوان: العذوق، وَاحِدهَا: قنو، والعذق: أصل الشَّجَرَة، والعذق: الكباسة، والعذق والقنو وَاحِد، وَقَالَ الشَّاعِر:
(أثيث كقنو النَّخْلَة المتعثكل ... )
وَقَالَ أَيْضا:
(فأثت أعاليه (ودقت) أُصُوله
(يمِيل بِهِ قنو) من الْبُسْر أحمرا)
وَأما " الدانية " قَالَ الْبَراء بن عَازِب: {قنوان دانية} أَي: قريبَة المتناول، وَفِيه حذف وَتَقْدِيره: قنوان دانية وَغير دانية أَي: قريبَة، المتناول وبعيدة المتناول، فَحذف أَحدهمَا اختصارا؛ لسبقه إِلَى الأفهام، وَمثله قَوْله: {سرابيل تقيكم الْحر} وَتَقْدِيره: تقيكم الْحر وَالْبرد، قَوْله: {وجنات من أعناب} يقْرَأ بِكَسْر التَّاء، ورفعها {وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان مشتبها وَغير متشابه} أَي: مشتبها يشبه بعضه بَعْضًا فِي الْوَرق، وَغير متشابه فِي الثَّمر والطعم، وَهَكَذَا يكون الزَّيْتُون مَعَ الرُّمَّان، فَإِن ورق الزَّيْتُون يشبه ورق الرُّمَّان، وَقيل: تكون أوراقه إِلَى أصل الشَّجَرَة كأوراق الرُّمَّان، ثمَّ يُخَالف(2/130)
{مشتبها وَغير تشابه انْظُرُوا إِلَى ثمره إِذا أثمر وينعه إِن فِي ذَلِكُم لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (99) وَجعلُوا لله شُرَكَاء الْجِنّ وخلقهم وخرقوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَات بِغَيْر علم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يصفونَ (100) بديع السَّمَوَات وَالْأَرْض أَنى يكون لَهُ ولد وَلم تكن لَهُ صَاحِبَة وَخلق كل شَيْء وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم (101) ذَلِكُم الله ربكُم لَا إِلَه إِلَّا هُوَ خَالق} الرُّمَّان فِي الطّعْم، فَهَذَا معنى قَوْله: {مشتبها وَغير متشابه} ، {انْظُرُوا إِلَى ثمره إِذا أثمر وينعه} أَي: فِي نضجه، وَمِنْه قَول الْحجَّاج حَيْثُ خطب، وَقَالَ: إِنِّي أرى رُءُوسًا قد أينعت، وآن قطافها، وَأَنا وَالله صَاحبهَا، وَرَأى دِمَاء ترقرق بَين اللحى والعمائم {إِن فِي ذَلِكُم لآيَات لقوم يُؤمنُونَ} .(2/131)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَجعلُوا لله شُرَكَاء الْجِنّ} وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله من سروات الْجِنّ {وخلقهم} قيل: إِن الْآيَة رَاجِعَة إِلَى الْجِنّ، وَقيل: رَاجِعَة إِلَى الْكفَّار يَعْنِي: أَنهم يَقُولُونَ ذَلِك {وخلقهم} وَقَرَأَ يحيى بن يعمر: " وخلقهم " بجزم اللَّام، وَهُوَ فِي الشواذ.
{وخرقوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَات بِغَيْر علم} يقْرَأ مخففا ومشددا والخرق: الاختلاق، والتخريق: التكثير مِنْهُ، يَعْنِي: واختلقوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَات، وَذَلِكَ مثل قَول الْيَهُود: عُزَيْر ابْن الله، وَمثل قَول النَّصَارَى: الْمَسِيح ابْن الله، وَمثل قَول بَعضهم: الْمَلَائِكَة بَنَات الله {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يصفونَ} .(2/131)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
قَوْله - تَعَالَى -: {بديع السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: مبدع السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَهُوَ الْخَالِق لَا على مِثَال سبق، وَمِنْه المبتدعة، وَلَا يكون الْوَلَد إِلَّا من الصاحبة؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {أَنى يكون لَهُ ولد وَلم يكن لَهُ صَاحِبَة وَخلق كل شَيْء} وَفِيه أَيْضا دَلِيل على أَن لَا ولد لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ خلق كل شَيْء؛ لم يصلح شَيْء أَن يكون ولد لَهُ؛ إِذْ الْمَخْلُوق لَا يصلح ولدا للخالق؛ فَإِن ولد كل أحد يكون من جنسه {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} .(2/131)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
قَوْله - تَعَالَى -: {ذَلِكُم الله ربكُم لَا إِلَه إِلَّا هُوَ خَالق كل شَيْء} أكد مَا سبق(2/131)
{كل شَيْء فاعبدوه وَهُوَ على كل شَيْء وَكيل (102) لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك} ذكره من نعت الوحدانية {فاعبدوه} أَي: فأطيعوه {وَهُوَ على كل شَيْء وَكيل} قيل: هُوَ الْكَفِيل بالأرزاق، وَقيل: الْوَكِيل هَاهُنَا بِمَعْنى: الْقَائِم بِخلق كل شَيْء وتدبيره.(2/132)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
قَوْله - تَعَالَى 0: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار} وَاسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة من يعْتَقد نفي الرُّؤْيَة، قَالُوا: لما (تمدح) بِأَنَّهُ لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار؛ فمدحه يكون على الْأَبَد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَاعْلَم أَن الرُّؤْيَة حق على مَذْهَب أهل السّنة، وَقد ورد بِهِ الْقُرْآن وَالسّنة.
قَالَ الله - تَعَالَى -: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} وَقَالَ: {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون} .
وَقَالَ: {فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه} وَنَحْو هَذَا، وروى جرير بن عبد الله البَجلِيّ، وَغَيره بروايات صَحِيحَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر لَيْسَ دونه سَحَاب، لَا تضَامون فِي رُؤْيَته " ويروون: " لَا تضَارونَ فِي رُؤْيَته ".
فَأَما قَوْله - تَعَالَى -: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} فالإدراك غير الرُّؤْيَة؛ لِأَن الْإِدْرَاك: هُوَ الْوُقُوف على كنه الشَّيْء وَحَقِيقَته، والرؤية: هِيَ المعاينة، وَقد تكون الرُّؤْيَة بِلَا إِدْرَاك، قَالَ الله - تَعَالَى - فِي قصَّة مُوسَى: {فَلَمَّا ترآء الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَاب مُوسَى إِنَّا لمدركون قَالَ كلا} فنفى الْإِدْرَاك مَعَ إِثْبَات الرُّؤْيَة، وَإِذا كَانَ الْإِدْرَاك غير الرُّؤْيَة، فَالله - تَعَالَى - يجوز أَن يرى، وَلَكِن لَا يدْرك كنهه؛ إِذْ لَا كنه لَهُ حَتَّى يدْرك؛ وَهَذَا(2/132)
{الْأَبْصَار وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير (103) قد جَاءَكُم بصائر من ربكُم فَمن أبْصر فلنفسه وَمن عمي فعلَيْهَا وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ (104) وَكَذَلِكَ نصرف الْآيَات وليقولوا درست} كَمَا انه يعلم وَيعرف وَلَا يحاط بِهِ، كَمَا قَالَ: {وَلَا يحيطون بِهِ علما} فنفى الْإِحَاطَة مَعَ ثُبُوت الْعلم، وَقَالَ ابْن عَبَّاس - حَكَاهُ مقَاتل عَنهُ، وَالْأول قَول الزّجاج -: معنى قَوْله: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا، هُوَ يرى الْخلق، وَلَا يرَاهُ الْخلق فِي الدُّنْيَا بِدَلِيل قَوْله - تَعَالَى -: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} فَكَمَا أَثْبَتَت الرُّؤْيَة بِتِلْكَ الْآيَة فِي الْآخِرَة؛ دلّ أَن المُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة الْإِدْرَاك فِي الدُّنْيَا؛ ليَكُون جمعا بَين الْآيَتَيْنِ {وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير} اللَّطِيف: موصل الشَّيْء باللين والرفق، وَيُقَال فِي الدُّعَاء: " رب الطف بِي " أَي: أوصل إِلَيّ الرِّفْق، وَقيل: مَعْنَاهُ: وَهُوَ اللَّطِيف بأوليائه وعباده الْخَبِير بهم.(2/133)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
قَوْله - تَعَالَى -: {قد جَاءَكُم بصائر من ربكُم} البصائر: الْبَينَات {فَمن أبْصر فلنفسه} يَعْنِي: نفع بَصَره لَهُ {وَمن عمي فعلَيْهَا} أَي: وبال الْعَمى عَلَيْهَا {وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ} أَي: مَا أمرت أَن ألازمكم حَتَّى تسلموا لَا محَالة، قيل: هَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِآيَة السَّيْف.(2/133)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ نصرف الْآيَات} أَي: نفصل الْآيَات، مرّة هَكَذَا، وَمرَّة هَكَذَا {وليقولوا درست} قيل: هَذِه " لَام الْعَاقِبَة " أَي: عَاقِبَة أَمرهم أَن يَقُولُوا: درست، وَهَذَا مثل قَوْله - تَعَالَى -: {فالتقطه آل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا} وَمَعْلُوم أَنهم لم يلتقطوه لهَذَا، وَلَكِن أَرَادَ أَن عَاقِبَة أمره مَعَهم أَن كَانَ عدوا لَهُم؛ فيسمون ذَلِك لَام الْعَاقِبَة، كَذَلِك هَا هُنَا، وَقَوله: {درست} يقْرَأ على وُجُوه: " درست " أَي: تعلمت من غَيْرك، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه تعلم أَخْبَار الْقُرُون الْمَاضِيَة من جبر، ويسار، وَكَانَ عَبْدَيْنِ سبيا من الرّوم، وَيقْرَأ " دارست " أَي تاليت وقاربت، وَهُوَ(2/133)
{ولنبينه لقوم يعلمُونَ (105) اتبع مَا أُوحِي إِلَيْك من رَبك لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأعْرض عَن الْمُشْركين (106) وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا وَمَا جعلناك عَلَيْهِم حفيظا وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل (107) وَلَا تسبوا الَّذين يدعونَ من دون الله فيسبوا الله عدوا بِغَيْر علم كَذَلِك} من المدارسة بَين اثْنَيْنِ يدرس أَحدهمَا على الآخر، وَقَرَأَ ابْن عَامر " درست " أَي: تِلْكَ أَخْبَار قد درست ومحيت، وَيقْرَأ فِي الشواذ " وليقولوا درست " بِمَعْنى: محيت، قَرَأَهُ قَتَادَة، وَفِي حرف أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود " وليقولوا درس " يَعْنِي: درس مُحَمَّد، وَهُوَ بِمَعْنى: تعلم، كَمَا بَينا {ولنبينه لقوم يعلمُونَ} .(2/134)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)
قَوْله - تَعَالَى -: {اتبع مَا أُوحِي إِلَيْك من رَبك} يَعْنِي: الْقُرْآن {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأعْرض عَن الْمُشْركين} .(2/134)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا} وَهَذَا دَلِيل على الْقَدَرِيَّة {وَمَا جعلناك عَلَيْهِم حفيظا} قد بَينا مَعْنَاهُ {وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل} .(2/134)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
قَوْله: {وَلَا تسبوا الَّذين يدعونَ من دون الله فيسبوا الله عدوا بِغَيْر علم} وَيقْرَأ: " عدوا بِغَيْر علم " ومعناهما وَاحِد أَي: اعتداء بِغَيْر علم، وَسبب نزُول الْآيَة: أَن الْكفَّار كَانُوا يَقُولُونَ لرَسُول الله: ذرنا وَآلِهَتنَا؛ حَتَّى نذرك وَإِلَهك - وَكَانَ يذكر آلِهَتهم بالسوء - فَنزلت الْآيَة وروى: " أَن قوما من كفار قُرَيْش من رُؤَسَائِهِمْ جَاءُوا إِلَى أبي طَالب، وَقَالُوا: مر ابْن أَخِيك يذرنا وَآلِهَتنَا حَتَّى نَذره وإلهه، فَدَعَا رَسُول الله، وَقَالَ: إِن قَوْمك جَاءُوا يطْلبُونَ مِنْك النصفة، فَقَالَ: وماذا يُرِيدُونَ؟ فَقَالَ أَبُو طَالب: يَقُولُونَ: ذرنا وَآلِهَتنَا، ونذرك وآلهك؛ فَقَالَ رَسُول الله: هَل أَنْتُم معطي كلمة إِن أَنْتُم قُلْتُمُوهَا دَانَتْ لكم الْعَرَب، وَأَدت إِلَيْكُم الْعَجم الْجِزْيَة؟ فَقَالُوا: وَمَا [هِيَ] ؟ قَالَ: كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله. فنفروا، وَقَالُوا: {أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء(2/134)
{زينا لكل أمة عَمَلهم ثمَّ إِلَى رَبهم مرجعهم فينبئهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (108) وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَئِن جَاءَتْهُم آيَة ليُؤْمِنن بهَا قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله وَمَا يشعركم أَنَّهَا} عُجاب) " فَقَوله: {وَلَا تسبوا الَّذين يدعونَ من دون الله} وَإِن كَانَ ظَاهره للنَّهْي عَن سبّ الْأَصْنَام، وَلَكِن مَعْنَاهُ: النَّهْي عَن سبّ الله - تَعَالَى - حَتَّى لَا تسب اللهتهم، فيسبوا الله. وَهَذَا مثل قَوْله: " لَا يسب أحدكُم وَالِديهِ؟ قيل: يَا رَسُول الله، وَمن يسب وَالِديهِ؛ قَالَ: يسب وَالِدي غَيره؛ فيسب والداه " {كَذَلِك زينا لكل أمة عَمَلهم} للْمُؤْمِنين إِيمَانهم وللكافرين كفرهم {ثمَّ إِلَى رَبهم مرجعهم فينبئهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} .(2/135)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
قَوْله - تَعَالَى -: {وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَئِن جَاءَتْهُم آيَة ليُؤْمِنن بهَا} كَانُوا يطْلبُونَ الْآيَات، ويحلفون أَنَّهَا لَو جَاءَت آمنُوا بهَا.
{قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله} أَي: الْآيَات (بيَدي) الله، وَالله قَادر على إنزالها.
{وَمَا يشعركم أَنَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ} فَقَوله: " أَنَّهَا " يقْرَأ على وَجْهَيْن: بِكَسْر الْهمزَة، وَفتحهَا؛ فَمن قَرَأَ: " إِنَّهَا " فعلى الإبتداء، وَاخْتلفُوا فِي معنى قَوْله: {وَمَا يشعركم} أَنه خطاب لمن؟ قَالَ بَعضهم: هُوَ خطاب للْكفَّار، وَمَعْنَاهُ: وَمَا يشعركم أَيهَا الْكفَّار أَنَّهَا لَو جَاءَت آمنتم؟ ثمَّ ابْتَدَأَ، فَقَالَ: إِنَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ.
وَقيل: إِنَّه خطاب للْمُؤْمِنين، وَمَعْنَاهُ: وَمَا يدريكم أَنَّهَا لَو جَاءَت آمنُوا بهَا، إِذْ كَانَ(2/135)
{إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ (109) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة ونزرهم فِي طغيانهم يعمهون (110) وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى} الْمُؤْمِنُونَ يسْأَلُون رَسُول الله أَن يَدْعُو الله - تَعَالَى - حَتَّى يُرِيهم آيَة؛ كي يُؤمنُوا، فَقَالَ: وَمَا يشعركم أَنَّهَا لَو جَاءَت آمنُوا بهَا؟ ثمَّ ابْتَدَأَ، وَقَالَ: إِنَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ، وَهَذَا فِي قوم مخصوصون علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ.
وَأما من قَرَأَ " أَنَّهَا " بِفَتْح الْهمزَة؛ فَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، قَالَ الكسئي: لَا صلَة هَاهُنَا وَتَقْدِيره: وَمَا يشعركم أَنَّهَا إِذا جَاءَت يُؤمنُونَ، وَقيل: " أَنَّهَا " بِمَعْنى: " لَعَلَّهَا " كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(أريني جوادا مَاتَ هزلا (فإنني)
أرى مَا [تَرين] أَو بَخِيلًا مخلدا)
وَمَعْنَاهُ: لعَلي أرى مَا تريني، كَذَلِك هَذَا، وَمَعْنَاهُ: وَمَا يشعركم لَعَلَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ، وَقيل: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: وَمَا يشعركم أَنَّهَا إِذا جَاءَت يُؤمنُونَ أَو لَا يُؤمنُونَ.(2/136)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
قَوْله - تَعَالَى -: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} أَي: تقلب أفئدتهم كَيْلا يدركوا، وأبصارهم؛ كَيْلا يبصوا؛ فَلَا يُؤمنُونَ {كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة ونذرهم فِي طغيانهم يعمهون} .(2/136)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى} نزلت الْآيَة على مَا اقترحوا من الْآيَات، فَكَانُوا قد اقترحوا هَذَا كُله، قَالُوا لن نؤمن بك حَتَّى تنزل علينا كتابا من السَّمَاء يحملهُ أَرْبَعُونَ من الْمَلَائِكَة، وسألوا إحْيَاء الْمَوْتَى، وَقَالُوا: ادْع الله حَتَّى يحْشر قصيا - يعنون قصي بن كلاب - فَإِنَّهُ شيخ مبارك؛ حَتَّى نشْهد لَك بِالنُّبُوَّةِ، فَنزلت الْآيَة {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا} قَالَ مُجَاهِد: الْقبل. جمع الْقَبِيل، وَمَعْنَاهُ: فوجا فوجا، وَقَالَ غَيره: قبلا(2/136)
{وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله وَلَكِن أَكْثَرهم يجهلون (111) وَكَذَلِكَ جعلنَا لكل نَبِي عدوا شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ يوحي بَعضهم إِلَى بعض زخرف القَوْل غرُورًا وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ فذرهم وَمَا يفترون (112) ولتصغى إِلَيْهِ} أَي: مُقَابلَة، وَيقْرَأ: " قبلا " بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء أَي: عيَانًا {مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله وَلَكِن أَكْثَرهم يجهلون} وَفِي الْآيَة دَلِيل وَاضح على أهل الْقدر.(2/137)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ جعلنَا لكل نَبِي عدوا} أَي: أَعدَاء، والعدو: اسْم للْوَاحِد وَالْجمع {شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ} وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " شياطين الْجِنّ وَالْإِنْس " والشيطان كل عَاتٍ متمرد، سَوَاء كَانَ من الْإِنْس أَو من الْجِنّ، وروى أَن النَّبِي قَالَ لأبي ذَر: " تعوذ بِاللَّه من شياطين الْإِنْس. قَالَ أَبُو ذَر: قلت: وَمن الْإِنْس شياطين؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام - نعم، وتلا هَذِه الْآيَة ".
وَحكى عَن مَالك بن دِينَار أَنه قَالَ: خوفي من شَيْطَان الْإِنْس أكبر من خوفي من شَيْطَان الْجِنّ؛ لِأَن الجني يذهب إِذا ذكرت الله، (والإنسي) يجرني إِلَى الْمعاصِي.
{يوحي بَعضهم إِلَى بعض} أَي: يلقِي بَعضهم إِلَى بعض.
{زخرف القَوْل غرُورًا} زخرف القَوْل: هُوَ قَول مزين لَا معنى تَحْتَهُ، والغرور: القَوْل الْبَاطِل {وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ} أَي: مَا أَلْقَت الشَّيَاطِين الوسوسة فِي الْقُلُوب. {فذرهم وَمَا يفترون} .(2/137)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
قَوْله - تَعَالَى -: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَة الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} وَهَذَا يرجع إِلَى مَا سبق من قَوْله: {زينا لكل أمة عَمَلهم} {لتصغى إِلَيْهِ} وَالْهَاء كِنَايَة عَن زخرف القَوْل؛ يَعْنِي: لتميل إِلَيْهِ قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ الْآخِرَة، وَقيل: اللَّام فِيهِ لَام الْعَاقِبَة، كَمَا بَينا.(2/137)
{أَفْئِدَة الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وليرضوه وليقترفوا مَا هم مقترفون (113) أفغير الله أَبْتَغِي حكما وَهُوَ الَّذِي أنزل إِلَيْكُم الْكتاب مفصلا وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعلمُونَ أَنه منزل من رَبك بِالْحَقِّ فَلَا تكونن من الممترين (114) وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلا لَا مبدل لكلماته وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (115) وَإِن تُطِع أَكثر من فِي الأَرْض يضلوك عَن}
{وليرضوه وليقترفوا مَا هم مقترفون} قَالَ الزّجاج: أَي: ليعلموا من الذُّنُوب مَا كَانُوا عاملين.(2/138)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
قَوْله - تَعَالَى -: {أفغير الله أَبْتَغِي حكما} لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ للنَّبِي أجل بَيْننَا وَبَيْنك حكما؛ وأجابهم بقوله: أفغير الله ابْتغِي حكما؟ ! .
{وَهُوَ الَّذِي أنزل إِلَيْكُم الْكتاب مفصلا} يَعْنِي: خمْسا خمْسا، وَعشرا عشرا، وَهَذَا مثل قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ الْقُرْآن جملَة وَاحِدَة كَذَلِك لنثبت بِهِ فُؤَادك ورتلناه ترتيلا} أَي: فصلناه؛ لنثبت بِهِ فُؤَادك.
{وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب} يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى {يعلمُونَ أَنه منزل من رَبك بِالْحَقِّ} يَعْنِي: الْقُرْآن {فَلَا تكونن من الممترين}(2/138)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
{وتمت كلمة رَبك} يَعْنِي بِالْكَلِمَةِ: أمره وَنَهْيه، ووعده ووعيده، وَالْأَحْكَام والآيات. {صدقا وعدلا} صدقا فِي الْوَعْد والوعيد، وعدلا فِي الْأَمر وَالنَّهْي.
قَالَ قَتَادَة: صدقا فِيمَا وعد، وعدلا فِيمَا حكم {لَا مبدل لكلماته وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} .(2/138)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِن تُطِع أَكثر من فِي الأَرْض يضلوك عَن سَبِيل الله} وَذَلِكَ أَن أَكثر أهل الأَرْض كَانُوا فِي الضَّلَالَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: إِن تطعهم فِيمَا يجادلون من تَحْلِيل الْميتَة وأكلها {يضلوك عَن سَبِيل الله} على مَا سَيَأْتِي.
{إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن هم إِلَّا يرخصون} أَي: يكذبُون.(2/138)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِن رَبك هُوَ أعلم من يضل عَن سَبيله} قيل: هَذَا فِي عَمْرو(2/138)
{سَبِيل الله إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن هم إِلَّا يخرصون (116) إِن رَبك هُوَ أعلم من يضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين (117) فَكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ إِن كُنْتُم بآياته مُؤمنين (118) وَمَا لكم أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم إِلَّا مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم إِن رَبك هُوَ أعلم بالمعتدين} ابْن لحي، وَهُوَ أول من غير دين إِبْرَاهِيم {وَهُوَ أعلم بالمهتدين} .(2/139)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ إِن كُنْتُم بآياته مُؤمنين} أَي: كلوا مَا ذبح على اسْم الله(2/139)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
{وَمَا لكم أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ} وَذَلِكَ أَن الْمُشْركين كَانُوا يجادلون الْمُسلمين، وَيَقُولُونَ: إِنَّكُم تَأْكُلُونَ مِمَّا تقتلون، وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتله الله، وَكَانُوا يَدعُونَهُمْ إِلَى أكل الْميتَة واستحلالها؛ فَنزلت هَذِه الْآيَات ".
{وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم} هُوَ تَفْصِيل مَا عد من الْمُحرمَات: من الْميتَة، وَالدَّم، وَلحم الْخِنْزِير، وَنَحْوه فِي الْقُرْآن، وَقَرَأَ عَطِيَّة: " وَقد فصل لكم " مخففا؛ أَي: ظهر لكم، وَهُوَ مثل مَا يقْرَأ فِي قَوْله: {أحكمت آيَاته ثمَّ فصلت} مخففا {وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم إِلَّا مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم إِن رَبك هُوَ أعلم بالمعتدين} .(2/139)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
قَوْله - تَعَالَى -: {وذروا ظَاهر الْإِثْم وباطنه} قيل: ظَاهر الْإِثْم: هُوَ الزِّنَا علنا، وباطنه هُوَ الزِّنَا سرا، وَكَانَ أَشْرَاف الْعَرَب يتكرمون من الزِّنَا عَلَانيَة ويزنون سرا، (فالآية) فِي النَّهْي عَنْهُمَا جَمِيعًا، قَالَ قَتَادَة: أَرَادَ بِهِ: النَّهْي عَن كل الْمعاصِي سرا وجهرا، وَفِي الْآيَة سوى هَذَا أَقْوَال ثَلَاثَة:
أَحدهَا: أَن ظَاهر الْإِثْم هُوَ: نِكَاح الْمَحَارِم، وباطنه: الزِّنَا.
وَالثَّانِي: أَن ظَاهر الْإِثْم: كشف الْعَوْرَة، وباطنه: الزِّنَا.
وَالثَّالِث: أَن ظَاهر الْإِثْم: هُوَ الَّذِي تقترفه الْجَوَارِح، وباطنه الَّذِي يعْقد الْقلب(2/139)
( {119) وذروا ظَاهر الْإِثْم وباطنه إِن الَّذين يَكْسِبُونَ الْإِثْم سيجزون بِمَا كَانُوا يقترفون (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ وَإنَّهُ لفسق وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم وَإِن أطعتموهم إِنَّكُم لمشركون (121) أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه} عَلَيْهِ، كالمصر على الذَّنب القاصد لَهُ.
{إِن الَّذين يَكْسِبُونَ الْإِثْم سيجزون بِمَا كَانُوا يقترفون} أَي: جَزَاء مَا كَانُوا يقترفون، والإقتراف: اكْتِسَاب الذَّنب.(2/140)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
قَوْله {وَلَا تَأْكُلُوا مَا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة فِي الميتات، وَمَا فِي مَعْنَاهَا من المنخنقة وَغَيرهَا، وَقَالَ عَطاء: الْآيَة فِي الذَّبَائِح الَّتِي كَانُوا يذبحونها على اسْم الْأَصْنَام لَا على اسْم الله - تَعَالَى -.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْآيَة: فِي مَتْرُوك التَّسْمِيَة كَمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِر، ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي مَتْرُوك التَّسْمِيَة، قَالَ الشّعبِيّ، وَابْن سِيرِين: لَا تحل، سَوَاء ترك التَّسْمِيَة عَامِدًا أَو نَاسِيا، وَقَالَ عَطاء، وَسَعِيد بن جُبَير: إِن ترك التَّسْمِيَة عَامِدًا لَا تحل، وَإِن تَركهَا نَاسِيا تحل، وَالْأول قَول مَالك، وَالصَّحِيح أَن الْآيَة فِي الميتات؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَإنَّهُ لفسق} وَإِنَّمَا يفسق أكل الْميتَة.
وَقَالَ: {وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم} ومجادلتهم كَانَت فِي أكل الْميتَة؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّكُم تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلْتُمُوهُ، وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتله الله - تَعَالَى فَنزلت الْآيَة.
{وَإِن أطعتموهم إِنَّكُم لمشركون} يَعْنِي: باستحلال الْميتَة، قَالَ الزّجاج: فِي هَذَا دَلِيل على أَن استحلال الْحَرَام، وَتَحْرِيم الْحَلَال يُوجب الْكفْر، وَفِي الْآثَار: " أَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ، فَقيل لَهُ: إِن الْمُخْتَار بن أبي عبيد يزْعم أَنه يُوحى إِلَيْهِ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: صدق؛ فَإِن الله - تَعَالَى - يَقُول: {وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} .
وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " يخرج من ثَقِيف رجلَانِ: كَذَّاب، ومبير مهلك "(2/140)
{وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا كَذَلِك زين للْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يعْملُونَ (122) كَذَلِك جعلنَا فِي كل قَرْيَة أكَابِر مجرميها ليمكروا} فالكذاب: هُوَ الْمُخْتَار، والمبير: هُوَ الْحجَّاج.(2/141)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
قَوْله - تَعَالَى -: {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه} قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: من كَانَ ضَالًّا فهديناه {وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس} أَي: نور الْإِسْلَام، يعِيش بِهِ بَين الْمُسلمين {كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا} الْمثل صلَة هَاهُنَا، وَتَقْدِيره: كمن هُوَ فِي الظُّلُمَات، أَي: فِي ظلمات الشّرك لَا يخرج مِنْهَا أبدا، قَالَ الضَّحَّاك: هَذَا فِي عمر وَأبي جهل، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: فِي عمار بن يَاسر وَأبي جهل، وَقيل: هُوَ فِي حَمْزَة وَأبي جهل.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن مَعْنَاهُ: أَو من كَانَ مَيتا بِالْجَهْلِ؛ فأحييناه بِالْعلمِ، وكل جَاهِل ميت، وكل عَالم حَيّ، قَالَ الشَّاعِر:
(وَفِي الْجَهْل قبل الْمَوْت موت لأَهله ... وأجسامهم قبل الْقُبُور قُبُور)
(وَإِن امْرأ لم يحي بِالْعلمِ ميت ... وَلَيْسَ لَهُ قبل النشور نشور)
{كَذَلِك زين للْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يعْملُونَ} .(2/141)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ جعلنَا فِي كل قَرْيَة أكَابِر مجرميها} تَقْدِيره: جعلنَا فِي كل قَرْيَة مجرميها أكَابِر، وَمَعْنَاهُ: إِنَّا كَمَا جعلنَا مجرمي مَكَّة أكَابِر، فَكَذَلِك جعلنَا فِي كل قَرْيَة مجرميها أكَابِر، وَهَذِه سنة الله فِي كل قَرْيَة، وَمن سنَنه: أَنه جعل ضعفاءهم أَتبَاع الْأَنْبِيَاء، كَمَا قَالَ فِي قصَّة نوح: {واتبعك الأرذلون} وروى: " أَن هِرقل سَأَلَ أَبَا سُفْيَان بن حَرْب - حِين قدم عَلَيْهِ - عَن حَال النَّبِي، فَكَانَ فِيمَا سَأَلَهُ عَنهُ أَنه قَالَ: من أَتْبَاعه ضُعَفَاؤُهُمْ أم الْعلية؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: بل ضُعَفَاؤُهُمْ؛ فَقَالَ هِرقل: هم أَتبَاع الْأَنْبِيَاء " وَفِي الْخَبَر قصَّة، وَهُوَ فِي الصَّحِيح.(2/141)
{فِيهَا وَمَا يمكرون إِلَّا بِأَنْفسِهِم وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذ جَاءَتْهُم آيَة قَالُوا لن نؤمن حَتَّى نؤتى مثل مَا أُوتِيَ رسل الله الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته سيصيب الَّذين أجرموا صغَار عِنْد الله وَعَذَاب شَدِيد بِمَا كَانُوا يمكرون (124) فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره}
{ليمكروا فِيهَا} وَكَانَ من مكر أهل مَكَّة أَنهم جعلُوا على كل طَرِيق من طرق مَكَّة أَرْبَعَة نفر؛ حَتَّى يَقُولُوا لكل من يقدم: [إياك] وَهَذَا الرجل فَإِنَّهُ كَاهِن سَاحر كَذَّاب {وَمَا يمكرون إِلَّا بِأَنْفسِهِم} أَي: وباله يرجع إِلَيْهِم {وَمَا يَشْعُرُونَ} .(2/142)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا جَاءَتْهُم آيَة قَالُوا لن نؤمن حَتَّى نؤتى مثل مَا أُوتِيَ رسل الله} أَي: لَا نؤمن حَتَّى يُوحى إِلَيْنَا كَمَا يُوحى إِلَيْهِ، وَينزل علينا جِبْرِيل كَمَا ينزل عَلَيْهِ، حَتَّى روى أَن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة قَالَ: إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يبْعَث نَبيا فَأَنا أولى بِالنُّبُوَّةِ؛ لِأَنِّي أَكثر مَالا، وأقدم سنا، وَكَذَا كَانَ يَقُول أكابرهم ورؤساؤهم؛ فَنزلت الْآيَة.
قَوْله - تَعَالَى -: {الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته} يَعْنِي: الله أعلم من أهل النُّبُوَّة، وَأَن مُحَمَّدًا أهل الرسَالَة، ولستم بِأَهْل الرسَالَة.
{سيصيب الَّذين أجرموا صغَار عِنْد الله} فِيهِ مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: قَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ: صغَار من عِنْد الله، و " من " مَحْذُوف.
قَالَ البصريون: " من " لَا تحذف وَمَعْنَاهُ: صغَار ثَابت دَائِم عِنْد الله {وَعَذَاب شَدِيد بِمَا كَانُوا يمكرون} .(2/142)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ} .
أَي: يفتح قلبه حَتَّى يدْخل الْإِسْلَام {وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا} .
وَيقْرَأ: حرجا - بِفَتْح الرَّاء - يَعْنِي: ذَا حرج، وَأما بِالْكَسْرِ فللمبالغة فِي الضّيق، وَعَن عمر أَنه قَالَ: سَأَلت أَعْرَابِيًا: مَا الحرجة عنْدكُمْ؟ فَقَالَ: شَجَرَة ملتفة لَا تصل إِلَيْهَا راعية وَلَا سَائِمَة، فعلى هَذَا معنى الْآيَة.(2/142)
{لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء كَذَلِك يَجْعَل الله الرجس على الَّذين لَا يُؤمنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاط رَبك مُسْتَقِيمًا قد فصلنا}
{يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا} بِحَيْثُ لَا يصل إِلَيْهِ الْإِيمَان، وَلَا يدْخلهُ الْإِسْلَام {كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} يقْرَأ على وُجُوه: " يصعد " بتشديدين، وَمَعْنَاهُ يتَصَعَّد، وَكَذَا يقْرَأ فِي الشواذ، وَقُرِئَ: " يصاعد " بتَشْديد الصَّاد بِمَعْنى يتصاعد، وَقُرِئَ: " يصعد مخففا من الصعُود، وَمعنى الْكل وَاحِد.
وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ: كَأَنَّمَا يُكَلف الصعُود فَلَا يستطيعه، وأصل الصعُود: الْمَشَقَّة، وَهُوَ قَوْله - تَعَالَى - {سَأُرْهِقُهُ صعُودًا} أَي: عقبَة شاقة، وَمِنْه قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ -: مَا تَصعَّدَنِي شَيْء كَمَا تَصَعَّدَتْنِي خطْبَة النِّكَاح، أَي: مَا شقّ عَليّ شَيْء كَمَا (شقَّتْ) عَليّ خطْبَة النِّكَاح.
وَالْقَوْل الثَّانِي: معنى قَوْله: {كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} نبوة من الْحِكْمَة، وفرارا من الْقُرْآن.
(كَذَلِك يَجْعَل الله الرجس على الَّذين لَا يُؤمنُونَ) الرجس: هُوَ النتن، وَالرجز: الْعَذَاب، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي كَانَ إِذا دخل الْخَلَاء يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الرجس النَّجس الْخَبيث المخبث من الشَّيْطَان الرَّجِيم " وَقيل: اللَّعْنَة فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة.(2/143)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَهَذَا صِرَاط رَبك مُسْتَقِيمًا} يَعْنِي: الْإِسْلَام {قد فصلنا الْآيَات(2/143)
{الْآيَات لقوم يذكرُونَ (126) لَهُم دَار السَّلَام عِنْد رَبهم وَهُوَ وليهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (127) وَيَوْم يحشرهم جَمِيعًا مَا معشر الْجِنّ قد استكثرتم من الْإِنْس وَقَالَ أولياؤهم من الْإِنْس رَبنَا استمتع بَعْضنَا بِبَعْض وبلغنا أجلنا الَّذِي أجلت لنا قَالَ النَّار مثواكم خَالِدين} لقوم يذكرُونَ) .(2/144)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
{لَهُم دَار السَّلَام عِنْد رَبهم} السَّلَام: هُوَ الله - تَعَالَى - وَدَار السَّلَام الْجنَّة، قَالَ الزّجاج: أَرَادَ بِالسَّلَامِ: السَّلامَة، أَي: لَهُم دَار السَّلامَة من الْآفَات.
{وَهُوَ وليهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} .(2/144)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
قَوْله - تَعَالَى -: (وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا) أما حشر الْجِنّ وَالْإِنْس: حق يجب الْإِيمَان بِهِ {يَا معشر الْجِنّ قد استكثرتم من الْإِنْس} يَعْنِي: استكثرتم من الْإِنْس بالإغواء والإضلال {وَقَالَ أولياؤهم من الْإِنْس} يَعْنِي: الْكفَّار وأولياء الشَّيَاطِين يَقُولُونَ يَوْم الْقِيَامَة: {رَبنَا استمتع بَعْضنَا بِبَعْض} يَعْنِي: استمتع الْجِنّ بالإنس، وَالْإِنْس بالجن، قيل: استمتاع الْجِنّ بالإنس: تزيينهم لَهُم، وتسهيلهم طَرِيق الغواية عَلَيْهِم.
وَأما [استمتاع] الْإِنْس بالجن: طاعتهم، وَالْجُمْلَة أَن استمتاع الْجِنّ: بِالْأَمر واستمتاع الْإِنْس: بِالْقبُولِ، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن الرجل من الْعَرَب كَانَ إِذا نزل بواد يَقُول: أعوذ بِسَيِّد هَذَا الْوَادي من سُفَهَاء قومه، ثمَّ يبيت آمنا من تخبيل الْجِنّ، وَهَذَا استمتاع الْإِنْس بالجن، وَأما استمتاع الْجِنّ بالإنس: أَن ذَلِك الجني الَّذِي تعوذ بِهِ الْإِنْسِي يَقُول لِقَوْمِهِ: إِن الْإِنْس يتعوذون بِنَا؛ (فَنحْن سَادَات الْجِنّ وَالْإِنْس) ، وَهَذَا مُبين فِي قَوْله - تَعَالَى - فِي سُورَة الْجِنّ {وَأَنه كَانَ رجال من الْإِنْس يعوذون بِرِجَال من الْجِنّ فزادوهم رهقا} أَي: نخوة وتكبرا.
{وبلغنا أجلنا الَّذِي أجلت لنا} يَعْنِي: أجل الْقِيَامَة.
{قَالَ النَّار مثواكم} يَعْنِي: يَقُول الله: النَّار مثواكم {خَالِدين فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ(2/144)
{فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ الله إِن رَبك حَكِيم عليم (128) وَكَذَلِكَ نولي بعض الظَّالِمين بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل مِنْكُم يقصون عَلَيْكُم} الله) فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ أَن الْكَافرين خَالدُونَ فِي النَّار بأجمعهم، فَمَا هَذَا الِاسْتِثْنَاء؟
الْجَواب: قَالَ الْفراء: هُوَ مثل قَوْله: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} يَعْنِي: من الزِّيَادَة على مُدَّة دوَام السَّمَوَات وَالْأَرْض؛ فَهَذَا هُوَ المُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة أَيْضا، وَقيل: الِاسْتِثْنَاء فِي الْعَذَاب يَعْنِي: خَالِدين فِي نوع من الْعَذَاب إِلَّا مَا شَاءَ الله من سَائِر الْعَذَاب.
وَقيل: هُوَ اسْتثِْنَاء مُدَّة الْبَعْث والحساب، لَا يُعَذبُونَ فِي وَقت الْبَعْث والحساب {إِن رَبك حَكِيم عليم} .(2/145)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ نولي بعض الظَّالِمين بَعْضًا} يَعْنِي: يَجْعَل بَعضهم على إِثْر بعض فِي الْقِيَامَة إِلَى النَّار. وَقيل: هَذَا فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: نَأْخُذ من الظَّالِم بالظالم، وَذَلِكَ بتسليط بَعضهم على الْبَعْض {بِمَا كَانُوا [يَكْسِبُونَ] } أَي: جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ.(2/145)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل مِنْكُم} فَإِن قَالَ قَائِل: وَمن الْجِنّ رسل، كَمَا يكون من الْإِنْس؟
الْجَواب: قَالَ الضَّحَّاك: بلَى من الثقلَيْن رسل، كَمَا نطق بِهِ الْكتاب. وَقَالَ مُجَاهِد: الرُّسُل من الْإِنْس، وَأما الْجِنّ فَمنهمْ النّذر، كَمَا قَالَ الله - تَعَالَى -: {ولوا إِلَى قَومهمْ منذرين} فعلى هَذَا لِلْآيَةِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا أَن قَوْله: {رسل مِنْكُم} ينْصَرف إِلَى أحد الصِّنْفَيْنِ، وَهُوَ الْإِنْس، وَمثله قَوْله - تَعَالَى -: {يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} وَالْمرَاد: أحد الْبَحْرين، المالح دون العذب.(2/145)
{آياتي وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا قَالُوا شَهِدنَا على أَنْفُسنَا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين (130) ذَلِك أَن لم يكن رَبك مهلك الْقرى بظُلْم وَأَهْلهَا غافلون (131) وَلكُل دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا وَمَا رَبك بغافل عَمَّا يعْملُونَ (132) وَرَبك الْغَنِيّ ذُو الرَّحْمَة إِن يَشَأْ يذهبكم ويستخلف من بعدكم مَا يَشَاء كَمَا أنشأكم من ذُرِّيَّة قوم آخَرين (133) إِن مَا توعدون لآت وَمَا أَنْتُم بمعجزين (134) قل يَا}
وَالثَّانِي: أَن الرُّسُل من الصِّنْفَيْنِ، إِلَّا أَنه عبر بالرسل عَن النّذر من الْجِنّ بطرِيق الْمَعْنى؛ لِأَن النذير فِي معنى الرَّسُول.
{يقصون عَلَيْكُم آياتي وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا قَالُوا شَهِدنَا على أَنْفُسنَا} وَذَلِكَ حِين تنطق جوارحهم {وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا} هَذَا من قَول الله - تَعَالَى - اعْترض فِي - الْبَين - {وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين} .(2/146)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك أَن لم يكن رَبك مهلك الْقرى بظُلْم وَأَهْلهَا غافلون} يَعْنِي: ذَلِك من إرْسَال الرُّسُل وإنزال الْكتب؛ إِنَّمَا كَانَ لِأَن الله - تَعَالَى - لَا يهْلك قَرْيَة قبل بعث الرَّسُول إِلَيْهَا، وإنذارها بِالْوَحْي؛ وَذَلِكَ لِأَن الله - تَعَالَى - أجْرى سنته: أَن لَا يَأْخُذ أحدا الذَّنب إِلَّا بعد وجود الذَّنب، وَإِنَّمَا يكون مذنبا إِذا أَمر فَلم يأتمر، وَنهى فَلم ينْتَه، ودعي فَلم يجب.(2/146)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلكُل دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا} أَي: دَرَجَات فِي الْجَزَاء مِمَّا عمِلُوا {وَمَا رَبك بغافل} - أَي: بساه - {عَمَّا يعْملُونَ} .(2/146)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَرَبك الْغَنِيّ ذُو الرَّحْمَة إِن يَشَأْ يذهبكم ويستخلف من بعدكم مَا يَشَاء} يَعْنِي: إِن يَشَأْ يهلككم، ويستخلف [من] بعدكم من يَشَاء {كَمَا أنشأكم من ذُرِّيَّة قوم آخَرين} بِأَن (أهلكهم) وأنشأكم من بعدهمْ(2/146)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
{إِن مَا توعدون لآت} أَي: كل مَوْعُود كَائِن {وَمَا أَنْتُم بمعجزين} أَي: فائتين عَنهُ.(2/146)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
(قَوْله تَعَالَى) : {قل يَا قوم اعْمَلُوا على مكانتكم} يَعْنِي: على تمكنكم،(2/146)
{قوم اعْمَلُوا على مكانتكم إِنِّي عَامل فَسَوف تعلمُونَ من تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ (135) وَجعلُوا لله مِمَّا ذَرأ من الْحَرْث والأنعام نَصِيبا فَقَالُوا هَذَا لله بزعمهم وَهَذَا لشركائنا فَمَا كَانَ لشركائهم فَلَا يصل إِلَى الله وَمَا كَانَ لله فَهُوَ يصل إِلَى شركائهم سَاءَ مَا يحكمون (136) وَكَذَلِكَ زين لكثير من الْمُشْركين قتل أَوْلَادهم} وَقيل: على مَا أَنْتُم عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمر تهديد، كَقَوْلِه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} فَكَذَلِك قَوْله ( {اعْمَلُوا على مكانتكم إِنِّي عَامل} فَسَوف تعلمُونَ من تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار) أَي: من يكون لَهُ الْأَمر فِي الْعَاقِبَة {إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ} .(2/147)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَجعلُوا لله مِمَّا ذَرأ من الْحَرْث والأنعام نَصِيبا} وَكَانُوا يقسمون الْحَرْث، فيجعلون لله نَصِيبا، وللأصنام نَصِيبا، ويقسمون الْأَنْعَام، فيجعلون لله نَصِيبا، وللأصنام نَصِيبا، ثمَّ مَا جعلُوا لله، صرفوه للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين، وَمَا جعلُوا للأصنام أنفقوه على الْأَصْنَام، وعَلى خدم الْأَصْنَام؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {فَقَالُوا هَذَا لله بزعمهم وَهَذَا لشركائنا} فَأَما قَوْله: {فَمَا كَانَ لشركائهم فَلَا يصل إِلَى الله وَمَا كَانَ لله فَهُوَ يصل إِلَى شركائهم} معنى هَذَا: أَنهم كَانُوا إِذا قسموا الْحَرْث والأنعام كَمَا وَصفنَا، فَإِذا سقط مِمَّا جعلُوا لله من الْحَرْث شَيْء فِيمَا جَعَلُوهُ للأصنام تَرَكُوهُ، وَإِذا سقط شَيْء من نصيب الْأَصْنَام، فِيمَا جَعَلُوهُ لله ردُّوهُ إِلَى نصيب الْأَصْنَام، وَكَانَ إِذا هلك أَو انْتقصَ مِمَّا جعلُوا لله من الْأَنْعَام شَيْء؛ لم يبالوا بِهِ، وَكَانَ إِذا هلك أَو انْتقصَ من نصيب الْأَصْنَام، جبروه مِمَّا جَعَلُوهُ لله، وَقَالُوا: الله غَنِي، والصنم مُحْتَاج، وَكَانُوا إِذا أجدبوا وقحطوا؛ أكلُوا مِمَّا جَعَلُوهُ لله، وَلم يَأْكُلُوا من نصيب الْأَصْنَام.
وَقَوله: {سَاءَ مَا يحكمون} أَي: لم يَأْتهمْ فِيهِ وَحي، وَلَا يَقْتَضِيهِ عقل؛ فَإِن الْقيَاس يَقْتَضِي التَّسْوِيَة - على زعمهم - بَين الشَّرِيكَيْنِ، لَا مَا حكمُوا بِهِ.(2/147)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ زين لكثير من الْمُشْركين قتل أَوْلَادهم شركاؤهم} يَعْنِي: كَمَا زين هَذَا لأولئك الْقَوْم، فقد زين لكثير من الْمُشْركين قتل أَوْلَادهم(2/147)
{شركاؤكم ليردوهم وليلبسوا عَلَيْهِم دينهم وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ فذرهم وَمَا يفترون (137) وَقَالُوا هَذِه أنعام وحرث حجر لَا يطْعمهَا إِلَّا من نشَاء بزعمهم وأنعام حرمت ظُهُورهَا وأنعام لَا يذكرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا افتراء عَلَيْهِ سيجزيهم بِمَا كَانُوا يفترون (138) وَقَالُوا مَا فِي بطُون هَذِه الْأَنْعَام خَالِصَة لذكورنا ومحرم على أَزوَاجنَا وَإِن يكن} شركاؤهم من وأد الْبَنَات على مَا سنبين {ليردوهم} ليهلكوهم. {وليلبسوا عَلَيْهِم دينهم} أَي: ليخلطوا عَلَيْهِم دينهم؛ إِذْ كَانُوا على بَقِيَّة من مِلَّة إِبْرَاهِيم فلبسوا عَلَيْهِم دينهم بِمَا لَيْسَ مِنْهُ {وَلَو شَاءَ (الله} مَا فَعَلُوهُ فذرهم وَمَا يفترون) .(2/148)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا هَذِه أنعام وحرث حجر} أَي: حرَام {لَا (يطْعمهَا} إِلَّا من نشَاء بزعمهم) ثمَّ بَين (تحريمهم) ؛ فَقَالَ {لَا يطْعمهَا إِلَّا من نشَاء} يَعْنِي: من خدم الْأَصْنَام، وَقيل: هُوَ تَحْرِيم الْبحيرَة والسائبة على الْإِنَاث، وَلَا يطْعمهَا إِلَّا الذُّكُور.
{وأنعام حرمت ظُهُورهَا} هِيَ الحوامي الَّتِي ذكرنَا فِي الْمَائِدَة، كَانُوا يَقُولُونَ: حمت ظُهُورهَا {وأنعام لَا يذكرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا} قيل: ذَبَائِح كَانُوا يذبحونها باسم الْأَصْنَام لَا باسم الله - تَعَالَى - وَقيل مَعْنَاهُ: أَنهم لَا يركبون عَلَيْهَا لفعل الْخَيْر. قَالَ أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة: مَعْنَاهُ: أَنهم لَا يحجون عَلَيْهَا وَلَا يركبونها لفعل الْحَج، إِلَّا أَنه جرت الْعَادة بِذكر اسْم الله على فعل الْخَيْر، فَعبر بِذكر اسْم الله عَن فعل الْخَيْر؛ فَقَالَ: {وأنعام لَا يذكرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا افتراء عَلَيْهِ} يَعْنِي: افتراء على الله {سيجزيهم بِمَا كَانُوا يفترون} أَي: جَزَاء مَا كَانُوا (يكذبُون) .(2/148)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا مَا فِي بطُون هَذِه الْأَنْعَام خَالِصَة لذكورنا} يَعْنِي: الأجنة حَلَال لذكورنا، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " خَالص لذكورنا " قَالَ الْكسَائي: خَالص وخالصة وَاحِد، كَمَا يُقَال: وعظ موعظة، وَله نَظَائِر {ومحرم على أَزوَاجنَا} أَي: على نسائنا أَرَادوا بِهِ مَا سبق ذكره من أَوْلَاد الْبحيرَة والوصيلة.
{وَإِن يكن ميتَة} يَعْنِي: وَإِن يكن مَا فِي الْبَطن ميتَة {فهم فِيهِ شُرَكَاء} يَعْنِي:(2/148)
{ميتَة فهم فِيهِ شُرَكَاء سيجزيهم وَصفهم إِنَّه حَكِيم عليم (139) قد خسر الَّذين قتلوا أَوْلَادهم سفها بِغَيْر علم وحرموا مَا رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وَمَا كَانُوا مهتدين (140) وَهُوَ الَّذِي أنشأ جنَّات معروشات وَغير معروشات وَالنَّخْل وَالزَّرْع مُخْتَلفا أكله وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان متشابها وَغير متشابه كلوا من ثمره إِذا أثمر وَآتوا حَقه} الذُّكُور وَالْإِنَاث، وَيقْرَأ " وَإِن تكن ميتَة " {فهم فِيهِ شُرَكَاء} {سيجزيهم وَصفهم} . أَي: جَزَاء كذبهمْ {إِنَّه حَكِيم عليم} .(2/149)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
{قد خسر الَّذين قتلوا أَولا دهم} أَي: هلك وغبن الَّذين قتلوا أَوْلَادهم وَذَلِكَ من وأد الْبَنَات، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يدفنون الْبَنَات حَيَّة، حَتَّى كَانَ الرجل مِنْهُم يقتل وَلَده، ويربي كَلْبه. وَكَانَ الْبَعْض يفعل ذَلِك دون الْبَعْض، وَقيل: كَانَ ذَلِك فِي قبيلتين: ربيعَة، وَمُضر، كَانَا يدفنان الْبَنَات وَهن حيات، فَأَما بَنو كنَانَة وسائرهم مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك.
{سفها بِغَيْر علم} أَي: جهلا لَا عَن بَصِيرَة {وحرموا مَا رزقهم الله} (وَهُوَ) مَا ذكرنَا من تَحْرِيم أَوْلَاد الْبحيرَة، والوصيلة وَنَحْو ذَلِك (من) الحوامى، حرموها تدينا {افتراء على الله} لأَنهم كَانُوا يَدعُونَهُ دينا من الله - تَعَالَى - وَقد كذبُوا فِي ذَلِك عَلَيْهِ {قد ضلوا وَمَا كَانُوا مهتدين} .(2/149)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي أنشأ جنَّات} الجنات: الْبَسَاتِين {معروشات} أَي: ذَات عروش، وَالْعرش: السّقف، والكروم ذَات سقوف {وَغير معروشات} وَمِنْهَا مَا لَا سقف لَهُ، وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَشْجَار {وَالنَّخْل وَالزَّرْع مُخْتَلفا أكله} أَي: ثمره.
{وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان متشابها وَغير متشابه} أَي: متشابها فِي [المنظر] ، يشبه أَحدهمَا الآخر فِي الْوَرق، وَغير متشابه فِي الثَّمر والطعم، وَقد بَينا هَذَا، وَقيل: هُوَ(2/149)
{يَوْم حَصَاده وَلَا تسرفوا إِنَّه لَا يحب المسرفين (141) وَمن الْأَنْعَام حمولة وفرشا كلوا} رَاجع إِلَى مَا سبق ذكره من الْكَرم، وَالنَّخْل، وَالْأَشْجَار، فَإِن بَعْضهَا يشبه بَعْضًا فِي الْوَرق وَالثَّمَر والطعم، وَمِنْهَا مَا يُخَالف بعضه بَعْضًا.
{كلوا من ثمره إِذا أثمر} هَذَا أَمر إِبَاحَة {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} والقطاف، وَيقْرَأ: " حَصَاده " بِكَسْر الْحَاء، قيل: الْحَصاد والحصاد وَاحِد، كالجزاء وَالْجَزَاء، والقطاف والقطاف، ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْحق مَا هُوَ؟ قَالَ ابْن عمر، وَأَبُو الدَّرْدَاء - وَهُوَ قَول عَطاء وَمُجاهد -: إِن هَذَا الْحق كَانَ حَقًا فِي المَال سوى الْعشْر الْمَفْرُوض، وَأمر بإتيانه.
قَالَ ابْن عَبَّاس، وَأنس - وَهُوَ قَول الْحسن فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ -: إِنَّه أَرَادَ بِهِ إيتَاء الْعشْر الْمَفْرُوض، وَعَن الْحسن - فِي رِوَايَة أُخْرَى وَهُوَ قَول النَّخعِيّ، وَسَعِيد بن جُبَير -: أَن هَذَا حق كَانَ يُؤمر بإتيانه فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِإِيجَاب الْعشْر، وَالْقَوْل الأول أولى؛ لِأَن الْآيَة مَكِّيَّة، وَالزَّكَاة فرضت من بعد بِالْمَدِينَةِ، فَحَمله على حق سوى الزَّكَاة أولى.
{وَلَا تسرفوا} أَي: لَا تنفقوا الْأَمْوَال فِي مَعْصِيّة الله، وكل من أنْفق فِي مَعْصِيّة فَهُوَ مُسْرِف، وَقيل: هُوَ إِعْطَاء الْكل، وَذَلِكَ أَن يعمد الرجل إِلَى جَمِيع زرعه ونخله فيعطي الْكل، وَيتْرك عِيَاله عَالَة. وروى: " أَن ثَابت بن قيس بن شماس صرم خَمْسمِائَة نَخْلَة كَانَت لَهُ، فَأعْطى الْكل؛ فَنزلت الْآيَة {وَلَا تسرفوا إِنَّه لَا يحب المسرفين} .(2/150)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَمن الْأَنْعَام حمولة وفرشا} أَي: وَأَنْشَأَ من الْأَنْعَام حمولة وفرشا، قَالَ مُجَاهِد: الحمولة: الْإِبِل الْكِبَار الَّتِي يحمل عَلَيْهَا، والفرش: الصغار، وَقَالَ الضَّحَّاك: الحمولة: الْإِبِل وَالْبَقر، والفرش: [الْغنم] ، قَالَ الشَّاعِر:(2/150)
{مِمَّا رزقكم الله وَلَا تبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (142) ثَمَانِيَة أَزوَاج من الضَّأْن اثْنَيْنِ وَمن الْمعز اثْنَيْنِ قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ نبئوني بِعلم إِن كُنْتُم صَادِقين (143) وَمن الْإِبِل اثْنَيْنِ وَمن الْبَقر اثْنَيْنِ قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُم الله}
(أورثني حمولة وفرشا ... أَمسهَا فِي كل يَوْم مسا)
أَي: أمسحها فِي كل يَوْم {كلوا مِمَّا رزقكم الله وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان} أَي: آثَار الشَّيْطَان، وخطاياه، وَهُوَ تخطية من الْحَلَال إِلَى الْحَرَام ( {إِنَّه لكم عَدو مُبين}(2/151)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
ثَمَانِيَة أَزوَاج) إِنَّمَا نصب ثَمَانِيَة؛ لِأَن قَوْله {ثَمَانِيَة} بدل عَن قَوْله: {حمولة وفرشا} ، وَقَوله: ( {ثَمَانِيَة أَزوَاج من الضَّأْن اثْنَيْنِ وَمن الْمعز اثْنَيْنِ} وَمن الْإِبِل اثْنَيْنِ وَمن الْبَقر اثْنَيْنِ) .
هَذَا فِي الْحَقِيقَة أَرْبَعَة أَزوَاج، كل زوج اثْنَان، لِأَن الْعَرَب تسمي الْوَاحِد زوجا إِذا كَانَ لَا يَنْفَكّ عَن غَيره، قَالَ الله - تَعَالَى -: {وَمن كل شَيْء خلقنَا زَوْجَيْنِ} .
{قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ} هَذَا فِي تحريمهم الوصيلة والبحيرة وَنَحْوهَا، وَالْآيَة فِي الِاحْتِجَاج عَلَيْهِم، وَمعنى هَذَا: أَن الَّذِي تدعون على الله من تَحْرِيمهَا إِن كَانَ بِسَبَب الذُّكُورَة، فَيَنْبَغِي أَن تحرم كل الذُّكُور، وَإِن كَانَ التَّحْرِيم بِسَبَب الْأُنُوثَة؛ فَيَنْبَغِي أَن تحرم كل الْإِنَاث، وَإِن كَانَ باشتمال الرَّحِم عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَن يحرم كل مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ الرَّحِم، فَأَما تَخْصِيص التَّحْرِيم بِالْوَلَدِ السَّابِع وَالْخَامِس فَمن أَيْن؟ ! {نبؤني بِعلم} أخبروني بِعلم (إِن كَانَ لكم بِهِ علم) {إِن كُنْتُم صَادِقين} .(2/151)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
{وَمن الْإِبِل اثْنَيْنِ وَمن الْبَقر اثْنَيْنِ قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ} هَذَا فِي تحريمهم أَوْلَاد الْبحيرَة من الْبَطن الْخَامِس، كَمَا سبق، وَوجه الِاحْتِجَاج عَلَيْهِم مَا بَينا.(2/151)
{بِهَذَا فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا ليضل النَّاس بِغَيْر علم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (144) قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة أَو دَمًا مسفوحا أَو لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس أَو فسقا أهل لغير الله بِهِ فَمن اضْطر غير بَاغ}
{أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُم الله بِهَذَا} فَمَعْنَاه: أَنكُمْ قُلْتُمْ ذَلِك عَن علم لكم؟ فَأَخْبرُونِي بِهِ {أم نزل [عَلَيْكُم] بِهِ وَحي؟ أم أَمركُم الله بِهِ عيَانًا؟
{فَمن اظلم مِمَّن افترى على الله كذبا ليضل النَّاس بِغَيْر علم} فَبين الله يَعْنِي: أَنهم كاذبون بِهِ {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} .
وَفِي الْخَبَر: " أَن عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ جَاءَ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أبحت مَا حرمنا} وَحرمت مَا أبحنا - يَعْنِي: الْميتَة - فَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِه الْآيَات؛ فَعرف الْحجَّة، وَسكت عَنهُ ".(2/152)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
قَوْله تَعَالَى: {قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما} سَبَب هَذَا أَنهم قَالُوا: فَمَا الْمحرم إِذا؟ فَنزل قَوْله: قل يَا مُحَمَّد: لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما {على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة أَو دَمًا مسفوحا أَو لحم خِنْزِير} .
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا؛ فَذَهَبت عَائِشَة، وَابْن عَبَّاس إِلَى أَن التَّحْرِيم مَقْصُور على هَذِه الْأَشْيَاء، وَبِه قَالَ مَالك، وَقَالُوا: قَوْله: {إِلَّا ان يكون ميتَة} دخل فِيهِ المنخنقة والموقوذة، وَمَا عد فِي سُورَة الْمَائِدَة، وَمَالك يعد مَا سواهَا مَكْرُوها وَلَا يعده حَرَامًا، وَجُمْهُور الْعلمَاء على أَن التَّحْرِيم [يعدو] هَذِه الْأَشْيَاء؛ إِلَّا أَن الْبَعْض ثَبت بِالْكتاب، وَالْبَعْض بِالسنةِ، وَالْكل حرَام. وَقد ثَبت: " أَنه نهى عَن كل ذِي نَاب من السبَاع و [عَن] كل ذِي مخلب من الطير " {فَإِنَّهُ رِجْس} أَي: نَتن {أَو فسقا أهل لغير الله بِهِ} وَهُوَ الْمَذْبُوح على اسْم الصَّنَم، سمى ذَلِك فسقا؛(2/152)
{وَلَا عَاد فَإِن رَبك غَفُور رَحِيم (145) وعَلى الَّذين هادوا حرمنا كل ذِي ظفر وَمن الْبَقر وَالْغنم حرمنا عَلَيْهِم شحومهما إِلَّا مَا حملت ظهورهما أَو الحوايا أَو مَا اخْتَلَط بِعظم ذَلِك جزيناهم ببغيهم وَإِنَّا لصادقون (146) فَإِن كَذبُوك فَقل ربكُم ذُو رَحْمَة وَاسِعَة وَلَا} لِلْخُرُوجِ عَن أَمر الله - تَعَالَى -.
{فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد فَإِن رَبك غَفُور رَحِيم} وَقد ذكرنَا هَذَا.(2/153)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
قَوْله - تَعَالَى -: {وعَلى الَّذين هادوا حرمنا كل ذِي ظفر} يَعْنِي: حرمنا على الْيَهُود كل ذِي ظفر، قيل: هُوَ الْبَعِير والنعامة، وَيدخل فِيهِ الأوز والبط.
{وَمن الْبَقر وَالْغنم حرمنا عَلَيْهِم شحومهما إِلَّا مَا حملت ظهورهما} أما تَحْرِيم الشحوم عَلَيْهِم: كَانَ ذَلِك عَن الثروب وشحم الكليتين، وَقد قَالَ " لعن الله الْيَهُود حرم عَلَيْهِم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنهَا ".
وَقَوله: {إِلَّا مَا حملت ظهورهما} أَي: شَحم مَا حملت ظهورهما لم يحرم عَلَيْهِم {أَو الحوايا} تَقْدِيره: والحوايا، أَي: شَحم المباعر {أَو مَا اخْتَلَط بِعظم} أَي: وشحم مَا اخْتَلَط بِعظم، قيل: هُوَ الإلية، وَقيل: هُوَ شَحم الْجنب، ثمَّ اخْتلفُوا، أَن الْكل هَل يدْخل فِي الِاسْتِثْنَاء؟ قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا يدْخل فِي الِاسْتِثْنَاء شَحم الظُّهُور فَحسب، فَأَما قَوْله: {أَو الحوايا أَو مَا اخْتَلَط بِعظم} رَاجع إِلَى التَّحْرِيم، وَالصَّحِيح: أَن الْكل يدْخل فِي الِاسْتِثْنَاء، وَهُوَ ظَاهر الْآيَة. {ذَلِك جزيناهم ببغيهم} أَي: [بظلمهم] {وَإِنَّا لصادقون} .(2/153)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَإِن كَذبُوك فَقل ربكُم ذُو رَحْمَة وَاسِعَة} فَإِن قيل: مَا معنى هَذَا، وَإِنَّمَا يَلِيق بتكذيبهم وَعِيد الْعَذَاب لَا وعد الرَّحْمَة؟ قَالَ ثَعْلَب: هُوَ الرَّحْمَة(2/153)
{يرد بأسه عَن الْقَوْم الْمُجْرمين (147) سَيَقُولُ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم حَتَّى ذاقوا بأسنا قل هَل عنْدكُمْ من علم فتخرجوه لنا إِن تتبعون إِلَّا الظَّن وَإِن أَنْتُم إِلَّا تخرصون (148) قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ (149) قل هَلُمَّ شهداءكم الَّذين يشْهدُونَ أَن الله حرم هَذَا فَإِن شهدُوا فَلَا تشهد مَعَهم وَلَا تتبع أهواء الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ} بِتَأْخِير الْعَذَاب عَنْهُم، لَا بترك أصل الْعَذَاب، وَهَذَا حسن، بِدَلِيل قَوْله: {وَلَا يرد بأسه عَن الْقَوْم الْمُجْرمين} يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة، إِذا [جَاءَ] وقته؛ فَسئلَ ثَعْلَب: أَلَيْسَ أَن الله - تَعَالَى - قد عذب الْكفَّار فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: هَذَا فِي الْكفَّار من قوم نَبينَا مُحَمَّد لم يعذبهم الله؛ ببركته فيهم، كَمَا قَالَ: ( {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم} وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للعاملين) .(2/154)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
قَوْله - تَعَالَى -: {سَيَقُولُ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم حَتَّى ذاقوا بأسنا} اسْتدلَّ أهل الْقدر بِهَذِهِ الْآيَة؛ فَإِنَّهُم لما قَالُوا: لَو شَاءَ الله مَا أشركنا؛ كذبهمْ الله - تَعَالَى - ورد قَوْلهم فَقَالَ: {كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم} قيل: معنى الْآيَة: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ الْحق إِلَّا أَنهم كَانُوا (يعدون) ذَلِك عذر لَهُم، ويجعلونه حجَّة لأَنْفُسِهِمْ فِي ترك الْإِيمَان، فالرد عَلَيْهِم كَانَ فِي هَذَا بِدَلِيل(2/154)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
قَوْله - تَعَالَى - بعده: {قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة} أَي: الْحجَّة بِالْأَمر وَالنَّهْي بَاقِيَة لَهُ عَلَيْهِم، وَإِن شَاءَ أَن يشركوا.
{فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} وَلَو لم يحمل على هَذَا؛ لَكَانَ هَذَا مناقضة للْأولِ، وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الله أمرنَا بالشرك، كَمَا قَالَ فِي الْأَعْرَاف: {وَإِذا فعلوا(2/154)
{بِالآخِرَة وهم برَبهمْ يعدلُونَ (150) قل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا بِهِ} فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا) وَكَأن قَوْله: {لَو شَاءَ الله مَا أشركنا} أَي: هُوَ الَّذِي أمرنَا بالشرك؛ فالرد فِي هَذَا لَا فِي حُصُول الشّرك بمشيئته، فَإِنَّهُ حق وَصدق، وَبِه يَقُول أهل السّنة.
{قل هَل عنْدكُمْ من علم فتخرجوه لنا} أَي: من كتاب، فتخرجوه لنا حَتَّى يظْهر مَا تدعون على الله (من أمره بالشرك) {إِن تتبعون إِلَّا الظَّن} يَعْنِي: أَنكُمْ تَقولُونَ مَا تَقولُونَ ظنا لَا عَن بَصِيرَة {وَإِن أَنْتُم إِلَّا تخرصون} أَي: تكذبون {قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} .(2/155)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل هَلُمَّ شهداءكم} أَي: ائْتُوا بشهدائكم {الَّذين يشْهدُونَ أَن الله حرم هَذَا} هَذَا رَاجع إِلَى مَا تقدم من تحريمهم الْأَشْيَاء على أنفسهم بِغَيْر أَمر الله، وَادعوا أَنه من أَمر الله.
{فَإِن شهدُوا فَلَا تشهد مَعَهم} يَعْنِي: فَإِن شهدُوا كاذبين، فَلَا تشهد مَعَهم {وَلَا تتبع أهواء الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وهم برَبهمْ يعدلُونَ} أَي: يشركُونَ.(2/155)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} لأَنهم سَأَلُوهُ أيش الَّذِي حرم الله - تَعَالَى -؟ فَنزل قَوْله - تَعَالَى -: {قل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم} فَإِن قَالَ قَائِل: الله - تَعَالَى - مَا حرم ترك الشّرك بل أَمر ربه، فَمَا معنى قَوْله: {أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} ؟ .
فِيهِ جوابان: أَحدهمَا: أَن قَوْله " لَا " صلَة، وَتَقْدِيره ": أَن تُشْرِكُوا؛ فعلى هَذَا استقام الْكَلَام.
وَالثَّانِي: أَن قَوْله: { [تَعَالَوْا] أتل مَا حرم ربكُم} كَلَام تَامّ. (ثمَّ) قَوْله:(2/155)
{شَيْئا وبالوالدين إحسانا وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم من إملاق نَحن نرزقكم وإياهم وَلَا تقربُوا الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تعقلون (151) وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن حَتَّى يبلغ أشده} {عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا} ابْتِدَاء كَلَام. وَإِذا قدر هَكَذَا استقام الْكَلَام أَيْضا، ثمَّ قَوْله {وبالوالدين إحسانا} أَي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
{وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم من إملاق} قَالَ المؤرج: الإملاق: الْجُوع بلغَة حمير، وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة أَن الإملاق: الْفقر {نَحن نرزقكم وإياهم} أَي: رزق الْكل علينا؛ فَلَا تَقْتُلُوهُمْ خوف الْجُوع والفقر.
{وَلَا تقربُوا الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن} هَذَا نهي عَن أَنْوَاع الزِّنَا سرا وعلنا، وَكَانَت الزواني فِي الْجَاهِلِيَّة على نحوين: كَانَت لبَعْضهِم رايات على الْأَبْوَاب، علما لمن أَرَادَ الزِّنَا؛ كن يَزْنِين علنا، وأخريات كن يَزْنِين سرا. فَهَذَا المُرَاد بالفواحش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن.
{وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} نهى عَن الْقَتْل بالظلم، وأباح الْقَتْل بِالْحَقِّ، وَهُوَ مُفَسّر فِي قَول النَّبِي: " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: كفر بعد إِيمَان، أَو زنا بعد إِحْصَان، أَو قتل نفس بِغَيْر نفس " {ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تعقلون} .(2/156)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن} قد سبق الْكَلَام على قرْبَان مَال الْيَتِيم فِي سُورَة النِّسَاء. {حَتَّى يبلغ أشده} قَالَ السّديّ: أشده ثَلَاثُونَ سنة. وَقَالَ غَيره: أَوَان الْحلم. وَقيل: هُوَ استكمال الْقُوَّة، وَسَيَأْتِي شَرحه فِي مَوضِع بعده.
{وأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ {لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا} أَي:(2/156)
{وأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا وَإِذا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَو كَانَ ذَا قربى وبعهد الله أَوْفوا ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ (152) وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (153) ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب تَمامًا على الَّذِي أحسن وتفصيلا لكل شَيْء وَهدى} طاقتها {وَإِذا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَو كَانَ ذَا قربى} أَي: فاصدقوا، وَلَو كَانَ على الْقَرِيب {وبعهد الله أَوْفوا ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} .(2/157)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ} يقْرَأ: وَأَن - بِالتَّشْدِيدِ - فَيكون رَاجعا إِلَى قَوْله: {أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم} يَعْنِي: وأتل عَلَيْكُم: أَن هَذَا صِرَاطِي، وَيقْرَأ: وَأَن - بالتخفبف - فَيكون صلَة، وَتَقْدِيره هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا.
{فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل} بِمَعْنى: سَائِر الْملَل سوى مِلَّة الْإِسْلَام وَقيل: هُوَ الْأَهْوَاء والبدع {فَتفرق بكم عَن سَبيله} أَي: فَتفرق بكم عَن سَبيله.
{ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} وَقد صَحَّ بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي: " انه خطّ خطا، وَخط حواليه خُطُوطًا، ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْخط الْأَوْسَط؛ فَقَالَ: وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ، ثمَّ أَشَارَ إِلَى الخطوط حوله؛ فَقَالَ: لَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله ".(2/157)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
قَوْله - تَعَالَى -: {ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} بعد ذكر مُحَمَّد، ومُوسَى أُوتِيَ الْكتاب قبله، وَكَلمه " ثمَّ "(2/157)
{وَرَحْمَة لَعَلَّهُم بلقاء رَبهم يُؤمنُونَ (154) وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك فَاتَّبعُوهُ وَاتَّقوا لَعَلَّكُمْ ترحمون (155) أَن تَقولُوا إِنَّمَا أنزل الْكتاب على طائفتين من قبلنَا وَإِن كُنَّا عَن دراستهم لغافلين (156) أَو تَقولُوا لَو أَنا أنزل علينا الْكتاب لَكنا أهْدى مِنْهُم فقد جَاءَكُم بَينه من} للتعقيب؟ قيل: مَعْنَاهُ: ثمَّ أخْبركُم أَنا آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب.
{تَمامًا على الَّذِي أحسن} قيل: أَرَادَ بِالَّذِي أحسن: مُوسَى، وَمَعْنَاهُ: انه كَمَا أحسن بِطَاعَة ربه وَاتِّبَاع أمره؛ أتممنا عَلَيْهِ النِّعْمَة وَالْإِحْسَان بإعطائه التَّوْرَاة.
وَقَالَ الْحسن: مَعْنَاهُ تَمامًا على الْمُحْسِنِينَ من قومه، وَكَانَ مِنْهُم محسن ومسيء، وَهَذَا معنى قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: تَمامًا على الَّذين أَحْسنُوا، وَقَرَأَ يحيى بن يعمر: " على الَّذِي أحسن " أحسن، بِرَفْع النُّون، أَي: على الَّذِي هُوَ أحسن.
{وتفصيلا لكل شَيْء وَهدى وَرَحْمَة} هَذَا فِي وصف التَّوْرَاة {لَعَلَّهُم بلقاء رَبهم يُؤمنُونَ} .(2/158)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَهَذَا كتاب} ثمَّ وصف الْقُرْآن {أَنزَلْنَاهُ مبارك فَاتَّبعُوهُ} وَقد بَينا معنى الْمُبَارك ( {وَاتَّقوا لَعَلَّكُمْ ترحمون}(2/158)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
أَن تَقولُوا) أَي: كَرَاهَة أَن تَقولُوا، على قَول الْكُوفِيّين، وَأما على قَول الْبَصرِيين: تَقْدِيره: أَن لَا تَقولُوا: {إِنَّمَا أنزل الْكتاب على طائفتين من قبلنَا} يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى {وَإِن كُنَّا} أَي: وَقد كُنَّا {عَن دراستهم لغافلين} وَمعنى الْآيَة: أَنا إِنَّمَا أنزلنَا عَلَيْكُم الْقُرْآن؛ لِئَلَّا تَقولُوا: إِن الْكتاب أنزل على من قبلنَا بلغتهم ولسانهم فَلم نَعْرِف مَا فِيهِ، وغفلنا عَن دراسته؛ فتمهدون بذلك عذرا لأنفسكم، وَحجَّة على الله(2/158)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
{أَو تَقولُوا لَو أَنا أنزل علينا الْكتاب لَكنا أهْدى مِنْهُم} .
وَقد كَانَ جمَاعَة من الْكفَّار، قَالُوا ذَلِك: لَو أنزل علينا مَا أنزل على الْيَهُود وَالنَّصَارَى كُنَّا خيرا مِنْهُم وَأهْدى، يَقُول الله - تَعَالَى -: {فقد جَاءَكُم بَيِّنَة من ربكُم وَهدى وَرَحْمَة} يَعْنِي: قد جَاءَكُم الْقُرْآن؛ فَكَذَّبْتُمْ بِهِ، ثمَّ قَالَ: {فَمن أظلم مِمَّن كذب بآيَات الله وصدف عَنْهَا} أَي: أعرض عَنْهَا {سنجزي الَّذين يصدفون}(2/158)
{ربكُم وَهدى وَرَحْمَة فَمن أظلم مِمَّن كذب بآيَات الله وصدف عَنْهَا سنجزي الَّذين يصدفون عَن آيَاتنَا سوء الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يصدفون (157) هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة أَو يَأْتِي رَبك أَو يَأْتِي بعض آيَات رَبك يَوْم يَأْتِي بعض آيَات رَبك لَا ينفع نفسا} أَي: يعرضون {عَن آيَاتنَا سوء الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يصدفون} قَوْله - تَعَالَى -: { [هَل ينظرُونَ] } أَي: بعد تكذيبهم الرُّسُل وإنكارهم الْقُرْآن.(2/159)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
{هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة} قيل: بِالْعَذَابِ، وَقيل: بِقَبض الْأَرْوَاح (أَو يَأْتِي رَبك) يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة، كَمَا قَالَ فِي سُورَة الْبَقَرَة: {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام} وَقد بَينا هُنَالك {أَو يَأْتِي بعض آيَات رَبك} أجمع الْمُفَسِّرُونَ على أَنه أَرَادَ بِهِ طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا، إِلَّا فِي رِوَايَة: شَاذَّة عَن معَاذ بن جبل أَنه: خُرُوج الدَّجَّال، وَخُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج. وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِيهِ: " هِيَ طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا " وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِن الشَّمْس وَالْقَمَر يطلعان يَوْمئِذٍ أسودين، وروى صَفْوَان بن عَسَّال الْمرَادِي عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن للتَّوْبَة بَابا قبل الْمغرب، عرضه سَبْعُونَ ذِرَاعا؛ فَهُوَ مَفْتُوح إِلَى أَن تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا، ثمَّ يغلق فَلَا تقبل التَّوْبَة بعده " فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: ( {يَوْم يَأْتِي بعض آيَات رَبك} لَا ينفع نفسا(2/159)
{إيمَانهَا لم تكن آمَنت من قبل أَو كسبت فِي إيمَانهَا خيرا قل انتظروا إِنَّا منتظرون (158) إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء إِنَّمَا أَمرهم إِلَى الله ثمَّ ينبئهم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) (من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إيمَانهَا لم تكن آمَنت من قبل أَو كسبت فِي إيمَانهَا خيرا} أَي: لَا يقبل تَوْبَة كَافِر بِالْإِيمَان، وَلَا تَوْبَة فَاسق بِالرُّجُوعِ عَن الْفسق {قل انتظروا إِنَّا منتظرون} .(2/160)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء} .
وروى أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ صدى بن عجلَان، عَن النَّبِي قَالَ: " هم الْخَوَارِج " قَالَ مُجَاهِد: هم أهل الْأَهْوَاء والبدع، وَقيل: هم أهل سَائِر الْملَل من الْيَهُود، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوس، وَنَحْوهم، وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: " أصدق الحَدِيث كتاب الله، وَأحسن الْهدى هدى مُحَمَّد، وَشر الْأُمُور محدثاتها، وكل محدثة بِدعَة، وكل بِدعَة ضَلَالَة، وكل ضَلَالَة فِي النَّار " ويروى هَذَا مَرْفُوعا، وَقَوله: {لست مِنْهُم فِي شَيْء} أَي: لَيْسُوا مِنْك، وَلست مِنْهُم {إِنَّمَا أَمرهم إِلَى الله ثمَّ ينبئهم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .(2/160)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
قَوْله - تَعَالَى -: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا وهم لَا يظْلمُونَ} وَهَذَا فضل من الله - تَعَالَى - حَيْثُ يجازي الْحَسَنَة بِعشر(2/160)
{إِلَّا مثلهَا وهم لَا يظْلمُونَ (160) قل إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دينا قيمًا مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَمَا كَانَ من الْمُشْركين (161) قل إِن صَلَاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب الْعَالمين (162) لَا شريك لَهُ وَبِذَلِك أمرت وَأَنا أول الْمُسلمين (163) قل أغير الله أبغي رَبًّا وَهُوَ رب كل شَيْء وَلَا تكسب كل نفس إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى ثمَّ إِلَى ربكُم مرجعكم فينبئكم بِمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون (164) وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف} أَمْثَالهَا، والسيئة بِمِثْلِهَا، قَالَ ابْن عمر: هَذَا فِي غير الصَّدقَات من الْحَسَنَات، فَأَما الصَّدقَات: تضَاعف بسبعمائة ضعف، وَقَالَ أَبُو صَالح: الْحَسَنَة: قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، " وَسُئِلَ رَسُول الله عَن كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله أَهِي من الْحَسَنَات؟ فَقَالَ: هِيَ أحسن الْحَسَنَات ".(2/161)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دينا قيمًا} هُوَ دين الْإِسْلَام أَي: دينا مُسْتَقِيمًا {مِلَّة إِبْرَاهِيم} نصب على الإغراء، أَي: اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم {حَنِيفا وَمَا كَانَ من الْمُشْركين}(2/161)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
{قيل إِن صَلَاتي ونسكي} أما الصَّلَاة: مَعْلُومَة، وَأما النّسك: الْعِبَادَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الذَّبِيحَة، وَقَوله: {ومحياي ومماتي لله} أَي: طَاعَتي فِي حَياتِي لله، وجزائي بعد مماتي من الله {رب الْعَالمين(2/161)
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
لَا شريك لَهُ وَبِذَلِك أمرت وَأَنا أول الْمُسلمين) يَعْنِي: من هَذِه الْأمة.(2/161)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل أغير الله أبغي رَبًّا} لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: ارْجع إِلَى ديننَا فَإِن خفت الله فَنحْن نكفل لَك الْعَذَاب؛ قَالَه كفار قُرَيْش؛ فَنزل: {قل أغير الله أبغي رَبًّا وَهُوَ رب كل شَيْء} {وَلَا تكسب كل نفس إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} أَي: لَيْسَ هَذَا بِأَمْر تَنْفَع فِيهِ الْكفَالَة، (وَيقوم) أحد مقَام أحد فِيهِ. {ثمَّ إِلَى ربكُم مرجعكم فينبئكم بِمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون} .(2/161)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف الأَرْض} أَي: يخلف بَعْضكُم(2/161)
{الأَرْض وَرفع بَعْضكُم فَوق بعض دَرَجَات ليَبْلُوكُمْ فِي مَا آتَاكُم إِن رَبك سريع الْعقَاب وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم (165) } بَعْضًا {وَرفع بَعْضكُم فَوق بعض دَرَجَات} يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا بالفقر والغنى، وَالْمَرَض وَالصِّحَّة، وَنَحْو هَذَا {ليَبْلُوكُمْ فِيمَا آتَاكُم} أَي: ليختبروكم فِيمَا أَعْطَاكُم.
{إِن رَبك سريع الْعقَاب} وكل مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ سريع {وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم} .(2/162)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{المص (1) كتاب أنزل إِلَيْك فَلَا يكن فِي صدرك حرج مِنْهُ لتنذر بِهِ وذكرى}
سُورَة الْأَعْرَاف
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام - رَضِي الله عَنهُ -: اعْلَم أَن سُورَة الْأَعْرَاف مكيه إِلَّا قَوْله - تَعَالَى -: {واسألهم عَن الْقرْيَة الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر} إِلَى قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} فَإِن هَذَا الْقدر نزل بِالْمَدِينَةِ، و (قد) روى " أَن النَّبِي قَرَأَ فِي الْمغرب بطول الطولين " يَعْنِي: سُورَة الْأَعْرَاف، وَإِنَّمَا سميت طول الطولين؛ لِأَن أطول السُّور الَّتِي نزلت بِمَكَّة سُورَة الْأَنْعَام، وَسورَة الْأَعْرَاف، والأعراف أطولهما.(2/163)
المص (1)
قَوْله تَعَالَى {المص} مَعْنَاهُ: أَن الله أعلم وأفصل، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَنا الله الْملك الصَّادِق، وَقَالَ الشّعبِيّ: لكل كتاب سر، وسر الْقُرْآن: حُرُوف التهجي فِي فواتح السُّور.(2/163)
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{كتاب أنزل إِلَيْك} قَالَ الْفراء: تَقْدِيره: هَذَا كتاب أنزل إِلَيْك {فَلَا يكن فِي صدرك حرج مِنْهُ} أَي: شكّ، وَالْخطاب للرسول، وَالْأمة هم المُرَاد.
والحرج بمَكَان الشَّك، قَالَه الْفراء، وأنشدوا:
(لَوْلَا حرج يعزوني ... جئْتُك أغزوك وَلَا تغزوني)
وَقيل الْحَرج: هُوَ الضّيق، وَمَعْنَاهُ: لَا يضيقن صدرك بالإبلاغ، وَذَلِكَ أَن النَّبِي(2/163)
{للْمُؤْمِنين (2) اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء قَلِيلا مَا} لما بعث إِلَى الْكفَّار، قَالَ: " يَا رب إِنِّي أَخَاف أَن يثلغوا رَأْسِي، ويجعلوه كالخبزة؛ فَقَالَ الله تَعَالَى: لَا يكن فِي صدرك ضيق من الإبلاغ؛ فَإِنِّي حافظك وناصرك ".
قَوْله: {لتنذر بِهِ وذكرى للْمُؤْمِنين} فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِير الْآيَة: كتاب أنزل إِلَيْك؛ لتنذر بِهِ، وذكرى للْمُؤْمِنين فَلَا يكن فِي صدرك حرج مِنْهُ.(2/164)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
قَوْله تَعَالَى: {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} يَعْنِي: الْقُرْآن، وَقيل: الْقُرْآن وَالسّنة لأمر الله تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {وَمَا أَتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} فَالسنة وَإِن لم تكن (منزلَة) ، فَهِيَ كالمنزلة بِحكم تِلْكَ الْآيَة، قَالَ الْحسن فِي هَذِه الْآيَة: يَا ابْن آدم، أمرت بِاتِّبَاع الْقُرْآن، فَمَا من آيَة إِلَّا وَعَلَيْك أَن تعلم فِيمَا نزلت، وماذا أُرِيد بهَا، حَتَّى تتبعه، وتعمل بِهِ.
{وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} يَعْنِي: من عاند الْحق، وَخَالفهُ، فَلَا تَتبعُوهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: {من دونه أَوْلِيَاء} لِأَن من اتخذ مذهبا، فَكل من سلك طَرِيقه وَاتبعهُ كَانَ من أوليائه، فَهَذَا معنى قَوْله: {وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} وَقَالَ مَالك بن دِينَار: وَلَا تَبْتَغُوا، يَعْنِي: الطّلب، وَالْمعْنَى: وَلَا تَبْتَغُوا من دونه أَوْلِيَاء. {قَلِيلا مَا تذكرُونَ} ، وَقَرَأَ ابْن عَامر: " يتذكرون " وَالْمرَاد بهما وَاحِد، أَي: قَلِيلا مَا تتعظون.(2/164)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
قَوْله تَعَالَى: {وَكم من قَرْيَة أهلكناها} " كم " للتكثير، و " رب " للتقليل.
قَالَ الشَّاعِر:
(كم عمَّة لَك يَا جرير وَخَالَة ... فدعاء قد حلبت على عشارى)(2/164)
{تذكرُونَ (3) وَكم من قَرْيَة أهلكناها فَجَاءَهَا بأسنا بياتاً أَو هم قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعوَاهُم إِذْ جَاءَهُم بأسنا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظالمين (5) فلنسئلن الَّذين أرسل إِلَيْهِم ولنسئلن الْمُرْسلين (6) فلنقصن عَلَيْهِم بِعلم وَمَا كُنَّا غائبين (7) وَالْوَزْن يَوْمئِذٍ}
قَالَه الفرزدق.
{فَجَاءَهَا بأسنا بياتا} أَي: عذابنا بياتا {أَو هم قَائِلُونَ} وَتَقْدِيره: لَيْلًا وهم نائمون، أَو نَهَارا وهم قَائِلُونَ، من القيلولة.
قَالَ الزّجاج: " أَو هم قَائِلُونَ " أَو لتصريف الْعَذَاب، يَعْنِي: مرّة بِاللَّيْلِ، وَمرَّة بِالنَّهَارِ كَمَا بَينا، فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ: {وَكم من قَرْيَة أهلكناها} فَمَا معنى قَوْله: {فَجَاءَهَا بأسنا} وَكَيف يكون مَجِيء الْبَأْس بعد الإهلاك؟ قيل: معنى قَوْله: {أهلكناها} أَي: حكمنَا بإهلاكها؛ فَجَاءَهَا بأسنا، وَقيل: قَوْله: {فَجَاءَهَا بأسنا} هُوَ بَيَان قَوْله: {أهلكناها} ، وَقَوله: {أهلكناها} هُوَ قَوْله: {فَجَاءَهَا بأسنا} وَهَذَا مثل قَول الْقَائِل: أَعْطَيْتنِي فأحسنت إِلَيّ، لَا فرق بَينه وَبَين قَوْله: أَحْسَنت إِلَى مَا أَعْطَيْتنِي، وَأَحَدهمَا بَيَان للْآخر، كَذَلِك هَذَا.(2/165)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَمَا كَانَ دَعوَاهُم} أَي: دعاؤهم، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: تَقول اللَّهُمَّ اجْعَلنِي فِي دَعْوَى الْمُسلمين، أَي: فِي دُعَاء الْمُسلمين فَقَوله: {فَمَا كَانَ دَعوَاهُم إِذْ جَاءَهُم بأسنا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظالمين} مَعْنَاهُ: لم يقدروا على رد الْعَذَاب حِين جَاءَهُم الْعَذَاب، وَكَانَ حَاصِل أَمرهم أَن اعْتَرَفُوا بالخيانة حِين لَا ينفع الِاعْتِرَاف.(2/165)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
قَوْله - تَعَالَى -: {فلنسألن الَّذين أرسل إِلَيْهِم} هَذَا سُؤال توبيخ، لَا سُؤال استعلام، يَعْنِي: نسألهم عَمَّا عمِلُوا فِيمَا بَلغهُمْ {ولنسألن الْمُرْسلين} عَن الإبلاغ(2/165)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
{فلنقصن عَلَيْهِم بِعلم} أَي: نخبرهم بِمَا عمِلُوا عَن بَصِيرَة وَعلم.
{وَمَا كُنَّا غائبين} فَإِنَّهُ - جلّ وَعلا - مَعَ كل أحد بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة.(2/165)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَالْوَزْن يَوْمئِذٍ الْحق} قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: الْقَضَاء يَوْمئِذٍ بِالْحَقِّ وَالْعدْل، وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَنه أَرَادَ بِهِ: الْوَزْن بالميزان الْمَعْرُوف، وَهُوَ حق، وَكَيف(2/165)
{الْحق فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون (8) وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يظْلمُونَ (9) وَلَقَد مكناكم فِي الأَرْض وَجَعَلنَا لكم} يُوزن؟ اخْتلفُوا، قَالَ بَعضهم: توزن صَحَائِف الْأَعْمَال، وَقيل: يُوزن الْأَشْخَاص؛ وَعَلِيهِ دلّ قَول عبيد بن عُمَيْر أَنه قَالَ: " يُؤْتى بِالرجلِ الْعَظِيم الطَّوِيل، الأكول والشروب، يَوْم الْقِيَامَة، فيوزن فَلَا يزن عِنْد الله جنَاح بعوضة " وَقد روى هَذَا مَرْفُوعا.
وَقيل: توزن الْأَعْمَال، فَإِن الْأَعْمَال الْحَسَنَة تَأتي على صُورَة حَسَنَة، والأعمال السَّيئَة تَأتي على صُورَة قبيحة؛ فَذَلِك الَّذِي يُوزن، وَفِي الْخَبَر " أَن ذَلِك الْمِيزَان لَهُ كفتان، كل كفة بِقدر مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب "، وَالْمِيزَان للْكُلّ وَاحِد، وَقيل لكل وَاحِد ميزَان. {فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون} .(2/166)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
{وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم} أَي: غبنوا أنفسهم {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يظْلمُونَ} قَالَ الْحسن: إِنَّمَا ثقل ميزَان من ثقل مِيزَانه بِاتِّبَاع الْحق، وَحقّ لِمِيزَانٍ وضع فِيهِ الْحق أَن يثقل، وَإِنَّمَا خف ميزَان من خف مِيزَانه بِاتِّبَاع الْبَاطِل، وَحقّ الْمِيزَان لم يوضع فِيهِ إِلَّا الْبَاطِل أَن يخف.
ويروى عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " كَانَ رَسُول الله نَائِما ذَات يَوْم، وَرَأسه فِي حجري، فَبَكَيْت، فقطرت دموعي على خَدّه؛ فانتبه رَسُول الله فَقَالَ: مَالك؟ قلت: ذكرت الْقِيَامَة وأهوالها، فَهَل يذكر أحد أحدا يَوْمئِذٍ؟ فَقَالَ: أما فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن فَلَا: عِنْد الْمِيزَان حَتَّى يعلم أيثقل مِيزَانه أم يخف، وَعند تطاير الصُّحُف حَتَّى يعلم أَن صَحِيفَته تُوضَع فِي يَمِينه أَو [فِي] شِمَاله، وعَلى(2/166)
{فِيهَا معايش قَلِيلا مَا تشكرون (10) وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة} الصِّرَاط ".(2/167)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد مكناكم فِي الأَرْض} التَّمْكِين هَاهُنَا بِمَعْنى: التَّمْلِيك {وَجَعَلنَا لكم فِيهَا معايش} أَي: أَسبَاب تعيشون بهَا، وَقيل: جعلنَا لكم مَا تصلونَ بِهِ إِلَى المعاش {قَلِيلا مَا تشكرون} .(2/167)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم} قَالَ ابْن عَبَّاس: خَلَقْنَاكُمْ فِي صلب آدم، ثمَّ صورناكم فِي أَرْحَام الْأُمَّهَات، وَقَالَ مُجَاهِد: خَلَقْنَاكُمْ فِي ظهر آدم، ثمَّ صورناكم يَوْم الْمِيثَاق، حِين أخرجهم كالذر، وَقيل: هَذَا فِي حق آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - يَعْنِي: خلقنَا أصلكم آدم، ثمَّ صورناه؛ فَذكر بِلَفْظ الْجمع، وَالْمرَاد بِهِ الْوَاحِد، وَقَالَ الْأَخْفَش - وَهُوَ أحد قولي قطرب -: إِن ثمَّ بِمَعْنى الْوَاو، أَي: وصورناكم.
{ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} فَإِن قَالَ قَائِل: الْأَمر بسجود الْمَلَائِكَة كَانَ قبل خلق بني آدم، فَمَا معنى قَوْله: {ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة} عقيب ذكر الْخلق والتصوير؟
وَالْجَوَاب: أما على قَول مُجَاهِد، وَقَول من صرفه إِلَى آدم، يَسْتَقِيم الْكَلَام.
وَأما على قَول ابْن عَبَّاس، يرد هَذَا الْإِشْكَال، وَالْجَوَاب عَنهُ من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن المُرَاد بِهِ: ثمَّ أخْبركُم أَنا قُلْنَا للْمَلَائكَة: اسجدوا [لآدَم] ، وَقيل فِيهِ: تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ، ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة: اسجدوا، ثمَّ صورناكم،(2/167)
{اسجدوا لآدَم فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس لم يكن من الساجدين (11) قَالَ مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين (12) قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يكون لَك أَن تتكبر فِيهَا فَاخْرُج إِنَّك من الصاغرين (13) قَالَ أَنْظرنِي إِلَى يَوْم يبعثون} وَقيل " ثمَّ " بِمَعْنى " الْوَاو " أَي: وَقُلْنَا للْمَلَائكَة: اسجدوا، وَالْوَاو لَا توجب التَّرْتِيب، وَهُوَ قَول الْأَخْفَش، وَأحد قولي قطرب، وَلم يرْضوا مِنْهُم ذَلِك، فَإِن كلمة " ثمَّ " لَا ترد بِمَعْنى الْوَاو، وَهِي للتعقيب.
{فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس لم يكن من الساجدين} وَقد ذكرنَا سُجُود الْمَلَائِكَة فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَأَن سجودهم كَانَ لآدَم.(2/168)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك} " لَا " زَائِدَة، وَالْمرَاد: مَا مَنعك أَن تسْجد؟ وَقد سبق نَظَائِره.
{قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين} فَإِن قيل: لم يكن هَذَا مِنْهُ جَوَابا عَمَّا سُئِلَ عَنهُ؟ قيل: تَقْدِيره قَالَ: لم أَسجد لِأَنِّي خير مِنْهُ، وَقيل: السُّؤَال مُقَدّر فِيهِ، كَأَنَّهُ قيل لَهُ: أَنْت خير أم هُوَ؟ فَقَالَ: أَنا خير مِنْهُ.
قَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: ظن الْخَبيث، وَرَأى أَن النَّار خير من الطين، وَلم يعلم أَن الْفضل لما جعل الله لَهُ الْفضل، وَقد فضل الله الطين على النَّار، وَلِأَن فِي طبع النَّار طيشا، وخفة، وإحراقا، وَفِي الطين رزانة، وحلم، وتواضع، وَأَمَانَة، فَيجوز أَن يكون خيرا من النَّار، وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس: أول من قَاس: إِبْلِيس، كَمَا بَينا.(2/168)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
وَقَوله - تَعَالَى -: {قَالَ فاهبط مِنْهَا} أَي: فَاخْرُج مِنْهَا، وَاخْتلفُوا فِي هَذِه الْكِنَايَة، قيل: أَرَادَ بِهِ: فاهبط من الْجنَّة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: من الدرجَة الَّتِي جعله الله عَلَيْهَا من قبل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: من الأَرْض؛ فَإِن الله - تَعَالَى - لما طرده؛ أخرجه من الأَرْض إِلَى جزائر الْبَحْر، وَكَانَ من قبل لَهُ ملك الأَرْض، حَتَّى قيل: إِنَّه لَا يدْخل الأَرْض إِلَّا خَائفًا، سَارِقا، على هَيْئَة شيخ عَلَيْهِ أطمار {فَمَا يكون لَك أَن تتكبر فِيهَا} يَعْنِي: بترك السُّجُود {فَاخْرُج إِنَّك من الصاغرين} أَي: الأذلة.(2/168)
( {14) قَالَ إِنَّك من المنظرين (15) قَالَ فبمَا أغويتني لأقعدن لَهُم صراطك الْمُسْتَقيم (16) ثمَّ لآتينهم من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم وَعَن أَيْمَانهم وَعَن شمائلهم وَلَا تَجِد}(2/169)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
{قَالَ أَنْظرنِي} أَي: أمهلني {إِلَى يَوْم يبعثون} سَأَلَ المهلة إِلَى الْقِيَامَة،(2/169)
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
{قَالَ إِنَّك من المنظرين} فأنظره الله - تَعَالَى - وَهَذَا الإنظار إِلَى النفخة الأولى، كَمَا قَالَ فِي مَوضِع آخر مُقَيّدا: {إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم} وَأَرَادَ بِهِ: النفخة الأولى، فَإِن قيل: وَهل يجوز أَن يُجيب الله دَعْوَة الْكَافِر؛ حَيْثُ أجَاب دَعْوَة اللعين؟ قيل: يجوز على طَرِيق الاستدراج وَالْمَكْر والإملاء لَا على سَبِيل الْكَرَامَة.(2/169)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
{قَالَ فبمَا أغويتني} قَالَ ابْن عَبَّاس: بِمَا أضللتني، وَقيل: بِمَا خيبتني، فالإغواء بِمَعْنى: الخيبة، قَالَ الشَّاعِر:
(فَمن يلق خيرا يحمد النَّاس أمره ... وَمن يغو لَا يعْدم على الغي لائما)
أَي: وَمن يخب لَا يعْدم على الخيبة لائما، وَقيل: مَعْنَاهُ: بِمَا دعوتني إِلَى مَا ضللت بِهِ {لأقعدن لَهُم صراطك الْمُسْتَقيم} أَي: على صراطك الْمُسْتَقيم، وَهُوَ صِرَاط الدّين.(2/169)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لآتينهم من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم}
روى سُفْيَان الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن الحكم بن عتيبة أَنه قَالَ: {لآتينهم من بَين أَيْديهم} يَعْنِي: من قبل الدُّنْيَا بِأَن أزينها فِي قُلُوبهم، فيغتروا بهَا {وَمن خَلفهم} أَي: من قبل الْآخِرَة، بِأَن أَقُول: لَا بعث، وَلَا جنَّة، وَلَا نَار {وَعَن أَيْمَانهم} من قبل الْحَسَنَات {وَعَن شمائلهم} من قبل السَّيِّئَات، وَقَالَ ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة الْوَالِبِي عَنهُ -: لآتينهم من بَين أَيْديهم يَعْنِي: من قبل الْآخِرَة، وَمن خَلفهم (أَي) من قبل الدُّنْيَا، وَعَن أَيْمَانهم: أشبه عَلَيْهِم أَمر الدُّنْيَا، وَعَن شمائلهم: أشهى لَهُم ارْتِكَاب الْمعاصِي، قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ لآتينهم من كل الجوانب، قَالَ قَتَادَة: لم يقل الْخَبيث: من فَوْقهم؛ لِأَن الرَّحْمَة تنزل عَلَيْهِم من فَوْقهم.(2/169)
{أَكْثَرهم شاكرين (17) قَالَ اخْرُج مِنْهَا مذءوما مَدْحُورًا لمن تبعك مِنْهُم لأملأن جَهَنَّم مِنْكُم أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة فكلا من حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين (19) فوسوس لَهما الشَّيْطَان ليبدي لَهما مَا}
{وَلَا تَجِد أَكْثَرهم شاكرين} أَي: مُؤمنين فَإِن قيل: بأيش علم الْخَبيث أَنه لَا يجد أَكْثَرهم شاكرين؟ قيل: قَرَأَ من اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَقيل: قَالَ ذَلِك ظنا؛ فَأجَاب كَمَا قَالَ الله - تَعَالَى -: {وَلَقَد صدق عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنّه} .(2/170)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ اخْرُج مِنْهَا مذءوما} وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " مذموما "، وَالْمَعْرُوف. مذءوما من الذأم: وَهُوَ الْعَيْب، وَقيل: مَعْنَاهُ مقيتا من المقت.
{مَدْحُورًا} أَي: مطرودا {لمن تبعك مِنْهُم لأملان جَهَنَّم مِنْكُم أَجْمَعِينَ} اللَّام فِيهِ للقسم، يَعْنِي: أقسم لمن تبعك مِنْهُم لأملأن جَهَنَّم مِنْكُم أَجْمَعِينَ.(2/170)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَيَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} وَقد بَينا هَذَا {فكلا من حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين} وَقد بَينا على قَول ابْن عَبَّاس: أَنَّهَا كَانَت شَجَرَة السنبلة، وَقيل: شَجَرَة التِّين، وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب: كَانَت شَجَرَة الكافور، وَقيل: كَانَت شَجَرَة تَأْكُل مِنْهَا الْمَلَائِكَة تسمى: شَجَرَة الْخلد.(2/170)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
قَوْله - تَعَالَى -: {فوسوس لَهما الشَّيْطَان} الوسوسة: حَدِيث يلقيه الشَّيْطَان فِي قلب الْإِنْسَان، وَاخْتلفُوا كَيفَ وسوس لَهما وهما فِي الْجنَّة، وَهُوَ فِي الأَرْض؟
فَقيل: وسوس لَهما من الأَرْض؛ لِأَن الله - تَعَالَى - أعطَاهُ قُوَّة بذلك حَتَّى وسوس لَهما بِتِلْكَ الْقُوَّة من الأَرْض إِلَى الْجنَّة، وَقيل: حِين وسوس لَهما كَانَ فِي السَّمَاء؛ فَالْتَقَيَا على بَاب الْجنَّة هُوَ وآدَم، فوسوس، وَقيل: إِن الْحَيَّة خبأته فِي [أنيابها] وأدخلته الْجنَّة، فوسوس من بَين [أنيابها] ؛ فمسحت الْحَيَّة، وأخرجت من الْجنَّة.
{ليبدي لَهما مَا ووري عَنْهُمَا من سوءاتهما} اللَّام فِيهِ لَام الْعَاقِبَة؛ فَإِنَّهُ لم(2/170)
{ووري عَنْهُمَا من سوءاتهما وَقَالَ مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين (20) وقاسمهما إِنِّي لَكمَا لمن الناصحين (21) فدلاهما بغرور} يوسوس لهَذَا، لَكِن عَاقِبَة أَمرهم فِي وسوسته أَنه أبدى لَهما مَا ستر من عورتيهما.
{وَقَالَ مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين} وَهَذِه كَانَت وسوسته؛ وَقَرَأَ يحيى بن أبي كثير وَالضَّحَّاك: " إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ " بِكَسْر اللَّام، وَالْمَعْرُوف: " ملكَيْنِ " بِفَتْح اللَّام، قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: لم يكن فِي الْجنَّة ملك لغير الله حَتَّى يَقُول: ملكَيْنِ من الْملك، وَكَانَ فِيهَا الْمَلَائِكَة، وَمَعْنَاهُ: مَا نهاكما الله عَن أكل هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أنكما إِذا اكلتما صرتما ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين.(2/171)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
{وقاسمهما إِنِّي لَكمَا لمن الناصحين} وسوس لَهما، وَحلف عَلَيْهِ، وَهُوَ أول من حلف بِاللَّه كَاذِبًا، فَكل من حلف بِاللَّه كَاذِبًا؛ فَهُوَ من أَتبَاع إِبْلِيس، وَفِي الحَدِيث:
" إِن الْمُؤمن يخدع بِاللَّه " فَلَمَّا حلف إِبْلِيس على مَا وسوسه بِهِ؛ ظن آدم أَنه لَا يحلف أحد بِاللَّه إِلَّا صَادِقا؛ من سَلامَة قلبه، فاغتر بِهِ.
وَفِيه قَول آخر: أَن قَوْله: {وقاسمهما} من الْقِسْمَة، كَأَن إِبْلِيس قَالَ لَهما: كلا من هَذِه الشَّجَرَة، فَمَا كَانَ من خير فلكما، وَمَا كَانَ من شَرّ وَسُوء فعلي.
وَقَوله: {إِنِّي لَكمَا لمن الناصحين} يَعْنِي: المرشدين، المريدين للخير.
فَإِن قَالَ قَائِل: قَوْله: {مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ} دَلِيل على أَن الْمَلَائِكَة أفضل من الْآدَمِيّين، قيل: مَعْنَاهُ - وَالله أعلم -: أَنَّهُمَا رَأيا الْمَلَائِكَة فِي أحسن صُورَة، وَأَرْفَع منزلَة، وَفِي تَسْبِيح دَائِم من غير تَعب وَلَا شَهْوَة؛ فتمنيا أَن يصلا إِلَى تِلْكَ الْمنزلَة لَو أكلا من تِلْكَ الشَّجَرَة، ويتخلصا من التَّعَب، وَمن شَهْوَة البشرية، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيل على أَن الْملك أفضل من الْآدَمِيّ.(2/171)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
وَقَوله: {فدلاهما بغرور} أَي: حطهما من منزلَة الطَّاعَة إِلَى حَالَة الْمعْصِيَة، قَالَ(2/171)
{فَلَمَّا ذاقا الشَّجَرَة بَدَت لَهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة وناداهما ربهما ألم أنهكما عَن تلكما الشَّجَرَة وَأَقل لَكمَا إِن الشَّيْطَان لَكمَا عَدو مُبين (22) قَالَا} الشَّاعِر:
(ويوسف إِذْ دلاه أَوْلَاد عِلّة ... فَأصْبح فِي قَعْر البريكة ثاويا)
وَأما الْغرُور: فَهُوَ إِظْهَار النصح مَعَ إبطان الْغِشّ.
قَوْله - تَعَالَى -: {فَلَمَّا ذاقا الشَّجَرَة بَدَت لَهما سوءاتهما} فِي هَذَا دَلِيل على أَنَّهُمَا لم يمتعا فِي الْأكل، قَالَ ابْن عَبَّاس: قيل: إِن إزدادا؛ أخذتهما الْعقُوبَة، وَكَانَت عقوبتهما أَن تهافت عَنْهُمَا لباسهما، وبدت عورتهما.
{وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة} قَالَ ثَعْلَب: جعلا يلصقان بعض الْوَرق بِالْبَعْضِ، ويستران الْعَوْرَة بِهِ، وَيُقَال: خصف النَّعْل؛ إِذا جعل طبقًا على طبق، وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك الْوَرق، قَالَ ابْن عَبَّاس - وَبِه قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين -: إِنَّه ورق التِّين وَالزَّيْتُون، وَقيل: كَانَ ورق الموز.
{وناداهما ربهما ألم أنهكما عَن تلكما الشَّجَرَة} يَعْنِي: عَن الْأكل مِنْهَا {وَأَقل لَكمَا إِن الشَّيْطَان لَكمَا عَدو مُبين} أَي: بَين الْعَدَاوَة، ويحكى عَن أبي بن كَعْب، وَيذكر عَن عَطاء أَيْضا، أَنَّهُمَا قَالَا: لما بَدَت سوتهما فِي الْجنَّة، هرب آدم فِي الْجنَّة؛ فتعلقت شَجَرَة بِشعرِهِ، وناداه الرب: أفرارا مني يَا آدم؟ فَقَالَ: لَا بل حَيَاء مِنْك يَا رب.(2/172)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَا رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} اعْترف آدم بالذنب، وَسَأَلَ الْمَغْفِرَة، وَهَذَا هُوَ الْفرق بَين معصيتة ومعصية إِبْلِيس، أَن إِبْلِيس عصى وأصر على الْمعْصِيَة، وآدَم عصى وَتَابَ عَن الْمعْصِيَة، وَأَن إِبْلِيس كَانَ مُتَعَمدا، وآدَم كَانَ سَاهِيا، وَاخْتلفُوا فِي أَن آدم هَل عرف عِنْد الْأكل أَنه مَعْصِيّة؟ قَالَ بَعضهم: عرف ذَلِك، لَكِن الله غفر لَهُ، وَتَابَ عَلَيْهِ، وَقيل: دخل عَلَيْهِ شُبْهَة من وَسْوَسَة إِبْلِيس، وَلم يكن مُتَعَمدا؛ إِذْ كَانَ مَعْصُوما نَبيا.(2/172)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو} فَإِن قَالَ قَائِل: ألم يكن(2/172)
{رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23) قَالَ اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر ومتاع إِلَى حِين (24) قَالَ فِيهَا تحيون وفيهَا تموتون وَمِنْهَا تخرجُونَ (25) يَا بني آدم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوءاتكم} خَاطب إِبْلِيس بالهبوط من قبل، فَمَا معنى هَذِه الْإِعَادَة؟ قيل: إِن هَذَا الثَّانِي خطاب لآدَم وحواء والحية، قَالَه أَبُو صَالح، وإبليس خَارج من الْخطاب، وَقيل: الْخطاب للْكُلّ؛ لأَنهم وَإِن اقترفوا فِي وَقت الْإِخْرَاج والإنزال، (لَكِن) لما اجْتَمعُوا فِي الْإِنْزَال جمع بَينهم فِي الْخطاب، وَالْأول خَاص لإبليس، وَالْخطاب الثَّانِي عَام للْكُلّ.
{وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر ومتاع إِلَى حِين} وَفِي الْقَصَص: أَن آدم وَقع بِأَرْض الْهِنْد، وحواء بجدة، والحية بِمَيْسَان، وإبليس بأيلة، وَقيل: بمداد، وَقيل: وَقع إِبْلِيس بِأَرْض الْبَصْرَة، ثمَّ خرج إِلَى أَرض مصر وباض وفرخ فِيهِ.
وَعَن ابْن عمر أَنه قَالَ: لما أخرج الله - تَعَالَى - إِبْلِيس إِلَى الأَرْض، قَالَ: يَا رب، أَيْن مسكني؟ قَالَ: الحمامات؛ فَقَالَ: أَيْن مجلسي؟ قَالَ: الْأَسْوَاق، فَقَالَ: وأيش مطعمي؟ قَالَ: كل طَعَام لم يذكر عَلَيْهِ اسْمِي، فَقَالَ: وماذا شرابي؟ فَقَالَ: كل مُسكر. قَالَ: وَمَا حبالتي؟ فَقَالَ: النِّسَاء، فَقَالَ: وَمَا كتابتي؟ قَالَ: الوشم، فَقَالَ: وَمن رُسُلِي؟ قَالَ: الكهنة.(2/173)
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ فِيهَا تحيون وفيهَا تموتون وَمِنْهَا تخرجُونَ} يَعْنِي: الأَرْض فِيهَا حَيَاتكُم وموتكم، وَمِنْهَا بعثكم.(2/173)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا بني آدم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوءاتكم} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: أنزلنَا. وَلم ينزل اللبَاس من السَّمَاء؟ قيل: قد أنزل الْمَطَر، وكل نَبَات من الْمَطَر؛ فَكَأَنَّهُ أنزلهُ، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن كل مَا فِي الأَرْض فَهُوَ من بَرَكَات السَّمَاء؛ فَيكون كالمنزل من السَّمَاء، وعَلى هَذَا معنى قَوْله - تَعَالَى -: {وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد} وَإِنَّمَا يسْتَخْرج من الأَرْض، لَكِن نسبه إِلَى السَّمَاء، كَذَا هَذَا.(2/173)
{وريشا ولباس التَّقْوَى ذَلِك خير ذَلِك من آيَات الله لَعَلَّهُم يذكرُونَ (26) يَا بني آدم لَا}
وَسبب نزُول الْآيَة: أَنهم فِي الْجَاهِلِيَّة، كَانُوا يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة، وَيَقُولُونَ لَا نطوف فِي (أَثوَاب) عصينا الله - تَعَالَى - فِيهَا، وَكَانَ الرِّجَال يطوفون عُرَاة بِالنَّهَارِ، وَالنِّسَاء بِاللَّيْلِ؛ فَنزلت الْآيَة فِي الْمَنْع عَن ذَلِك. قَالَ الزُّهْرِيّ: كَانَت الْعَرَب يطوفون كَذَلِك عُرَاة إِلَّا الحمس، وهم قُرَيْش وأحلاف قُرَيْش، كَانُوا يطوفون فِي ثِيَابهمْ، وَسموا حمسا؛ بشدتهم فِي دينهم، وَمِنْه الحماسة لشدتها، وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَت النِّسَاء يطفن وعليهن رهاط، والرهط: قِطْعَة من صوف لَا تستتر تَمام الْعَوْرَة، وَرُبمَا كَانَت من سيورة، وَقَالَ قَتَادَة: كَانَت الْمَرْأَة مِنْهُم تَطوف تضع يَدهَا على فرجهَا تستر بهَا عورتها، وَتقول:
(الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله ... وَمَا بدا مِنْهُ فَلَا أحله)
فَقَوله: {قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوءاتكم} مَعْنَاهُ: قد أنزلنَا عَلَيْكُم مَا تسترون بِهِ عورتكم؛ فَلَا تطوفوا بِالْبَيْتِ عُرَاة، وَقَوله: {وريشا} وَقُرِئَ: " ورياشا " مِنْهُم من فرق بَينهمَا.
قَالَ مُجَاهِد: الريش: المَال، وَقَالَ الْكسَائي: الريش: اللبَاس.
وَأما الرياش: قيل: هُوَ المعاش، يُقَال: تريش فلَان إِذا وجد مَا يعِيش بِهِ، وَقيل: الرياش: أثاث الْبَيْت، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الريش والرياش وَاحِد، وَهُوَ مَا يَبْدُو من اللبَاس، والشعرة وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ:
(وريشي مِنْكُم وهواي فِيكُم ... وَإِن كَانَت زيارتكم لماما)
أَي: قَلِيلا، وَقَوله: {ولباس التَّقْوَى} يقْرَأ بِالنّصب، (يَعْنِي) : وأنزلنا عَلَيْكُم لِبَاس التَّقْوَى، وَيقْرَأ: " ولباس التَّقْوَى " بِالرَّفْع، يَعْنِي: هُوَ لِبَاس التَّقْوَى.(2/174)
{يفتننكم الشَّيْطَان كَمَا أخرج أبويكم من الْجنَّة ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوءاتهما}
قَالَ القتيبي: يَعْنِي: الثِّيَاب لِبَاس التَّقْوَى؛ فَإِن من اتَّقى الله يطوف لابسا لَا عَارِيا، وَفِي الحَدِيث: " إِن لِبَاس التَّقْوَى هُوَ الْحيَاء " لِأَنَّهُ يبْعَث على التَّقْوَى، وَهُوَ قَول الْحسن،
قَالَ الشَّاعِر:
(إِنِّي كَأَنِّي أرى من لَا حَيَاء لَهُ ... وَلَا أَمَانَة وسط النَّاس عُريَانا)
قَالَ عِكْرِمَة: الْحيَاء وَالْإِيمَان فِي قرن وَاحِد، فَإِذا ذهب أَحدهمَا؛ تبعه الآخر، وَقَالَ قَتَادَة: لِبَاس التَّقْوَى: هوالإيمان، وَقَالَ عُثْمَان بن عَفَّان: لِبَاس التَّقْوَى: هُوَ السمت الْحسن، وَقَالَ عُرْوَة: هُوَ خشيَة الله، وَقيل: لِبَاس التَّقْوَى هَا هُنَا: لِبَاس الصُّوف، وَالثَّوْب (الخشن) الَّذِي يلْبسهُ أهل الْوَرع، وَقيل: هُوَ الْعَمَل الصَّالح.
{ذَلِك خير} قيل: " ذَلِك " حِيلَة وَتَقْدِيره: ولباس التَّقْوَى خير، وَهَكَذَا قَرَأَهُ الْأَعْمَش، وَقيل: " ذَلِك " فِي مَوْضِعه، وَمَعْنَاهُ: ذَلِك الَّذِي ذكر من اللبَاس والريش، وكل مَا ذكر خير {ذَلِك من آيَات الله لَعَلَّهُم يذكرُونَ} .(2/175)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا بني آدم لَا يفتنتكم الشَّيْطَان كَمَا أخرج أبويكم من الْجنَّة} أَي: لَا يضلنكم الشَّيْطَان، كَمَا فتن أبويكم فأخرجهما من الْجنَّة.
{ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوءاتهما} هُوَ مَا ذكرنَا من تهافت اللبَاس عِنْد أكلهَا من الشَّجَرَة، وَفِيه دَلِيل على أَنَّهُمَا مَا كَانَا يريان عورتهما من قبل؛ حَيْثُ قَالَ: ليريهما سوءاتهما وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك اللبَاس الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمَا مَا هُوَ؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: لباسهما كَانَ من الظفر؛ كَأَن الله - تَعَالَى - ألبسهما من جنس ظفرهما، وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: كَانَ لباسا من النُّور.(2/175)
{إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم إِنَّا جعلنَا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء للَّذين لَا يُؤمنُونَ (27) وَإِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ (28) قل أَمر رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأقِيمُوا وُجُوهكُم عِنْد كل مَسْجِد وادعوه مُخلصين لَهُ الدّين كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ (29) فريقا هدى}
{إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله} أَي: وَجُنُوده {من حَيْثُ لَا ترونهم} يَعْنِي: أَن الشَّيْطَان وَجُنُوده يرونكم، وَأَنْتُم لَا ترونهم {إِنَّا جعلنَا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء للَّذين لَا يُؤمنُونَ} يَعْنِي: أَن الشَّيَاطِين يوالون الْكفَّار، وَهَذَا قَوْله: {أَنا أرسلنَا الشَّيَاطِين على الْكَافرين تؤزهم أزا} .(2/176)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا فعلوا فَاحِشَة} قيل: الْفَاحِشَة هَا هُنَا هِيَ طوافهم عُرَاة، وَقيل: هِيَ الشّرك ( {قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا} قل) يَا مُحَمَّد: {إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء} وَهِي كل فعل قَبِيح بلغ النِّهَايَة فِي الْقبْح {أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ} .(2/176)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل أَمر رَبِّي بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ والصدق {وَأقِيمُوا وُجُوهكُم عِنْد كل مَسْجِد} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا أَن مَعْنَاهُ: أقِيمُوا الصَّلَاة فِي كل مَسْجِد تدرككم فِيهِ الصَّلَاة، وَلَا تَقولُوا نؤخرها إِلَى مَسْجِدنَا، وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: استقبلوا الْقبْلَة بوجوهكم فِي كل صَلَاة، وَالثَّالِث مَعْنَاهُ: أَخْلصُوا صَلَاتكُمْ وعبادتكم لله - تَعَالَى -.
{وادعوه مُخلصين لَهُ الدّين كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ} يَعْنِي: تعودُونَ فُرَادَى بِلَا أهل وَلَا مَال، كَمَا خَلقكُم فُرَادَى بِلَا أهل وَلَا مَال، وَهَذَا معنى قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة} قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: إِن إعادتكم أَحيَاء كخلقكم ابْتِدَاء، كِلَاهُمَا عَليّ هَين، وَالصَّحِيح أَن المُرَاد بِهِ: انه كَمَا خَلقكُم أشقياء وسعداء، ومؤمنين وكافرين، تعودُونَ كَذَلِك؛ وَعَلِيهِ دلّ(2/176)
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
قَوْله - تَعَالَى -: {فريقا(2/176)
{وفريقا حق عَلَيْهِم الضَّلَالَة إِنَّهُم اتَّخذُوا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء من دون الله وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون (30) يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد وكلوا وَاشْرَبُوا وَلَا تسرفوا إِنَّه} هدى وفريقا حق عَلَيْهِم الضَّلَالَة) أَي: فريقا هدَاهُم الله، وفريقا أضلهم الله [تَعَالَى] ؛ فَوَجَبت عَلَيْهِم الضَّلَالَة، وَقد صَحَّ الحَدِيث عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " حَدثنِي الصَّادِق المصدوق - يَعْنِي رَسُول الله -: أَن الرجل ليعْمَل بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى لَا يكون بَينه وَبَين الْجنَّة إِلَّا ذِرَاعا؛ فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب، فَيعْمل بِعَمَل أهل النَّار؛ فَيدْخل النَّار، وَإِن الرجل ليعْمَل بِعَمَل أهل النَّار، حَتَّى لَا يبْقى بَينه وَبَين النَّار إِلَّا ذِرَاع، فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب، فَيعْمل بِعَمَل أهل الْجنَّة؛ فَيدْخل الْجنَّة ".
{إِنَّهُم اتَّخذُوا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء من دون الله وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون} وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن المستبصر بالْكفْر الَّذِي يحْسب أَنه على الْحق مثل المعاند سَوَاء.(2/177)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد} هُوَ فِي الْأَمر بِالطّوافِ وَالصَّلَاة لابسا، وَفِي شواذ التفاسير: أَنه الْمشْط، وَلبس النَّعْل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: السكينَة، وَالْوَقار، وَذَلِكَ معنى مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " إِذا أتيتم الصَّلَاة فَلَا تأتوها وَأَنْتُم تسعون وَلَكِن ائتوها وَأَنْتُم تمشون، وَعَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار ".
{وكلوا وَاشْرَبُوا} قَالَ الْفراء: إِنَّمَا أَمرهم بِالْأَكْلِ وَالشرب؛ لأَنهم كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يتركون أكل اللَّحْم وَالدَّسم فِي وَقت الْمَوْسِم، كَمَا يتركون اللبَاس عِنْد الطّواف وَيَقُولُونَ: نَتْرُك اللَّحْم وَالدَّسم لله - تَعَالَى -.
{وَلَا تسرفوا} أَي: بتحليل مَا حرم الله، وبتحريم مَا أحل الله، وكل مَال أنْفق(2/177)
{لَا يحب المسرفين (31) قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ (32) قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ (33) } فِي مَعْصِيّة الله؛ فَهُوَ سرف، وأصل الْإِسْرَاف: هُوَ مُجَاوزَة الْحَد بغلو أَو تَقْصِير {إِنَّه لَا يحب المسرفين} .(2/178)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ} يَعْنِي: اللبَاس عِنْد الطّواف {والطيبات من الرزق} يَعْنِي: مَا حرمُوا على أنفسهم من أكل اللَّحْم فِي أَيَّام الْمَوْسِم، مَعَ سَائِر مَا حرمُوا من الْبحيرَة، والسائبة وَنَحْوهَا. {قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة} قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين - وَهُوَ قَول الضَّحَّاك -: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: هِيَ للَّذين آمنُوا وللمشركين فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، خَالِصَة للْمُؤْمِنين يَوْم الْقِيَامَة: وَقيل: مَعْنَاهُ: خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة من التنغيص وَالْغَم، فَإِنَّهَا لَهُم فِي الدُّنْيَا مَعَ التنغيص وَالْغَم. {كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ} .(2/178)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
قَوْله - تَعَالَى -: {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن} قَالَ قَتَادَة: هِيَ الزِّنَا سرا وعلنا، وَقَالَ غَيره: مَا ظهر مِنْهَا: نِكَاح الْمَحَارِم، وَمَا بطن: الزِّنَا {وَالْإِثْم وَالْبَغي يُغير الْحق} أما الْإِثْم فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: قَالَ الْفراء: كل مَا دون الْحَد، وَقيل: هُوَ كل الْمعاصِي، وَقيل: الْإِثْم الْخمر، وَقد ورد ذَلِك فِي الشّعْر:
(شربت (الْإِثْم) حَتَّى ضل عَقْلِي ... كَذَاك الْإِثْم يذهب بالعقول)
وَأما الْبَغي، قيل: هُوَ الاستطالة على النَّاس، وَقيل هُوَ الْفساد، وَقَالَ ثَعْلَب: هُوَ أَن يَقع فِي النَّاس بِغَيْر الْحق {وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه} وَتَقْدِيره: وَحرم أَن تُشْرِكُوا بِاللَّه {مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا} أَي: حجَّة {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} لأَنهم كَانُوا(2/178)
{وَلكُل أمة اجل فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بني آدم إِمَّا يَأْتينكُمْ رسل مِنْكُم يقصون عَلَيْكُم آياتي فَمن اتَّقى وَأصْلح فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم} ينسبون كل مَا ارتكبوا من الْفَوَاحِش والإشراك إِلَى الله - تَعَالَى - وَيَقُولُونَ: نفعله بِأَمْر الله؛ فَهَذَا قَوْلهم على الله مَا لَا يعلمُونَ.(2/179)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلكُل أمة أجل} يَعْنِي: مُدَّة الْعُمر {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} فَإِن قيل: لم خص السَّاعَة، وهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ دون السَّاعَة، وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ؟ قيل: إِنَّمَا خصها لِأَنَّهَا أقل الْأَوْقَات الْمَعْلُومَة.(2/179)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
قَوْله - تَعَالَى -: {يَا بني آدم إِمَّا يَأْتينكُمْ} فَقَوله: " إِمَّا " كلمتان: " إِن " و " مَا " فأدغمت إِحْدَاهمَا فِي الْأُخْرَى، وَمَعْنَاهُ: مَتى يأتكم، وَإِن يأتكم {رسل مِنْكُم} قيل: أَرَادَ بِهِ رَسُولنَا خَاصَّة، وَقيل: كل الرُّسُل {يقصون عَلَيْكُم آياتي فَمن اتَّقى وَأصْلح} أَي: اتَّقى الشّرك، وَأصْلح مَا بَينه وَبَين ربه {فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} .(2/179)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا} وَإِنَّمَا ذكر الاستكبار؛ لِأَن كل مكذب وكل كَافِر مستكبر، وَإِنَّمَا كذب وَكفر تكبرا، قَالَ الله - تَعَالَى - {إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ} أَي: استكبروا عَن الْإِقْرَار بالوحدانية {أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} .(2/179)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته} وَقد بَينا هَذَا الافتراء {أُولَئِكَ ينالهم نصِيبهم من الْكتاب} فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا - وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس: ينالهم مَا قدر لَهُم من خير وَشر.
وَالثَّانِي: قَول مُجَاهِد: ينالهم مَا وعدوا من خير وَشر.
وَالثَّالِث: قَول سعيد بن جُبَير: ينالهم مَا قضى لَهُم من الشقاوة والسعادة.
وَالرَّابِع: قَول مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: أَرَادَ بِهِ: الْأَجَل وَالْعَمَل والرزق.(2/179)
{يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (36) فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته أُولَئِكَ ينالهم نصِيبهم من الْكتاب حَتَّى إِذا جَاءَتْهُم رسلنَا يتوفونهم قَالُوا أَيْن مَا كُنْتُم تدعون من دون الله قَالُوا ضلوا عَنَّا وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين (37) قَالَ ادخُلُوا فِي أُمَم قد خلت من قبلكُمْ من الْجِنّ وَالْإِنْس فِي النَّار كلما دخلت أمة لعنت أُخْتهَا حَتَّى إِذا}
وَفِيه قَول خَامِس مَعْرُوف: ينالهم نصِيبهم من الْعَذَاب الْمَذْكُور فِي الْكتاب؛ فَإِنَّهُ ذكر فِي الْكتاب عَذَاب الْفرق من الْكفَّار مثل: الْمُنَافِقين وَالْيَهُود، وَالنَّصَارَى، وَالْمُشْرِكين.
{حَتَّى إِذا جَاءَتْهُم رسلنَا يتوفونهم} يَعْنِي: ملك الْمَوْت وأعوانه {يتوفونهم} أَي: يتوفون عدد آجالهم {قَالُوا أَيْن مَا كُنْتُم تدعون من دون الله} يَعْنِي: الرُّسُل يَقُولُونَ للْكفَّار: أَيْن الَّذين كُنْتُم تدعون من دون الله من الْأَصْنَام؟ {قَالُوا ضلوا عَنَّا} أَي: ذَهَبُوا وفاتوا عَنَّا {وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين} .(2/180)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ ادخُلُوا فِي أُمَم} يَعْنِي: مَعَ أُمَم، وَهُوَ مثل قَول امْرِئ الْقَيْس:
(وَهل ينعمن من كَانَ أقرب عَهده ... ثَلَاثِينَ شهرا فِي ثَلَاثَة أَحْوَال)
أَي: مَعَ ثَلَاثَة أَحْوَال: وَقيل: مَعْنَاهُ: ادخُلُوا بَين أُمَم (قد خلت) أَي: مَضَت {من قبلكُمْ من الْجِنّ وَالْإِنْس فِي النَّار} وَفِيه دَلِيل على أَن الْجِنّ يموتون كالإنس؛ خلافًا لقَوْل الْحسن، حَيْثُ قَالَ: لَا يموتون.
{كلما دخلت أمة لعنت أُخْتهَا} قَالَ الْفراء: يَعْنِي: أُخْتهَا فِي الدّين لَا فِي النّسَب، يَعْنِي: يلعن الْيَهُود الْيَهُود، وَالنَّصَارَى النَّصَارَى.
{حَتَّى إِذا اداركوا} أَي: تداركوا وتتابعوا واجتمعوا {فِيهَا جَمِيعًا قَالَت أخراهم لأولاهم} أَرَادَ بِهِ: أُخْرَى كل أمة، وَأولى كل أمة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: آخِرهم دُخُولا، وأولهم دُخُولا، وهم القادة مَعَ الأتباع؛ فَإِن القادة يدْخلُونَ أَولا.(2/180)
{فضل فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكسبون (39) إِن الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لَا تفتح لَهُم أَبْوَاب السَّمَاء وَلَا يدْخلُونَ الْجنَّة حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط وَكَذَلِكَ نجزي الْمُجْرمين (40) لَهُم من جَهَنَّم مهاد وَمن فَوْقهم غواش وَكَذَلِكَ نجزي الظَّالِمين}
{رَبنَا هَؤُلَاءِ أضلونا} يَعْنِي: القادة أضلونا {فآتهم عذَابا ضعفا من النَّار} أَي: ضاعف لَهُم الْعَذَاب {قَالَ لكل ضعف وَلَكِن لَا تعلمُونَ} بِالتَّاءِ فَقَوله {وَلَكِن لَا تعلمُونَ} يَعْنِي: أَيهَا النَّاس لَا تعلمُونَ، أما من قَرَأَ بِالْيَاءِ فَمَعْنَاه: لَا يعلم القادة مَا للأتباع وَلَا الأتباع الأتباع مَا للقادة.(2/181)
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالَت أولاهم} يَعْنِي: القادة {لأخراهم} يَعْنِي: الأتباع {فَمَا كَانَ لكم علينا من فضل} قَالَ السّديّ: مَعْنَاهُ: أَنكُمْ كَفرْتُمْ، كَمَا كفرنا، وجحدتم كَمَا جحدنا، فَلَيْسَ لكم علينا من فضل، وَقيل: مَعْنَاهُ: مَا كَانَ لكم علينا من فضل فِي تَخْفيف الْعَذَاب {فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكسبون} .(2/181)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لَا تفتح لَهُم أَبْوَاب السَّمَاء} اعْلَم أَن أَبْوَاب السَّمَاء تفتح لثَلَاثَة: للأعمال، والأدعية، والأرواح، وَفِي الْخَبَر. " أَن الْملك يصعد بِروح الْمُؤمن، وَلها ريح طيبَة؛ فتفتح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء، ويصعد بِروح الْكَافِر، وَلها ريح مُنْتِنَة؛ فتغلق لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء، وَيُؤمر بطرحها فِي السجين فَذَلِك قَوْله - تَعَالَى -: ( {كلا إِن كتاب الْأَبْرَار لفي عليين} كلا إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين) " وَمعنى الْآيَة: أَنه لَا تفتح أَبْوَاب السَّمَاء لأعمال الْكفَّار وأدعيتهم وأرواحهم.(2/181)
( {41) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة}
وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا تفتح لَهُم أَبْوَاب الْجنَّة، لَكِن عبر عَنْهَا بِأَبْوَاب السَّمَاء؛ لِأَن أَبْوَاب الْجنَّة فِي السَّمَاء.
{وَلَا يدْخلُونَ الْجنَّة حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط} وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " يلج الْجمل " بِرَفْع الْجِيم وَتَشْديد الْمِيم، وَقَرَأَ سعيد بن جُبَير: " حَتَّى يلج الْجمل " بِرَفْع الْجِيم مُخَفّفَة الْمِيم، وَقَرَأَ ابْن سِيرِين: " فِي سم الْخياط " بِرَفْع السِّين، وَالْمَعْرُوف {حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط} وَهُوَ الْجمل الْمَعْرُوف، وَسُئِلَ ابْن مَسْعُود عَن هَذَا الْجمل فَقَالَ: هُوَ زوج النَّاقة، كَأَنَّهُ استحمق السَّائِل حِين سَأَلَهُ عَمَّا لَا يخفى، ويحكى عَن الْحسن أَنه قَالَ: هُوَ الأشطر الَّذِي عَلَيْهِ جولقان أسودان، وَأما الْجمل الَّذِي قَرَأَهُ ابْن مَسْعُود: فَهُوَ قلس السَّفِينَة، وَأما الْجمل بِالتَّخْفِيفِ، قيل: هُوَ أَيْضا قلس السَّفِينَة، وَقيل: هُوَ حَبل السَّفِينَة، وَأما السم والسم وَاحِد، وَهُوَ ثقبة الْمخيط، وَالْمرَاد بِالْآيَةِ: تَأْكِيد منع دُخُولهمْ الْجنَّة، وَذَلِكَ سَائِر فِي كَلَام الْعَرَب، وَهُوَ مثل قَوْلهم: لَا أفعل كَذَا حَتَّى يشيب الْغُرَاب، وَحَتَّى يبيض القار، وَقَالَ الشَّاعِر:
(إِذا شَاب الْغُرَاب أتيت أَهلِي ... وَصَارَ القار كاللبن الحليب)
والقار والقير: شَيْء أسود، يضْرب بِهِ الْمثل، يُقَال: شَيْء كالقير والقار فِي السوَاد {وَكَذَلِكَ نجزي الْمُجْرمين} .(2/182)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
قَوْله - تَعَالَى -: {لَهُم من جَهَنَّم مهاد} أَي: فرش {وَمن فَوْقهم غواش} أَي: لحف وَهَذَا مثل قَوْله: {لَهُم من فَوْقهم ظلل من النَّار وَمن تَحْتهم ظلل} .
قَالَ سِيبَوَيْهٍ - رَحمَه الله -: التَّنْوِين فِي قَوْله {غواش} غير أُصَلِّي، وَإِنَّمَا هُوَ بدل عَن الْيَاء وَأَصله: " غواشي " وَمثله كثير ( {وَكَذَلِكَ نجزي الظَّالِمين}(2/182)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا) أَي: طاقتها {أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ} .(2/182)
{هم فِيهَا خَالدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل تجْرِي من تَحْتهم الْأَنْهَار وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله لقد جَاءَت رسل رَبنَا}(2/183)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صدروهم من غل تجْرِي من تَحْتهم الْأَنْهَار} . الغل الْغِشّ والحقد، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: أَرْجُو أَن أكون أَنا وَعُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر من الَّذين قَالَ الله - تَعَالَى -: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صدروهم من غل} .
وروى مُسلم فِي الصَّحِيح بِإِسْنَادِهِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا خلص الْمُؤْمِنُونَ عَن الصِّرَاط حبسوا على قنطرة بَين الْجنَّة وَالنَّار، فيقتص بَعضهم من بعض، حَتَّى إِذا نقوا وهذبوا، أذن لَهُم فِي دُخُول الْجنَّة؛ فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ، لأَحَدهم أهْدى إِلَى منزله فِي الْجنَّة مِنْهُ إِلَى منزله فِي الدُّنْيَا ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن على بَاب الْجنَّة عينا يشرب مِنْهَا أهل الْجنَّة ويغتسلون؛ فَيذْهب الغل والحقد من قُلُوبهم، ثمَّ يدْخلُونَ الْجنَّة ".
{وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله} ، وَفِي هَذَا دَلِيل على الْقَدَرِيَّة {لقد جَاءَت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ ونودوا أَن تلكم الْجنَّة أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} تِلْكَ تَأْنِيث ذَلِك، وَمعنى الْآيَة: كَأَنَّهُمْ إِذا رَأَوْا الْجنَّة من بعيد نُودُوا: أَن تلكم الْجنَّة، وَقيل: هَذَا النداء يكون فِي الْجنَّة، فينادون: هَذِه الْجنَّة الَّتِي أورثتموها، وَفِي الْخَبَر: " أَن لكل وَاحِد منزلا فِي الْجنَّة ومنزلا فِي النَّار، ثمَّ يَرث الْمُؤمن من الْكَافِر منزله فِي الْجنَّة، وَيَرِث الْكَافِر من الْمُؤمن منزله فِي النَّار ".(2/183)
{بِالْحَقِّ ونودوا أَن تلكم الْجنَّة أورثتموها بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ (43) ونادى أَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب النَّار أَن قد وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا فَهَل جدتم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم فَأذن مُؤذن بَينهم أَن لعنة الله على الظَّالِمين (44) الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله}(2/184)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
قَوْله - تَعَالَى -: {ونادى أَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب النَّار أَن قد وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا} وَهَذَا قبل التطبيق على جَهَنَّم {قَالُوا نعم} وَقد بَينا أَن جَوَاب الِاسْتِفْهَام الَّذِي فِيهِ جحد: " بلَى "، وَجَوَاب الِاسْتِفْهَام الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تجحد: " نعم " {فَأذن مُؤذن بَينهم أَن لعنة الله على الظَّالِمين} .(2/184)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
{الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله} أَي: يعرضون عَن الدّين {ويبغونها عوجا} أَي: يطْلبُونَ الدّين بالزيغ، والعوج بِمَعْنى الزيغ هَا هُنَا ( {وهم بِالآخِرَة كافرون}(2/184)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
وَبَينهمَا حجاب) وَهُوَ حجاب بَين الْجنَّة وَالنَّار. {وعَلى الْأَعْرَاف رجال} قيل: الْأَعْرَاف: سور بَين الْجنَّة وَالنَّار، وَذَلِكَ قَوْله: {فَضرب بَينهم بسور} وَقيل: هُوَ مَكَان مُرْتَفع، وَالْأول أصح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ.
وَأما الرِّجَال الَّذين على الْأَعْرَاف، اخْتلفُوا فيهم، قَالَ ابْن مَسْعُود، وَحُذَيْفَة، وَعَطَاء: هم قوم اسْتَوَت حسناتهم وسيئاتهم، وَقَالَ أَبُو مجلز لَاحق بن حميد، هم قوم من الْمَلَائِكَة فِي صُورَة رجال من الْإِنْس، وَحكى مقَاتل بن سُلَيْمَان فِي تَفْسِيره عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " هم قوم غزوا بِغَيْر إِذن آبَائِهِم، فاستشهدوا، فبقوا على الْأَعْرَاف تمنع شَهَادَتهم دُخُولهمْ النَّار، وَيمْنَع عصيانهم الْآبَاء دُخُولهمْ الْجنَّة ".(2/184)
{ويبغونها عوجا وهم بِالآخِرَة كافرون (45) وَبَينهمَا حجاب وعَلى الْأَعْرَاف رجال يعْرفُونَ كلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَاب الْجنَّة أَن سَلام عَلَيْكُم لم يدخلوها وهم يطمعون (46) وَإِذا صرفت أَبْصَارهم تِلْقَاء أَصْحَاب النَّار قَالُوا رَبنَا لَا تجعلنا مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين (47) ونادى أَصْحَاب الْأَعْرَاف رجَالًا يعرفونهم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أغْنى عَنْكُم جمعكم}
وَقَالَ الْحسن: هم أهل الْفضل من الْمُؤمنِينَ، جعلُوا على الْأَعْرَاف؛ فيطلعون على أهل الْجنَّة وَالنَّار، يطالعون أَحْوَال الْفَرِيقَيْنِ {يعْرفُونَ كلا بِسِيمَاهُمْ} أَي: يعْرفُونَ أهل الْجنَّة ببياض وُجُوههم، وَأهل النَّار بسواد وُجُوههم.
{وَنَادَوْا أَصْحَاب الْجنَّة أَن سَلام عَلَيْكُم} فَإِذا رَأَوْا أهل الْجنَّة قَالُوا: سَلام عَلَيْكُم {لم يدخلوها} يَعْنِي: أَصْحَاب الْأَعْرَاف لم يدخلُوا الْجنَّة {وهم يطمعون} يَعْنِي: فِي دُخُول الْجنَّة، قَالَ الْحسن: الَّذِي جعل الطمع فِي قُلُوبهم يوصلهم إِلَى مَا يطمعون. وَقَالَ حُذَيْفَة - رَضِي الله عَنهُ: لَا يخيب الله أطماعهم.(2/185)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا صرفت أَبْصَارهم تِلْقَاء أَصْحَاب النَّار قَالُوا رَبنَا لَا تجعلنا مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين} يَعْنِي: إِذا اطلعوا على أهل النَّار، وَمَا هم فِيهِ؛ استعاذوا بِاللَّه من النَّار.(2/185)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
قَوْله - تَعَالَى -: {ونادى أَصْحَاب الْأَعْرَاف رجَالًا يعرفونهم بِسِيمَاهُمْ} قيل: إِنَّهُم يرَوْنَ الْكفَّار؛ فيعرفونهم، مثل: الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَأبي جهل، وَأبي لَهب، وَنَحْوهم فينادونهم {قَالُوا مَا أغْنى عَنْكُم جمعكم} يَعْنِي: مَا نفعكم اجتماعكم وتظاهركم فِي الدُّنْيَا {وَمَا كُنْتُم تستكبرون} .(2/185)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
قَوْله - تَعَالَى -: {أَهَؤُلَاءِ الَّذين أقسمتم لَا ينالهم الله برحمة} وَذَلِكَ حِين قَالُوا(2/185)
{وَمَا كُنْتُم تستكبرون (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذين أقسمتم لَا ينالهم الله برحمة ادخُلُوا الْجنَّة لَا خوف عَلَيْكُم وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ (49) ونادى أَصْحَاب النَّار أَصْحَاب الْجنَّة أَن أفيضوا علينا من المَاء أَو مِمَّا رزقكم الله قَالُوا إِن الله حرمهما على الْكَافرين (50) الَّذين} للْكفَّار مَا قَالُوا، ثمَّ ينظرُونَ إِلَى أهل الْجنَّة؛ فيرون خبابا، وَعمَّارًا، وبلالا، وصهيبا وَنَحْوهم، فَيَقُول أَصْحَاب الْأَعْرَاف لأولئك الْكفَّار: {أَهَؤُلَاءِ الَّذين أقسمتم لَا ينالهم الله برحمة} يَعْنِي: أَهَؤُلَاءِ الَّذين حلفتم أَنهم لَا يدْخلُونَ الْجنَّة، وَقد دخلُوا، يَعْنِي: خبابا، وَعمَّارًا، وَنَحْوهمَا.
ثمَّ يَقُول الله - تَعَالَى -: {ادخُلُوا الْجنَّة لَا خوف عَلَيْكُم وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ} وَفِيه قَول آخر: أَن أَصْحَاب الْأَعْرَاف إِذا قَالُوا لأولئك الْكفَّار مَا قَالُوا؛ يَقُول الْكفَّار لَهُم: إِن دخلُوا أُولَئِكَ الْجنَّة وَنحن فِي النَّار فَأنْتم لم تدْخلُوا الْجنَّة بعد، فيعيرونهم على ذَلِك، ويحلفون أَنهم (لَا يدْخلُونَ) الْجنَّة؛ فَيَقُول الله - تَعَالَى - لأولئك الْكفَّار: {أَهَؤُلَاءِ الَّذين أقسمتم لَا ينالهم الله برحمة ادخُلُوا الْجنَّة لَا خوف عَلَيْكُم} يَقُوله لأَصْحَاب الْأَعْرَاف؛ فيدخلهم الْجنَّة {وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ} .(2/186)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
قَوْله - تَعَالَى -: {ونادى أَصْحَاب النَّار أَصْحَاب الْجنَّة أَن أفيضوا علينا من المَاء أَو مِمَّا رزقكم الله} فِي هَذَا دَلِيل على أَنهم كَمَا يُعَذبُونَ بالنَّار؛ فَيكون عَلَيْهِم عَذَاب الْجُوع والعطش مَعَ عَذَاب النَّار؛ حَتَّى يسْأَلُوا الطَّعَام وَالشرَاب.
وَفِي الْخَبَر " أَن الرجل من أهل النَّار يرى أَخَاهُ أَو قرينه فِي الْجنَّة؛ فَيَقُول لَهُ من النَّار: يَا أخي أَغِثْنِي بِشَربَة مَاء فقد احترقت. فَيَقُول: إِن الله حرمه على الْكَافرين؛ فَذَلِك قَول الله - تَعَالَى -: {قَالُوا إِن الله حرمهما على الْكَافرين} يَعْنِي: الطَّعَام وَالشرَاب، وَهَذَا تَحْرِيم منع لَا تَحْرِيم تعبد، وَاعْلَم أَن لسقي المَاء أجر عَظِيم، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من سقى مُؤمنا شربة مَاء؛ بعده الله من جَهَنَّم شوط فرس ".(2/186)
{اتَّخذُوا دينهم لهوا وَلَعِبًا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا فاليوم ننساهم كَمَا نسوا لِقَاء يومهم هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون (51) وَلَقَد جئناهم بِكِتَاب فصلناه على علم هدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ (52) هَل ينظرُونَ إِلَّا تَأْوِيله يَوْم يَأْتِي تَأْوِيله يَقُول الَّذين نسوه من قبل قد جَاءَت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ فَهَل لنا من شُفَعَاء فيشفعوا لنا أَو نرد فنعمل غير الَّذِي كُنَّا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (53) إِن ربكُم الله الَّذِي خلق}(2/187)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
قَوْله - تَعَالَى -: {الَّذين اتَّخذُوا دينهم لهوا وَلَعِبًا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا} مَعْنَاهُ: أكلا وشربا، قَالَه عبد الله بن الْحَارِث، وَقيل: مَعْنَاهُ: الَّذين كَانَت همتهم الدُّنْيَا، واشتغالهم بهَا؛ فهم الَّذين اتَّخذُوا دينهم لهوا وَلَعِبًا، وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا.
{فاليوم ننساهم} أَي: نتركهم {كَمَا نسوا لِقَاء يومهم هَذَا} أَي: كَمَا تركُوا الْعَمَل للقاء يومهم هَذَا {وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون} .(2/187)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد جئناهم بِكِتَاب} أَي: أتيناهم بِالْقُرْآنِ {فصلناه} أَي: بَينا مَا فِيهِ من الْحَلَال وَالْحرَام {على علم} أَي: على علم بِمَا يصلحهم، وَقيل: مَعْنَاهُ: على علم بالثواب وَالْعِقَاب {هدى} أَي: هاديا {وَرَحْمَة} أَي: ذُو رَحْمَة {لقوم يُؤمنُونَ} .(2/187)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
قَوْله - تَعَالَى -: {هَل ينظرُونَ} أَي: هَل ينتظرون {إِلَّا تَأْوِيله} قَالَ مُجَاهِد: (مَعْنَاهُ) إِلَّا جزاءه، وَقَالَ قَتَادَة: إِلَّا عاقبته، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنهم هَل ينتظرون إِلَّا مَا يؤول إِلَيْهِ أَمرهم من مصير أهل الْجنَّة إِلَى الْجنَّة، وَأهل النَّار إِلَى النَّار {يَوْم يَأْتِي تَأْوِيله} أَي: جَزَاؤُهُ، وَمَا يؤول إِلَيْهِ أَمرهم.
{يَقُول الَّذين نسوه} أَي: تَرَكُوهُ من قبل {قد جَاءَت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ} اعْتَرَفُوا بِهِ حِين لَا يَنْفَعهُمْ الِاعْتِرَاف {فَهَل لنا من شُفَعَاء فيشفعوا لنا أَو نرد} يَعْنِي: إِلَى الدُّنْيَا {فنعمل غير الَّذِي كُنَّا نعمل} {قد خسروا أنفسهم} أَي: نَقَصُوا حق أنفسهم {وضل عَنْهُم} أَي: ذهب وَفَاتَ عَنْهُم {مَا كَانُوا يفترون} .(2/187)
{السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش يغشي اللَّيْل النَّهَار يَطْلُبهُ حثيثا}(2/188)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
قَوْله تَعَالَى: {إِن ربكُم الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام} .
قَالَ مُجَاهِد: هِيَ من يَوْم الْأَحَد إِلَى الْجُمُعَة، فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: فِي سِتَّة أَيَّام، وَلم تكن أَيَّام حِين خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ قيل: وَمَا يُدْرِينَا أَنَّهَا لم تكن، بل كَانَت؛ فَإِن الله - تَعَالَى - أخبر، وَقَوله وَخَبره صدق، وَقيل: يجوز أَن يكون المُرَاد بِهِ على تَقْدِير سِتَّة أَيَّام، فَإِن قيل: وَمَا الْحِكْمَة فِي خلقهَا فِي سِتَّة أَيَّام، وَكَانَ قَادِرًا على خلقهَا فِي طرفَة عين؟ قيل: لِأَن خلقهَا على التأني أدل على الْحِكْمَة، فخلقها على التأني ليَكُون أدل على حكمته، ولطف تَدْبيره، وَفِيه أَيْضا تَعْلِيم النَّاس، وتنبيه الْعباد على التأني فِي الْأُمُور، وَفِي الْخَبَر " التأني من الله، والعجلة من الشَّيْطَان ".
{ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} أول الْمُعْتَزلَة الاسْتوَاء بِالِاسْتِيلَاءِ، وأنشدوا فِيهِ:
(قد اسْتَوَى بشر على الْعرَاق ... من غير سيف وَدم مهراق)
(وَأما أهل السّنة فيتبرءون من هَذَا التَّأْوِيل، وَيَقُولُونَ: إِن الاسْتوَاء على الْعَرْش صفة لله - تَعَالَى - بِلَا كَيفَ، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب، كَذَلِك يحْكى عَن مَالك بن أنس، وَغَيره من السّلف، أَنهم قَالُوا فِي هَذِه الْآيَة: الْإِيمَان بِهِ وَاجِب، وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة.
{يغشى اللَّيْل النَّهَار} أَي: يُغطي اللَّيْل على النَّهَار، وَفِيه حذف، وَتَقْدِيره: يغشي اللَّيْل النَّهَار، ويغشي النَّهَار اللَّيْل؛ كَمَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: ( {يكور اللَّيْل على النَّهَار ويكور النَّهَار على اللَّيْل} يَطْلُبهُ حثيثا) أَي: سَرِيعا، وَذَلِكَ أَنه لما كَانَ(2/188)
{وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مسخرات بأَمْره أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر تبَارك الله رب الْعَالمين (54) ادعوا ربكُم تضرعا وخفية إِنَّه لَا يحب الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تفسدوا فِي الأَرْض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وَطَمَعًا إِن رحمت الله قريب من الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ} يعقب أَحدهمَا الآخر، ويخلفه على أَثَره فَكَأَنَّهُ فِي طلبه.
{وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مسخرات بأَمْره} أَي: مذللات بِمَا أُرِيد مِنْهَا {أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر تبَارك الله رب الْعَالمين} أَي: تَعَالَى بالوحدانية.(2/189)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
قَوْله - تَعَالَى -: {ادعوا ربكُم تضرعا وخفية} أَي: ضارعين متذللين خاشعين، وخفية أَي: سرا {إِنَّه لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} قَالَ ابْن جريج: الْجَهْر بِالدُّعَاءِ عدوان، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " سَيكون أَقوام يعتدون فِي الطّهُور وَالدُّعَاء " وروى: " أَنه رأى أَقْوَامًا يصيحون بِالدُّعَاءِ، فَقَالَ لَهُم: أربعوا على أَنفسكُم، فَإِنَّكُم لَا تدعون [أصما] وَلَا غَائِبا، وَإِنَّمَا تدعون سميعا قَرِيبا، وَهُوَ مَعكُمْ " بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة وَقيل: من الاعتداء فِي الدُّعَاء: أَن يسْأَل لنَفسِهِ دَرَجَة لَيْسَ من أَهلهَا؛ بِأَن يسْأَل دَرَجَة الْأَنْبِيَاء، وَلَيْسَ بِنَبِي، ودرجة الشُّهَدَاء، وَلَيْسَ بِشَهِيد.(2/189)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَا تفسدوا فِي الأَرْض بعد إصلاحها} أَي: بعد إصْلَاح الأَرْض بِالدّينِ والشريعة، وَقَالَ الضَّحَّاك: من الْفساد فِي الأَرْض تغوير الْمِيَاه، وَقطع الْأَشْجَار المثمرة، وَكسر الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير.
{وادعوه خوفًا وَطَمَعًا} أَي: خوفًا من الله وَطَمَعًا لثوابه {إِن رَحْمَة الله قريب(2/189)
{الَّذِي يُرْسل الرِّيَاح بشرا بَين يَدي رَحمته حَتَّى إِذا أقلت سَحَاب اثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا بِهِ المَاء فأخرجنا بِهِ من كل الثمرات كَذَلِك نخرج الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} من الْمُحْسِنِينَ) فَإِن قيل: الْقَرِيب نعت الْمُذكر، وَالرَّحْمَة مُؤَنّثَة، وَالله - تَعَالَى - قَالَ: قريب، وَلم يقل: قريبَة؛ قيل: قَالَ الزّجاج: الرَّحْمَة هَاهُنَا بِمَعْنى الْعَفو والغفران، وَقَالَ الْأَخْفَش: هِيَ بِمَعْنى الإنعام؛ فَيكون النَّعْت رَاجعا إِلَى الْمَعْنى دون اللَّفْظ، قَالَ الْفراء: إِذا كَانَ الْقرب فِي النّسَب؛ فنعت الْمُؤَنَّث مِنْهُ يكون على التَّأْنِيث، وَأما الْقرب فِي غير النّسَب؛ فالنعت مِنْهُ يذكر وَيُؤَنث، وانشدوا فِيهِ:
(عَشِيَّة لَا عفراء مِنْك قريبَة ... فتدنو وَلَا عفراء مِنْك بعيد)
فَذكر النَّعْت مرّة على التَّأْنِيث، وَمرَّة على التَّذْكِير.(2/190)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسل الرِّيَاح بشرا} يقْرَأ: " بشرا " من الْبشَارَة، وَيقْرَأ: " نشرا " وَهُوَ جمع النشور، كالرسول وَالرسل، وَذَلِكَ ريح طيبَة، وَيقْرَأ: " نشرا " بجزم الشين، وَهُوَ جمع النشور أَيْضا كالرسول وَالرسل وَالْكتاب والكتب.
{بَين يَدي رَحمته} يَعْنِي: الْمَطَر {حَتَّى إِذا أقلت} أَي: حملت: {سحابا ثقالا} يَعْنِي: بِالْمَاءِ {سقناه لبلد ميت فأنزلنا بِهِ المَاء فأخرجنا بِهِ من كل الثمرات كَذَلِك نخرج الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} اسْتدلَّ بإحياء الأَرْض بعد مَوتهَا على إحْيَاء الْمَوْتَى، وَفِي ذَلِك دَلِيل بَين، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن بَين النفختين أَرْبَعِينَ عَاما فَيُرْسل الله - تَعَالَى - مَطَرا من السَّمَاء كَمثل منى الرِّجَال، فَيدْخل الأَرْض؛ فينبت مِنْهُ النَّاس، ثمَّ يحشرون بالنفخة الثَّانِيَة ".(2/190)
( {57) والبلد الطّيب يخرج نَبَاته بِإِذن ربه وَالَّذِي خبث لَا يخرج إِلَّا نكدا كَذَلِك نصرف الْآيَات لقوم يشكرون (58) لقد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم (59) قَالَ الْمَلأ من قومه إِنَّا لنراك فِي ضلال مُبين (60) قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي ضَلَالَة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين (61) أبلغكم رسالات رَبِّي وأنصح لكم وَأعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ (62) أَو عجبتم أَن جَاءَكُم ذكر من ربكُم على رجل مِنْكُم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (63) }(2/191)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
قَوْله - تَعَالَى -: {والبلد الطّيب يخرج نَبَاته بِإِذن ربه} {وَالَّذِي خبث} يَعْنِي: الأَرْض السبخة {لَا يخرج إِلَّا نكدا} أَي: نزرا قَلِيلا، قَالَ الشَّاعِر:
(فأعط مَا أَعْطيته طيبا ... لَا خير فِي المنكود والناكد)
وَهَذَا مثل ضربه الله - تَعَالَى - للْمُؤْمِنين وللكافرين؛ فَإِن الْمُؤمن يخرج مَا يخرج من نَفسه من الْإِيمَان والخيرات سهلا سَمحا، وَالْكَافِر يخرج مَا يخرج من الْخيرَات نزرا قَلِيلا {كَذَلِك نصرف الْآيَات لقوم يشكرون} .(2/191)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
قَوْله - تَعَالَى -: {لقد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم} ذكر فِي هَذِه الْآيَة قصَّة نوح وَقَومه، وَسَيَأْتِي.(2/191)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)
{قَالَ الْمَلأ من قومه إِنَّا لنراك فِي ضلال مُبين، قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي ضَلَالَة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين} علم الله - تَعَالَى - النَّاس بِذكر قَوْله حسن الْجَواب، حَيْثُ قَالَ: " لَيْسَ بِي ضَلَالَة " وَلم يقل: أَنْتُم الضلال، كَمَا جرت عادتنا.(2/191)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
قَوْله - تَعَالَى -: {أبلغكم رسالات رَبِّي وأنصح لكم} النصح: هُوَ أَن يُرِيد لغيره من الْخَيْر مثل مَا يُرِيد لنَفسِهِ، وَمَعْنَاهُ: أرشدكم أَنِّي أُرِيد لنَفْسي مَا أُرِيد لكم {وَأعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ} .(2/191)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
قَوْله - تَعَالَى -: {أَو عجبتم أَن جَاءَكُم ذكر من ربكُم على رجل مِنْكُم لينذركم} الْعجب: هُوَ تَغْيِير النَّفس عِنْد رُؤْيَة أَمر خَفِي عَلَيْهِ بَاطِنه {ولتتقوا ولعلكم ترحمون(2/191)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
فَكَذبُوهُ فأنجيناه وَالَّذين مَعَه فِي الْفلك) أَي: فِي السَّفِينَة.(2/191)
{فَكَذبُوهُ فأنجيناه وَالَّذين مَعَه فِي الْفلك وأغرقنا الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قوما عمين (64) وَإِلَى عَاد أَخَاهُم هودا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون (65) قَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه إِنَّا لنراك فِي سفاهة وَإِنَّا لنظنك من الْكَاذِبين (66) قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي سفاهة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين (67) أبلغكم رسالات رَبِّي وَأَنا لكم نَاصح أَمِين (68) أَو عجبتم أَن جَاءَكُم ذكر من ربكُم على رجل مِنْكُم لينذركم واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم فِي الْخلق بصطة فاذكروا}
{وأغرقنا الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا} وَسَتَأْتِي الْقِصَّة {إِنَّهُم كَانُوا قوما عمين} أَي: عَن الْحق.(2/192)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِلَى عَاد} أَي: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَاد {أَخَاهُم هودا} قَالَ الْفراء: كَانَ أَخَاهُم فِي النّسَب لَا فِي الدّين، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: كَانَ آدَمِيًّا مثلهم {قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون} .(2/192)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
{قَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه إِنَّا لنراك فِي سفاهة} أَي: فِي حمق وجهالة {وَإِنَّا لنظنك من الْكَاذِبين(2/192)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي سفاهة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين) وَهُوَ أَيْضا من حسن الْجَواب(2/192)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
{أبلغكم رسالات رَبِّي وَأَنا لكم نَاصح أَمِين} وَقد بَينا معنى النصح.(2/192)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
قَوْله - تَعَالَى -: {أَو عجبتم أَن جَاءَكُم ذكر من ربكُم على رجل مِنْكُم لينذركم واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء} يَعْنِي: فِي الأَرْض {من بعد قوم نوح} أَي: من بعد إهلاكهم.
(وزادكم فِي الْخلق بسطة) وَأَرَادَ بِهِ: البسطة فِي الطول، قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق ابْن يسَار وَالسُّديّ: كَانَت قامة الطَّوِيل من قوم عَاد مائَة ذِرَاع، وقامة الْقصير مِنْهُم سِتِّينَ ذِرَاعا {فاذكروا آلَاء الله لَعَلَّكُمْ تفلحون} .(2/192)
{آلَاء الله لَعَلَّكُمْ تفلحون (69) قَالُوا أجئتنا لنعبد الله وَحده وَنذر مَا كَانَ يعبد آبَاؤُنَا فأتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من الصَّادِقين (70) قَالَ قد وَقع عَلَيْكُم من ربكُم رِجْس وَغَضب أتجادلونني فِي أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا نزل الله بهَا من سُلْطَان فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين (71) فأنجيناه وَالَّذين مَعَه برحمة منا وقطعنا دابر الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمنين (72) وَإِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة فذروها تَأْكُل فِي أَرض الله وَلَا تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب أَلِيم (73) واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء(2/193)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالُوا أجئتنا لنعبد الله وَحده وَنذر مَا كَانَ يعبد آبَاؤُنَا} يَعْنِي: من الْأَصْنَام {فأتنا بِمَا تعدنا} أَي: من الْعَذَاب {إِن كنت من الصَّادِقين} .(2/193)
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ قد وَقع عَلَيْكُم من ربكُم رِجْس وَغَضب} الرجس وَالرجز: هُوَ الْعَذَاب، وَالْغَضَب: السخط {آأتجادلونني فِي أَسمَاء} أَي: لأجل أَسمَاء {سميتموها أَنْتُم وآباؤكم} أَي الْأَصْنَام نحتموها وسميتموها أَنْتُم وآباؤكم {مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان} أَي: برهَان ( {فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين}(2/193)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
فأنجيناه وَالَّذين مَعَه) هودا وَقَومه {برحمة منا وقطعنا دابر الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمنين} أَي: قَطعنَا أصلهم، واستأصلناهم بِالْعَذَابِ.(2/193)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
قَوْله - تَعَالَى - {وَإِلَى ثَمُود أَخَاهُم} أَي: وَأَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُود أَخَاهُم {صَالحا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة} سَأَلُوهُ أَن يخرج من الصَّخْرَة نَاقَة، وأشاروا إِلَى صَخْرَة صماء ملساء؛ فَدَعَا صَالح - عَلَيْهِ السَّلَام - فتمخضت الصَّخْرَة كَمَا تتمخض الحبلى، وأخرجت النَّاقة؛ فَخرجت ألفت " سقبا " من ساعتها {فذروها تَأْكُل فِي أَرض الله} قيل: كَانَ لَهُم وَاد يشربون مِنْهُ فَجعلُوا يَوْمًا للناقة، وَيَوْما لَهُم؛ فَتَشرب النَّاقة يَوْمهَا جَمِيع مَاء الْوَادي، وتبدلهم بذلك لَبَنًا {وَلَا تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب أَلِيم} .(2/193)
(من بعد عَاد وبوأكم فِي الأَرْض تَتَّخِذُونَ من سهولها قصورا وتنحتون الْجبَال بُيُوتًا فاذكروا آلَاء الله وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين (74) قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه للَّذين استضعفوا لمن آمن مِنْهُم أتعلمون أَن صَالحا مُرْسل من ربه قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسل بِهِ مُؤمنُونَ (75) قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا بِالَّذِي آمنتم بِهِ كافرون (76) فعقروا النَّاقة وعتوا عَن أَمر رَبهم وَقَالُوا يَا صَالح ائتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من الْمُرْسلين (77))(2/194)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
قَوْله - تَعَالَى -: {واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد عَاد وبوأكم فِي الأَرْض} أَي: أنزلكم، قَالَ الشَّاعِر:
(فبوئت فِي صميم معشرها ... فتم فِي قَومهَا مبوؤها)
{تَتَّخِذُونَ من سهولها قصورا وتنحتون الْجبَال بُيُوتًا} كَانُوا فِي الصَّيف يسكنون فِي بيُوت من الطين، وَفِي الشتَاء يسكنون فِي بيُوت نحتوها فِي الْجَبَل، وَقيل: إِنَّمَا كَانُوا ينحتون الْبيُوت فِي الْجَبَل؛ لِأَن بيُوت الطين مَا كَانَت تبقى مُدَّة أعمارهم؛ لطول أعمارهم. {فاذكروا آلَاء الله} أَي نعم الله {وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين} العيث: أَشد الْفساد.(2/194)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه للَّذين استضعفوا لمن آمن مِنْهُم} يَعْنِي: قَالَ الْكفَّار مِنْهُم للْمُؤْمِنين {أتعلمون أَن صَالحا مُرْسل من ربه} وَهَذَا اسْتِفْهَام أُرِيد بِهِ الْجحْد؛ لأَنهم كَانُوا يجحدون إرْسَاله {قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسل بِهِ مُؤمنُونَ(2/194)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا بِالَّذِي آمنتم بِهِ كافرون فعقروا النَّاقة وعتوا عَن أَمر رَبهم) العتو الغلو فِي الْبَاطِل {وَقَالُوا يَا صَالح ائتنا بِمَا تعدنا} أَي: من الْعَذَاب {إِن كنت من الْمُرْسلين فَأَخَذتهم الرجفة} الرجفة: زَلْزَلَة الأَرْض وحركتها، وَكَانُوا قد أهلكوا بالصيحة والرجفة {فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين} أَي: خامدين ميتين، وَمِنْه الرماد الجاثم، وَقيل: جاثمين أَي: خارين على ركبهمْ ووجوههم، وَقيل: إِنَّهُم احترقوا بالصاعقة حَتَّى صَارُوا كالرماد الجاثم.(2/194)
{فَأَخَذتهم الرجفة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين (78) فَتَوَلّى عَنْهُم وَقَالَ يَا قوم لقد أبلغتكم رِسَالَة رَبِّي وَنَصَحْت لكم وَلَكِن لَا تحبون الناصحين (79) ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ}(2/195)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَتَوَلّى عَنْهُم وَقَالَ يَا قوم لقد أبلغتكم رِسَالَة رَبِّي وَنَصَحْت لكم وَلَكِن لَا تحبون الناصحين} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ خاطبهم وَقد هَلَكُوا؟ قيل: هُوَ كَمَا خَاطب الرَّسُول الْكفَّار الْقَتْلَى يَوْم بدر حِين ألقاهم فِي القليب؛ جَاءَ إِلَى رَأس الْبِئْر، وَقَالَ: " يَا عتبَة، يَا شيبَة، وَيَا أَبَا جهل، قد وجدت مَا وَعَدَني رَبِّي حَقًا؛ فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا؟ فَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله، كَيفَ تخاطب قوما قد جيفوا؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُم بأسمع مِنْهُم؛ وَلَكنهُمْ لَا يقدرُونَ على الْإِجَابَة " وَقيل: إِنَّمَا خاطبهم بِهِ؛ ليَكُون عِبْرَة لمن خَلفهم، وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وتقديرها: فَتَوَلّى عَنْهُم، فَأَخَذتهم الرجفة، فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين، وَذَلِكَ أَن الله - تَعَالَى - مَا كَانَ ليعذب قوما ونبيهم بَينهم.
وروى أَبُو الزبير عَن جَابر: " أَن النَّبِي مر بمنازل ثَمُود فِي أَرَاضِي تَبُوك، فَقَالَ لأَصْحَابه: يَا أَيهَا النَّاس، لَا تسألوا الله الْآيَات؛ فَإِن هَؤُلَاءِ سَأَلُوا النَّاقة؛ فأخرجها الله لَهُم؛ فَكَانَت ترد من هَذَا الْفَج، وتصدر من هَذَا الْفَج، فَعَقَرُوهَا؛ فَأنْزل الله عَلَيْهِم الْعَذَاب فَلم ينج مِنْهُم أحد إِلَّا رجل كَانَ فِي الْحرم؛ فَلَمَّا خرج أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُم من الْعَذَاب وَكَانَ ذَلِك الرجل يكنى أَبَا رِغَال ".(2/195)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
قَوْله - تَعَالَى -: {ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} أَي: وَأَرْسَلْنَا لوطا، وَاذْكُر لوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ {أتأتون الْفَاحِشَة} الْفَاحِشَة: الفعلة القبيحة الَّتِي هِيَ فِي غَايَة الْقبْح {مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين} قَالَ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: إِن تِلْكَ الفعلة لم(2/195)
{أتأتون الْفَاحِشَة مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين (80) إِنَّكُم لتأتون الرِّجَال شَهْوَة من دون النِّسَاء بل أَنْتُم قوم مسرفون (81) وَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا أخرجوهم من قريتكم إِنَّهُم أنَاس يتطهرون (82) فأنجيناه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته كَانَت من الغابرين (83) وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين (84) وَإِلَى} يَفْعَلهَا أحد قبلهم(2/196)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
{إِنَّكُم لتأتون الرِّجَال شَهْوَة من دون النِّسَاء} فسر تِلْكَ الْفَاحِشَة {بل أَنْتُم قوم مسرفون} أَي: مجاوزون حد الْأَمر.(2/196)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا أخرجوهم من قريتكم إِنَّهُم أنَاس يتطهرون} مَعْنَاهُ: يتنزهون عَن أدبار الرِّجَال، قَالَ قَتَادَة: ذموهم من غير ذمّ، وعابوهم من غير عيب.(2/196)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
قَوْله - تَعَالَى -: {فأنجيناه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته كَانَت من الغابرين} أَي: من البَاقِينَ فِي الْعَذَاب؛ يُقَال: غبر إِذا بقى. وأنشدوا:
(وَلست يَا معد فِي الرِّجَال ... أسائل هَذَا وَذَا مَا الْخَبَر)
(وَلَكِنِّي مدده الْأَصْفَر بن قيس ... بِمَا قد مضى وَمَا غبر)
وَقيل مَعْنَاهُ: من الغابرين عَن النجَاة.(2/196)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
قَوْله - تَعَالَى -: {وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا} فِي الْقِصَّة: أَن الله - تَعَالَى - أرسل جِبْرِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - حَتَّى قلع مدينتهم، وَقيل: كَانَت مَدَائِن قلعهَا ورفعها إِلَى السَّمَاء ثمَّ قَلبهَا؛ وَبِذَلِك سموا مؤتفكة؛ لأَنهم قلبوا وأفكوا، وَأما الإمطار بِالْحِجَارَةِ، كَانَ على من شَذَّ مِنْهُم فِي الطّرق، وَقيل: بَعْدَمَا قلبهم أمط عَلَيْهِم بِالْحِجَارَةِ {فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين} .(2/196)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِلَى مَدين} أَي: وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدين، قيل: هُوَ مَدين بن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَكَانَ أُولَئِكَ من نَسْله، وَقيل: لَيْسَ بِذَاكَ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم قَبيلَة.(2/196)
{مَدين أَخَاهُم شعيبا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله من لكم من إِلَه غَيره قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم فأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم وَلَا تفسدوا فِي الأَرْض بعد إصلاحها ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين (85) وَلَا تقعدوا بِكُل صِرَاط توعدون وتصدون عَن سَبِيل الله من آمن بِهِ وتبغونها عوجا واذْكُرُوا إِذْ كُنْتُم قَلِيلا فكثركم}
وَقَوله: {أَخَاهُم شعيبا} أَي: فِي النّسَب لَا فِي الدّين {قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم} فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله {قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم} وَلم تكن لَهُم آيَة؟ قيل: بل كَانَت لَهُم آيَة، إِلَّا أَنَّهَا لم تذكر فِي الْقُرْآن، وَلَيْسَت كل الْآيَات مَذْكُورَة فِي الْقُرْآن {فأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان} وَكَانُوا يعْبدُونَ الْأَصْنَام، ويبخسون فِي الموازين {وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم} أَي: لَا تنقصوهم من حُقُوقهم.
{وَلَا تفسدوا فِي الأَرْض بعد إصلاحها} يَعْنِي: إصلاحها ببعث الرَّسُول وَالْأَمر بِالْعَدْلِ {ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين} يَعْنِي: إِن آمنتم فَذَلِك خير لكم، وَقيل: مَعْنَاهُ: مَا كُنْتُم مُؤمنين.(2/197)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَا تقعدوا بِكُل صِرَاط توعدون} أَي: طَرِيق، قَالَ الشَّاعِر:
(حشونا قَومهمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ... جعلناهم أذلّ من الصِّرَاط)
يَعْنِي: من الطَّرِيق.
{توعدون وتصدون عَن سَبِيل الله} قيل: إِنَّهُم كَانُوا يبعثون إِلَى الطّرق من يهدد النَّاس، فَكَانَ الرجل إِذا أَرَادَ الْإِيمَان بشعيب وقصده يهددونه وَيَقُولُونَ: إِن آمَنت بشعيب نقتلك؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {توعدون} أَي: تهددون. والإيعاد: التهديد، وَأما الْوَعْد فيذكر فِي الْخَيْر وَالشَّر؛ إِذا ذكر الْخَيْر وَالشَّر مَقْرُونا بِهِ، فَأَما إِذا أطلق فَلَا يذكر إِلَّا فِي الْخَيْر، أما فِي الشَّرّ عِنْد الْإِطْلَاق، يُقَال: أوعد.
{وتصدون عَن سَبِيل الله من آمن} أَي: تمْنَعُونَ عَن الدّين من قصد الْإِيمَان {وتبغونها عوجا} أَي: تطلبون الاعوجاج فِي الدّين، والعدول عَن الْقَصْد؛ قَالَه الزّجاج؛ وَذكر الْأَزْهَرِي فِي التَّقْرِيب: أَنه يُقَال: فِي الدّين عوج، وَفِي الْعود عوج.(2/197)
{وانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين (86) وَإِن كَانَ طَائِفَة مِنْكُم آمنُوا بِالَّذِي أرْسلت بِهِ وَطَائِفَة لم يُؤمنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يحكم الله بَيْننَا وَهُوَ خير الْحَاكِمين (87) قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه لنخرجنك يَا شُعَيْب وَالَّذين آمنُوا مَعَك من قريتنا أَو لتعودن فِي ملتنا قَالَ أَو لَو كُنَّا كارهين (88) قد افترينا على الله كذبا إِن عدنا فِي ملتكم بعد إِذْ نجانا الله مِنْهَا وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا وسع رَبنَا كل شَيْء علما}
{واذْكُرُوا إِذْ كُنْتُم قَلِيلا فكثركم} أَي: فِي الْعدَد، وَقيل مَعْنَاهُ: إِذْ كُنْتُم قَلِيلا أَي: بِالْمَالِ؛ فكثركم بالغنى {وانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين} أَي: مِمَّن كَانَ قبلكُمْ.(2/198)
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِن كَانَ طَائِفَة مِنْكُم آمنُوا بِالَّذِي أرْسلت بِهِ وَطَائِفَة لم يُؤمنُوا} وَذَلِكَ أَن بَعضهم آمن، وَبَعْضهمْ كفر {فَاصْبِرُوا حَتَّى يحكم الله بَيْننَا وَهُوَ خير الْحَاكِمين} .(2/198)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه لنخرجنك يَا شُعَيْب وَالَّذين آمنُوا مَعَك من قريتنا أَو لتعودن فِي ملتنا} قَالَه كفار قومه {قَالَ أَو لَو كُنَّا كارهين} يَعْنِي: تَفْعَلُونَ هَذَا، وَإِن كُنَّا كارهين(2/198)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
{قد افترينا على الله كذبا إِن عدنا فِي ملتكم بعد إِذْ نجانا الله مِنْهَا} فَإِن قيل: كَيفَ يَصح لفظ الْعود من شُعَيْب، وَلم يكن على ملتهم قطّ؟ قيل مَعْنَاهُ: إِن صرنا فِي ملتكم، وَعَاد بِمَعْنى صَار وَكَانَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(لَئِن كَانَت الْأَيَّام أحسن مرّة ... [إِلَيّ] فقد عَادَتْ لَهُنَّ ذنُوب)
أَي: كَانَت لَهُنَّ ذنُوب.
وَقَوله: {بعد إِذْ نجانا الله مِنْهَا} يَعْنِي: من الدُّخُول فِي ملتهم ابْتِدَاء، وَقيل المُرَاد بِهِ: قوم شُعَيْب {وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا} فَإِن قيل: وَهل يَشَاء الله عودهم إِلَى الْكفْر؟ قيل: وَمَا الْمَانِع مِنْهُ؟ وَإِنَّمَا الْآيَة على وفْق قَول أهل السّنة، وكل ذَلِك جَائِز فِي الْمَشِيئَة، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله: {وسع رَبنَا كل شَيْء علما على الله توكلنا رَبنَا افْتَحْ بَيْننَا وَبَين قَومنَا بِالْحَقِّ} أَي: اقْضِ بِالْحَقِّ، فَإِن قيل: كَيفَ طلب(2/198)
{على الله توكلنا رَبنَا افْتَحْ بَيْننَا وَبَين قَومنَا بِالْحَقِّ وَأَنت خير الفاتحين (89) وَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه لَئِن اتبعتم شعيبا إِنَّكُم إِذا لخاسرون (90) فَأَخَذتهم الرجفة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين (91) الَّذين كذبُوا شعيبا كَأَن لم يغنوا فِيهَا الَّذين كذبُوا شعيبا كَانُوا هم الخاسرين (92) فَتَوَلّى عَنْهُم وَقَالَ يَا قوم لقد أبلغتكم رسالات رَبِّي وَنَصَحْت لكم فَكيف آسى على قوم كَافِرين (93) وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَبِي إِلَّا} الْقَضَاء من الله بِالْحَقِّ، وَهُوَ لَا يقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ، وَقيل: لَيْسَ ذَلِك على طَرِيق طلب الْقَضَاء الْحق، وَإِنَّمَا هُوَ على نعت قَضَائِهِ بِالْحَقِّ؛ فَإِن صفة قَضَائِهِ الْحق، وَهُوَ مثل قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ رب احكم بِالْحَقِّ} فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء {وَأَنت خير الفاتحين} .(2/199)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه لَئِن اتبعتم شعيبا} يَعْنِي: فِي دينهم {إِنَّكُم إِذا لخاسرون(2/199)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)
فَأَخَذتهم الرجفة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين) وَقد بَينا هَذَا فِي قصَّة ثَمُود.(2/199)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
قَوْله - تَعَالَى -: {الَّذين كذبُوا شعيبا كَأَن لم يغنوا فِيهَا} أَي: كَأَن لم يقيموا فِيهَا، يُقَال: غنيت بِموضع كَذَا، أَي أَقمت، والمغاني: الْمنَازل؛ قَالَه ثَعْلَب، وَقَالَ الشَّاعِر، وَهُوَ حَاتِم الطَّائِي:
(عنينا زَمَانا بالتصعلك والغنى ... وكلا سقاناه بكأسيهما الدَّهْر)
(فَمَا زادنا بأوا على ذِي قرَابَة ... غنانا وَلَا أزرى بأحسابنا الْفقر)
وَقَالَ الْأَخْفَش: معنى قَوْله: {كَأَن لم يغنوا فِيهَا} أَي: كَأَن لم يتنعموا فِيهَا {الَّذين كذبُوا شعيبا كَانُوا هم الخاسرين(2/199)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
فَتَوَلّى عَنْهُم وَقَالَ يَا قوم لقد أبلغتكم رسالات رَبِّي وَنَصَحْت لكم فَكيف آسى) أَي: أَحْزَن {على قوم كَافِرين} .(2/199)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَبِي إِلَّا أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء وَالضَّرَّاء} .
قَالَ ابْن مَسْعُود: البأساء: الْفقر، وَالضَّرَّاء: الْمَرَض، وَهَذَا معنى قَول من قَالَ:(2/199)
{أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُم يضرعون (94) ثمَّ بدلنا مَكَان السَّيئَة الْحَسَنَة حَتَّى عفوا وَقَالُوا قد مس آبَاءَنَا الضراء والسراء فأخذناهم بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض وَلَكِن كذبُوا فأخذناهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أفأمن أهل الْقرى أَن يَأْتِيهم بأسنا بياتا وهم نائمون} البأساء فِي المَال، وَالضَّرَّاء فِي النَّفس، وَقيل: البأساء: الْجُوع، وَالضَّرَّاء: الْفقر، وَقيل: أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء يَعْنِي: بالحروب {لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ} أَي: لكَي (يتضرعوا) .(2/200)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
قَوْله - تَعَالَى -: {ثمَّ بدلنا مَكَان السَّيئَة الْحَسَنَة} قَالَ مُجَاهِد: السَّيئَة: الشدَّة، والحسنة: الخصب {حَتَّى عفوا} أَي: حَتَّى كَثُرُوا، وَمِنْه قَول النَّبِي: " قصوا الشَّوَارِب وَاعْفُوا اللحى " أَي: كَثُرُوا اللحى، وَقيل: حَتَّى عفوا: حَتَّى سمنوا.
{وَقَالُوا قد مس آبَاءَنَا الضراء والسراء} أَي: هَذَا كَانَ عَادَة الدَّهْر قَدِيما لنا ولآبائنا؛ فَلم ينتبهوا لما أَصَابَهُم من الشدَّة {فأخذناهم بَغْتَة} أَي: فَجْأَة {وهم لَا يَشْعُرُونَ} .(2/200)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض} يَعْنِي: من السَّمَاء بالمطر، وَمن الأَرْض بالنبات، وَقيل: بَرَكَات السَّمَاء: إِجَابَة الدَّعْوَات، وبركات الأَرْض: تسهيل الْحَاجَات {وَلَكِن كذبُوا فأخذناهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .(2/200)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
قَوْله - تَعَالَى -: {أفأمن أهل الْقرى أَن يَأْتِيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أَو أَمن أهل الْقرى أَن يَأْتِيهم بأسنا ضحى وهم يَلْعَبُونَ} يَعْنِي: أَن يَأْتِيهم عذابنا لَيْلًا وَنَهَارًا(2/200)
( {97) أَو أَمن أهل الْقرى أَن يَأْتِيهم بأسنا ضحى وهم يَلْعَبُونَ (98) أفأمنوا مكر الله فَلَا يَأْمَن مكر الله إِلَّا الْقَوْم لخاسرون (99) أَو لم يهد للَّذين يَرِثُونَ الأَرْض من بعد أَهلهَا أَن لَو نشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ ونطبع على قُلُوبهم فهم لَا يسمعُونَ (100) تِلْكَ الْقرى نقص عَلَيْك من أنبائها وَلَقَد جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا من قبل كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْكَافرين (101) وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد وَإِن وجدنَا أَكْثَرهم لفاسقين (102) ثمَّ بعثنَا من بعدهمْ مُوسَى بآيتنا إِلَى فِرْعَوْن وملئه} {وهم يَلْعَبُونَ} وكل من اشْتغل بِمَا لَا يجزى عَلَيْهِ؛ فَهُوَ لاعب.(2/201)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
قَوْله - تَعَالَى -: {أفأمنوا مكر الله} أَي: عَذَاب الله، ومكر الله أَخذه فَجْأَة {فَلَا يَأْمَن مكر الله إِلَّا الْقَوْم الخاسرون} .(2/201)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
قَوْله - تَعَالَى -: {أَو لم يهد للَّذين يَرِثُونَ الأَرْض} يَعْنِي: أَو لم يتَبَيَّن للَّذين يَرِثُونَ الأَرْض من بعد هَلَاك قَومهَا {أَن لَو نشَاء أصبناهم} يَعْنِي: أَنا لَو نشَاء أَخَذْنَاهُم ( {بِذُنُوبِهِمْ} ونطبع على قُلُوبهم فهم لَا يسمعُونَ) أَي: نختم على قُلُوبهم حَتَّى لَا يفقهوا وَلَا يسمعوا.(2/201)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
قَوْله - تَعَالَى -: {تِلْكَ الْقرى نقص عَلَيْك من أنبائها وَلَقَد جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا من قبل} هَذَا فِي قوم مخصوصين، علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ {كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْكَافرين} .(2/201)
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد} أَي: من وَفَاء بالعهد، قل السّديّ: هُوَ الْعَهْد يَوْم الْمِيثَاق، لم يوفوا بِهِ {وَإِن وجدنَا أَكْثَرهم لفاسقين} أَي: مَا وجدنَا أَكْثَرهم إِلَّا فاسقين، قيل: أَرَادَ بِالْفِسْقِ هَا هُنَا الْخُرُوج عَمَّا يَقْتَضِيهِ دينهم من الْوَفَاء بالعهد، وَكَانَ هَذَا من بَعضهم دون بعض.(2/201)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
قَوْله - تَعَالَى -: {ثمَّ بعثنَا من بعدهمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْن وملئه فظلموا بهَا} وَقد بَينا أَن الظُّلم: وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، وظلمهم: وضع الْكفْر مَوضِع(2/201)
{فظلموا بهَا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْن إِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين (104) حقيق على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة من ربكُم فَأرْسل معي بني إِسْرَائِيل (105) قَالَ إِن كنت جِئْت بِآيَة فأت بهَا إِن كنت من الصَّادِقين (106) فَألْقى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين (107) وَنزع يَده فَإِذا هِيَ بَيْضَاء للناظرين (108) قَالَ الْمَلأ من قوم فِرْعَوْن إِن هَذَا لساحر عليم (109) يُرِيد أَن} الْإِيمَان {فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين} .(2/202)
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْن إِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين حقيق على أَن لَا أَقُول} أَي: حقيق بِأَن لَا أَقُول، وَهَكَذَا قَرَأَ ابْن مَسْعُود، وَمَعْنَاهُ: حَرِيص بِأَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق، وَقُرِئَ: " حقيق عَليّ " أَي: وَاجِب على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق.
{قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة من ربكُم فَأرْسل معي بني إِسْرَائِيل} وَذَلِكَ أَنه أَرَادَ مُوسَى أَن يخرج بهم إِلَى الشَّام {قَالَ} ي - يَعْنِي: فِرْعَوْن - {إِن كنت جِئْت بِآيَة فأت بهَا إِن كنت من الصَّادِقين} .(2/202)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَألْقى عَصَاهُ} قيل: إِن ملكا أعطَاهُ تِلْكَ الْعَصَا، وللعصا قصَّة، ستأتي فِي قصَّة شُعَيْب فِي سُورَة الْقَصَص إِن شَاءَ الله.
{فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين} الثعبان: الْحَيَّة الذّكر، وَفِي الْقَصَص: أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما ألْقى الْعَصَا، صَارَت ثعبانا عَظِيما، مَلأ قصر فِرْعَوْن، وَقيل: كَانَ بَين شدقيه ثَمَانُون ذِرَاعا، وَقيل: إِنَّه أَخذ قصر فِرْعَوْن بَين نابيه؛ فهرب مِنْهُ فِرْعَوْن وَأَخذه الْبَطن فِي ذَلِك الْيَوْم أَرْبَعمِائَة مرّة.(2/202)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَنزع يَده فَإِذا هِيَ بَيْضَاء للناظرين} قيل: إِنَّه نزع يَده من جيبه، وَقيل: من تَحت إبطه {فَإِذا هِيَ بَيْضَاء} لَهَا شُعَاع كَالشَّمْسِ يتلألأ، وَكَانَ مُوسَى آدم اللَّوْن.(2/202)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ الْمَلأ من قوم فِرْعَوْن إِن هَذَا لساحر عليم} يَعْنِي: مُوسَى(2/202)
{يخرجكم من أَرْضكُم فَمَاذَا تأمرون (110) قَالُوا أرجه وأخاه وَأرْسل فِي الْمَدَائِن حاشرين (111) يأتوك بِكُل سَاحر عليم (112) وَجَاء السَّحَرَة فِرْعَوْن قَالُوا إِن لنا لأجرا إِن كُنَّا نَحن الغالبين (113) قَالَ نعم وَإِنَّكُمْ لمن المقربين (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن}(2/203)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
{يُرِيد أَن يخرجكم من أَرْضكُم فَمَاذَا تأمرون} أَي: بِمَاذَا تشيرون؟ قَالَه فِرْعَوْن لِقَوْمِهِ، وَقيل: إِن هَذَا من قَول الْمَلأ، قَالُوا لفرعون وخاصته: مَاذَا تأمرون وَقيل: إِنَّهُم قَالُوا ذَلِك لفرعون خَاصَّة؛ لَكِن ذكرُوا بِلَفْظ الْجمع تفخيما وتعظيما.(2/203)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالُوا أرجه وأخاه} أَي: أرجئه، والإرجاء: التَّأْخِير، يُقَال: أرجأت أَمر كَذَا، أَي أخرت، وَمِنْه المرجئة، سموا بذلك؛ لتأخيرهم الْعَمَل فِي الْإِيمَان، فَإِنَّهُم زَعَمُوا أَن الْعَمَل لَيْسَ من الْإِيمَان، وَيقْرَأ: " أرجه " من غير همز، قيل مَعْنَاهُ: التَّأْخِير أَيْضا، قَالَ الْمبرد: مَعْنَاهُ: اتركه يَرْجُو، وَمعنى الْكل وَاحِد؛ فَإِنَّهُم أشاروا عَلَيْهِ بِتَأْخِير أمره، وَترك التَّعَرُّض لَهُ، وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَنهم أشاروا بِتَأْخِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ لم يكن فيهم ولد عاهر، إِذْ لَو كَانَ فيهم ولد عاهر لأشاروا بِالْقَتْلِ.
{وَأرْسل فِي الْمَدَائِن حاشرين} هِيَ مَدَائِن الصَّعِيد، وَهُوَ فَوق مصر(2/203)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
{يأتوك بِكُل سَاحر عليم} وَفِي الْقِصَّة: أَن فِرْعَوْن أرسل أَصْحَاب الشَّرْط إِلَى تِلْكَ الْمَدَائِن ليجمعوا السَّحَرَة ويأتوا بهم.(2/203)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَجَاء السَّحَرَة فِرْعَوْن} وَفِيه حذف، يَعْنِي: فَأرْسل؛ فجَاء السَّحَرَة، وَاخْتلفُوا فِي عَددهمْ، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا اثْنَي وَسبعين رجلا، وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار: كَانُوا (اثْنَي) عشر ألفا، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر: كَانُوا ثَمَانِينَ ألفا. وَالْمَعْرُوف أَنهم كَانُوا سبعين ألفا.
{قَالُوا إِن لنا لأجرا إِن كُنَّا نَحن الغالبين قَالَ نعم} لكم الْأجر {وَإِنَّكُمْ لمن المقربين} أَي: لكم الْمنزلَة الرفيعة مَعَ الْأجر.(2/203)
{تلقي وَإِمَّا أَن نَكُون نَحن الملقين (115) قَالَ ألقوا فَلَمَّا ألقوا سحروا أعين النَّاس واسترهبوهم وَجَاءُوا بِسحر عَظِيم (116) وأوحينا إِلَى مُوسَى أَن ألق عصاك فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون (117) فَوَقع الْحق وَبَطل مَا كَانُوا يعْملُونَ (118) فغلبوا هُنَالك}(2/204)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تلقى} يَعْنِي: الْعَصَا {وَإِمَّا أَن نَكُون نَحن الملقين} يَعْنِي: عصينا(2/204)
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
{قَالَ ألقوا فَلَمَّا ألقوا سحروا أعين النَّاس} أَي: صرفُوا أعين النَّاس عَن إِدْرَاك حَقِيقَتهَا؛ فعلوا من التمويه والتخييل، وَهَذَا هُوَ السحر.
{واسترهبوهم} أَي: السَّحَرَة طلبُوا رهبة النَّاس؛ فرهبوهم، وَقَالَ الْمبرد: السِّين فِيهِ زَائِدَة، وَمَعْنَاهُ: أرهبوهم {وَجَاءُوا بِسحر عَظِيم} .(2/204)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
قَوْله - تَعَالَى -: {وأوحينا إِلَى مُوسَى أَن ألق عصاك فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون} وَيقْرَأ: " تلقف مَا يأفكون " مخففا، وَيقْرَأ فِي الشواذ " تلقم " وَقَرَأَ سعيد بن جُبَير: " تلقم " مخففا، وَمعنى الْكل وَاحِد. والتلقف: الْأَخْذ بِسُرْعَة، وَمَعْنَاهُ: تتلقم مَا يأفكون أَي: مَا يكذبُون من التخاييل الكاذبة، وَفِي الْقَصَص: أَن السَّحَرَة كَانُوا سبعين ألف، مَعَ كل وَاحِد مِنْهُم عَصا، فَألْقوا عصيهم؛ فَإِذا هِيَ تتحرك كالحيات، ثمَّ ألْقى مُوسَى عَصَاهُ؛ فَصَارَت ثعبانا، وتلقف كل ذَلِك، وَقصد النَّاس الَّذين حَضَرُوا؛ فَوَقع الزحام عَلَيْهِم؛ فَهَلَك خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا فِي الزحام، ثمَّ أَخذه مُوسَى؛ فَصَارَت عَصا كَمَا كَانَت؛ فَذَلِك قَوْله {فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون} قَالَ الشَّاعِر:
(أَنْت عَصا مُوسَى الَّتِي لم تزل ... تلقف مَا يأفكه السَّاحر)
وَقَالَ آخر:
(إِذا جَاءَ مُوسَى وَألقى الْعَصَا ... فقد بَطل السحر والساحر)(2/204)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَوَقع الْحق وَبَطل مَا كَانُوا يعْملُونَ} قَالَ الْحسن، وَمُجاهد: مَعْنَاهُ: ظهر الْحق أَي: ظهر عَصا مُوسَى على عصيهم، وَقيل مَعْنَاهُ: ظَهرت نبوة مُوسَى على دَعْوَى فِرْعَوْن الربوبية(2/204)
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
{فغلبوا هُنَالك وانقلبوا صاغرين} أَي: ذليلين.(2/204)
{وانقلبوا صاغرين (119) وَأُلْقِي السَّحَرَة ساجدين (120) {قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين (121) رب مُوسَى وَهَارُون (122) قَالَ فِرْعَوْن آمنتم بِهِ قبل أَن آذن لكم إِن هَذَا لمكر مكرتموه فِي الْمَدِينَة لتخرجوا مِنْهَا أَهلهَا فَسَوف تعلمُونَ (123) لأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف ثمَّ لأصلبنكم أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبنَا منقلبون (125) وَمَا تنقم منا إِلَّا أَن آمنا بآيَات رَبنَا لما جاءتنا رَبنَا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مُسلمين (126) وَقَالَ الْمَلأ من قوم فِرْعَوْن أتذر مُوسَى وَقَومه ليفسدوا فِي الأَرْض ويذرك وآلهتك قَالَ}(2/205)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَأُلْقِي السَّحَرَة ساجدين} وَاخْتلفُوا فِي سجودهم، قَالَ بَعضهم: ألهمهم الله - تَعَالَى - أَن يسجدوا فسجدوا، وَقيل: إِن مُوسَى وَهَارُون سجدا شكرا لله - تَعَالَى - فوافقهم السَّحَرَة(2/205)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)
{قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين} قيل: إِن فِرْعَوْن لما سمع ذَلِك مِنْهُم قَالَ: آمنتم بِي؟ فَقَالُوا:(2/205)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
{رب مُوسَى وَهَارُون} وَقَالَ فِرْعَوْن: {آمنتم بِهِ قبل أَن آذن لكم إِن هَذَا لمكر مكرتموه فِي الْمَدِينَة} قَالَ السّديّ: كَانَ مُوسَى قد قَالَ لرئيس السَّحَرَة: إِن غلبتك غَدا لتؤمنن بِي؟ فَقَالَ: لآتينك بِسحر أغلبك، وَإِن غلبتني آمَنت بك فَهَذَا معنى قَول فِرْعَوْن: {إِن هَذَا لمكر مكرتموه فِي الْمَدِينَة} أَي: تَدْبِير دبرتموه فِي الْمَدِينَة {لتخرجوا مِنْهَا أَهلهَا} أَي: لتغلبوا أَهلهَا ( {فَسَوف تعلمُونَ}(2/205)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
لأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف ثمَّ لأصلبنكم أَجْمَعِينَ) هددهم بِهَذِهِ الْعُقُوبَات، وَهِي مَعْلُومَة(2/205)
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبنَا منقلبون} فَهَذَا قَالُوهُ تَسْلِيَة لقُلُوبِهِمْ.(2/205)
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
{وَمَا تنقم منا} أَي: وَمَا تكره منا، وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا تعيب علينا ( {إِلَّا أَن آمنا بآيَات رَبنَا لما جاءتنا} رَبنَا أفرغ) أَي: أنزل {علينا صبرا وتوفنا مُسلمين} .(2/205)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالَ الْمَلأ من قوم فِرْعَوْن} وَإِنَّمَا سموا مَلأ لمعنيين: أَحدهمَا: أَنهم كَانُوا يملئون صُدُور النَّاس هَيْبَة، وَقيل: لأَنهم كَانُوا مليئين بِمَا فوض إِلَيْهِم. {أتذر مُوسَى وَقَومه ليفسدوا فِي الأَرْض} أَرَادوا بِهَذَا الْفساد: مُخَالفَة أَمر فِرْعَوْن {ويذرك وآلهتك} وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " وإلاهتك " أَي: عبادتك، وَقيل: الإلاهة:(2/205)
{سنقتل أَبْنَاءَهُم ونستحيي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقهم قاهرون (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّه واصبروا إِن الأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين (128) قَالُوا أوذينا من قبل أَن تَأْتِينَا وَمن بعد مَا جئتنا قَالَ عَسى ربكُم أَن يهْلك عَدوكُمْ ويستخلفكم} الشَّمْس، وَكَانَ فِرْعَوْن يعبد الشَّمْس، قَالَ الشَّاعِر:
(تروحنا من اللعباء عصرا ... فأعجلنا الإلاهة أَن تؤوبا)
أَي: أعجلنا الشَّمْس أَن ترجع، وَالْمَعْرُوف {ويذرك وآلهتك} .
قَالَ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ: وَكَانَ فِرْعَوْن يعبد الْبَقر، وَقَالَ السّديّ: كَانَ قد اتخذ أصناما، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: هَذِه آلِهَتكُم، وَأَنا إِلَه الْآلهَة، وَقَالَ الْحسن: كَانَ قد علق على عُنُقه صليبا - وَكَانَ يعبده - فَلذَلِك قَالُوا: " ويذرك وآلهتك " وَهَذَا كَانَ إغراء مِنْهُم لفرعون على مُوسَى {قَالَ سنقتل أَبْنَاءَهُم ونستحيي نِسَاءَهُمْ} وَكَانَ من قبل يفعل ذَلِك ثمَّ تَركه، ثمَّ عَاد إِلَيْهِ ثَانِيًا فَقَالَ: {سنقتل أَبْنَاءَهُم ونستحيي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقهم قاهرون} .(2/206)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّه واصبروا إِن الأَرْض لله يُورثهَا} وَفِي الشواذ: " يُورثهَا " {من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين} أَي: فِي النَّصْر وَالظفر.(2/206)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
قَوْله - تَعَالَى -: {قَالُوا أوذينا من قبل أَن تَأْتِينَا وَمن بعد مَا جئتنا} فِيهِ أَقْوَال:
قَالَ الْحسن: كَانَ الْإِيذَاء بِأخذ الْجِزْيَة؛ كَانَ فِرْعَوْن يَأْخُذ الْجِزْيَة مِنْهُم قبل مَجِيء مُوسَى وَبعده، وَقيل: هُوَ من قتل الْأَبْنَاء؛ كَانَ يقتل أَبْنَاءَهُم، ويستحيي نِسَاءَهُمْ قبل مَجِيء مُوسَى؛ ثمَّ عَاد إِلَيْهِ، وَذكر جُوَيْبِر فِي تَفْسِيره: أَن المُرَاد بِهِ أَن فِرْعَوْن كَانَ يسخرهم ويستعملهم إِلَى نصف النَّهَار، فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى استسخرهم كل النَّهَار بِلَا أجر وَلَا شَيْء، وَذكر الْكَلْبِيّ: أَنهم كَانُوا يضْربُونَ لَهُ اللَّبن بتبن فِرْعَوْن قبل مَجِيء(2/206)
{فِي الأَرْض فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَد أَخذنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ وَنقص من الثمرات لَعَلَّهُم يذكرُونَ (130) فَإِذا جَاءَتْهُم الْحَسَنَة قَالُوا لنا هَذِه وَإِن تصبهم سَيِّئَة يطيروا بمُوسَى وَمن مَعَه أَلا إِنَّمَا طائرهم عِنْد الله وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (131) وَقَالُوا مهما تأتنا بِهِ من آيَة لتسحرنا بهَا فَمَا نَحن لَك بمؤمنين (132) فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم} مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى أجبرهم على أَن يضربوه بتبن من عِنْدهم.
{قَالَ عَسى ربكُم} وَهِي كلمة التطميع {أَن يهْلك عَدوكُمْ ويستخلفكم فِي الأَرْض فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ} يَعْنِي: حَتَّى يجازيكم على مَا يرى وَاقعا مِنْكُم لَا على مَا علم فِي الْغَيْب مِنْكُم.(2/207)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد أَخذنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ} أَي: بِالْقَحْطِ والجدب.
تَقول الْعَرَب جاءتنا سنة أَي: سنة جَدب، فَأَخذهُم الله - تَعَالَى - بِالسِّنِينَ {وَنقص من الثمرات لَعَلَّهُم يذكرُونَ} أَي: يتعظون، وَذَلِكَ: أَن الشدَّة ترقق الْقُلُوب وترغبها إِلَى الله - تَعَالَى -.(2/207)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
قَوْله - تَعَالَى -: {فَإِذا جَاءَتْهُم الْحَسَنَة} أَي: الخصب {قَالُوا لنا هَذِه} أَي: هَذَا كَانَ عَادَة الدَّهْر بِنَا {وَإِن تصبهم سَيِّئَة} أَي: جَدب {يطيروا بمُوسَى وَمن مَعَه} أَي: يَقُولُونَ: هَذَا من شُؤْم مُوسَى وَمن مَعَه {أَلا إِنَّمَا طائرهم عِنْد الله} أَي: الشؤم وَالْبركَة وَالْخَيْر وَالشَّر كُله من الله - تَعَالَى - وَقيل مَعْنَاهُ: الشؤم الْعَظِيم هُوَ الَّذِي لَهُم عِنْد الله - تَعَالَى - فِي الْآخِرَة، تَقول الْعَرَب: طَار لفُلَان سعد، وطار لفُلَان شُؤْم {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} .(2/207)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا مهما} أَي: مَتى مَا {تأتنا بِهِ من آيَة لتسحرنا بهَا فَمَا نَحن لَك بمؤمنين(2/207)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم الطوفان) قَالَ عَطاء: أَرَادَ بالطوفان: الْمَوْت الذريع، وَقيل: السَّيْل الْعَظِيم، وَفِي الْقِصَّة: أَنهم مُطِرُوا من السبت إِلَى السبت، حَتَّى بلغ المَاء تراقيهم، فَكَانَ الرجل إِذا أَرَادَ أَن يجلس غرق فِي المَاء؛ فاستغاثوا بمُوسَى وَقَالُوا: ادْع الله حَتَّى يمسك ونؤمن لَك؛ فَدَعَا الله - تَعَالَى - فَأمْسك عَنْهُم الْمَطَر، فأخرجت(2/207)
الأَرْض تِلْكَ السّنة نباتا كثيرا وأخصبت، فَقَالُوا: هَذَا كَانَ خيرا لنا، فَلم يُؤمنُوا وَكَفرُوا بِهِ؛ فَأرْسل الله عَلَيْهِم الْجَرَاد؛ فَأكل زرعهم ونباتهم إِلَّا قَلِيلا؛ فاستغاثوا بمُوسَى حَتَّى يَدْعُو الله - تَعَالَى - فَيدْفَع عَنْهُم ذَلِك.
وَفِي أَخْبَار عمر - رَضِي الله عَنهُ -: أَنه قل الْجَرَاد فِي زَمَانه سنة، فَبعث رَاكِبًا قبل الْيمن وراكبا قبل الشَّام وراكبا قبل الْعرَاق؛ ليطلبوا الْجَرَاد؛ فجَاء رَاكب الْيمن بكف من جَراد، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - الله أكبر، إِن لله - تَعَالَى - ألف أمة: سِتّمائَة فِي الْبر، وَأَرْبَعمِائَة فِي الْبَحْر، وَأول أمة تهْلك الْجَرَاد، ثمَّ تتبعهم سَائِر الْأُمَم الباقيين ".
وَفِي الْأَخْبَار: أَن مَرْيَم سَأَلت [رَبهَا] ، وَقَالَت: يَا رب أَطْعمنِي لَحْمًا بِلَا دم؛ فأطعمها الْجَرَاد. وَفِي الْخَبَر " مَكْتُوب على صدر كل جَرَادَة جند الله الْأَعْظَم ".
رَجعْنَا إِلَى الْقِصَّة، فَلَمَّا رفع عَنْهُم الْجَرَاد لم يُؤمنُوا أَيْضا؛ فَأرْسل الله عَلَيْهِم الْقمل، قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة: الْقمل صغَار الْجَرَاد، وَهِي: الدبي الَّتِي لَيست لَهَا أَجْنِحَة، وَعَن ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة أُخْرَى - أَن الْقمل: سوس الْحِنْطَة. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ كبار القراد، وسمى القراد الْكَبِير: حمنان أَيْضا، وَقيل: الْقمل هُوَ الْقمل، وَقيل: هُوَ الرعاف. فاستغاثوا بمُوسَى، فَدَعَا الله فَرفع عَنْهُم فَلم يُؤمنُوا؛ فَسلط عَلَيْهِم الضفادع.
وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى جَاءَ إِلَى شط الْبَحْر وَأَشَارَ بعصاه إِلَى أدنى الْبَحْر وأقصاه، فَخرجت الضفادع حَتَّى امْتَلَأت بُيُوتهم - وَكَانَت قوافز - وَكَانَ الرجل مِنْهُم إِذا فتح فَاه ليَتَكَلَّم تثب فِي فِيهِ، وكل من نَام مِنْهُم فَإِذا انتبه من النّوم يرى على بدنه مِنْهَا قدر ذِرَاع، وَكَانَ إِذا تكلم الرجل تقفز فِي فَمه، ثمَّ رفع عَنْهُم فَلم يُؤمنُوا؛ فَجعل الله نيل مصر عَلَيْهِم دَمًا - وَكَانَ كل ذَلِك للقبط خَاصَّة - وَكَانَ القبطي يَأْخُذ من النّيل الدَّم، وَبَنُو إِسْرَائِيل يَأْخُذُونَ المَاء، حَتَّى كَانَ الْكوز الْوَاحِد يشرب القبطي مِنْهُ دَمًا عبيطا،(2/208)
{الطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم آيَات مفصلات فاستكبروا وَكَانُوا قوما مجرمين (133) وَلما وَقع عَلَيْهِم الرجز قَالُوا يَا مُوسَى ادْع لنا رَبك بِمَا عهد عنْدك لَئِن كشفت عَنَّا الرجز لنؤمنن لَك ولنرسلن مَعَك بني إِسْرَائِيل (134) فَلَمَّا كشفنا عَنْهُم الرجز إِلَى أجل هم بالغوه إِذا هم ينكثون (135) فانتقمنا مِنْهُم فأغرقناهم فِي اليم بِأَنَّهُم كذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين (136) وأورثنا الْقَوْم الَّذين كَانُوا يستضعفون مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا الَّتِي باركنا فِيهَا وتمت كلمت رَبك الْحسنى على بني إِسْرَائِيل بِمَا} والإسرائيلي مَاء؛ فَذَلِك معنى قَوْله: {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم الطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم، آيَات مفصلات} وتفصيلها أَن كل عَذَاب مِنْهَا يَمْتَد أسبوعا، وَكَانَ بَين كل عذابين شهر {فاستكبروا وَكَانُوا قوما مجرمين} .(2/209)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
قَوْله تَعَالَى: {وَلما وَقع عَلَيْهِم الرجز} قيل: أَرَادَ بِهِ مَا سبق من الْعَذَاب، وَقيل: هُوَ عَذَاب الطَّاعُون، قَالَ سعيد بن جُبَير: مَاتَ مِنْهُم بالطاعون سَبْعُونَ ألفا فِي يَوْم وَاحِد، وَالرجز الرجس: الْعَذَاب.
{قَالُوا يَا مُوسَى ادْع لنا رَبك بِمَا عهد عنْدك} يَعْنِي: من إِجَابَة دعوتك {لَئِن كشفت عَنَّا الرجز لنؤمنن لَك ولنرسلن مَعَك بني إِسْرَائِيل} فَإِنَّهُ أَرَادَ أَن يخرج بهم إِلَى الشَّام(2/209)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
{فَلَمَّا كشفنا عَنْهُم الرجز إِلَى أجل هم بالغوه} وَذَلِكَ الْغَرق فِي اليم {إِذا هم ينكثون} أَي: ينقضون الْعَهْد(2/209)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
{فانتقمنا مِنْهُم فأغرقناهم فِي اليم بِأَنَّهُم كذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين} وللغرق قصَّة ستأتي فِي موضعهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى(2/209)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
{وأورثنا الْقَوْم الَّذين كَانُوا يستضعفون مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا الَّتِي باركنا فِيهَا} قيل أَرَادَ بهَا أَرض مصر وَالشَّام، وَقيل: أَرَادَ بهَا الشَّام وَحده، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْأُرْدُن وفلسطين، وَقَوله {باركنا فِيهَا} أَي: بِالْخصْبِ وَالسعَة.
{وتمت كلمة رَبك الْحسنى على بني إِسْرَائِيل بِمَا صَبَرُوا} وَتلك الْكَلِمَة: وعده الَّذِي وعدهم، وَذَلِكَ فِي قَوْله: {ونريد أَن نمن على الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض ونجعلهم أَئِمَّة ونجعلهم الْوَارِثين} فَلَمَّا أورثهم تِلْكَ الْأَرَاضِي وانجزهم ذَلِك(2/209)
{صَبَرُوا ودمرنا مَا كَانَ يصنع فِرْعَوْن وَقَومه وَمَا كَانُوا يعرشون (137) وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر فَأتوا على قوم يعكفون على أصنام لَهُم قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة قَالَ إِنَّكُم قوم تجهلون (138) إِن هَؤُلَاءِ متبر مَا هم فِيهِ وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ (139) قَالَ أغير الله أبغيكم إِلَهًا وَهُوَ فَضلكُمْ على الْعَالمين (140) وَإِذ أنجيناكم من آل} الْوَعْد؛ قَالَ: تمت كلمة رَبك، أَي: تمّ وعده لَهُم، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا: حسنى لِأَنَّهَا كَانَت على وفْق مَا يحبونَ {ودمرنا مَا كَانَ يصنع فِرْعَوْن وَقَومه} أَي: أهلكنا ذَلِك عَلَيْهِم {وَمَا كَانُوا يعرشون} (أَي يبنون ويسقفون تجبرا وتكبرا.(2/210)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
قَوْله - تَعَالَى -: {وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر فَأتوا على قوم يعكفون على أصنام لَهُم} أَي: يلازمون عبَادَة تِلْكَ الْأَصْنَام، وهم قوم من العمالقة رَآهُمْ بَنو إِسْرَائِيل عاكفين على أصنام لَهُم {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة} وَلم يكن ذَلِك من بني إِسْرَائِيل شكا فِي وحدانية الله - تَعَالَى - وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: اجْعَل لنا شَيْئا نعظمه ونتقرب بتعظيمه إِلَى الله - تَعَالَى - وظنوا أَن ذَلِك لَا يضر الدّيانَة، وَكَانَ ذَلِك من شدَّة جهلهم.
{قَالَ إِنَّكُم قوم تجهلون(2/210)
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
إِن هَؤُلَاءِ متبر مَا هم فِيهِ) أَي: مدمر مَا هم فِيهِ ( {وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ}(2/210)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
قَالَ) يَعْنِي: مُوسَى {أغير الله أبغيكم إِلَهًا} أَي: أطلب لكم إِلَهًا تعظمونه غير الله {وَهُوَ فَضلكُمْ على الْعَالمين} وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: " أَن رَسُول الله لما رَجَعَ من حنين مر على شَجَرَة يُقَال لَهَا: ذَات أنواط، وَقد عكف حولهَا قوم من الْأَعْرَاب يعظمونها، وَقد عَلقُوا عَلَيْهَا أسلحتهم، فَقَالَ أَصْحَابه: يَا رَسُول الله، لَو جعلت لنا ذَات أنواط كَمَا لَهُم ذَات أنواط فَقَالَ: عَلَيْهِ - الصَّلَاة وَالسَّلَام - الله أكبر، هَذَا مثل مَا قَالَ قوم مُوسَى لمُوسَى: {اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة} .(2/210)
{فِرْعَوْن يسومونكم سوء الْعَذَاب يقتلُون أبناءكم ويستحيون نساءكم وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم (141) وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة وأتممناها بِعشر فتم مِيقَات ربه أَرْبَعِينَ لَيْلَة وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُون اخلفني فِي قومِي وَأصْلح وَلَا تتبع سَبِيل المفسدين}(2/211)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذ أنجيناكم من آل فِرْعَوْن يسومونكم سوء الْعَذَاب} أَي: يذيقونكم شَرّ الْعَذَاب، وَقد ذكرنَا معنى هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة.
{يقتلُون أبناءكم} يَعْنِي: صغَار أبناءكم {ويستحيون نساءكم وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم} قيل مَعْنَاهُ: فِي تعذيبهم إيَّاكُمْ بلَاء من ربكُم عَظِيم، وَقيل: فِي إنجائنا إيَّاكُمْ {بلَاء من ربكُم عَظِيم} أَي: نعْمَة.(2/211)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
قَوْله - تَعَالَى -: {وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة وأتتمناها بِعشر} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هِيَ أَيَّام ذِي الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة {فتم مِيقَات ربه أَرْبَعِينَ لَيْلَة} فَإِن قيل: ذكر الثَّلَاثِينَ وَالْعشر يُغني عَن ذكر الْأَرْبَعين، فَمَا معنى هَذَا التّكْرَار؟ قيل: كَرَّرَه تَأْكِيدًا، وَقيل: فَائِدَة قَوْله: {فتم مِيقَات ربه أَرْبَعِينَ لَيْلَة} قطع الأوهام عَن الزِّيَادَة؛ لِأَنَّهُ لما وَقت الثَّلَاثِينَ أَولا، ثمَّ زَاد عَلَيْهِ عشرا، رُبمَا يَقع فِي الأوهام زِيَادَة أُخْرَى، فَذكره لقطع الأوهام عَن الزِّيَادَة، وَذكر الثَّلَاثِينَ فِي الِابْتِدَاء وَالْعشر مفصلا: ليعلم أَن الْمِيقَات كَانَ كَذَلِك مفصلا ثَلَاثِينَ ذِي الْقعدَة وَعشرا من ذِي الْحجَّة.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى أَمر مُوسَى أَن يَصُوم ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ يَأْتِي الطّور يكلمهُ؛ فصَام ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَيْلًا وَنَهَارًا.
وَفِي بعض التفاسير: صَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فتغيرت رَائِحَة فَمه، فَأخذ ورق الخرنوب وتناوله؛ لتزول رَائِحَة فَمه، فَأمره الله تَعَالَى أَن يَصُوم عشرا أخر؛ لتعود الرَّائِحَة، وَتَمام الْقِصَّة فِي الْآيَة الثَّانِيَة.
{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُون اخلفني فِي قومِي} اسْتَخْلَفَهُ على قومه {وَأصْلح} أَي: ارْفُقْ {وَلَا تتبع سَبِيل المفسدين} أَي: لَا تتبع آراءهم وأهواءهم.(2/211)
( {142) وَلما جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمه ربه قَالَ رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك قَالَ لن تراني وَلَكِن انْظُر إِلَى الْجَبَل فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني فَلَمَّا تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر}(2/212)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
قَوْله - تَعَالَى -: {وَلما جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} يَعْنِي الْوَقْت الَّذِي وَقت لَهُ على مَا بَينا {كَلمه ربه} وَفِي الْقِصَّة: أَن الله - تَعَالَى - لما استحضره بِجَانِب الطّور [و] أنزل ظلمَة على سَبْعَة فراسخ، وطرد عَنهُ الشَّيْطَان، ونحى عَنهُ الْملكَيْنِ، وَكَلمه حَتَّى أسمعهُ وأفهمه. وَفِي الْقِصَّة: كَانَ جِبْرِيل مَعَه فَلم يسمع مَا كَلمه ربه.
{قَالَ رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} قَالَ الزّجاج: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره أَرِنِي نَفسك أنظر إِلَيْك. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ سَأَلَ الرُّؤْيَة وَقد علم أَن الله عز وَجل لَا يرى فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ الْحسن: هاج بِهِ الشوق؛ فَسَأَلَ الرُّؤْيَة. وَقيل: سَأَلَ الرُّؤْيَة ظنا مِنْهُ أَنه يجوز أَن يرى فِي الدُّنْيَا.
{قَالَ لن تراني} يسْتَدلّ من يَنْفِي الرُّؤْيَة بِهَذِهِ الْكَلِمَة، وَلَيْسَ لَهُم فِيهَا مستدل؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يقل: إِنِّي لَا أرى؛ مَتى يكون حجَّة لَهُم؛ وَلِأَنَّهُ لم ينْسبهُ إِلَى الْجَهْل فِي سُؤال الرُّؤْيَة، كَمَا نسب إِلَيْهِ قومه بقَوْلهمْ: " اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة " لما لم يجز ذَلِك، وَأما معنى قَوْله {لن تراني} يَعْنِي: فِي الْحَال أَو فِي الدُّنْيَا.
{وَلَكِن انْظُر إِلَى الْجَبَل فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني} مَعْنَاهُ: اجْعَل الْجَبَل بيني وَبَيْنك؛ فَإِنَّهُ أقوى مِنْك، فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني؛ وَفِي هَذَا دَلِيل على أَنه يجوز أَن يرى؛ لِأَنَّهُ لم يعلق الرُّؤْيَة بِمَا يَسْتَحِيل وجوده؛ لِأَن اسْتِقْرَار الْجَبَل مَعَ تجليه لَهُ غير مُسْتَحِيل، بِأَن يَجْعَل لَهُ قُوَّة الِاسْتِقْرَار مَعَ التجلي.
{فَلَمَّا تجلى ربه للجبل} أَن ظهر للجبل: قيل: إِنَّه جعل للجبل بصرا وَخلق فِيهِ حَيَاة، ثمَّ تجلى لَهُ فتذكرك على نَفسه. وروى حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله - تَعَالَى - تجلى للجبل بِقدر أُنْمُلَة الْخِنْصر، ثمَّ وضع ثَابت إبهامه على أُنْمُلَة خِنْصره، فَقيل لَهُ: أَتَقول بِهَذَا؟ فَقَالَ: يَقُول بِهِ أنس وَرَسُول الله، وَلَا(2/212)
{مُوسَى صعقا فَلَمَّا أَفَاق قَالَ سُبْحَانَكَ تبت إِلَيْك وَأَنا أول الْمُؤمنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى} أَقُول بِهِ أَنا! : وَضرب فِي صدر الْقَائِل " وَفِي بعض الرِّوَايَات " أَنه تجلى للجبل بِقدر جنَاح بعوضة أَو أقل ".
{جعله دكا} قَالَ ابْن عَبَّاس: صَار تُرَابا. وَقَالَ الْحسن وسُفْيَان: ساخ فِي الأَرْض، وَفِي بعض التفاسير: أَنه صَار سِتَّة أجبل: ثَلَاثَة بِمَكَّة: وَذَلِكَ ثَوْر وثبير وحراء، وَثَلَاثَة بِالْمَدِينَةِ: رضوى وَأحد وورقان، وَقيل: انقلع الْجَبَل من أَصله، وَوَقع فِي الْبَحْر، فَهُوَ يذهب فِيهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَأما من حَيْثُ اللُّغَة: قَالَ الزّجاج: معنى قَوْله: {جعله دكا} أَي: مدكوكا مدقوقا، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: " جعله دكاء " ممدودا، يُقَال: أَرض دكاء إِذا كَانَ فِيهَا ناتئ ومواضع مُرْتَفعَة كالقلال، والدكاوات: الرواسِي من الأَرْض، وَمَعْنَاهُ: أَنه جعله كالأرض المرتفعة، وَخرج من كَونه جبلا.
وَقَوله: {وخر مُوسَى صعقا} قَالَ قَتَادَة: أَي مَيتا، وَكَانَ قد مَاتَ تِلْكَ السَّاعَة. وَقَالَ الْحسن وَابْن عَبَّاس: خر مغشيا عَلَيْهِ. وَهَذَا أليق بالنظم؛ لِأَنَّهُ قَالَ {فَلَمَّا أَفَاق قَالَ سُبْحَانَكَ} وَهَذَا التَّنْزِيه. {تبت إِلَيْك} يَعْنِي: من سُؤال الرُّؤْيَة قبل الْإِذْن {وَأَنا أول الْمُؤمنِينَ} يَعْنِي أَنا أول الْمُؤمنِينَ بِأَن من يراك متجليا فِي الدُّنْيَا لَا يسْتَقرّ مَكَانَهُ، وَقيل مَعْنَاهُ: أَنا أول الْمُؤمنِينَ بأنك لَا ترى فِي الدُّنْيَا.(2/213)
{إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي فَخذ مَا آتيتك وَكن من الشَّاكِرِينَ (144) وكتبنا لَهُ فِي الألواح من كل شَيْء موعظة وتصفيلا لكل شَيْء فَخذهَا بِقُوَّة وَأمر قَوْمك}(2/214)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
قَوْله تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي} فَإِن قَالَ قَائِل: قد أعْطى غَيره الرسالات، فَمَا معنى قَوْله: {اصفيتك على النَّاس برسالاتي} ؟ قيل: لما لم يكن إِعْطَاء الرسَالَة على الْعُمُوم فِي حق النَّاس، استقام قَوْله: {اصطفيتك على النَّاس برسالاتي} وَإِن شَاركهُ فِيهَا غَيره، وَهَذَا مثل قَول الرجل: خصصتك بمشورتي، وَإِن شاور غَيره، لَكِن لما تكن الْمُشَاورَة على الْعُمُوم؛ استقام الْكَلَام. {فَخذ مَا آتيتك وَكن من الشَّاكِرِينَ} لما أَنْعَمت عَلَيْك من إِعْطَاء الرسَالَة وَالْكَلَام، وَهَذِه الْآيَة فِي تَسْلِيَة مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - حَيْثُ سَأَلَ الرُّؤْيَة فَلم يحظ بهَا.(2/214)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
قَوْله تَعَالَى: {وكتبنا لَهُ فِي الألواح} وَأَرَادَ بِهِ التَّوْرَاة، وَفِي الْخَبَر: " أَن الله - تَعَالَى - خلق آدم بِيَدِهِ، وَكتب التَّوْرَاة بِيَدِهِ، وغرس شَجَرَة طُوبَى بِيَدِهِ ".
وَاخْتلفُوا فِي تِلْكَ الألواح، قَالَ الْحسن: كَانَت الألواح من خشب، وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَت من زبرجد أَخْضَر، وَقَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَت من ياقوتة حَمْرَاء، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة: كَانَت من برد. وَقيل: نزلت الألواح والتوراة مَكْتُوبَة عَلَيْهَا كنقش الْخَاتم.
{من كل شي موعظة} أَي: تذكرة، وَحَقِيقَة الموعظة: هِيَ التَّذْكِير والتحذير مِمَّا يخَاف عاقبته. {وتفصيلا لكل شَيْء} أَي: بَيَانا للْحَلَال وَالْحرَام وَمَا أمروا بِهِ، وَمَا نهو عَنهُ {فَخذهَا بِقُوَّة} أَي: بجد واجتهاد، وَقيل مَعْنَاهُ: بِقُوَّة الْقلب.
{وَأمر قَوْمك يَأْخُذُوا بأحسنها} قَالَ قطرب: أَي: بحسنها. وَاعْلَم أَن الْأَحْسَن مَا(2/214)
{يَأْخُذُوا بأحسنها سأريكم دَار الْفَاسِقين (145) سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا وَإِن يرَوا سَبِيل الرشد لَا يتخذوه سَبِيلا وَإِن يرَوا سَبِيل الغي يتخذوه سَبِيلا ذَلِك بِأَنَّهُم كذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين (146) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا ولقاء الْآخِرَة حبطت أَعْمَالهم هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا} كَانَ فِيهِ من الْفَرَائِض الْمَكْتُوبَة والنوافل الْمَنْدُوب إِلَيْهَا فَإِنَّهَا الْأَحْسَن، وَأما الْحسن: مَا كَانَ مُبَاحا، وَقيل: معنى قَوْله: {يَأْخُذُوا بأحسنها} أَي: بِأَحْسَن الْأَمريْنِ فِي كل شَيْء، كالعفو أحسن من الاقتصاص، وَالصَّبْر أحسن من الِانْتِصَار {سأريكم دَار الْفَاسِقين} وَقَرَأَ قسَامَة بن زُهَيْر: " سأورثكم " من التوريث، فعلى هَذَا مَعْنَاهُ: سأورثكم أَرض مصر، وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة " سأريكم " قَالَ مُجَاهِد وَجَمَاعَة: سأريكم جَهَنَّم، وَقيل: أَرَادَ بِهِ مصَارِع الْكفَّار. قَالَ قَتَادَة: دَار الْفَاسِقين أَرَادَ بهَا الشَّام؛ على معنى: أريكم فِيهَا مَا أهلكت من قرى الْكفَّار قبلكُمْ؛ لِأَن مُوسَى خرج بهم إِلَى الشَّام.(2/215)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
قَوْله - تَعَالَى -: {سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة مَعْنَاهُ: سأمنعهم فهم الْقُرْآن، قَالَ الزّجاج تَقْدِيره: سأصرفهم عَن قبُول آياتي، وَأما التكبر: هُوَ طلب الْفضل من غير اسْتِحْقَاق.
{وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا وَإِن يرَوا سَبِيل الرشد لَا يتخذوه سَبِيلا} وَقَرَأَ أَبُو عبد الرَّحْمَن عبد الله بن يزِيد الْمُقْرِئ: " سَبِيل الرشاد " المعدوف: " سَبِيل الرشد " وَيقْرَأ أَيْضا: " سَبِيل الرشد " والرشد والرشد وَاحِد، وَهُوَ الصّلاح.
{وَإِن يرَوا سَبِيل الغي يتخذوه سَبِيلا} يَعْنِي: سَبِيل الضَّلَالَة {ذَلِك بِأَنَّهُم كذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين} لأَنهم لما لم يتدبروا الْقُرْآن فكأنهم عَنهُ غافلين(2/215)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
{وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا ولقاء الْآخِرَة حبطت أَعْمَالهم} أَي: بطلت أَعْمَالهم {هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ} .(2/215)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
قَوْله تَعَالَى: {وَاتخذ قوم مُوسَى من بعده من حليهم} وَيقْرَأ: " من حليهم "(2/215)
{يعْملُونَ (147) } وَاتخذ قوم مُوسَى من بعده من حليهم عجلا جسدا لَهُ خوار ألم يرَوا أَنه لَا يكلمهم وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا اتخذوه وَكَانُوا ظالمين (148) وَلما سقط فِي يديهم) {عجلا جسدا لَهُ خوار} أَي: جَسَد لَهُ خوار، وَيقْرَأ فِي الشواذ: " لَهُ جؤار " وَهُوَ بِمَعْنى الخوار، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى الطّور قَالَ لِقَوْمِهِ: أرجع إِلَيْكُم بعد ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا لم يرجع إِلَيْهِم بعد الثَّلَاثِينَ ظنُّوا أَنه مَاتَ، كَانَ السامري فِي بني إِسْرَائِيل مُطَاعًا بَينهم، وَكَانَ صائغا، فَقَالَ لَهُم: اجْمَعُوا لي مَا أَخَذْتُم من الْحلِيّ من آل فِرْعَوْن أصنع لكم شَيْئا، فدفعوا إِلَيْهِ مَا أخذُوا من الْحلِيّ فصاغ مِنْهُ الْعجل، قَالَ الْحسن: كَانَ السامري قد رأى جِبْرِيل يَوْم غرق فِرْعَوْن على فرس، فَأخذ قَبْضَة من أثر قدم فرسه.
قَالَ عِكْرِمَة: ألقِي فِي روعه أَنه فِي أَي شَيْء ألْقى تِلْكَ القبضة من التُّرَاب يحيا بهَا ذَلِك الشَّيْء، وَذَلِكَ أَنه رأى مَوَاضِع قدم الْفرس تحضر فِي الْحَال وتنبت، فَلَمَّا صاغ الْعجل ألقِي فِي روعه أَن يلقِي تِلْكَ القبضة فِي فَمه فألقاها فِي فَم الْعجل فحيي، فَصَارَ لَحْمًا ودما من ذهب، وَله خوار فَإِنَّهُ خار، ثمَّ قَالَ السامري: {هَذَا إِلَهكُم وإله مُوسَى فنسي} على مَا سَيَأْتِي فِي قصَّته فِي سُورَة طه، وَقيل: إِنَّه مَا خار إِلَّا مرّة، وَقيل كَانَ يخور كثيرا، كَمَا تخور الْبَقَرَة، وَكَانَ كلما خار سجدوا لَهُ، وَكلما سكت رفعوا رُءُوسهم.
وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين: لم تنْبت فِيهِ حَيَاة أصلا، وَلم يكن لَهُ خوار حَقِيقَة، وَإِنَّمَا الَّذِي سمعُوا من الخوار كَانَ بحيلة، وَالصَّحِيح هُوَ الأول. ثمَّ اخْتلفُوا فِي عدد الَّذين عبدُوا الْعجل، قَالَ الْحسن: كلهم عبدوه إِلَّا هَارُون وَحده، وَقيل: - وَهُوَ الْأَصَح -: عَبده كلهم إِلَّا هَارُون وَاثنا عشر ألف رجل مِنْهُم.
{ألم يرَوا أَنه لَا يكلمهم وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا} وَهَذَا دَلِيل على أَن الله مُتَكَلم لم يزل وَلَا يزَال؛ لِأَنَّهُ اسْتدلَّ بِعَدَمِ الْكَلَام من الْعجل على نفي الإلهية.(2/216)
{وَرَأَوا أَنهم قد ضلوا قَالُوا لَئِن لم يَرْحَمنَا رَبنَا وَيغْفر لنا لنكونن من الخاسرين (149) وَلما رَجَعَ مُوسَى إِلَى قومه غَضْبَان أسفا قَالَ بئْسَمَا خلفتموني من بعدِي أعجلتم أَمر ربكُم وَألقى الألواح وَأخذ بِرَأْس أَخِيه يجره إِلَيْهِ قَالَ ابْن أم إِن الْقَوْم استضعفوني}
{وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا} أَي: طَرِيقا {اتخذوه وَكَانُوا ظالمين} بِوَضْع الإلهية فِي غير موضعهَا.(2/217)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
قَوْله تَعَالَى: {وَلما سقط فِي أَيْديهم وَرَأَوا أَنهم قد ضلوا} قَالَ الْفراء: تَقول الْعَرَب: سقط فلَان فِي يَده إِذا بَقِي نَادِما متحيرا على مَا فَاتَهُ، كَأَنَّهُ حصل النَّدَم فِي يَده {قَالُوا لَئِن لم يَرْحَمنَا رَبنَا وَيغْفر لنا لنكونن من الخاسرين} .(2/217)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
قَوْله تَعَالَى: {وَلما رَجَعَ مُوسَى إِلَى قومه غَضْبَان أسفا} قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: الأسف: شَدِيد الْغَضَب، وَقيل: الأسف: أَشد الْحزن، وَكَأن مُوسَى رَجَعَ نَادِما حَزينًا يَقُول: لَيْتَني كنت فيهم فَلم يَقع لَهُم مَا وَقع.
{قَالَ بئْسَمَا خلفتموني من بعدِي} أَي: (بئْسَمَا فَعلْتُمْ خَلْفي) {أعجلتم أَمر ربكُم} مَعْنَاهُ: أسبقتم أمرربكم، يَعْنِي: بفعلكم الَّذِي فَعلْتُمْ من غير أَمر ربكُم، وَقيل مَعْنَاهُ: استعجلتم وعد ربكُم.
{وَألقى الألواح} وَكَانَ حَامِلا لَهَا، فألقاها على الأَرْض من شدَّة الْغَضَب، وَفِي التَّفْسِير: أَنه لما أَلْقَاهَا رَجَعَ بَعْضهَا إِلَى السَّمَاء وَبَقِي مِنْهَا لوحان، فَرجع مَا كَانَ فِيهِ أَخْبَار الْغَيْب، وَبَقِي مَا كَانَ فِيهِ الموعظة وَالْأَحْكَام من الْحَلَال وَالْحرَام، وَقيل: لما ألْقى الألواح انْكَسَرَ بَعْضهَا، فشدها مُوسَى بِالذَّهَب {وَأخذ بِرَأْس أَخِيه} يَعْنِي: هَارُون، وَفِيه حذف، وَتَقْدِيره: وَأخذ بِشعر رَأس أَخِيه {يجره إِلَيْهِ قَالَ ابْن أم} يَعْنِي هَارُون قَالَ لمُوسَى: ابْن ام، وَيقْرَأ بِكَسْر الْمِيم ونصبها، فَأَما بِكَسْر الْمِيم مَعْنَاهُ يَا ابْن أُمِّي، قَالَ الشَّاعِر:(2/217)
{وكادوا يقتلونني فَلَا تشمت بِي الْأَعْدَاء وَلَا تجعلني مَعَ الْقَوْم لظالمين (150) قَالَ رب اغْفِر لي ولأخي وأدخلنا فِي رحمتك وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ (151) إِن الَّذين اتَّخذُوا الْعجل سينالهم غضب من رَبهم وذلة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نجزي المفترين (152) }
(يَا ابْن امي وَيَا شَقِيق نَفسِي ... أَنْت خلفتني لأمر كؤود)
واما بِنصب الْمِيم، فَوجه النصب فِيهِ أَن قَوْله: " ابْن ام " كلمتان، لكنهما ككلمة وَاحِدَة، مثل قَوْلهم: " حَضرمَوْت " و " بعلبك " ركب أحد الاسمين فِي الآخر، فَبَقيَ على النصب تبيينا.
{إِن الْقَوْم استضعفوني وكادوا يقتلونني} وَفِي الْقِصَّة: أَن هَارُون كَانَ لما مضى مِيقَات الثَّلَاثِينَ يقوم بَينهم خَطِيبًا، فيخطب كل يَوْم ويبكي، وَيَقُول: أنْشدكُمْ بِاللَّه لَا تعبدوا الْعجل، فَإِن مُوسَى رَاجع غَدا - إِن شَاءَ الله - فَهَكَذَا كَانَ يفعل ثَلَاثَة أَيَّام، فَلَمَّا لم يرجع بعد الثَّلَاث قَالُوا: إِنَّه قد مَاتَ، فخلوه، وَأَقْبلُوا على عبَادَة الْعجل، فَهَذَا معنى قَوْله: {إِن الْقَوْم استضعفوني وكادوا يقتلونني فَلَا تشمت بِي الْأَعْدَاء} والشماتة فعل مَا يسر بِهِ الْعَدو {وَلَا تجعلني مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: لَا تجعلني مَعَ الْكَافرين وَمن جُمْلَتهمْ.(2/218)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب اغْفِر لي ولأخي} يَعْنِي مَا فعلت بأخي من أَخذ شعره، وجره، وَكَانَ بَرِيئًا، قَوْله: {ولأخي} يعين: مَا وَقع لَهُ من تَقْصِيره إِن قصر {وأدخلنا فِي رحمتك وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ} .(2/218)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين اتَّخذُوا الْعجل} فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: اتَّخذُوا الْعجل إِلَهًا {سينالهم غضب من رَبهم وذلة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} قيل: أَرَادَ بالذلة الْجِزْيَة، وَقيل: أَرَادَ قيل بَعضهم بَعْضًا مَعَ علمهمْ أَنهم قد ضلوا {وَكَذَلِكَ نجزي المفترين} أَي: كل مفتر على الله، وَمن القَوْل الْمَعْرُوف فِي الْآيَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَنه قَالَ: هَذَا فِي كل مُبْتَدع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.(2/218)
{وَالَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات ثمَّ تَابُوا من بعْدهَا وآمنوا إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم (153) وَلما سكت عَن مُوسَى الْغَضَب أَخذ الألواح وَفِي نسختها هدى وَرَحْمَة للَّذين هم لرَبهم يرهبون (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قومه سبعين رجلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أخذتهم الرجفة قَالَ}(2/219)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات ثمَّ تَابُوا من بعْدهَا وآمنوا إِن رَبك من بعْدهَا} أَي: من بعد التَّوْبَة {لغَفُور رَحِيم} .(2/219)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
قَوْله تَعَالَى: {وَلما سكت عَن مُوسَى الْغَضَب} وَقَرَأَ مُعَاوِيَة بن قُرَّة: " وَلما سكن عَن مُوسَى الْغَضَب " وَفِي مصحف ابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب: " وَلما سير عَن مُوسَى الْغَضَب " وَفِي مصحف حَفْصَة: " وَإِنَّمَا أسكت عَن مُوسَى الْغَضَب " وَمعنى الْكل وَاحِد أَي: سكن عَن مُوسَى الْغَضَب. وَالسُّكُوت والإسكات مَعْرُوف، وَيُقَال: رجل سكيت إِذا كَانَ كثير السُّكُوت.
{أَخذ الألواح} وَذَلِكَ أَنه كَانَ أَلْقَاهَا فَأَخذهَا {وَفِي نسختها} اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ بَعضهم: أَرَادَ بهَا الألواح؛ وَذَلِكَ أَن لَهَا أصل نسخت مِنْهُ، وَهُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَقيل: إِن مُوسَى لما ألْقى الألواح انْكَسَرت، فنسخ مِنْهَا نُسْخَة أُخْرَى، فَذَلِك المُرَاد بِهِ من قَوْله: {وَفِي نسختها هدى وَرَحْمَة} أَي: هدى من الضَّلَالَة، وَرَحْمَة من الْعَذَاب {للَّذين هم لرَبهم يرهبون} .(2/219)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
قَوْله تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه} فِيهِ حذف، أَي: من قومه {سبعين رجلا لِمِيقَاتِنَا} وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن كلهم لم يعبدوا الْعجل - وَهُوَ الْأَصَح - وَاخْتلفُوا أَنه لأي شَيْء اخْتَارَهُمْ؟ قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا اخْتَارَهُمْ ليعتذروا إِلَى الله من عبَادَة أُولَئِكَ الَّذين عبدُوا الْعجل، وَقيل: إِنَّمَا اخْتَارَهُمْ ليسمعوا كَلَام الله؛ فَإِنَّهُم سَأَلُوا ذَلِك مُوسَى {فَلَمَّا أخذتهم الرجفة} قَالَ مُجَاهِد: رجفت بهم الأَرْض؛ فماتوا، وَقيل: وَقعت رعدة وزلزلة فِي أعضائهم، حَتَّى كَاد ينْفَصل بَعْضهَا من بعض، وَقيل: إِنَّمَا أهلكهم عُقُوبَة على مَا سَأَلُوا من رُؤْيَة الله جهرة.(2/219)
{رب لَو شِئْت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء أَنْت ولينا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الغافرين (155) واكتب لنا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة إِنَّا هدنا إِلَيْك قَالَ عَذَابي أُصِيب بِهِ من}
(قَالَ رب لَو شِئْت أهلكتهم من قبل وإياي) وَذَلِكَ أَن مُوسَى ظن أَن الله - تَعَالَى - إِنَّمَا أهلكهم بِعبَادة أُولَئِكَ الْقَوْم الْعجل، وَخَافَ أَن بني إِسْرَائِيل يَتَّهِمُونَهُ، وَيَقُولُونَ: إِن مُوسَى قَتلهمْ؛ قَالَ: {رب لَو شِئْت أهلكتهم من قبل} يَعْنِي: عندعبادة الْعجل قبل أَن آتِي بهم {وإياي} بقتل القبطي الَّذِي كَانَ مُوسَى قَتله، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْمَشِيئَة الأزلية، كَأَنَّهُ فوض إهلاكهم إِلَى مَشِيئَته، أَي: لَو شِئْت فِي الْأَزَل أهلكتهم وإياي وَمن فِي الْعَالم، فَلَا اعْتِرَاض لأحد عَلَيْك.
{أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا} اخْتلفُوا فِيهِ أَنه كَيفَ قَالَ: أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا، وَكَانَ يعلم أَن الله - تَعَالَى - لَا يهْلك أحدا بذنب غَيره؟ فَقَالَ بَعضهم: هَذَا اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْجحْد، وَهُوَ قَول ابْن الْأَنْبَارِي أَي: لَا تُهْلِكنَا بِفعل السُّفَهَاء، وَهَذَا مثل قَول الرجل لصَاحبه: أتجهل عَليّ وَأَنا أحلم؟ ! أَي: لَا أحلم، وَيُقَال فِي الْمثل: أغدة كَغُدَّة الْبَعِير؟ وَمَوْت فِي بَيت السلولية؟ أَي: لَا يكون هَذَا قطّ، وَقَالَ الشَّاعِر:
(أتنسى حِين تصقل عارضيها ... بِعُود بشامة سقِِي البشام)
أَي: لَا تنسى، وَقيل: هُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِثْبَات، وَالْمرَاد مِنْهُ السُّؤَال، كَأَنَّهُ يسْأَله أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا؟ .
{إِن هِيَ إِلَّا فتنتك} أَي: بليتك {تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء أَنْت ولينا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الغافرين} .(2/220)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
قَوْله تَعَالَى: {واكتب لنا} أَي: أوجب لنا {فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة} وَهِي(2/220)
{أَشَاء ورحمتي وسعت كل شَيْء فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وَالَّذين هم بِآيَاتِنَا يُؤمنُونَ (156) الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي} النِّعْمَة والعافية {وَفِي الْآخِرَة} أَي: وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة، فَحذف.
{إِنَّا هدنا إِلَيْك} أَي: تبنا إِلَيْك، وَقَرَأَ أَبُو وجزة السَّعْدِيّ: " هدنا إِلَيْك " بِكَسْر الْهَاء، أَي: ملنا إِلَيْك {قَالَ عَذَابي أُصِيب بِهِ من أَشَاء} وَهَذَا على وفْق قَول أهل السّنة؛ فَإِن لله - تَعَالَى - أَن يُصِيب بعذابه من يَشَاء من عباده أذْنب أَو لم يُذنب، وصحف بعض الْقَدَرِيَّة، فَقَرَأَ: " عَذَابي أُصِيب بِهِ من أَسَاءَ " من الْإِسَاءَة، وَلَيْسَ بِشَيْء.
{ورحمتي وسعت كل شَيْء} قَالَ الْحسن وَقَتَادَة: وسعت رَحمته الْبر والفاجر فِي الدُّنْيَا، وَهِي لِلْمُتقين يَوْم الْقِيَامَة، وَفِي الْآثَار: الرَّحْمَة مسجلة للبر والفاجر فِي الدُّنْيَا.
{فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وَالَّذين هم بِآيَاتِنَا يُؤمنُونَ(2/221)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي) وَهَذِه فَضِيلَة عَظِيمَة لهَذِهِ الْأمة، وَذَلِكَ أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - سَأَلَ أَن يكْتب الرَّحْمَة لَهُ ولأمته، فكتبها لأمة مُحَمَّد وَفِي الْأَخْبَار: " أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - قَالَ: يَا رب، إِنِّي أجد فِي التَّوْرَاة أمة يأمرون بِالْمَعْرُوفِ، وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر، ويؤمنون بِاللَّه، فاجعلهم من أمتِي، قَالَ الله - تَعَالَى -: تِلْكَ أمة أَحْمد. فَقَالَ: يَا رب إِنِّي أجد فِي التَّوْرَاة أمة صَدَقَاتهمْ فِي بطونهم - يَعْنِي: يأكلها فقراؤهم، وَكَانَت صدقَات قومه وَمن قبلهم تأكلها النَّار - فاجعلهم من أمتِي، فَقَالَ - تَعَالَى -: تِلْكَ أمة احْمَد. فَقَالَ: يَا رب، إِنِّي أجد فِي التَّوْرَاة أمة هم آخر النَّاس خُرُوجًا، وَأول النَّاس فِي الْجنَّة دُخُولا، فاجعلهم من أمتِي. فَقَالَ: تِلْكَ أمة أَحْمد. فَقَالَ: يَا رب، إِنِّي أجد فِي التَّوْرَاة أمة أَنَاجِيلهمْ فِي صُدُورهمْ، يراعون الشَّمْس والأوقات لذكرك، فاجعلهم من أمتِي. فَقَالَ: تِلْكَ أمة أَحْمد. فَقَالَ: يَا رب، إِنِّي أجد(2/221)
{التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم فَالَّذِينَ آمنُوا بِهِ وعزروه ونصروه وَاتبعُوا النُّور الَّذِي أنزل مَعَه أُولَئِكَ هم المفلحون (157) قل يَا أَيهَا} فِي التَّوْرَاة أمة إِذا هم أحدهم بحسنة كتبتها لَهُ حَسَنَة، وَإِن عمل بهَا كتبتها لَهُ عشرا إِلَى سَبْعمِائة ضعف، وَإِذا هم بسيئة لم تَكْتُبهَا (عَلَيْهِ) ، فَإِن عمل بهَا كتبتها عَلَيْهِ وَاحِدَة، اجعلهم من أمتِي، فَقَالَ: تِلْكَ أمة أَحْمد. فَألْقى الألواح، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من أمة مُحَمَّد ". وَهَذَا قَول آخر، ذكر فِي سَبَب إلقائه الألواح، وَالْأول أظهر.
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي} هُوَ مُحَمَّد وَقد بَينا معنى الْأُمِّي فِيمَا سبق.
{الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا} أَي: مَوْصُوفا {عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات} يَعْنِي: مَا حرمه الْكفَّار من السوائب والوصائل والبحائر والحوامي، وَنَحْو ذَلِك {وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} وَذَلِكَ مثل: الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَنَحْوه {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم} الإصر: كل مَا يثقل على الْإِنْسَان من قَول أَو فعل، والإصر: الْعَهْد الثقيل: وإصرهم: أَن الله - تَعَالَى - جعل تَوْبَتهمْ بِقَتْلِهِم أنفسهم {والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} وَذَلِكَ مثل مَا كَانَ عَلَيْهِم من قرض مَوضِع النَّجَاسَة عَن الثَّوْب بالمقراض، وَلَا يجزئهم غسلهَا، وَأَنه كَانَ لَا تجوز صلَاتهم إِلَّا فِي الْكَنَائِس، وَأَنه لَا يجوز لَهُم أَخذ الدِّيَة عَن الْقَتِيل بل كَانَ يتَعَيَّن الْقصاص، وَكَانَ يجب عَلَيْهِم قطع الْجَوَارِح الْخَاطِئَة لَا يسعهم غير ذَلِك، فسماها أغلالا؛ لِأَنَّهَا كَانَت كالطوق فِي عنقهم.
{فَالَّذِينَ آمنُوا بِهِ} أَي: بِمُحَمد {وعزروه} أَي: عظموه {ونصروه وَاتبعُوا(2/222)
{النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض لَا إِلَه إِلَّا هُوَ يحيي وَيُمِيت فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يُؤمن بِاللَّه وكلماته واتبعوه لَعَلَّكُمْ تهتدون (158) وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ (159) وقطعناهم اثْنَتَيْ عشرَة أسباطا أمما وأوحينا إِلَى مُوسَى إِذْ استسقاه قومه أَن اضْرِب بعصاك الْحجر} النُّور الَّذِي أنزل مَعَه) وَهُوَ الْقُرْآن {أُولَئِكَ هم المفلحون} .(2/223)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض لَا إِلَه لَا هُوَ يحيي وَيُمِيت فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يُؤمن بِاللَّه وكلماته} يَعْنِي: مُحَمَّدًا يُؤمن بِاللَّه وَبِالْقُرْآنِ وَيقْرَأ: " وكلمته " قيل: هِيَ الْقُرْآن أَيْضا، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِالْكَلِمَةِ: عِيسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - {واتبعوه لَعَلَّكُمْ تهتدون} .(2/223)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} روى الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هَؤُلَاءِ قوم بأقصى الشرق وَرَاء الصين عِنْد مطلع الشَّمْس، كَانُوا على شَرِيعَة مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - إِلَى أَن بعث مُحَمَّد فَلَمَّا بعث مُحَمَّد آمنُوا بِهِ، وَكَانُوا على الْحق من لدن مُوسَى إِلَى زمَان مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام - وَقيل: هم الَّذين أَسْلمُوا فِي زمن النَّبِي من الْيَهُود مثل (ابْن) صوريا، وَابْن سَلام، وَنَحْوهمَا، وَالْأول أظهر.
وَقَوله: {وَبِه يعدلُونَ} أَي: يقومُونَ بِالْحَقِّ وَالْعدْل.(2/223)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
قَوْله تَعَالَى: {وقطعناهم اثْنَتَيْ عشرَة أسباطا أمما} أَي: فرقناهم فرقا، وَقَوله: {اثْنَتَيْ عشرَة} يُقَال فِي اللُّغَة: اثْنَتَيْ عشرَة بِكَسْر الشين وبجزم الشين، والجائز فِي الْقُرْآن بجزم الشين، فَإِن قيل: لم لم يقل: اثْنَي عشر أسباطا على التَّذْكِير؟ قيل: إِنَّمَا ذكره على التَّأْنِيث لِأَنَّهُ يرجع إِلَى الْأُمَم.(2/223)
{فانبجست مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا قد علم كل أنَاس مشربهم وظللنا عَلَيْهِم الْغَمَام وأنزلنا عَلَيْهِم الْمَنّ والسلوى كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم وَمَا ظلمونا وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (160) وَإِذ قيل لَهُم اسكنوا هَذِه الْقرْيَة وكلوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم وَقُولُوا حطة وادخلوا الْبَاب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد الْمُحْسِنِينَ (161) فبدل الَّذين ظلمُوا مِنْهُم قولا غير الَّذِي قيل لَهُم فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم رجزا من السَّمَاء بِمَا كَانُوا يظْلمُونَ (162) }
قَالُوا: وَفِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وتقديرها. وقطعناهم أسباطا أمما اثْنَتَيْ عشرَة، وَقيل فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: وقطعناهم اثْنَتَيْ عشرَة فرقة أسباطا أمما، فَيكون بَدَلا عَن الْفرْقَة، وَقد بَينا أَن الأسباط فِي بني إِسْحَاق كالقبائل فِي بني إِسْمَاعِيل، وأنشدوا فِي السبط:
(عَليّ وَالثَّلَاثَة من بنيه ... هم الأسباط لَيْسَ بهم خَفَاء)
(فسبط سبط إِيمَان وبر ... وسبط غيبته كربلاء)
أَي: كرب وبلاء.
{وأوحينا إِلَى مُوسَى إِذْ استسقاه قومه أَن اضْرِب بعصاك الْحجر} وَقد بَينا هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة.
{فانبجست مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا} أَي: انفجرت {قد علم كل أنَاس مشربهم وظللنا عَلَيْهِم الْغَمَام وأنزلنا عَلَيْهِم الْمَنّ والسلوى كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم وَمَا ظلمونا وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} وَقد سبق تَفْسِيره فِي سُورَة الْبَقَرَة.(2/224)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذ قيل لَهُم اسكنوا هَذِه الْقرْيَة وكلوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم وَقُولُوا حطة وادخلوا الْبَاب سجدا نغفر لكم خطاياكم} وَيقْرَأ: " خطيئاتكم " وَكِلَاهُمَا وَاحِد {سنزيد الْمُحْسِنِينَ} وَقد بَينا هَذَا أَيْضا فِي سُورَة الْبَقَرَة.(2/224)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
{فبدل الَّذين ظلمُوا} قد بَينا معنى هَذَا التبديل {مِنْهُم قولا غير الَّذِي قيل(2/224)
{واسئلهم عَن الْقرْيَة الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر إِذْ يعدون فِي السبت إِذْ تأتيهم حيتانهم يَوْم سبتهم شرعا وَيَوْم لَا يسبتون لَا تأتيهم كَذَلِك نبلوهم بِمَا كَانُوا يفسقون (163) وَإِذ قَالَت أمة مِنْهُم لم تعظون قوما الله مهلكهم أَو معذبهم عذَابا شَدِيدا قَالُوا معذرة إِلَى} لَهُم فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم رجزا من السَّمَاء) أَي عذَابا من السَّمَاء {بِمَا كَانُوا يظْلمُونَ} .(2/225)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
قَوْله تَعَالَى {واسألهم عَن الْقرْيَة} هَذَا سُؤال توبيخ وتقريع لَا سُؤال استعلام، وَاخْتلفُوا فِي تِلْكَ الْقرْيَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ الأيلة. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: هِيَ طبرية الشَّام. وَقيل: إِنَّهَا مَدين {الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر} أَي: مجاورة الْبَحْر {إِذْ يعدون فِي السبت} أَي: يجاوزون أَمر الله فِي السبت، وَكَانَ الله - تَعَالَى - حرم عَلَيْهِم أَن يعملوا فِي السبت عملا سوى الْعِبَادَة.
{إِذْ تأتيهم حيتانهم يَوْم سبتهم شرعا} أَي: ظَاهِرَة، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَمِنْه الشوارع لظهورها، وَقيل: هُوَ من الشُّرُوع، وَهُوَ الدُّخُول، فَيكون مَعْنَاهُ أَن تِلْكَ الْقرْيَة كَانَ بجنبها خليج الْبَحْر، فتدخله الْحيتَان يَوْم السبت وَلَا تدخله فِي سَائِر الْأَيَّام. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا كَانَت تأتيهم مثل الكباش السمان الْبيض يَوْم السبت تشرع إِلَى أَبْوَابهم، ثمَّ لَا يرى شَيْء مِنْهَا فِي غير يَوْم السبت فَذَلِك قَوْله: {وَيَوْم لَا يسبتون لَا تأتيهم} وَقَرَأَ الْحسن: " لَا يسبتون " بِضَم الْيَاء، أَي: لَا يدْخلُونَ فِي السبت، وَالْمَعْرُوف: " لَا يسبتون " وَمَعْنَاهُ: لَا يعظمون السبت، يُقَال: (أسبت) إِذا دخل السبت، وسبت إِذا عظم السبت، يَعْنِي: وَيَوْم لَا يعظمون السبت {لَا تأتيهم} وعَلى قِرَاءَة الْحسن: وَيَوْم لَا يدْخلُونَ السبت لَا تأتيهم، وَكَانَ ذَلِك ابتلاء من الله - تَعَالَى - لَهُم كَمَا قَالَ: {كَذَلِك نبلوهم} أَي: نختبرهم {بِمَا كَانُوا يفسقون} .(2/225)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَت أمة مِنْهُم لم تعظون قوما} وَفِي الْقِصَّة: أَنهم احْتَالُوا بحيلة الِاصْطِيَاد؛ فَكَانُوا يضعون الحبال يَوْم الْجُمُعَة حَتَّى تقع فِيهَا الْحيتَان يَوْم السبت، ثمَّ يأخذونها يَوْم الْأَحَد، وَقيل: إِن الشَّيْطَان وسوس إِلَيْهِم أَن الله - تَعَالَى -(2/225)
{ربكُم ولعلهم يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ أنجينا الَّذين ينهون عَن السوء وأخذنا الَّذين ظلمُوا بِعَذَاب بئيس بِمَا كَانُوا يفسقون (165) فَلَمَّا عتوا عَن مَا نهوا عَنهُ قُلْنَا لَهُم} لم يَنْهَاكُم عَن الِاصْطِيَاد فِي هَذَا الْيَوْم وَإِنَّمَا نهاكم عَن الْأكل، فاصطادوا يَوْم السبت، ثمَّ افْتَرَقُوا على ثَلَاث فرق: فرقة اصطادت، وَفرْقَة نهت وَأمرت بِالْمَعْرُوفِ، وَفرْقَة سكتت؛ فَقَالَت الفرقتان للفرقة العاصية: لَا نساكنكم قَرْيَة عصيتم الله فِيهَا؛ فاعتزلنا الْقرْيَة وَخَرجُوا، فَلَمَّا أَصْبحُوا جَاءُوا إِلَى بَاب الْقرْيَة، فَلم يفتحوا لَهُم الْبَاب؛ فَجَاءُوا بسلم، فَلَمَّا صعدوا بالسلم، رَأَوْهُمْ قد مسخوا قردة، قَالَ قَتَادَة: كَانَت لَهُم أَذْنَاب يتعادون.
فَقَوله: {وَإِذ قَالَت أمة مِنْهُم} هِيَ الْفرْقَة الساكتة، قَالَت للفرقة الناهية: {لم تعظون قوما} يَعْنِي: الْفرْقَة العاصية {الله مهلكهم أَو معذبهم عذَابا شَدِيدا قَالُوا معذرة إِلَى ربكُم} أَي: موعظتنا معذرة، وَذَلِكَ أَنا قد أمرنَا بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، فنأتهم هَذَا الْأَمر وَإِن لم يقبلُوا؛ حَتَّى يكون ذَلِك لنا عذرا عِنْد الله - تَعَالَى - وَيقْرَأ " معذرة " بِالنّصب، أَي: نعتذر معذرة إِلَى ربكُم {ولعلهم يَتَّقُونَ} .(2/226)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ} أَي: تركُوا مَا ذكرُوا بِهِ، قيل: كَانُوا يصطادون سَبْعَة أَيَّام، وَقيل: كَانُوا قد اصطادوا يَوْمًا وَاحِدًا.
{أنجينا الَّذين ينهون عَن السوء} يَعْنِي: الْفرْقَة الناهية {وأخذنا الَّذين ظلمُوا بِعَذَاب بئيس} يَعْنِي: الْفرْقَة العاصية، فأخذناهم بِعَذَاب بئيس على وزن فعيل. وَبئسَ على وزن فعل، وَبئسَ على وزن فعلل، وَالْكل وَاحِد، وَمَعْنَاهُ: بِعَذَاب شَدِيد، قَالَ ابْن عَبَّاس: بِعَذَاب لَا رَحْمَة فِيهِ.
{بِمَا كَانُوا يفسقون} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَدْرِي أَن الْفرْقَة العاصية قد هَلَكت، وَأَن الْفرْقَة الناهية قد نجت، وَلَا أَدْرِي مَا حَال الْفرْقَة الساكتة.
قَالَ عِكْرِمَة: مَا زلت أنزلهُ - يَعْنِي: من الْآيَات دَرَجَة دَرَجَة - وأبصره - يَعْنِي: ابْن عَبَّاس - حَتَّى قَالَ: نجت الْفرْقَة الساكتة، وكساني بذلك حلَّة. فَإِن عِكْرِمَة كَانَ(2/226)
{كونُوا قردة خَاسِئِينَ (166) وَإِذ تَأذن رَبك ليبْعَثن عَلَيْهِم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من يسومهم سوء الْعَذَاب إِن رَبك لسريع الْعقَاب وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم (167) وقطعناهم فِي الأَرْض أمما مِنْهُم الصالحون وَمِنْهُم دون ذَلِك وبلوناهم بِالْحَسَنَاتِ والسيئات لَعَلَّهُم يرجعُونَ} يكلمهُ فِي الْآيَة، ويستدل بظاهرها؛ حَتَّى ظهر الدَّلِيل لِابْنِ عَبَّاس على نجاة الْفرْقَة الساكتة، وَمن الدَّلِيل عَلَيْهِ فِي ظَاهر الْآيَة أَنه قَالَ: {فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ} وَتلك الْفرْقَة لم ينسوا ذَلِك، وَالثَّانِي أَنه قَالَ: {أنجينا الَّذين ينهون عَن السوء} والفرقة الساكتة قد نهوا نهي تحذير بقَوْلهمْ: لم تعظون قوما الله مهلكهم.
وَالثَّالِث أَنه قَالَ: {وأخذنا الَّذين ظلمُوا} يَعْنِي: بالاصطياد يَوْم السبت؛ وهم مَا ظلمُوا بالاصطياد، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: نجت الفرقتان، وَهَلَكت وَاحِدَة.(2/227)
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
وَقَوله تَعَالَى: {فَلَمَّا عتوا عَمَّا نهوا عَنهُ قُلْنَا لَهُم كونُوا قردة خَاسِئِينَ} وَهَذَا أَمر تكوين، وَقَوله: {خَاسِئِينَ} أَي: مبعدين.(2/227)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ تَأذن رَبك} أَي: أعلم رَبك، قَالَ الشَّاعِر:
(تَأذن إِن شَرّ النَّاس حَيّ ... يُنَادي من شعارهم يسَار)
وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: تألى رَبك وَحلف {ليبْعَثن عَلَيْهِم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من يسومهم سوء الْعَذَاب} أَي: يذيقهم سوء الْعَذَاب، وَهُوَ الْجِزْيَة، وَقيل: هُوَ قتل بخْتنصر إيَّاهُم فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يبْعَث عَلَيْهِم الْعَذَاب، وَقد أهلكهم؟ وَقيل: أَرَادَ بِهِ على أبنائهم، وَمن يَأْتِي بعدهمْ {إِن رَبك لسريع الْعقَاب وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم} .(2/227)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
قَوْله تَعَالَى: {وقطعناهم فِي الأَرْض أمما} أَي: فرقناهم فرقا، وَمَعْنَاهُ: شتتنا أَمر الْيَهُود فَلَا يَجْتَمعُونَ على كلمة وَاحِدَة {مِنْهُم الصالحون} يَعْنِي: الَّذين أَسْلمُوا مِنْهُم {وَمِنْهُم دون ذَلِك} يَعْنِي الَّذين بقوا على الْكفْر.
{وبلوناهم} أَي: اختبرناهم {بِالْحَسَنَاتِ والسيئات} أَي: بِالْخصْبِ والجدب وَالْخَيْر وَالشَّر {لَعَلَّهُم يرجعُونَ} .(2/227)
( {168) فخلف من بعدهمْ خلف ورثوا لكتاب يَأْخُذُونَ عرض هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سيغفر لنا وَإِن يَأْتهمْ عرض مثله يأخذوه ألم يُؤْخَذ عَلَيْهِم مِيثَاق الْكتاب أَن لَا يَقُولُوا على الله إِلَّا الْحق ودرسوا مَا فِيهِ وَالدَّار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون (169) }(2/228)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
قَوْله تَعَالَى: {فخلف من بعدهمْ خلف} اعْلَم أَن الْخلف يُقَال فِي الذَّم والمدح جَمِيعًا، لَكِن عِنْد الْإِطْلَاق الْخلف للمدح، وَالْخلف للذم، قَالَ الشَّاعِر:
(لنا لقدم الأولى إِلَيْك وخلفنا ... لأولنا فِي طَاعَة لله تَابع)
وَهَاهُنَا للذم، وَأَرَادَ بِهِ أَبنَاء الَّذين سبق ذكرهم من أَصْحَاب السبت {ورثوا الْكتاب} يَعْنِي: انْتقل إِلَيْهِم الْكتاب {يَأْخُذُونَ عرض هَذَا الْأَدْنَى} أَي: حطام الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا سميت الدُّنْيَا دنيا؛ لِأَنَّهَا أدنى إِلَى الْخلق من الْآخِرَة؛ وَلذَلِك قَالَ: ( {عرض هَذَا الْأَدْنَى} وَيَقُولُونَ سيغفر لنا) وَهَذَا اغترار مِنْهُم بِاللَّه - تَعَالَى - وَفِي الحَدِيث: " الْكيس من دَان نَفسه وَعمل لما بعد الْمَوْت، والفاجر من أتبع نَفسه هَواهَا، وَتمنى على الله الْمَغْفِرَة " {وَإِن يَأْتهمْ عرض مثله يأخذوه} قَالَ مُجَاهِد: وَصفهم بالإصرار على الذَّنب، وَقيل مَعْنَاهُ: إِنَّهُم يَأْخُذُونَ أخذا بعد أَخذ لَا يبالون من حَلَال كَانَ أَو من حرَام، بل يَأْخُذُونَ من غير تفتيش.
{ألم يُؤْخَذ عَلَيْهِم مِيثَاق الْكتاب أَلا يَقُولُوا على الله إِلَّا الْحق} أَي: أَخذ عَلَيْهِم الْعَهْد أَلا يَقُولُوا على الله الْبَاطِل فِي التوارة {ودسوا مَا فِيهِ} أَي: علمُوا ذَلِك فِيهِ بالدرس، قَالَه الضَّحَّاك، ودرس الْكتاب: قِرَاءَته مرّة بعد أُخْرَى {وَالدَّار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون} .(2/228)
{وَالَّذين يمسكون بِالْكتاب وَأَقَامُوا الصَّلَاة إِنَّا لَا نضيع أجر المصلحين (170) وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظلة وظنوا أَنه وَاقع بهم خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (171) وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم}(2/229)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يمسكون بِالْكتاب وَأَقَامُوا الصَّلَاة} قيل: هَذَا فِي أمة مُحَمَّد وَقيل: هُوَ فِيمَن أسلم من الْيَهُود، يمسكون بِالْقُرْآنِ، وَأَقَامُوا الصَّلَاة {إِنَّا لَا نضيع أجر المصلحين} .(2/229)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظلة} نتقنا أَي: رفعنَا الْجَبَل فَوْقهم، وَقد ذكر هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة {وظنوا أَنه وَاقع بهم} يَعْنِي: وأيقنوا، وَالظَّن: الْيَقِين: وَقيل: غلب على ظنهم أَنه وَاقع بهم {خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} وَقد ذكرنَا الْقِصَّة فِي سُورَة الْبَقَرَة.(2/229)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} فِي الْآيَة نوع إِشْكَال، وَشَرحهَا وتفسيرها فِي الْأَخْبَار، روى مَالك فِي الْمُوَطَّأ بِإِسْنَادِهِ عَن مُسلم بن يسَار الْجُهَنِيّ عَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - أَنه سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة، فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله يَقُول: " إِن الله - تَعَالَى - مسح ظهر آدم، فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ، ثمَّ مسح ظهر آدم فاستخرج ذُرِّيَّة، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ أهل النَّار، وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ، فَقيل: يَا رَسُول الله، فَفِيمَ الْعَمَل إِذا؟ فَقَالَ: إِن الله - تَعَالَى - إِذا خلق للجنة أَهلا استعملهم بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى يدخلهم الْجنَّة، وَإِذا خلق للنار خلقا استعملهم بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى يدخلهم النَّار " وَالْمَعْرُوف وَالَّذِي عَلَيْهِ جمَاعَة الْمُفَسّرين فِي معنى الْآيَة أَن الله - تَعَالَى -(2/229)
{أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين (172) أَو} مسح صفحة ظهر آدم الْيُمْنَى فَأخْرج مِنْهُ ذُرِّيَّة بَيْضَاء كَهَيئَةِ الذَّر يتحركون، ثمَّ مسح صفحة ظهر آدم الْيُسْرَى فَأخْرج مِنْهُ ذُرِّيَّة سَوْدَاء كَهَيئَةِ الذَّر، فَقَالَ: يَا آدم، هَؤُلَاءِ ذريتك، ثمَّ قَالَ لَهُم: {أَلَسْت بربكم} ؟ قَالُوا: بلَى، فَقَالَ للبيض: هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة برحمتي وَلَا أُبَالِي، وهم أَصْحَاب الْيَمين، وَقَالَ للسود: هَؤُلَاءِ فِي النَّار وَلَا أُبَالِي، وهم أَصْحَاب الشمَال، ثمَّ أعادهم جَمِيعًا فِي صلبه، فَأهل الْقُبُور محبوسون حَتَّى يخرج أهل الْمِيثَاق كلهم من أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء.
قَالَ الله تَعَالَى فِيمَن نقض الْعَهْد: {وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد} وروى أَبُو الْعَالِيَة عَن أبي بن كَعْب فِي هَذِه الْآيَة، قَالَ: جمعهم الله جَمِيعًا، فجعلهم أرواحا ثمَّ صورهم، ثمَّ استنطقهم، فَقَالَ: {أَلَسْت بربكم} ؟ قَالُوا: بلَى، شَهِدنَا أَنَّك رَبنَا وإلهنا، لَا رب لنا غَيْرك، قَالَ الله - تَعَالَى -: فَأرْسل إِلَيْكُم رُسُلِي، وَأنزل عَلَيْكُم كتبي، فَلَا تكذبوا رُسُلِي، وَصَدقُوا كَلَامي، فَإِنِّي سأنتقم مِمَّن أشرك وَلم يُؤمن بِي، فَأخذ عَهدهم وميثاقهم.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الله استخرج ذُرِّيَّة آدم، فنثرهم بَين يَدي آدم، ثمَّ كَلمهمْ قبلا - أَي: عيَانًا - فَقَالَ: {أَلَسْت بربكم} ؟ قَالُوا: بلَى. وَقيل: جعل لَهُم عقولا يفهمون بهَا، وألسنة ينطقون بهَا، ثمَّ خاطبهم وألهمهم الْجَواب.
وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين عَن عُلَمَاء السّلف: إِن الْكل قَالُوا: بلَى، لَكِن الْمُؤمنِينَ قَالُوا: بلَى طَوْعًا، وَقَالَ الْكَافِرُونَ كرها، وَهَذَا معنى قَوْله - تَعَالَى -: {وَله أسلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} .
رَجعْنَا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} فَإِن قَالَ قَائِل: لما كَانَ الاستخراج من ظهر آدم، فَكيف قَالَ: {أَخذ رَبك من بني آدم من(2/230)
{تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون (173) } ظُهُورهمْ) ؟ قَالَ بعض الْعلمَاء فِي جَوَابه: إِن الله - تَعَالَى - استخرجهم من صلب آدم على التَّرْتِيب الَّذِي يُخرجهُ من بني آدم من ظُهُورهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَلذَلِك قَالَ: {أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} .
وَاعْلَم أَن الْمُعْتَزلَة تأولوا هَذِه الْآيَة، فَقَالُوا: أَرَادَ بِهِ الْأَخْذ من ظُهُور بني آدم على التَّرْتِيب الَّذِي مَضَت بِهِ السّنة من لدن آدم إِلَى فنَاء الْعَالم.
وَقَوله: {وأشهدهم على أنفسهم} يَعْنِي كَمَا نصب من دَلَائِل الْعُقُول الَّتِي تدل على كَونه رَبًّا، ويلجئهم إِلَى الْجَواب بقَوْلهمْ: بلَى، وأنكروا الْمِيثَاق. وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل، وَأما أهل السّنة مقرون بِيَوْم الْمِيثَاق، وَالْآيَة على مَا سبق ذكره.
{وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين} وَاخْتلفُوا فِي قَوْله: {شَهِدنَا} قل بَعضهم: هَذَا من قَول الله وَالْمَلَائِكَة قَالُوا: شَهِدنَا، وَقيل: هُوَ قَول المخاطبين، قَالُوا: بلَى شَهِدنَا، وَقيل: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: أَن الله تَعَالَى قَالَ للْمَلَائكَة: اشْهَدُوا، فَقَالُوا: شَهِدنَا.
وَأما قَوْله تَعَالَى: {أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة} يقْرَأ بِالْيَاءِ وَالتَّاء، فَمن قَرَأَ بِالْيَاءِ فتقدير الْكَلَام: وأشهدهم على أنفسهم لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْم الْقِيَامَة: إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين، وَمن قَرَأَ بِالتَّاءِ فتقدير الْكَلَام: أخاطبكم أَلَسْت بربكم؟ لِئَلَّا تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة: إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين. فَإِن قَالَ قَائِل: الْحجَّة إِنَّمَا تلْزم فِي الدُّنْيَا إِذا رجعُوا عَن ذَلِك الْعَهْد الَّذِي كَانَ يَوْم الْمِيثَاق وَاحِد لَا يذكر ذَلِك الْمِيثَاق حَتَّى يكون بِالرُّجُوعِ معاندا، فَتلْزمهُ الْحجَّة، وَقيل: إِن الله - تَعَالَى - قد أوضح الدَّلَائِل ونصبها على وحدانيته، وَصدق قَوْله، وَقد أخبر عَن يَوْم الْمِيثَاق، وَهُوَ صَادِق فِي الْأَخْبَار، فَكل من نقض ذَلِك الْعَهْد كَانَ معاندا ولزقته الْحجَّة.(2/231)
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
قَوْله تَعَالَى: {أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل} يَعْنِي: إِنَّمَا أخذت مَا أخذت(2/231)
{وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات ولعلهم يرجعُونَ (174) واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ} من الْعَهْد والميثاق عَلَيْكُم جَمِيعًا؛ لِئَلَّا تَقولُوا: {إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ} يَعْنِي: أَن الْجِنَايَة من الْآبَاء، وَكُنَّا أتباعا لَهُم؛ فيجعلوا لأَنْفُسِهِمْ حجَّة وعذرا عِنْد الله، وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن أَوْلَاد الْكفَّار يكونُونَ مَعَ الْكفَّار.
{أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون} أَي: تأخذنا بِجِنَايَة آبَائِنَا المبطلين؟ .(2/232)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات ولعلهم يرجعُونَ} .(2/232)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
قَوْله تَعَالَى: {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا} قَالَ ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود: فِي بلعم بن باعور، وَيُقَال: بلعام بن باعر، كَانَ فِي مَدِينَة الجبارين، وَكَانَ مَعَه الِاسْم الْأَعْظَم، فَلَمَّا قصدهم مُوسَى بجنده، قَالُوا لبلعم: إِن مُوسَى رجل فِيهِ حِدة، فَادع الله حَتَّى يرد عَنَّا مُوسَى، وَقيل: إِن ملكهم دَعَاهُ إِلَى نَفسه وَقَالَ لَهُ ذَلِك، فَقَالَ بلعم: لَو فعلت ذَلِك ذهب ديني ودنياي، فألحوا عَلَيْهِ حَتَّى دَعَا الله - تَعَالَى - فاستجيبت دَعوته، ورد عَنْهُم مُوسَى، وأوقعهم فِي التيه، فَلَمَّا وَقَعُوا فِي التيه، قَالَ مُوسَى: يَا رب بِمَ حبستنا فِي التيه؟ قَالَ: بِدُعَاء بلعم. قَالَ مُوسَى: اللَّهُمَّ فَكَمَا استجبت دَعوته فِينَا فاستجب دَعْوَتِي فِيهِ، ثمَّ دَعَا الله - تَعَالَى - حَتَّى ينْزع عَنهُ اسْمه الْأَعْظَم وَالْإِيمَان، فَفعل، وَقيل: نزع الله عَنهُ الِاسْم الْأَعْظَم وَالْإِيمَان، معاقبة لَهُ على مَا دَعَا، وَلم يكن ذَلِك بدعوة مُوسَى؛ فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {فانسلخ مِنْهَا} .
وَقَالَ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: الْآيَة فِي أُميَّة بن أبي الصَّلْت الثَّقَفِيّ كَانَ يطْلب الدّين قبل مبعث النَّبِي، وَكَانَ يطْمع أَن يكون نَبيا، فَلَمَّا بعث النَّبِي حسده وَكفر بِهِ، وَكَانَ أُميَّة صَاحب حِكْمَة وموعظة حَسَنَة.
وَقَالَ الْحسن: الْآيَة فِي منافقي الْيَهُود. وَقَالَ مُجَاهِد: الْآيَة فِي نَبِي من الْأَنْبِيَاء بَعثه الله - تَعَالَى - إِلَى قومه، فرشاه قومه. وَهَذَا أَضْعَف الْأَقْوَال؛ لِأَن الله تَعَالَى يعْصم أنبياءه عَن مثل ذَلِك، وَعَن ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة أُخْرَى - أَن الْآيَة فِي رجل من بني إِسْرَائِيل كَانَت لَهُ ثَلَاث دعوات مستجابة أعطَاهُ الله تَعَالَى ذَلِك، وَكَانَت لَهُ امْرَأَة(2/232)
{مِنْهَا فَأتبعهُ الشَّيْطَان فَكَانَ من الغاوين (175) وَلَو شِئْنَا لرفعناه وَلكنه أخلد إِلَى الأَرْض وَاتبع هَوَاهُ فَمثله كَمثل الْكَلْب إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث أَو تتركه يَلْهَث ذَلِك مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا فاقصص الْقَصَص لَعَلَّهُم يتفكرون (176) سَاءَ مثلا الْقَوْم الَّذين} دَمِيمَة؛ فَقَالَت لَهُ: ادْع الله أَن يَجْعَلنِي من أجمل نسَاء الْعَالم، فَدَعَا الله تَعَالَى فَاسْتَجَاب دَعوته؛ فتمردت واستعصت عَلَيْهِ؛ فَدَعَا الله تَعَالَى أَن يَجْعَلهَا كلبة؛ فَجعلت، فَقَالَ لَهُ بنوها: ادْع الله أَن يردهَا، فَدَعَا الله تَعَالَى فَعَادَت كَمَا كَانَت، فَذَهَبت فِيهَا دعواته الثَّلَاثَة، وَالْقَوْلَان الْأَوَّلَانِ أظهر.
وَقَوله: {فَأتبعهُ الشَّيْطَان} أَي: أدْركهُ الشَّيْطَان، يُقَال: تبعه إِذا سَار فِي أَثَره، وَاتبعهُ إِذا أدْركهُ {فَكَانَ من الغاوين} أَي: من الضَّالّين.(2/233)
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شِئْنَا لرفعناه بهَا} أَي لرفعنا دَرَجَته ومنزلته بِتِلْكَ الْآيَات وأمتناه قبل أَن يكفر، وَقيل مَعْنَاهُ: لَو شِئْنَا [لحلنا] بَينه وَبَين الْكفْر {وَلكنه أخلد إِلَى الأَرْض} أَي: مَال إِلَى الدُّنْيَا، {وَاتبع هَوَاهُ} وَهَذِه أَشد آيَة فِي حق الْعلمَاء، وقلما يخلوا عَن أحد هذَيْن عَالم من الركون إِلَى الدُّنْيَا، ومتابعة الْهوى.
{فَمثله كَمثل الْكَلْب إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث أَو تتركه يَلْهَث} ضرب لَهُ مثلا بأخس حَيَوَان فِي أخس الْحَال؛ فَإِنَّهُ ضرب لَهُ الْمثل بالكلب لاهثا، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنَّك إِن حملت على الْكَلْب وطردته يَلْهَث، وَإِن تتركه يَلْهَث، فَكَذَلِك الْكَافِر، إِن وعظته وزجرته فَهُوَ ضال، وَإِن تركته فَهُوَ ضال، واللهث: إدلاع اللِّسَان.
{ذَلِك مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا} ضرب الْمثل ثمَّ بَين أَنه مثل ذَلِك (الَّذِي) سبق ذكره، وَقيل: هَذَا كُله ضرب مثل للْكفَّار مَكَّة؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يتمنون أَن يكون مِنْهُم بني، فَلَمَّا بعث النَّبِي حسدوه وَكَفرُوا؛ فَكَانُوا كفَّارًا قبل بعثته وكفارا (بعد بعثته) {فاقصص الْقَصَص لَعَلَّهُم يتفكرون} .(2/233)
{كذبُوا بِآيَاتِنَا وأنفسهم كَانُوا يظْلمُونَ (177) من يهد الله فَهُوَ الْمُهْتَدي وَمن يضلل فَأُولَئِك هم الخاسرون (178) وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس لَهُم قُلُوب لَا}(2/234)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
قَوْله تَعَالَى {سَاءَ مثلا الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا} أَي: بئس الْمثل مثلا الْقَوْم ( {وأنفسهم كَانُوا يظْلمُونَ}(2/234)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
من يهد الله) أَي: من يهده الله {فَهُوَ المهتد وَمن يضلل} أَي: وَمن يضلله الله {فَأُولَئِك هم الخاسرون} وَهَذَا دَلِيل على الْقَدَرِيَّة؛ حَيْثُ نسب الْهِدَايَة والضلالة إِلَى فعله من غير سَبَب.(2/234)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} أَي: خلقنَا لِجَهَنَّم كثيرا، وَهَذَا على وفْق قَول أهل السّنة، وروت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى خلق الْجنَّة، وَخلق لَهَا أَهلا؛ خلقهمْ لَهَا وهم فِي أصلاب بائهم، وَخلق النَّار، وَخلق لَهَا أَهلهَا، خلقهمْ لَهَا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم " وَهَذَا فِي الصَّحِيح، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: " إِن الله تَعَالَى خلق الْجنَّة وَخلق لَهَا أَهلا بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاء آبَائِهِم وَأَسْمَاء قبائلهم، وَخلق النَّار، وَخلق لَهَا أَهلا بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاء آبَائِهِم وَأَسْمَاء قبائلهم - وَهَذَا الحَدِيث لَيْسَ فِي الصَّحِيح - لَا يُزَاد فيهم وَلَا ينقص " وَقيل معنى قَوْله: {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم} أَي: ذرأناهم، وعاقبة أَمرهم إِلَى جَهَنَّم، وَاللَّام لَام الْعَاقِبَة، وَهَذَا مثل قَول الْقَائِل:
(يَا أم سليم فَلَا تجزء عَن ... فللموت مَا تَلد الوالدة)
وَقَالَ آخر:
(وللموت تغذوا الوالدات سخالها ... كَمَا لخراب الدَّهْر تبنى المساكن)(2/234)
{يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ أُولَئِكَ هم الغافلون (179) وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ سيجزون مَا كَانُوا يعْملُونَ (180) وَمِمَّنْ خلقنَا أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ}
وَالْأول أصح، وَأقرب إِلَى مَذْهَب أهل السّنة، وَقَوله: {لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا} وَمَعْنَاهُ: أَنهم لما لم يفقهوا بقلوبهم مَا انتفعوا بِهِ، وَلم يبصروا بأعينهم، وَلم يسمعوا بآذانهم؛ مَا انتفعوا بِهِ؛ فكأنهم لَا يفقهُونَ وَلَا يبصرون وَلَا يسمعُونَ شَيْئا، وَهَذَا كَمَا قَالَ مِسْكين الدَّارِيّ:
(أعمى إِذا مَا جارتي برزت ... حَتَّى توارى جارتي الخدر)
(أَصمّ عَمَّا كَانَ بَينهمَا سَمْعِي ... وَمَا بِالسَّمْعِ من وقر)
{أُولَئِكَ كالأنعام} يَعْنِي: فِي أَن همتهم من الدُّنْيَا الْأكل والتمتع بالشهوات {بل هم أضلّ} وَذَلِكَ أَن الْأَنْعَام تميز بَين المضار وَالْمَنَافِع، وَأُولَئِكَ لَا يميزون مَا يضرهم عَمَّا يَنْفَعهُمْ {أُولَئِكَ هم الغافلون} .(2/235)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا} الْأَسْمَاء الْحسنى هِيَ مَا وَردت فِي الْخَبَر، روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما - مائَة غير وَاحِد - من أحصاها دخل الْجنَّة "، وَقَوله: {الْحسنى} يرجع إِلَى التسميات، وَقَوله {فَادعوهُ بهَا} وَذَلِكَ بِأَن يَقُول: يَا عَزِيز، يَا رَحْمَن، وَنَحْو هَذَا، وَاعْلَم أَن أَسمَاء الله تَعَالَى على التَّوْقِيف؛ فَإِنَّهُ يُسمى جوادا وَلَا يُسمى سخيا، وَإِن كَانَ فِي معنى الْجواد، وَيُسمى رحِيما وَلَا يُسمى رَقِيقا، وَيُسمى عَالما وَلَا يُسمى عَاقِلا، وعَلى هَذَا لَا يُقَال: يَا خَادع، يَا مكار، وَإِن ورد فِي الْقُرْآن ( {يخادعون الله وَهُوَ خادعهم} ويمكرون ويمكر الله) لَكِن لما لم يرد الشَّرْع بتسميته بِهِ لم يجز ذَلِك لَهُ.
{وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} قَالَ يَعْقُوب بن السّكيت صَاحب الْإِصْلَاح:(2/235)
{وَبِه يعدلُونَ (181) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ (182) وأملي لَهُم إِن كيدي متين (183) أَو لم يتفكروا مَا بِصَاحِبِهِمْ من جنَّة إِن هُوَ إِلَّا نَذِير} الْإِلْحَاد: هُوَ الْميل عَن الْحق، وَإِدْخَال مَا لَيْسَ فِي الدّين، قيل: والإلحاد فِي الْأَسْمَاء هَاهُنَا: كَانُوا يَقُولُونَ فِي مُقَابلَة اسْم الله: اللآت، وَفِي مُقَابلَة الْعَزِيز: الْعُزَّى، وَمَنَاة فِي مُقَابلَة المنان، وَقيل: هُوَ تسميتهم الْأَصْنَام آلِهَة، وَهَذَا أعظم الْإِلْحَاد فِي الْأَسْمَاء، فَهَذَا معنى قَوْله: {وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ سيجزون مَا كَانُوا يعْملُونَ} .(2/236)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
قَوْله تَعَالَى: {وَمِمَّنْ خلقنَا أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} روى قَتَادَة مُرْسلا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " هَؤُلَاءِ من هَذِه الْأمة، وَقد كَانَ فِيمَن قبلكُمْ " وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قوم مُوسَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} .(2/236)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ} قَالَ الْأَزْهَرِي: الاستدراج: هُوَ الْأَخْذ قَلِيلا قَلِيلا، وَمِنْه درج الْكتاب، وَقيل: الاستدراج من الله هُوَ أَن العَبْد كلما ازْدَادَ مَعْصِيّة زَاده الله - تَعَالَى - نعْمَة، وَقيل: هُوَ أَن يكثر عَلَيْهِ النعم وينسيه الشُّكْر، ثمَّ يَأْخُذهُ بَغْتَة؛ فَهَذَا هُوَ الاستدراج من حَيْثُ لَا يعلمُونَ.(2/236)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
قَوْله تَعَالَى: {وأملي لَهُم} أَي: أمْهل لَهُم وأؤخر لَهُم {إِن كيدي متين} أَي: شَدِيد.(2/236)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
قَوْله تَعَالَى {أَو لم يتفكروا مَا بِصَاحِبِهِمْ من جنَّة إِن هُوَ إِلَّا نَذِير مُبين} سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة مَا رُوِيَ: " أَن النَّبِي ذَات لَيْلَة صعد الصَّفَا، وَهُوَ يُنَادي طول اللَّيْل: يَا بني فلَان، يَا بني فلَان، إِنِّي نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد، فَلَمَّا أَصْبحُوا قَالُوا: إِن مُحَمَّدًا قد جن، يَصِيح طول اللَّيْل؛ فَنزلت هَذِه الْآيَة " {أَو لم يتفكروا} " يَعْنِي: فِي حَال مُحَمَّد أَنه لَا يَلِيق بِحَالهِ الْجُنُون.(2/236)
{مُبين (184) أَو لم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا خلق الله من شَيْء وَأَن عَسى أَن يكون قد اقْترب أَجلهم فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ (185) من يضلل الله فَلَا هادي لَهُ ويذرهم فِي طغيانهم يعمهون (186) يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد رَبِّي لَا يجليها لوَقْتهَا إِلَّا هُوَ ثقلت فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض لَا تَأْتيكُمْ إِلَّا بَغْتَة يَسْأَلُونَك كَأَنَّك حفي عَنْهَا قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (187)(2/237)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
قَوْله تَعَالَى: {أَو لم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض} يَعْنِي: استدلوا بهَا على وحدانية الله تَعَالَى {وَمَا خلق الله من شَيْء} أَي: أَو لم ينْظرُوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء {وَأَن عَسى أَن يكون قد اقْترب أَجلهم} يَعْنِي: لَعَلَّ قد اقْترب أَجلهم فيموتوا قبل أَن يُؤمنُوا {فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ} أَي: بِأَيّ نَبِي بعد مُحَمَّد، وَبِأَيِّ كتاب بعد كتاب مُحَمَّد يُؤمنُونَ.(2/237)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
قَوْله تَعَالَى: {من يضلل الله} أَي: من يضلله الله {فَلَا هادي لَهُ ويذرهم فِي طغيانهم يعمهون} أَي: فِي غلوهم فِي الْبَاطِل {يعمهون} يتحيرون ويترددون.(2/237)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها} أَي: مثبتها، يُقَال: أرسى، أَي: أثبت، وَمَعْنَاهُ: يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة مَتى قِيَامهَا {قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد رَبِّي لَا يجليها لوَقْتهَا} لَا يظهرها لوَقْتهَا ( {إِلَّا هُوَ} ثقلت فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض) أَي: خَفِي علمهَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَكَأَنَّمَا ثقلت، وكل خَفِي ثقيل، وَمَعْنَاهُ: ثقيل وصفهَا على أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض؛ بِمَا يكون فِيهَا من تكوير الشَّمْس وَالْقَمَر، وتكوير النُّجُوم، وتسيير الْجبَال، وطي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَقيل مَعْنَاهُ: عظم وُقُوعهَا على أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض.
{لَا تَأْتيكُمْ إِلَّا بَغْتَة} أَي: فَجْأَة.
{يَسْأَلُونَك كَأَنَّك حفي عَنْهَا} أَي كَأَنَّك مسرور بسؤالهم عَنْهَا، يُقَال: تحفيت فلَانا فِي الْمَسْأَلَة إِذا سَأَلته وأظهرت السرُور فِي سؤالك، فعلى هَذَا تَقْدِير الْآيَة:(2/237)
{قل لَا أملك لنَفْسي نفعا وَلَا ضرا إِلَّا مَا شَاءَ الله وَلَو كنت أعلم الْغَيْب لاستكثرت من الْخَيْر وَمَا مسني السوء إِن أَنا إِلَّا نَذِير وَبشير لقوم يُؤمنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة وَجعل مِنْهَا زَوجهَا ليسكن إِلَيْهَا فَلَمَّا تغشاها حملت حملا خَفِيفا فمرت بِهِ} يَسْأَلُونَك عَنْهَا كَأَنَّك حفي بسؤالهم، وَقيل مَعْنَاهُ: يَسْأَلُونَك كَأَنَّك حفي عَنْهَا أَي: عَالم بهَا، يُقَال: أحفيت فلَانا، إِذا مَا بالغت فِي الْمَسْأَلَة عَنهُ حَتَّى علمت، فعلى هَذَا معنى الْآيَة: كَأَنَّك حفي عَنْهَا، أَي: كَأَنَّك بالغت فِي السُّؤَال عَنْهَا، حَتَّى علمت {قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} .(2/238)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
قَوْله تَعَالَى: {قل لَا أملك لنَفْسي نفعا وَلَا ضرا إِلَّا مَا شَاءَ الله وَلَو كنت أعلم الْغَيْب لاستكثرت من الْخَيْر وَمَا مسني السوء} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: مَعْنَاهُ: وَلَو كنت أعلم الخصب من الجدب لأعددت من الخصب للجدب وَمَا مسني الْجُوع، قَالَه ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ ابْن جريج: مَعْنَاهُ: لَو كنت أعلم مَتى أَمُوت لاستكثرت من الْخيرَات والطاعات، وَمَا مسني السوء أَي: مَا بِي جُنُون؛ لأَنهم كَانُوا نسبوه إِلَى الْجُنُون.
القَوْل الثَّالِث: مَعْنَاهُ: وَلَو كنت أعلم مَتى السَّاعَة لأخبرتكم بقيامها حَتَّى تؤمنوا، وَمَا مسني السوء يَعْنِي: بتكذيبكم {إِن أَنا إِلَّا نَذِير وَبشير لقوم يُؤمنُونَ} .(2/238)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} يَعْنِي: آدم {وَجعل مِنْهَا زَوجهَا} يَعْنِي: حَوَّاء ( {ليسكن إِلَيْهَا} فَلَمَّا تغشاها) أَي: وَطئهَا، والغشيان أحسن كِنَايَة عَن الْوَطْء، يُقَال: تغشاها وتخللها، إِذا وَطئهَا.
{حملت حملا خَفِيفا} هُوَ أول مَا تحمل الْمَرْأَة من النُّطْفَة {فمرت بِهِ} وَقَرَأَ يحيى بن يعمر: " فمرت بِهِ " خَفِيفا من المرية أَي: شكت، وَقُرِئَ فِي الشواذ: " فمارت بِهِ: " أَي: تحركت بِهِ من المور، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " فاستمرت بِهِ " وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَمَعْنَاهُ: فمرت بِالْحملِ حَتَّى قَامَت وَقَعَدت وَدخلت وَخرجت، وَقيل: هُوَ مقلوب، وَتَقْدِيره فَمر الْحمل بهَا حَتَّى قَامَت وَقَعَدت {فَلَمَّا أثقلت} أَي: حَان(2/238)
{فَلَمَّا أثقلت دعوا الله ربهما لَئِن آتيتنا صَالحا لنكونن من الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهما} وَقت الْولادَة {دعوا الله ربهما} .
وَفِي الْقِصَّة: أَن إِبْلِيس جَاءَ إِلَى حَوَّاء حِين حبلت، وَقَالَ لَهَا: أَتَدْرِينَ مَا فِي بَطْنك؟ قَالَت: لَا. فَقَالَ: لَعَلَّه بَهِيمَة، وَإِنِّي أخْشَى أَن تكون لَهَا قرنان تشق بهما بَطْنك؛ فخافت حَوَّاء، وَجَلَست حزينة، ثمَّ عَاد إِلَيْهَا اللعين، وَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَن أَدْعُو الله تَعَالَى حَتَّى يَجعله إنْسَانا متكلما؟ قَالَت: نعم. إِنِّي قد وسوست إلَيْكُمَا مرّة فأطيعاني حَتَّى أَدْعُو، فَقَالَت: مَاذَا نصْنَع؟ قَالَ اللعين: إِذا ولدت تسميه عبد الْحَارِث - وَكَانَ اسْم إِبْلِيس من قبل الْحَارِث - فَذكرت ذَلِك لآدَم، فتوافقا على ذَلِك، فَلَمَّا ولدت سمياه عبد الْحَارِث، وَقيل: إِنَّهَا ولدت مرّة فسمياه عبد الله فَمَاتَ، ثمَّ ولدت ولد آخر فسمياه عبد الله فَمَاتَ، فجَاء اللعين، وَقَالَ: أما علمتما أَن الله تَعَالَى لَا يدع عَبده عندكما، فَإِذا ولدت ولدا فَسَمِّيهِ عبد الْحَارِث، حَتَّى يحيا، فَلَمَّا ولدت الثَّالِث سمياه عبد الْحَارِث فَعَاشَ وَحيا.
وَفِي الْخَبَر: قَالَ النَّبِي: " خدعهما إِبْلِيس مرَّتَيْنِ: مرّة فِي الْجنَّة، وَمرَّة فِي الأَرْض " وَأَرَادَ بِهِ هَذَا ". قَوْله {فَلَمَّا أثقلت دعوا الله ربهما} يَعْنِي: آدم وحواء {لَئِن آتيتنا صَالحا} أَي: ولدا سوى الْخلق، إِذْ كَانَا [يدعوان] أَن يَجعله الله إنْسَانا مثلهمَا خوفًا من وَسْوَسَة إِبْلِيس ( {لنكونن من الشَّاكِرِينَ}(2/239)
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
فَلَمَّا آتاهما صَالحا) أَي: سوى الْخلق {جعلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتاهما} يَعْنِي سمياه عبد الْحَارِث، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَقُول: {جعلا لَهُ شُرَكَاء} وآدَم كَانَ نَبيا مَعْصُوما عَن الْإِشْرَاك بِاللَّه؟
قيل: لم يكن هَذَا إشراكا فِي التَّوْحِيد، وَإِنَّمَا ذَلِك إشراك فِي الِاسْم، وَذَلِكَ لَا يقْدَح فِي التَّوْحِيد، وَهُوَ مثل تَسْمِيَة الرجل وَلَده عبد يَغُوث وَعبد زيد وَعبد عَمْرو، وَقَول الرجل لصَاحبه: أَنا عَبدك، وعَلى ذَلِك قَول يُوسُف - صلوَات الله عَلَيْهِ -: {إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي} وَمثل هَذَا لَا يقْدَح، وَأما قَوْله: {فتعالى الله عَمَّا يشركُونَ}(2/239)
{صَالحا جعلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتاهما فتعالى الله عَمَّا يشركُونَ (190) أيشركون مَا لَا يخلق شَيْئا وهم يخلقون (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُم نصرا وَلَا أنفسهم ينْصرُونَ (192) وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يتبعوكم سَوَاء عَلَيْكُم أدعوتموهم أم أَنْتُم صامتون (193) إِن الَّذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إِن كُنْتُم صَادِقين} ابْتِدَاء كَلَام بعد الأول، وَأَرَادَ بِهِ: إشراك أهل مَكَّة، وَلَئِن أَرَادَ بِهِ الْإِشْرَاك الَّذِي سبق استقام الْكَلَام؛ لِأَنَّهُ كَانَ الأولى أَلا يفعل مَا أَتَى بِهِ من الْإِشْرَاك فِي الِاسْم، وَكَانَ ذَلِك زلَّة مِنْهُ، فَلذَلِك قَالَ: {فتعالى الله عَمَّا يشركُونَ} وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن هَذَا فِي جَمِيع بني آدم. قَالَ عِكْرِمَة: وَكَأن الله يُخَاطب بِهِ كل وَاحِد من الْخلق بقوله: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} يَعْنِي: خلق كل وَاحِد من أَبِيه {وَجعل مِنْهَا زَوجهَا} أَي: جعل من جِنْسهَا زَوجهَا {ليسكن إِلَيْهَا} يَعْنِي: كل زوج إِلَى زَوجته {فَلَمَّا تغشاها} أَي: وَطئهَا {حملت حملا خَفِيفا فمرت بِهِ} وَهَذَا قَول حسن فِي الْآيَة.
وَقيل: إِنَّمَا عبر بِآدَم وحواء عَن جَمِيع أولادهما؛ لِأَنَّهُمَا أصل الْكل، وَالْأول أشهر وَأظْهر، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَسَعِيد بن جُبَير. وَجَمَاعَة الْمُفَسّرين كلهم قَالُوا: إِن الْآيَة فِي آدم وحواء كَمَا بَينا.(2/240)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
قَوْله تَعَالَى: {أيشركون مَا لَا يخلق شَيْئا وهم يخلقون} يَعْنِي: الْأَصْنَام لَا يخلقون شَيْئا بل هم مخلوقون(2/240)
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُم نصرا} أَي: منعا {وَلَا أنفسهم ينْصرُونَ} .(2/240)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يتبعوكم} هَذَا فِي قوم مخصوصين علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ {سَوَاء عَلَيْكُم أدعوتموهم أم أَنْتُم صامتون} أَي: سَوَاء دعوتموهم أَو لم تدعوهم لَا يُؤمنُونَ)(2/240)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} . فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ تكون الْأَصْنَام عبادا أمثالنا؟ قيل: قَالَ مقَاتل: أَرَادَ بِهِ الْمَلَائِكَة. وَالْخطاب مَعَ قوم كَانُوا(2/240)
( {194) ألهم أرجل يَمْشُونَ بهَا أم لَهُم أيد يبطشون بهَا أم لَهُم أعين يبصرون بهَا أم لَهُم آذان يسمعُونَ بهَا قل ادعوا شركاءكم ثمَّ كيدون فَلَا تنْظرُون (195) إِن وليي الله الَّذِي نزل الْكتاب وَهُوَ يتَوَلَّى الصَّالِحين (196) وَالَّذين تدعون من دونه لَا يَسْتَطِيعُونَ} يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الشَّيَاطِين. وَالْخطاب مَعَ قوم كَانُوا يعْبدُونَ الكهنة وَالشَّيَاطِين، وَالصَّحِيح أَنه فِي الْأَصْنَام، وهم عباد أَمْثَال النَّاس فِي الْعِبَادَة، وعبادتهم التَّسْبِيح، وللجمادات تَسْبِيح كَمَا نطق بِهِ الْكتاب. {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ} وَقَوله {أمثالكم} يَعْنِي: أَن الْأَصْنَام مذللون مسخرون لما أُرِيد مِنْهُم مثلكُمْ، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم} وَمَعْنَاهُ: أمثالكم فِي شَيْء دون شَيْء كَذَلِك هَاهُنَا وَقيل: إِنَّمَا قَالَ: {أمثالكم} لأَنهم صوروها على صُورَة الْأَحْيَاء، وطلبوا مِنْهَا مَا يطْلب من الْأَحْيَاء.
{فادعوهم فليستجيبوا لكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَهَذَا لبَيَان عجزهم، ثمَّ أكده فَقَالَ:(2/241)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
{ألهم أرجل يَمْشُونَ بهَا أم لَهُم أيد يبطشون بهَا أم لَهُم أعين يبصرون بهَا أم لَهُم آذان يسمعُونَ بهَا} وَذَلِكَ أَن قدرَة المخلوقين إِنَّمَا تكون بِهَذِهِ الْآلَات والجوارح، وَلَيْسَت لَهُم تِلْكَ الْآلَات، بل أَنْتُم أكبر قدرَة مِنْهُم لوُجُود هَذِه الْأَشْيَاء فِيكُم.
{قل ادعوا شركاءكم ثمَّ كيدون فَلَا تنْظرُون} أَي: فَلَا تمهلون.(2/241)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
قَوْله تَعَالَى: (إِن وليي الله الَّذِي نزل الْكتاب) يَعْنِي: ناصري ومعيني الله الَّذِي نزل الْكتاب، وَقُرِئَ فِي الشواذ: " إِن ولي الله " بِكَسْر الْهَاء، وَمَعْنَاهُ: جِبْرِيل ولي الله الَّذِي نزل الْكتاب أَي: نزل بِالْكتاب {وَهُوَ يتَوَلَّى الصَّالِحين} يَعْنِي: جِبْرِيل ولي الصَّالِحين، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل} .(2/241)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين تدعون من دونه لَا يَسْتَطِيعُونَ نصركم وَلَا أنفسهم(2/241)
{نصركم وَلَا أنفسهم ينْصرُونَ (197) وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يسمعوا وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون (198) خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ واعرض عَن الْجَاهِلين} ينْصرُونَ) وَهَذَا لبَيَان عجزهم أَيْضا(2/242)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
{وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يسمعوا} يَعْنِي: الْأَصْنَام {وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون} فَإِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر النّظر من الْأَصْنَام؟ قَالَ الْكسَائي: تَقول الْعَرَب: دَاري تنظر إِلَى دَار فلَان، إِذا كَانَت مُقَابلَة لما، فَكَذَلِك قَوْله: {وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك} يَعْنِي: نظر الْمُقَابلَة.(2/242)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
قَوْله تَعَالَى: {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} روى: " أَن جِبْرِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما نزل بِهَذِهِ الْآيَة، قَالَ: يَا رَسُول الله، أَتَيْتُك بمكارم الْأَخْلَاق، فروى أَن النَّبِي سَأَلَ جِبْرِيل عَن معنى هَذِه الْآيَة، فَقَالَ لَهُ: حَتَّى أسأَل رَبِّي، ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ: صل من قَطعك، وَأعْطِ من حَرمك واعف عَن من ظلمك ".
ثمَّ اخْتلفُوا فِي معنى هَذَا الْعَفو، فَقَالَ عَطاء: هُوَ الْفضل من أَمْوَال النَّاس. وَكَانَ فِي الِابْتِدَاء يجب التَّصَدُّق بِمَا فضل من الْحَاجَات، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِآيَة الزَّكَاة، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو} وَقَالَ ابْن الزبير: الْعَفو: مَا تيَسّر من أَخْلَاق النَّاس، أَي: خُذ الميسور من أَخْلَاق النَّاس مثل: قبُول الِاعْتِذَار، وَالْعَفو والمساهلة فِي الْأُمُور، وَترك الْبَحْث عَن الْأَشْيَاء وَنَحْو ذَلِك.
وَقَوله: {وَأمر بِالْعرْفِ} هُوَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مَا يعرفهُ الشَّرْع.
وَقَوله: {وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} يَعْنِي: إِذا سفه عَلَيْك الْجَاهِل فَلَا تكافئه وَلَا تقابله بالسفه، وَذَلِكَ مثل قَوْله: {وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما} وَذَلِكَ(2/242)
( {199) وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه إِنَّه سميع عليم (200) إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون (201) وإخوانهم يمدونهم فِي الغي ثمَّ لَا يقصرون (202) وَإِذا لم تأتهم بِآيَة قَالُوا لَوْلَا اجتبيتها قل إِنَّمَا} سَلام الْمُنَازعَة، قَالَ: {وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما} يَعْنِي: أكْرمُوا أنفسهم عَن الْخَوْض فِيهِ.
وروى أَن عُيَيْنَة بن حصن - وَكَانَ سيد غطفان - لما قدم الْمَدِينَة قَالَ للْحرّ بن قيس: لَك وَجه عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ فَاسْتَأْذن لي عَلَيْهِ، فَاسْتَأْذن لَهُ فَدخل على عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ لَهُ: إِنَّك لَا تقضي فِينَا بِالْحَقِّ، وَلَا تقسم فِينَا بِالْعَدْلِ، فَغَضب عمر وهم أَن يُؤَدِّيه، فَقَالَ الْحر بن قيس: إِن الله تَعَالَى يَقُول: {وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} وَهَذَا من الْجَاهِلين، فَسكت عمر - رَضِي الله عَنهُ -.(2/243)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
قَوْله تَعَالَى {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ} النزغ من الشَّيْطَان: الوسوسة {فاستعذ بِاللَّه} أَي: استجر بِاللَّه {إِنَّه سميع عليم} .(2/243)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طيف من الشَّيْطَان} وتقرأ: " طائف " ومعناهما وَاحِد.
قَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الْغَضَب. وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: هُوَ الوسوسة. وأصل الطيف: الْجُنُون.
{تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون} وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم إِذا وسوسهم الشَّيْطَان بالمعصية ذكرُوا عِقَاب الله؛ فَإِذا هم كافون عَن الْمعْصِيَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي مَعْنَاهُ: ذكرُوا الله؛ فَإِذا هم يبصرون الْحق عَن الْبَاطِل.(2/243)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
قَوْله تَعَالَى: {وإخوانهم} أَي: أشباههم من الشَّيَاطِين {يمدونهم} أَي: يردونهم {فِي الغي} فِي الضَّلَالَة {ثمَّ لَا يقصرون} أَي: لَا يكفون.(2/243)
{أتبع مَا يُوحى إِلَيّ من رَبِّي هَذَا بصائر من ربكُم وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ (203) وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون (204) وَاذْكُر رَبك فِي نَفسك تضرعا}(2/244)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا لم تأتهم بِآيَة قَالُوا لَوْلَا اجتبتها} كَانُوا يسْأَلُون النَّبِي الْآيَات (تعنتا) ويستكثرون مِنْهَا، فَإِذا لم يقْرَأ عَلَيْهِم آيَة قَالُوا: لَوْلَا اجتبيتها، أَي: هلا اختلقتها وقلتها من تِلْقَاء نَفسك. قَالَ: {قل إِنَّمَا أتبع مَا يُوحى إِلَيّ من رَبِّي هَذَا بصائر من ربكُم} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ} .(2/244)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون} قَالَ الْحسن، وَالزهْرِيّ، وَالنَّخَعِيّ: هَذَا فِي الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة. وَقَالَ عَطاء وَمُجاهد: هُوَ فِي الْخطْبَة. وَلم يرْضوا من مُجَاهِد هَذَا القَوْل؛ لِأَن الْآيَة مَكِّيَّة، وَالْجُمُعَة إِنَّمَا وَجَبت بِالْمَدِينَةِ، وَلِأَن الِاسْتِمَاع فِي جَمِيع الْخطْبَة وَاجِب، وَلَا يخْتَص بِالْقِرَاءَةِ فِي الْخطْبَة. فَالْأول أصح.
وَلَيْسَ لمن يرى ترك الْقِرَاءَة خلف الإِمَام مستدل (فِي الْآيَة) ؛ لِأَن الْقِرَاءَة خلف الإِمَام لَا تنَافِي الِاسْتِمَاع؛ لِأَنَّهُ يتبع سكتات الإِمَام، وَلِأَن الْآيَة فِيمَا وَرَاء الْفَاتِحَة؛ بِدَلِيل حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا كُنْتُم خَلْفي فَلَا تقرءوا إِلَّا بِأم الْقُرْآن ".
وَفِي الْآيَة: قَول ثَالِث: أَن المُرَاد بِهِ النَّهْي عَن الْكَلَام فِي الصَّلَاة. قَالَه أَبُو هُرَيْرَة. وَهَذَا قَول حسن.(2/244)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُر رَبك فِي نَفسك تضرعا وخيفه} قيل: هَذَا فِي الدُّعَاء أَي: ادْع الله بالتضرع والخيفه. وَقيل: هُوَ فِي صَلَاة السِّرّ.(2/244)
{وخيفة وَدون الْجَهْر من القَوْل بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال وَلَا تكن من الغافلين (205) إِن الَّذين عِنْد رَبك لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته ويسبحونه وَله يَسْجُدُونَ (206) .
{وَدون الْجَهْر من القَوْل} أَرَادَ بِهِ: فِي صَلَاة الْجَهْر لَا تجْهر جَهرا شَدِيدا {بِالْغُدُوِّ والأصال} فالغدو: أَوَائِل النَّهَار، وَالْآصَال: أَوَاخِر النَّهَار {وَلَا تكن من الغافلين} عَن ذكر الله.(2/245)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين عِنْد رَبك} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة؛ ذكرهم بالتقريب والكرامة {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته ويسبحونه وَله يَسْجُدُونَ} يَعْنِي: إِن كَانَ هَؤُلَاءِ يَسْتَكْبِرُونَ عَن عبَادَة الله تَعَالَى؛ فَالَّذِينَ عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْهَا.
وَقد ورد فِي السُّجُود أَخْبَار مِنْهَا: مَا روى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا سجد ابْن آدم؛ اعتزل الشَّيْطَان يبكي، وَيَقُول: يَا ويلاه، أَمر ابْن آدم بِالسُّجُود فَسجدَ؛ فَلهُ الْجنَّة، وَأمرت بِالسُّجُود فأبيت؛ فلي النَّار ".
وَفِي حَدِيث ربيعَة بن كَعْب الْأَسْلَمِيّ: " أَنه أَتَى النَّبِي بوضوئه لِحَاجَتِهِ فَقَالَ: سلني. فَقلت: أُرِيد مرافقتك فِي الْجنَّة، فَقَالَ: أَو غير ذَلِك؟ فَقلت: هُوَ ذَاك، فَقَالَ: أَعنِي على نَفسك بِكَثْرَة السُّجُود " أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وروى أَبُو فَاطِمَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من عبد يسْجد لله سَجْدَة؛ إِلَّا رَفعه الله بهَا دَرَجَة ". وَالله أعلم.(2/245)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم وَأَطيعُوا}
تَفْسِير سُورَة الْأَنْفَال
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: سُورَة الْأَنْفَال مَدَنِيَّة إِلَّا سبع آيَات؛ وَذَلِكَ من قَوْله: {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا} إِلَى آخر الْآيَات السَّبع؛ فَإِنَّهَا نزلت بِمَكَّة، وَأكْثر السُّورَة فِي غَزْوَة بدر.(2/246)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} وَالسُّؤَال سؤالان: سُؤال استخبار، وسؤال طلب؛ فَقَوله: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} سُؤال استخبار؛ فَإِنَّهُم سَأَلُوهُ عَن حكم الْأَنْفَال.
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَسعد بن أبي وَقاص: " يَسْأَلُونَك الْأَنْفَال " وَهَذَا سُؤال طلب. روى مُصعب بن سعد، عَن أَبِيه سعد بن أبي وَقاص أَنه قَالَ: " سَأَلت رَسُول الله سَيْفا يَوْم بدر فَقلت: نفلنيه يَا رَسُول الله، فَنزل قَوْله: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} ".
والأنفال: الْغَنَائِم. وَالنَّفْل فِي اللُّغَة: الزِّيَادَة، قَالَ لبيد بن ربيعَة العامري شعرًا:
(إِن تقوى رَبنَا خير نفل ... وبإذن الله ريثي والعجل)
وَمِنْه صَلَاة النَّافِلَة؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة على الْفَرِيضَة. فسميت الْغَنَائِم أنفالا؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة كَرَامَة من الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة على الْخُصُوص.
وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى " أَن أَصْحَاب النَّبِي افْتَرَقُوا يَوْم بدر فرْقَتَيْن: فرقة كَانَت تقَاتل وتأسر، وَفرْقَة تحرس رَسُول الله، ثمَّ تنازعوا، فَقَالَت الْفرْقَة الْمُقَاتلَة:(2/246)
{الله وَرَسُوله إِن كُنْتُم مُؤمنين (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} الْغَنَائِم لنا؛ قاتلنا وأسرنا، وَقَالَ الْآخرُونَ: كُنَّا ردْءًا لكم، ونحرس رَسُول الله، فالغنيمة بَيْننَا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} .
وَفِي رِوَايَة: " أَن النَّبِي قَالَ يَوْمئِذٍ: من قتل قَتِيلا فَلهُ كَذَا، وَمن أسر أَسِيرًا فَلهُ كَذَا، فَتسَارع الشبَّان وقاتلوا وأسروا، وَبَقِي الشُّيُوخ مَعَ الرَّسُول - عَلَيْهِ السَّلَام - يحرسونه ثمَّ تنازعوا فِي الْغَنِيمَة، فَقَالَ الشبَّان: الْغَنِيمَة لنا؛ لأَنا قاتلنا. وَقَالَ الشُّيُوخ: كُنَّا نحرس رَسُول الله، وَكُنَّا ردْءًا لكم. وَكَانَ الَّذِي تكلم من الشبَّان أَبُو الْيُسْر وَالَّذِي تكلم من الشُّيُوخ سعد بن معَاذ، فَنزلت الْآيَة، فقسم النَّبِي الْأَنْفَال بَين الْكل.
وَقَوله: {قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول} وَاخْتلفُوا فِيهِ قَالَ مُجَاهِد، وَعِكْرِمَة: الْآيَة مَنْسُوخَة بقول تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خَمْسَة وَلِلرَّسُولِ} فَهَذِهِ الْآيَة ردَّتْ من الْكل إِلَى الْخمس، فَكَانَت ناسخة للأولى.
وَقيل: الْآيَة غير مَنْسُوخَة، وَمعنى قَوْله: {قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول} أَي: حكمهَا لله وَالرَّسُول؛ فَتكون مُوَافقَة لتِلْك الْآيَة.
{فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم} قَالَ: ثَعْلَب: يَعْنِي: أصلحوا الْحَالة الَّتِي بَيْنكُم، وَمَعْنَاهُ: الْإِصْلَاح بترك الْمُنَازعَة وَتَسْلِيم أَمر الْغَنِيمَة إِلَى الله وَالرَّسُول {وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله إِن كُنْتُم مُؤمنين} .(2/247)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} قَالَ ابْن أبي نجيح:(2/247)
{وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (3) أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم ومغفرة ورزق كريم (4) كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهون} أَي: خَافت وَفرقت، قَالَ الشَّاعِر:
(لعمرك مَا أَدْرِي وَإِنِّي لأوجل ... على أَيّنَا تَغْدُو الْمنية أول)
{وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا} أَي: يَقِينا وَتَصْدِيقًا؛ وَذَلِكَ أَنه كلما نزلت آيَة فآمنوا بِهِ ازدادوا إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا، وَهَذَا دَلِيل لأهل السّنة على أَن الْإِيمَان يزِيد وَينْقص {وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} التَّوَكُّل هُوَ الِاعْتِمَاد على الله والثقة بِهِ.(2/248)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
(الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ) إِقَامَة الصَّلَاة هِيَ أَدَاؤُهَا فِي أَوْقَاتهَا بشرائطها وأركانها.(2/248)
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} قَالَ مقَاتل: يَعْنِي: إِيمَانًا لَا شكّ فِيهِ. وَقيل: برأهم من الْكفْر والنفاق.
وَفِيه دَلِيل لأهل السّنة على انه لَا يجوز لكل أحد أَن يصف نَفسه بِكَوْنِهِ مُؤمنا حَقًا؛ لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا وصف بذلك قوما مخصوصين على أَوْصَاف مَخْصُوصَة، وكل أحد لَا يتَحَقَّق فِي نَفسه وجود تِلْكَ الْأَوْصَاف.
{لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم} قَالَ الرّبيع بن أنس: الدَّرَجَات سَبْعُونَ دَرَجَة، مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ حضر الْفرس الْمُضمر سبعين سنة {ومغفرة ورزق كريم} أَي: كَامِل لَا نقص فِيهِ.(2/248)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ} الْأَكْثَرُونَ على أَنه فِي إِخْرَاجه من الْمَدِينَة إِلَى بدر لِلْقِتَالِ مَعَ الْمُشْركين. وَقيل: هُوَ فِي إِخْرَاجه من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة.(2/248)
( {5) يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ (6) وَإِذ يَعدكُم الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لكم وتودون أَن غير ذَات الشَّوْكَة تكون لكم}
وَاخْتلفُوا فِي أَن قَوْله: {كَمَا أخرجك} إِلَى مَاذَا ترجع كَاف التَّشْبِيه؟ قَالَ الْمبرد: تَقْدِيره: الْأَنْفَال لله وَلِلرَّسُولِ وَإِن كَرهُوا، كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك وَإِن كَرهُوا. وَقَول الْفراء قريب من هَذَا، وَهَكَذَا قَول الزّجاج؛ فَإِنَّهُمَا قَالَا: تَقْدِيره: امْضِ لأمر الله فِي الْأَنْفَال وَإِن كَرهُوا كَمَا مضيت لأمر الله عِنْد إخراجك من بَيْتك وَإِن كَرهُوا.
وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا الله} وَتَقْدِيره: كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ فاتبعت أمره فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم. وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم} وَتَقْدِيره: وعد الدَّرَجَات حق كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ؛ فأنجز والوعد بالنصر وَالظفر. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: " مَا " هَاهُنَا بِمَعْنى: " الَّذِي " أَي: كَالَّذي أخرجك رَبك.
{وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهون يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين} وَذَلِكَ أَن أَصْحَاب رَسُول الله كَرهُوا خُرُوجه إِلَى بدر، وجادلوا فِيهِ، فَقَالُوا: لَا نخرج؛ فَإنَّا لم نستعد لِلْقِتَالِ، وَلَيْسَ مَعنا أهبة الْحَرْب.
وَقَوله: {بعد مَا تبين} مَعْنَاهُ: مَا تبين لَهُم صدقه فِي الْوَعْد بِمَا وعدهم مرّة بعد أُخْرَى فَصَدَّقَهُمْ فِي وعده.
{كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ} فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهونه كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ، يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين.(2/249)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يَعدكُم الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لكم} سَبَب هَذَا: مَا رُوِيَ أَن أَبَا سُفْيَان قدم على عير من قبل الشَّام فِيهَا أَمْوَال قُرَيْش، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله وَأَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ، فَخَرجُوا فِي طلب العير، فَبعث أَبُو سُفْيَان رجلا إِلَى مَكَّة يستنفرهم ويستغيث بهم، فَخرج أَبُو جهل ورءوس الْمُشْركين فِي سَبْعمِائة وَخمسين(2/249)
{وَيُرِيد الله أَن يحِق الْحق بكلماته وَيقطع دابر الْكَافرين (7) ليحق الْحق وَيبْطل الْبَاطِل وَلَو كره المجرمون (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ربكُم فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف} رجلا، وَكَانَ الْمُسلمُونَ يَوْمئِذٍ ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر نَفرا، وَلم يكن لَهُم كثير سلَاح، وَكَانَ مَعَهم فرسَان فَحسب، أَحدهمَا لِلْمِقْدَادِ بن عَمْرو، وَالْآخر لأبي مرْثَد الغنوي، وَكَانَ مَعَهم سِتَّة أدرع، وَكَانَ أَكْثَرهم رِجَاله، وَبَعْضهمْ على الأبعرة، فَوَعَدَهُمْ الله - تَعَالَى - إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا العير (أَو) النفير، وَكَانَ أَبُو سُفْيَان صَاحب العير، وَأَبُو جهل صَاحب النفير، فَالتقى الْجَمْعَانِ، ووقعوا فِي الْقِتَال، وَأخذ العير طَرِيق السَّاحِل وذهبوا، وَكَانَ الْمُسلمُونَ يودون أَن يظفروا بالعير ويفوزوا بِالْمَالِ من غير الْقِتَال " فَهَذَا معنى قَوْله: {وتودون أَن غير ذَات الشَّوْكَة تكون لكم} والشوكة: السِّلَاح.
{وَيُرِيد الله أَن يحِق الْحق بكلماته} أَي: يظْهر الْحق ويعلى كَلمته {وَيقطع دابر الْكَافرين} أَي: أصل الْكَافرين.(2/250)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
{ليحق الْحق وَيبْطل الْبَاطِل} أَي: يثبت الْحق وينفي الْبَاطِل {وَلَو كره المجرمون} .(2/250)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ تسغيثون ربكُم} الاستغاثة: طلب الْغَوْث {فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ} سَبَب هَذَا مَا روى: " أَنه لما التقى الْجَمْعَانِ ببدر اسْتقْبل النَّبِي الْقبْلَة وَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أنجزني مَا وَعَدتنِي، اللَّهُمَّ إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة فَلَنْ تعبد فِي الأَرْض، وَعلا بِهِ صَوته فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: خفض من صَوْتك يَا رَسُول الله؛ فَإِن الله منجزك مَا وَعدك " فَنزلت الْآيَة واستجاب دعاءه، وأمدهم الله تَعَالَى بِالْمَلَائِكَةِ؛ فروى: " أَنه نزل جِبْرِيل فِي خَمْسمِائَة، وَمِيكَائِيل فِي خَمْسمِائَة، وَكَانَ على رُءُوسهم عمائم بيض قد أَرخُوا أطرافها بَين أكتافهم، وهم على صور الْبشر(2/250)
{من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ (9) وَمَا جعله الله إِلَّا بشرى ولتطمئن بِهِ قُلُوبكُمْ وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله إِن الله عَزِيز حَكِيم (10) إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ وَينزل عَلَيْكُم من} على خيل بلق " فَهَذَا معنى قَوْله: {فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ} يُقَال: ردفه وأردفه إِذا (أتبعه) ، قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظَنَنْت بآل فَاطِمَة الظنونا)
فَمَعْنَى قَوْله {مُردفِينَ} أَي: مُتَتَابعين بَعضهم فِي إِثْر بعض. وَهَذَا معنى الْقِرَاءَة الثَّانِيَة بِفَتْح الدَّال. وَمِنْهُم من فرق بَينهمَا وَقَالَ: مُردفِينَ أَي: ممدين بَعضهم لبَعض. وَمن قَرَأَ بِفَتْح الدَّال فَمَعْنَاه: ممدين من قبل الله.(2/251)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جعله الله إِلَّا بشرى} أَي: بِشَارَة {ولتطمئن بِهِ قُلُوبكُمْ} أَي: تسكن بِهِ قُلُوبكُمْ {وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله إِن الله عَزِيز حَكِيم}(2/251)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ} وَيقْرَأ: " إِذْ يغشاكم النعاس " وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: " أَمَنَة " سَاكِنة الْمِيم فِي الشواذ.
والقصة فِي ذَلِك: أَن الْكفَّار يَوْم بدر نزلُوا على المَاء، وَنزل الْمُسلمُونَ على غير مَاء، فأجنب بَعضهم وأحدثوا، فَلم يَجدوا مَاء يتطهرون بِهِ، وَكَانُوا فِي رمل تَسُوخ فِيهِ أَرجُلهم، فوسوس إِلَيْهِم الشَّيْطَان: إِنَّكُم تزعمذسون أَنكُمْ على الْحق وَأُولَئِكَ على الْبَاطِل وَإِذا هم على المَاء، فَلَو كُنْتُم على الْحق لكنتم أَنْتُم على المَاء، وَمَا بَقِيتُمْ مجنبين محدثين، فَوَقع فيهم خوف شَدِيد، فَألْقى الله تَعَالَى عَلَيْهِم النعاس حَتَّى أمنُوا، وَأَنْشَأَ سَحَابَة فتمطرت عَلَيْهِم حَتَّى سَالَ الْوَادي وَتطَهرُوا وَاغْتَسلُوا، وتلبدت الرمال حَتَّى ثبتَتْ عَلَيْهَا الْأَقْدَام. فَهَذَا معنى قَوْله: {إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة} .(2/251)
{السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ وَيذْهب عَنْكُم رجز الشَّيْطَان وليربط على قُلُوبكُمْ وَيثبت بِهِ الْأَقْدَام (11) إِذْ يوحي رَبك إِلَى الْمَلَائِكَة أَنِّي مَعكُمْ فثبتوا الَّذين آمنُوا سألقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق واضربوا مِنْهُم كل بنان (12) ذَلِك}
قَالَ ابْن مَسْعُود: النعاس فِي الْقِتَال من الله، وَفِي الصَّلَاة من الشَّيْطَان.
{وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ} وَهُوَ مَا ذكرنَا {وَيذْهب عَنْكُم رجز الشَّيْطَان} أَي: وَسْوَسَة الشَّيْطَان {وليربط على قُلُوبكُمْ} أَي: يشدد قُلُوبكُمْ وَتثبت بِإِزَالَة الْخَوْف {وَيثبت بِهِ الْأَقْدَام} يَعْنِي: على الرمل حِين تلبد بالمطر.(2/252)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
{إِذْ يوحي رَبك إِلَى الْمَلَائِكَة أَنِّي مَعكُمْ} أَي: بالنصر وَالظفر {فثبتوا الَّذين آمنُوا} وروى " أَن الْملك كَانَ يمشي بَين أَيْديهم وينادي: أَيهَا الْمُسلمُونَ، أَبْشِرُوا بالظفر والنصر ". وَقيل: كَانَ يلهمهم الْملك ذَلِك؛ وللملك إلهام.
{سألقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق} أَي: على الْأَعْنَاق، وَقيل: " فَوق " فِيهِ صلَة، وَمَعْنَاهُ: فاضربوا الْأَعْنَاق، وَقيل: هُوَ على مَوْضِعه، وَمَعْنَاهُ: فاضربوا على اليافوخ.
{واضربوا مِنْهُم كل بنان} قيل: البنان: مفاصل الْأَطْرَاف، وَقيل: الْأَصَابِع، كَأَنَّهُ عبر بِهِ عَن الْأَيْدِي والأرجل.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَا كَانَت الْمَلَائِكَة تعلم كَيفَ يقتل الآدميون، فعلمهم الله.
وَقيل: إِن الْمَلَائِكَة لم يقاتلوا إِلَّا فِي غَزْوَة بدر.
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: أَنه لما أَرَادَ أَن يحز رَأس أبي جهل - وَكَانَ قد علاهُ ليَقْتُلهُ - فَقَالَ لَهُ أَبُو جهل: كُنَّا نسْمع الصَّوْت وَلَا نرى شخصا، ونرى الضَّرْب وَلَا نرى الضَّارِب، فَمن هم؟ قَالَ: هم الْمَلَائِكَة: فَقَالَ أَبُو جهل: أُولَئِكَ غلبونا لَا انتم.(2/252)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
{ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله} أَي: نازعوا الله وَرَسُوله.(2/252)
{بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب (13) ذَلِكُم فذوقوه وَأَن للْكَافِرِينَ عَذَاب النَّار (14) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا زحفا فَلَا تولوهم الأدبار (15) وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى}
{وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب ذَلِكُم فذوقوه وَأَن للْكَافِرِينَ عَابَ النَّار} إِنَّمَا قَالَ ذَلِك مُبَالغَة فِي التعذيب والانتقام، وَالْعرب تَقول لِلْعَدو إِذا أَصَابَهُ الْمَكْرُوه: ذُقْ. قَالَ الله تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} .
وَرُوِيَ أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب لما مر بِحَمْزَة بن عبد الْمطلب وَهُوَ مطروح مقتول يَوْم أحد فَقَالَ لَهُ: ذُقْ يَا عُقُق، يَعْنِي: ذُقْ أَيهَا الْعَاق.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمُسلمين لما فرغوا من قتال بدر وَانْهَزَمَ الْكفَّار قصدُوا طلب العير وَأَن يتبعوهم - وَكَانَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فِي وثاق الْمُسلمين وأسرهم - فَقَالَ لَهُم: لَيْسَ لكم إِلَى ذَلِك سَبِيل؛ فَإِن الله - تَعَالَى - وَعدكُم إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقد ظفرتم بالجيش؛ فَلَيْسَ لكم العير، فَسَكَتُوا.(2/253)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا زحفا} أَي: متزاحفين والتزاحف: التداني من الْقِتَال، وَمَعْنَاهُ: إِذا تزاحفتم وتوافقتم {فَلَا تولوهم الأدبار} أَي: لَا تنهزموا؛ فَإِن المنهزم يولي دبره إِذا انهزم(2/253)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
{وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفا لقِتَال} التحرف لِلْقِتَالِ هُوَ أَن يرى الانهزام ويقصد بِهِ طلب الْغرَّة والغيلة، وانتهاز الفرصة {أَو متحيزا إِلَى فِئَة} أَي: مائلا إِلَى فِئَة {فقد بَاء بغضب من الله} أَي: رَجَعَ بغضب من الله {ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} واستدلت الْمُعْتَزلَة بِإِطْلَاق قَوْله: {ومأواه جَهَنَّم} فِي وَعِيد الْأَبَد، وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ؛ لِأَن معنى الْآيَة: ومأواه جَهَنَّم إِلَّا أَن تُدْرِكهُ الرَّحْمَة؛ بِدَلِيل سَائِر الْآي الْمقيدَة.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْآيَة فِي أهل بدر خَاصَّة، مَا كَانَ يجوز لَهُم الانهزام بِحَال؛ لِأَن النَّبِي كَانَ مَعَهم وَلم يكن لَهُم فِئَة يتحيزون إِلَيْهَا، فَأَما فِي حق غَيرهم فالفرار من الزَّحْف لَا يكون كَبِيرَة؛ لِأَن الْمُسلمين بَعضهم فِئَة لبَعض، فَيكون الفار متحيزا إِلَى فِئَة.(2/253)
{فِئَة فقد بَاء بغضب من الله ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (16) فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله}
وَهَذَا مَرْوِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - من الصَّحَابَة - وَيشْهد لذَلِك: قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: لما أصَاب الْمُسلمين يَوْم الجسر مَا أَصَابَهُم وصبروا حَتَّى قتلوا، قَالَ عمر: هلا رجعُوا إليّ وَكَانَ إِذا بعث جَيْشًا بعد ذَلِك يَقُول: أَنا فِئَة لكل مُسلم.
وَيدل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " غزونا غَزْو فحصنا حَيْصَة، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، نَحن الْفَرَّارُونَ؟ فَقَالَ لَا؛ بل أَنْتُم الْعَكَّارُونَ، وَأَنا فِئَتكُمْ ".
وَفِي الْآيَة قَول آخر - وَهُوَ الْمَذْهَب الْيَوْم وَعَلِيهِ عَامَّة الْفُقَهَاء - أَنه إِن كَانَ الْكفَّار أَكثر من مثليهم جَازَ الْفِرَار من الزَّحْف؛ لقَوْله: {الْآن خفف الله عَنْكُم} وَلقَوْله: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} وَلَو صَبَرُوا جَازَ، اللَّهُمَّ أَن يعلمُوا قطعا أَنه لَا يُمكنهُم مقاومتهم، فَحِينَئِذٍ لَا يجوز الصَّبْر؛ لِأَنَّهُ يكون إِلْقَاء لنَفسِهِ فِي التَّهْلُكَة، وَإِن كَانَ الْكفَّار مثلي الْمُسلمين أَو دون المثلين لَا يجوز الْفِرَار من الزَّحْف إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى فِئَة - يَعْنِي: إِلَى فِئَة قريبَة من الْجَيْش مثل السَّرَايَا - والفرار من الزَّحْف إِنَّمَا يكون كَثِيره من هَذِه الصُّورَة.(2/254)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
قَوْله تَعَالَى: {فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ} سَبَب هَذَا: أَن الْمُسلمين لما انصرفوا من قتال بدر، كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يَقُول: أَنا قتلت فلَانا، وَيَقُول الآخر: أَنا قتلت فلَانا؛ فَلم يرض الله تَعَالَى مِنْهُم ذَلِك، وَنزلت الْآيَة: {فَلم تَقْتُلُوهُمْ} يَعْنِي: بقوتكم وعدتكم {وَلَكِن الله قَتلهمْ} (بنصره) إيَّاكُمْ ومعونته لكم. وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَكِن الله قَتلهمْ بسوقهم إِلَيْكُم حَتَّى ظفرتم بهم.(2/254)
{قَتلهمْ وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى وليبلي الْمُؤمنِينَ مِنْهُ بلَاء حسنا إِن الله سميع عليم (17) ذَلِكُم وَأَن الله موهن كيد الْكَافرين (18) إِن تستفتحوا فقد جَاءَكُم الْفَتْح}
وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَكِن الله قَتلهمْ ببعث الْمَلَائِكَة لكم مدَدا، فَقَتلهُمْ الله بِالْمَلَائِكَةِ.
{وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} روى: " أَن النَّبِي أَخذ كفا من الْحَصْبَاء يَوْم بدر وَرمى بِهِ إِلَى وُجُوه الْمُشْركين وَقَالَ: شَاهَت الْوُجُوه. فَلم يبْق مِنْهُم أحد إِلَّا وَأصَاب عَيْنَيْهِ من ذَلِك، وشغل بِعَيْنيهِ ".
{وَمَا رميت إِذْ رميت} يُرِيد بِهِ ذَلِك الرَّمْي بالحصباء الَّتِي أَصَابَت عيونهم؛ إِذْ لَيْسَ هَذَا فِي قدرَة الْبشر أَن ترمي الْحَصْبَاء إِلَى وُجُوه جَيش بِحَيْثُ لَا تبقى عين إِلَّا ويصيبها مِنْهَا؛ {وَلَكِن الله رمى} بقوته وَقدرته. وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا بلغت إِذْ رميت؛ وَلَكِن الله بلغ، وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا رميت بِالرُّعْبِ فِي قُلُوبهم.
{وليبلي الْمُؤمنِينَ مِنْهُ بلَاء حسنا} أَي: نعْمَة حَسَنَة ينعم بهَا على الْمُؤمنِينَ، وَذَلِكَ نعْمَة النَّصْر وَالظفر، والشدة بلَاء، وَالنعْمَة بلَاء، وَالله تَعَالَى يَبْتَلِي عَبده تَارَة بِالنعْمَةِ وَتارَة بالشدة {إِن الله سميع عليم} .(2/255)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم وَأَن الله موهن كيد الْكَافرين} يقْرَأ مخففا ومشددا وَمَعْنَاهُ: مضعف كيد الْكَافرين.(2/255)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
قَوْله: {إِن تستفتحوا فقد جَاءَكُم الْفَتْح} قَالَ الضَّحَّاك: سَبَب هَذَا أَن أَبَا جهل(2/255)
{وَإِن تنتهوا فَهُوَ خير لكم وَإِن تعودوا نعد وَلنْ تغني عَنْكُم فِئَتكُمْ شَيْئا وَلَو كثرت وَأَن الله مَعَ الْمُؤمنِينَ (19) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَرَسُوله وَلَا توَلّوا عَنهُ وَأَنْتُم تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين قَالُوا سمعنَا وهم لَا يسمعُونَ (21) إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ (22) وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا} قَالَ يَوْم بدر: اللَّهُمَّ انصر أحب الفئتين إِلَيْك وَأكْرمهمْ عَلَيْك. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: اللَّهُمَّ أقطعنا للرحم، وأفسدنا للْجَمَاعَة، وأتانا بِمَا لَا نَعْرِف؛ فاخزه الْيَوْم، فَأَجَابَهُ الله تَعَالَى يَقُوله: {إِن تستفتحوا} أَي: إِن تستنصروا فقد جَاءَكُم النَّصْر.
{وَإِن تنتهوا فَهُوَ خير لكم وَإِن تعودوا نعد} أَي: إِن تعودوا إِلَى الدُّعَاء نعد إِلَى الْإِجَابَة، وَإِن تعودوا إِلَى الْقِتَال نعد إِلَى النَّصْر {وَلنْ تغني عَنْكُم فِئَتكُمْ شَيْئا وَلَو كثرت وَأَن الله مَعَ الْمُؤمنِينَ} .(2/256)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَرَسُوله} أَمر الصَّحَابَة بِطَاعَتِهِ وَطَاعَة رَسُوله {وَلَا توَلّوا عَنهُ} أَي: لَا تعرضوا عَنهُ {وَأَنْتُم تَسْمَعُونَ(2/256)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين قَالُوا سمعنَا وهم لَا يسمعُونَ) يَعْنِي: أَنهم لما لم ينتفعوا بِمَا سمعُوا فكأنهم لم يسمعوا، فَلَا تَكُونُوا مثلهم.(2/256)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
قَوْله تَعَالَى: {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ} سمى الْكفَّار صمًّا بكما؛ لأَنهم لما لم يسمعوا الْحق، وَلم ينطقوا بِالْحَقِّ، وَلم يعقلوا الْحق سماهم بذلك، وعدهم من جملَة الْأَنْعَام.(2/256)
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} أَي: لأسمعهم سَماع التفهم وَالْقَبُول لَو علم أَنهم يصلحون لذَلِك.
{وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا} ؟ قيل مَعْنَاهُ: لَو علم فيهم خيرا لأسمعهم سَماع التفهم، وَلَو(2/256)
{دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَن الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه وَأَنه إِلَيْهِ تحشرون (24) } أسمعهم سَماع الآذان لتولوا. وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَو أسمعهم سَماع التفهم لتولوا؛ لما سبق لَهُم من الشقاوة، وَأَنَّهُمْ لَا يصلحون لذَلِك وَلَا خير فيهم. وَقيل: مَعْنَاهُ: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ للنَّبِي: أحيي لنا قصيا؛ فَإِنَّهُ كَانَ شَيخا مُبَارَكًا حَتَّى نشْهد لَك بِالنُّبُوَّةِ فنؤمن بك، فَقَالَ الله تَعَالَى: {وَلَو أسمعهم} كَلَام قصي {لتولوا وهم معرضون} .(2/257)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} قَالَ السّديّ فِي قَوْله: {لما يُحْيِيكُمْ} : أَرَادَ بِهِ الْإِيمَان. وسمى السّديّ بذلك؛ لِأَنَّهُ كَانَ يجلس فِي سدة مَسْجِد الْكُوفَة.
وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ الْقُرْآن. وَقَالَ الْفراء: هُوَ الْجِهَاد. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ الشَّهَادَة.
وروى أَبُو هُرَيْرَة " أَن النَّبِي دَعَا أبي بن كَعْب وَهُوَ فِي الصَّلَاة، فأسرع الْقِرَاءَة وَأتم الصَّلَاة وأجابه، فَقَالَ النَّبِي: مَا مَنعك أَن تُجِيبنِي؟ فَقَالَ: كنت فِي الصَّلَاة، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: أما سَمِعت قَوْله الله تَعَالَى: {اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} ؟ فَقَالَ: علمت، لَا أَعُود ".
{وَاعْلَمُوا أَن الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه} قَالَ سعيد بن جُبَير وَجَمَاعَة: يحول بَين الْمُؤمن وَالْكفْر وَبَين الْكَافِر، وَالْإِيمَان. قَالَ الضَّحَّاك: يحول بَين الْمُؤمن وَالْمَعْصِيَة، وَبَين الْكَافِر وَالطَّاعَة.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن مَعْنَاهُ: يحول بَين الْمُؤمن وَالْخَوْف، وَبَين الْكَافِر والأمن؛ وَذَلِكَ أَن الْكفَّار كَانُوا آمِنين، وَالْمُسْلِمين كَانُوا خَائِفين؛ فأبدل الله تَعَالَى خوف هَؤُلَاءِ بالأمن، وَأمن هَؤُلَاءِ بالخوف، وَعبر بِالْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مَحل الْخَوْف والأمن {وَأَنه إِلَيْهِ تحشرون} .(2/257)
{وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب (25) واذْكُرُوا إِذْ انتم قَلِيل مستضعفون فِي الأَرْض تخافون أَن يتخطفكم النَّاس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطَّيِّبَات لَعَلَّكُمْ تشكرون (26) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم وَأَنْتُم تعلمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنما أَمْوَالكُم}(2/258)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن الْآيَة فِي أَصْحَاب النَّبِي وَمَعْنَاهَا: اتَّقوا عذَابا يُصِيب الظَّالِم وَغير الظَّالِم.
قَالَ الزبير حِين رأى مَا رأى يَوْم الْجمل: مَا علمت أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِينَا أَصْحَاب رَسُول الله حَتَّى كَانَ هَذَا الْيَوْم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس فِي معنى الْآيَة: لَا تقروا الْمُنكر بَيْنكُم، ومروا بِالْمَعْرُوفِ؛ كي لَا يعمكم الله بعقاب، فَيُصِيب الظَّالِم وَغير الظَّالِم.
وَقيل: أَرَادَ بالفتنة: تَفْرِيق الْكَلِمَة وَاخْتِلَاف الآراء، وَاتَّقوا فتْنَة تَفْرِيق الْكَلِمَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة، فَيكون الْعَذَاب مضمرا فِيهِ {وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب} .(2/258)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
قَوْله تَعَالَى: {واذْكُرُوا إِذْ أَنْتُم قَلِيل مستضعفون فِي الأَرْض تخافون أَن يتخطفكم النَّاس} قَالَ وهب بن مُنَبّه: يَعْنِي: تتخطفكم فَارس. وَقَالَ عِكْرِمَة: يتخطفكم كفار الْعَرَب {فآواكم} يَعْنِي: إِلَى الْمَدِينَة {وأيدكم بنصره} أَي: قواكم بنصره {ورزقكم من الطَّيِّبَات} يَعْنِي: الْغَنَائِم {لَعَلَّكُمْ تشكرون} .(2/258)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم} وَلَا تخونوا أماناتكم {وَأَنْتُم تعلمُونَ} قَالَ الْكَلْبِيّ: نزلت الْآيَة فِي أبي لبَابَة بن عبد الْمُنْذر؛ فَإِن النَّبِي لما حاصر بني قُرَيْظَة بَعثه إِلَيْهِم - وَكَانَ مِنْهُم - فَقَالُوا لَهُ: مَاذَا يفعل بِنَا لَو نزلنَا على حكيه؟ فَوضع أُصْبُعه على حلقه وَأَشَارَ إِلَيْهِم بِالذبْحِ - يَعْنِي: يقتلكم - قَالَ أَبُو لبَابَة: فَمَا بَرحت قَدَمَايَ حَتَّى عرفت أَنِّي خُنْت الله وَرَسُوله، وَنزلت الْآيَة ".(2/258)
{وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة وان الله عِنْده أجر عَظِيم (28) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَيغْفر لكم وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم (29) وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله وَالله خير}
وَقيل: الْآيَة فِي جَمِيع الْأَمَانَات، نهي الْعباد عَن الْخِيَانَة فِي الْأَمَانَات، وَتدْخل فِي الْأَمَانَات الطَّاعَات؛ فَإِن الطَّاعَات أمانات عِنْد الْعباد على معنى أَنَّهَا بَينهم وَبَين رَبهم أدوها أَو لم يؤدوها.(2/259)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة وَأَن الله عِنْده أجر عَظِيم} قيل: هَذَا أَيْضا فِي أبي لبَابَة، وَكَانَ فيهم أَهله وَأَوْلَاده وأمواله، فَقَالَ مَا قَالَ خوفًا عَلَيْهِم. وَقيل: هُوَ فِي سَائِر الْخلق. وَفِي الحَدِيث: " الْوَلَد مَجْبَنَة مَبْخَلَة ومجهلة ".
وَرُوِيَ أَن النَّبِي رأى الْحسن وَالْحُسَيْن فَقَالَ: " إِنَّكُم لتجبنوني وتبخلوني وتجهلوني، وَإِنَّكُمْ لمن ريحَان الله " وَأَشَارَ إِلَى الْحسن وَالْحُسَيْن يَعْنِي: توقعون الأباء فِي الْجُبْن وَالْبخل وَالْجهل. وَقَوله: " لمن ريحَان الله " أَي: من رزق الله.(2/259)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي: مخرجا. وَقَالَ جَاهد: منجاة {وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَيغْفر لكم وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} .(2/259)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك} سَبَب نزُول الْآيَة أَن الْمُشْركين اجْتَمعُوا فِي دَار الندوة ليدبروا أَمر رَسُول الله، فَدخل(2/259)
{الماكرين (30) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا قَالُوا قد سمعنَا لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا إِن هَذَا إِلَّا} عَلَيْهِم إِبْلِيس فِي صُورَة شيخ، فَقَالُوا لَهُ: مَا الَّذِي أدْخلك علينا؟ قَالَ: أَنا شيخ من نجد، وَلست من تهَامَة، وَقد بَلغنِي اجتماعكم فِي أَمر هَذَا الرجل، وَأَنه لَا يعدمكم مني رَأْي، فَقَالُوا: اتركوه، ثمَّ تشاوروا، فَقَالَ عتبَة: اربطوه على جمل وأخرجوه من بلدكم تكفكموه الْعَرَب، فَقَالَ إِبْلِيس: لَيْسَ هَذَا بِرَأْي، أما ترَوْنَ حلاوة مَنْطِقه وَأَخذه الْقُلُوب، فَلَو فَعلْتُمْ بِهِ ذَلِك يذهب فيستميل قُلُوب قوم ثمَّ يغزوكم وَيفرق جمعكم، فتركوا ذَلِك، فَقَالَ أَبُو البخْترِي بن هِشَام: نحبسه فِي بَيت ونتربص بِهِ ريب الْمنون، فَقَالَ إِبْلِيس: لَيْسَ هَذَا بِرَأْي، فَإِن لَهُ عشيرة وقوما لَا يرضون بِهِ ويخرجونه، فتركوا ذَلِك، فَقَالَ أَبُو جهل: عِنْدِي رَأْي، هَذِه خَمْسَة أَحيَاء من قُرَيْش، نَخْتَار من كل حَيّ شَابًّا قَوِيا وَنَضَع فِي يَده سَيْفا حادا، ونأمرهم أَن يضربوه دفْعَة وَاحِدَة حَتَّى يتفرق دَمه فِي الْقَبَائِل، ويعجز قومه عَن الْقِتَال فيرضون بِالدِّيَةِ، فَقَالَ إِبْلِيس: هَذَا هُوَ الرَّأْي، وَتَفَرَّقُوا عَلَيْهِ، فَأخْبرهُ الله تَعَالَى يمكرهم، وَنزلت الْآيَة، فروى أَن النَّبِي بعث أَبَا بكر ليتفحص عَن حَالهم، فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِم فَإِذا إِبْلِيس قد خرج من بَينهم، فماشاه سَاعَة ثمَّ لما أَرَادَ أَن يُفَارِقهُ قَالَ لَهُ أَبُو بكر: أَيْن تُرِيدُ؟ فَقَالَ [لَهُ] اللعين: لي قوم بِهَذَا الْوَادي، فَعلم أَبُو بكر أَنه إِبْلِيس، فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أخزاك واظهر دينه، فاختفى مِنْهُ؛ فَقَوله {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا} هُوَ مَكْرهمْ ذَلِك، وَالْمَكْر: التَّدْبِير {ليثبتوك} أَي: ليحبسوك كَمَا قَالَ أَبُو البخْترِي {أَو يَقْتُلُوك} كَمَا قَالَ أَبُو جهل {أَو يخرجوك} كَمَا قَالَ عتبَة.
{ويمكرون ويمكر الله} وَالْمَكْر من الله: التَّدْبِير بِالْحَقِّ، وَقيل: هُوَ الْأَخْذ بَغْتَة. قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: يجازيهم جَزَاء الْمَكْر.
{وَالله خير الماكرين} أَي: خير المدبرين.(2/260)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا قَالُوا قد سمعنَا لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا} هَذَا قَول النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، وَكَانَ قد خرج إِلَى الْحيرَة من أَرض الْعرَاق(2/260)
{أساطير الْأَوَّلين (31) وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم (32) وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ} وَاشْترى أَخْبَار رستم، واسفنديار، وَأَحَادِيث الْعَجم، وَجَاء بهَا إِلَى مَكَّة، وَقَالَ: لَو شِئْت لَقلت مثل الْقُرْآن؛ فَذَلِك قَوْله: {لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا} .
{إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين} أَي: أكاذيب الْأَوَّلين؛ والأساطير: جمع الأسطورة، وَهِي الْمَكْتُوبَة. فَإِن قيل: إِذا كَانَ الْقُرْآن معجزا كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا} وَهل يَقُول أحد: لَو شِئْت قلبت الْحجر ذَهَبا والعصا حَيَّة وَهُوَ عَاجز عَنهُ؟
قيل: إِن الْقُرْآن مطمع مُمْتَنع، فقد يتَوَهَّم صفوهم أَنه يَقُول مثله، وَيمْتَنع عَلَيْهِ ذَلِك فيخطئ ظَنّه. وَقيل: إِنَّه توهم بجهله أَنه يُمكنهُ الْإِتْيَان بِمثلِهِ وَكَانَ عَاجِزا.(2/261)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذَا قَول النَّضر بن الْحَارِث، وَفِي الصَّحِيح بِرِوَايَة أنس أَن هَذَا قَول أبي جهل عَلَيْهِ اللَّعْنَة.
وَهَذَا يدل على شدَّة بصيرتهم فِي الْكفْر، وَأَنه لم تكن لَهُم شُبْهَة وريبة فِي كذب الرَّسُول؛ لِأَن الْعَاقِل لَا يسْأَل الْعَذَاب بِمثل هَذَا مُتَرَدّد فِي أمره؛ وَهَذَا دَلِيل على أَن الْعَارِف لَيست بضرورته.
وَحكى عَن مُعَاوِيَة أَنه قَالَ لرجل من أهل الْيمن: مَا أَجْهَل قَوْمك حَيْثُ قَالُوا: رَبنَا باعد بَين أسفارنا، فَقَالَ الرجل وأجهل من قومِي قَوْمك؛ حَيْثُ قَالُوا: إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم.(2/261)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم} يَعْنِي: أهل مَكَّة {وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} وَفِي مَعْنَاهُ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن هَذَا فِي قوم من الْمُسلمين بقوا بِمَكَّة بعد هِجْرَة الرَّسُول، وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَفِيهِمْ من يسْتَغْفر.(2/261)
{الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم الله وهم يصدون عَن الْمَسْجِد}
وَقيل: فِي قوم علم الله تَعَالَى أَنهم يُؤمنُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ من أهل مَكَّة، وَذَلِكَ مثل: أبي سُفْيَان، وَصَفوَان بن أُميَّة، وَعِكْرِمَة بن أبي جهل، وَسُهيْل بن عَمْرو، وَحَكِيم بن حزَام، وَنَحْوهم، فَلَمَّا كَانَ فِي علم الله تَعَالَى أَنهم لأَصْحَابه يسلمُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ؛ عدهم مستغفرين فِي الْحَال.
وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ الله معذبهم وَفِي أصلابهم من يسْتَغْفر؛ إِذْ كَانَ لبَعْضهِم أَوْلَاد قد أَسْلمُوا.
وَقيل: إِنَّمَا قَالَ: {وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} دَعْوَة لَهُم إِلَى الْإِسْلَام وَالِاسْتِغْفَار، كَالرّجلِ يَقُول: لَا أعاقبك وَأَنت تطيعني، أَي: أطعني حَتَّى لَا أعاقبك.
وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي قَالَ: أنزل الله على أمانين لأمتي: {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} فَإِذا مضيت تركت لَهُم الاسْتِغْفَار إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَهُوَ فِي جَامع أبي عِيسَى بطرِيق أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: من قَالَ فِي كل يَوْم: أسْتَغْفر الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم وَأَتُوب إِلَيْهِ، ثَلَاث مَرَّات، غفر لَهُ ذنُوبه وَإِن كَانَ فَارًّا من الزَّحْف.
وَاسْتدلَّ بِهَذَا الْأَثر من عد الْفِرَار من الزَّحْف من جملَة الْكَبَائِر.(2/262)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم الله} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ التلفيق بَين هَذَا وَبَين قَوْله: {وَمَا كَانَ الله [ليعذبهم] } ؟ قيل: أَرَادَ بِالْأولِ: عَذَاب الاستئصال، وَبِهَذَا: عَذَاب السَّيْف. وَقيل: أَرَادَ بِالْأولِ: عَذَاب الدُّنْيَا، وَبِالثَّانِي: عَذَاب الْآخِرَة.(2/262)
{الْحَرَام وَمَا كَانُوا أولياءه إِن أولياءه إِلَّا المتقون وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (34) وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون (35) إِن}
وَقيل: المُرَاد بِهِ أُولَئِكَ الَّذين ترك تعذيبهم؛ لكَون النَّبِي بَينهم، وَمَعْنَاهُ: وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم الله بعد خُرُوجك من بَينهم.
{وهم يصدون عَن الْمَسْجِد الْحَرَام} أَي: يمْنَعُونَ عَنهُ {وَمَا كَانُوا أولياءه} وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يدعونَ: إِنَّا أَوْلِيَاء الْبَيْت {إِن أولياؤه إِلَّا المتقون} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} .(2/263)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية} قَالَ ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُم - وَالْحسن المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق. والمكاء فِي اللُّغَة: اسْم طَائِر لَهُ صفير فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا صَوت مكاء، وَقَالَ مُجَاهِد: والمكاء أَن يَجْعَل أَصَابِعه فِي شدقيه، والتصدية: الصفير؛ فجعلهما شَيْئا وَاحِدًا. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: التصدية: هِيَ صدهم الْمُؤمنِينَ عَن الْمَسْجِد الْحَرَام. وَالْأول أصح، قَالَ الشَّاعِر:
(وحليل غانية تركت مجدلا ... تمكو فريصته كشدق الأعلم)
أَي: تصفر فريصته كشدق الأعلم.
والقصة فِي ذَلِك: أَن أَرْبَعَة من بني عبد الدَّار كَانُوا إِذا صلى النَّبِي فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وقف اثْنَان عَن يَمِينه، وَاثْنَانِ عَن يسَاره، فيصفر اللَّذَان عَن يَمِينه ويصفق اللَّذَان عَن يسَاره حَتَّى يخلطوا عَلَيْهِ الْقِرَاءَة.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: إِنَّمَا سَمَّاهُ صَلَاة؛ لأَنهم أمروا بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِد، فَلَمَّا وضعُوا ذَلِك مَوضِع الصَّلَاة سَمَّاهُ صَلَاة {فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون} .(2/263)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الذيك كفرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ليصدوا عَن سَبِيل الله فيسنفقونها ثمَّ تكون عَلَيْهِم حسرة ثمَّ يغلبُونَ} فِيهِ قَولَانِ:(2/263)
{الَّذين كفرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ليصدوا عَن سَبِيل الله فسينفقونها ثمَّ تكون عَلَيْهِم حسرة ثمَّ يغلبُونَ وَالَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم يحشرون (36) ليميز الله الْخَبيث من الطّيب وَيجْعَل الْخَبيث بعضه على بعض فيركمه جَمِيعًا فَيَجْعَلهُ فِي جَهَنَّم أُولَئِكَ هم الخاسرون (37) قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف وَإِن يعودوا فقد مَضَت سنت}
أَحدهمَا: أَن الْآيَة فِي المطمعين يَوْم بدر، وهم اثْنَا عشر نَفرا من رُؤْس الْمُشْركين: أَبُو جهل بن هِشَام، والْحَارث بن هِشَام، وَأبي بن خلف، وَعتبَة وَشَيْبَة ابْنا ربيعَة، ومنبه وَنبيه ابْنا الْحجَّاج، وَأَبُو البخْترِي بن هِشَام، وَحَكِيم بن حزَام، وَالنضْر بن الْحَارِث، وَزَمعَة بن الْأسود، وَالْعَبَّاس بن عبد الْمطلب؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم كَانَ كل يَوْم ينْحَر عشرَة أَبْعِرَة وَيطْعم الْجَيْش.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا فِي أبي سُفْيَان بن حَرْب اسْتَأْجر ثَلَاثَة آلَاف رجل من الْأَحَابِيش يَوْم أحد لقِتَال النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - فَنزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ليصدوا عَن سَبِيل الله ثمَّ تكون حسرة عَلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ يغلبُونَ} .
قَالَ الْحسن: أَشد النَّاس حسرة يَوْم القيامه من يرى مَاله فِي ميزَان غَيره {وَالَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم يحشرون} .(2/264)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
قَوْله تَعَالَى: {ليميز الله الْخَبيث من الطّيب} أَي: ليفرق الله الْخَبيث من الطّيب؛ الْخَبيث: مَا أنْفق من الْحَرَام، وَالطّيب: مَا أنْفق من الْحَلَال. وَقيل: الْخَبيث مَا أنْفق فِي الْمعْصِيَة، وَالطّيب مَا أنْفق فِي الطَّاعَة.
{وَيجْعَل الْخَبيث بعضه على بعض فيركمه جَمِيعًا} أَي: يجمعه جَمِيعًا؛ يُقَال: سَحَاب مركوم إِذا كَانَ بعضه على بعض {فَيَجْعَلهُ فِي جَهَنَّم أُولَئِكَ هم الخاسرون} .
وَعَن عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِن الله تَعَالَى يجمع الدُّنْيَا يَوْم الْقِيَامَة، فَيَأْخُذ مَاله ويطرح الْبَاقِي فِي النَّار. ولأي معنى يطرحه فِي النَّار؟ قيل: ليضيق الْمَكَان على الْكفَّار، وَقيل: لتَكون الْحَسْرَة أَشد عَلَيْهِم إِذا نظرُوا إِلَيْهَا.(2/264)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
قَوْله تَعَالَى: {قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} قَالَ يحيى بن(2/264)
{الْأَوَّلين (38) وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدّين كُله لله فَإِن انْتَهوا فَإِن الله بِمَا يعْملُونَ بَصِير (39) وَإِن توَلّوا فاعلموا أَن الله مولاكم نعم الْمولى وَنعم النصير (40) وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى} معَاذ الرَّازِيّ - رَحمَه الله - إِيمَان لم يعجز عَن هدم كفر قبله فَمَتَى يعجز عَن هدم ذَنْب بعده!
{وَإِن يعودوا فقد مَضَت سنة الْأَوَّلين} قيل: سنة الْأَوَّلين: أَن يصل عَذَاب الدُّنْيَا بعقوبة الْآخِرَة.(2/265)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
قَوْله تَعَالَى: {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} أَي: لَا يكون شرك {وَيكون الدّين كُله لله فَإِن انْتَهوا فَإِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير وَإِن توَلّوا فاعلموا أَن الله مولاكم نعم الْمولى وَنعم النصير} فالمولى: الْقيم بالأمور، والنصير: النَّاصِر.(2/265)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ} الْآيَة.
اخْتلف الْعلمَاء فِي الْغَنِيمَة والفيء؛ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُمَا سَوَاء، وَهُوَ المَال الْمَأْخُوذ من الْكفَّار على وَجه الْقَهْر.
وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح -: أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَالْفرق بَينهمَا: أَن الْغَنِيمَة: هِيَ المَال الْمَأْخُوذ من الْكفَّار على وَجه العنوة بِإِيجَاف الْخَيل والركاب، والفيء: هُوَ المَال الْمَأْخُوذ من غير إيجَاف خيل وَلَا ركاب.
وَهَذَا القَوْل مَنْقُول عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَالشَّافِعِيّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَغَيرهمَا.
{فَأن الله} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن قَوْله: {لله} افْتِتَاح كَلَام، وَلَيْسَ لله سهم مُنْفَرد؛ بل سهم الله وَسَهْم الرَّسُول وَاحِد.
وَفِيه قَول آخر: أَن لله سَهْما يصرف إِلَى الْكَعْبَة. وَقد رُوِيَ أَن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة فَقَالَ: قَوْله {فَأن لله خَمْسَة} افْتِتَاح كَلَام، لله الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي قَالَ: " كَانَ رَسُول الله يقسم الْغَنِيمَة على(2/265)
خَمْسَة أسْهم، فيفرز الْخمس مِنْهُ، ثمَّ يَأْخُذ مِنْهُ قَبْضَة فَيَجْعَلهُ للكعبة، ثمَّ يقسم الْبَاقِي على مَا ذكر الله ".
وَأما قَوْله: {وَلِلرَّسُولِ} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن للرسول سَهْما مُفردا. وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ للرسول سهم أصلا؛ وَإِنَّمَا هُوَ افْتِتَاح كَلَام، وَمعنى ذكر الرَّسُول أَن التَّدْبِير إِلَيْهِ.
ثمَّ اخْتلفُوا على القَوْل الأول أَن ذَلِك السهْم بعد مَوته لمن يكون؟
قَالَ قَتَادَة: هُوَ للخليفة بعده. وَقَالَ بَعضهم: يرد إِلَى الأسهم الْأَرْبَعَة. وَأما مَذْهَب الشَّافِعِي: أَن ذَلِك السهْم يصرف إِلَى الْمصَالح.
وَفِيه قَول رَابِع: أَنه يصرف إِلَى الكراع وَالسِّلَاح فِي سَبِيل الله. وَهَذَا مَرْوِيّ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَغَيره.
وَأما قَوْله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} اخْتلفُوا فِي هَذَا على ثَلَاثَة أقاويل:
فمذهب الشَّافِعِي: أَن لَهُم سَهْما مُفردا بعد رَسُول الله إِلَى قيام السَّاعَة، يشْتَرك فِيهِ أغنياؤهم وفقراؤهم على مَا هُوَ الْمَعْرُوف. وَهَذَا قَول أَحْمد وَغَيره.
وَقَالَ مَالك: الْأَمر فِيهِ إِلَى الإِمَام إِن شَاءَ أَعْطَاهُم، وَإِن شَاءَ لم يعطهم، وَكَذَلِكَ فِي الْبَاقِي، وَإِنَّمَا ذكرُوا لجَوَاز الصّرْف إِلَيْهِم لَا للاستحقاق.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة - رَضِي الله عَنهُ -: أَن سهم ذَوي الْقُرْبَى يرد إِلَى البَاقِينَ، وَلَيْسَ لَهُم سهم مُفْرد، فَيقسم على ثَلَاثَة أسْهم لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل. ويروون هَذَا عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة أَنهم قسموا على هَذَا الْوَجْه، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي ذَوي الْقُرْبَى من هم؟ قَالَ مُجَاهِد. هم بَنو هَاشم خَاصَّة؛ وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: جَمِيع قُرَيْش. وَحكى عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن سهم ذَوي الْقُرْبَى فَقَالَ: نزعم أَنه لنا، ويأبى قَومنَا ذَلِك علينا.(2/266)
{وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَمَا أنزلنَا على عَبدنَا يَوْم الْفرْقَان يَوْم التقى}
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن ذَوي الْقُرْبَى هم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي - رَحمَه الله - وَقد دلّ عَلَيْهِ الْخَبَر الْمَرْوِيّ بطرِيق جُبَير بن مطعم - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي: " قسم سهم ذَوي الْقُرْبَى بَين بني هَاشم وَبني الْمطلب، فمشيت أَنا وَعُثْمَان إِلَى رَسُول الله وَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، إِنَّا لَا ننكر فَضِيلَة بني هَاشم لِمَكَانِك الَّذِي وضعك الله فيهم؛ ولكننا وإخواننا بني الْمطلب فِي الْقَرَابَة مِنْك سَوَاء، وَقد أَعطيتهم وَحَرَمْتنَا، فَقَالَ: أَنا وَبني الْمطلب شَيْء وَاحِد - وَشَبك بَين أَصَابِعه - وَإِنَّهُم لم يفارقونا فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام ". ٍ
وَأما قَوْله تَعَالَى: {واليتامى} فاليتامى لَهُم سهم مُفْرد بِالْإِنْفَاقِ، واليتيم الَّذِي يسْتَحق السهْم هُوَ الَّذِي لَا أَب لَهُ فَيكون صَغِيرا فَقِيرا.
وَقَوله: {وَالْمَسَاكِين} فالمساكين هم أهل الْحَاجة، وَسَيَرِدُ الْفرق بَين الْمِسْكِين وَالْفَقِير فِي سُورَة بَرَاءَة.
وَأما قَوْله: {وَابْن السَّبِيل} فَهُوَ الْمُنْقَطع الَّذِي بعد عَن مَاله.
وَقَوله: {إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه} مَعْنَاهُ: وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ، على مَا ذكر، إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه. وَقيل مَعْنَاهُ: يأمران فِيهِ بِمَا يُريدَان فاقبلوا إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أنزلنَا} يَعْنِي: إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَبِمَا أنزلنَا {على عَبدنَا} .
وَفِيه قَول آخر: أَن هَذَا رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَبِمَا أنزلنَا على عَبدنَا {يَوْم الْفرْقَان} يَوْم بدر، فرق الله تَعَالَى فِيهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل {يَوْم التقى الْجَمْعَانِ} مَعْنَاهُ: التقى حزب الله وحزب الشَّيْطَان(2/267)
{الْجَمْعَانِ وَالله على كل شَيْء قدير (41) إِذْ إنتم بالعدوة الدُّنْيَا وهم بالعدوة القصوى والركب أَسْفَل مِنْكُم وَلَو تواعدتم لاختلفتم فِي الميعاد وَلَكِن ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة وَيحيى من حَيّ عَن بَيِّنَة وَإِن الله لسميع عليم (42) إِذْ}
{وَالله على كل شَيْء قدير} .
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: يَوْم الْفرْقَان يَوْم السَّابِع عشر من رَمَضَان أخبر الله تَعَالَى بِتمَام قدرته.(2/268)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ أَنْتُم بالعدوة الدُّنْيَا} الْآيَة، العدوة: شَفير الْوَادي؛ والغدوة والعدوة وَاحِد، وَقَوله {الدُّنْيَا} يَعْنِي: الْأَدْنَى من الْمَدِينَة؛ فَهِيَ تَأْنِيث الْأَدْنَى {وهم بالعدوة القصوى} يَعْنِي: الْأَقْصَى من مَكَّة؛ وَهِي تَأْنِيث الْأَقْصَى {والركب أَسْفَل مِنْكُم} قَالُوا مَعْنَاهُ: والركب بمنزل أَسْفَل مِنْكُم. والركب: هُوَ العير الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَان، وَكَانُوا بساحل الْبَحْر على ثَلَاثَة أَمْيَال من بدر {وَلَو تواعدتم لاختلفتم فِي الميعاد} مَعْنَاهُ: وَلَو تواعدتم الِاتِّفَاق والاجتماع لِلْقِتَالِ لاختلفتم لقلتكم وكثرتهم {فِي الميعاد وَلَكِن} الله جمع من غير ميعاد {ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} .
قَوْله تَعَالَى: {ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة} الْآيَة فِيهَا قَولَانِ:
أَحدهمَا - وَهُوَ الْأَظْهر -: أَن الْهَلَاك هُوَ الْكفْر، والحياة هِيَ الْإِيمَان، وَمَعْنَاهُ: ليكفر من كفر عَن حجَّة بَيِّنَة فِيمَا لَهُ وَعَلِيهِ {ويحيا من حَيّ} يَعْنِي: ويؤمن من آمن على مثل ذَلِك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْهَلَاك هُوَ الْمَوْت، والحياة هِيَ الْعَيْش، وَمَعْنَاهُ: ليَمُوت من يَمُوت عَن حجَّة بَيِّنَة، ويعيش من يعِيش على مثل ذَلِك.
{وَإِن الله لسميع عليم} سميع لأقوالكم، عليم بأموركم.(2/268)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يريكهم الله فِي مَنَامك قَلِيلا} الْآيَة فِيهَا قَولَانِ:
أظهر الْقَوْلَيْنِ: أَن الْمَنَام حَقِيقَة النّوم؛ فَرَآهُمْ رَسُول الله فِي نَومه أقل مِمَّا كَانُوا(2/268)
{يريكهم الله فِي مَنَامك قَلِيلا وَلَو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم فِي الْأَمر وَلَكِن الله سلم إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (43) وَإِذ يريكموهم إِذا التقيتم فِي أعينكُم قَلِيلا ويقللكم فِي أَعينهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (44) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فِي الْعدَد.
وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ: أَنه قَوْله تَعَالَى: {فِي مَنَامك} أَي: فِي عَيْنك قَلِيلا؛ وسمى الْعين مناما؛ لِأَنَّهَا مَوضِع النّوم.
{وَلَو أراكهم كثيرا لفشلتم} لجبنتم {ولتنازعتم فِي الْأَمر} يَعْنِي: فِي الإحجام والإقدام {وَلَكِن الله سلم} أَي: سلمكم من الفشل والجبن {إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور} .
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه كَانَ يستعيذ بِاللَّه من الْجُبْن.(2/269)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يريكموهم إِذْ التقيتم فِي أعينكُم قَلِيلا ويقللكم فِي أَعينهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور} معنى الْآيَة: أَن الله تَعَالَى قلل الْمُشْركين فِي أعين الْمُؤمنِينَ؛ ليقدموا وَلَا يجبنوا، وقلل الْمُؤمنِينَ فِي أعين الْكفَّار؛ لِئَلَّا يهربوا.
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: قلت يَوْم بدر لبَعض من كَانَ بجنبي: تراهم سبعين رجلا، فَقَالَ: أَرَاهُم مائَة، ثمَّ إِنَّا أسرنا مِنْهُم فَقُلْنَا لَهُم: كم كُنْتُم؟ فَقَالُوا: كُنَّا ألفا {ليقضي الله} يَعْنِي: ليقضي الله من إعلاء الْإِسْلَام وإذلال الشّرك ونصرة الْمُؤمنِينَ وَقتل الْمُشْركين.(2/269)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم فِئَة} الْآيَة، الفئة: الْجَمَاعَة.(2/269)
{إِذا لَقِيتُم فِئَة فاثبتوا واذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون (45) وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم واصبروا إِن الله مَعَ الصابرين (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين خَرجُوا من دِيَارهمْ بطرا ورئاء النَّاس ويصدون عَن سَبِيل الله وَالله بِمَا يعلمُونَ}
قَوْله: {فاثبتوا واذْكُرُوا الله كثيرا} وَمعنى ذكر الله: هُوَ الدُّعَاء بالنصرة وَالظفر {لَعَلَّكُمْ تفلحون} وَكُونُوا على رَجَاء الْفَلاح.(2/270)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله} الْآيَة، وَقَوله: {وَلَا تنازعوا فتفشلوا} مَعْنَاهُ: وَلَا تختلفوا فتضعفوا {وَتذهب ريحكم} مَعْنَاهُ: جدكم وجهدكم.
وَقَالَ قَتَادَة: الرّيح هَاهُنَا: ريح النُّصْرَة. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " نصرت بالصبا، وأهلكت عَاد بالدبور ".
وَالْقَوْل الثَّالِث، قَول الْأَخْفَش وَغَيره: وَتذهب ريحكم أَي: دولتكم {واصبروا إِن الله مَعَ الصابرين} مَعْلُوم التَّفْسِير.
وَفِي الْآيَة فَضِيلَة عَظِيمَة لأهل الصَّبْر؛ فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {إِن الله مَعَ الصابرين} قَالَ الشَّاعِر:
(إِنِّي رَأَيْت فِي الْأَيَّام تجربة ... للصير عَاقِبَة محمودة الْأَثر)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين خَرجُوا من دِيَارهمْ بطرا ورئاء النَّاس} الْآيَة، البطر: الطغيان فِي النِّعْمَة وَترك الشُّكْر، والرياء: إِظْهَار الْجَمِيل وإبطان الْقَبِيح.
وَالْآيَة نزلت فِي الْمُشْركين حِين أَقبلُوا إِلَى بدر،(2/270)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
فَقَالَ تَعَالَى للْمُؤْمِنين: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين خَرجُوا من دِيَارهمْ بطرا ورئاء النَّاس} .
{ويصدون عَن سَبِيل الله} مَعْنَاهُ: يمْنَعُونَ عَن سَبِيل الْحق {وَالله بِمَا يعلمُونَ مُحِيط} رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ حِين أقبل الْمُشْركُونَ: " اللَّهُمَّ هَذِه قُرَيْش أَقبلت(2/270)
{مُحِيط (47) وَإِذ زين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم وَقَالَ لَا غَالب لكم الْيَوْم من النَّاس وَإِنِّي جَار لكم فَلَمَّا تراءت الفئتان نكص على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْكُم وَإِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ إِنِّي أَخَاف الله وَالله شَدِيد الْعقَاب (48) إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض} بفخرها وخيلائها تُحَادك وتحاد رَسُولك " الْخَبَر إِلَى آخِره.(2/271)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ زين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم وَقَالَ لَا غَالب لكم الْيَوْم من النَّاس} الْآيَة. رُوِيَ أَن إِبْلِيس - عَلَيْهِ مَا يسْتَحق - تمثل فِي صُورَة سراقَة بن مَالك وَقَالَ للْمُشْرِكين: {وَإِنِّي جَار لكم} مَعْنَاهُ: مجير لكم من بني كنَانَة، فَلَا يُصِيبكُم مِنْهُم سوء، ثمَّ جعل يحرضهم على الْقِتَال {فَلَمَّا تراءت الفئتان} أَي: تلاقت الفئتان، الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُشْرِكُونَ {نكص على عَقِبَيْهِ} رَجَعَ الْقَهْقَرِي على عَقِبَيْهِ {وَقَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْكُم} فِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ آخِذا بيد الْحَارِث بن هِشَام أخي أبي جهل، فَلَمَّا رأى الْمَلَائِكَة ينزلون من السَّمَاء يقدمهم جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - نزع يَده من يَد الْحَارِث وهرب، فَقَالَ لَهُ الْحَارِث: أفرارا من غير قتال؟ وَجعل يمسِكهُ، فَدفع فِي صَدره وَقَالَ: {إِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ} وهرب {إِنِّي أَخَاف الله} .
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ إِنِّي أَخَاف الله وَقد ترك السُّجُود لآدَم وَهُوَ لم يخف الله؟ الْجَواب فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه قَالَ هَذَا كذبا، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه خَافَ أَن يُؤْخَذ فيفتضح بَين الْإِنْس. وَمِنْهُم من قَالَ: خَافَ أَنه قد حضر أَجله {وَالله شَدِيد الْعقَاب} .(2/271)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض غر هَؤُلَاءِ دينهم} هَؤُلَاءِ قوم كَانُوا أَسْلمُوا بِمَكَّة وَلم يهاجروا، فَكَانَ فِي قُلُوبهم بعض الريب، فَخَرجُوا مَعَ الْمُشْركين وَقَالُوا: إِن نرى مَعَ مُحَمَّد قُوَّة انتقلنا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا قلَّة الْمُؤمنِينَ وَضعف شوكتهم قَالُوا هَذَا القَوْل، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة {إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ} الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: {وَمن يتوكل على الله} وَمن يَثِق بِاللَّه {فَإِن الله عَزِيز حَكِيم} قد(2/271)
{غر هَؤُلَاءِ دينهم وَمن يتوكل على الله فَإِن الله عَزِيز حَكِيم (49) وَلَو ترى إِذْ يتوفى الَّذين كفرُوا الْمَلَائِكَة يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق (50) ذَلِك بِمَا قدمت أَيْدِيكُم وَأَن الله لَيْسَ بظلام للعبيد (51) كدأب آل فِرْعَوْن وَالَّذين من قبلهم كفرُوا بآيَات الله فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ إِن الله قوي شَدِيد الْعقَاب (52) ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم وَأَن الله سميع عليم} بَينا معنى الْعَزِيز الْحَكِيم من قبل.(2/272)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ يتوفى الَّذين كفرُوا الْمَلَائِكَة} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن هَذَا عِنْد الْمَوْت، وَقَوله: {يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم} يضْربُونَ وُجُوههم بأسواط النَّار، وأدبارهم سوقا إِلَى الْعَذَاب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن التوفي هَاهُنَا هُوَ الْقَتْل، وَمَعْنَاهُ: قتل الْمَلَائِكَة الْمُشْركين ببدر، وَقَوله {يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم} مَعْنَاهُ: يضربونهم بِالسَّيْفِ إِذا أَقبلُوا. وَقَوله {وأدبارهم} ويضربونهم بِالسَّيْفِ إِذا أدبروا، وَيَقُولُونَ: {وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق} .
رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: مَعَ الْمَلَائِكَة مَقَامِع من حَدِيد يضْربُونَ بهَا الْكفَّار، فتلتهب النَّار فِي جراحاتهم؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق} .(2/272)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِمَا قدمت أَيْدِيكُم وَأَن الله لَيْسَ بظلام للعبيد} وَمَعْنَاهُ ظَاهر.(2/272)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
قَوْله تَعَالَى: {كدأب آل فِرْعَوْن} الْآيَة، الدأب هَاهُنَا بِمَعْنى الْعَادة، وَمَعْنَاهُ: عَادَتهم فِي الْكفْر كعادة آل فِرْعَوْن {وَالَّذين من قبلهم كفرُوا بآيَات الله} الْآيَة، وَمعنى الْآيَة ظَاهر.(2/272)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم} الْآيَة، فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: مَعْنَاهُ: {لم يكن مغيرا نعْمَة} يَعْنِي: لم يكن مبدلا النِّعْمَة بالبلية(2/272)
( {53) كدأب آل فِرْعَوْن وَالَّذين من قبلهم كذبُوا بآيَات رَبهم فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وأغرقنا آل فِرْعَوْن وكل كَانُوا ظالمين (54) إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الَّذين كفرُوا فهم لَا يُؤمنُونَ (55) الَّذين عَاهَدت مِنْهُم ثمَّ ينقضون عَهدهم فِي كل مرّة وهم لَا يَتَّقُونَ} {حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} يَعْنِي: حَتَّى يتْركُوا الشُّكْر، ويؤتوا الكفران.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا فِي أهل مَكَّة؛ فَإِن الرَّسُول كَانَ نعْمَة أنعمها الله تَعَالَى عَلَيْهِم، فَكَفرُوا بِهَذِهِ النِّعْمَة، فغيرها الله تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: أَنه نقلهَا إِلَى أهل الْمَدِينَة {وَأَن الله سميع عليم} معلومان.(2/273)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
قَوْله تَعَالَى: {كدأب آل فِرْعَوْن} وَمَعْنَاهُ: مَا بَينا، وإعادة الذّكر للتَّأْكِيد، وَيجوز أَن هَذَا كَانَ فِي قوم آخَرين سوى الْأَوَّلين.
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين من قبلهم كذبُوا بآيَات رَبهم فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ} يَعْنِي: نهلك هَؤُلَاءِ كَمَا أهلكنا أُولَئِكَ.
قَوْله تَعَالَى: {وأغرقنا آل فِرْعَوْن وكل كَانُوا ظالمين} يَعْنِي: الْأَوَّلين والآخرين.(2/273)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)
قَوْله تَعَالَى: {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الَّذين كفرُوا} الْآيَة. هَذِه الْآيَة مثل قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ} سماهم الله تَعَالَى دَوَاب وأنعاماً؛ لقلَّة انتفاعهم بعقولهم وألبابهم وأسماعهم وأبصارهم {فهم لَا يُؤمنُونَ} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/273)
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين عَاهَدت مِنْهُم} هَذِه الْآيَة نزلت فِي قوم من الْمُشْركين عَاهَدُوا مَعَ رَسُول الله ثمَّ نقضوا الْعَهْد، فَقَالَ الله تَعَالَى: {الَّذين عَاهَدت مِنْهُم ثمَّ ينقضون عَهدهم فِي كل مرّة} يَعْنِي: كلما عَاهَدُوا نقضوا {وهم لَا يَتَّقُونَ} مَعْنَاهُ: لَا يَتَّقُونَ نقض الْعَهْد.(2/273)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
قَوْله تَعَالَى: {فإمَّا تثقفنهم فِي الْحَرْب} مَعْنَاهُ: فإمَّا تصادفنهم فِي الْحَرْب {فشرد بهم من خَلفهم} قَالَ سعيد بن جُبَير: أنذر بهم من خَلفهم، قَالَ الشَّاعِر:
(أَطُوف فِي الأباطح كل يَوْم ... مَخَافَة أَن يشرد بِي حَكِيم)(2/273)
( {56) فإمَّا تثقفهم فِي الْحَرْب فشرد بهم من خَلفهم لَعَلَّهُم يذكرُونَ (57) وَإِمَّا تخافن من قوم خِيَانَة فانبذ إِلَيْهِم على سَوَاء إِن الله لَا يحب الخائنين (58) وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا سبقوا إِنَّهُم لَا يعجزون (59) وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل}
قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّهُم يذكرُونَ} يَعْنِي: يتذكرون.
وَمعنى الْآيَة: أَي نكل بهؤلاء الَّذين جَاءُوا لحربك أَو نقضوا عَهْدك تنكيلا يفرق بَينهم من خَلفهم من جماعاتهم.(2/274)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
فَقَوله تَعَالَى: {وَإِمَّا تخافن من قوم خِيَانَة} الْآيَة، معنى المخافة هَاهُنَا: هُوَ الإحساس بالخيانة {فانبذ إِلَيْهِم على سَوَاء} يَعْنِي: فانبذ الْعَهْد إِلَيْهِم {على سَوَاء} يَعْنِي: على حَالَة تستوي أَنْت وهم فِي الْعلم بِهِ.
وَالْمرَاد من الْآيَة: أَلا تقَاتلهمْ قبل نبذ الْعَهْد، وَقبل علمهمْ بالنبذ حَتَّى لَا تنْسب إِلَى نقض الْعَهْد، وَهَذِه الْآيَة تعد من فصيح الْقُرْآن.
قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يحب الخائنين} وَالْمعْنَى مَعْلُوم.(2/274)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
قَوْله تَعَالَى (وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا سبقوا) الْآيَة فِي الْقَوْم الَّذين انْهَزمُوا يَوْم بدر من الْمُشْركين، قَوْله: {سبقوا} يَعْنِي: فاتوا.
قَوْله {إِنَّهُم لَا يعجزون} يَعْنِي: لَا يفوتوني. وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: " لايعجزون " وَالصَّحِيح الْقِرَاءَة الأولى. وَقد قُرِئت الْآيَة بقراءتين: " أَنهم " و " إِنَّهُم " فَقَوله: " إِنَّهُم " على طَرِيق الِابْتِدَاء، وَقَوله: " أَنهم " يَعْنِي: لأَنهم لَا يفوتون. وَمعنى الْفَوات مَنْقُول عَن أبي عُبَيْدَة، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: {لَا يعجزون} مَعْنَاهُ: إِن فاتهم عَذَاب الدُّنْيَا لَا يفوتهُمْ من عَذَاب الْآخِرَة.(2/274)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
وَقَوله تَعَالَى: {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل} الْآيَة، الإعداد: اتِّخَاذ الشَّيْء لوقت الْحَاجة، وَقَوله: {من قُوَّة} فِيهِ أَقْوَال:(2/274)
{ترهبون بِهِ عَدو الله وَعَدُوكُمْ وَآخَرين من دونهم لَا تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ وَمَا تنفقوا}
أَحدهَا: مَا روى عقبَة بن عَامر: " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة على الْمِنْبَر ثمَّ قَالَ: أَلا إِن الْقُوَّة الرَّمْي، أَلا إِن الْقُوَّة الرَّمْي ". أوردهُ مُسلم فِي " الصَّحِيح ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ أَن الْقُوَّة: ذُكُور الْخَيل، والرباط: إناثها. هَذَا قَول عِكْرِمَة.
وَرُوِيَ عَن خَالِد بن الْوَلِيد أَنه كَانَ لَا يركب فِي الْقِتَال إِلَّا الْإِنَاث؛ لقلَّة صهيلها.
وَعَن أبي محيريز قَالَ: كَانُوا يستحبون ركُوب ذُكُور الْخَيل عِنْد الصُّفُوف، وركوب إناث الْخَيل عِنْد الثَّبَات والغارات.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْقُوَّة: هِيَ جَمِيع الأسلحة. وَقد قيل: إِن الْقُوَّة: الْحُصُون؛ والحصون: الْخُيُول، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَقَد علمت على تجنبي الردى ... أَن الْحُصُون الْخَيل لَا مدر الْقرى)
وَقَوله: {ترهبون بِهِ} مَعْنَاهُ: تخيفون بِهِ {عَدو الله وَعَدُوكُمْ} أَي: أَعدَاء الله وأعداءكم وَاحِد بِمَعْنى الْجمع. وَقَوله: {وَآخَرين من دونهم} أَي: ترهبون بِهِ آخَرين من دونهم، وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ:
رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: هم بَنو قُرَيْظَة. وَفِيه قَول آخر: أَنهم المُنَافِقُونَ.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَنهم الْجِنّ. وَعَن السدى أَنه قَالَ: أهل فَارس.
وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لن يخبل الْجِنّ آدَمِيًّا فِي دَاره فرس عَتيق ". أوردهُ النقاش فِي تَفْسِيره.(2/275)
{من شَيْء فِي سَبِيل الله يوف إِلَيْكُم وَأَنْتُم لَا تظْلمُونَ (60) وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا وتوكل على الله إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (61) وَإِن يُرِيدُوا أَن يخدعوك فَإِن حَسبك الله هُوَ الَّذِي أيدك بنصره وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَألف بَين قُلُوبهم لَو أنفقت مَا فِي الأَرْض}
وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: رُوِيَ عَن معَاذ بن جبل أَنه قَالَ: {وَآخَرين من دونهم} يَعْنِي: الشَّيَاطِين.
وَقَوله: {لَا تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ} ظَاهر.
قَوْله: {وَمَا تنفقوا من شَيْء فِي سَبِيل الله يوف إِلَيْكُم وَأَنْتُم لَا تظْلمُونَ} أَي: لَا ينقص أجوركم.(2/276)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا} السّلم وَالسّلم وَالسّلم: الصُّلْح، وَمَعْنَاهُ: وَإِن مالوا إِلَى الصُّلْح فمل إِلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَن الْحسن وَقَتَادَة أَنَّهُمَا قَالَا: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَة السَّيْف.
قَوْله تَعَالَى: {وتوكل على الله} مَعْنَاهُ: ثق بِاللَّه {إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} .(2/276)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يُرِيدُوا أَن يخدعوك} الخداع: أَن يظْهر خلاف مَا يبطن.
قَوْله: {فَإِن حَسبك الله} يَعْنِي: فَإِن كافيك هُوَ {هُوَ الَّذِي أيدك بنصره} هُوَ الَّذِي قواك بنصره {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} أَي: قواك بِالْمُؤْمِنِينَ(2/276)
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
{وَألف بَين قُلُوبهم} أَكثر الْمُفَسّرين أَن هَذَا فِي الْأَوْس والخزرج؛ وَقد كَانَت بَينهم إحن وتراث فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ الْقِتَال بَينهم قَائِما مائَة سنة، فألف الله بَين قُلُوبهم بِالنَّبِيِّ قَالَ الزّجاج: كَانَ الرجل مِنْهُم يلطم اللَّطْمَة فَكَانَ يُقَاتل بقوته إِلَى أَن يَسْتَفِيد مِنْهَا، فألف الله بَين قُلُوبهم بِالْإِسْلَامِ، حَتَّى صَار الرجل يُقَاتل أَخَاهُ وقريبه على الْإِسْلَام.
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: نزلت الْآيَة فِي المتحابين فِي الله.
وَفِي الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْمُؤمن مألفة، وَلَا خير فِيمَن لَا يؤلف وَلَا(2/276)
{جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم إِنَّه عَزِيز حَكِيم (63) يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ (64) يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال إِن} يألف.
وَعَن خَالِد بن معدان أَنه قَالَ: إِنَّه لله ملكا فِي السَّمَاء؛ نصفه من ثلج وَنصفه من نَار، وتسبيحه: اللَّهُمَّ كَمَا ألفت بَين الثَّلج وَالنَّار فألف بَين قُلُوب عِبَادك الصَّالِحين.
قَوْله {لَو أنفقت مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم إِنَّه عَزِيز حَكِيم} أَي منيع فِي ملكه، حَكِيم فِي خلقه.(2/277)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة الْوَالِبِي أَنه قَالَ: أسلم تِسْعَة وَثَلَاثُونَ رجلا وَثَلَاث وَعِشْرُونَ امْرَأَة، ثمَّ أسلم عمر رَضِي الله عَنهُ تَمام الْأَرْبَعين، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَفِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: {يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك} أَي: يَكْفِيك الله وَيَكْفِي من اتبعك من الْمُؤمنِينَ، فَتكون " من " فِي مَوضِع النصب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: {حَسبك الله} وحسبك تباعك من الْمُؤمنِينَ؛ فَتكون " من " فِي مَوضِع الرّفْع، قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا كَانَت الهيجاء وانشقت الْعَصَا ... فحسبك وَالضَّحَّاك سيف مهند)
وَهَذَا استشهاد لِلْقَوْلِ الأول.
وَقَرَأَ الشّعبِيّ: " حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ " وَمَعْنَاهُ قريب من الأول.(2/277)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال} قرئَ فِي الشاذ: " حرص(2/277)
{يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم مائَة يغلبوا ألفا من الَّذين كفرُوا بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ (65) الْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم ألف يغلبوا أَلفَيْنِ بِإِذن الله وَالله مَعَ} الْمُؤمنِينَ " بالصَّاد غير مُعْجمَة، وَالْمَعْرُوف بالضاد مُعْجمَة؛ والتحريض: هُوَ الْحَث على الْمُبَادرَة إِلَى الشَّيْء.
قَوْله تَعَالَى: {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم مائَة يغلبوا ألفا من الَّذين كفرُوا} هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر، وَكَانَ الله تَعَالَى أَمر الْمُؤمنِينَ أَلا يفر الْوَاحِد مِنْهُم عَن عشرَة، وَلَا تَفِر الْمِائَة مِنْهُم عَن ألف. فَإِن قَالَ قَائِل: أيش معنى {بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ} وَأي اتِّصَال لهَذَا بِمَعْنى الْآيَة؟
جَوَابه: مَعْنَاهُ: أَنهم يُقَاتلُون على جَهَالَة لَا على حسبَة وبصيرة، وَأَنْتُم تقاتلون على بَصِيرَة وحسبة، فَلَا يثبتون إِذا ثبتمْ، ثمَّ إِن الْمُسلمين سَأَلُوا الله التَّخْفِيف، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة الْأُخْرَى، وَأمر أَلا يفر الْوَاحِد من أثنين، وَالْمِائَة من الْمِائَتَيْنِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: الله تَعَالَى قَالَ: {يغلبوا مِائَتَيْنِ} وَنحن رَأينَا الْقِتَال على هَذَا الْعدَد بِلَا غَلَبَة، فَكيف يَسْتَقِيم معنى الْآيَة، وَالْخلف فِي خبر الله لَا يجوز؟
قُلْنَا: إِن معنى قَوْله: {يغلبوا} أَي: يقاتلوا؛ كَأَنَّهُ أَمرهم بِالْقِتَالِ على رَجَاء الظفر والنصرة من الله تَعَالَى.(2/278)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
وَأما قَوْله: {الْآن خفف الله عَنْكُم} هَذِه الْآيَة ناسخة لِلْآيَةِ الأولى، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر يزِيد بن الْقَعْقَاع: " وَعلم أَن فِيكُم ضعفاء " وَالْمَعْرُوف: " ضعفا " و " ضعفا " ومعناهما وَاحِد.
{فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم ألف يغلبوا أَلفَيْنِ بِإِذن الله وَالله مَعَ الصابرين} وَبَاقِي الْآيَة مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/278)
{الصابرين (66) مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا وَالله يُرِيد الْآخِرَة وَالله عَزِيز حَكِيم (67) لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا}(2/279)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} قرئَ: " أسرى، وأسارى ". قَالَ أهل اللُّغَة: أسرى جمع أَسِير، وأسارى جمع الْجمع. وَحكى الْأَصْمَعِي عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أَنه قَالَ: الأسرى هم المأخوذون من غير شدّ، وَالْأسَارَى هم الَّذين أخذُوا وشدوا. وَالأَصَح عِنْد أهل اللُّغَة أَنه لَا فرق بَينهمَا، قَالَه الْأَزْهَرِي.
وَقَوله تَعَالَى: {حَتَّى يثخن فِي الأَرْض} الْإِثْخَان: الْقَتْل، وَقيل: الْمُبَالغَة فِي التنكيل.
{تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا} بالإفداء.
قَوْله تَعَالَى: {وَالله يُرِيد الْآخِرَة} مَعْنَاهُ: يرغبكم فِي الْآخِرَة، وَقَوله: {وَالله عَزِيز حَكِيم} قد ذكرنَا معنى الْعَزِيز الْحَكِيم.
وَاعْلَم أَن الْآيَة نزلت فِي أُسَارَى بدر؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ: " أَن النَّبِي قتل سبعين يَوْم بدر، وَأسر سبعين من الْمُشْركين، ثمَّ إِنَّه اسْتَشَارَ أَصْحَابه فِي الْأُسَارَى، فَقَالَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ -: هَؤُلَاءِ قَوْمك وأسرتك وَأهْلك، اسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ الله أَن يهْدِيهم بك، وَخذ مِنْهُم الْفِدَاء؛ فَيكون مَعُونَة للْمُسلمين. وَقَالَ عمر: هَؤُلَاءِ آذوك وَأَخْرَجُوك وَكَفرُوا بِمَا جِئْت بِهِ فَاضْرب أَعْنَاقهم. فَمَال الرَّسُول إِلَى قَول أبي بكر وَأحب مَا ذكره ".
وَرُوِيَ " أَنه قَالَ لأبي بكر: مثلك مثل إِبْرَاهِيم حِين قَالَ: {فَمن تَبِعنِي فَإِنَّهُ مني وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} وَقَالَ لعمر: مثلك مثل نوح حِين قَالَ: {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} " ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه: لَا يخلين أحد مِنْكُم(2/279)
{أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم حَلَالا طيبا وَاتَّقوا الله إِن الله غَفُور رَحِيم} عَن أَسِير إِلَّا بِفِدَاء أَو بِضَرْب عُنُقه ففادوا وَكَانَ الْفِدَاء لكل أَسِير أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة، الْأُوقِيَّة أَرْبَعُونَ درهما، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا.(2/280)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم} رُوِيَ عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: " لم تحل الْغَنَائِم لأحد سود الرُّءُوس قبلكُمْ؛ كَانَت نَار تنزل من السَّمَاء فتأكلها. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر ووقعوا فِيمَا وَقَعُوا من الْغَنَائِم فادوا الْأُسَارَى قبل أَن ينزل الْوَحْي بِالْجَوَازِ، أنزل الله تَعَالَى: {لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم} الْآيَة ". وَفِي معنى الْآيَة أَقْوَال:
أَحدهَا: لَوْلَا كتاب من الله سبق فِي تَحْلِيل الْغَنَائِم لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم. هَذَا قَول سعيد بن جُبَير وَجَمَاعَة.
وَالثَّانِي: لَوْلَا كتاب من الله سبق من مغفرته لأهل بدر مَا صَنَعُوا؛ لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم، هَذَا قَول الْحسن الْبَصْرِيّ.
وَالثَّالِث: لَوْلَا كتاب من الله سبق أَنهم لم يقدم إِلَيْكُم أَلا تَأْخُذُوا؛ لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم؛ فَإِنَّهُ لَا يعذب من غير تقدمة.
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أريت عذابكم دون هَذِه الشَّجَرَة، وَأَشَارَ إِلَى شَجَرَة قريبَة مِنْهُ ". وَرُوِيَ أَنه قَالَ لعمر: " لَو نزل الْعَذَاب مَا نجا أحد سواك ".
وَرُوِيَ أَنه قَالَ لَهُ: " كَاد يصيبنا ".(2/280)
( {69) يَا أَيهَا النَّبِي قل لمن فِي أَيْدِيكُم من الأسرى إِن يعلم الله فِي قُلُوبكُمْ خيرا يُؤْتكُم خيرا مِمَّا أَخذ مِنْكُم وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم (70) وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتك فقد خانوا الله من قبل فَأمكن مِنْهُم وَالله عليم حَكِيم (71) إِن الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا}
وَرُوِيَ أَنه لما نزلت الْآيَة الأولى كف أَصْحَاب رَسُول الله أَيْديهم عَمَّا أخذُوا من الْفِدَاء، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا.(2/281)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي قل لمن فِي أَيْدِيكُم من الأسرى} نزلت هَذِه الْآيَة فِي الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، فَإِنَّهُ أسر يَوْم بدر، وَكَانَت مَعَه عشرُون أُوقِيَّة من الذَّهَب فَأخذت مِنْهُ، ثمَّ قَالَ لَهُ النَّبِي: " افْدِ نَفسك وَابْني أَخِيك - يَعْنِي عقيلا ونوفلا - فَقَالَ: مَالِي شَيْء، وَقد أَخَذْتُم مَا كَانَ معي، قَالَ: أَيْن المَال الَّذِي دَفعته إِلَى أم الْفضل وَقلت: إِن أصبت فِي هَذَا الْوَجْه فلعبد الله كَذَا، وللفضل كَذَا، ولقثم كَذَا؟ فَقَالَ: وَالله مَا كَانَ مَعنا أحد، فَأَنا أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك رَسُول الله؛ ثمَّ إِنَّه فَادى نَفسه وَابْني أَخِيه، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا ".
قَوْله تَعَالَى: {إِن يعلم الله فِي قُلُوبكُمْ خيرا} مَعْنَاهُ: إِن يعلم فِي قُلُوبكُمْ إِيمَانًا.
قَوْله تَعَالَى: {يُؤْتكُم خير مِمَّا أَخذ مِنْكُم} قَالَ الْعَبَّاس: فقد آتَانِي الله خيرا مِمَّا أَخذ مني، وَكَانَ لَهُ عشرُون عبدا يتجر كل عبد فِي عشْرين ألف دِرْهَم.
وَقَوله: {وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم} قَالَ الْعَبَّاس: وَأَنا أَرْجُو من الله الْمَغْفِرَة.(2/281)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتك} الْخِيَانَة: ضد الْأَمَانَة؛ وَمَعْنَاهُ: إِن أَرَادوا أَن يكفروا بك {فقد خانوا الله من قبل} أَي: قد كفرُوا بِاللَّه من قبل.
قَوْله: {فَأمكن مِنْهُم} يَعْنِي: مكن مِنْهُم {وَالله عليم حَكِيم} .(2/281)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله} الْآيَة، الْهِجْرَة: هِيَ الْخُرُوج من الوطن إِلَى غَيره، وَقد كَانَت فرضا فِي ابْتِدَاء(2/281)
{بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله وَالَّذين آووا ونصروا أُولَئِكَ بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مَا لكم من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا وَإِن استنصروكم فِي الدّين فَعَلَيْكُم النَّصْر إِلَّا على قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (72) وَالَّذين كفرُوا بَعضهم أَوْلِيَاء بعض إِلَّا تفعلوه تكن فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَاد كَبِير (73) } الْإِسْلَام، فَلَمَّا كَانَ يَوْم فتح مَكَّة قَالَ النَّبِي: " لَا هِجْرَة بعد الْيَوْم ".
وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: الْهِجْرَة قَائِمَة إِلَى قيام السَّاعَة، فعلى أهل الْبَوَادِي إِذا أَسْلمُوا أَن يهاجروا إِلَى الْأَمْصَار.
قَوْله: {وَالَّذين آووا ونصروا} هَؤُلَاءِ أهل الْمَدِينَة؛ وَمعنى الإيواء: ضمهم الْمُهَاجِرين إِلَى أنفسهم فِي الْأَمْوَال والمساكن.
قَوْله: {أُولَئِكَ بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أُولَئِكَ أعوان بعض.
وَالْقَوْل الثَّانِي مَعْنَاهُ: يَرث بَعضهم من بعض.
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا} قطع الْمُوَالَاة بَين الْمُسلمين وَبينهمْ حَتَّى يهاجروا، وَكَانَ المُهَاجر لَا يَرث من الْأَعرَابِي، وَلَا الْأَعرَابِي من المُهَاجر، ثمَّ قَالَ: {وَإِن استنصروكم فِي الدّين فَعَلَيْكُم النَّصْر} يَعْنِي: وَإِن استنصروكم الَّذين لم يهاجروا فَعَلَيْكُم النَّصْر، ثمَّ اسْتثْنى وَقَالَ: {إِلَّا على قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق} أَي: موادعة، فَلَا تنصروهم عَلَيْهِم. قَوْله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/282)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كفرُوا بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} يَعْنِي: أَن بَعضهم أعوان بعض.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن بَعضهم يَرث من الْبَعْض.
وَقَوله {إِلَّا تفعلوه} يَعْنِي: إِن لم تقبلُوا هَذَا الحكم {تكن فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَاد كَبِير} الْفِتْنَة فِي الأَرْض: قُوَّة الْكفْر، وَالْفساد الْكَبِير: ضعف الْإِيمَان.(2/282)
{وَالَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله وَالَّذين آووا ونصروا أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم مغْفرَة ورزق كريم (74) وَالَّذين آمنُوا من بعد وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا مَعكُمْ فَأُولَئِك مِنْكُم وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله إِن الله بِكُل شَيْء عليم (75) }(2/283)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله وَالَّذين آووا ونصروا} (الْآيَة) ، فَإِن قيل: أَي معنى فِي هَذَا التّكْرَار؟
قُلْنَا: الْمُهَاجِرُونَ كَانُوا على طَبَقَات، وَكَانَ بَعضهم أهل الْهِجْرَة الأولى، وهم الَّذين هَاجرُوا قبل الْحُدَيْبِيَة، وَبَعْضهمْ أهل الْهِجْرَة الثَّانِيَة، وهم الَّذين هَاجرُوا بعد الْحُدَيْبِيَة قبل فتح مَكَّة، وَكَانَ بَعضهم ذَا هجرتين، وهما الْهِجْرَة إِلَى الْحَبَشَة وَالْهجْرَة إِلَى الْمَدِينَة؛ فَالْمُرَاد من الْآيَة الأولى الْهِجْرَة الأولى، وَالْمرَاد من الثَّانِيَة الْهِجْرَة الثَّانِيَة.
قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} يَعْنِي: لَا مرية وَلَا ريب فِي إِيمَانهم.
قَوْله: {لَهُم مغْفرَة ورزق كريم} روى فِي الرزق الْكَرِيم أَن المُرَاد مِنْهُ: رزق الْجنَّة لَا يصير بخوى؛ بل يصير رشحا لَهُ ريح الْمسك.(2/283)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا من بعد وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا مَعكُمْ فَأُولَئِك مِنْكُم} الْآيَة، أَرَادَ بِهِ: فَأُولَئِك مَعكُمْ، فَأنْتم مِنْهُم وهم مِنْكُم.
قَوْله تَعَالَى: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذِه الْآيَة ناسخة لما سبق من إِثْبَات الْمِيرَاث بِالْهِجْرَةِ، فَنقل الْمِيرَاث من الْهِجْرَة إِلَى الْمِيرَاث بِالْقَرَابَةِ.
قَوْله تَعَالَى: {فِي كتاب الله} أَي: فِي حكم الله.
قَوْله: {إِن الله بِكُل شَيْء عليم} قَالَ أهل الْعلم: لَيْسَ المُرَاد من أولي الْأَرْحَام الأقرباء الَّذين لَيْسَ لَهُم عصوبة وَلَا فرض؛ وَإِنَّمَا المُرَاد من أولي الْأَرْحَام [أهل العصابات] ثمَّ مِيرَاث الأقرباء مَذْكُور فِي مَوضِع آخر، وَهُوَ آيَة الْمِيرَاث، وَالله أعلم.(2/283)
تَفْسِير سُورَة التَّوْبَة
اعْلَم أَن هَذِه السُّورَة مَدَنِيَّة، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي بِرِوَايَة الْبَراء بن عَازِب: " أَنَّهَا آخر سُورَة أنزلت كَامِلَة " وَلها أَسمَاء كَثِيرَة.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن هَذِه السُّورَة، فَقَالَ: هِيَ الفاضحة؛ مازال ينزل قَوْله [تَعَالَى] : وَمِنْهُم، وَمِنْهُم، حَتَّى طننا أَنه لَا يتْرك منا أحدا. وَقَالَ حُذَيْفَة بن الْيَمَان: هِيَ سُورَة الْعَذَاب.
وَمن الْمَعْرُوف أَنَّهَا تسمى سُورَة البحوث، وَمن أسمائها: المبعثرة، وَمن أسمائها: المنيرة، وَمن أسمائها: الحافرة، لِأَنَّهَا حفرت عَن قُلُوب الْمُنَافِقين. وروى النقاش عَن ابْن عمر أَنَّهَا تسمى المقشقشة. وَعَن عمرَان بن حدير أَنه قَالَ: قَرَأت هَذِه السُّورَة على أَعْرَابِي، فَقَالَ: هَذِه السُّورَة أظنها آخر مَا أنزلت، فَقلت لَهُ: وَلم؟ فَقَالَ: أرى عهودا تنبذ، وعقودا تنقض.
وَعَن سعيد بن جُبَير: أَن هَذِه السُّورَة كَانَت تعدل سُورَة الْبَقَرَة فِي الطول.
وَأما الْكَلَام فِي حذف التَّسْمِيَة: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " قلت لعُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ -: مَا بالكم عمدتم إِلَى سُورَة التَّوْبَة وَهِي من المئين، وَإِلَى سُورَة الْأَنْفَال وَهِي من المثاني، فقرنتم بَينهمَا وَلم تكْتبُوا سطر {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} ؟ فَقَالَ: " كَانَ إِذا أنزل على رَسُول الله الشَّيْء من الْقُرْآن دَعَا بعض من يكْتب، فَيَقُول لَهُ: ضَعْهُ فِي سُورَة كَذَا، ضَعْهُ فِي سُورَة كَذَا، وَكَانَت الْأَنْفَال من أول مَا أنزلت بِالْمَدِينَةِ، وَالتَّوْبَة من آخر مَا أنزلت، وَكَانَ قصتيهما شَبيهَة بَعْضهَا بِبَعْض، وَخرج رَسُول الله من الدُّنْيَا وَلم يبين لنا شَيْئا فظننا أَنَّهُمَا سُورَة وَاحِدَة؛ فَلذَلِك قرنا بَينهمَا وَلم نكتب {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} .(2/284)
{بَرَاءَة من الله وَرَسُوله إِلَى الَّذين عاهدتم من الْمُشْركين (1) فسيحوا فِي الأَرْض أَرْبَعَة أشهر وَاعْلَمُوا أَنكُمْ غير معجزي الله وَأَن الله مخزي الْكَافرين (2) وأذان}
وَهَذَا خبر فِي " الصَّحِيح " أوردهُ مُسلم، وروى أَن الصَّحَابَة اخْتلفُوا، فَقَالَ بَعضهم: هما سورتان، وَقَالَ بَعضهم: هما سُورَة وَاحِدَة؛ فاتفقوا أَن يفصلوا ببياض بَين السورتين، وَلَا يكتبوا: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ".
وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا حكى عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة من الْمُتَقَدِّمين، والمبرد من الْمُتَأَخِّرين: أَن السُّورَة سُورَة نقض الْعَهْد والبراءة من الْمُشْركين؛ وَالتَّسْمِيَة أَمَان وافتتاح خير؛ فَلهَذَا لم يكتبوا " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ".(2/285)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
قَوْله تَعَالَى: {برآءة من الله وَرَسُوله} قَوْله: {بَرَاءَة} هَذِه بَرَاءَة، والبراءة: نقض الْعِصْمَة، وَمعنى الْآيَة: تبرؤ من الله وَرَسُوله.
{إِلَى الَّذين عاهدتم من الْمُشْركين} وَقَالَ بَعضهم: برىء الله وَرَسُوله من الْمُشْركين.(2/285)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {فسيحوا فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ: أَقبلُوا وأدبروا واذهبوا وجيئوا {أَرْبَعَة أشهر} اخْتلفُوا فِي الْأَشْهر الْأَرْبَعَة:
قَالَ ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَقَتَادَة: ابتداؤه من يَوْم النَّحْر، وَآخره الْعَاشِر من شهر ربيع الآخر. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: هُوَ شَوَّال، وَذُو الْقعدَة، وَذُو الْحجَّة، وَالْمحرم.
وَالْقَوْل الأول هُوَ الصَّوَاب.
قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنكُمْ غير معجزي الله} أَي: غير فائتي الله، وَمَعْنَاهُ: أَنه(2/285)
وَإِن أجلكم هَذِه الْمدَّة فَلَا يعجز عَن عذابكم، كَمَا يعجز من يفوتهُ الشَّيْء {وَأَن الله مخزي الْكَافرين} أَي: مذل الْكَافرين.
وَسبب نزُول الْآيَة: " أَنه كَانَ بَين رَسُول الله وَبَين الْمُشْركين عهود ومدد، فَلَمَّا غزا غَزْوَة تَبُوك أرجف المُنَافِقُونَ بِالنَّبِيِّ، فَجعل الْمُشْركُونَ ينقضون العهود - وَقيل: إِن هَذَا كَانَ قبل غَزْوَة تَبُوك - فَلَمَّا كَانَت سنة تسع من الْهِجْرَة بعث أَبَا بكر - رَضِي الله عَنهُ - لِلْحَجِّ بِالنَّاسِ، وَبعث عليا - رَضِي الله عَنهُ - ليقرا على النَّاس هَذِه الْآيَات من أول هَذِه السُّورَة. ويروى أَنه بعث أَبَا بكر أَولا، ثمَّ إِنَّه بعث عليا فِي إثره، وَقَالَ: " لَا يبلغ هَذِه الْآيَات إِلَّا رجل منى " يَعْنِي: من رهطي فَكَانَ أَبُو بكر أَمِيرا على الْمَوْسِم، وَكَانَ عَليّ يُنَادي فِي النَّاس بِهَذِهِ الْآيَات.
وروى أَن عليا سُئِلَ: بِمَ بَعثك رَسُول الله؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي بأَرْبعَة أَشْيَاء: أَولهَا: من كَانَ بَينه وَبَين رَسُول الله عهد فمدته إِلَى أَرْبَعَة أشهر، وَالثَّانِي: لَا يَحُجن بعد هَذَا الْعَام مُشْرك، وَالثَّالِث: لَا يَطُوفَن بِالْبَيْتِ عُرْيَان، وَالرَّابِع: لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا نفس مسلمة ".
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ بعث أَبَا بكر بِهَذِهِ الْآيَات ثمَّ عَزله وَبعث عليا، وَقَالَ: " لَا يبلغ عني إِلَّا رجل مني "، فَإِن كَانَ لَا يبلغ هَذَا إِلَّا رجل من رهطه، فَكَذَلِك سَائِر الْأَشْيَاء؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: ذكر الْعلمَاء أَن رَسُول الله لم يعْزل أَبَا بكر عَن الْمَوْسِم، وَكَانَ هُوَ الْأَمِير، وَإِنَّمَا بعث عليا لينادى بِهَذِهِ الْآيَات؛ لِأَن الْعَرَب كَانُوا تعارفوا أَنه لَا يعْقد على الْقَوْم إِلَّا سيدهم، وَلَا ينْقض إِلَّا سيدهم أَو رجل من أَهله، فَبعث عليا على مَا تعارفوا؛ ليزيح الْعِلَل بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا تبقى لَهُم عِلّة، فَكَانَ الْمَعْنى هَذَا، وَالله أعلم.(2/286)
{من الله وَرَسُوله إِلَى النَّاس يَوْم الْحَج الْأَكْبَر أَن الله بَرِيء من الْمُشْركين وَرَسُوله فَإِن تبتم فَهُوَ خير لكم وَإِن توليتم فاعلموا أَنكُمْ غير معجزي الله وَبشر الَّذين}(2/287)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
قَوْله تَعَالَى: {وأذان من الله وَرَسُوله} مَعْنَاهُ: إِعْلَام من الله وَرَسُوله، قَالَ الْحَارِث بن حلزة:
(آذنتنا بينهماأسماء ... رب ثاو يمل مِنْهُ الثواء)
مَعْنَاهُ: أعلمتنا.
قَوْله تَعَالَى: {إِلَى النَّاس يَوْم الْحَج الْأَكْبَر} اخْتلفُوا فِي يَوْم الْحَج الْأَكْبَر على أَقْوَال:
روى يحيى بن (الجزار) أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - خرج يَوْم الْعِيد على دَابَّة، فَأخذ رجل بلجام دَابَّته، وَقَالَ: مَا يَوْم الْحَج الْأَكْبَر؟ فَقَالَ: هُوَ الْيَوْم الَّذِي أَنْت فِيهِ، خل عَنْهَا.
وروى مثل هَذَا عَن ابْن عمر، والمغيرة بن شُعْبَة، وَعبد الله بن أبي أوفى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: قَول ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: هُوَ يَوْم عَرَفَة. وَهُوَ قَول مُجَاهِد وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَجَمَاعَة.
وَقَالَ ابْن سِيرِين - وَهُوَ القَوْل الثَّالِث -: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر هُوَ الْيَوْم الَّذِي حج فِيهِ رَسُول الله، اتّفق فِيهِ حج أهل المل كلهَا.
وَالصَّحِيح هُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين.
وَاخْتلفُوا فِي الْحَج الْأَكْبَر:
فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَن الْحَج الْأَكْبَر هُوَ الْقُرْآن، وَالْحج الْأَصْغَر هُوَ الْإِفْرَاد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْحَج الْأَكْبَر: هُوَ الْحَج، والأصغر هُوَ الْعمرَة.
قَوْله: {أَن الله بَرِيء من الْمُشْركين وَرَسُوله فَإِن تبتم فَهُوَ خير لكم وَإِن توليتم فاعلموا أَنكُمْ غير معجزي الله وَبشر الَّذين كفرُوا بِعَذَاب أَلِيم} مَعْنَاهُ: وَرَسُوله بَرِيء(2/287)
{كفرُوا بِعَذَاب أَلِيم (3) إِلَّا الَّذين عاهدتم من الْمُشْركين ثمَّ لم ينقصوكم شَيْئا وَلم يظاهروا عَلَيْكُم أحدا فَأتمُّوا إِلَيْهِم عَهدهم إِلَى مدتهم إِن الله يحب الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وخذوهم} أَيْضا.(2/288)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
{إِلَّا الَّذين عاهدتم من الْمُشْركين} وَقع الِاسْتِثْنَاء على قوم من بني ضَمرَة أَمر الله رَسُوله أَن يتم إِلَيْهِم عَهدهم إِلَى مدتهم، وَكَانَ قد بَقِي من مدتهم تِسْعَة أشهر؛ وَالسَّبَب فِي الْإِتْمَام: أَنهم لم ينقضوا الْعَهْد، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لم ينقصوكم شَيْئا} ، وَقَرَأَ عَطاء بن يسَار: " ثمَّ لم ينقضوكم شَيْئا " بالضاد الْمُعْجَمَة.
قَوْله تَعَالَى: {وَلم يظاهروا عَلَيْكُم أحدا} وَمَعْنَاهُ: وَلم يعاونوا عَلَيْكُم أحدا {فَأتمُّوا إِلَيْهِم عَهدهم إِلَى مدتهم إِن الله يحب الْمُتَّقِينَ} يَعْنِي: الْمُتَّقِينَ عَن نقض الْعَهْد. وروى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ - رَحمَه الله - أَنه قَالَ: المتقي: من يدع مَالا بَأْس بِهِ حذرا مِمَّا بِهِ بَأْس.(2/288)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} رُوِيَ فِي التفاسير " أَن النَّبِي أجل الْمُشْركين الَّذين كَانَ بَينهم وَبَين النَّبِي عهد أَرْبَعَة أشهر، وَأجل الَّذين لم يكن بَين رَسُول الله وَبينهمْ عهد بَاقِي ذِي الْحجَّة وَالْمحرم وَهُوَ خَمْسُونَ لَيْلَة " فَهَذَا معنى الْآيَة.
فَإِن قيل: قَالَ تَعَالَى: {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم} وَمَا ذكرْتُمْ بعض الْأَشْهر الْحرم.
قُلْنَا: هَذَا الْقدر كَانَ مُتَّصِلا بِمَا مضى؛ فَأطلق عَلَيْهِ اسْم الْجَمِيع، وَمَعْنَاهُ: هُوَ مضى الْمدَّة الْمَعْرُوفَة الَّتِي تقع بعد انسلاخ الْأَشْهر الْحرم.
قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.
قَوْله {وخذوهم} ظَاهر. أَي: خذوهم أسرا؛ وَالْعرب تسمي الْأَسير أخيذا، وَفِي الْمثل: أكذب من أخيذ.
قَوْله تَعَالَى: {واحصروهم} يَعْنِي: واحبسوهم، يَعْنِي: حولوا بَينهم وَبَين(2/288)
{واحصروهم واقعدوا لَهُم كل مرصد فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَخلوا سبيلهم إِن الله غَفُور رَحِيم (5) وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله ثمَّ أبلغه مأمنه ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعلمُونَ (6) كَيفَ يكون للْمُشْرِكين عهد عِنْد الله وَعند رَسُوله إِلَّا الَّذين عاهدتم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام فَمَا} الْمَسْجِد الْحَرَام، هَذَا هُوَ معنى الْحَبْس هَاهُنَا.
وَقَوله: {واقعدوا لَهُم كل مرصد} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: المرصد: الطّرق. يَعْنِي اقعدوا لَهُم بطرق مَكَّة حَتَّى لَا يصلوا إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَقَد علمت [وَلَا أخالك نَاسِيا] ... أَن الْمنية للفتى بالمرصد)
قَوْله: {فَإِن تَابُوا} يَعْنِي: آمنُوا {وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَخلوا سبيلهم} يَعْنِي: خلوا سبيلهم ليصلوا إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام {إِن الله غَفُور رَحِيم} مَعْلُوم.(2/289)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك فَأَجره} الإستجارة: طلب الْأمان. وَمعنى الْآيَة: وَإِن أحد من الْمُشْركين طلب مِنْك الْأمان فَأَجره، أَي: أَمنه {حَتَّى يسمع كَلَام الله} يَعْنِي: فِيمَا لَهُ وَعَلِيهِ من الْعقَاب وَالثَّوَاب والوعد والوعيد {ثمَّ أبلغه مأمنه} يَعْنِي: الْموضع الَّذِي يَأْمَن فِيهِ {ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعلمُونَ} وَمَعْنَاهُ: أَنهم يَحْتَاجُونَ إِلَى أَن يسمعوا كَلَام الله تَعَالَى لجهلهم.(2/289)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {كَيفَ يكون للْمُشْرِكين عهد عِنْد الله وَعند رَسُوله} قَالَ الْفراء: كلمة " كَيفَ " هَاهُنَا كلمة اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْجحْد، وَمَعْنَاهُ: لَا يكون للْمُشْرِكين عهد عِنْد الله وَعند رَسُوله، يَعْنِي: وَلَا عِنْد رَسُوله.
قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذين عاهدتم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام} هَؤُلَاءِ قوم من بني ضَمرَة على مَا ذكرنَا.
قَوْله تَعَالَى: {فَمَا استقاموا لكم فاستقيموا لَهُم} يَعْنِي: إِذا وفوا بعهدكم وفوا(2/289)
{استقاموا لكم فاستقيموا لَهُم إِن الله يحب الْمُتَّقِينَ (7) كَيفَ وَإِن يظهروا عَلَيْكُم لَا يرقبوا فِيكُم إِلَّا وَلَا ذمَّة يرضونكم بأفواههم وتأبى قُلُوبهم وَأَكْثَرهم فَاسِقُونَ (8) اشْتَروا بآيَات الله ثمنا قَلِيلا فصدوا عَن سَبيله إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا} بعهدهم {إِن الله يحب الْمُتَّقِينَ} قيل مَعْنَاهُ: إِن الله يحب الْمُؤمنِينَ، وَقيل: يحب الْمُتَّقِينَ نقض الْعَهْد.(2/290)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {كَيفَ وَإِن يظهروا عَلَيْكُم لَا يرقبوا فِيكُم إِلَّا وَلَا ذمَّة} يَعْنِي: كَيفَ يكون لَهُم عهد وَإِن يظهروا عَلَيْكُم لَا يرقبوا فِيكُم إِلَّا وَلَا ذمَّة؟ اخْتلفت الْأَقْوَال فِي " إِلَّا ":
رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَن " إِلَّا " هُوَ الله تَعَالَى. وَفِي الشاذ قرئَ: " لَا يرقبوا فِيكُم إيلا وَلَا ذمَّة "، وإيل: هُوَ الله.
وَرُوِيَ عَن أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ فِي كَلِمَات مُسَيْلمَة الْكذَّاب - لَعنه الله - حِين سمع أَنه يَقُول: يَا ضفدع نقي نقي، كم تنقين، لَا المَاء تكدرين وَلَا الشَّرَاب تمنعين. فَقَالَ أَبُو بكر: إِن هَذَا كَلَام لم يخرج من إل يَعْنِي: من الله.
وَالْقَوْل الثَّانِي قَول أبي عُبَيْدَة: الإل هُوَ الْعَهْد، والذمة: التذمم.
وَالثَّالِث: قَول الضَّحَّاك - وَهُوَ أولى الْأَقَاوِيل وأحسنها - قَالَ: إِن الإل هُوَ الْقَرَابَة، والذمة: الْعَهْد، قَالَ حسان بن ثَابت:
(لعمرك إِن إلك من قُرَيْش ... كإل السقب من رأل النعام)
قَوْله تَعَالَى: {يرضونكم بأفواههم وتأبى قُلُوبهم} يَعْنِي: يعدون الْوَفَاء بالْقَوْل، وتأبى قُلُوبهم إِلَّا الْغدر {وَأَكْثَرهم فَاسِقُونَ} فَإِن قَالَ قَائِل: هَذَا فِي الْمُشْركين وهم كلهم فَاسِقُونَ، فَكيف قَالَ: {وَأَكْثَرهم} ؟
قُلْنَا: الْفسق هَاهُنَا: نقض الْعَهْد، وَكَانَ فِي الْمُشْركين من وفى بعهده؛ فَلهَذَا قَالَ {وَأَكْثَرهم فَاسِقُونَ} .(2/290)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {اشْتَروا بآيَات الله ثمنا قَلِيلا} الْآيَة. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الدُّنْيَا(2/290)
{يعْملُونَ (9) لَا يرقبون فِي مُؤمن إِلَّا وَلَا ذمَّة وَأُولَئِكَ هم المعتدون (10) فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فإخوانكم فِي الدّين ونفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ (11) وَإِن نكثوا أَيْمَانهم من بعد عَهدهم وطعنوا فِي دينكُمْ فَقَاتلُوا أَئِمَّة الْكفْر} بحذافيرها ثمن قَلِيل. وَمعنى الْآيَة: أَنهم اخْتَارُوا الدُّنْيَا على رضَا الله وعَلى الْإِيمَان بآيَات الله {فصدوا عَن سَبيله} يَعْنِي: منعُوا النَّاس عَن سَبيله {إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يعْملُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/291)
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {لَا يرقبون فِي مُؤمن إِلَّا وَلَا ذمَّة} المراقبة: الْحِفْظ، والإل والذمة قد ذكرنَا مَعْنَاهُمَا {وَأُولَئِكَ هم المعتدون} المجاوزون للحدود.(2/291)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فإخوانكم فِي الدّين ونفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/291)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن نكثوا أَيْمَانهم من بعد عَهدهم} هَذَا فِي الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَين رَسُول الله وَبَين قُرَيْش، فنقضوا الْعَهْد، وَكَانَ نقضهم: أَنهم عاونوا بني بكر على خُزَاعَة، وَكَانَت بَنو بكر حلفاء قُرَيْش، وخزاعة حلفاء النَّبِي، فجَاء رجل من خُزَاعَة إِلَى النَّبِي بِالْمَدِينَةِ، وأنشده:
(لاهم إِنِّي نَاشد مُحَمَّدًا ... حلف أَبينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا)
(وَإِن قُريْشًا نقضوك الْمَوْعِدَا ... وبيتونا بالوثير هُجَّدا)
(وَقَتَلُونَا ركعا وَسجدا ... )
فِي أَبْيَات كَثِيرَة، فَقَالَ رَسُول الله: " لانصرت إِن لم أَنْصُركُمْ ".(2/291)
{إِنَّهُم لَا أَيْمَان لَهُم لَعَلَّهُم ينتهون (12) أَلا تقاتلون قوما نكثوا أَيْمَانهم وهموا بِإِخْرَاج الرَّسُول وهم بدءوكم أول مرّة أتخشونهم فَالله أَحَق أَن تخشوه إِن كُنْتُم مُؤمنين (13) قاتلوهم يعذبهم الله بِأَيْدِيكُمْ ويخزهم وينصركم عَلَيْهِم ويشف}
وروى أَنه رأى سَحَابَة تبرق، فَقَالَ رَسُول الله: " إِن هَذِه السحابة لتستهل بنصر خُزَاعَة "، وَكَانَ هَذَا ابْتِدَاء الْقَصْد لفتح مَكَّة.
قَوْله تَعَالَى: {وطعنوا فِي دينكُمْ} هَذَا دَلِيل على أَن الذِّمِّيّ إِذا طعن فِي دين الْإِسْلَام ظَاهرا لَا يبْقى لَهُ عهد، وَيجوز قَتله.
قَوْله: {فَقَاتلُوا أَئِمَّة الْكفْر} يَعْنِي: رُءُوس الْكفْر، ورءوس الْكفْر هم: أَبُو سُفْيَان، وَسُهيْل بن عَمْرو، وَأُميَّة بن صَفْوَان، وَعِكْرِمَة بن أبي جهل {إِنَّهُم لَا أَيْمَان لَهُم} يَعْنِي: لَا عهود لَهُم. وَقَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ: " إِنَّهُم لَا إِيمَان لَهُم " وَهُوَ اخْتِيَار ابْن عَامر، وَيجوز أَن تكون الْأَيْمَان هَاهُنَا بِمَعْنى الْإِيمَان، تَقول الْعَرَب: أمنته إِيمَانًا، فَذكر الْمصدر وَأَرَادَ بِهِ الِاسْم {لَعَلَّهُم ينتهون} .(2/292)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
قَوْله تَعَالَى: {أَلا تقاتلون قوما نكثوا أَيْمَانهم} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.
قَوْله {وهموا بِإِخْرَاج الرَّسُول} مَعْلُوم {وهم بدءوكم أول مرّة} أَرَادَ بِهِ أَنهم بدءوا بِالْقِتَالِ فِي حَرْب بدر. قَالَ أَبُو جهل - لَعنه الله -: لَا نرْجِع حَتَّى نستأصل مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه {أتخشونهم فَالله أَحَق أَن تخشوه إِن كُنْتُم مُؤمنين} مَعْنَاهُ: ظَاهر.(2/292)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {قاتلوهم يعذبهم الله بِأَيْدِيكُمْ ويخزهم وينصركم عَلَيْهِم} معنى الْآيَة ظَاهر.
وَقَوله: {ويشف صُدُور قوم مُؤمنين} يَعْنِي: خُزَاعَة.(2/292)
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
{وَيذْهب غيظ قُلُوبهم} أَي: خُزَاعَة {وَيَتُوب الله على من يَشَاء وَالله عليم(2/292)
{صُدُور قوم مُؤمنين (14) وَيذْهب غيظ قُلُوبهم وَيَتُوب الله على من يَشَاء وَالله عليم حَكِيم (15) أم حسبتم أَن تتركوا وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَلم يتخذوا من دون الله وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة وَالله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ للْمُشْرِكين أَن يعمروا مَسَاجِد الله شَاهِدين على أنفسهم بالْكفْر أُولَئِكَ} حَكِيم) رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ يَوْم فتح مَكَّة: " ارْفَعُوا السَّيْف إِلَّا خُزَاعَة عَن بني بكر إِلَى الْعَصْر ".(2/293)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
قَوْله تَعَالَى: {أم حسبتم أَن تتركوا وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم} الْآيَة، قَالَ أهل التَّفْسِير: لما أَمر الله تَعَالَى نبيه بِالْقِتَالِ ظهر المُنَافِقُونَ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة {أم حسبتم أَن تتركوا وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم} وَالْمرَاد من الْعلم هَاهُنَا: الْعلم الَّذِي يَقع الْجَزَاء عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعلم بعد الْوُجُود لاعلم الْغَيْب الَّذِي لَا يَقع الْجَزَاء عَلَيْهِ {وَلما يعلم الله} يَعْنِي: وَلم يعلم الله {وَلم يتخذوا من دون الله وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة} قَالَ الْفراء: الوليجة: البطانة، وَهُوَ خَاصَّة الْإِنْسَان الَّذِي يفشي سره إِلَيْهِ، فَصَارَ معنى الْآيَة {وَلما يعلم الله} وَلم يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم، وَلم يعلم الَّذين امْتَنعُوا أَن يتخذوا من دون الله وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة {وَالله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} ظَاهر.(2/293)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ للْمُشْرِكين أَن يعمروا مَسَاجِد الله} معنى الْآيَة: نفي أَهْلِيَّة عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام عَن الْمُشْركين.
قَوْله {شَاهِدين على أنفسهم بالْكفْر} و " شَاهِدين " نصب على الْحَال، وَأما شَهَادَتهم على أنفسهم بالْكفْر: هِيَ سجودهم للأصنام، وَقَوْلهمْ فِي التَّلْبِيَة: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، لَا شريك لَك، إِلَّا شَرِيكا هُوَ لَك تملكه وَمَا ملكك.(2/293)
{حبطت أَعْمَالهم وَفِي النَّار هم خَالدُونَ (17) إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة وَلم يخْش إِلَّا الله فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا من المهتدين (18) أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه}
وَفِيه قَول آخر: أَن معنى قَوْله: {شَاهِدين على أنفسهم بالْكفْر} هُوَ أَنَّك تَقول لِلْيَهُودِيِّ: مَا أَنْت؟ فَيَقُول: يَهُودِيّ، وَتقول لِلنَّصْرَانِيِّ: مَا أَنْت؟ فَيَقُول: نَصْرَانِيّ، وَكَذَلِكَ الْمَجُوسِيّ والمشرك.
قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ حبطت أَعْمَالهم وَفِي النَّار هم خَالدُونَ} الحبوط: هُوَ الْبطلَان، وخالدون: دائمون.(2/294)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله} سَبَب نزُول الْآيَة: أَن الْعَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - لما أسر يَوْم بدر عيره أَصْحَاب رَسُول الله بترك الْإِسْلَام وَالْهجْرَة، فَقَالَ: نَحن عمار الْمَسْجِد الْحَرَام وسقاة الحجيج.
وَفِي رِوَايَة: أَنه لما أسلم قَالَ للْمُسلمين: لَئِن سبقتمونا بِالْإِسْلَامِ فقد كُنَّا نعمر الْمَسْجِد الْحَرَام، ونسقي الحجيج، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة وَلم يخْش إِلَّا الله} مَعْنَاهُ: لم يتْرك الْإِيمَان بِاللَّه من خشيَة أحد {فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا من المهتدين} وَعَسَى من الله وَاجِب. فَإِن قَالَ قَائِل: أتقولون: إِن كل من عمر مَسْجِدا بِكَوْن هَكَذَا على مَا قَالَ الله تَعَالَى؟
قُلْنَا: معنى الْآيَة - وَالله أعلم - أَن من كَانَ بِهَذِهِ الْأَوْصَاف كَانَ أهل عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام، وَلَا يعمر الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَّا من استجمع هَذِه الْأَوْصَاف، وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام بِذكر الله، وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ، وَالدُّعَاء، وَالصَّلَاة وَغَيره.(2/294)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
قَوْله تَعَالَى: {أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وجاهد فِي سَبِيل الله لَا يستوون عِنْد الله} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي عَليّ وَالْعَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَكَانَ الَّذِي عير الْعَبَّاس بترك الْإِسْلَام(2/294)
وَالْهجْرَة هُوَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ الْعَبَّاس: نَحن عمار الْمَسْجِد الْحَرَام، وسقاة الحجيج، فَقَالَ الله تَعَالَى {أجعلتم سِقَايَة الْحَاج} وَمَعْنَاهُ: أجعلتم أهل سقاة الْحَاج وَأهل عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه. وقرىء: " أجعلتم سقاة الْحَاج وَعمرَة الْمَسْجِد الْحَرَام " وعَلى هَذِه الْقِرَاءَة لَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير الْأَهْل {لَا يستوون عِنْد الله} مَعْنَاهُ: لَا يَسْتَوِي من عبد الله وَهُوَ مُؤمن، وَمن عمر الْمَسْجِد وَهُوَ مُشْرك {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} وَقد وَردت أَخْبَار فِي التَّرْغِيب فِي عمَارَة الْمَسَاجِد:
روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ: " من رَأَيْتُمُوهُ يعْتَاد الْمَسَاجِد؛ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَان، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه} .
وروى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ: " من غَدا أَو رَاح إِلَى الْمَسْجِد أعد الله لَهُ نزلا كلما غَدا أَو رَاح ".
وروى جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ: " الْمَسْجِد سوق من أسواق الْجنَّة، من دخله كَانَ ضيف الله، قراه: الْمَغْفِرَة، وتحيته: الْكَرَامَة؛ فَإِذا دَخَلْتُم فارتعوا. قيل: يَا رَسُول الله، وَمَا الرتاع؟ قَالَ: الابتهال إِلَى الله وَالرَّغْبَة ".
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ مثله فِي الْجنَّة ".(2/295)
{وَالْيَوْم الآخر وجاهد فِي سَبِيل الله لَا يستوون عِنْد الله وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (19) الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة عِنْد الله وَأُولَئِكَ هم الفائزون (20) يبشرهم رَبهم برحمة مِنْهُ}
وَفِي رِوَايَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي قَالَ " من بنى مَسْجِدا وَلَو كمفحص قطاة؛ بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة ".(2/296)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة عِنْد الله} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {أعظم دَرَجَة عِنْد الله} وَلَيْسَ للْمُشْرِكين دَرَجَة أصلا؟ الْجَواب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أعظم دَرَجَة من درجتهم على تقديرهم فِي أنفسهم؛ وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {أَصْحَاب الْجنَّة يَوْمئِذٍ خير مُسْتَقرًّا وَأحسن مقيلا} وَمَعْنَاهُ: على تقديرهم فِي أنفسهم.
وَالثَّانِي: أَن هَؤُلَاءِ الصِّنْف من الْمُؤمنِينَ أعظم دَرَجَة عِنْد الله من غَيرهم.
ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هم الفائزون} الفائز: الَّذِي ظفر بأمنيته.(2/296)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)
ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {يبشرهم رَبهم برحمة} الْآيَة. والبشارة: خبر سَار صدق؛ يُسمى بِشَارَة لِأَنَّهُ تَتَغَيَّر بِهِ بشرة الْوَجْه.(2/296)
{ورضوان وجنات لَهُم فِيهَا نعيم مُقيم (21) خَالِدين فِيهَا أبدا إِن الله عِنْده أجر عَظِيم (22) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُم وَإِخْوَانكُمْ أَوْلِيَاء إِن استحبوا الْكفْر على الْإِيمَان وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ (23) قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة}
قَوْله {برحمة مِنْهُ ورضوان وجنات لَهُم فِيهَا نعيم مُقيم} النَّعيم هُوَ الْعَيْش اللذيذ، والمقيم: الدَّائِم، وَهُوَ من لَا يظعن أبدا(2/297)
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
{خَالِدين فِيهَا أبدا إِن الله عِنْده أجر عَظِيم} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/297)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُم وَإِخْوَانكُمْ أَوْلِيَاء} الْآيَة: نزلت الْآيَة فِي قو م أَسْلمُوا بِمَكَّة، فَلَمَّا هَاجر الْمُسلمُونَ لم يهاجروا. قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ الرجل إِذا أَرَادَ أَن يُهَاجر تعلق بِهِ أَهله وَولده، وَقَالُوا: أتضيعنا وتتركنا، فيقيم شَفَقَة عَلَيْهِم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: {إِن استحبوا الْكفْر على الْإِيمَان} مَعْنَاهُ: أَي: اخْتَارُوا الْكفْر على الْإِيمَان.
قَوْله: {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت لَا يقبل الْإِيمَان إِلَّا من مهَاجر؛ فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} .(2/297)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وأزواجكم} رُوِيَ أَن الْآيَة الأولى لما نزلت قَالَ أُولَئِكَ الَّذين أَسْلمُوا وَلم يهاجروا: إِن نَحن هاجرنا ضَاعَت أَمْوَالنَا وَخَربَتْ دُورنَا، وقطعنا أرحامنا؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: {وعشيرتكم} قُرِئت بقراءتين: " عشيرتكم " و " عشيراتكم " وَالأَصَح: " عشيرتكم " فَإِن جمع الْعَشِيرَة هُوَ عشائر، والعشيرات قَالُوا: ضَعِيف فِي اللُّغَة.
قَوْله تَعَالَى: {وأموال اقترفتموها} أَي: اكتسيتموها، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {وَمن(2/297)
{تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين (24) لقد نصركم الله} يقترف حَسَنَة) يَعْنِي: يكْتَسب.
قَوْله: {وتجارة تخشون كسادها} مَعْنَاهُ ظَاهر.
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن الْمُبَارك أَنه قَالَ فِي قَوْله: {وتجارة تخشون كسادها} قَالَ: هِيَ الْأَخَوَات وَالْبَنَات إِذا لم يُوجد لَهُنَّ خَاطب. حَكَاهُ النقاش فِي تَفْسِيره.
قَوْله: {ومساكن ترضونها} يَعْنِي: تستطيبونها.
قَوْله: {أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا} مَعْنَاهُ: فانتظروا.
قَوْله {حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد مِنْهُ: فتح مَكَّة، وَهَذَا أَمر تهديد وَلَيْسَ بِأَمْر حتم وَلَا ندب وَلَا إِبَاحَة.
قَوْله: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/298)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
قَوْله تَعَالَى: {لقد نصركم الله فِي مَوَاطِن كَثِيرَة وَيَوْم حنين إِذْ أَعجبتكُم كثرتكم} الْآيَة. حنين وَاد بَين مَكَّة والطائف {إِذْ أَعجبتكُم كثرتكم} رُوِيَ أَن النَّبِي كَانَ فِي اثْنَي عشر ألفا، وَالْمُشْرِكُونَ أَرْبَعَة آلَاف، عَلَيْهِم مَالك بن عَوْف النصري، فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: سَلمَة بن سَلامَة وقش: لن نغلب الْيَوْم عَن قلَّة، فَلم يرض الله تَعَالَى قَوْله، ووكلهم إِلَى أنفسهم، فَحمل الْمُشْركُونَ حَملَة انهزم الْمُسلمُونَ كلهم سوى نفر يسير بقوا مَعَ رَسُول الله فيهم الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، وَأَبُو سُفْيَان بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب ".
وَذكر البُخَارِيّ فِي " الصَّحِيح " بِرِوَايَة الْبَراء بن عَازِب: " أَن أَبَا سُفْيَان بن الْحَارِث(2/298)
{فِي مَوَاطِن كَثِيرَة وَيَوْم حنين إِذْ أَعجبتكُم كثرتكم فَلم تغن عَنْكُم شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ ثمَّ وليتم مُدبرين (25) ثمَّ أنزل الله سكينته على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ وَأنزل جُنُودا لم تَرَوْهَا وَعَذَاب الَّذين كفرُوا وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافرين} كَانَ آخِذا بِرَأْس بغلة النَّبِي يَوْم حنين، وَالنَّبِيّ يَقُول: أَنا النَّبِي لَا كذب، أَنا ابْن عبد الله بن عبد الْمطلب "، ثمَّ إِن الْعَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - نَادَى الْمُسلمين بِأَمْر رَسُول الله - وَكَانَ رجلا صيتًا - فَجعل يُنَادي يَا أَصْحَاب سُورَة الْبَقَرَة، يَا أنصار الله وأنصار رَسُول الله، يَا أَصْحَاب الشَّجَرَة، هَذَا رَسُول الله، فَرَجَعُوا وقاتلوا وَوَقعت الْهَزِيمَة على الْكفَّار ... الْقِصَّة إِلَى آخرهَا " فَهَذَا معنى قَوْله: {وَيَوْم حنين إِذْ أَعجبتكُم كثرتكم فَلم تغن عَنْكُم شَيْئا} يَعْنِي: أَن الظفر لَيْسَ بِالْكَثْرَةِ، بل بنصرة الله تَعَالَى.
قَوْله تَعَالَى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ} قَالَ الْفراء: الْبَاء هَاهُنَا بِمَعْنى " فِي " مَعْنَاهُ: فِي رحبها وسعتها. وَقيل الْمَعْنى: برحبها وسعتها.
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ وليتم مُدبرين} أَي: مُتَفَرّقين، أَي: منهزمين.(2/299)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أنزل الله سكينته على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ} الْآيَة. السكينَة: الرَّحْمَة. وَقيل: السكينَة: الآمنة، وَهِي فعيلة من السّكُون، وَهَاهُنَا هِيَ بِمَعْنى النَّصْر، قَالَ الشَّاعِر:
(لله قبر بالبسيطة غالها ... مَاذَا أجن سكينَة ووقارا)
قَوْله تَعَالَى: {وَأنزل جُنُودا لم تَرَوْهَا} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة، وَنزلت لَا لِلْقِتَالِ، وَلَكِن لتجبين الْكفَّار وتشجيع الْمُسلمين، فَإِن الْمَرْوِيّ أَن الْمَلَائِكَة لم تقَاتل إِلَّا فِي يَوْم بدر.(2/299)
{ثمَّ يَتُوب الله من بعد ذَلِك على من يَشَاء وَالله غَفُور رَحِيم (27) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا وَإِن}
قَوْله تَعَالَى: {وعذب الَّذين كفرُوا} يَعْنِي: بِالْقَتْلِ والأسر، {وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافرين} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/300)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ يَتُوب الله من بعد ذَلِك على من يَشَاء وَالله غَفُور رَحِيم} مَعْنَاهُ ظَاهر وَهَذَا فِي الَّذين كفوا عَن الْقَتْل.(2/300)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس} معنى قَوْله {نجس} قذر، فَإِذا ضم إِلَى غَيره قيل: رِجْس نجس، وَإِذا أفرد قيل: نجس.
رُوِيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه قَالَ: نجاستهم كنجاسة الْكَلْب وَالْخِنْزِير.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: إِذا صَافح مُسلم كَافِرًا يجب عَلَيْهِ غسل يَده.
وَالصَّحِيح أَن المُرَاد من الْآيَة: أَنه يجب الاجتناب مِنْهُم كَمَا يجب الاجتناب من النَّجَاسَات. وَقيل إِن معنى قَوْله {نجس} : أَنهم يجنبون فَلَا يغتسلون، ويحدثون فَلَا يَتَوَضَّئُونَ.
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا} هَذَا خبر بِمَعْنى أَمر، وَمَعْنَاهُ: لَا تخلوهم أَن يدخلُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا.
وَمذهب الْمَدَنِيين: أَن الْمَسْجِد الْحَرَام هُوَ جَمِيع الْحرم، وَلَا يتْرك كَافِر يدْخلهُ، وَإِن كَانَ معاهدا أَو عبدا، وَهَذَا قَول عمر بن عبد الْعَزِيز وَجَمَاعَة.
وَمذهب الْكُوفِيّين: أَنه يجوز أَن يدْخلهُ الْمعَاهد وَالْعَبْد، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن جَابر.
وَقَوله: {وَإِن خِفْتُمْ عيلة} يَعْنِي: فقرا. وَفِي مصحف عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: " وَإِن خِفْتُمْ عائلة " يَعْنِي: أمرا شاقا، يُقَال: عالني الْأَمر، أَي: شقّ عَليّ.
وَسبب نزُول الْآيَة: أَن أهل مَكَّة إِنَّمَا كَانَت مَعَايشهمْ من التِّجَارَات والأرباح، فَلَمَّا أَمر الله تَعَالَى الْمُسلمين أَن لَا يخلوا الْكفَّار أَن يدخلُوا الْمَسْجِد الْحَرَام، قَالُوا: فَكيف(2/300)
{خِفْتُمْ عيلة فَسَوف يغنيكم الله من فَضله إِن شَاءَ إِن الله عليم حَكِيم (28) قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يحرمُونَ مَا حرم الله وَرَسُوله وَلَا يدينون دين الْحق من الَّذين أُوتُوا الْكتاب حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم} أَمر مَعَايِشنَا؟ وخافوا الْفقر وضيق الْعَيْش، فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُم: {وَإِن خِفْتُمْ عيلة فَسَوف يغنيكم الله من فَضله إِن شَاءَ} فَروِيَ أَنه أسلم أهل جرش - بِالْجِيم مُعْجمَة - وَصَنْعَاء، وَسَائِر نواحي الْيمن، وجلبوا الْميرَة الْكَثِيرَة إِلَى أهل مَكَّة، ووسع الله عَلَيْهِم {إِن الله عليم حَكِيم} وَمَعْنَاهُ ظَاهر.(2/301)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يحرمُونَ مَا حرم الله وَرَسُوله} فَإِن قَالَ قَائِل: إِن أهل الْكِتَابَيْنِ يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، فَكيف معنى الْآيَة؟
الْجَواب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنهم لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر كَإِيمَانِ الْمُؤمنِينَ؛ فَإِنَّهُم قَالُوا: عُزَيْر ابْن الله، وَقَالُوا: الْمَسِيح ابْن الله، وَقَالَت الْيَهُود: لَا أكل وَلَا شرب فِي الْجنَّة.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن كفرهم ككفر من لَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فِي عظم الجرم.
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يدينون دين الْحق} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَلَا يطيعون الله كطاعة أهل الْحق.
قَوْله: {من الَّذين أُوتُوا الْكتاب حَتَّى يطعوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون} قَالَ قَتَادَة: " عَن يَد ": عَن قهر وذل. وَقَالَ غَيره: " عي يَد " أَي يُعْطي بِيَدِهِ. وَفِيه قَول ثَالِث: " عَن يَد " أَي: عَن إِقْرَار بإنعام أهل الْإِسْلَام عَلَيْهِم {وهم صاغرون} رُوِيَ عَن سلمَان الْفَارِسِي - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: مَعْنَاهُ: وهم مذمومون. وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: يُؤْخَذ ويوجأ فِي عُنُقه، فَهَذَا معنى الصغار. وَقَالَ غَيره: يُؤْخَذ مِنْهُ وَهُوَ قَائِم، والآخذ جَالس. وَقيل: إِنَّه يلبب ويجر إِلَى مَوضِع الْإِعْطَاء بعنف. وَعند الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - معنى الصغار: هُوَ جَرَيَان أَحْكَام الْإِسْلَام(2/301)
{صاغرون (29) وَقَالَت الْيَهُود عُزَيْر ابْن الله وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله} عَلَيْهِم. وَهَذَا معنى حسن.(2/302)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت الْيَهُود عُزَيْر ابْن الله} هَذَا فِي قوم بأعيانهم كَانُوا بِالْمَدِينَةِ أفناهم السَّيْف، مِنْهُم: سَلام بن مشْكم، وَمَالك بن " الضَّيْف "، وفنحاص الْيَهُودِيّ، وَأما الْآن فَلَا يَقُول مِنْهُم أحد هَذَا. وَيُقَال: إِن الْقَائِلين لهَذِهِ الْمقَالة قوم من سلفهم ومتقدميهم.
وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الْيَهُود لما بدلُوا وخالفوا شَرِيعَة التَّوْرَاة نسخ الله تَعَالَى التَّوْرَاة من صُدُورهمْ، فَخرج عُزَيْر يسيح فِي الأَرْض يطْلب الْعلم، فَلَقِيَهُ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فَعلمه التَّوْرَاة. وَرُوِيَ أَنه نزل نور فَدخل جَوْفه فَقَرَأَ التَّوْرَاة عَن ظهر قلبه، فَرجع وأملى التَّوْرَاة على الْيَهُود، فَقَالَ جمَاعَة مِنْهُم هَذِه الْمقَالة يَعْنِي: عُزَيْر ابْن الله.
{وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله} هم على ذَلِك الْآن.
قَوْله: {ذَلِك قَوْلهم بأفواههم} فَإِن قَالَ قَائِل: الْإِنْسَان لَا يَقُول قولا إِلَّا بفمه، فَكيف يكون معنى هَذَا الْكَلَام؟
الْجَواب: أَن مَعْنَاهُ: أَنهم قَالُوا هَذَا القَوْل بِلَا حجَّة وَلَا بَيَان وَلَا برهَان، وَإِنَّمَا كَانَ مُجَرّد قَول بِلَا أصل.
قَوْله تَعَالَى: {يضاهئون} قرئَ بقراءتين، و {يضاهئون} يَعْنِي: يشابهون، والمضاهاة: المشابهة والمماثلة، تَقول الْعَرَب: امْرَأَة ضهياء إِذا كَانَت لَا تحيض، فَهِيَ تشبه الرِّجَال.
قَوْله تَعَالَى: {قَول الَّذين كفرُوا من قبل} فِيهِ مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: قَول الَّذين أشركوا من قبل؛ فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يَقُولُونَ: مَنَاة وَاللات والعزى بَنَات الله.(2/302)
{ذَلِك قَوْلهم بأفواههم يضاهئون قَول الَّذين كفرُوا من قبل قَاتلهم الله أَنى يؤفكون (30) اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله والمسيح ابْن مَرْيَم وَمَا أمروا}
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن النَّصَارَى قَالُوا فِي الْمَسِيح مَا قَالَت الْيَهُود فِي عُزَيْر، فَهَذَا معنى قَوْله: {يضاهئون قَول الَّذين كفرُوا من قبل} .
{قَاتلهم الله} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: لعنهم الله، وَقيل: قَتلهمْ الله، كَمَا تَقول الْعَرَب: عافاه الله، أَي: أَعْفَاهُ الله.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن هَذِه كلمة تعجب، قَالَ الشَّاعِر:
(فيا قَاتل الله ليلى كَيفَ تعجبنى ... وَأخْبر النَّاس أَنى لَا أباليها)
وَلَيْسَ الْمَعْنى تَحْقِيق الْمُقَاتلَة؛ وَلكنه كلمة تعجب.
قَوْله تَعَالَى: {أَنى يؤفكون} مَعْنَاهُ: أَنى يصرفون، يُقَال: أَرض مأفوكة إِذا صرف عَنْهَا الْمَطَر، وَقَول مأفوك إِذا كَانَ مصروفا عَن الْحق.(2/303)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
قَوْله تَعَالَى {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله} يُقَال: الْأَحْبَار من الْيَهُود، والرهبان من النَّصَارَى، وَقد بَينا فِيهَا أقوالا من قبل. فَإِن قَالَ قَائِل: إِنَّهُم لم يعبدوا الْأَحْبَار والرهبان، فأيش معنى قَوْله {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله} ؟
قُلْنَا: مَعْنَاهُ: أَنهم استحلوا مَا أحلُّوا، وحرموا مَا حرمُوا؛ فَهَذَا معنى عباداتهم لَهُم. وَقد صَحَّ هَذَا الْمَعْنى بِرِوَايَة عدي بن حَاتِم، عَن النَّبِي.(2/303)
{إِلَّا ليعبدوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَه إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يشركُونَ (31) يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ (33) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن كثيرا من الْأَحْبَار والرهبان ليأكلون أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ ويصدون عَن سَبِيل الله وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي}
قَوْله: {والمسيح ابْن مَرْيَم وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَه إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يشركُونَ} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/304)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نور الله بأفواههم} مَعْنَاهُ: يُرِيدُونَ أَن يخمدوا نور الله، وَالْمرَاد من النُّور: الْقُرْآن، وَقيل: هُوَ مُحَمَّد.
وَقَوله: {بأفواههم} مَعْنَاهُ: بتكذيبهم.
قَوْله: {ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/304)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا عِنْد نزُول عِيسَى ابْن مَرْيَم - عَلَيْهِ السَّلَام لَا يبْقى فِي الأَرْض أحد إِلَّا أسلم.
وَفِي قَوْله: {لِيظْهرهُ على الدّين كُله} قَول آخر: وَهُوَ أَنه الْإِظْهَار بِالْحجَّةِ؛ فدين الْإِسْلَام ظَاهر على كل الْأَدْيَان بِالدَّلِيلِ وَالْحجّة.(2/304)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن كثيرا من الْأَحْبَار والرهبان ليأكلون أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ ويصدون عَن سَبِيل الله} الْآيَة، وَقد بَينا معنى الْأَحْبَار والرهبان من قبل وَقَوله: {ليأكلون أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ} قَالَ أهل التَّفْسِير: إِن المُرَاد مِنْهُ أَخذ الرشاء فِي الْأَحْكَام والمآكل الَّتِي كَانَت لعلمائهم على سفلتهم {ويصدون عَن سَبِيل الله} مَعْنَاهُ: أَنهم يمْنَعُونَ النَّاس عَن الْإِسْلَام، وَقَوله: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله} الْكَنْز هُوَ المَال الْمَجْمُوع، قَالَ الشَّاعِر:(2/304)
{سَبِيل الله فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم (34)
(لَا در درى إِن أطعمت نازلهم ... قرف الحتى وَعِنْدِي الْبر مكنوز}
والحتى قَالُوا: هُوَ الْمقل.
وَاخْتلف أهل الْعلم فِي من نزلت هَذِه الْآيَة، قَالَ بَعضهم: نزلت فِي أهل الْكتاب، وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّهَا نزلت فِي الْكل.
وَاخْتلفُوا فِي الْكَنْز، رُوِيَ عَن ابْن عمر، وَجَمَاعَة: أَن الْكَنْز كل مَال لم تُؤَد زَكَاته، وَأما الَّذِي أدّيت زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَإِن كَانَ مَدْفُونا. وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم نَفَقَة وَمَا فَوْقهَا كنز. وَقَالَ بَعضهم: مَا فضل عَن الْحَاجة فَهُوَ كنز.
وَقَوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله} فَإِن سَأَلَ سَائل وَقَالَ: إِنَّه تقدم ذكر الذَّهَب وَالْفِضَّة جَمِيعًا، فَكيف قَالَ: وَلَا يُنْفِقُونَهَا، وَلم يقل: وَلَا ينفقونهما؟
الْجَواب عَنهُ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْمَعْنى: وَلَا يُنْفقُونَ الْكُنُوز فِي سَبِيل الله.
وَالثَّانِي: أَن معنى الْآيَة: يكنزون الذَّهَب وَلَا ينفقونه، ويكنزون الْفضة وَلَا يُنْفِقُونَهَا، فَاكْتفى بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر، قَالَ الشَّاعِر:
(نَحن بِمَا عندنَا وَأَنت بِمَا ... عنْدك رَاض والرأي مُخْتَلف)
مَعْنَاهُ: نَحن بِمَا عندنَا راضون، وَأَنت بِمَا عنْدك رَاض. وَفِي مثل هَذَا قَول الشَّاعِر:
(إِن شرخ الشَّبَاب وَالشعر الْأسود ... مَا لم يعاض كَانَ جنونا)
يَعْنِي: مَا لم يعاضيا.
قَوْله: {فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم} مَعْنَاهُ: ضع هَذَا الْوَعيد مَوضِع الْبشَارَة، وَإِلَّا فالوعيد لَا يكون بِشَارَة حَقِيقَة.(2/305)
{يَوْم يحمى عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم فتكوى بهَا جباههم وجنوبهم وظهورهم هَذَا مَا كنزتم لأنفسكم فَذُوقُوا مَا كُنْتُم تكنزون (35)(2/306)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يحمى عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم} أَي: يُوقد عَلَيْهَا حَتَّى تصير نَارا.
قَوْله تَعَالَى: {فتكوى بهَا جباههم وجنوبهم وظهورهم} قَالَ أهل التَّفْسِير: لَا يوضع دِرْهَم مَكَان دِرْهَم، وَلَا دِينَار مَكَان دِينَار؛ وَلَكِن يُوسع جلده حَتَّى يوضع كل دِينَار وَدِرْهَم فِي مَوْضِعه. وَفِي حَدِيث أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ (رَضِي عَنهُ) : " أَن رجلا من أهل الصّفة مَاتَ وَترك دِينَارا، فَقَالَ النَّبِي: كيه. وَمَات آخر وَترك دينارين فَقَالَ: كَيَّتَانِ ".
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَجْعَل الذَّهَب وَالْفِضَّة صَفَائِح، فيكوى بهَا فِي كل يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة، ثمَّ يرى سَبيله إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار ".
وروى ثَوْبَان: " أَن الله تَعَالَى لما أنزل هَذِه الْآيَة شقّ على الْمُسلمين مشقة شَدِيدَة فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، أَي المَال نتَّخذ، وَقد أنزل فِي المَال مَا أنزل؟ فَقَالَ: ليتَّخذ أحدكُم قلبا شاكرا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَة تعينه على دينه ".(2/306)
{إِن عدَّة الشُّهُور عِنْد الله اثْنَا عشر شهرا فِي كتاب الله يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض مِنْهَا أَرْبَعَة حرم ذَلِك الدّين الْقيم فَلَا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم وقاتلوا الْمُشْركين كَافَّة}
وَفِي الْأَخْبَار - أَيْضا - عَن النَّبِي: " أَن الْكَنْز يتبعهُ حَتَّى يلقمه يَده فيقضمها، ثمَّ يتبع سَائِر جسده ".
وَقد رُوِيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز - رَحمَه الله - أَنه قَالَ: الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَة الزَّكَاة. وَقَالَ سَائِر الْعلمَاء: لَيست بمنسوخة. وَعَن أبي بكر الْوراق - رَحمَه الله - أَنه قَالَ: إِنَّمَا ذكر الْجَبْهَة وَالْجنب وَالظّهْر؛ لِأَن الْغَنِيّ إِذا رأى الْفَقِير قبض جَبهته، وزوى مَا بَين عَيْنَيْهِ، وولاه ظَهره، وَأعْرض عَنهُ كشحه.
قَوْله تَعَالَى: {هَذَا مَا كنزتم لأنفسكم فَذُوقُوا مَا كُنْتُم تكنزون} وَعِيد وتهديد.(2/307)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
قَوْله تَعَالَى: {إِن عدَّة الشُّهُور عِنْد الله اثْنَا عشر شهرا فِي كتاب الله} قَالَ أهل التَّفْسِير: معنى الْآيَة: هُوَ أَن الشُّهُور الَّتِي تعبد بهَا الْمُسلمُونَ فِي صِيَامهمْ وحجهم وأعيادهم وَسَائِر أُمُورهم، هِيَ الشُّهُور بِالْأَهِلَّةِ، وَقد كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يحسبون السّنة بالشهور الشمسية، ويجعلون السّنة ثلثمِائة وَخَمْسَة وَسِتِّينَ يَوْمًا وَربع يَوْم. وَأما فِي الشَّرِيعَة فَالسنة مَا بَينا، وَلِهَذَا يكون الصَّوْم تَارَة فِي الشتَاء وَتارَة فِي الصَّيف.
قَوْله: {فِي كتاب الله} أَي: فِي حكم الله، وَقيل: فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. {يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله: {مِنْهَا أَرْبَعَة حرم} هِيَ: ذُو الْقعدَة، وَذُو الْحجَّة، وَالْمحرم، وَرَجَب. وَاحِد فَرد وَثَلَاثَة سرد.(2/307)
{كَمَا يقاتلونكم كَافَّة وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي بكرَة أَنه قَالَ: " أَلا إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، السّنة اثْنَا عشر شهرا مِنْهَا أَرْبَعَة حرم 000 " الْخَبَر.
قَوْله: {ذَلِك الدّين الْقيم} أَي: ذَلِك الْحساب الصَّحِيح.
قَوْله: {فَلَا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم} اخْتلفُوا فِي هَذَا على قَوْلَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن قَوْله: {فَلَا تظلموا فِيهِنَّ} ينْصَرف إِلَى الْأَشْهر الْأَرْبَعَة.
وَالثَّانِي أَنه منصرف إِلَى جَمِيع أشهر السّنة، وَهَذَا محكي عَن ابْن عَبَّاس.
وَأما الظُّلم فِي هَذَا الْموضع: فَهُوَ ترك الطَّاعَة وَفعل الْمعْصِيَة.
وَقَوله: {وقاتلوا الْمُشْركين كَافَّة كَمَا يُقَاتِلُوكُمْ كَافَّة} أَي: قَاتلُوا جَمِيع الْمُشْركين كَافَّة كَمَا قَاتلُوا جميعكم.
قَوْله: {وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} من الظُّلم بالنصرة وَالظفر.(2/308)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر} قرىء بِغَيْر الْهَمْز، وَالْمَشْهُور بِالْهَمْزَةِ. قَالَ أهل الْعَرَبيَّة: وَهُوَ الْأَصَح، والنسيء: هُوَ التَّأْخِير، يُقَال نسأ الله فِي أَجلك أَي: أخر.
وَسبب نزُول الْآيَة: أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يجْعَلُونَ الْمحرم مرّة حَلَالا وَمرَّة حَرَامًا، فَإِذا أحلُّوا الْمحرم أبدلوا الصفر بِالتَّحْرِيمِ، وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن عَامَّة مَعَايشهمْ كَانَت بالغارات والقتال وَالسُّيُوف، فَكَانَ يشق عَلَيْهِم أَن يكفوا عَن الْقِتَال ثَلَاثَة أشهر مُتَوَالِيَة، وَكَانَ الَّذِي يتَوَلَّى التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم رجل من بني كنَانَة يُقَال لَهُ: أَبُو ثُمَامَة، وَرثهُ عَن آبَائِهِ، وَكَانَ يقوم على نَاقَة وَيَقُول: أَيهَا النَّاس، أَنا لَا أعاب وَلَا أحاب وَلَا يرد قَضَاء قَضيته، أما إِنِّي قد أحللت الْمحرم وَحرمت الصفر الْعَام، قَالَ رجل مِنْهُم: أَلسنا الناسئين على معد شهور الْحل يَجْعَلهَا حَرَامًا. فَهَذَا هُوَ معنى النسىء الْمَذْكُور فِي الْآيَة.(2/308)
{يضل بِهِ الَّذين كفرُوا يحلونه عَاما ويحرمونه عَاما ليواطئوا عدَّة مَا حرم الله فيحلوا مَا حرم الله زين لَهُم سوء أَعْمَالهم وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين (37) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا مَا لكم إِذا قيل لكم انفروا فِي سَبِيل الله اثاقلتم إِلَى الأَرْض أرضيتم}
وَقَوله تَعَالَى: {زِيَادَة فِي الْكفْر} مَعْنَاهُ: زِيَادَة كفر على كفرهم.
قَوْله تَعَالَى: {يضل بِهِ الَّذين كفرُوا} أَي: يضل الله بِهِ الَّذين كفرُوا، وقرىء " يضل بِهِ الَّذين كفرُوا " على مَا لم يسم فَاعله، وقرىء " يضل بِهِ الَّذين كفرُوا " وَهُوَ الْأَشْهر، وَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: {يحلونه عَاما ويحرمونه عَاما} قد ذكرنَا الْمَعْنى. قَوْله: {ليواطئوا} ليوافقوا، والمواطأة: الْمُوَافقَة، وَمَعْنَاهُ: ليوافقوا {عدَّة مَا حرم الله} يَعْنِي: عدد مَا حرم الله {فيحلوا مَا حرم الله} فيقولوا: أَرْبَعَة وَأَرْبَعَة. قَوْله: {زين لَهُم سوء أَعْمَالهم وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين} ظَاهر الْمَعْنى.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن النسىء: تَأْخِير الْحَج كل عَام شهرا. قَالُوا: وَحج أَبُو بكر سنة تسع فِي ذِي الْقعدَة، وَحج رَسُول الله سنة عشر فِي ذِي الْحجَّة، وَهُوَ معنى قَوْله: " أَلا إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته " الْخَبَر الَّذِي ذكرنَا.(2/309)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا مالكم إِذا قيل لكم انفروا فِي سَبِيل الله اثاقلتم إِلَى الأَرْض} نزلت الْآيَة فِي غَزْوَة تَبُوك، وَكَانَت الْغَزْوَة فِي حارة القيظ حِين أينعت الثِّمَار وَطَابَتْ الظلال فشق على الْمُسلمين مشقة شَدِيدَة وتخلف بَعضهم بالعذر، وتخلف بَعضهم بِلَا عذر، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {اثاقلتم إِلَى الأَرْض} أَي: تثاقلتم؛ وَحَقِيقَة الْمَعْنى: قعدتم عَن الْغَزْو وكرهتم الْخُرُوج.(2/309)
{بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة فَمَا مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا قَلِيل (38) إِلَّا تنفرُوا يعذبكم عذَابا أَلِيمًا ويستبدل قوما غَيْركُمْ وَلَا تضروه شَيْئا وَالله على كل شَيْء قدير (39) إِلَّا تنصروه فقد نَصره الله إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ}
وَقَوله: {إِلَى الأَرْض} أَي: إِلَى الدُّنْيَا، وسمى الدُّنْيَا أَرضًا، لِأَنَّهَا فِي الأَرْض.
قَوْله: {أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة} أَي: بنعيم الدُّنْيَا من نعيم الْآخِرَة.
قَوْله {فَمَا مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا قَلِيل} . روى عَن سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ: جَمِيع الدُّنْيَا جُمُعَة من جمع الْآخِرَة. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مثل مَا يَجْعَل أحدكُم إصبعه فِي اليم فَلْينْظر بِمَا يرجع ".(2/310)
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا تنفرُوا يعذبكم عذَابا أَلِيمًا} هَذَا تهديد ووعيد لمن ترك النَّفر فِي سَبِيل الله، والنفر ضد الهدوء والسكون.
قَوْله: {ويستبدل قوما غَيْركُمْ وَلَا تضروه شَيْئا} مَعْنَاهُ: إِن ضره رَاجع إِلَيْكُم لَا إِلَيْهِ {وَالله على كل شَيْء قدير} ظَاهر الْمَعْنى.(2/310)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا تنصروه فقد نَصره الله} مَعْنَاهُ: إِن لم تنصروه فقد نَصره الله {إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا} قد بَينا قصَّة إخراجهم فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا} الْآيَة. قَوْله: {ثَانِي اثْنَيْنِ} مَعْنَاهُ: أحد اثْنَيْنِ، تَقول الْعَرَب: خَامِس خَمْسَة أَي: أحد الْخَمْسَة، ورابع أَرْبَعَة أَي: أحد الْأَرْبَعَة.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عَاتب الله جَمِيع النَّاس بترك نصْرَة الرَّسُول سوى أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - وَقيل: نصرته عَن خلقي إِلَّا عَن أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - فَإِنَّهُ قد نَصره.
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ هما فِي الْغَار} الْغَار: ثقب فِي الْجَبَل، وَهَذَا الْجَبَل هُوَ جبل ثَوْر، جبل قريب من مَكَّة.(2/310)
{هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا فَأنْزل الله سكينته عَلَيْهِ وأيده}
قَوْله: {إِذْ يَقُول لصَاحبه} أَي: لأبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - بِاتِّفَاق أهل الْعلم.
وَرُوِيَ أَن النَّبِي قَالَ: " أَبُو بكر صَاحِبي فِي الْغَار، وصاحبي على الْحَوْض ".
وَعَن الْحُسَيْن بن الْفضل البَجلِيّ أَنه قَالَ: من قَالَ: إِن أَبَا بكر لَيْسَ بِصَاحِب رَسُول الله فَهُوَ كَافِر، لإنكاره نَص الْقُرْآن، وَفِي سَائِر الصَّحَابَة إِذا أنكر يكون مبتدعا وَلَا يكون كَافِرًا.
قَوْله: {لَا تحزن إِن الله مَعنا} رُوِيَ " أَن النَّبِي لما خرج مَعَ أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَمر عليا حَتَّى اضْطجع على فرَاشه، وَذكر لَهُ أَنه لَا يُصِيبهُ سوء، وَخرج مَعَ أبي بكر قبل الْغَار، وَجَاء الْمُشْركُونَ يقصدون النَّبِي فَقَامَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - من مضجعه فَقَالُوا لَهُ: أَيْن صَاحبك؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَخَرجُوا فِي طلبه يقتفون أَثَره حَتَّى وصلوا إِلَى الْغَار، فَلَمَّا أحس أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - بهم خَافَ خوفًا شَدِيدا، وَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن أقتل يهْلك وَاحِد، وَإِن تقتل تهْلك هَذِه الْأمة، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: لَا تحزن إِن الله مَعنا ". وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ لَهُ: " يَا أَبَا بكر! مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما ". وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى أنبت ثُمَامَة على فَم الْغَار، وَهِي شَجَرَة صَغِيرَة، وألهم حمامة حَتَّى فرخت، وألهم عنكبوتا حَتَّى نسجت.
قَوْله تَعَالَى: {فَأنْزل الله سكينته عَلَيْهِ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: على النَّبِي. وَهُوَ اخْتِيَار الزّجاج.
وَالْآخر: أَنه على أبي بكر، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين؛ لِأَن السكينَة هَاهُنَا مَا يسكن بِهِ(2/311)
{بِجُنُود لم تَرَوْهَا وَجعل كلمة الَّذين كفرُوا السُّفْلى وَكلمَة الله هِيَ الْعليا وَالله عَزِيز حَكِيم (40) انفروا خفافا وثقالا وَجَاهدُوا بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ فِي سَبِيل الله ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (41) لَو كَانَ عرضا قَرِيبا وسفرا قَاصِدا لاتبعوك}
الْقلب؛ وَأَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ هُوَ الْخَائِف والحزين دون رَسُول الله.
وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: أَن السكينَة نزلت عَلَيْهِمَا؛ وَنقل فِي مصحف حَفْصَة - رَضِي الله عَنْهَا - " فَأنْزل الله سكينته عَلَيْهِمَا وأيدهما بِجُنُود لم تَرَوْهَا " قَوْله: {وأيده بِجُنُود لم تَرَوْهَا} الْجنُود هَاهُنَا: الْمَلَائِكَة، نزلُوا فَألْقوا الرعب فِي قُلُوب الْكفَّار حَتَّى رجعُوا. قَوْله: {وَجعل كلمة الَّذين كفرُوا السُّفْلى} كلمتهم: الشّرك؛ وَهِي السُّفْلى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة {وَكلمَة الله هِيَ الْعليا} يَعْنِي: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَهِي الْعليا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: {وَالله عَزِيز حَكِيم} قد بَينا معنى الْعَزِيز الْحَكِيم.(2/312)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
قَوْله تَعَالَى: {انفروا خفافا وثقالا} يُقَال: إِن هَذِه الْآيَة أول آيَة أنزلت من سُورَة التَّوْبَة.
قَوْله: {خفافا وثقالا} فِيهِ أَقْوَال: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة أَنَّهُمَا قَالَا: نشاطا وَغير نشاط. قَالَ الْأَزْهَرِي: النشاط جمع النشيط.
وَالْقَوْل الثَّانِي: قَول الْحسن الْبَصْرِيّ: انفروا فِي الْيُسْر والعسر. وَهَذَا قَول حسن. وَعَن الحكم بن عتيبة: مشاغيل وَغير مشاغيل. وَعَن أبي طَلْحَة صَاحب النَّبِي:
شُيُوخًا وشبابا. وَفِيه قَول خَامِس: رجالة وركبانا. {وَجَاهدُوا بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ فِي سَبِيل الله 000} إِلَى آخر الْآيَة، مَعْنَاهُ ظَاهر، وَقيل: إِن هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لينفروا كَافَّة} الْآيَة، وَالله أعلم.(2/312)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
قَوْله تَعَالَى: {لَو كَانَ عرضا قَرِيبا وسفرا قَاصِدا لاتبعوك} أَي: لَو كَانَت غنيمَة قريبَة المتناول {وسفرا قَاصِدا} أَي: سفرا قَصِيرا سهلا [قَرِيبا] {لاتبعوك} أَي:(2/312)
{وَلَكِن بَعدت عَلَيْهِم الشقة وسيحلفون بِاللَّه لَو استطعنا لخرجنا مَعكُمْ يهْلكُونَ أنفسهم وَالله يعلم إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (42) عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم حَتَّى يتَبَيَّن لَك الَّذين صدقُوا وَتعلم الْكَاذِبين (43) لَا يستئذنك الَّذين يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يجاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم وَالله عليم بالمتقين (44) إِنَّمَا يستئذنك الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وارتابت فهم فِي ريبهم يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَو أَرَادوا الْخُرُوج لأعدوا لَهُ عدَّة وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقيل} لخرجوا مَعَك {وَلَكِن بَعدت عَلَيْهِم الشقة} أَي: بعد عَلَيْهِم السّفر، والشقة فِي اللُّغَة: هِيَ الْغَايَة الَّتِي يقْصد إِلَيْهَا.
قَوْله {وسيحلفون بِاللَّه لَو استطعنا لخرجنا مَعكُمْ} هَذَا فِي الْمُنَافِقين.
قَوْله تَعَالَى: {يهْلكُونَ أنفسهم} يَعْنِي: بِالْيَمِينِ الكاذبة. قَوْله: {وَالله يعلم إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/313)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
قَوْله تَعَالَى: {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} رُوِيَ عَن عَمْرو بن مَيْمُون الأودي أَنه قَالَ: فعل رَسُول الله شَيْئَيْنِ بِغَيْر إِذن من الله: فدَاء أُسَارَى بدر، وَأذن للمتخلفين فِي غَزْوَة تَبُوك، فَعَاتَبَهُ الله تَعَالَى فيهمَا جَمِيعًا. وَفِي تَقْدِيم قَوْله تَعَالَى: {عَفا الله عَنْك} معنى لطيف فِي حفظ قلب النَّبِي.
قَوْله: {حَتَّى يتَبَيَّن لَك الَّذين صدقُوا وَتعلم الْكَاذِبين} ظَاهر الْمَعْنى.(2/313)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
قَوْله تَعَالَى: {لَا يستأذنك الَّذين يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} مَعْنَاهُ: لَا يستأذنك فِي التَّخَلُّف.
قَوْله {أَن يجاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله} الْآيَة، مَعْلُوم، ثمَّ قَالَ(2/313)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
: {إِنَّمَا يستأذنك الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وارتابت قُلُوبهم} أَي: شكت قُلُوبهم {فهم فِي ريبهم يَتَرَدَّدُونَ} يتحيرون.
ثمَّ قَالَ:(2/313)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
{وَلَو أَرَادوا الْخُرُوج لأعدوا لَهُ عدَّة} يَعْنِي: لَو قصدُوا الْخُرُوج لأعدوا لَهُ(2/313)
{اقعدوا مَعَ القاعدين (46) لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إِلَّا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الْفِتْنَة وَفِيكُمْ سماعون لَهُم وَالله عليم بالظالمين (47) لقد} عدَّة أَي: أهبة السّفر من الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَغَيرهمَا {وَلَكِن كره الله انبعاثهم} مَعْنَاهُ: خُرُوجهمْ {فَثَبَّطَهُمْ} مَعْنَاهُ: فكسلهم وكفهم عَن الْخُرُوج {وَقيل اقعدوا مَعَ القاعدين} قَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان: وَحيا إِلَى قُلُوبهم. وَقَالَ غَيره: قَالَ بَعضهم لبَعض: اقعدوا مَعَ القاعدين.(2/314)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
قَوْله تَعَالَى: {لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إِلَّا خبالا} هَذِه الْآيَة نزلت فِي شَأْن الْمُنَافِقين الَّذين تخلفوا عَن غَزْوَة تَبُوك، وَمعنى قَوْله: {خبالا} أَي: فَسَادًا وشرا، وَمعنى الْفساد: هُوَ إِيقَاع الْجُبْن والفشل بَين الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله {ولأوضعوا خلالكم} الإيضاع: هُوَ سرعَة السّير. قَالَ الراجز شعر:
(يَا لَيْتَني فِيهَا جذع ... أخب فِيهَا وأضع)
قَالَ الزّجاج: معنى الْآيَة: أَسْرعُوا فِيمَا يخل بكم. وَقَالَ غَيره: أَسْرعُوا بَيْنكُم بايقاع الْبغضَاء والعداوة بالنميمة، وَنقل الحَدِيث من بعض إِلَى بعض، وعَلى هَذَا قَوْله: {خلالكم} : وسطكم {يبغونكم الْفِتْنَة} يطْلبُونَ لكم الْفِتْنَة، وَفِي الْفِتْنَة مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا الشّرك، وَالْآخر: أَنَّهَا تَفْرِيق الْكَلِمَة.
{وَفِيكُمْ سماعون لَهُم} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن فِيكُم جواسيس لَهُم ينقلون الحَدِيث إِلَيْهِم، وَسُئِلَ ابْن عُيَيْنَة: هَل فِي الْقُرْآن ذكر للجواسيس؟ قَالَ: نعم. وَذكر هَذِه الْآيَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: {وَفِيكُمْ سماعون لَهُم} قَائِلُونَ لَهُم أَي: يقبل مَا يَقُولُونَ، وَمِنْه مَا ورد فِي الصَّلَاة: " سمع الله لمن حَمده " قبل الله لمن حَمده. وَعَن أبي عُبَيْدَة: وَفِيكُمْ سماعون لَهُم: مطيعون لَهُم. وَالْمعْنَى قريب من القَوْل الثَّانِي.(2/314)
{ابْتَغوا الْفِتْنَة من قبل وقلبوا لَك الْأُمُور حَتَّى جَاءَ الْحق وَظهر أَمر الله وهم كَارِهُون (48) وَمِنْهُم من يَقُول ائْذَنْ لي وَلَا تفتني أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا وَإِن جَهَنَّم لمحيطة بالكافرين (49) إِن تصبك حَسَنَة تسؤهم وَإِن تصبك مُصِيبَة يَقُولُوا قد أَخذنَا}
{وَالله عليم بالظالمين} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ فِي أول الْآيَة: {مازادوكم إِلَّا خبالا} وَكَانَ النَّبِي وَأَصْحَابه فِي خبال حَتَّى يزِيدُوا؟
الْجَواب: إِن معنى الْآيَة: مازادوكم قُوَّة؛ بل طلبُوا لكم الخبال.(2/315)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
قَوْله تَعَالَى: {لقد ابْتَغوا الْفِتْنَة من قبل} الْآيَة، الابتغاء: الطّلب، والفتنة: إِيقَاع الِاخْتِلَاف الْمُؤَدِّي إِلَى تَفْرِيق الْكَلِمَة. وَقَوله {وقلبوا لَك الْأُمُور} وَمَعْنَاهُ: صرفُوا لَك الْأُمُور وأرادوها ظهرا لبطن وبطنا لظهر، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنهم طلبُوا بِكُل حِيلَة إِفْسَاد أَمرك {حَتَّى جَاءَ الْحق وَظهر أَمر الله وهم كَارِهُون} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/315)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من يَقُول ائْذَنْ لي وَلَا تفتني} أَكثر الْمُفَسّرين أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي رجل من الْمُنَافِقين يُقَال لَهُ: الْجد بن قيس قَالَ لَهُ رَسُول الله: " هَل لَك فِي جلاد بني الْأَصْفَر - يَعْنِي الرّوم - لَعَلَّك تصيب مِنْهُم سرارى. قَالَ رَسُول الله حثا لَهُ على الْخُرُوج، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، ائْذَنْ لي - يَعْنِي: فِي التَّخَلُّف - وَلَا تفتني - يَعْنِي: بنساء الرّوم - قَالَ: قومِي علمُوا أَنِّي بِالنسَاء مغرم، يَعْنِي: معجب ".
وَهَذَا أحد الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْله: {وَلَا تفتني} .
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن مَعْنَاهُ: لَا تؤثمني، قَالَ قَتَادَة، وَمَعْنَاهُ: لَا تسمنى لِلْخُرُوجِ، وَالْخُرُوج عسير عَليّ فأتخلف فأقع فِي الْإِثْم.(2/315)
{أمرنَا من قبل ويتولوا وهم فَرِحُونَ (50) قل لن يصيبنا إِلَّا مَا كتب الله لنا هُوَ مَوْلَانَا وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ (51) قل هَل تربصون بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحسنيين}
قَوْله: {أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا} فِيهِ مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: أَلا فِي جَهَنَّم سقطوا، وَالْآخر: أَلا فِي الشّرك سقطوا.
{وَإِن جَهَنَّم لمحيطة بالكافرين} محدقة بالكافرين.(2/316)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
قَوْله تَعَالَى: {إِن تصبك حَسَنَة تسؤهم} الْحَسَنَة هَاهُنَا هِيَ النِّعْمَة الَّتِي تطيب بهَا نفس الْإِنْسَان، وتلذ عيشه. وَفِي غير هَذَا الْموضع الْحَسَنَة بِمَعْنى الطَّاعَة. .
{وَإِن تصبك مُصِيبَة} الْمُصِيبَة هَاهُنَا هِيَ البلية فِي الْقِتَال بِإِصَابَة الْكَافرين من الْمُسلمين، يُقَال: إِن الْحَسَنَة الْمَذْكُورَة كَانَت يَوْم بدر، والمصيبة الْمَذْكُورَة كَانَت يَوْم أحد.
وَقَوله: {يَقُولُوا قد أَخذنَا أمرنَا من قبل} يَعْنِي: حذرنا من قبل، وَمَعْنَاهُ: احترزنا من الْوُقُوع فِي الْمُصِيبَة {ويتولوا وهم فَرِحُونَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/316)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قَوْله تَعَالَى: {قل لن يصيبنا إِلَّا ماكتب الله لنا} أَمر الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ بِأَن يجيبوهم بِهَذَا.
وَقَوله: {إِلَّا مَا كتب الله لنا} أَي: علينا، وَقيل: مَعْنَاهُ: مَا أخبر الله لنا {هُوَ مَوْلَانَا وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ} وَهُوَ حافظنا وناصرنا وَعَلِيهِ يعْتَمد الْمُؤْمِنُونَ، وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف بِرِوَايَة أبي الدَّرْدَاء أَن النَّبِي قَالَ: " لَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة الْإِيمَان حَتَّى يعلم أَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه، وَأَن مَا أخطأه لم يكن ليصيبه ".(2/316)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
قَوْله تَعَالَى: {قل هَل تربصون بِنَا} هَل تنتظرون بِنَا {إِلَّا إِحْدَى الحسنيين}(2/316)
{وَنحن نتربص بكم أَن يُصِيبكُم الله بِعَذَاب من عِنْده أَو بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعكُمْ متربصون (52) قل أَنْفقُوا طَوْعًا أَو كرها لن يتَقَبَّل مِنْكُم إِنَّكُم كُنْتُم قوما فاسقين (53) وَمَا مَنعهم أَن تقبل مِنْهُم نفقاتهم إِلَّا أَنهم كفرُوا بِاللَّه وبرسوله وَلَا يأْتونَ} تثنيه الْحسنى: الحسنيان، أَحدهمَا: الظفر، وَالْأُخْرَى: الشَّهَادَة.
وروى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " ضمن الله لمن خرج فِي سَبيله إِيمَانًا واحتسابا أَن يدْخلهُ الْجنَّة، أَو يرجعه إِلَى منزله الَّذِي خرج مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ من أجر أَو غنيمَة ".
وَقَوله: {وَنحن نتربص بكم} أَي: نَنْتَظِر بكم {أَن يُصِيبكُم الله بِعَذَاب من عِنْده أَو بِأَيْدِينَا} الْعَذَاب من عِنْده هُوَ القارعة تنزل من السَّمَاء، وَالْعَذَاب بأيدي الْمُؤمنِينَ هُوَ الْعَذَاب بِالسَّيْفِ {فتربصوا إِنَّا مَعكُمْ متربصون} فانتظروا إِنَّا مَعكُمْ منتظرون.(2/317)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
قَوْله تَعَالَى: {قل أَنْفقُوا طَوْعًا أَو كرها} هَذَا أَمر بِمَعْنى الشَّرْط، وَمَعْنَاهُ: إِن أنفقتم طَوْعًا أَو كرها {لن يتَقَبَّل مِنْكُم إِنَّكُم كُنْتُم قوما فاسقين} لأنكم كُنْتُم قوما فاسقين، وَالْفِسْق هَاهُنَا هُوَ الْكفْر.(2/317)
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا مَنعهم أَن تقبل مِنْهُم نفقاتهم إِلَّا أَنهم كفرُوا بِاللَّه وبرسوله} مَعْنَاهُ: أَن الْمَانِع من قبُول نفقاتهم كفرهم بِاللَّه وبرسوله.
وَقَوله: {وَلَا يأْتونَ الصَّلَاة إِلَّا وهم كسَالَى} أَي: متثاقلين. فَإِن قيل: كَيفَ ذكر الكسل فِي الصَّلَاة وَلَا صَلَاة أصلا؟
قُلْنَا: الذَّم وَاقع على الْكفْر الَّذِي يبْعَث على الكسل؛ فَإِن الْكفْر مكسل وَالْإِيمَان منشط، وَيُقَال: أصل كل كفر الكسل، وَفِي الْمثل: الكسل أحلى من الْعَسَل {وَلَا يُنْفقُونَ إِلَّا وهم كَارِهُون} مَعْلُوم الْمَعْنى. وَحَقِيقَة الْمَعْنى فِي الْكل: أَنهم لَا يصلونَ وَلَا يُنْفقُونَ إِلَّا خوفًا، فَأَما تقربا إِلَى الله فَلَا.(2/317)
{الصَّلَاة إِلَّا وهم كسَالَى وَلَا يُنْفقُونَ إِلَّا وهم كَارِهُون (54) فَلَا تعجبك أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم إِنَّمَا يُرِيد الله ليعذبهم بهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (55) ويحلفون بِاللَّه إِنَّهُم لمنكم وَمَا هم مِنْكُم وَلَكنهُمْ قوم يفرقون}(2/318)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تعجبك أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم} الْإِعْجَاب بالشَّيْء هُوَ السرُور بِهِ.
وَقَوله: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليعذبهم بهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} فِيهِ سُؤال، وَهُوَ أَنه يُقَال: كَيفَ يكون التعذيب بِالْمَالِ وَالْولد وهم يتنعمون بالأموال وَالْأَوْلَاد؟
الْجَواب من وُجُوه:
أَحدهمَا: أَن فِي الْآيَة تَقْدِيمًا وتأخيرا، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَلَا تعجبك أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُرِيد الله ليعذبهم بهَا فِي الْآخِرَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن التعذيب بالمصائب الْوَاقِعَة فِي المَال وَالْولد.
الثَّالِث: أَن معنى التعذيب هُوَ التَّعَب فِي الْجمع، وشغل الْقلب بِالْحِفْظِ، وَكَرَاهَة الْإِنْفَاق مَعَ الْإِنْفَاق، وتحليفه عِنْد من لَا يحمده، وقدومه على من لَا يعدله.
وَقَوله {وتزهق أنفسهم وهم كافرون} تخرج أنفسهم وهم كافرون.
وَفِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة، وَهُوَ ظَاهر.(2/318)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
قَوْله تَعَالَى: {ويحلفون بِاللَّه إِنَّهُم لمنكم} يَعْنِي: من جملتكم {وَمَا هم مِنْكُم} يَعْنِي: لَيْسُوا من جملتكم {وَلَكنهُمْ قوم يفرقون} أَي: يخَافُونَ.
وَفِي الحكايات: أَن بعض الْمُلْحِدِينَ رئي يُصَلِّي صَلَاة حَسَنَة، فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ: عَادَة أهل الْبَلَد، وصيانة المَال وَالْولد.(2/318)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
قَوْله تَعَالَى: {لَو يَجدونَ ملْجأ أَو مغارات أَو مدخلًا} قَالَ قَتَادَة: والملجأ: الْحُصُون، والمغارات: الغيران، والمدخل: الأسراب. وَهَذَا قَول حسن. فَمَعْنَى الْآيَة: لَو يَجدونَ مخلصا مِنْكُم ومهربا لفارقوكم، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {لولوا إِلَيْهِ وهم يجمحون} يَعْنِي: يسرعون، يُقَال: فرس جموح إِذا لم يكن رده عَن وَجهه بِشَيْء.(2/318)
( {56) لَو يَجدونَ ملجئا أَو مغارات أَو مدخلًا لولوا إِلَيْهِ وهم يجمحون (57) وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات فَإِن أعْطوا مِنْهَا رَضوا وَإِن لم يُعْطوا مِنْهَا إِذا هم يسخطون (58) وَلَو أَنهم رَضوا مَا آتَاهُم الله وَرَسُوله وَقَالُوا حَسبنَا الله سيؤتينا الله من فَضله وَرَسُوله إِنَّا إِلَى الله راغبون (59) }
قَالَ الشَّاعِر:
(لقد جمحت جماحا فِي دِمَائِهِمْ ... حَتَّى رَأَيْت ذَوي الْأَشْرَاف قد خمدوا)
وَرُوِيَ عَن أنس أَنه قَرَأَ: " وهم يجمرون " وَالْمعْنَى قريب فِي الأول.(2/319)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات} يَعْنِي: يعيبك فِي إِعْطَاء الصَّدقَات، وَيُقَال: الْهمزَة واللمزة بِمَعْنى وَاحِد، وَيُقَال: اللمزة الَّذِي يعيب النَّاس بقوله، والهمزة: الَّذِي يُشِير بطرفه [هزاء] .
سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن ذَا الْخوَيْصِرَة التَّمِيمِي - واسْمه: حرقوش بن زُهَيْر - أَتَى رَسُول الله وَهُوَ يقسم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، اعْدِلْ، فَقَالَ: فَمن يعدل إِن لم أعدل. ثمَّ قَالَ: يخرج من ضئضىء هَذَا أَقوام تحقرون صَلَاتكُمْ عِنْد صلَاتهم، وَصِيَامكُمْ عِنْد صِيَامهمْ، يَمْرُقُونَ من الدّين كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية " الْخَبَر فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: {فَإِن أعْطوا مِنْهَا رَضوا وَإِن لم يُعْطوا مِنْهَا إِذا هم يسخطون} هَذَا فِي ثَعْلَبَة بن حَاطِب وَأَصْحَابه، كَانُوا يرضون إِن أعْطوا كثيرا، وَإِن أعْطوا الْقَلِيل سخطوا وعابوا.(2/319)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَنهم رَضوا مَا آتَاهُم الله وَرَسُوله وَقَالُوا حَسبنَا الله} كافينا الله {سيؤتينا الله من فَضله وَرَسُوله إِنَّا إِلَى الله راغبون} يَعْنِي: لَو رَضوا بِمَا فعلت(2/319)
{إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبهم وَفِي الرّقاب} وَرَغبُوا فِي الزِّيَادَة كَانَ خيرا لَهُم من سخطهم وعيبهم.(2/320)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} الْآيَة، الْفَقِير فِي اللُّغَة: هُوَ الْمُحْتَاج الَّذِي كسرت الْحَاجة فقار ظَهره، والمسكين: الَّذِي ضعفت نَفسه عَن الْحَرَكَة فِي طلب الْقُوَّة فسكنت، وَأما الْكَلَام فَفِي الْفَقِير والمسكين نفى الْآيَة أَقْوَال كَثِيرَة.
أَحدهَا: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَمُجاهد وَالزهْرِيّ أَنهم قَالُوا: الْفَقِير: الَّذِي لَا يسْأَل، وَقَالَ بَعضهم على خلاف ذَلِك.
وَالثَّانِي: قَول قَتَادَة، وَهُوَ أَن الْفَقِير الَّذِي بِهِ زمانة وَلَا شَيْء لَهُ، والمسكين: الَّذِي لَا شَيْء لَهُ وَلَيْسَ بِهِ زمانة، وَقَالَ بَعضهم على مَا قَالَه قَتَادَة.
وَالثَّالِث: أَن الْفُقَرَاء هم الْمُهَاجِرُونَ، وَالْمَسَاكِين هم الْأَعْرَاب، وَهَذَا قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.
وَالرَّابِع: أَن الْفُقَرَاء هم الْمُسلمُونَ المحتاجون، وَالْمَسَاكِين هم أهل الْحَاجة من أهل الذِّمَّة.
وَفِيه قَول خَامِس: أَن الْفَقِير والمسكين وَاحِد. وَاخْتلفُوا أَيهمَا أحْوج، فمذهب الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أَن الْفَقِير أحْوج من الْمِسْكِين، وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {أما السَّفِينَة فَكَانَت لمساكين} فسماهم مَسَاكِين مَعَ أَن لَهُم سفينة. وَزعم الْأَصْمَعِي وَجَمَاعَة من أهل اللُّغَة أَن الْمِسْكِين أحْوج من الْفَقِير، وأنشدوا:
(أما الْفَقِير الَّذِي كَانَت حلوبته ... وفْق الْعِيَال فَلم تتْرك لَهُ [سبد] )
قَالَ يُونُس النَّحْوِيّ: قلت لأعرابي: أفقير أَنْت؟ قَالَ: بل مِسْكين - يَعْنِي: أدون من الْفَقِير.(2/320)
{والغارمين وَفِي سَبِيل الله وَابْن السَّبِيل فَرِيضَة من الله وَالله عليم حَكِيم (60) }
قَوْله تَعَالَى: {والعاملين عَلَيْهَا} يَعْنِي: السَّعَادَة، وَلَهُم سهم من الصَّدقَات مَعْلُوم.
وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: أَن لَهُم بِقدر أجر الْمثل.
وَقَوله: {والمؤلفة قُلُوبهم} قَالَ أهل الْعلم: الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم صنفان: مُسلمُونَ، ومشركون، وكل صنف على صنفين: أما الْمُسلمُونَ قوم كَانَ إِيمَانهم ضَعِيفا مثل: أبي سُفْيَان بن حَرْب، وعيينة بن حصن الفزارى، والأقرع بن حَابِس، وعباس بن مرداس وأمثالهم، كَانَ رَسُول الله يعطيهم ليتألفوا على الْإِيمَان فيقوي إِيمَانهم، وصنف كَانَ إِيمَانهم قَوِيا مثل: عدي بن حَاتِم، والزبرقان بن بدر وَغَيرهمَا، كَانَ يعطيهم ليتألف عشيرتهم.
وَأما الْمُشْركُونَ فصنفان: صنف كَانَ يدفعهم ليدفع أذاهم عَن الْمُسلمين، مثل عَامر ابْن الطُّفَيْل وَغَيره، وصنف كَانَ يعطيهم ليؤمنوا ويميلوا إِلَيْهِ مثل صَفْوَان بن أُميَّة بن خلف، وَمَالك بن عَوْف النصري وَغَيرهمَا.
وَاخْتلفُوا أَن سهم الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم هَل بَقِي بعد النَّبِي؟
قَالَ الشّعبِيّ وَجَمَاعَة: قد سقط. وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: هُوَ بَاقٍ. وَقد حكى عَن الشَّافِعِي كلا الْقَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيح هُوَ الأول.
وَقَوله: {وَفِي الرّقاب} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنهم المكاتبون. وَهَذَا قَول الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة وَغَيرهمَا.
وَقَالَ مَالك: يشترى بذلك السهْم رِقَاب فيعتقون. الصَّحِيح هُوَ الأول.
قَوْله: {والغارمين} قَالَ مُجَاهِد: هَؤُلَاءِ قوم أحرقت النَّار دُورهمْ، وأذهب السَّيْل أَمْوَالهم فادانوا لنفقاتهم. وَقَالَ غَيره: هُوَ كل من لحقه غرم بِسَبَب لَا مَعْصِيّة فِيهِ.(2/321)
{وَمِنْهُم الَّذين يُؤْذونَ النَّبِي وَيَقُولُونَ هُوَ أذن قل أذن خير لكم يُؤمن بِاللَّه ويؤمن للْمُؤْمِنين وَرَحْمَة للَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين يُؤْذونَ رَسُول الله لَهُم عَذَاب أَلِيم (61) يحلفُونَ بِاللَّه لكم ليرضوكم وَالله وَرَسُوله أَحَق أَن يرضوه إِن كَانُوا مُؤمنين}
وَقَوله: {وَفِي سَبِيل الله} هَؤُلَاءِ الْغُزَاة وَالْحجاج، وَقَوله: {فِي سَبِيل الله} : فِي طَاعَة الله {وَابْن السَّبِيل} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه الَّذِي قطع عَلَيْهِ الطَّرِيق فَبَقيَ فَقِيرا لَا مَال لَهُ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاء أَنه الَّذِي بعد عَن مَاله؛ فَيصْرف إِلَيْهِ سهم من الصَّدقَات وَإِن صَار غَنِيا فِي بَلَده.
وَحكى ابْن الْأَنْبَارِي قولا ثَالِثا: أَن ابْن السَّبِيل هُوَ الضَّيْف.
قَوْله تَعَالَى: {فَرِيضَة من الله} أَي: افْترض الله ذَلِك فَرِيضَة {وَالله عليم حَكِيم} عليم بِمَا يصلح خلقه، حَكِيم فِيمَا دبره.(2/322)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم الَّذين يُؤْذونَ النَّبِي وَيَقُولُونَ هُوَ أذن} الْأذن هَاهُنَا: هُوَ من يسمع كل مَا قيل لَهُ. قَالَ الشَّاعِر:
(أَيهَا الْقلب تعلل بددن ... إِن همي فِي سَماع وَأذن)
وَسبب نزُول الْآيَة: أَن الْمُنَافِقين قَالُوا: قُولُوا مَا تُرِيدُونَ ثمَّ أَنْكَرُوا واحلفوا؛ فَإِن مُحَمَّدًا أذن يسمع كل مَا قيل لَهُ ويقبله.
{قل أذن خير لكم} يَعْنِي: هَذِه الْخلَّة خير لكم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مستمع خير خير لكم، ومستمع شَرّ شَرّ لكم {يُؤمن بِاللَّه} يصدق بِاللَّه {ويؤمن للْمُؤْمِنين} وَيصدق الْمُؤمنِينَ {وَرَحْمَة للَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين يُؤْذونَ رَسُول الله لَهُم عَذَاب أَلِيم} مَعْنَاهُ ظَاهر. وَقُرِئَ: " أذن خير لكم " أَي: أصلح لكم.(2/322)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
قَوْله تَعَالَى: {يحلفُونَ بِاللَّه لكم ليرضوكم وَالله وَرَسُوله أَحَق أَن يرضوه إِن كَانُوا مُؤمنين} مَعْنَاهُ ظَاهر.
وَقَوله: {إِن كَانُوا مُؤمنين} قيل: يَعْنِي: مَا كَانُوا مُؤمنين.(2/322)
( {62) ألم يعلمُوا أَنه من يحادد الله وَرَسُوله فَأن لَهُ نَار جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا ذَلِك الخزي الْعَظِيم (63) يحذر المُنَافِقُونَ أَن تنزل عَلَيْهِم سُورَة تنبئهم بِمَا فِي قُلُوبهم قل استهزءوا إِن الله مخرج مَا تحذرون (64) وَلَئِن سَأَلتهمْ ليَقُولن إِنَّمَا كُنَّا}(2/323)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
قَوْله تَعَالَى: {ألم يعلمُوا أَنه من يحادد الله وَرَسُوله} يحادد الله: يَعْنِي: من يكون فِي حد وجانب من الله وَرَسُوله {فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا ذَلِك الخزي الْعَظِيم} الفضيحة الْعَظِيمَة والنكال الْعَظِيم.(2/323)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
قَوْله تَعَالَى: {يحذر المُنَافِقُونَ} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه خبر بِمَعْنى الْأَمر، وَمَعْنَاهُ: ليحذر المُنَافِقُونَ.
وَالْآخر: أَنه بِمَعْنى الْإِخْبَار عَنْهُم؛ إِذْ كَانُوا يستهزئون وَيَخَافُونَ الفضيحة بنزول الْقُرْآن فِي شَأْنهمْ.
قَوْله تَعَالَى: {أَن تنزل عَلَيْهِم سُورَة تنبئهم بِمَا فِي قُلُوبهم} وَقد بَينا أَن هَذِه السُّورَة تسمى المبعثرة والفاضحة؛ فَهَذِهِ الْآيَة تُشِير إِلَى مَا قدمنَا.
وَقد رُوِيَ عَن عبد الله بن عَبَّاس قَالَ: أنزل الله تَعَالَى ذكر سبعين رجلا من الْمُنَافِقين بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاء آبَائِهِم وعشائرهم، ثمَّ نسخ ذكر الْأَسْمَاء رَحْمَة ورأفة على الْمُؤمنِينَ؛ لِأَن أَوْلَادهم كَانُوا مُؤمنين، فنسخ ذَلِك لِئَلَّا يعير بَعضهم بَعْضًا.
قَوْله تَعَالَى: {قل استهزئوا إِن الله مخرج مَا تحذرون} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/323)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ ليَقُولن إِنَّمَا كُنَّا نَخُوض وَنَلْعَب} .
سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن النَّبِي كَانَ يسير فِي غَزْوَة تَبُوك وقدامه ثَلَاثَة من الْمُنَافِقين، اثْنَان يستهزئان، وَالثَّالِث يضْحك " وَقيل: إِن استهزاءهم: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا يزْعم أَنه يغلب الرّوم وَيفتح مدائنهم، مَا أبعده عَن ذَلِك.
وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا يزْعم أَنه نزل الْقُرْآن فِي شَأْن أَصْحَابنَا المقيمين(2/323)
{نَخُوض وَنَلْعَب قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزءون (65) لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ إِن نعف عَن طَائِفَة مِنْكُم نعذب طَائِفَة بِأَنَّهُم كَانُوا مجرمين (66) المُنَافِقُونَ والمنافقات بَعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وَينْهَوْنَ عَن} بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْله وَكَلَامه. فَهَذَا معنى الْآيَة؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَن النَّبِي أرسل إِلَيْهِم: مَاذَا كُنْتُم تَقولُونَ؟ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا نَخُوض فِيمَا يَخُوض فِيهِ الركب، فَقَالَ الله تَعَالَى: {قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزئون} .
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " رَأَيْت عبد الله بن أبي ابْن سلول يشْتَد قُدَّام النَّبِي وَالْحِجَارَة تنكبه وَهُوَ يَقُول: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوض وَنَلْعَب؛ وَرَسُول الله يَقُول: {أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزئون} ".(2/324)
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
قَوْله تَعَالَى: {لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ} فَإِن قَالَ قَائِل: قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ وهم لم يَكُونُوا مُؤمنين.
الْجَواب عَنهُ: أَن مَعْنَاهُ: أظهرتم الْكفْر بعد إظهاركم الْإِيمَان.
وَقَوله تَعَالَى: {إِن نعف عَن طَائِفَة مِنْكُم} قرئَ: " نعف " ومعناهما وَاحِد، والطائفة هَاهُنَا رجل وَاحِد كَانَ يُسمى مخشى بن حمير، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يضْحك وَلَا يَخُوض مَعَهم، وروى أَنه جانبهم فَقَالَ: {إِن نعف عَن طَائِفَة مِنْكُم} يَعْنِي: هَذَا الْوَاحِد {نعذب طَائِفَة بِأَنَّهُم كَانُوا مجرمين} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/324)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
قَوْله تَعَالَى: {المُنَافِقُونَ والمنافقات بَعضهم من بعض} الْآيَة، قَوْله: {بَعضهم من بعض} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن بَعضهم على دين الْبَعْض.(2/324)
{الْمَعْرُوف ويقبضون أَيْديهم نسوا الله فنسيهم إِن الْمُنَافِقين هم الْفَاسِقُونَ (67) }
وَالْآخر: أَن أَمرهم وَاحِد، وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول لغيره: أَنا مِنْك، يَعْنِي: أَمْرِي وأمرك وَاحِد.
{يأمرون بالمنكر} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن الْمُنكر: هُوَ الشّرك، وَالْمَعْرُوف: هُوَ الْإِيمَان بِاللَّه.
وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي أَنه قَالَ: كل مَا ذكر من الْمُنكر فِي الْقُرْآن فَهُوَ عبَادَة الْأَوْثَان والشرك بِاللَّه.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْمُنكر: هُوَ مَعْصِيّة الله تَعَالَى، وَالْمَعْرُوف: هُوَ طَاعَة الله.
وَقَوله تَعَالَى: {وَينْهَوْنَ عَن الْمَعْرُوف} القَوْل الْمَعْرُوف أَن معنى قَوْله: {ويقبضون أَيْديهم} يمسكون عَن الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يقبضون أَيْديهم أَي: عَن الْجِهَاد فِي سَبِيل الله.
وَقَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين: يَعْنِي: لَا يبسطونها للدُّعَاء وَالرَّغْبَة إِلَى الله.
قَوْله تَعَالَى: {نسوا الله فنسيهم} أَي: تركُوا أَمر الله فتركهم من رَحمته. وَرُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: نسوا من الْخَيْر وَلم ينسوا من الشَّرّ.
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُنَافِقين هم الْفَاسِقُونَ} يَعْنِي: هم الخارجون عَن طَاعَة الله.
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " عَلامَة الْمُنَافِق ثَلَاثَة: إِذا قَالَ كذب، وَإِذا ائْتمن خَان، وَإِذا وعد (خلف) ". وَفِي بعض الرِّوَايَات: " إِذا عَاهَدَ غدر ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " لايأتون الصَّلَاة إِلَّا دبرا وَلَا يقرءُون الْقُرْآن إِلَّا هجرا ". وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس: أَن عدد الْمُنَافِقين من الرِّجَال فِي زمَان رَسُول الله كَانَ ثلثمِائة، وَعدد النِّسَاء مائَة وَسَبْعُونَ.(2/325)
{وعد الله الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْكفَّار نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا هِيَ حسبهم ولعنهم الله وَلَهُم عَذَاب مُقيم (68) كَالَّذِين من قبلكُمْ كَانُوا أَشد مُنكر قُوَّة وَأكْثر أَمْوَالًا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كَمَا استمتع الَّذين من قبلكُمْ بخلاقهم وخضتم كَالَّذي خَاضُوا أُولَئِكَ حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأُولَئِكَ هم الخاسرون (69) ألم يَأْتهمْ نبأ الَّذين من قبلهم قوم نوح وَعَاد وَثَمُود}(2/326)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
قَوْله تَعَالَى: {وعد الله الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْكفَّار نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا} مَعْلُوم. وَقَوله: {هِيَ حسبهم} أَي: كافيتهم {ولعنهم الله} أَي: أبعدهم الله من رَحمته {وَلَهُم عَذَاب مُقيم} أَي: دَائِم.(2/326)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
قَوْله تَعَالَى: {كَالَّذِين من قبلكُمْ} مَعْنَاهُ: أَنْتُم يَا معشر الْمُنَافِقين كَالَّذِين من قبلكُمْ. قَوْله: {كَانُوا أَشد مِنْكُم قُوَّة وَأكْثر أَمْوَالًا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم} الخلاق: النَّصِيب، وَقيل: الْحَظ الوافر. وَمعنى الْآيَة: اسْتَمْتعُوا باتبَاعهمْ الشَّهَوَات {كَمَا استمتعتم بخلاقكم} باتباعكم الشَّهَوَات، وَقيل: معنى الْآيَة: رَضوا بنصيبهم من الدُّنْيَا عَن نصِيبهم من الْآخِرَة. وَقَوله تَعَالَى: {وخضتم كَالَّذي خَاضُوا} يَعْنِي: لعبوا واستهزءوا كَمَا فَعلْتُمْ. قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأُولَئِكَ هم الخاسرون} مَعْنَاهُ: كَمَا حبطت أَعْمَالهم وخسروا كَذَلِك حبطت أَعمالكُم وخسرتم. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لتتبعن سنَن من قبلكُمْ حَتَّى لَو دخل أحدهم فِي جُحر ضَب ليدخلنه أحدكُم ". وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: مَا أشبه اللَّيْلَة بالبارحة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.(2/326)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
قَوْله تَعَالَى: {ألم يَأْتهمْ نبأ الَّذين من قبلهم} أَي: خبر الَّذين من قبلهم {قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم إِبْرَاهِيم وَأَصْحَاب مَدين} ومدين اسْم قَرْيَة شُعَيْب. قَوْله: {والمؤتفكات} هِيَ: قريات لوط؛ سميت مؤتفكة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَلبهَا بهم. قَوْله:(2/326)
{وَقوم إِبْرَاهِيم وَأَصْحَاب مَدين والمؤتفكات أَتَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ الله ليظلمهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (70) والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر ويقيمون الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة ويطيعون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ سيرحمهم الله إِن الله عَزِيز حَكِيم (71) وعد الله الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا ومساكن طيبَة فِي} {أَتَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج {فَمَا كَانَ الله ليظلمهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} مَعْنَاهُ: مَا نقص الله حظهم؛ وَلَكِن نَقَصُوا هم حظهم، وضروا بِأَنْفسِهِم.(2/327)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
قَوْله تَعَالَى: {والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} هَذِه الْولَايَة هِيَ ولَايَة الدّين واتفاق الْكَلِمَة. وَيُقَال فِي تَفْسِير الْآيَة: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار بَعضهم أَوْلِيَاء بعض، والطلقاء من قُرَيْش والعتقاء من ثَقِيف بَعضهم أَوْلِيَاء بعض.
قَوْله تَعَالَى: {يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر ويقيمون الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة} إِلَى آخر الْآيَة مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَقَوله: {ويطيعون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ سيرحمهم الله} قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: هُوَ اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة. وَقَوله: {إِن الله كَانَ عَزِيزًا حكيما} أَي: عَزِيز فِي نَصره، حَكِيم فِي تَدْبيره.(2/327)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
قَوْله تَعَالَى: {وعد الله الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا} الجنات: الْبَسَاتِين {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} هَذِه الْأَنْهَار هِيَ الْأَنْهَار الَّتِي ذكر الله تَعَالَى فِي سُورَة مُحَمَّد.
قَوْله: {ومساكن طيبَة} رُوِيَ عَن عبد الله بن عَبَّاس أَنه قَالَ: {ومساكن طيبَة} هِيَ قصر من لُؤْلُؤ فِيهَا سَبْعُونَ دَارا من الزبرجد، فِي كل دَار سَبْعُونَ بَيْتا من الْيَاقُوت، فِي كل بَيت سَبْعُونَ سريرا، على كل سَرِير سَبْعُونَ فراشا من كل لون، على كل فرَاش زَوْجَة من الْحور الْعين. وَفِي الْآثَار - أَيْضا - أَن قَوْله: {فِي جنَّات عدن} قَالَ: إِن جنَّة عدن هِيَ مأوى الْأَنْبِيَاء وَالصديقين وَالشُّهَدَاء، وَسَائِر الْجنان حواليها. وَقيل: إِن جنَّة عدن فِي السَّمَاء السَّابِعَة لَا يدخلهَا إِلَّا نَبِي أَو صديق أَو إِمَام عدل أَو رجل مُحكم فِي نَفسه. وَمعنى قَوْله " مُحكم فِي نَفسه " يَعْنِي: خير بَين الْكفْر وَالْقَتْل فَاخْتَارَ(2/327)
{جنَّات عدن ورضوان من الله أكبر ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم (72) يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَأَغْلظ عَلَيْهِم ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (73) يحلفُونَ بِاللَّه مَا قَالُوا وَلَقَد قَالُوا كلمة الْكفْر} الْقَتْل. وَأما جنَّة المأوى فَهِيَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا. وَقَوله: {عدن} أَي: مَوضِع الْإِقَامَة، يُقَال: عدن بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ بِهِ، قَالَ الشَّاعِر:
(فَإِن تستضيفوا إِلَى حلمه ... تضيفوا إِلَى رَاجِح قد عدن)
وَقَوله تَعَالَى: {ورضوان من الله أكبر} مَعْنَاهُ: رضَا الله أكبر من هَذِه التحف.
وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله تَعَالَى يَقُول: يَا أهل الْجنَّة. فَيَقُولُونَ: لبيْك رَبنَا وَسَعْديك، وَالْخَيْر فِي يَديك، فَيَقُول: هَل رَضِيتُمْ عني؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لنا لَا نرضى وَقد أَعطيتنَا أفضل مَا تُعْطِي أحدا من خلقك؟ ! فَيَقُول: وَأَنا أُعْطِيكُم أفضل من ذَلِك، فَيَقُولُونَ: وَمَا أفضل من ذَلِك؟ فَيَقُول: أحل - أَي: أنزل - عَلَيْكُم رِضْوَانِي فَلَا أَسخط عَلَيْكُم أبدا ". خرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي كِتَابَيْهِمَا.
قَوْله {ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/328)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
{يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} قَالَ أهل التَّفْسِير: مَعْنَاهُ: جَاهد الْكفَّار بِالسَّيْفِ، وَالْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: لَا تلق الْمُنَافِق إِلَّا بِوَجْه مكفهر. وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: يُجَاهد بِيَدِهِ، فَإِن لم يسْتَطع فبلسانه، فَإِن لم يسْتَطع فبقلبه. وَقَوله تَعَالَى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} الغلظة هَا هُنَا: هُوَ الِانْتِهَار الشَّديد. قَوْله: {ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/328)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
قَوْله تَعَالَى: {يحلفُونَ بِاللَّه مَا قَالُوا وَلَقَد قَالُوا كلمة الْكفْر} الْآيَة نزلت فِي الْمُنَافِقين أَيْضا. وَاخْتلف القَوْل فِي كلمة الْكفْر.
قَالَ بَعضهم: كلمة الْكفْر: هِيَ سبّ مُحَمَّد. وَقَالَ بَعضهم: كلمة الْكفْر: هِيَ قَول الْجلاس بن سُوَيْد؛ فَإِنَّهُ قَالَ: لَئِن كَانَ مَا يَقُول مُحَمَّد حق فَنحْن شَرّ من الْحمير.(2/328)
{وَكَفرُوا بعد إسْلَامهمْ وهموا بِمَا لم ينالوا وَمَا نقموا إِلَّا أَن أغناهم الله وَرَسُوله من فَضله فَإِن يتوبوا يَك خيرا لَهُم وَإِن يتولوا يعذبهم الله عذَابا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} وَفِيه قَول ثَالِث: أَن كلمة الْكفْر هِيَ قَوْلهم: لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل، وعنوا بالأعز: عبد الله بن أبي بن سلول، وَقَالُوا: نتوجه بالتاج خلافًا على مُحَمَّد.
وَقَوله تَعَالَى: {وَكَفرُوا بعد إسْلَامهمْ} مَعْنَاهُ: وأظهروا الْكفْر بعد إظهارهم الْإِسْلَام.
وَقَوله تَعَالَى: {وهموا بِمَا لم ينالوا} يَعْنِي: قصدُوا مَا لم يدركوه؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَن اثْنَي عشر نَفرا من الْمُنَافِقين اجْتَمعُوا فِي غَزْوَة تَبُوك ليغتالوا النَّبِي. وَرُوِيَ أَنهم قصدُوا أَن يوقعوه من الْعقبَة فِي الْوَادي، فَدفع الله شرهم عَن النَّبِي؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {وهموا بِمَا لم ينالوا} . وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا نقموا إِلَّا أَن أغناهم الله وَرَسُوله من فَضله} نقموا أَي: كَرهُوا، قَالَ الشَّاعِر فِي مدح بني أُميَّة شعرًا:
(مَا نقموا من بني أُميَّة ... إِلَّا أَنهم (يحلمون) إِن غضبوا)
(وَأَنَّهُمْ سادة الْمُلُوك ... وَلَا يصلح إِلَّا عَلَيْهِم الْعَرَب)
وَقَوله تَعَالَى: {إِلَّا أَن أغناهم الله وَرَسُوله من فَضله} يَعْنِي: بالغنائم. وَرُوِيَ: " أَن الْجلاس بن سُوَيْد كَانَ تحمل بحمالة فأداها عَنهُ رَسُول الله ". وَرُوِيَ أَن عبد الله بن أبي بن سلول كَانَت لَهُ دِيَة على قوم فَأمر النَّبِي أَن يوفر عَلَيْهِ. فَهَذَا كُله معنى قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَن أغناهم الله وَرَسُوله من فَضله} .
قَوْله تَعَالَى: {فَإِن يتوبوا يَك خيرا لَهُم} رُوِيَ أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ الْجلاس بن سُوَيْد: إِنِّي أرى الله يعرض عَليّ التَّوْبَة، وَإِنِّي قد تبت إِلَى الله مِمَّا كنت فِيهِ؛ فَروِيَ(2/329)
{وَالْآخِرَة وَمَا لَهُم فِي الأَرْض من ولي وَلَا نصير (74) وَمِنْهُم من عَاهَدَ الله لَئِن آتَانَا من فَضله لنصدقن ولنكونن من الصَّالِحين (75) فَلَمَّا آتَاهُم من فَضله بخلوا} أَنه صَحَّ إيمَانه وَاسْتشْهدَ يَوْم الْيَمَامَة.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يتولوا يعذبهم الله عذَابا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمَا لَهُم فِي الأَرْض من ولي وَلَا نصير} إِلَى آخر الْآيَة، مَعْنَاهُ ظَاهر.
وَيُقَال فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا نقموا إِلَّا أَن أغناهم الله} يَعْنِي: لَيست لَهُم كَرَاهَة وَلَا نقمة، وَهَذَا مثل قَول الشَّاعِر:
(وَلَا عيب فِينَا غير أَن سُيُوفنَا ... بِهن فلول من قراع الْكَتَائِب)
يَعْنِي: لَا عيب فِينَا أصلا.(2/330)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من عَاهَدَ الله لَئِن آتَانَا من فَضله لنصدقن ولنكونن من الصَّالِحين} أَي: لنتصدقن، وأدغمت التَّاء فِي الصَّاد وشددت، أَي: لنصدقن فِي وُجُوه الْخَيْر من الْجِهَاد وَغَيره، ولنكونن من الصَّالِحين. قيل: مثل عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَغَيرهمَا فِي الْبَذْل وَالعطَاء.
فِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا نزلت فِي رجل من الْأَنْصَار كَانَ لَهُ مَال غَائِب، فَقَالَ: إِن رد الله على مَالِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، فَرد الله عَلَيْهِ مَاله فَلم يفعل شَيْئا، فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهِ هَذِه الْآيَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا نزلت فِي ثَعْلَبَة بن حَاطِب. روى أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ: " أَن ثَعْلَبَة ابْن حَاطِب جَاءَ إِلَى النَّبِي وَقَالَ: يَا رَسُول الله، ادْع الله أَن يَرْزُقنِي مَالا، فَقَالَ: قَلِيل يَكْفِيك خير من كثير لَا تقوم بِحقِّهِ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، ادْع الله أَن يَرْزُقنِي مَالا، فَقَالَ: أما ترْضى أَن تكون مثل رَسُول الله، فوَاللَّه لَو أردْت أَن تسير معي الْجبَال ذَهَبا وَفِضة لَسَارَتْ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، ادْع الله أَن يَرْزُقنِي مَالا، فوَاللَّه لاؤدين إِلَى كل ذِي حق حَقه، فَدَعَا رَسُول الله وَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَة مَالا، قَالَ: فَاتخذ غنما فَنمت كَمَا يَنْمُو الدُّود حَتَّى ضَاقَتْ بهَا أَزِقَّة الْمَدِينَة، فَخرج بهَا إِلَى الصَّحرَاء(2/330)
{بِهِ وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم إِلَى يَوْم يلقونه بِمَا أخْلفُوا الله مَا وعدوه وَبِمَا كَانُوا يكذبُون (77) ألم يعلمُوا أَن الله يعلم سرهم} وَجعل يحضر الصَّلَوَات الْخمس، ثمَّ نمت حَتَّى ضَاقَتْ بهَا مرَاعِي الْمَدِينَة، فَقَالَ فَبعد بهَا وَجعل لَا يحضر إِلَّا الْجُمُعَة، ثمَّ ترك حُضُور الصَّلَوَات وَالْجُمُعَة جَمِيعًا. قَالَ: فَبعث رَسُول الله مصدقه ليَأْخُذ الزَّكَاة، فَمر عَلَيْهِ وطالبه بِالزَّكَاةِ، فَقَالَ: مَا أرى هَذَا إِلَّا أُخْت الْجِزْيَة، اذْهَبْ حَتَّى تعود إِلَيّ، فَلَمَّا عَاد إِلَيْهِ لم يُعْط شَيْئا، وَقَالَ: حَتَّى ألْقى رَسُول الله، فَرجع الْمُصدق وَأخْبر النَّبِي بأَمْره، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، فَروِيَ أَنه ذكر لَهُ أَنه نزلت فِيهِ هَذِه الْآيَة فَحَضَرَ الْمَدِينَة وَقَالَ: يَا رَسُول الله، خُذ مني الزَّكَاة، فَأبى أَن يَأْخُذ، فَلَمَّا توفّي رَسُول الله جَاءَ إِلَى أبي بكر وَطلب أَن يَأْخُذ مِنْهُ الزَّكَاة، فَقَالَ: مَا أَخذ رَسُول الله؛ فَلَا آخذ أَنا، وَهَكَذَا فِي زمَان عمر وزمان عُثْمَان، وَتُوفِّي فِي زمَان عُثْمَان ".(2/331)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
وَقَوله تَعَالَى: {فأعقبهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم} فِيهِ مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: فعاقبهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم، يُقَال: أعقبه وعاقبه بِمَعْنى وَاحِد.
وَالْمعْنَى الثَّانِي: أخلفهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم.
{إِلَى يَوْم يلقونه} يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله تَعَالَى: {بِمَا أخْلفُوا الله مَا وعدوه وَبِمَا كَانُوا يكذبُون} .(2/331)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
ثمَّ قَالَ: {ألم يعلمُوا أَن الله يعلم سرهم ونجواهم} يَعْنِي: مَا أضمروا فِي قُلُوبهم(2/331)
{ونجواهم وَأَن الله علام الغيوب (78) الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين من الْمُؤمنِينَ فِي الصَّدقَات وَالَّذين لَا يَجدونَ إِلَّا جهدهمْ فيسخرون مِنْهُم سخر الله مِنْهُم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (79) اسْتغْفر لَهُم أَولا تستغفر لَهُم إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ} وَمَا تناجوا بِهِ بَينهم {وَأَن الله علام الغيوب} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/332)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين من الْمُؤمنِينَ فِي الصَّدقَات} يَلْمِزُونَ: يعيبون.
وَسبب نزُول الْآيَة: " أَن النَّبِي حث النَّاس على الصَّدَقَة، فجَاء عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بأَرْبعَة آلَاف دِينَار - وَكَانَ ذَلِك نصف مَاله - وَجَاء عَاصِم بن عدي بثلثمائة وسق من تمر - والوسق حمل بعير - وَجَاء أَبُو عقيل - رجل من الْأَنْصَار - بِصَاع من تمر، وَقَالَ: كَانَ لي صَاعَانِ من تمر فَجئْت بِأَحَدِهِمَا، فَقَالَ المُنَافِقُونَ: أما عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف وَعَاصِم بن عدي: فأعطيا مَا أعطيا رِيَاء، وَأما أَبُو عقيل: فَمَا كَانَ أغْنى الله من صَاع أبي عقيل، فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم هَذِه الْآيَة ". {والمطوعين} المتطوعين من الْمُؤمنِينَ، هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَعَاصِم بن عدي {وَالَّذين لَا يَجدونَ إِلَّا جهدهمْ} هُوَ أَبُو عقيل. والجهد: الطَّاقَة {فيسخرون مِنْهُم} يستهزئون مِنْهُم {سخر الله مِنْهُم} جازاهم جَزَاء السخرية {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} .(2/332)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {اسْتغْفر لَهُم أَو لَا تستغفر لَهُم إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} الْآيَة. أَرَادَ بِهِ إِثْبَات الْيَأْس عَن طمع الْمَغْفِرَة لَهُم.
وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه روى عَن النَّبِي مُرْسلا أَنه قَالَ: " وَالله لأزيدن على السّبْعين " فَأنْزل الله عز وَجل: {سَوَاء عَلَيْهِم استغفرت لَهُم أم لم تستغفر لَهُم لن يغْفر الله لَهُم} وَذكر عدد السّبْعين للْمُبَالَغَة فِي إِثْبَات الْيَأْس {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/332)
{يغْفر الله لَهُم ذَلِك بِأَنَّهُم كفرُوا بِاللَّه وَرَسُوله وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين (80) فَرح الْمُخَلفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُول الله وكرهوا أَن يجاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله وَقَالُوا لَا تنفرُوا فِي الْحر قل نَار جَهَنَّم أَشد حرا لَو كَانُوا يفقهُونَ (81) فليضحكوا قَلِيلا وليبكوا كثيرا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِن}(2/333)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
قَوْله تَعَالَى: {فَرح الْمُخَلفُونَ} الْفَرح: لَذَّة فِي الْقلب بنيل المشتهى، وَالْغَم: ضيق فِي الْقلب بِفَوَات المشتهى. وَأما الْمُخَلفُونَ فهم الَّذين قعدوا عَن الْغَزْو، وَتركُوا الْخُرُوج مَعَ رَسُول الله. والمخلف: الْمَتْرُوك. وَقَوله: {بِمَقْعَدِهِمْ} يَعْنِي: بقعودهم. وَقَوله: {خلاف رَسُول الله} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: مُخَالفَة لرَسُول الله. وَالثَّانِي: بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُول الله أَي: بعد رَسُول الله، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة {وكرهوا أَن يجاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله} المجاهدة بِالْمَالِ: هِيَ الْإِنْفَاق، والمجاهدة بِالنَّفسِ: هِيَ مُبَاشرَة الْقِتَال، وَقَوله: {وكرهوا} يَعْنِي: لم يُحِبُّوا {وَقَالُوا لَا تنفرُوا فِي الْحر} الْحر: هُوَ وهج الشَّمْس، وَالْبرد ضِدّه. {قل نَار جَهَنَّم أَشد حرا} يَعْنِي: أَشد وهجا {لَو كَانُوا يفقهُونَ} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " لَو كَانُوا يعلمُونَ ". وَالْمعْنَى وَاحِد.(2/333)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
قَوْله تَعَالَى: {فليضحكوا قَلِيلا وليبكوا كثيرا} الضحك: حَالَة تكون فِي الْإِنْسَان من التَّعَجُّب والفرح، والبكاء حَالَة تعتري الْإِنْسَان من الْهم وضيق الْقلب مَعَ جَرَيَان الدمع على الخد، وَيُقَال: إِن الضحك فِي بني آدم كالصهيل فِي الْخَيل.
وَفِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {فليضحكوا قَلِيلا} أَي: فِي الدُّنْيَا {وليبكوا كثيرا} فِي الْآخِرَة {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} قَالَه أَبُو رزين، وَالْحسن وَجَمَاعَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا أَمر بِمَعْنى الْخَبَر، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَضْحَكُونَ قَلِيلا، ويبكون كثيرا، يَعْنِي: فِي الْآخِرَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: يَضْحَكُونَ قَلِيلا وهم لَا يَضْحَكُونَ أصلا فِي الْآخِرَة؟
الْجَواب: قُلْنَا: معنى قَوْله: يَضْحَكُونَ قَلِيلا يَعْنِي: لَا يَضْحَكُونَ أصلا، وَهَذَا مثل(2/333)
{رجعك الله إِلَى طَائِفَة مِنْهُم فاستئذنوك لِلْخُرُوجِ فَقل لن تخْرجُوا معي أبدا وَلنْ تقاتلوا معي عدوا إِنَّكُم رَضِيتُمْ بالقعود أول مرّة فاقعدوا مَعَ الخالفين (83) وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا وَلَا تقم على قَبره إِنَّهُم كفرُوا بِاللَّه وَرَسُوله وماتوا} قَوْله تَعَالَى: {فقليلا مَا يُؤمنُونَ} أَي: لَا يُؤمنُونَ شَيْئا.
وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: إِن أهل النَّار ليبكون لَا يرقأ لَهُم دمع حَتَّى إِن السفن لَو أجريت فِي دموعهم جرت.(2/334)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِن رجعك الله إِلَى طَائِفَة مِنْهُم} يَعْنِي: لَو ردك الله إِلَى طَائِفَة مِنْهُم {فاستئذنوك لِلْخُرُوجِ} لِيخْرجُوا مَعَك فِي الْقِتَال {فَقل لن تخْرجُوا معي أبدا وَلنْ تقاتلوا معي عدوا} قَالَ أهل التَّفْسِير: الْعَدو هَا هُنَا: أهل الْكتاب؛ فَإِنَّهُ لم يكن بَقِي بِجَزِيرَة الْعَرَب مُشْرك فِي ذَلِك الْوَقْت. قَوْله: {إِنَّكُم رَضِيتُمْ بالقعود أول مرّة فاقعدوا مَعَ الخالفين} والخالفون هَاهُنَا هم النِّسَاء وَالصبيان، وَقيل: هم أهل الزمانة والضعف.(2/334)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} الْآيَة. نزلت الْآيَة فِي شَأْن عبد الله بن أبي بن سلول؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ: " أَنه لما حَضَره الْمَوْت جَاءَ ابْنه إِلَى رَسُول الله برسالته يطْلب مِنْهُ قَمِيصه ليكفنه فِيهِ، فَأعْطَاهُ رَسُول الله قَمِيصه. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه أعطَاهُ قَمِيصه الَّذِي فَوق قَمِيصه وَهُوَ الْأَعْلَى، فَرد وَطلب قَمِيصه الَّذِي يَلِي جلده، فَلَمَّا توفّي قدم ليُصَلِّي عَلَيْهِ رَسُول الله بِطَلَب ابْنه ذَلِك ووصيته، فَلَمَّا تقدم رَسُول الله ليُصَلِّي عَلَيْهِ أَخذ عمر بِثَوْبِهِ وَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَتُصَلِّي على هَذَا الْمُنَافِق؟ فَقَالَ رَسُول الله: إِن رَبِّي خيرني. وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {اسْتغْفر لَهُم أَو لَا تستغفر لَهُم} وَقد اخْتَرْت أَن أُصَلِّي عَلَيْهِ قَالَ: فَصلي عَلَيْهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} .
وَفِي رِوَايَة أنس: " أَن النَّبِي لما وقف ليُصَلِّي عَلَيْهِ أَخذ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام(2/334)
{وهم فَاسِقُونَ (84) وَلَا تعجبك أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ إِنَّمَا يُرِيد الله أَن يعذبهم بهَا فِي الدُّنْيَا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (85) وَإِذا أنزلت سُورَة أَن آمنُوا بِاللَّه} بِطرف ثَوْبه وَمنعه من الصَّلَاة، فَترك الصَّلَاة ".
وَالرِّوَايَة الأولى هِيَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".
وَقَوله: {وَلَا تقم على قَبره} وَفِي رِوَايَة: " أَن النَّبِي كَانَ إِذا صلى على ميت وقف على قَبره ودعا " فَمَنعه الله تَعَالَى عَن ذَلِك فِي حق الْمُنَافِقين.
فَإِن قيل: كَيفَ يجوز أَن يُصَلِّي النَّبِي على الْمُنَافِق وَهُوَ يعلم أَنه كَافِر بِاللَّه؟
الْجَواب عَنهُ: أَنه رأى ذَلِك مصلحَة؛ وَقد قيل حِين صلى عَلَيْهِ: " إِن صَلَاتي عَلَيْهِ لَا تغني عَنهُ من عَذَاب الله شَيْئا ".
وَفِي بعض الرِّوَايَات: " أَن عبد الله بن أبيّ بن سلول لما طلب مِنْهُ قَمِيصه ليتبرك بِهِ ويكفن فِيهِ، أسلم ألف رجل من قومه لم يَكُونُوا أَسْلمُوا من قبل لما رَأَوْا من تبركه بِالنَّبِيِّ. [ {إِنَّهُم كفرُوا بِاللَّه وَرَسُوله وماتوا وهم فَاسِقُونَ} ] وَبَاقِي الْآيَة مَعْلُوم.(2/335)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تعجبك أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم} قد بَينا مَعْنَاهَا فِيمَا سبق؛ فَإِن قيل: أيش معنى التّكْرَار؟
وَفِي هَذِه الْآيَة الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه للتَّأْكِيد.
وَالثَّانِي: أَن الْآيَتَيْنِ نزلتا فِي طائفتين من الْمُنَافِقين دون طَائِفَة وَاحِدَة.(2/335)
{وَجَاهدُوا مَعَ رَسُوله استئذنك أولُوا الطول مِنْهُم وَقَالُوا ذرنا نَكُنْ مَعَ القاعدين (86) رَضوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِف وطبع على قُلُوبهم فهم لَا يفقهُونَ (87) لَكِن الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه جاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم وَأُولَئِكَ لَهُم الْخيرَات وَأُولَئِكَ هم المفلحون (88) أعد الله لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين}(2/336)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا أنزلت سُورَة أَن آمنُوا بِاللَّه وَجَاهدُوا مَعَ رَسُوله} معنى الْآيَة ظَاهر.
وَقَوله: {استأذنك أولُوا الطول مِنْهُم} الطول: هُوَ السعَة والغنا بِإِجْمَاع الْمُفَسّرين، وَقيل: إِنَّه إِنَّمَا سميت السعَة طولا؛ لِأَن الْإِنْسَان يَتَطَاوَل بهَا النَّاس.
وَقَوله: {وَقَالُوا ذرنا نَكُنْ مَعَ القاعدين} يَعْنِي: مَعَ القاعدين عَن الْجِهَاد.(2/336)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
ثمَّ قَالَ: {رَضوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِف} قَالَ قَتَادَة: الْخَوَالِف: هم النِّسَاء. وَقَالَ غَيره: هم أدنياء النَّاس وسفلتهم، يُقَال: فلَان خَالفه قومه إِذا كَانَ دونهم. قَوْله: {وطبع الله على قُلُوبهم فهم لَا يفقهُونَ} طبع: ختم، وَيُقَال: الطبائع نكت سَوْدَاء تقع على الْقلب، يعرف بهَا الْملك الْمُنَافِق من الْمُؤمن.(2/336)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
قَوْله تَعَالَى: {لَكِن الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه جاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.
وَقَوله: {وَأُولَئِكَ لَهُم الْخيرَات} فِيهِ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن الْخيرَات: هِيَ الْغَنَائِم، وَالْآخر: أَن الْخيرَات: هِيَ الْحور فِي الْجنَّة، وواحدتها: خيرة؛ قَالَ الله تَعَالَى: {فِيهِنَّ خيرات حسان} يَعْنِي: الْحور.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْخيرَات لَا يعلم مَعْنَاهَا إِلَّا الله. حُكيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَمثل هَذَا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تعلم نفس مَا أخْفى لَهُم من قُرَّة أعين} .
{وَأُولَئِكَ هم المفلحون} قد بَينا الْمَعْنى.(2/336)
{فِيهَا ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم (89) وَجَاء المعذرون من الْأَعْرَاب ليؤذن لَهُم وَقعد الَّذين كذبُوا الله وَرَسُوله سيصيب الَّذين كفرُوا مِنْهُم عَذَاب أَلِيم (90) لَيْسَ على الضُّعَفَاء وَلَا على المرضى وَلَا على الَّذين لَا يَجدونَ مَا يُنْفقُونَ حرج إِذا نصحوا}(2/337)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
ثمَّ قَالَ: {أعد الله لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم} وَمَعْنَاهُ ظَاهر.(2/337)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
قَوْله تَعَالَى: {وَجَاء المعذرون من الْأَعْرَاب ليؤذن لَهُم} قرىء بقراءتين " المعذرون " و " المعذرون "؛ وَفِي المعذرين قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المعذرين هم المعتذرون، أدغمت التَّاء فِي الذَّال.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المعذرين: هم المقصرون، والتعذير فِي اللُّغَة: هُوَ التَّقْصِير. وَأما المعذرون: فهم الَّذين بالغوا فِي الْعذر، يُقَال فِي الْمثل: لقد أعذر من أنذر. يَعْنِي: بَالغ فِي إِظْهَار الْعذر من قدّم فِي النذارة، قَالَ لبيد شعرًا:
(إِلَى الْحول ثمَّ اسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا ... وَمن يبك حولا كَامِلا فقد اعتذر)
يَعْنِي: بَالغ فِي الْعذر.
وَاعْلَم أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي الْمُنَافِقين، وَقد اعتذروا وَلم يكن لَهُم عذر. وَأما الْأَعْرَاب: هم الَّذين يسكنون الْبَادِيَة، والعربي: اسْم لمن لَهُ نسب من الْعَرَب.
وَقَوله: {وَقعد الَّذين كذبُوا الله وَرَسُوله} هَذَا فِي الْمُنَافِقين؛ وَمعنى {كذبُوا الله وَرَسُوله} يَعْنِي: لم يَأْتُوا بِعُذْر صَادِق، ثمَّ قَالَ: {سيصيب الَّذين كفرُوا مِنْهُم عَذَاب أَلِيم} وَمَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/337)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ على الضُّعَفَاء وَلَا على المرضى} اخْتلفُوا فِي الضُّعَفَاء، قَالَ بَعضهم: هم المجانين، والضعف: نُقْصَان عُقُولهمْ. وَقَالَ بَعضهم: هم الصّبيان. وَقَالَ بَعضهم: هم النسوان. وَأما المرضى: فمعلوم. وَقَوله: {وَلَا على الَّذين لَا يَجدونَ مَا يُنْفقُونَ حرج} الَّذين لَا يَجدونَ: هم الْفُقَرَاء، والحرج: الضّيق. وَقَوله: {إِذا نصحوا(2/337)
{لله وَرَسُوله مَا على الْمُحْسِنِينَ من سَبِيل وَالله غَفُور رَحِيم (91) وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك لتحملهم قلت لَا أجد مَا أحملكم عَلَيْهِ توَلّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أَلا يَجدوا مَا يُنْفقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يَسْتَأْذِنُونَك وهم أَغْنِيَاء رَضوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِف وطبع الله على قُلُوبهم فهم لَا يعلمُونَ (93) } لله وَرَسُوله) يَعْنِي: أَخْلصُوا الْعَمَل لله وَلِرَسُولِهِ، وإخلاص الْعَمَل لله بِالْعبَادَة، وَلِلرَّسُولِ بالمتابعة. قَوْله تَعَالَى: {مَا على الْمُحْسِنِينَ من سَبِيل} مَعْنَاهُ: لَيْسَ على من أحسن بالإخلاص سَبِيل، والسبيل: هُوَ الْعقُوبَة {وَالله غَفُور رَحِيم} . وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " وَالله لأهل الْإِسَاءَة غَفُور رَحِيم ".(2/338)
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك لتحملهم} مَعْنَاهُ: لَا سَبِيل على الْأَوَّلين وَلَا على هَؤُلَاءِ، قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: نزلت الْآيَة فِي سَبْعَة نفر، مِنْهُم عبد الله بن الْمُغَفَّل الْمُزنِيّ، والعرباض بن سَارِيَة، وَأَبُو (ليلى) عبد الرَّحْمَن بن كَعْب، سموا البكائين. وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ هَذَا فِي أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَأَصْحَابه.
وَاخْتلف القَوْل فِي قَوْله: {لتحملهم} أحد الْقَوْلَيْنِ - وَهُوَ الْمَعْرُوف -: أَنهم طلبُوا الْإِبِل ليركبوها. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم طلبُوا النِّعَال. هَذَا قَول الْحسن بن صَالح.
وَقَوله: {قلت لَا أجد مَا أحملكم عَلَيْهِ توَلّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أَلا يَجدوا مَا يُنْفقُونَ} مَعْنَاهُ ظَاهر. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " لَا يزَال أحدكُم رَاكِبًا مادام متنعلا ".(2/338)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
ثمَّ قَالَ {إِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يَسْتَأْذِنُونَك وهم أَغْنِيَاء رَضوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِف} الْخَوَالِف: النِّسَاء وَالصبيان؛ يُقَال: خَالف وخوالف، كَمَا يُقَال: فَارس وفوارس، وهالك وهوالك. {طبع الله على قُلُوبهم فهم لَا يعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/338)
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُم إِذا رجعتم إِلَيْهِم قل لَا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله ثمَّ تردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (94) سيحلفون بِاللَّه لكم إِذا انقلبتم إِلَيْهِم لتعرضوا عَنْهُم فأعرضوا عَنْهُم إِنَّهُم رِجْس ومأواهم جَهَنَّم جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يحلفُونَ لكم لترضوا عَنْهُم فَإِن ترضوا عَنْهُم فَإِن الله لَا يرضى عَن الْقَوْم الْفَاسِقين}(2/339)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
قَوْله تَعَالَى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُم إِذا رجعتم إِلَيْهِم} رُوِيَ أَن الْمُنَافِقين الَّذين تخلفوا كَانُوا بضعَة وَثَمَانِينَ نَفرا، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله من غَزْوَة تَبُوك جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ، فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم هَذِه الْآيَة {قل لاتعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم} يَعْنِي: فِيمَا سلف {وسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله} يَعْنِي: فِي المستأنف {ثمَّ تردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} .(2/339)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
ثمَّ قَالَ فِي شَأْنهمْ: {سيحلفون بِاللَّه لكم إِذا انقلبتم إِلَيْهِم لتعرضوا عَنْهُم} الانقلاب: هُوَ الرُّجُوع إِلَى الْمَكَان الَّذِي خَرجُوا مِنْهُ {فأعرضوا عَنْهُم إِنَّهُم رِجْس} الرجس: هُوَ النتن والقذر {ومأواهم جَهَنَّم جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ فِي الْآيَة: {سيحلفون بِاللَّه لكم إِذا انقلبتم إِلَيْهِم لتعرضوا عَنْهُم} إِذا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مُقْبِلين عَلَيْهِم حَتَّى يَقُول: {لتعرضوا عَنْهُم} ؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: ذكر الْأَزْهَرِي فِي كِتَابه " التَّقْرِيب " معنى الْآيَة: سيحلفون بِاللَّه لكم لإعراضكم عَنْهُم لتقبلوا عَلَيْهِم؛ فأعرضوا عَنْهُم.(2/339)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
ثمَّ قَالَ: {يحلفُونَ لكم لترضوا عَنْهُم} الرِّضَا ضد الْكَرَاهَة {فَإِن ترضوا عَنْهُم فَإِن الله لَا يرضى عَن الْقَوْم الْفَاسِقين} .
وَفِي الْقِصَّة: " أَن أَبَا خَيْثَمَة رجل من أَصْحَاب رَسُول الله كَانَ قد تخلف، وَكَانَت لَهُ امْرَأَتَانِ، فَذهب إِلَيْهِمَا وَقد هيأت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا طَعَاما، وَبَردت شرابًا وَبسطت لَهُ فِي الظل، فَنظر إِلَى ذَلِك وَقَالَ: رَسُول الله فِي الضح وَالذّبْح، وَأَبُو خَيْثَمَة فِي الظل! مَا هَذَا بِنصْف، ثمَّ ركب نَاقَته وَاتبع رَسُول الله، فَأدْرك النَّبِي وَقد نزل(2/339)
( {96) الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقا وأجدر أَلا يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله على رَسُوله وَالله عليم حَكِيم (97) وَمن الْأَعْرَاب من يتَّخذ مَا ينْفق مغرما ويتربص بكم} بتبوك، فَقَالَ النَّاس: يَا رَسُول الله، هَذَا رَاكب قد أقبل، فَقَالَ رَسُول الله: كن أَبَا خَيْثَمَة فَقَالَ النَّاس: هُوَ أَبُو خَيْثَمَة ".(2/340)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
قَوْله تَعَالَى: {الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقا وأجدر أَلا يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله} معنى أَجْدَر: أخلق وَأَحْرَى أَن لَا يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله {على رَسُوله} وَهَذَا لبعدهم من سَماع الْقُرْآن وَمَعْرِفَة السّنَن. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أهل الكفور هم أهل الْقُبُور ". وَفِي آثَار التَّابِعين عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أَن أَعْرَابِيًا جلس عِنْد زيد بن صوحان - وَكَانَت شِمَاله أُصِيبَت يَوْم نهاوند فِي حَرْب الْعَجم - فَجعل يكلمهُ وَيذكر لَهُ الْعلم، فَقَالَ لَهُ الْأَعرَابِي: إِنَّه ليؤنسني علمك وتريبني يدك، فَقَالَ لَهُ زيد: وَمَا يريبك مني وَإِنَّهَا الشمَال؟ فَقَالَ الْأَعرَابِي: إِنِّي مَا أَدْرِي الشمَال تقطع أم الْيَمين؟ فَقَالَ زيد بن صوحان: صدق الله تَعَالَى: {الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقا} .
وَزيد بن صوحان من كبار التَّابِعين، وَهُوَ الَّذِي ذكر رَسُول الله فِي شَأْنه أَن يَده تسبقه إِلَى الْجنَّة. {وَالله سميع عليم} .(2/340)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن الْأَعْرَاب من يتَّخذ مَا ينْفق مغرما} المغرم: الْتِزَام مَا لَا يلْزم، قَالَ الشَّاعِر:
(فمالك مسلوب العدا كَأَنَّمَا ترى ... هجر ليلى مغرما أَنْت غارمه)
قَوْله: {ويتربص بكم الدَّوَائِر} أَي: ينْتَظر بكم الدَّوَائِر، والدوائر: جمع الدائرة،(2/340)
{الدَّوَائِر عَلَيْهِم دَائِرَة السوء وَالله سميع عليم (98) وَمن الْأَعْرَاب من يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ويتخذ مَا ينْفق قربات عِنْد الله وصلوات الرَّسُول أَلا إِنَّهَا قربَة لَهُم سيدخلهم الله فِي رَحمته إِن الله غَفُور رَحِيم (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من} والدائرة: انْتِقَال المحبوب إِلَى الْمَكْرُوه، وَقيل: الدَّوَائِر: صروف الدَّهْر.
ثمَّ قَالَ: {عَلَيْهِم دَائِرَة السوء} وقرىء: " دَائِرَة السوء " وَمَعْنَاهُ: أَن الْمَكْرُوه الْعَظِيم مَا يلحقهم. وَقَوله: {وَالله سميع عليم} .(2/341)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن الْأَعْرَاب من يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} مَعْنَاهُ مَعْلُوم {ويتخذ مَا ينْفق قربات عِنْد الله وصلوات الرَّسُول} القربات جمع الْقرْبَة، والصلوات جمع الصَّلَاة؛ وَمعنى القربات: أَنه يطْلب الْقرْبَة إِلَى الله تَعَالَى، وَمعنى الصَّلَوَات: أَنه يطْلب الدُّعَاء من رَسُول الله.
وَاعْلَم أَن الصَّلَاة من الله الرَّحْمَة، وَمن الْمُؤمنِينَ الدُّعَاء، وَمن الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار، قَالَ الْأَعْشَى:
(تَقول بِنْتي وَقد قربت مرتحلا ... يَا رب جنب أَبى الأوصاب والوجعا)
(عَلَيْك مثل الَّذِي صليت فاغتمضي ... عينا فَإِن لجنب الْمَرْء مُضْطَجعا)
ثمَّ قَالَ: {أَلا إِنَّهَا قربَة لَهُم سيدخلهم الله فِي رَحمته} أَي: فِي جنته {إِن الله غَفُور رَحِيم} مَعْلُوم.(2/341)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار} هَذِه الْآيَة فِي السَّابِقين الْأَوَّلين، وَفِيهِمْ أَقْوَال:
أَحدهَا: قَول سعيد بن الْمسيب وَابْن سِيرِين وَجَمَاعَة، أَنهم قَالُوا: هم الَّذين صلوا إِلَى الْقبْلَتَيْنِ.(2/341)
{الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ وَأعد}
وَقَالَ عَطاء: هم أهل بدر.
وَقَالَ الشّعبِيّ: هم أهل بيعَة الرضْوَان، وبيعة الرضْوَان كَانَت بِالْحُدَيْبِية.
وَالْقَوْل الرَّابِع: السَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين: هم الَّذين أَسْلمُوا قبل الْهِجْرَة، وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْأَنْصَار: هم الَّذين بَايعُوا مَعَ رَسُول الله لَيْلَة الْعقبَة.
وَرُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَرَأَ: " وَالْأَنْصَار " بِالرَّفْع. وَفِي هَذِه الْقِرَاءَة السَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين خَاصَّة. وَالْمَعْرُوف " وَالْأَنْصَار " وَمَعْنَاهُ: وَمن الْأَنْصَار: والمهاجرين هم الَّذين هَاجرُوا من أوطانهم وَقدمُوا الْمَدِينَة مَعَ رَسُول الله، وَالْأَنْصَار هم أهل الْمَدِينَة الَّذين أنزلوا رَسُول الله والمهاجرين فِي دُورهمْ.
وَأما قَوْله: {وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم بَقِيَّة الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار سوى السَّابِقين الْأَوَّلين مِنْهُم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم الْمُؤْمِنُونَ إِلَى قيام السَّاعَة.
وَعَن أبي صَخْر حميد بن زِيَاد قَالَ: أتيت مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ فَقلت لَهُ: مَا قَوْلك فِي أَصْحَاب رَسُول الله؟ فَقَالَ: جَمِيع أَصْحَاب رَسُول الله فِي الْجنَّة، مسيئهم ومحسنهم، فَقلت لَهُ: من أَيْن تَقول هَذَا؟ فَقَالَ: اقْرَأ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار} إِلَى أَن قَالَ: {رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ وَأعد لَهُم جنَّات} ثمَّ قَالَ: شَرط للتابعين شريطة، وَهُوَ قَوْله: {اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان} وَمَعْنَاهُ: أَنهم اتَّبَعُوهُمْ فِي أفعالهم الْحَسَنَة دون السَّيئَة. قَالَ أَبُو صَخْر: وَكَأَنِّي لم أَقرَأ هَذِه الْآيَة قطّ.
وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف بِرِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تسبوا أَصْحَابِي؛ فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أنْفق أحدكُم ملْء الأَرْض ذَهَبا لم يدْرك مد أحدهم(2/342)
{لَهُم جنَّات تجْرِي تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم (100) وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ ثمَّ يردون إِلَى عَذَاب عَظِيم (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا} وَلَا نصيفه "
قَوْله: {رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} أَي: رَضِي الله عَنْهُم بطاعتهم {وَرَضوا عَنهُ} بثوابه، وَبَاقِي الْآيَة مَعْلُوم {وَأعد لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} .(2/343)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
قَوْله تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ} قَالَ أهل التَّفْسِير: هم مزينة وجهينة وَأَشْجَع وغفار وَأسلم {وَمن أهل الْمَدِينَة} قوم من الْأَوْس والخزرج {مَرَدُوا على النِّفَاق} قَالَ الْفراء: مرنوا على النِّفَاق. وَقَالَ ثَعْلَب: استنمروا على النِّفَاق. وَفِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ مَرَدُوا على النِّفَاق وَمن أهل الْمَدِينَة، هَكَذَا قَالَه أهل الْمعَانِي {لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ} هَذَا دَلِيل على أَن الرَّسُول لم يعلم جَمِيع الْمُنَافِقين.
وَقَوله تَعَالَى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ} فِيهِ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنَّهَا الفضيحة فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة.
وَفِي الْخَبَر " أَن النَّبِي قَامَ خَطِيبًا على الْمِنْبَر، وَقَالَ: اخْرُج يَا فلَان، فَإنَّك مُنَافِق، اخْرُج يَا فلَان، فَإنَّك مُنَافِق " هَكَذَا حَتَّى أخرجهم جَمِيعًا من الْمَسْجِد.(2/343)
{بِذُنُوبِهِمْ خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا عَسى الله أَن يَتُوب عَلَيْهِم إِن الله غَفُور}
وَالْقَوْل الثَّانِي: قو مُجَاهِد، وَهُوَ الْخَوْف فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْعَذَاب الأول: هُوَ الْقَتْل، وَالْعَذَاب الثَّانِي: هُوَ عَذَاب الْقَبْر.
وَالرَّابِع: قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْعَذَاب الأول: هُوَ السَّبي، وَالْعَذَاب الثَّانِي: هُوَ الْقَتْل.
{ثمَّ يردون إِلَى عَذَاب عَظِيم} يَعْنِي: إِلَى جَهَنَّم.(2/344)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
قَوْله تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} الْآيَة نزلت فِي قوم من الْمُؤمنِينَ تخلفوا عَن رَسُول الله بِغَيْر عذر، فيهم أَو لبَابَة بن عبد الْمُنْذر وَغَيره، فَلَمَّا قفل رَسُول الله من الْغَزْو، وَقرب من الْمَدِينَة جَاءُوا فربطوا أنفسهم بسوارى الْمَسْجِد وَقَالُوا: لَا نحل أَنْفُسنَا حَتَّى يَتُوب الله علينا، فَدخل رَسُول الله الْمَسْجِد، وَكَانَ من عَادَته أَنه كَانَ إِذا خرج إِلَى سفر صلى رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِد، ثمَّ يخرج، وَإِذا رَجَعَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فصلى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ يدْخل منزله، فَلَمَّا دخل الْمَسْجِد وَرَأى هَؤُلَاءِ النَّفر قد ربطوا أنفسهم بالسوارى سَأَلَ وَقَالَ: " مَا شَأْنهمْ؟ فَقيل: إِنَّهُم حلفوا أَلا يحلوا أنفسهم حَتَّى يَتُوب الله عَلَيْهِم، فَقَالَ رَسُول الله: وَإِنِّي أَحْلف أَن لَا أحلّهُم حَتَّى يقْضِي الله فيهم بأَمْره، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ".
وَقَوله تَعَالَى: {خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا} الْعَمَل السيء هُوَ التَّخَلُّف عَن الْغَزْو بِلَا إِشْكَال، وَأما الْعَمَل الصَّالح فَفِيهِ مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: ندامتهم وربطهم أنفسهم بالسوارى.
وَالثَّانِي: الْعَمَل الصَّالح: هُوَ غزواتهم مَعَ رَسُول الله من قبل.
وَفِي الْأَخْبَار، عَن سَمُرَة بن جُنْدُب أَن النَّبِي قَالَ: " أَتَانِي اللَّيْلَة آتيان فَانْطَلقَا بِي إِلَى مَدِينَة مَبْنِيَّة لبنة من الذَّهَب ولبنة من الْفضة، فتلقاني رجال شطر خلقهمْ كأحسن مَا أَنْت رَاء، وَشطر خلقهمْ كأقبح مَا أَنْت رَاء، فَقيل لَهُم: قعوا فِي ذَلِك(2/344)
{رَحِيم (102) خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم وَالله سميع عليم (103) } النَّهر، فوقعوا فِي النَّهر، فَخَرجُوا وَقد ذهب عَنْهُم السوء، فَسَأَلت عَن أُولَئِكَ الْقَوْم، فَقيل لي: أما الْمَدِينَة فَهِيَ الْجنَّة، [وهذاك] مَنْزِلك، وَهَؤُلَاء الْقَوْم خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا؛ فَتَجَاوز الله عَنْهُم ".
وَأما قَوْله تَعَالَى: {عَسى الله أَن يَتُوب عَلَيْهِم} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره: عَسى من الله وَاجِب. فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة أَمر رَسُول الله أَن يحل أُولَئِكَ الْقَوْم من السوارى.
وَرُوِيَ عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ أَنه قَالَ: أرجي آيَة فِي الْقُرْآن هَذِه الْآيَة.
{إِن الله غَفُور رَحِيم} .(2/345)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
قَوْله تَعَالَى: {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا} قَالَ أهل التَّفْسِير: لما تَابَ الله على أُولَئِكَ الْقَوْم جَاءُوا بِأَمْوَالِهِمْ إِلَى النَّبِي وَقَالُوا: خُذْهَا صَدَقَة لله، فَأبى أَن يَأْخُذهَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {خُذ من أَمْوَالهم} . وَقَوله: {تطهرهُمْ} أَي: من الذُّنُوب. وَقَوله: {وتزكيهم بهَا} أَي: وترفعهم بهَا من منَازِل الْمُنَافِقين إِلَى منَازِل المخلصين {وصل عَلَيْهِم} وادع لَهُم {إِن صَلَاتك سكن لَهُم} أَي: دعاؤك سكن لَهُم، أَي: سُكُون لَهُم، أَي: دعاؤك سكن لَهُم وطمأنينة وتثبيت.
وَقد قَالَ بعض أهل الْعلم: إِنَّه يجب على الإِمَام أَن يَدْعُو للَّذي جَاءَ بِالصَّدَقَةِ. وَقَالَ بَعضهم: يسْتَحبّ، وَلَا يجب. وَقَالَ بَعضهم: يجب فِي الْفَرْض وَيسْتَحب فِي النَّفْل. وَقَالَ بَعضهم: يجب على الإِمَام أَن يَدْعُو للمعطي، وَيسْتَحب للْفَقِير أَن يَدْعُو. وَمِنْهُم من قَالَ: إِن التمس الْمُعْطِي أَن يَدْعُو لَهُ يجب؛ وَإِلَّا فَلَا يجب.(2/345)
{ألم يعلمُوا أَن الله هُوَ يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَأْخُذ الصَّدقَات وَأَن الله هُوَ التواب الرَّحِيم (104) }
وَقد ثَبت الْخَبَر بِرِوَايَة عبد الله بن أبي أوفى قَالَ: " كَانَ الرجل إِذا جَاءَ بِصَدَقَتِهِ إِلَى النَّبِي دَعَا لَهُ؛ فجَاء أبي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ النَّبِي: أللهم صل على آل أبي أوفى.
{وَالله سميع عليم} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/346)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
قَوْله تَعَالَى: {ألم يعلمُوا أَن الله هُوَ يقبل التَّوْبَة عَن عباده} هَذَا ظَاهر. وَقَوله: {وَيَأْخُذ الصَّدقَات} مَعْنَاهُ: يقبل الصَّدقَات. وَقَالَ بعض أهل الْمعَانِي قَوْله: {ألم يعلمُوا} هُوَ بِمَعْنى الْأَمر؛ كَأَنَّهُ قَالَ: اعلموا أَن الله هُوَ يقبل التَّوْبَة عَن عباده.
وَفِي الْخَبَر الْمَشْهُور الْمَعْرُوف عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي قَالَ: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، مَا من عبد يتَصَدَّق بِصَدقَة من كسب طيب - وَلَا يقبل الله إِلَّا طيبا - إِلَّا أَخذهَا الله بِيَمِينِهِ فيربيها كَمَا يربى أحدكُم فلوه، حَتَّى إِن اللُّقْمَة تَجِيء يَوْم الْقِيَامَة مثل أحد، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {ألم يعلمُوا أَن الله هُوَ يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَأْخُذ الصَّدقَات} ". وَالْخَبَر صَحِيح.
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: إِن الصَّدَقَة تقع فِي يَد الله قبل أَن تقع فِي يَد الْفَقِير. وَرُوِيَ فِي بعض الرِّوَايَات مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي.
قَوْله: {وَأَن الله هُوَ التواب الرَّحِيم} مَعْلُوم الْمَعْنى.(2/346)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قَوْله تَعَالَى: {وَقل اعْمَلُوا فسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله والمؤمنون} فِي الْآيَة(2/346)
{وَقل اعْمَلُوا فسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله والمؤمنون وستردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله إِمَّا يعذبهم} معنى التهديد. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى رُؤْيَة الرَّسُول وَالْمُؤمنِينَ؟
قُلْنَا: رُؤْيَة الرَّسُول: هِيَ بإعلام الله إِيَّاه عَمَلهم، ورؤية الْمُؤمنِينَ: بإيقاع الْمحبَّة فِي قُلُوبهم لأهل الصّلاح، وإيقاع البغضة فِي قُلُوبهم لأهل الْفساد.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " لَو عمل الْمُؤمن فِي صَخْرَة لَيْسَ لَهَا بَاب [لأظهره] الله إِذا عمله ".
قَوْله تَعَالَى: {وستردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة ... .} الْآيَة، مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/347)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قَوْله تَعَالَى: {وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله} الإرجاء: التَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: مؤخرون لأمر الله، وَأمر الله تَعَالَى هُنَا: حكم الله.
وَالْآيَة نزلت فِي كَعْب بن مَالك، وهلال بن أُميَّة، ومرارة بن الرّبيع؛ وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة الَّذين تَأتي قصتهم من بعد.
وَقَوله {إِمَّا يعذبهم وَإِمَّا يَتُوب عَلَيْهِم وَالله عليم حَكِيم} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/347)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين اتَّخذُوا مَسْجِدا ضِرَارًا وَكفرا} نزلت الْآيَة فِي قوم من الْمُنَافِقين مِنْهُم: وَدِيعَة بن ثَابت، وثعلبة بن حَاطِب، (وَجَارِيَة بن يزِيد) ، وَابْنه(2/347)
{وَإِمَّا يَتُوب عَلَيْهِم وَالله عليم حَكِيم (106) وَالَّذين اتَّخذُوا مَسْجِدا ضِرَارًا وَكفرا وَتَفْرِيقًا بَين الْمُؤمنِينَ وَإِرْصَادًا لمن حَارب الله وَرَسُوله من قبل وَلَيَحْلِفُنَّ إِن أردنَا إِلَّا الْحسنى وَالله يشْهد إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (107) لَا تقم فِيهِ أبدا لمَسْجِد أسس على} مجمع بن جَارِيَة، وحزام بن مَالك، وَأَبُو حَبِيبَة بن الأزعر، وَعباد بن حنيث، وَرجل يُقَال لَهُ: يخرج إِلَى تَمام اثنى عشر نَفرا، بنوا هَذَا الْمَسْجِد بِقصد مَا ذكره الله فِي كِتَابه، وَهُوَ قَوْله: {ضِرَارًا} يَعْنِي: مضارة بالرسول {وَكفرا} بِاللَّه {وَتَفْرِيقًا بَين الْمُؤمنِينَ وَإِرْصَادًا لمن حَارب الله وَرَسُوله} والإرصاد: الإعداد، وَالَّذِي حَارب الله وَرَسُوله هَاهُنَا هُوَ أَبُو عَامر الراهب، وَكَانَ مِمَّن يطْلب الدّين فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ تنصر وتحزب الْأَحْزَاب على رَسُول الله، ثمَّ لحق بقيصر يستنجده على رَسُول الله وَأَصْحَابه، فَهَؤُلَاءِ بنوا هَذَا الْمَسْجِد وَقَالُوا: نَبْنِي هَذَا الْمَسْجِد فنخلوا بأمرنا، ونتحدث بِمَا نُرِيد، وننتظر رُجُوع أبي عَامر الراهب. وَكَانَ هَذَا الْمَسْجِد بني قَرِيبا من مَسْجِد قبَاء. وَقَوله: {من قبل} رَاجع إِلَى أبي عَامر {وَلَيَحْلِفُنَّ إِن أردنَا إِلَّا الْحسنى} مَعْنَاهُ: إِلَّا الرِّفْق بِالْمُسْلِمين {وَالله يشْهد إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/348)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
ثمَّ قَالَ: {لَا تقم فِيهِ ابدا} رُوِيَ أَنهم طلبُوا من النَّبِي أَن يَأْتِي فَيصَلي فِيهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {لَا تقم فِيهِ أبدا} مَعْنَاهُ: لَا تصل فِيهِ أبدا {لمَسْجِد أسس على التَّقْوَى} اخْتلفُوا فِي هَذَا الْمَسْجِد؛ قَالَ ابْن عمر، وَزيد بن ثَابت، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: هُوَ مَسْجِد النَّبِي بِالْمَدِينَةِ. وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن رجلَيْنِ تماريا فِي الْمَسْجِد الَّذِي أسس على التَّقْوَى، فسألا رَسُول الله فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: هُوَ مَسْجِدي هَذَا ". وَأوردهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي " جَامعه ".(2/348)
{التَّقْوَى من أول يَوْم أَحَق أَن تقوم فِيهِ فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين (108) أَفَمَن أسس بُنْيَانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس}
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه مَسْجِد قبَاء. هَذَا قَول سعيد بن جُبَير، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة من التَّابِعين.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه جَمِيع مَسَاجِد الْمَدِينَة وَالْأولَى هُوَ القَوْل الأول.
وَقَوله: {أسس على التَّقْوَى} أَي: ليتقى فِيهِ من الشّرك. وَقَوله: {من أول يَوْم} مَعْنَاهُ: من ابْتِدَاء أَيَّام الْإِسْلَام {أَحَق أَن تقوم فِيهِ} أَي: أولى أَن تقوم فِيهِ، أَي: تصلي فِيهِ، قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.
وَقد رُوِيَ أَن النَّبِي قَالَ لأهل قبَاء: " إِن الله تَعَالَى قد أحسن الثَّنَاء عَلَيْكُم، فَمَاذَا تَعْمَلُونَ؟ فَقَالُوا: نَتَوَضَّأ من الْحَدث ونغتسل من الْجَنَابَة. فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: فَهَل شَيْء غير هَذَا؟ فَقَالُوا: إِن أَحَدنَا إِذا استنجى أحب أَن يتبع أثر الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: هُوَ ذَاك، فَعَلَيْكُم بِهِ ".(2/349)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
ثمَّ قَالَ: {أَفَمَن أسس} وقرىء: " أَفَمَن أسس " {بُنْيَانه على تقوى من الله ورضوان خير} أَي: على طلب التَّقْوَى وَطلب الرِّضَا من الله خير {أم من أسس بُنْيَانه على(2/349)
{بُنْيَانه على شفا جرف هار فانهار بِهِ فِي نَار جَهَنَّم وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (109) لَا يزَال بنيانهم الَّذِي بنوا رِيبَة فِي قُلُوبهم إِلَّا أَن تقطع قُلُوبهم وَالله عليم} شفا جرف) الشفا: هُوَ الْحَرْف وَالْحَد، والجرف: هُوَ مَا تجرف من السَّيْل، أَي: تقطع من السَّيْل، فَصَارَ لرخاوته لَا يثبت عَلَيْهِ بِنَاء. قَوْله: {هار} مَعْنَاهُ: هائر، والهائر: السَّاقِط {فانهار بِهِ فِي نَار جَهَنَّم وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.
وَاعْلَم أَن المُرَاد من الْآيَة: هُوَ التَّمْثِيل والتشبيه فِي قلَّة الثَّبَات والقرار وَسُوء الْعَاقِبَة. وَاخْتلفُوا فِي الَّذِي كَانَت عَاقِبَة مَسْجِد الضرار؛ فالأكثرون على أَن النَّبِي دَعَا مَالك بن الدخشم، وَعَاصِم بن عدي، وَأَمرهمَا أَن يهدما ذَلِك الْمَسْجِد ويحرقاه ففعلا ذَلِك.
وَالْقَوْل الآخر: أَن ذَلِك الْمَسْجِد انهار بِنَفسِهِ من غير أَن يمسهُ أحد. وَفِي بعض التفاسير أَنه خسف بِهِ. وَرُوِيَ أَنه لما خسف بِهِ سَطَعَ مِنْهُ دُخان فِي السَّمَاء، وَالله أعلم.(2/350)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
قَوْله تَعَالَى: {لَا يزَال بنيانهم الَّذِي بنوا رِيبَة فِي قُلُوبهم} يَعْنِي: شكا واضطرابا فِي قُلُوبهم. وَقَالَ السدى: حرازة فِي قُلُوبهم. وَقَوله: {إِلَّا أَن تقطع قُلُوبهم} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: حَتَّى يموتوا. وقرىء فِي الشاذ: " إِلَى أَن تقطع قُلُوبهم ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: حَتَّى يتوبوا، فَجعل الندامة فِي الْقلب بِمَنْزِلَة تقطع فِي الْقلب.
{وَالله عليم حَكِيم} عليم بخلقه، حَكِيم فِي تَدْبيره.(2/350)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} معنى الْآيَة: أَن الله تَعَالَى أَمر (الْمُسلمين) بِأَن يجاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله، وَجعل لَهُم الْجنَّة ثَوابًا عَلَيْهِ، فَجعل هَذَا بِمَنْزِلَة الشِّرَاء وَالْبيع.
قَوْله: {يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ وَعدا عَلَيْهِ حَقًا} مَعْنَاهُ: أَن ثَوَاب الْجنَّة وعد حق. ثمَّ قَالَ: {فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن} وَهَذَا دَلِيل على أَن أهل(2/350)
{حَكِيم (110) إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ وَعدا عَلَيْهِ حَقًا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَمن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الَّذِي بايعتم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} الْملَل كلهم أمروا بِالْجِهَادِ وَجعل ثوابهم الْجنَّة، وَقد بَينا معنى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن.
وَقَوله: {وَمن أوفى بعهده من الله} مَعْنَاهُ مَعْلُوم {فاستبشروا ببيعكم الَّذِي بايعتم بِهِ} مَعْنَاهُ: فافرحوا ببيعكم الَّذِي بايعتم بِهِ {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} .
رُوِيَ فِي الْأَخْبَار أَن هَذِه الْآيَة: لما نزلت قَالَ أَصْحَاب رَسُول الله: ربح البيع، لَا نقِيل وَلَا نَسْتَقِيل. وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِن الله بَايَعَك وَجعل الصفقتين لَك. وَعَن بعض التَّابِعين أَنه قَالَ: ثامن فأغلى فِي الثّمن، وَبَايع فأغلى فِي الْعِوَض. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: إِن الله تَعَالَى أَعْطَاك الدُّنْيَا فاشتر الْجنَّة بِبَعْضِهَا من الله.(2/351)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
قَوْله تَعَالَى: {التائبون العابدون} الْآيَة التائبون: هم الَّذين تَابُوا من الشّرك. وَقيل: هم الَّذين تَابُوا من جَمِيع الْمعاصِي. والعابدون: هم الَّذين عبدُوا الله بِالتَّوْحِيدِ، وَقيل: بِسَائِر الطَّاعَات. و {الحامدون} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنهم [هم] الَّذين يحْمَدُونَ الله على كل حَال فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم الَّذين يحْمَدُونَ الله على الْإِسْلَام.
وَقَوله: {السائحون} فِيهِ أَقْوَال:
(أَحدهمَا) : أَنهم الصائمون. هَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود، وَابْن عَبَّاس. وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " سياحة أمتِي: الصّيام ". (وَقَالَ) سُفْيَان بن عُيَيْنَة: سمى الصَّائِم سائحا؛ لِأَنَّهُ ترك الْمطعم وَالْمشْرَب والمنكح.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن السائحين: هم المجاهدون فِي سَبِيل الله. وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن(2/351)
( {111) التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بِالْمَعْرُوفِ والناهون عَن الْمُنكر والحافظون لحدود الله وَبشر الْمُؤمنِينَ (112) مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين وَلَو كانون أولي قربى من بعد مَا} النَّبِي قَالَ: " سياحة أمتِي: الْجِهَاد ".
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن السائحين: هم طلبة الْعلم، رُوِيَ عَن بعض التَّابِعين.
وَقَوله {الراكعون الساجدون} يَعْنِي: الْمُصَلِّين. وَقَوله: {الآمرون بِالْمَعْرُوفِ} أَي: الآمرون بِالْإِيمَان {والناهون عَن الْمُنكر} يَعْنِي: عَن الشّرك. وَقَوله: {والحافظون لحدود الله} مَعْنَاهُ: القائمون بأوامر الله {وَبشر الْمُؤمنِينَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/352)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين وَلَو كَانُوا أولي قربى من بعد مَا تبين لَهُم أَنهم أَصْحَاب الْجَحِيم} اخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة على ثَلَاثَة أَقْوَال:
الأول: مَا رَوَاهُ سعيد بن الْمسيب، عَن أَبِيه: " أَن أَبَا طَالب لما حَضرته الْوَفَاة دخل عَلَيْهِ النَّبِي وَعِنْده أَبُو جهل وَعبد الله بن أبي أُميَّة، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: أَي عَم {قل: لَا إِلَه إِلَّا الله، كلمة أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله. فَقَالَ لَهُ أَبُو جهل وَعبد الله بن [أبي] أُميَّة: أترغب عَن مِلَّة عبد الْمطلب؟} فَمَا زَالا يكلمانه حَتَّى كَانَ آخر كلمة قَالَهَا: على مِلَّة عبد الْمطلب، فَقَالَ النَّبِي: لأَسْتَغْفِرَن لَك مَا لم أَنه عَنهُ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {مَا كَانَ للنَّبِي ... .} إِلَى آخر الْآيَة ".
وَالثَّانِي: روى مَسْرُوق، عَن عبد الله بن مَسْعُود: " أَن النَّبِي خرج إِلَى الْمَقَابِر فاتبعناه، فَأتى قبرا وَقعد عِنْده، وناجاه طَويلا، ثمَّ بَكَى وبكينا لبكائه، فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُول الله من صَاحب هَذَا الْقَبْر؟ فَقَالَ: هَذِه أُمِّي آمِنَة بنت وهب، اسْتَأْذَنت رَبِّي(2/352)
{تبين لَهُم أَنهم أَصْحَاب الْجَحِيم (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَن موعدة وعدها إِيَّاه} فِي زيارتها فَأذن لي، ثمَّ استأذنته فِي أَن أسْتَغْفر لَهَا فَلم يَأْذَن لي، قَالَ: فأخذني عَلَيْهَا الشَّفَقَة مَا يَأْخُذ الْوَلَد للوالدة فَبَكَيْت، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {مَا كَانَ للنَّبِي} إِلَى آخر الْآيَة ".
وَالْقَوْل الثَّالِث: رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: " أَنه سمع رجلا يسْتَغْفر لِأَبَوَيْهِ وهما مُشْرِكَانِ، فَقَالَ لَهُ عَليّ: أَتَسْتَغْفِرُ للْمُشْرِكين؟ فَقَالَ ذَلِك الرجل: قد اسْتغْفر إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ وَهُوَ مُشْرك، فَأتى النَّبِي وَأخْبرهُ بذلك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا ".(2/353)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَن موعدة وعدها إِيَّاه} وَفِي هَذِه الْآيَة قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ لِأَبِيهِ: لأَسْتَغْفِرَن لَك، قَالَ هَذَا رَجَاء أَن يَنْقُلهُ الله تَعَالَى من الْكفْر إِلَى الْإِسْلَام ببركة دُعَائِهِ واستغفاره.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن أَبَا إِبْرَاهِيم وعد إِبْرَاهِيم وَقَالَ: لأسلمن، فَاسْتَغْفر لي، فَاسْتَغْفر لَهُ إِبْرَاهِيم لهَذَا الْمَعْنى.
{فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله} بِمَوْتِهِ على الْكفْر {تَبرأ مِنْهُ} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يجوز أَن يسْتَغْفر إِبْرَاهِيم للمشرك؟(2/353)
{فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ مِنْهُ إِن إِبْرَاهِيم لأواه حَلِيم (114) }
الْجَواب عَنهُ: قَالَ بعض أهل الْمعَانِي: يحْتَمل أَن أَبَا إِبْرَاهِيم كَانَ أظهر الْإِسْلَام وَهُوَ يبطن الْكفْر، فَاسْتَغْفر لَهُ إِبْرَاهِيم لإظهاره الْإِسْلَام {فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله} مصر على الْكفْر فِي الْبَاطِن {تَبرأ مِنْهُ} هَكَذَا قَالَه بعض أهل الْمعَانِي.
وَالَّذِي عَلَيْهِ عَامَّة الْمُفَسّرين مَا بَينا من قبل.
وَقد قَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ: " إِلَّا عَن موعدة وعدها إِيَّاه " وَهَذَا صَرِيح فِي أَن الْوَعْد كَانَ من إِبْرَاهِيم، وَالدَّلِيل على أَن إِبْرَاهِيم اسْتغْفر لَهُ وَهُوَ مُشْرك: أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي سُورَة الممتحنة: {قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه. .} إِلَى أَن قَالَ: {إِلَّا قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَن لَك} فقد صرح أَن إِبْرَاهِيم لَيْسَ بقدوة فِي هَذَا الاسْتِغْفَار؛ وَإِنَّمَا اسْتغْفر لَهُ وَهُوَ مُشْرك لمَكَان الْوَعْد؛ رَجَاء أَن يسلم.
وَقَوله: {إِن إِبْرَاهِيم لأواه حَلِيم} اخْتلفُوا فِي " الأواه " على أقاويل.
رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود. وَعبد الله بن عَبَّاس: أَن الأواه: هُوَ الدُّعَاء. وَعَن ابْن مَسْعُود فِي رِوَايَة أُخْرَى: أَنه الرَّحِيم، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى: أَنه الْمُؤمن التواب، وَعَن مُجَاهِد أَنه الْفَقِيه، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار: أَنه الَّذِي يتأوه من الذُّنُوب، فَيَقُول: أوه أوه. وروى أَبُو ذَر " أَن رجلا كَانَ يطوف وَيَقُول: أوه أوه، فَقلت للنَّبِي: إِن هَذَا الرجل ليؤذينا، فَقَالَ: لَا تقل هَذَا؛ فَإِنَّهُ أَواه ". قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا مَا قُمْت أرحلها بلَيْل ... تأوه آهة الرجل الحزين)
وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ الأواه: المسبح. وَقيل: إِنَّه الْموقف. وَقيل: إِنَّه الموقن.
وَأما الْحَلِيم: فَهُوَ: الصفوح عَن الذُّنُوب.(2/354)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم} مَعْنَاهُ: مَا كَانَ الله ليحكم بالضلالة بترك الْأَوَامِر {حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ} فَيتْركُوا.(2/354)
{وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ إِن الله بِكُل شَيْء عليم (115) إِن الله لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يحيي وَيُمِيت وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير (116) لقد تَابَ الله على النَّبِي والمهاجرين وَالْأَنْصَار الَّذين}
وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء قَالَ: مَعْنَاهُ: حَتَّى يحْتَج عَلَيْهِم بِالْأَمر.
سَبَب نزُول الْآيَة: أَن قوما كَانُوا أَتَوا النَّبِي فأسلموا، وَلم تكن الْخمر حرمت وَلَا الْقبْلَة صرفت، فَرَجَعُوا إِلَى قَومهمْ وهم على ذَلِك، ثمَّ حرمت الْخمر (و) صرفت الْقبْلَة وَلم يكن لَهُم علم بذلك، فَلَمَّا قدمُوا بعد ذَلِك للمدينة وجدوا الْخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت، فَقَالُوا للنَّبِي: قد كنت على دين وَنحن على (غَيره) فَنحْن ضلال؟ فَأنْزل الله {وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ} .
وَفِي الْآيَة قَول آخر؛ وَهُوَ: أَن الْآيَة فِي الاسْتِغْفَار للْمُشْرِكين؛ فَإِن جمَاعَة من الصَّحَابَة كَانُوا اسْتَغْفرُوا لِآبَائِهِمْ وَلم يعلمُوا أَن ذَلِك لَا يجوز، فَلَمَّا أنزل النَّهْي عَنهُ خَافُوا على أنفسهم خوفًا شَدِيدا؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: {إِن الله بِكُل شَيْء عليم} ، وَكَذَا الْآيَة الَّتِي تَلِيهَا مَعْلُوم الْمَعْنى إِلَى آخرهَا.(2/355)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
قَوْله تَعَالَى: {لقد تَابَ الله على النَّبِي والمهاجرين وَالْأَنْصَار} معنى قَوْله: {لقد تَابَ الله} لقد تجَاوز الله. وَقيل: لقد صفح الله. وَقَوله {الَّذين اتَّبعُوهُ فِي سَاعَة الْعسرَة} مَعْنَاهُ: فِي وَقت الْعسرَة، وَكَانَت غَزْوَة تَبُوك تسمى غَزْوَة الْعسرَة، وَكَذَلِكَ ذَلِك الْجَيْش يُسمى جَيش الْعسرَة؛ والعسرة: الشدَّة، وَكَانَت عَلَيْهِم عسرة فِي الظّهْر والزاد وَالْمَاء، فَروِيَ أَن الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة فَمَا زَاد كَانُوا يعتقبون الْبَعِير الْوَاحِد. وَرُوِيَ أَنهم كَانُوا فني زادهم حَتَّى كَانَ الرّجلَانِ يقتسمان التمرة بَينهمَا. هَكَذَا حُكيَ عَن(2/355)
{اتَّبعُوهُ فِي سَاعَة الْعسرَة من بعد مَا كَاد يزِيغ قُلُوب فريق مِنْهُم ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم إِنَّه بهم رءوف رَحِيم (117) وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض} ابْن عَبَّاس. وَرُوِيَ: " أَنهم عطشوا عطشا شَدِيدا حَتَّى نحرُوا الْإِبِل وعصروا كرشها وَشَرِبُوا مَا فِيهَا، ثمَّ إِن النَّبِي استسقى الله تَعَالَى فسقوا. هَكَذَا رَوَاهُ عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَهَذَا هُوَ معنى الْعسرَة.
وَقَوله: {من بعد مَا كَاد يزِيغ} قرئَ: " تزِيغ ويزيغ " فَقَوله: " تزِيغ " منصرف إِلَى الْقُلُوب، وَقَوله: يزِيغ منصرف إِلَى الْفِعْل؛ كَأَنَّهُ قَالَ: يزِيغ الْفِعْل {قُلُوب فريق مِنْهُم} .
وَأما الزيغ فِي اللُّغَة: هُوَ الْميل، وَلَيْسَ المُرَاد من الْميل هُنَا هُوَ الْميل عَن الدّين، إِنَّمَا المُرَاد من الْميل هُوَ الْميل عَن مُتَابعَة رَسُول الله ونصرته فِي الْغَزْو، وَاخْتِيَار التَّخَلُّف من شدَّة الْعسرَة.
{ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم} فَإِن قَالَ قَائِل: مَا هَذَا التّكْرَار، فقد قَالَ فِي أول الْآيَة: {لقد تَابَ الله على النَّبِي} ؟ .
الْجَواب عَنهُ: أَنه ذكر التَّوْبَة فِي أول الْآيَة قبل ذكر الذَّنب - وَهُوَ مَحْض [تفضل] من الله، فَلَمَّا ذكر الذَّنب أعَاد ذكر التَّوْبَة، وَالْمرَاد مِنْهُ: الْقبُول.
{إِنَّه بهم رءوف رَحِيم} مَعْلُوم الْمَعْنى.(2/356)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا} قَرَأَ عِكْرِمَة بن عمار: " وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا " مخفف، وَفِي بعض الْقرَاءَات: " وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خالفوا ".
وَاعْلَم أَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة هم الَّذين أنزل الله فِي شَأْنهمْ قَوْله تَعَالَى: {وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله} وَأما أَسمَاؤُهُم: كَعْب بن مَالك، وهلال بن أُميَّة، ومرارة بن(2/356)
{بِمَا رَحبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أنفسهم} الرّبيع، وَكَانُوا مُؤمنين مُخلصين تخلفوا بِغَيْر عذر، فَلَمَّا قدم النَّبِي الْمَدِينَة قَافِلًا من غَزْوَة تَبُوك، حَضَرُوا وأقروا عِنْده بالذنب، وَأَنه لم يكن لَهُم عذر، فَأخر أَمرهم وَلم يسْتَغْفر لَهُم، وَنهى الْمُسلمين عَن مخالطتهم ومكالمتهم.
وَفِي الْآيَة قصَّة طَوِيلَة مَذْكُورَة فِي " الصَّحِيحَيْنِ "؛ فَروِيَ أَنهم مَكَثُوا على ذَلِك أَرْبَعِينَ لَيْلَة، ثمَّ إِن رَسُول الله أَمرهم أَن يعتزلوا نِسَاءَهُمْ إِلَى تَتِمَّة خمسين لَيْلَة، وَكَانُوا يسلمُونَ على أَصْحَاب رَسُول الله فَلَا يردون عَلَيْهِم السَّلَام. قَالَ كَعْب بن مَالك: فَكنت أَدخل الْمَسْجِد وأصلي وَأنْظر هَل ينظر إِلَيّ رَسُول الله فَكنت إِذا نظرت إِلَيْهِ صرف عني بَصَره، قَالَ: فَاقْتَحَمت يَوْمًا على أبي قَتَادَة حَائِطه - وَكَانَ ابْن عمي - فَسلمت عَلَيْهِ فَلم يرد عَليّ الْجَواب، فَقلت لَهُ: يَا ابْن عمي، أتعلم أَنِّي أحب الله وَرَسُوله؟ فَسكت عني، فَرددت الْكَلَام ثَلَاثًا، فَقَالَ فِي الثَّالِثَة: الله وَرَسُوله أعلم، قَالَ: فَبَكَيْت بكاء شَدِيدا وَخرجت، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ تَتِمَّة خمسين لَيْلَة من يَوْم نهى رَسُول الله عَن كلامنا، كنت على ظهر بَيْتِي وَقد صليت الصُّبْح، وَأَنا كَمَا ذكر الله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ} أَي: برحبها وسعتها {وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أنفسهم} أَي: من جفوة الْقَوْم وغلظة رَسُول الله عَلَيْهِم، إِذْ سَمِعت مناديا يُنَادي على ذرْوَة سلع - والسلع: الْجَبَل -: أبشر يَا كَعْب بن مَالك، قَالَ: فَخَرَرْت لله سَاجِدا، وَجَاء البشير فأعطيته ثوبي ولبست ثَوْبَيْنِ غَيرهمَا، وأتيت رَسُول الله وَجَلَست بَين يَدَيْهِ وَوَجهه يَسْتَنِير كاستنارة الْقَمَر، فَقَالَ: أبشر يَا كَعْب بن مَالك بِخَير يَوْم مر عَلَيْك مُنْذُ أسلمت فَقلت: يَا رَسُول الله، أَمن عنْدك أم من عِنْد الله؟ فَقَالَ: لَا، بل من عِنْد الله وَقَرَأَ على الْآيَة، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِن من تَوْبَتِي أَن أَخْلَع من (جَمِيع) مَالِي صَدَقَة لله وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ: أمسك عَلَيْك بعض مَالك؛ فَهُوَ خير لَك " الْقِصَّة إِلَى آخرهَا.(2/357)
{وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إِلَّا إِلَيْهِ ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم ليتوبوا إِن الله هُوَ التواب الرَّحِيم (118) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين (119) مَا كَانَ لأهل الْمَدِينَة وَمن حَولهمْ من الْأَعْرَاب أَن يتخلفوا عَن رَسُول الله وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفسِهِم}
وَقَوله تَعَالَى: {وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إِلَّا إِلَيْهِ} مَعْنَاهُ: وظنوا: تيقنوا أَن لَا مفزع وَلَا منجا من الله إِلَّا إِلَيْهِ. وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم ليتوبوا} يَعْنِي: ليستقيموا على التَّوْبَة ويثبتوا عَلَيْهَا، فَإِن تَوْبَتهمْ قد سبقت {إِن الله هُوَ التواب الرَّحِيم} مَعْلُوم الْمَعْنى.(2/358)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين} قَالَ الضَّحَّاك: مَعَ مُحَمَّد وَأَصْحَابه.
وَرُوِيَ عَن بَعضهم أَنه قَالَ: مَعَ الصَّادِقين أَي: مَعَ أبي بكر وَعمر. وَعَن بَعضهم: مَعَ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة. وَقَالَ بَعضهم: إِن الصَّادِقين هَاهُنَا الثَّلَاثَة الَّذين سبق ذكرهم؛ فَإِنَّهُم صدقُوا النَّبِي بالاعتراف بالذنب، وَلم يعتذروا بالأعذار الكاذبة مثل الْمُنَافِقين. فَروِيَ عَن كَعْب بن مَالك قَالَ: مَا أبلاني الله ببلاء أعظم عِنْدِي من صدقي رَسُول الله فَإِنَّهُ من شكري عَلَيْهَا أَن لَا أكذب أبدا. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: لَا يصلح الْكَذِب فِي جد وَلَا هزل، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة. وَيُقَال: إِن فِي قِرَاءَته: " وَكُونُوا من الصَّادِقين ".(2/358)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لأهل الْمَدِينَة وَمن حَولهمْ من الْأَعْرَاب أَن يتخلفوا عَن رَسُول الله} الْآيَة، مَعْنَاهَا: هُوَ النَّهْي عَن التَّخَلُّف. وَقَوله: {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفسِهِم عَن نَفسه} مَعْنَاهُ: مَا كَانَ لَهُم أَن يختاروا الْخَفْض والدعة، ويتركوا رَسُول الله فِي شدَّة السّفر ومقساة التَّعَب. ثمَّ قَالَ: {ذَلِك بِأَنَّهُم لَا يصيبهم ظمأ} الظمأ: الْعَطش {وَلَا نصب} النصب: التَّعَب {وَلَا مَخْمَصَة} وَهِي المجاعة {فِي سَبِيل الله} فِي الْجِهَاد. وَقَوله: {وَلَا يطئون موطئا} يَعْنِي: لَا يَضعن قدما {يغِيظ الْكفَّار} أَي: يغضبهم {وَلَا ينالون من عَدو نيلا} يَعْنِي: لَا يصيبون مِنْهُم شَيْئا فِي نفس أَو مَال {إِلَّا كتب لَهُم بِهِ عمل صَالح إِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} مَعْلُوم الْمَعْنى.(2/358)
{عَن نَفسه ذَلِك بِأَنَّهُم لَا يصيبهم ظمأ وَلَا نصب وَلَا مَخْمَصَة فِي سَبِيل الله وَلَا يطئون موطئا يغِيظ الْكفَّار وَلَا ينالون من عَدو نيلا إِلَّا كتب لَهُم بِهِ عمل صَالح إِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفقُونَ نَفَقَة صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة وَلَا يقطعون وَاديا إِلَّا كتب لَهُم لِيَجْزِيَهُم الله أحسن مَا كَانُوا يعْملُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ}(2/359)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
ثمَّ قَالَ: {وَلَا يُنْفقُونَ نَفَقَة صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة} يَعْنِي: قَلِيلا وَلَا كثيرا، قيل فِي التَّفْسِير: حَتَّى التمرة {وَلَا يقطعون وَاديا} أَي: لَا يعبرون وَاديا مُقْبِلين ومدبرين {إِلَّا كتب لَهُم} أَي: أثيبوا على ذَلِك {لِيَجْزِيَهُم الله أحسن مَا كَانُوا يعْملُونَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/359)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لينفروا كَافَّة} الْآيَة، وفيهَا قَولَانِ:
أَحدهمَا: " أَن النَّبِي كَانَ يبْعَث بالسرايا بعد غَزْوَة تَبُوك، فَكَانَ النَّاس يخرجُون جَمِيعهم لعظم مَا أَصَابَهُم من التعيير والملامة فِي التَّخَلُّف، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ". قَالَ قَتَادَة: هَذَا فِي السَّرَايَا، فَأَما إِذا خرج الرَّسُول بِنَفسِهِ فَعَلَيْهِم أَن يخرجُوا جَمِيعًا مَعَه.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن النَّبِي كَمَا دَعَا على مُضر، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَل سنيهم كَسِنِي يُوسُف، قَالَ: فَأَصَابَهُمْ قحط شَدِيد وجدب، فَجعلت الْقَبِيلَة تقبل إِلَى الْمَدِينَة بأجمعهم وَيَقُولُونَ: أسلمنَا، فَكَانُوا يضيقون على أهل الْمَدِينَة مَنَازِلهمْ ويلوثون الطرقات، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، فردهم رَسُول الله إِلَى قبائلهم ". وَقَوله: {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة} مَعْنَاهُ: هلا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة، فعلى الأول معنى الْآيَة: هُوَ النَّهْي عَن ترك رَسُول الله وَحده. وَقَوله: {ليتفقهوا فِي الدّين} يَعْنِي: ليحضروا نزُول الْقُرْآن وَبَيَان السّنَن {ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} مَعْنَاهُ: ليعلموا السّريَّة إِذا رجعُوا إِلَيْهِم مَا نزل من الْقُرْآن وَالسّنَن.
وعَلى القَوْل الثَّانِي معنى الْآيَة: مَا كَانَ لأهل الْقَبَائِل أَن ينفروا جَمِيعًا إِلَى الْمَدِينَة(2/359)
{لينفروا كَافَّة فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون (122) } ويتركوا مواضعهم؛ وَلَكِن لينفر من كل فرقة طَائِفَة أَي: من كل قَبيلَة طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ وليعلموا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم {لَعَلَّهُم يحذرون} .
وَأما الطَّائِفَة: فَهُوَ اسْم لثَلَاثَة فَمَا زَاد، وَقد ورد فِي الْقُرْآن ذكر الطَّائِفَة، وَالْمرَاد مِنْهُ: الْوَاحِد، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن نعف عَن طَائِفَة مِنْهُم} من قبل.
وَاسْتدلَّ أهل الْأُصُول بِهَذِهِ على وجوب قبُول خبر الْوَاحِد، وَالْمَسْأَلَة فِي الْأُصُول (كَبِيرَة) .
وَأما الْفِقْه فَهُوَ فِي اللُّغَة: عبارَة عَن الْفَهم، وَفِي الشَّرْع: عبارَة عَن علم مَخْصُوص وَهُوَ علم الْأَحْكَام.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين ".
وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " النَّاس معادن، فخيارهم فِي الْجَاهِلِيَّة خيارهم فِي الْإِسْلَام إِذا فقهوا ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أفضل الْعِبَادَة: الْفِقْه، ولفقيه وَاحِد أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد ". وَعَن الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: طلب(2/360)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قَاتلُوا الَّذين يلونكم من الْكفَّار وليجدوا فِيكُم غلظة وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا مَا أنزلت سُورَة فَمنهمْ من يَقُول أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا وهم يستبشرون (124) وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم وماتوا وهم كافرون (125) أَولا يرَوْنَ أَنهم يفتنون فِي} الْعلم أفضل من صَلَاة النَّافِلَة.(2/361)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قَاتلُوا الَّذين يلونكم من الْكفَّار} يَعْنِي: يقربون مِنْكُم. وَعَن عمر: هم الديلم، وَعَن غَيره: هم الرّوم {وليجدوا فِيكُم غلظة} قَالَ ابْن عَبَّاس: شجاعة. وَقَالَ الْحسن: صبرا على الْحَرْب {وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} ظَاهر.(2/361)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا مَا أنزلت سُورَة فَمنهمْ من يَقُول أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا} هَذَا فِي الْمُنَافِقين الَّذين كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا القَوْل استهزاء، فَقَالَ الله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا وهم يستبشرون} وهم يفرحون.(2/361)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
ثمَّ قَالَ: {وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض} أَي: شكّ ونفاق {فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم وماتوا وهم كافرون} أَي: كفر إِلَى كفرهم. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يزِيد إِنْزَال السُّورَة لَهُم كفرا؟
الْجَواب: أَنهم كَانُوا يكفرون بِكُل سُورَة أنزلهَا الله تَعَالَى، فَلَمَّا كفرُوا عِنْد إِنْزَال السُّورَة نسب كفرهم إِلَيْهَا، وَهَذَا كَمَا تَقول الْعَرَب: كفى بالسلامة دَاء؛ لِأَن الدَّاء يكون عِنْد طول السَّلامَة، قَالَ الشَّاعِر:
(أرى بَصرِي قد رَابَنِي بعد صِحَة ... وحسبك دَاء أَن تصح وتسلما)(2/361)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
وَقَوله تَعَالَى: {أَو لَا يرَوْنَ أَنهم يفتنون فِي كل عَام مرّة أَو مرَّتَيْنِ} مَعْنَاهُ: يبتلون فِي كل عَام بالأمراض والشدائد، وَقيل: بِالْجِهَادِ مَعَ الْأَعْدَاء {ثمَّ لَا يتوبون} لَا يرجعُونَ إِلَى الله {وَلَا هم يذكرُونَ} وَلَا هم يتعظون.(2/361)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا مَا أنزلت سُورَة نظر بَعضهم إِلَى بعض} الْآيَة، كَانَ المُنَافِقُونَ إِذا نزلت السُّورَة أَو شَيْء من الْقُرْآن يُومِئ بَعضهم إِلَى بعض، وَيَخَافُونَ مَعَ ذَلِك أَن(2/361)
{كل عَام مرّة أَو مرَّتَيْنِ ثمَّ لَا يتوبون وَلَا هم يذكرُونَ (126) وَإِذا مَا أنزلت سُورَة نظر بَعضهم إِلَى بعض هَل يراكم من أحد ثمَّ انصرفوا صرف الله قُلُوبهم بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ (127) لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص} يراهم الْمُؤْمِنُونَ، فَهَذَا معنى قَوْله: {هَل يراكم من أحد} ثمَّ قَالَ: {ثمَّ انصرفوا} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: انصرفوا عَن مواضعهم، وَالْآخر: انصرفوا عَن الْإِيمَان، أَي: لم يُؤمنُوا وَلم يقبلُوا.
وَقَوله: {صرف الله قُلُوبهم} قَالَ أَبُو إِسْحَاق الزّجاج: أضلهم الله مجازاة على كفرهم {بِأَنَّهُم قوم يفقهُونَ} مَعْلُوم الْمَعْنى.(2/362)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
قَوْله تَعَالَى: {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم} قرىء فِي الشاذ: من أَنفسكُم، وَيُقَال: إِن هَذِه الْقِرَاءَة قِرَاءَة فاطمه - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَ يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ: طلبت هَذَا الْحَرْف خمسين سنة فَلم أجد لَهُ رَاوِيا. وَمعنى هَذَا: أشرفكم وأفضلكم.
وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: {من أَنفسكُم} قَالَ قتاده: وَمَعْنَاهُ: إِن نسبه مَعْرُوف بَيْنكُم
وَالْقَوْل الثَّانِي: حكى عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: {من أَنفسكُم} مَعْنَاهُ: أَنه لم يُولد إِلَّا من نِكَاح صَحِيح إِلَى زمَان آدم.
وَالْقَوْل الثَّالِث: حكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: مَعْنَاهُ: أَنه لَيْسَ بطن من بطُون الْعَرَب إِلَّا وَقد ولدت النَّبِي.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن معنى هَذَا هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {قل إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ} وَإِذا كَانَ الرَّسُول بشرا مثل الْقَوْم؛ فَيكون أقرب للألفة وَأدنى لفهم الحجه.
وَقَوله: {عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم} أَي: شَدِيد عَلَيْهِ عنتكم، والعنت: هُوَ الْمَكْرُوه ولقاء الشده، كانه قَالَ: شَدِيد عَلَيْهِ مَا يضركم ويهلككم، وَهُوَ الْكفْر الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ.
وَقَوله تَعَالَى: {حَرِيص عَلَيْكُم} الْحِرْص: شدَّة طلب الشىء، وَمَعْنَاهُ: حَرِيص(2/362)
{عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيم (128) فَإِن توَلّوا فَقل حسبي الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت وَهُوَ رب الْعَرْش الْعَظِيم (129) } على إيمَانكُمْ {بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيم} عطوف رَفِيق.
وَقد أعطَاهُ الله تَعَالَى فِي هَذِه الآيه اسْمَيْنِ من أَسْمَائِهِ، وَهُوَ فِي نِهَايَة الكرامه.(2/363)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِن توَلّوا} مَعْنَاهُ: فَإِن أَعرضُوا عَن الْإِيمَان أَو عَنْك {فَقل حسبي الله} كَافِي الله أَي: يَكْفِينِي الله {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت} عَلَيْهِ اعتمدت وَبِه وثقت {وَهُوَ رب الْعَرْش الْعَظِيم} قَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: " رب الْعَرْش الْعَظِيم " بِالرَّفْع، فَرجع إِلَى الله تَعَالَى، وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة بِالْكَسْرِ، وَهُوَ يرجع إِلَى الْعَرْش. وَعَن بعض التَّابِعين: لَا يعرف أحد قدر الْعَرْش سوى الله تَعَالَى. وفى بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْعَرْش من ياقوتة حَمْرَاء ". وَعَن وهب بن مُنَبّه: أَن الله تَعَالَى خلق الْعَرْش من نوره. وَعَن كَعْب الْأَخْبَار: أَن السَّمَوَات فِي الْعَرْش كقنديل مُعَلّق من السَّمَاء. وَعَن مُجَاهِد: أَن السَّمَوَات فِي الْعَرْش كحلقة. وَحكى عَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ: هما أحدث الْآيَات بِاللَّه عهدا. فعلى قَوْله: هَاتَانِ الْآيَتَانِ آخر مَا أنزل من الْقُرْآن. وَهُوَ رِوَايَة أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس وَقد ذكرنَا غير هَذَا بِرِوَايَة الْبَراء بن عَازِب، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.(2/363)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{آلر تِلْكَ آيَات الْكتاب الْحَكِيم (1) أَكَانَ للنَّاس عجبا}
تَفْسِير سُورَة يُونُس
وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا ثَلَاث آيَات، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَإِن كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك} إِلَى آخر الْآيَات الثَّلَاث.
وَحكى عَن مُحَمَّد بن سِيرِين أَنه قَالَ: هَذِه السُّورَة كَانَت بعد السُّورَة السَّابِقَة.(2/364)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
قَوْله تَعَالَى {آلر} روى أَبُو الضُّحَى عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: {آلر} أَنا الله أرى. وروى عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الر، وحم، وَنون هُوَ تَمام اسْم الرَّحْمَن.
وَفِي الْحُرُوف المهجيات أَقْوَال ذَكرنَاهَا فِي أول سُورَة الْبَقَرَة.
وَقَوله: {تِلْكَ آيَات الْكتاب} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ: هَذِه آيَات الْكتاب. قَالَ الشَّاعِر:
(تِلْكَ خيلي مِنْهُ وَتلك ركابي ... هن صفر أَوْلَادهَا كالزبيب)
وَقَالَ الزّجاج: معنى الْآيَة: وَهُوَ أَن الْآيَات الَّتِي أنزلتها عَلَيْك من قبل {تِلْكَ آيَات الْكتاب الْحَكِيم} وَالْكتاب: هُوَ الْقُرْآن، والحكيم: هُوَ الْمُحكم، على قَول أَكثر الْمُفَسّرين، فعيل بِمَعْنى مفعل، مثل قَوْله: {هَذَا مَا لَدَى عتيد} أَي: مُعْتَد. وَقَالَ بَعضهم: الْحَكِيم على وَضعه، وسمى الْقُرْآن حكيما؛ لِأَنَّهُ كالناطق بالحكمة.(2/364)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
قَوْله تَعَالَى: {أَكَانَ للنَّاس عجبا} الْعجب: حَالَة تعتري الْإِنْسَان من رُؤْيَة شَيْء على خلاف الْعَادة.
وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة: أَن الله تَعَالَى لما بعث مُحَمَّدًا قَالَ الْمُشْركُونَ: أما وجد(2/364)
{أَن أَوْحَينَا إِلَى رجل مِنْهُم أَن أنذر النَّاس وَبشر الَّذين آمنُوا أَن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم قَالَ الْكَافِرُونَ إِن هَذَا لساحر مُبين (2) } الله نَبيا سوى يَتِيم أَبى طَالب، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وهى قَوْله: {أَكَانَ للنَّاس عجبا} وَمَعْنَاهُ: أعجب النَّاس، يعْنى: الْمُشْركين {أَن أَوْحَينَا إِلَى رجل مِنْهُم} وَالرجل هَا هُنَا: النَّبِي، وَقَوله: {مِنْهُم} قَالُوا: مَعْنَاهُ: إِنَّه رجل يعرفونه باسمه وَنسبه، لَا يكْتب، وَلَا يشْعر، وَلَا يتكهن، ولايكذب.
وَقَوله: {أَن أنذر النَّاس} الْإِنْذَار: هُوَ الْإِعْلَام مَعَ التخويف. وَقَوله: {وَبشر الَّذين آمنُوا} قد بَينا معنى الْبشَارَة. وَقَوله: {أَن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم} فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال:
القَوْل الأول - وَهَذَا قَول الْأَكْثَرين - أَن الْقدَم الصدْق: هُوَ الْأَعْمَال الصَّالِحَة، يُقَال: لفُلَان قدم فِي الشجَاعَة، وَقدم فى الْعلم، وَيُقَال: فلَان وضع قدمه فى كَذَا، إِذا شرع فِيهِ بِعَمَلِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْقدَم الصدْق: هُوَ الثَّوَاب.
وَالْقَوْل الثَّالِث: حكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْقدَم الصدْق: هُوَ السَّعَادَة فِي الذّكر الأول.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن المُرَاد مِنْهُ: هُوَ الرَّسُول، وَقدم صدق: شَفِيع صدق، قَالَه مقَاتل بن حَيَّان.
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِن هَذَا لساحر مُبين} وقرىء بقراءتين: " لساحر مُبين "، و " إِن هَذَا لسحر مُبين "؛ فالساحر ينْصَرف إِلَى الرَّسُول، وَالسحر ينْصَرف إِلَى الْقُرْآن.(2/365)
{إِن ربكُم الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش يدبر الْأَمر مَا من شَفِيع إِلَّا من بعد إِذْنه ذَلِكُم الله ربكُم فاعبدوه أَفلا تذكرُونَ (3) إِلَيْهِ مرجعكم جَمِيعًا وعد الله حَقًا إِنَّه يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا}(2/366)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
قَوْله تَعَالَى: {إِن ربكُم الله الذى خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام} فِي الْأَيَّام قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا كأيام الْآخِرَة، كل يَوْم ألف سنة. وَالْآخر أَنَّهَا كأيام الدُّنْيَا.
قَوْله {ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} قد بيينا مَذْهَب أهل السّنة فِي الاسْتوَاء؛ وَهُوَ أَنه نؤمن بِهِ وَنكل علمه إِلَى الله تَعَالَى من غير تَأْوِيل وَلَا تَفْسِير.
وَأما الْمُعْتَزلَة: فَإِنَّهُم أولُوا الاسْتوَاء بِالِاسْتِيلَاءِ، وَهُوَ بَاطِل عِنْد أهل الْعَرَبيَّة.
حكى عَن أَحْمد بن أبي دَاوُد - وَكَانَ من رُؤَسَاء الْمُعْتَزلَة - أَنه قَالَ لِابْنِ الْأَعرَابِي: أتعرف الْعَرَب الاسْتوَاء؟ بِمَعْنى الإستيلاء فَقَالَ. لَا. ويحكى أَن هَذِه الْمَسْأَلَة جرت فِي مجْلِس الْمَأْمُون، فَقَالَ بشر المريسي: الاسْتوَاء بِمَعْنى الِاسْتِيلَاء، فَقَالَ لَهُ أَبُو السمراء - وَهُوَ رجل من أهل اللُّغَة - اخطأت يَا شيخ؛ فَإِن الْعَرَب لَا تعرف الِاسْتِيلَاء إِلَّا بعد عجز سَابق.
قَوْله تَعَالَى {يدبر الْأَمر} قَالَ مُجَاهِد: يقْضِي الْأَمر {مَا من شَفِيع إِلَّا من بعد إِذْنه} مَعْنَاهُ: أَن الشفعاء لَا يشفعون إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهَذَا رد على النَّضر بن الْحَارِث، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يشفعني اللات والعزى. قَوْله تَعَالَى {ذَلِكُم الله ربكُم} يعْنى: ذَلِك الَّذِي فعله هَذَا ربكُم {فاعبدوه أَفلا تذكرُونَ} أَفلا تتعظون.(2/366)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
قَوْله تَعَالَى {إِلَيْهِ مرجعكم جَمِيعًا وعد الله حَقًا} نصب وعد الله حَقًا يعْنى: وعد الله وَعدا حَقًا {إِنَّه يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم {ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات بِالْقِسْطِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: بِالْعَدْلِ {وَالَّذين كفرُوا لَهُم شراب من حميم} الْحَمِيم هُوَ المَاء الَّذِي انْتهى حره. وَفِي الْقَصَص: أَن النَّار أوقدت عَلَيْهِ مُنْذُ يَوْم خلقهَا إِلَى أَن يدْخل الْكفَّار [فِي] (1) النَّار. قَوْله: {وَعَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا(2/366)
{الصَّالِحَات بِالْقِسْطِ وَالَّذين كفرُوا لَهُم شراب من حميم وَعَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكفرون (4) هُوَ الَّذِي جعل الشَّمْس ضِيَاء وَالْقَمَر نورا وَقدره منَازِل لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب مَا خلق الله ذَلِك إِلَّا بِالْحَقِّ يفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ (5) إِن فِي اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وَمَا خلق الله فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض لآيَات لقوم يَتَّقُونَ (6) إِن الَّذين لَا يرجون لقاءنا وَرَضوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا واطمأنوا بهَا وَالَّذين هم عَن أياتنا غافلون} أَي: عَذَاب موجع بكفرهم.(2/367)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جعل الشَّمْس ضِيَاء وَالْقَمَر نورا} الْآيَة، الشَّمْس وَالْقَمَر جسمان نيران، أَحدهمَا أَضْوَأ من الآخر، وَقَوله: {جعل الشَّمْس ضِيَاء} أَي: ذَات ضِيَاء {وَالْقَمَر نورا} أَي: ذَا نور. وَقَوله: {وَقدره منَازِل} مِنْهُم من قَالَ: هَذَا ينْصَرف إِلَى الْقَمَر خَاصَّة، وَمِنْهُم من قَالَ: ينْصَرف إِلَيْهِمَا، إِلَّا أَنه اكْتفى بِذكر أَحدهمَا عَن الآخر.
ومنازل الْقَمَر ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا، أساميها مَعْلُومَة عِنْد الْعَرَب، تكون أَرْبَعَة عشر مِنْهَا ظَاهِرَة أبدا، وَأَرْبَعَة عشر مِنْهَا غَائِبَة أبدا، وَكلما طلع وَاحِد غَابَ وَاحِد، وَالْقَمَر ينزل كل لَيْلَة منزلا مِنْهَا.
وَقَوله تَعَالَى: {لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب} يَعْنِي: قدره منَازِل لِتَعْلَمُوا عدد السنين وحساب الشُّهُور وَالْأَيَّام. وَقَوله: {مَا خلق الله ذَلِك إِلَّا بِالْحَقِّ} أَي: للحق.
قَوْله: {يفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ} مَعْلُوم الْمَعْنى.(2/367)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} مَعْنَاهُ مَعْلُوم إِلَى آخر الْآيَة، وَقد ذكرنَا من قبل.(2/367)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين لَا يرجون لقاءنا} قَوْله: " لَا يرجون " فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: لَا يخَافُونَ، وَالْآخر: لَا يطمعون.
وَقَوله: {لقاءنا} قد بَينا من قبل. وَقَوله تَعَالَى: {وَرَضوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ قَتَادَة: لَهَا يطْلبُونَ وَبهَا يفرحون. وَقَوله تَعَالَى: {واطمأنوا بهَا} سكنوا إِلَيْهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين هم عَن آيَاتنَا غافلون} الْغَفْلَة سَهْو يعتري الْقلب يصرفهُ عَن وجد(2/367)
( {7) أُولَئِكَ مأواهم النَّار بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات يهْدِيهم رَبهم بإيمَانهمْ تجْرِي من تَحْتهم الْأَنْهَار فِي جنَّات النَّعيم (9) دَعوَاهُم فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وتحيتهم فِيهَا سَلام وَآخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين (10) الْعلم.(2/368)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
ثمَّ قَالَ: {أُولَئِكَ مأواهم النَّار بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/368)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات يهْدِيهم رَبهم بإيمَانهمْ} قَالَ مُجَاهِد: هَذَا هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {نورا يمشي بِهِ} . وَقَالَ غَيره: يهْدِيهم رَبهم: يرشدهم رَبهم بإيمَانهمْ إِلَى الْجنَّة {تجْرِي من تَحْتهم الْأَنْهَار} أَي: من تَحت الْأَشْجَار. قَوْله: {فِي جنَّات النَّعيم} .(2/368)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
ثمَّ قَالَ: {دَعوَاهُم فِيهَا} مَعْنَاهُ: دعاؤهم فِيهَا {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} هَذَا كلمة تَنْزِيه وتبرئة الرب عَن السوء. وَفِي الْأَخْبَار: " أَن قَوْله: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} عَلامَة بَين أهل الْجنَّة والخدم، وَإِذا أَرَادوا الطَّعَام قَالُوا: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، فَيدْخل الخدم بالموائد، كل مائدة ميل فِي ميل، قَوَائِمهَا من اللُّؤْلُؤ، على كل مائدة سَبْعُونَ ألف صَحْفَة، فِي كل صَحْفَة لون من الطَّعَام لَا يشبه بعضه بَعْضًا، ثمَّ تجىء الطير كأمثال البخت، قَوَائِمهَا لون، وأجنحتها لون، وبطونها وظهورها لون، فَيَقَع بَين أيدى أهل الْجنَّة فَيَأْكُلُونَ مِنْهَا مَا يشاءون، ثمَّ تطير كَمَا كَانَت ".
وَقَوله تَعَالَى: {وتحيتهم فِيهَا سَلام} يعْنى: تَحِيَّة بَعضهم بَعْضًا يكون بِالسَّلَامِ، وَيُقَال مَعْنَاهُ: إِن تَحِيَّة الْمَلَائِكَة لَهُم بِالسَّلَامِ، وَيُقَال: إِن تَحِيَّة الله لَهُم بِالسَّلَامِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَآخر دَعوَاهُم} مَعْنَاهُ: وَآخر قَوْلهم: {أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين} فَيكون ابْتِدَاء أَمرهم بالتسبيح، وانتهاء أَمرهم بِالْحَمْد وَالشُّكْر.(2/368)
{يعجل الله للنَّاس الشَّرّ استعجالهم بِالْخَيرِ لقضي إِلَيْهِم أَجلهم فَنَذر الَّذين لَا يرجون لقاءنا فِي طغيانهم يعمهون (11) وَإِذا مس الْإِنْسَان الضّر دَعَانَا لجنبه أَو قَاعِدا أَو}(2/369)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو يعجل الله للنَّاس الشَّرّ استعجالهم بِالْخَيرِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا فِي قَول الرجل يَقُول عِنْد الْغَضَب لأَهله وَولده: لعنكم الله، لَا بَارك الله فِيكُم، وَمَعْنَاهُ: وَلَو يعجل الله للنَّاس الشَّرّ - يعْنى: الْمَكْرُوه - استعجالهم بِالْخَيرِ أَي: كَمَا يحبونَ استعجالهم بِالْخَيرِ {لقضى إِلَيْهِم أَجلهم} فهلكوا جَمِيعًا وماتوا. وَقَوله: {فَنَذر الَّذين لَا يرجون لقاءنا} أَي: لَا يخَافُونَ لقاءنا {فِي طغيانهم} أَي: فِي ضلالتهم. قَوْله {يعمهون} يَتَرَدَّدُونَ، وَقيل: يتمادون، وَقد ثَبت الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي بشر أغضب كَمَا يغْضب الْبشر، فأيما [رجل] سببته أولعنته فاجعلها لَهُ طهرة وَرَحْمَة ". وَفِي الْبَاب رِوَايَات كَثِيرَة كلهَا صَحِيحَة.(2/369)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
قَوْله تَعَالَى {وَإِذا مس الْإِنْسَان الضّر} أَي: الْمَكْرُوه {دَعَانَا لجنبه أَو قَاعِدا أَو قَائِما} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا يحْتَمل مَعْنيين:
أَحدهمَا: إِذا مس الْإِنْسَان الضّر لجنبه أَو قَاعِدا أَو قَائِما دَعَانَا.
وَالْآخر: يحْتَمل إِذا مس الْإِنْسَان الضّر دَعَانَا لجنبه أَو قَاعِدا أَو قَائِما، يَعْنِي: على هَذِه الْأَحْوَال كلهَا.
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا كشفنا عَنهُ ضره مر} فِيهِ مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: مر طاغيا كَمَا كَانَ من قبل، وَالْآخر: اسْتمرّ على مَا كَانَ من قبل. قَالَ بَعضهم فِي هَذَا الْمَعْنى:
(كَأَن الْفَتى لم يعر يَوْمًا إِذا اكتسى ... وَلم تَكُ صعلوكا إِذا مَا تمولا)
قَوْله تَعَالَى: {كَأَن لم يدعنا إِلَى ضرّ مَسّه} مَعْنَاهُ: كَأَن لم يطْلب منا كشف ضرمسه. قَوْله {كَذَلِك زين للمسرفين} قَالَ ابْن جريج: كَذَلِك زين للمسرفين {مَا(2/369)
{قَائِما فَلَمَّا كشفنا عَنهُ ضره مر كَأَن لم يدعنا إِلَى ضرّ مَسّه كَذَلِك زين للمسرفين مَا كَانُوا يعْملُونَ (12) وَلَقَد أهلكنا الْقُرُون من قبلكُمْ لما ظلمُوا وجاءتهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا ليؤمنوا كَذَلِك نجزي الْقَوْم الْمُجْرمين (13) ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خلائف فِي الأَرْض من} كَانُوا يعْملُونَ) من الدُّعَاء عِنْد الْبلَاء، وَترك الشُّكْر عِنْد الرخَاء. وَفِيه معنى آخر: وَهُوَ أَنه كَمَا زين لكم أَعمالكُم، كَذَلِك زين للمسرفين الَّذين كَانُوا من قبلكُمْ أَعْمَالهم.(2/370)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أهلكنا الْقُرُون من قبلكُمْ لما ظلمُوا وجاءتهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَقَوله: {وَمَا كَانُوا ليؤمنوا} قَالَ الزّجاج: هَذَا فِي قوم علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَنعهم الله من الْإِيمَان جَزَاء على كفرهم. قَوْله: {كَذَلِك نجزي الْقَوْم الْمُجْرمين} وَهَذَا دَلِيل على أَن قَول ابْن الْأَنْبَارِي أصح.(2/370)
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خلائف فِي الأَرْض من بعدهمْ} يَعْنِي: خلفاء فِي الأَرْض من بعدهمْ {لنَنْظُر كَيفَ تَعْمَلُونَ} وَمَعْنَاهُ: ليختبركم فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ.
رُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: يَا ابْن أم عمر، لقد اسْتخْلفت، فَانْظُر كَيفَ تعْمل.
وَرُوِيَ أَنه قَالَ فِي موعظته: أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِن الله استخلفكم لينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ، فأروا الله أَعمالكُم الْحَسَنَة، وَكفوا عَن الْأَعْمَال القبيحة.(2/370)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا ائْتِ بقرآن غير هَذَا أَو بدله} رُوِيَ فِي التفاسير أَن الْمُشْركين قَالُوا للنَّبِي: يَا مُحَمَّد، إِن كنت تُرِيدُ أَن نؤمن لَك فأت بقرآن لَيْسَ فِيهِ سبّ آلِهَتنَا، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْبَعْث والنشور وَإِن لم ينزله الله هَكَذَا، فقله من عِنْد نَفسك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. فَإِن قَالَ قَائِل: أيش الْفرق بَين قَوْله: {ائْتِ بقرآن غير هَذَا} [وَقَوله] : {أَو بدله} أَلَيْسَ مَعْنَاهُمَا وَاحِد؟(2/370)
{بعدهمْ لنَنْظُر كَيفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا ائْتِ بقرآن غير هَذَا أَو بدله قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم (15) قل لَو شَاءَ الله مَا تلوته عَلَيْكُم وَلَا أدراكم بِهِ فقد لَبِثت فِيكُم عمرا من قبله أَفلا تعقلون (16) فَمن أظلم مِمَّن}
الْجَواب: أَن مَعْنَاهُمَا مُخْتَلف، وَقَوله: {ائْتِ بقرآن غير هَذَا} يجوز أَن يَأْتِي بِغَيْرِهِ مَعَه، وَقَوله: {أَو بدله} لَا يكون إِلَّا أَن يتْرك هَذَا وَيَأْتِي بِغَيْرِهِ.
قَوْله تَعَالَى: {قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم} مَعْلُوم الْمَعْنى، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لم أقل هَذَا من تِلْقَاء نَفسِي حَتَّى أَقُول غَيره من تِلْقَاء نَفسِي.(2/371)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
ثمَّ قَالَ: {قل لَو شَاءَ الله مَا تلوته عَلَيْكُم} يَعْنِي: لَو شَاءَ الله مَا أنزل الْقُرْآن عَليّ، {وَلَا أدراكم بِهِ} أَي: وَلَا أعلمكُم الله بِهِ {فقد لَبِثت فِيكُم عمرا من قبله} الْعُمر والعمر بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر:
(بَان الشَّبَاب وأخلف الْعُمر ... وتنكر الإخوان والدهر)
وَقدر الْعُمر الَّذِي لبث فيهم من قبله: هُوَ أَرْبَعُونَ سنة بِاتِّفَاق أهل الْعلم؛ فَإِن النَّبِي بعث إِلَيْهِم وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة، ولبث بِمَكَّة ثَلَاث عشرَة سنة، وبالمدينة عشرا، وَتُوفِّي وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة. وَفِي رِوَايَة عَن أنس " أَن النَّبِي مكث بِمَكَّة عشرا، وبالمدينة عشرا وتوفاه الله على رَأس سِتِّينَ سنة. وَالرِّوَايَة الأولى أظهر وَأشهر.
قَوْله {أَفلا تعقلون} مَعْنَاهُ: أَفلا تفقهون.(2/371)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته إِنَّه لَا يفلح المجرمون} مَعْلُوم الْمَعْنى.(2/371)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {ويعبدون من دون الله مَا لَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ} فَإِن قَالَ قَائِل:(2/371)
{افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته إِنَّه لَا يفلح المجرمون (17) ويعبدون من دون الله مَا لَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عِنْد الله قل أتنبئون الله بِمَا لَا يعلم فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاس} كَيفَ قَالَ: {وَلَا يضرهم} وَلَا شكّ أَنه ضرهم؟
الْجَواب عَنهُ مَعْنَاهُ: لَا يضرهم إِن تركُوا عِبَادَته، وَلَا يَنْفَعهُمْ إِن عبدوه. وَقَوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عِنْد الله} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالُوا: هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عِنْد الله وهم لَا يُؤمنُونَ بِالْبَعْثِ؟ .
الْجَواب: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عِنْد الله فِي مصَالح مَعَايِشنَا فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله تَعَالَى: {قل أتنبئون الله} أَي: أتخبرون الله؟ {بِمَا لَا يعلم فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ} مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَحَقِيقَة الْآيَة: الرَّد أَو الْإِنْكَار عَلَيْهِم.(2/372)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ النَّاس إِلَّا أمة وَاحِدَة} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: قَول مُجَاهِد وَهُوَ: أَن النَّاس كَانُوا على الْإِسْلَام فِي زمَان آدم إِلَى أَن قتل أحد ابنيه الآخر {فَاخْتَلَفُوا} .
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْعَرَب كَانُوا على دين إِبْرَاهِيم حَتَّى اخْتلفُوا. وَمن الْمَعْرُوف أَن أول من غير دين إِبْرَاهِيم من الْعَرَب هُوَ عَمْرو بن لحي. وَثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت [عَمْرو] بن لحي يجر قصبه فِي النَّار ".
وَيُقَال فِي الْآيَة: إِن المُرَاد من " الْأمة " أهل سفينة نوح عَلَيْهِ السَّلَام.
قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك} يَعْنِي: فِي التَّأْجِيل والإمهال {لقضى بَينهم فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَي: لحكم بَينهم فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.(2/372)
{إِلَّا أمة وَاحِدَة فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك لقضي بَينهم فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه فَقل إِنَّمَا الْغَيْب لله فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين (20) وَإِذا أذقنا النَّاس رَحْمَة من بعد ضراء مستهم إِذا لَهُم مكر فِي آيَاتنَا قل}(2/373)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه} فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ الرَّسُول قد أَتَى بِالْآيَاتِ على زعمكم؟
الْجَواب عَنهُ: بلَى، وَمعنى الْآيَة: هلا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه على مَا نقترحه.
{فَقل إِنَّمَا الْغَيْب لله} يَعْنِي: علم الْغَيْب لله، إِن شَاءَ أَتَى بِالْآيَةِ الَّتِي تسألونها وَإِن شَاءَ لم يَأْتِ {فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين} يَعْنِي: انتظروا الْغَيْب إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين.(2/373)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا أذقنا النَّاس رَحْمَة من بعد ضراء مستهم} الذَّوْق: تنَاول مَاله طعم بفمه ليجد طعمه، فَأَما الرَّحْمَة هَاهُنَا فِيهَا قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا الْعَافِيَة، وَالْآخر: أَنَّهَا الخصب وَالنعْمَة.
وَالضَّرَّاء فِيهَا قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا الشدَّة، وَالْآخر: أَنَّهَا الجدب والقحط.
{مستهم} أَي: أَصَابَتْهُم. وَقَوله تَعَالَى: {إِذا لَهُم مكر فِي آيَاتنَا} الْمَكْر: صرف الشَّيْء عَن وَجهه بطرِيق الْحِيلَة. قَالَ مُجَاهِد: {إِذا لَهُم مكر فِي آيَاتنَا} أَي: تَكْذِيب واستهزاء.
وَقَوله تَعَالَى: {قل الله أسْرع مكرا} يَعْنِي: أَشد أخذا. وَيُقَال: مَعْنَاهُ: إِن مَا يَأْتِي من الْعَذَاب من قبله أسْرع فِي إهلاككم مِمَّا يَأْتِي مِنْكُم فِي دفع الْحق وتكذيبه.
وَقَوله: {إِن رسلنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/373)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يسيركم فِي الْبر وَالْبَحْر} قُرِئت بقراءتين: " يسيركم " و " ينشركم "، وَالْمَعْرُوف: " يسيركم " وَمَعْنَاهُ: تسهيل طَرِيق السّير عَلَيْكُم فِي الْبر وَالْبَحْر. وَأما من قَرَأَ: " ينشركم " مَعْنَاهُ: يبثكم. وَرُوِيَ عَن الضَّحَّاك أَنه قَالَ: الْبَحْر هُوَ الْأَمْصَار، وَالْبر هُوَ الْبَوَادِي. وَقَوله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك} قَالَ أهل(2/373)
{الله أسْرع مكرا إِن رسلنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يسيركم فِي الْبر وَالْبَحْر حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم برِيح طيبَة وفرحوا بهَا جاءتها ريح عاصف} اللُّغَة: الْفلك تؤنث وتذكر. قَالَ الله تَعَالَى: {فِي الْفلك المشحون} وَقَالَ هَاهُنَا: {وجرين بهم} وَقَالُوا أَيْضا: إِن الْفلك يكون بِمَعْنى الْوَاحِد وَبِمَعْنى الْجمع. وَقَوله: {برِيح طيبَة} أَي: هينة لينَة.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الرّيح من روح الله، فسألوا الله من خَيرهَا، وتعوذوا بِاللَّه من شَرها ".
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم} فَهَذَا تَغْيِير الْكَلَام عَن وَجهه؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْعَرَب تقيم المعاينة مقَام المخاطبة، والمخاطبة مقَام المعاينة، قَالَ الشَّاعِر:
(وشطت مَزَار العاشقين فَأَصْبَحت ... عسيرا على طلابك ابْنة مخرم)
وَمِنْهُم من قَالَ: معنى الْآيَة: حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم برِيح طيبَة يَا مُحَمَّد. وَقَوله: {وفرحوا بهَا جاءتها ريح عاصف} وَهِي الشَّدِيدَة الْمهْلكَة، قَالَ الشَّاعِر:
(فِي فيلق شهباء ملمومة ... تعصف بالحاسر والدارع)
وَقَوله: {وجاءهم الموج من كل مَكَان} الموج: مَا يظْهر على الْبَحْر من الرّيح.(2/374)
{وجاءهم الموج من كل مَكَان وظنوا أَنهم أحيط بهم دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين لَئِن أنجيتنا من هَذِه لنكونن من الشَّاكِرِينَ}
وَقَوله: {وظنوا} وتيقنوا {أَنهم أحيط بهم} يُقَال لمن كَانَ فِي بلَاء وَشدَّة: إِنَّه قد أحيط بِهِ. وَقَوله: {دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} مَعْنَاهُ: أَنهم أَخْلصُوا فِي الدُّعَاء، وَلم يدعوا أحدا سوى الله. وَقَوله: {لَئِن أنجيتنا من هَذِه لنكونن من الشَّاكِرِينَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/375)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أنجاهم إِذا هم يَبْغُونَ فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} الْبَغي: هُوَ قصد الاستعلاء على الْغَيْر بالظلم، وَالْبَغي هَا هُنَا بِمَعْنى الْفساد، وَيُقَال: بغي الْجرْح إِذا أدّى إِلَى الْفساد، وبغت الْمَرْأَة إِذا فجرت.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يُؤَخر الله صَاحب بغي " أَي: لَا يمهله. وَفِي الْأَخْبَار - أَيْضا -: " الْبَغي مصراعة ".
ثمَّ قَالَ: {يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا بَغْيكُمْ على أَنفسكُم} أَي: وبال بَغْيكُمْ عَلَيْكُم.
قَوْله {مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} وقرىء: " مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا "؛ فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع مَعْنَاهُ: هُوَ مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَمن قَرَأَ بِالنّصب مَعْنَاهُ: يمتعون مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا. وَعَن الْأَعْمَش قَالَ: الْمَتَاع: زَاد الرَّاكِب. وَقَالَ أهل الْمعَانِي: حَقِيقَة معنى الْآيَة: أَن الْبَغي مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا.(2/375)
{فَلَمَّا أنجاهم إِذا هم يَبْغُونَ فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا بَغْيكُمْ على أَنفسكُم مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا ثمَّ إِلَيْنَا مرجعكم فننبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مثل الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ من السَّمَاء فاختلط بِهِ نَبَات الأَرْض مِمَّا يَأْكُل النَّاس والأنعام حَتَّى إِذا أخذت الأَرْض زخرفها وازينت بهَا وَظن أَهلهَا أَنهم قادرون عَلَيْهَا}
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِلَيْنَا مرجعكم فننبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: نخبركم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ.(2/376)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا مثل الْحَيَاة الدُّنْيَا} مَعْنَاهُ: إِنَّمَا صفة الْحَيَاة الدُّنْيَا {كَمَاء أَنزَلْنَاهُ من السَّمَاء} أَي: من السَّحَاب {فاختلط بِهِ نَبَات الأَرْض} يَعْنِي: اخْتَلَط الْمَطَر بالنبات، والنبات بالمطر {مِمَّا يَأْكُل النَّاس والأنعام} ظَاهر الْمَعْنى، وَقَوله: {حَتَّى إِذا أخذت الأَرْض زخرفها} الزخرف: كَمَال الْحسن، وَالذَّهَب زخرف؛ لكماله فِي الْحسن، وَمعنى الزخرف هَاهُنَا: الْبَهْجَة والنضرة. وَقَوله: {وازينت} أَي: تزينت، وَقَالُوا مَعْنَاهُ: أنبتت وأثمرت وأينعت.
وَقَوله: {وَظن أَهلهَا أَنهم قادرون عَلَيْهَا} مَعْنَاهُ: وَظن أَهلهَا أَنهم قادرون على جذاذها وقطافها وحصادها. وَقَوله: {أَتَاهَا أمرنَا لَيْلًا أَو نَهَارا} أَي: عذابنا لَيْلًا أَو نَهَارا. وَقَوله: {فجعلناها حصيدا} الحصيد: المحصود، وَالْمعْنَى هَا هُنَا: هُوَ الاستئصال بِالْعَذَابِ. وَقَوله: {كَأَن لم تغن بالْأَمْس} قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: كَأَن لم تعمر بالْأَمْس. وَقَالَ غَيره: كَأَن لم يكن قَائِما بالْأَمْس، يُقَال: غنى فلَان بِالْمَكَانِ إِذا قَامَ فِيهِ، والمغاني هِيَ الْمنَازل، قَالَ لبيد:
(وَلَقَد سئمت من الْحَيَاة وطولها ... وسؤال هَذَا النَّاس كَيفَ لبيد)
(وغنيت سبتا قبل مجْرى داحس ... لَو كَانَ للنَّفس اللجوج خُلُود)
وَمعنى غنيت: أَقمت، والسبت: الدَّهْر هَاهُنَا.
قَالَ قَتَادَة: معنى الْآيَة: هُوَ أَن المتشبث بالدنيا يَأْتِيهِ أَمر الله وعذابه أغفل مَا يكون وأعجب بهَا.
وَقَوله {كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يتفكرون} ظَاهر الْمَعْنى.(2/376)
{أَتَاهَا أمرنَا لَيْلًا أَو نَهَارا فجعلناها حصيدا كَأَن لم تغن بالْأَمْس}(2/377)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
قَوْله تَعَالَى {وَالله يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام} فِي الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من يَوْم تطلع فِيهِ الشَّمْس إِلَّا وبجنبتيها ملكان يسمعان الْخَلَائق إِلَّا الثقلَيْن: أَلا هلموا إِلَى ربكُم، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَالله يدعوا إِلَى دَار السَّلَام} . وَفِي الْآثَار - أَيْضا -: " أَنه مَا من يَوْم وَلَا ليل إِلَّا وينادى مُنَاد: يَا طَالب الْخَيْر هَلُمَّ، وَيَا طَالب الشَّرّ أقصر.
وَأما دَار السَّلَام: فالدار هِيَ الْجنَّة، وَفِي السَّلَام قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه هُوَ الله. وَالْآخر: أَن السَّلَام بِمَعْنى السَّلامَة؛ كَأَنَّهُ قَالَ: يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام من الْآفَات.
وروى أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر، عَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت فِي مَنَامِي كَأَن على رَأْسِي جِبْرِيل، وَكَأن(2/377)
{كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يتفكرون (24) وَالله يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام وَيهْدِي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (25) } على رجْلي مِيكَائِيل، فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: اضْرِب لَهُ مثلا، فَقَالَ الآخر: مثلك يَا مُحَمَّد مثل ملك بنى دَارا ثمَّ بنى فِي دَار بَيْتا، ثمَّ وضع فِي الْبَيْت مأدبة، ثمَّ دَعَا إِلَيْهَا النَّاس، فَمنهمْ التارك وَمِنْهُم الْمُجيب، فالملك: هُوَ الله تَعَالَى، وَالدَّار: هُوَ الْإِسْلَام، وَالْبَيْت: الْجنَّة، والداعي: أَنْت، فَمن أجَاب دخل الْجنَّة، وَمن دخل الْجنَّة أكل مِنْهَا ".
وَقَوله: {وَيهْدِي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} الصِّرَاط الْمُسْتَقيم: هُوَ الْإِسْلَام، وَفِيه أَقْوَال أخر، ذَكرنَاهَا من قبل.(2/378)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
قَوْله تَعَالَى: {للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة} الْإِحْسَان هَاهُنَا: الْإِسْلَام، وَالْإِحْسَان: هُوَ قَول لَا إِلَه إِلَّا الله. وَاخْتلفُوا فِي الْحسنى وَزِيَادَة، فَروِيَ عَن أبي بكر الصّديق وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَابْن عَبَّاس، وَحُذَيْفَة، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة من التَّابِعين أَنهم قَالُوا: الْحسنى: هِيَ الْجنَّة، وَالزِّيَادَة: هِيَ النّظر إِلَى الله عز وَعلا. وروى أَبُو الْقَاسِم بن بنت منيع، عَن هدبة بن خَالِد، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، عَن صُهَيْب - رَضِي الله عَنْهُم - أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا دخل أهل الْجنَّة الْجنَّة قَالَ الله - تَعَالَى -: يَا أهل الْجنَّة، إِن لكم عِنْدِي موعدا وَأَنا منجزكموه، فَقَالُوا: وَمَا ذَلِك؟ ألم تبيض وُجُوهنَا؟ ألم تثقل موازيننا؟ ألم تُدْخِلنَا الْجنَّة وتخلصنا من النَّار؟ قَالَ: فيتجلى لَهُم فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجهه، فَمَا أعْطوا شَيْئا هُوَ أحب (إِلَيْهِم) من النّظر إِلَيْهِ، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة} ".(2/378)
{للَّذين أَحْسنُوا بِالْحُسْنَى وَزِيَادَة}
قَالَ الإِمَام أَبُو المظفر: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن النقور بِالتَّخْفِيفِ بِبَغْدَاد قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن بنت منيع ... الْخَبَر خرجه مُسلم فِي " الصَّحِيح ".
وَفِي الْآيَة أَقْوَال آخر.
وروى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: الزِّيَادَة: غرفَة من اللُّؤْلُؤ لَهَا أَرْبَعَة آلَاف بَاب. وروى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: الْحسنى: هِيَ الْمثل من الثَّوَاب، وَالزِّيَادَة: هِيَ الزِّيَادَة على الْمثل إِلَى سَبْعمِائة ضعف. وَقَالَ مُجَاهِد: الْحسنى، هِيَ الْمثل، وَالزِّيَادَة: رضوَان الله تَعَالَى.
قَوْله ا \ تَعَالَى: {وَلَا يرهق وُجُوههم قتر وَلَا ذلة} القتر: سَواد الْوَجْه، وأصل (القتار) : هُوَ الدُّخان.
قَوْله: {وَلَا ذلة} أَي: هوان.
قَوْله: {أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/379)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كسبوا السَّيِّئَات جَزَاء سَيِّئَة بِمِثْلِهَا} الْآيَة، هَذَا هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يَجْزِي إِلَّا مثلهَا} . قَوْله: { [و] ترهقهم ذلة} أَي: تغشاهم ذلة، أَي: ذل. {مَا لَهُم من الله من عَاصِم} أَي: مَانع. وَقَوله: {كَأَنَّمَا أغشيت وُجُوههم قطعا} قُرِئت بقراءتين: " قطعا " و " قطعا "، فالقطع(2/379)
{وَلَا يرهق وُجُوههم قتر وَلَا ذلة أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ (26) وَالَّذين كسبوا السَّيِّئَات جَزَاء سَيِّئَة بِمِثْلِهَا وترهقهم ذلة مَا لَهُم من الله من عَاصِم كَأَنَّمَا أغشيت وُجُوههم قطعا من اللَّيْل مظلما أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (27) وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا ثمَّ نقُول للَّذين أشركوا مَكَانكُمْ أَنْتُم وشركاؤكم فزيلنا بَينهم وَقَالَ} بتحريك الطَّاء - جمع الْقطعَة، وَالْقطع - بِسُكُون الطَّاء - وَاحِد.
فَإِن قيل: كَيفَ لم يقل: " قطعا من اللَّيْل مظْلمَة "؟
قُلْنَا: تَقْدِير الْآيَة: قطعا من اللَّيْل فِي حَال ظلمته، هَكَذَا قَالَه أهل اللُّغَة.
{أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} ظَاهر.(2/380)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا ثمَّ نقُول للَّذين أشركوا مَكَانكُمْ أَنْتُم وشركاؤكم} الْآيَة. معنى الْآيَة: ثمَّ نقُول للَّذين أشركوا: الزموا أَنْتُم وشركاؤكم مَكَانكُمْ.
قَوْله: {فزيلنا بَينهم} مَعْنَاهُ: ميزنا بَينهم يَعْنِي: فرقنا بَين الْمُشْركين والأصنام؛ وَهُوَ من قَوْله: زلت، لَا من قَوْله: ذلت {وَقَالَ شركاؤكم مَا كُنْتُم إيانا تَعْبدُونَ} الشُّرَكَاء: هِيَ الْأَصْنَام الَّتِي جعلوها شُرَكَاء لله تَعَالَى على زعمهم. وَقَوله: {مَا كُنْتُم إيانا تَعْبدُونَ} مَعْنَاهُ: كُنْتُم إيانا تَعْبدُونَ بطلبنا ودعوتنا.(2/380)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {فَكفى بِاللَّه شَهِيدا بَيْننَا وَبَيْنكُم إِن كُنَّا عَن عبادتكم لغافلين} مَعْلُوم الْمَعْنى.(2/380)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
قَوْله تَعَالَى: {هُنَالك تبلو} الْآيَة، قُرِئت بقراءتين: " تتلو " و " تبلو " فَقَوله: " تبلو " قَالَ مُجَاهِد: تختبر، مَعْنَاهُ: تَجدهُ وتقف عَلَيْهِ، وَقَوله " تتلو " قَالَ الْأَخْفَش: يقْرَأ، فَيكون فِي معنى قَوْله: {يخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة} إِلَى قَوْله: {اقْرَأ كتابك كفى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حسيبا} .(2/380)
{شركاؤهم مَا كُنْتُم إيانا تَعْبدُونَ (28) فَكفى بِاللَّه شَهِيدا بَيْننَا وَبَيْنكُم إِن كُنَّا عَن عبادتكم لغافلين (29) هُنَالك تبلو كل نفس مَا أسلفت وردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق}
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى " تتلو ": تتبع، قَالَ الشَّاعِر:
(أرى الْمُرِيب يتبع المريبا ... كَمَا رَأَيْت الذيب يَتْلُوا الذيبا)
قَوْله تَعَالَى: {كل نفس مَا أسلفت} أَي: مَا قدمت. قَوْله تَعَالَى: {وردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق} فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم} وَقَالَ هَاهُنَا: {وردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق} فَكيف وَجه الْآيَتَيْنِ؟ .
الْجَواب عَنهُ: أَن الْمولى هُنَاكَ بِمَعْنى النَّاصِر والحافظ، وَالْمولى هَاهُنَا بِمَعْنى الْمَالِك، فَلم يكن بَين الْآيَتَيْنِ اخْتِلَاف.
وَقَوله [تَعَالَى] {وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون} أَي: فَاتَ عَنْهُم مَا كَانُوا يكذبُون.(2/381)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {قل من يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض} الرزق من السَّمَاء بالمطر، وَمن الأَرْض بالنبات. وَقَوله: {أم من يملك السّمع والأبصار} مَعْنَاهُ: وَمن أَعْطَاكُم الأسماع والأبصار. وَقَوله {وَمن يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} مَعْنَاهُ: وَمن يخرج النُّطْفَة من الْحَيّ، والحي من النُّطْفَة، والسنبلة من الْحبّ، وَالْحب من السنبلة، وَالْبيض من الطير وَالطير من الْبيض، وَالشَّجر من النواة، والنواة من الشّجر، وَالْمُؤمن من الْكَافِر، وَالْكَافِر من الْمُؤمن.
وَقَوله {وَمن يدبر الْأَمر} وَمن يقْضِي الْأَمر. وَقَوله: {فسيقولون الله فَقل أَفلا تَتَّقُون} مَعْنَاهُ: أَفلا تَتَّقُون الشّرك مَعَ هَذَا الْإِقْرَار.(2/381)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
قَوْله تَعَالَى: {فذلكم الله ربكُم الْحق} مَعْنَاهُ: فذلكم الَّذِي صفته هَذَا هُوَ ربكُم الْحق. وَقَوله: {فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال} مَعْنَاهُ: فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الْبَاطِل.(2/381)
{وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (30) قل من يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض أَمن يملك السّمع والأبصار وَمن يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ وَمن يدبر الْأَمر فسيقولون الله فَقل أَفلا تَتَّقُون (31) فذلكم الله ربكُم الْحق فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال فَأنى تصرفون (32) }
وَرُوِيَ عَن حَرْمَلَة أَنه قَالَ: سَأَلت (مَالك بن أنس) عَن الْغناء، فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة: {فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال "}
وَرُوِيَ عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد من التَّابِعين نَحوا من هَذَا فِي هَذَا الْمَعْنى. وَقَوله {فَأنى تصرفون} أَي: كَيفَ يعدل بكم عَن وَجه الْحق؟ .(2/382)
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك حقت} أَي: وَجَبت {كلمة رَبك} أَي: حِكْمَة رَبك {على الَّذين فسقوا} أَي: كفرُوا {أَنهم لَا يُؤمنُونَ} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا فِي أَقوام بأعيانهم علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ.(2/382)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
قَوْله تَعَالَى: {قل هَل من شركائكم من يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} مَعْنَاهُ: ينشىء الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ. وَقَوله: {قل الله يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} مَعْنَاهُ: ينشىء الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ، وَمعنى الْإِعَادَة: هِيَ الْإِحْيَاء للبعث يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله {فَأنى تؤفكون} مَعْنَاهُ: فَكيف تصرفون؟ .(2/382)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
قَوْله تَعَالَى: {قل هَل من شركائكم من يهدي إِلَى الْحق قل الله يهدي للحق} مَعْنَاهُ ظَاهر. وَقَوله: {أَفَمَن يهدي إِلَى الْحق أَحَق أَن يتبع أَمن لَا يهدي إِلَّا أَن يهدى} قُرِئت بقراءات كَثِيرَة قَالَ أهل الْعَرَبيَّة: أَصَحهَا: " أَمن لَا يهدي " أَو " يهدي " على وَجه الْإِدْغَام؛ لِأَن مَعْنَاهُ: يَهْتَدِي. ثمَّ قَالَ: {إِلَّا أَن يهدى} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {إِلَّا أَن يهدى} والأصنام لَا يتَصَوَّر فِيهَا أَن تهدى وَلَا أَن تهتدي؟ الْجَواب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا أَن معنى الْهِدَايَة هَاهُنَا هِيَ النَّقْل، يعْنى: لَا ينْتَقل من مَكَان إِلَى مَكَان إِلَّا أَن ينْقل.(2/382)
{كَذَلِك حقت كلمت رَبك على الَّذين فسقوا أَنهم لَا يُؤمنُونَ (33) قل هَل من شركائكم من يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ قل الله يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ فَأنى تؤفكون (34) قل هَل من شركائكم من يهدي إِلَى الْحق قل الله يهدي للحق أَفَمَن يهدي أَي الْحق أَحَق أَن يتبع أَمن لَا يهدي إِلَّا أَن يهدى فَمَا لكم كَيفَ تحكمون (35) وَمَا يتبع أَكْثَرهم إِلَّا ظنا إِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا إِن الله عليم بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن أَن يفترى من دون الله وَلَكِن تَصْدِيق الَّذِي بَين يَدَيْهِ وتفصيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ من}
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن هَذَا مَذْكُور على وَجه الْمجَاز؛ فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَصْنَام أَنَّهَا تسمع وتعقل وتهدي، فَذكر ذَلِك فِي الْأَصْنَام على وفْق مَا يَعْتَقِدُونَ، وَجعلهَا بِمَنْزِلَة من يعقل فِي هَذَا الْخطاب، وَأثبت عجزها عَن الْهِدَايَة. قَوْله: {فَمَا لكم كَيفَ تحكمون} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/383)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا يتبع أَكْثَرهم إِلَّا ظنا} الْآيَة، الظَّن: حَالَة بَين الشَّك وَالْيَقِين. وَقَوله: {وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} مَعْنَاهُ: إِن الظَّن لَا يقوم مقَام الْحق بِحَال. وَقَوله: {إِن الله عليم بِمَا يَفْعَلُونَ} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/383)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن أَن يفترى من دون الله} الْآيَة، وَفِيه وَجْهَان من الْمَعْنى:
أَحدهمَا: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن افتراء من دون الله.
وَالْوَجْه الثَّانِي: وَمَا يَنْبَغِي لمثل هَذَا الْقُرْآن أَن يفترى من دون الله لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لنَبِيّ أَن يغل} مَعْنَاهُ: وَمَا يَنْبَغِي لمثل النَّبِي أَن يغل.
وَقَوله: {وَلَكِن تَصْدِيق الَّذِي بَين يَدَيْهِ} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: تَصْدِيق الَّذِي بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَالثَّانِي: تَصْدِيق الشَّيْء الَّذِي الْقُرْآن بَين يَدَيْهِ من الْقِيَامَة والبعث.
وَقَوله: {وتفصيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ من رب الْعَالمين} التَّفْصِيل: التَّبْيِين،(2/383)
{رب الْعَالمين (37) أم يَقُولُونَ افتراه قل فَأتوا بِسُورَة مثله وَادعوا من اسْتَطَعْتُم من دون الله إِن كُنْتُم صَادِقين (38) بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين (39) وَمِنْهُم من يُؤمن بِهِ وَمِنْهُم من لَا يُؤمن بِهِ وَرَبك أعلم بالمفسدين (40) وَإِن كَذبُوك فَقل لي عَمَلي وَلكم عَمَلكُمْ} وَمعنى بَاقِي الْآيَة مَعْلُوم.(2/384)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ افتراه قل فَأتوا بِسُورَة مثله} معنى الْآيَة: هُوَ الِاحْتِجَاج على الْكفَّار بمعجزة الْقُرْآن؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا قد افتراه، فَقَالَ لَهُم: إِن كَانَ افتراه وأتى بِهِ من عِنْد نَفسه فَأتوا أَنْتُم بِمثلِهِ.
فَإِن قيل: قَالَ: {فَأتوا بِسُورَة مثله} فللقرآن مثل يُؤْتى بِسُورَة مِنْهُ؟
الْجَواب: أَن مَعْنَاهُ: فَأتوا بِسُورَة من مثله فِي البلاغة وَالنّظم وَصِحَّة الْمَعْنى. وَقيل: إِن مَعْنَاهُ: فَأتوا بِسُورَة مثل سُورَة الْقُرْآن.
وَقَوله: {وَادعوا من اسْتَطَعْتُم من دون الله} مَعْنَاهُ: وَاسْتَعِينُوا بِمن اسْتَطَعْتُم من دون الله {إِن كُنْتُم صَادِقين} .(2/384)
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
قَوْله: {بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ} الْإِحَاطَة بِعلم الشَّيْء هِيَ: الْمعرفَة بِهِ من جَمِيع وجوهه، وَمعنى الْآيَة: بل كذبُوا بِالْقُرْآنِ وَلم يحيطوا بِعِلْمِهِ، يَعْنِي: لم يعلموه.
وَقَوله: {وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله} أَي: وَلم يَأْتهمْ تَأْوِيله، وَمَعْنَاهُ: وَلم يعلمُوا مَا يؤول إِلَيْهِ عَاقِبَة أَمرهم. ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين} ظَاهر الْمَعْنى.(2/384)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من يُؤمن بِهِ وَمِنْهُم من لَا يُؤمن بِهِ وَرَبك أعلم بالمفسدين} مَعْنَاهُ: وَمِنْهُم من يُؤمن بِهِ - بِالْقُرْآنِ - كأصحاب النَّبِي من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَمِنْهُم من لَا يُؤمن بِهِ كَأبي جهل وَمن (تَابعه) ، وَمِنْهُم من قَالَ: وَمِنْهُم من يُؤمن(2/384)
{أَنْتُم بريئون مِمَّا أعمل وَأَنا بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُم من يَسْتَمِعُون إِلَيْك أفأنت تسمع الصم وَلَو كَانُوا لَا يعْقلُونَ (42) وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك أفأنت تهدي الْعمي وَلَو} بِهِ سرا وَعَلَانِيَة كالمؤمنين المخلصين، وَمِنْهُم من لَا يُؤمن بِهِ سرا كالمنافقين.
{وَرَبك أعلم بالمفسدين} ظَاهر الْمَعْنى.(2/385)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كَذبُوك فَقل لي عَمَلي وَلكم عَمَلكُمْ} الْآيَة، مَعْنَاهُ: لي عَمَلي وجزاؤه وَلكم عَمَلكُمْ وجزاؤه. قَوْله: {أَنْتُم بريئون مِمَّا أعمل وَأَنا بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ} هَذَا مثل قَوْله: {لكم دينكُمْ ولي دين} وَمثل قَوْله تَعَالَى: {لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم} .(2/385)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من يَسْتَمِعُون إِلَيْك} الْآيَة، الِاسْتِمَاع: طلب السّمع، وَقد كَانُوا يطْلبُونَ سَماع الْقُرْآن للرَّدّ والتكذيب بِهِ، لَا للتفهم وَالْإِيمَان بِهِ. وَقَوله: {أفأنت تسمع الصم} الصمم: آفَة تمنع من السماع، وَالْمرَاد من الصمم هَاهُنَا: صمم الْقلب؛ فَإِنَّهُم لما لم يسمعوا الْقُرْآن للْإيمَان بِهِ وقبوله كَأَنَّهُمْ لم يسمعوا، وجعلهم بِمَنْزِلَة الصم، والصم: جمع الْأَصَم. وَقَالَ الزّجاج: قد كَانُوا يسمعُونَ حَقِيقَة؛ وَلَكِن لشدَّة بغضهم وعداوتهم للنَّبِي لم يستمعوا ليفهموا، فجعلهم كَأَن لم يسمعوا. قَوْله: {وَلَو كَانُوا لَا يعْقلُونَ} مَعْنَاهُ: وَلَو كَانُوا جُهَّالًا.(2/385)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك} النّظر: طلب الرُّؤْيَة بتقليب الْبَصَر، وَأما نظر الْقلب: هُوَ طلب الْعلم بالفكرة. وَقَوله: {أفأنت تهدي الْعمي} جعلهم بِمَنْزِلَة الْعمي؛ لأَنهم لم ينْظرُوا لطلب الْحق، وَالْمرَاد من الْعَمى هَاهُنَا: عمى الْقلب. وَمِنْهُم من قَالَ: جعلهم بِمَنْزِلَة الْعَمى كَمَا جعلهم بِمَنْزِلَة الصم حَيْثُ لم ينتفعوا لَا بأسماعهم وَلَا بِأَبْصَارِهِمْ.
وَذكر ابْن الْأَنْبَارِي حاكيا عَن ابْن قُتَيْبَة أَنه اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة على أَن السّمع أفضل(2/385)
{كَانُوا لَا يبصرون (43) إِن الله لَا يظلم النَّاس شَيْئا وَلَكِن النَّاس أنفسهم يظْلمُونَ (44) وَيَوْم يحشرهم كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من النَّهَار يَتَعَارَفُونَ بَينهم قد خسر الَّذين} من الْبَصَر، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ فِي الصمم: {لَو كَانُوا لَا يعْقلُونَ} ، وَقَالَ فِي الْعَمى: {وَلَو كَانُوا لَا يبصرون} .
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَهَذَا غلط؛ لِأَن المُرَاد من الْآيَة عمى الْقلب لَا عمى الْعين، وَكَذَلِكَ صمم الْقلب لَا صمم الْأذن؛ فعلى هَذَا لَا يَقع التَّفْضِيل.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَلِأَن حاسة الْبَصَر أفضل من حاسة السّمع، أَلا ترى أَن الْجمال فِيهَا أَكثر، وَالنُّقْصَان بفوتها أعظم، وسماها الرَّسُول كريمتى الْإِنْسَان؛ فَإِنَّهُ قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: من أخذت كريمتيه فَصَبر واحتسب، لم يكن لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجنَّة ".
وَإِذا كَانَ الرجل أعمى فَإِنَّهُ لَا يبصر إقباله من إدباره، وَلَا طَرِيق غيه من طَرِيق رشده، وَيكون أَسِيرًا فِي نَفسه، (ويتعطل) عَلَيْهِ مَنَافِع عَامَّة جوارحه.(2/386)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يظلم النَّاس شَيْئا وَلَكِن النَّاس أنفسهم يظْلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/386)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم يحشرهم كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من النَّهَار} معنى الْآيَة: تقريب وَقت مماتهم من وَقت بَعثهمْ، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من نَهَار} . وَقَوله: {يَتَعَارَفُونَ بَينهم} يَعْنِي: يعرف بَعضهم بَعْضًا. وَفِي بعض(2/386)
{كذبُوا بلقاء الله وَمَا كَانُوا مهتدين (45) وَإِمَّا نرنيك بعض الَّذين نعدهم أَو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلكُل أمة رَسُول فَإِذا جَاءَ رسولهم قضي بَينهم بِالْقِسْطِ وهم لَا يظْلمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (48) قل لَا أملك لنَفْسي ضرا وَلَا نفعا إِلَّا مَا شَاءَ الله لكل أمة أجل إِذا جَاءَ أَجلهم فَلَا} الْآثَار: أَن الْإِنْسَان يَوْم الْقِيَامَة يعرف من بجنبه، وَلَا يكلمهُ هَيْبَة وخشية. وَقَوله: {قد خسر الَّذين كذبُوا بلقاء الله وَمَا كَانُوا مهتدين} الخسران هَاهُنَا: خسران النَّفس، وَلَا شَيْء أعظم من خسران النَّفس. وَفِي بعض الْآثَار: يَا بَان آدم، أَنْت فِي دَار التِّجَارَة فاربح فِيهَا نَفسك.(2/387)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا نرينك بعض الَّذِي نعدهم} قَالَ مُجَاهِد: بعض الَّذِي نعدهم هُوَ: الْقَتْل يَوْم بدر. وَقَالَ غَيره: معنى الْآيَة: إِمَّا نعذبهم فِي حياتك {أَو نتوفينك} قبل تعذيبهم {فإلينا مرجعهم} ومرجعهم إِلَيْنَا. وَقَوله: {ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى، و " ثمَّ " هَاهُنَا بِمَعْنى الْوَاو.(2/387)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
وَقَوله تَعَالَى: {وَلكُل أمة رَسُول} الْأمة: هِيَ الْجَمَاعَة إِذا كَانُوا على مَنْهَج وَاحِد ومقصد وَاحِد. وَالرَّسُول: كل من حمل رِسَالَة ليؤديها على الْحق. وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا جَاءَ رسولهم} قَالَ مُجَاهِد: فَإِذا جَاءَ رسولهم شَاهدا عَلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة {قضى بَينهم بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ {وهم لَا يظْلمُونَ} يَعْنِي: لَا ينقص من حَقهم.
وَفِي الْآيَة معنى آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {فَإِذا جَاءَ رسولهم} يَعْنِي: إِذا جَاءَ رسولهم بالإعذار والإنذار قضى بَينهم بِالْقِسْطِ أَي: بِالْحَقِّ، وَمَعْنَاهُ: أَنه قبل مَجِيء الرُّسُل لَا يتَوَجَّه ثَوَاب وَلَا عِقَاب.(2/387)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين} يَعْنِي: وعد السَّاعَة.(2/387)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {قل لَا أملك لنَفْسي ضرا وَلَا نفعا إِلَّا مَا شَاءَ الله} الْآيَة. الْملك: قُوَّة يتَصَرَّف بهَا فِي الشَّيْء، وَقَوله: {ضرا وَلَا نفعا} يَعْنِي: دفع ضرّ وَلَا جلب نفع لم يقدره الله تَعَالَى. وَقَوله: {لكل أمة أجل} الْأَجَل: مُدَّة مَضْرُوبَة لحلول أَمر.(2/387)
{يستئخرون سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قل أَرَأَيْتُم إِن أَتَاكُم عَذَابه بياتا أَو نَهَارا مَاذَا يستعجل مِنْهُ المجرمون (50) أَثم إِذا مَا وَقع آمنتم بِهِ الْآن وَقد كُنْتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُون (51) ثمَّ قيل للَّذين ظلمُوا ذوقوا عَذَاب الْخلد هَل تُجْزونَ إِلَّا بِمَا كُنْتُم تكسبون (52) ويستنبئونك أَحَق هُوَ قل إِي وربي إِنَّه لحق وَمَا أَنْتُم بمعجزين (53) وَلَو أَن}
وَقَوله: {إِذا جَاءَ أَجلهم فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/388)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
قَوْله تَعَالَى {قل أَرَأَيْتُم إِن أَتَاكُم عَذَابه بياتا أَو نَهَارا} والبيات: مَا يحصل لَيْلًا.
وَقَوله: {مَاذَا يستعجل مِنْهُ المجرمون} مَعْنَاهُ: مَاذَا يستعجل من الله المجرمون؟ وَقيل: مَاذَا يستعجل من الْعَذَاب المجرمون؟ وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنهم كَانُوا يستعجلون الْعَذَاب؛ مثل قَول النَّضر بن الْحَارِث، فَإِنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك، فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء، أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم، فَقَالَ الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة: {مَاذَا يستعجل مِنْهُ المجرمون} يَعْنِي: وأيش يعلم المجرمون مَاذَا يستعجلون وَيطْلبُونَ؟ كَالرّجلِ يَقُول لغيره: مَاذَا جنيت على نَفسك؟ إِذا فعل فعلا قبيحا.(2/388)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِذا مَا وَقع آمنتم بِهِ} قيل فِي التَّفْسِير: معنى قَوْله: (أَثم) : هُنَالك إِذا مَا وَقع - أَي: الْعَذَاب {آمنتم بِهِ} يَعْنِي: آمنتم بِاللَّه؟ من وَقع الْعَذَاب؟ أَي: نزل. ثمَّ قَالَ: {الْآن} وَفِيه حذف وَمَعْنَاهُ: الْآن آمنتم بِهِ {وَقد كُنْتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُون} تَكْذِيبًا واستهزاء.(2/388)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ قيل للَّذين ظلمُوا ذوقوا عَذَاب الْخلد هَل تُجْزونَ إِلَّا بِمَا كُنْتُم تكسبون} ظَاهر الْمَعْنى.(2/388)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
قَوْله تَعَالَى: {ويستنبئونك أَحَق هُوَ} مَعْنَاهُ: ويستخبرونك أَحَق هُوَ؟ وَالْحق ضد الْبَاطِل، وَيُقَال: الْحق مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيل. وَقَوله: {قل إِي وربي} مَعْنَاهُ: قل نعم وربي {إِنَّه لحق وَمَا أَنْتُم بمعجزين} مَعْنَاهُ: وَمَا أَنْتُم بفائتين من الْعَذَاب؛ لِأَن من عجز عَن الشَّيْء فقد فَاتَهُ.(2/388)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَن لكل نفس ظلمت مَا فِي الأَرْض لافتدت بِهِ} الافتداء(2/388)
{لكل نفس ظلمت مَا فِي الأَرْض لافتدت بِهِ وأسروا الندامة لما رَأَوْا الْعَذَاب وَقضي بَينهم بِالْقِسْطِ وَهُوَ لَا يظْلمُونَ (54) أَلا إِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض أَلا إِن وعد الله حق وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (55) هُوَ يحيي وَيُمِيت وَإِلَيْهِ ترجعون (56) يَا أَيهَا} هَاهُنَا: بذل مَا ينجو بِهِ عَن الْعَذَاب. وَقَوله: {وأسروا الندامة لما رَأَوْا الْعَذَاب} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: قَول أبي عُبَيْدَة، وَهُوَ: أَن مَعْنَاهُ: وأظهروا الندامة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وأسروا الرؤساء مِنْهُم الندامة من الضُّعَفَاء خوفًا من مذامتهم وتعييرهم.
وَقَوله: {وَقضى بَينهم بِالْقِسْطِ وهم لَا يظْلمُونَ} قد بَينا الْمَعْنى.(2/389)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)
قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ أَن عنْدكُمْ السَّمَوَات سبع، والأرضون سبع، فَكيف ذكر السَّمَوَات بِلَفْظ الْجمع وَالْأَرْض بِلَفْظ (الوحدان) ؟
الْجَواب: أَن الْوَاحِد هَاهُنَا بِمَعْنى الْجمع، وَالْعرب قد تذكر الْوَاحِد بِلَفْظ الْجمع، وَالْجمع بِلَفْظ الْوَاحِد، وَقيل: إِن الْأَرْضين وَإِن كَانَت سبعا وَلَكِن لما لم تظهر سوى هَذِه الْوَاحِدَة وَكَانَت الْبَاقُونَ مخفية، ذكر بِلَفْظ الوحدان.
وَقَوله: {أَلا إِن وعد الله حق وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/389)
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ يحيي وَيُمِيت وَإِلَيْهِ ترجعون} مَعْلُوم الْمَعْنى.(2/389)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس قد جاءتكم موعظة من ربكُم} الْآيَة، الموعظة: قَول على طَرِيق الْعلم يُؤَدِّي إِلَى صَلَاح الْعباد. وَقَوله: {وشفاء لما فِي الصُّدُور} الشِّفَاء هَاهُنَا هُوَ الدَّوَاء لذِي الْجَهْل. وَقَالَ أهل الْعلم: لَا دَاء أعظم من الْجَهْل، وَلَا دَوَاء أعز من دَوَاء الْجَهْل، وَلَا طَبِيب أقل من طَبِيب الْجَهْل، وَلَا شِفَاء أبعد من شِفَاء الْجَهْل.(2/389)
{النَّاس قد جاءتكم موعظة من ربكُم وشفاء لما فِي الصُّدُور وَهدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين (57) قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ (58) قل أَرَأَيْتُم مَا أنزل الله لكم من رزق فجعلتم مِنْهُ حَرَامًا وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون}
وَأما قَوْله {لما فِي الصُّدُور} الصَّدْر مَوضِع الْقلب، وَهُوَ أعز مَوضِع فِي الْإِنْسَان؛ لجوار الْقلب. وَقَوله: {وَهدى} يَعْنِي: وَهدى من الضَّلَالَة. وَقَوله: {وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين} الرَّحْمَة: هِيَ النِّعْمَة على الْمُحْتَاج، فَإِنَّهُ لَو أهْدى ملك إِلَى ملك شَيْئا لَا يُقَال: قد رَحمَه، وَإِن كَانَ هَذَا نعْمَة على الْحَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ لم يَضَعهَا فِي مُحْتَاج.(2/390)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
قَوْله تَعَالَى: {قل بِفضل الله وبرحمته} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: فضل الله: الْقرَان، وَرَحمته: الْإِسْلَام. وَعَن بَعضهم: فضل الله: الْإِسْلَام، وَرَحمته: الْقُرْآن. وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: فضل الله: الْقُرْآن، وَرَحمته: أَن جعلنَا من أَهله. وَهَذَا مَرْوِيّ أَيْضا عَن عِكْرِمَة.
وَقَوله: {فبذلك فليفرحوا} وَقَرَأَ الْحسن: " فبذلك فلتفرحوا " مَعْنَاهُ: فبذلك فلتعجبوا.
وَقَوله: {هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ} أَي: مِمَّا يجمع الْكفَّار من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير.(2/390)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم مَا أنزل الله لكم من رزق فجعلتم مِنْهُ حَرَامًا وحلالا} قَالَ أهل التَّفْسِير: معنى هَذَا هِيَ السوائب والحوامي الَّتِي جعلهَا أهل الشّرك حَرَامًا عَلَيْهِم، وَقد ذكرنَا هَذَا فِي تَفْسِير سُورَة الْأَنْعَام، وَمَا أحلُّوا من ذَلِك وَمَا حرمُوا فِي تَفْسِير قَوْله: {وَقَالُوا مَا فِي بطُون هَذِه الْأَنْعَام خَالِصَة لذكورنا ومحرم على أَزوَاجنَا} فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا الْمَعْنى، وَقد قَالَ فِي آخر الْآيَة: {قل الله أذن لكم أم على الله تفترون} ؟
وَلَيْسَ المُرَاد من الْآيَة الِاسْتِفْهَام؛ وَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهَا الرَّد وَالْإِنْكَار عَلَيْهِم.(2/390)
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ظن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب يَوْم الْقِيَامَة} قَالُوا: مَعْنَاهُ:(2/390)
((59} وَمَا ظن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب يَوْم الْقِيَامَة إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يشكرون (60) وَمَا تكون فِي شَأْن وَمَا تتلو مِنْهُ من قُرْآن وَلَا تَعْمَلُونَ من عمل إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا إِذْ تفيضون فِيهِ وَمَا يعزب عَن رَبك من مِثْقَال ذرة فِي وَمَا ظن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب يَوْم الْقِيَامَة، أيلقاهم الْخَيْر أم يلقاهم الشَّرّ؟ وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن الشَّرّ يلقاهم؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَلِيق بافترائهم.
وَقَوله: {إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يشكرون} فِي التفاسير: من ألف وَاحِد شَاكر.(2/391)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تكون فِي شَأْن} الشَّأْن: اسْم مُبْهَم، وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: مَا حملك وَمَا بالك؟ وَمَا شانك؟ وَقَوله: {فِي شَأْن} يَعْنِي: فِي شَأْن من الشؤون.
وَقَوله: {وَمَا تتلو مِنْهُ من قُرْآن} فَإِن قيل: [أيش معنى] قوبه: {وَمَا تتلو مِنْهُ} وَلم يسْبق ذكر الْقُرْآن؟ الْجَواب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن مَعْنَاهُ: وَمَا تتلو من الشَّأْن، من قُرْآن، وَالْآخر: أَنه رَاجع إِلَى الْقُرْآن أَيْضا، فأبطن فِي قَوْله: {مِنْهُ} وَأظْهر فِي قَوْله {من قُرْآن} تفخيما لَهُ. وَقَوله: {وَلَا تعلمُونَ من عمل إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا} الشُّهُود هَاهُنَا: جمع شَاهد.
وَقَوله: {إِذْ تفيضون فِيهِ} قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: إِذْ تندفعون فِيهِ، والإفاضة هِيَ الدّفع بِالْكَثْرَةِ. وَقَوله: {وَمَا يعزب عَن رَبك} مَعْنَاهُ: وَمَا يغيب عَن رَبك {من مِثْقَال ذرة} من وزن ذرة؛ والذرة: هِيَ النملة الصَّغِيرَة، وَقيل: مَا يظْهر فِي شُعَاع الشَّمْس. وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف.(2/391)
{الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء وَلَا أَصْغَر من ذَلِك وَلَا أكبر إِلَّا فِي كتاب مُبين (61) أَلا إِن}
وَقَوله: {فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء وَلَا أَصْغَر من ذَلِك} يَعْنِي: أَصْغَر من الذّرة. {وَلَا أكبر} مَعْنَاهُ: وَلَا أكبر من الذّرة إِلَى مَا لَا يعلم قدره إِلَّا الله تَعَالَى. قَوْله: {إِلَّا فِي كتاب مُبين} مَعْنَاهُ: إِلَّا هُوَ مُبين فِي الْكتاب، يَعْنِي: اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَفِي الْأَخْبَار الْمَشْهُورَة: " أَن الله تَعَالَى لما خلق الْقَلَم قَالَ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أكتب؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَقد ثَبت بِرِوَايَة عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله قدر الْمَقَادِير قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة ". خرجه مُسلم فِي " صَحِيحه ".(2/392)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِن أَوْلِيَاء الله} اخْتلفُوا فِي أَوْلِيَاء الله على أَقْوَال:
أَحدهمَا: أَنهم الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، وَالْآخر: أَنهم الَّذين يرضون بِالْقضَاءِ، ويشكرون عِنْد الرخَاء، ويصبرون على الْبلَاء، وَالثَّالِث: هم المتحابون فِي الله تَعَالَى.
وَقد روى عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ: " إِن من عباد الله عبادا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاء، يَغْبِطهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاء لِمَكَانِهِمْ عِنْد الله. فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، وَمن هم؟ فَقَالَ رَسُول: قوم تحَابوا بِروح الله من غير أَرْحَام يصلونها، وَلَا أَمْوَال يَتَعَاطونَهَا، وَإِن على وُجُوههم لنورا، وَإِنَّهُم على مَنَابِر من نور، لَا يخَافُونَ إِذا خَافَ النَّاس، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذا حزن النَّاس، ثمَّ قَرَأَ: {أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم} ". ذكره أَبُو دَاوُد فِي " سنَنه " قَرِيبا من هَذَا.(2/392)
{أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (62) الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُم}
وَالرَّابِع: هُوَ أَن أَوْلِيَاء الله من إِذا رؤوا [ذكر] الله.
وَفِي بعض الْأَخْبَار المرفوعة إِلَى النَّبِي: " سُئِلَ من أَوْلِيَاء الله؟ فَقَالَ الَّذين إِذا رؤوا [ذكر] الله ". وَفِي رِوَايَة: " الَّذين [يذكر] الله برؤيتهم ".
وَقَوله: {لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} الْخَوْف: انزعاج فِي النَّفس من توقع مَكْرُوه، والحزن: هم يَقع فِي الْقلب لنَوْع عَارض.(2/393)
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/393)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَهُم الْبُشْرَى} اخْتلفُوا فِي هَذِه الْبُشْرَى على أَقْوَال:
الأول: روى (أَبُو الدَّرْدَاء) - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَة يَرَاهَا الْمُؤمن أوترى لَهُ ".
وَرَوَاهُ - أَيْضا - عبَادَة بن الصَّامِت أَبُو الْوَلِيد - رَضِي الله عَنهُ -.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الرُّؤْيَا الصادقة جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من(2/393)
{الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة لَا تَبْدِيل لكلمات الله ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم (64) وَلَا يحزنك قَوْلهم إِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (65) أَلا إِن لله من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض وَمَا يتبع الَّذين يدعونَ من دون الله شُرَكَاء إِن يتبعُون إِلَّا} النُّبُوَّة ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: روى أَبُو ذَر - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي: " إِن الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا: هُوَ الثَّنَاء الْحسن، وَفِي الْآخِرَة: الْجنَّة ".
وَالثَّالِث: الْبُشْرَى: هِيَ نزُول نزُول مَلَائِكَة الرَّحْمَة بالبشارة من الله تَعَالَى عِنْد الْمَوْت.
وَالرَّابِع: الْبُشْرَى: هِيَ علم الْمُؤمن بمكانه من الْجنَّة قبل أَن يَمُوت. قَالَه قوم من التَّابِعين.
وَقَوله تَعَالَى: {لَا تَبْدِيل لكلمات الله} مَعْنَاهُ: لَا خلف لوعد الله. وَقَوله: {ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} أَي: النجَاة الْعَظِيمَة.(2/394)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يحزنك قَوْلهم} وقف تَامّ. ثمَّ قَالَ: {إِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا} يعْنى: إِن الْغَلَبَة لله جَمِيعًا {هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} مَعْلُوم الْمَعْنى.(2/394)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِن لله من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.
وَقَوله: {وَمَا يتبع الَّذين يدعونَ من دون الله شُرَكَاء} مَعْنَاهُ: وَمَا يتبع الَّذين يدعونَ من دون الله شُرَكَاء على الْحَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لله شريك. وَقيل: مَعْنَاهُ: وَمَا يتبع الَّذين يدعونَ من دون الله شُرَكَاء علما ويقينا؛ بل يتبعُون على الظَّن كَمَا قَالَ: {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن هم إِلَّا يخرصون} وَمعنى قَوْله: {يخرصون} : يكذبُون؛ لقَوْله: {قتل الخراصون} أَي: الكذابون.(2/394)
{الظَّن وَإِن هم إِلَّا يخرصون (66) هُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ وَالنَّهَار مبصرا إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يسمعُونَ (67) قَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض إِن عنْدكُمْ من سُلْطَان بِهَذَا أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ (68) قل إِن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب لَا يفلحون (69) مَتَاع فِي الدُّنْيَا ثمَّ إِلَيْنَا}(2/395)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. قَوْله: {وَالنَّهَار مبصرا} أَي: مبصرا فِيهِ. وَقيل: مَعْنَاهُ: وَالنَّهَار ذَا إبصار، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فِي عيشة راضية} يَعْنِي: ذَات رضَا. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يسمعُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/395)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ} فَإِن قَالَ قَائِل: أيش الْفرق بَين اتِّخَاذ الْوَلَد واتخاذ الْخَلِيل؟
الْجَواب عَنهُ: أَن الْحَقِيقَة الْخلَّة مَقْصُورَة على الله تَعَالَى؛ لِأَن الْخلَّة: تصفية الود، وَهَذَا يجوز على الله تَعَالَى. وَأما حَقِيقَة الْوَلَد: لَا يجوز على الله تَعَالَى؛ فاتخاذه لَا يجوز، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَّخذ الْوَلَد ليرثه ملكه أَو ليسر بِهِ، أَو ليعنه على أَمر، أَو ليخلفه فِي أُمُوره، وَالله تَعَالَى منزه عَن هَذَا كُله، وَلَا يجوز عَلَيْهِ، فَلم يجز اتِّخَاذ الْوَلَد لَهُ.
وَقَوله تَعَالَى: {هُوَ الْغَنِيّ} إِشَارَة إِلَى مَا قُلْنَا من عدم الْحَاجة. وَقَوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض إِن عنْدكُمْ من سُلْطَان بِهَذَا} أَي: من حجَّة بِهَذَا؟ .
وَقَوله: {أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/395)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب لَا يفلحون} أَي: لَا ينجون.(2/395)
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
وَقَوله {مَتَاع فِي الدُّنْيَا} مَعْنَاهُ: إِن الَّذين يفترون على الله حاصلهم مَتَاع فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله: {ثمَّ إِلَيْنَا مرجعهم ثمَّ نذيقهم الْعَذَاب الشَّديد بِمَا كَانُوا يكفرون} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.(2/395)
{مرجعهم ثمَّ نذيقهم الْعَذَاب الشَّديد بِمَا كَانُوا يكفرون (70) واتل عَلَيْهِم نبأ نوح إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قوم إِن كَانَ كبر عَلَيْكُم مقَامي وتذكيري بآيَات الله فعلى الله توكلت فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة ثمَّ اقضوا إِلَيّ وَلَا تنْظرُون}(2/396)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
قَوْله تَعَالَى: {واتل عَلَيْهِم نبأ نوح} مَعْنَاهُ: واتل عَلَيْهِم خبر نوح {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قوم إِن كَانَ كبر عَلَيْكُم مقَامي وتذكيري} مَعْنَاهُ: إِن كَانَ ثقل عَلَيْكُم مقَامي أَي: طول مكثي فِيكُم وتذكيري {بآيَات الله} وتحذيري إيَّاكُمْ بآيَات الله {فعلى الله توكلت} قَالُوا هَذَا اعْتِرَاض فِي الْكَلَام وَفِي الْمَعْنى. قَوْله: {فَأَجْمعُوا أَمركُم} هُوَ مُتَّصِل بِمَا سبق كَأَنَّهُ قَالَ: إِن كَانَ كبر عَلَيْكُم مقَامي وتذكيري بآيَات الله فَأَجْمعُوا أَمركُم. وَفِي الشاذ: " فاجمعوا أَمركُم " قَرَأَهُ عَاصِم الجحدري.
قَوْله: {فاجمعوا} قَالَ الْفراء: فاعزموا على أَمركُم وَادعوا {شركاءكم} وَقَالَ الزّجاج: فاجمعوا أَمركُم مَعَ شركائكم، إِلَّا أَنه لما ترك كلمة " مَعَ " فانتصب، قَالَ الشَّاعِر:
(يَا لَيْت شعري والمنى لَا تَنْفَع ... حَتَّى أرى أَمْرِي وأمري مجمع)
أَي: معزم عَلَيْهِ. وَقَوله: {ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة} أَي: ملتبسا، وَمِنْه الْغَمَام، وَالْغَم. وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ اقضوا إِلَيّ} قرىء فِي الشاذ: " ثمَّ أفضوا إِلَيّ " بِالْفَاءِ، وَالْمَعْرُوف بِالْقَافِ. قَالَ مُجَاهِد مَعْنَاهُ: ثمَّ اعلموا مَا فِي أَنفسكُم. وَقيل مَعْنَاهُ: توجهوا إليَّ بِالْقَتْلِ وَالْمَكْرُوه، وَهَذَا على طَرِيق التَّعْجِيز، فَإِنَّهُ قَالَ هَذِه الْمقَالة وعجزوا عَن إِيصَال مَكْرُوه إِلَيْهِ، فَهَذَا كَانَ (نوع) معْجزَة لَهُ، وَمِنْهُم من قَالَ: قَوْله: {اقضوا إليَّ} أَي: ثمَّ اقضوا مَا أَنْتُم قاضون، وَاعْمَلُوا مَا أَنْتُم عاملون، وَهَذَا مثل قَول السَّحَرَة: {فَاقْض مَا أَنْت قَاض} ، مَعْنَاهُ: فاعمل مَا أَنْت عَامل. وَحَقِيقَة(2/396)
( {71) فَإِن توليتم فَمَا سألتكم من أجر إِن أجري إِلَّا على الله وَأمرت أَن أكون من الْمُسلمين (72) فَكَذبُوهُ فنجيناه وَمن مَعَه فِي الْفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُنْذرين (73) ثمَّ بعثنَا من بعده رسلًا إِلَى قَومهمْ فجاءوهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا بِهِ من قبل كَذَلِك نطبع على قُلُوب} الْقَضَاء: هُوَ إحكام الْأَمر والفراغ عَنهُ، وَمِنْه يُقَال للرجل إِذا مَاتَ: قد قضى فلَان، أَي: فرغ من أمره.
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْظرُون} أَي: لَا تمهلون.(2/397)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِن توليتم فَمَا سألتكم من أجر} مَعْنَاهُ: فَإِن أعرضتم فَمَا سألتكم من ثَوَاب على تَبْلِيغ الرسَالَة. قَوْله: {إِن أجري إِلَّا على الله} أَي: إِن ثوابي إِلَّا على الله {وَأمرت أَن أكون من الْمُسلمين} أَي: من الْمُوَحِّدين. وَمِنْهُم من قَالَ: معنى قَوْله: {من الْمُسلمين} أَي: من المستسلمين لأمر الله.(2/397)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
قَوْله تَعَالَى: {فَكَذبُوهُ فنجيناه وَمن مَعَه فِي الْفلك} قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ مَعَه فِي الْفلك ثَمَانُون رجلا، وَكَانَ أول من حمله: الذّرة، وَآخر من حمله: الْحمار، وَتعلق الشَّيْطَان بذنب الْحمار، وَجعل يَقُول: نوح للحمار، ادخل فَلَا يدْخل حَتَّى قَالَ: ادخل يَا شَيْطَان فَدخل وإبليس مَعَه.
وَقَوله تَعَالَى: {وجعلناهم خلائف} أَي: وَجَعَلنَا الَّذين مَعَه فِي الْفلك خلفاء الْقَوْم الَّذين أغرقناهم فِي دُورهمْ ومساكنهم ومنازلهم. وَقَوله تَعَالَى: {وأغرقنا الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُنْذرين} الْغَرق: هَلَاك بِالْمَاءِ والغامر. وَيُقَال: إِن مُدَّة الإغراق كَانَت أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكَانَ من وَقت إرْسَال المَاء من السَّمَاء إِلَى أَن (نضب) المَاء سِتَّة أشهر وعدة أَيَّام.(2/397)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ بعثنَا من بعده رسلًا إِلَى قَومهمْ فجاءوهم بِالْبَيِّنَاتِ} يَعْنِي: من بعد نوح رسلًا إِلَى قَومهمْ {فَجَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات الواضحات {فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا بِهِ من قبل} أَي: فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذب بِهِ قوم نوح من(2/397)
{الْمُعْتَدِينَ (74) ثمَّ بعثنَا من بعدهمْ مُوسَى وَهَارُون إِلَى فِرْعَوْن وملئه بِآيَاتِنَا فاستكبروا وَكَانُوا قوما مجرمين (75) فَلَمَّا جَاءَهُم الْحق من عندنَا قَالُوا إِن هَذَا لسحر مُبين (76) قَالَ مُوسَى أتقولون للحق لما جَاءَكُم أَسحر هَذَا وَلَا يفلح الساحرون (77) قَالُوا أجئتنا لتلفتنا عَمَّا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكون لَكمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْض وَمَا نَحن لَكمَا بمؤمنين (78) وَقَالَ فِرْعَوْن ائْتُونِي بِكُل سَاحر عليم (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَة قَالَ لَهُم مُوسَى ألقوا مَا أَنْتُم ملقون (80) فَلَمَّا ألقوا قَالَ مُوسَى مَا جئْتُمْ بِهِ السحر إِن الله سيبطله إِن} قبل {كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْمُعْتَدِينَ} يَعْنِي: يخْتم على قُلُوب الْمُعْتَدِينَ.(2/398)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ بعثنَا من بعدهمْ مُوسَى وَهَارُون إِلَى فِرْعَوْن وملئه بِآيَاتِنَا فاستكبروا وَكَانُوا قوما مجرمين} مَعْنَاهُ ظَاهر. وَالْآيَة الَّتِي تَلِيهَا كَذَا مَعْلُوم الْمَعْنى.(2/398)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أجئتنا لتلفتنا عَمَّا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} مَعْنَاهُ: لتصرفنا. وَقَالَ قَتَادَة: لتلفتنا: لتلوينا، وَقَالَهُ ثَعْلَب من الْمُتَأَخِّرين. وَقَوله: {وَتَكون لَكمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْض} قَالَ مُجَاهِد: الْكِبْرِيَاء: الْملك؛ وَإِنَّمَا سمي الْملك الْكِبْرِيَاء؛ لِأَنَّهُ أكبر مَا يطْلب فِي الدُّنْيَا. وَقيل: معنى الْكِبْرِيَاء: هُوَ العظمة. وَقيل: مَعْنَاهُ: الْغَلَبَة.
قَوْله: {وَمَا نَحن لَكمَا بمؤمنين} أَي: بمصدقين.(2/398)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْن ائْتُونِي بِكُل سَاحر عليم} فِي الْقَصَص: أَنه جمع سبعين ألف سَاحر.(2/398)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
وَقَوله: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَة قَالَ لَهُم مُوسَى ألقوا مَا أَنْتُم ملقون} أَي: اطرحوا مَا أَنْتُم طارحون.(2/398)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
وَقَوله: {فَلَمَّا ألقوا قَالَ مُوسَى مَا جئْتُمْ بِهِ السحر} وَقد بَينا معنى السحر من قبل. {إِن الله سيبطله} أَي: سيذهبه {إِن الله لَا يصلح عمل المفسدين} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَفِي الْقَصَص أَنهم كَانُوا سبعين ألفا، مَعَ كل وَاحِد مِنْهُم حَبل وعصا، فَألْقوا تِلْكَ الحبال والعصي، فَجعلت تخيل فِي أعين النَّاس كَأَنَّهَا ثعابين وحيات.(2/398)
{الله لَا يصلح عمل المفسدين (81) ويحق الله الْحق بكلماته وَلَو كره المجرمون (82) فَمَا آمن لمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّة من قومه على خوف من فِرْعَوْن وملئهم أَن يفتنهم وَإِن فِرْعَوْن لعال فِي الأَرْض وَإنَّهُ لمن المسرفين (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قوم إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه فَعَلَيهِ توكلوا إِن كُنْتُم مُسلمين (84) فَقَالُوا على الله توكلنا رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للْقَوْم}(2/399)
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
وَقَوله تَعَالَى: {ويحق الله الْحق بكلماته} مَعْنَاهُ: يعلي الله الْحق بآياته {وَلَو كره المجرمون} .(2/399)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
قَوْله تَعَالَى: {فَمَا آمن لمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّة من قومه} مَعْنَاهُ: فَمَا آمن لمُوسَى إِلَّا قَلِيل فِي قومه، وَاخْتلفُوا فِي الذُّرِّيَّة هَاهُنَا، قَالَ بَعضهم: إِنَّهُم قوم كَانَت آباؤهم فِي القبط وأمهاتهم من بني إِسْرَائِيل. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّهُم قوم نَجوا من قتل فِرْعَوْن، فَإِن فِرْعَوْن لما أَمر بقتل أَبنَاء بني إِسْرَائِيل كَانَت الْمَرْأَة من بني إِسْرَائِيل إِذا ولد لَهَا ابْن سلمته إِلَى امْرَأَة قبطية، وَتقول: وهبته لَك خوفًا عَلَيْهِ من الْقَتْل، فَنَشَأَ أُولَئِكَ الْأَوْلَاد عِنْد القبط، وَأَسْلمُوا فِي ذَلِك الْيَوْم، يَعْنِي: يَوْم السَّحَرَة الَّذين غلبوا. وَقَوله: {على خوف من فِرْعَوْن وملئهم أَن يفتنهم} قَالَ بعض أهل الْمعَانِي: فِي الْآيَة حذف؛ كَأَنَّهُ قَالَ: على خوف من آل فِرْعَوْن وملئهم، وَهَذَا مثل (قَوْله) : {واسأل الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة.
وَمِنْهُم من قَالَ: لما ذكر فِرْعَوْن دخل قومه مَعَه كَالرّجلِ يَقُول: قدم الْخَلِيفَة أَو الْأَمِير بِكَذَا وَكَذَا، فضاقت الْمنَازل على النَّاس، مَعْنَاهُ: قدم الْخَلِيفَة وَمن مَعَه.
ثمَّ قَالَ: {أَن يفتنهم} مَعْنَاهُ: أَن يعذبهم. وَقَوله: {وَإِن فِرْعَوْن لعال فِي الأَرْض} أَي: لطاغ فِي الأَرْض {وَإنَّهُ لمن المسرفين} مَعْلُوم.(2/399)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قوم إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه فَعَلَيهِ توكلوا إِن كُنْتُم مُسلمين} التَّوَكُّل: هُوَ الثِّقَة بِاللَّه والاعتماد عَلَيْهِ فِي الْأُمُور. وَقَوله: {إِن كُنْتُم(2/399)
{الظَّالِمين (85) ونجنا بِرَحْمَتك من الْقَوْم الْكَافرين (86) وأوحينا إِلَى مُوسَى وأخيه أَن تبوءا لقومكما بِمصْر بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قبْلَة وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَبشر الْمُؤمنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبنَا إِنَّك آتيت فِرْعَوْن وملأه زِينَة وأموالا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا رَبنَا ليضلوا عَن} مُسلمين) أَي: إِذا كُنْتُم مُسلمين.(2/400)
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
قَوْله تَعَالَى: {فَقَالُوا على الله توكلنا} أَي: على الله اعتمدنا. وَقَوله: {رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للْقَوْم الظَّالِمين} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: لَا تُهْلِكنَا بأيدي الظَّالِمين فيفتتنوا أَو يَظُنُّوا أَنا لم نَكُنْ على الْحق، قَالَه أَبُو مجلز.
وَالثَّانِي: لَا تعذبنا بِعَذَاب من عنْدك فيظنوا أَنهم خير منا، فَيصير ذَلِك فتْنَة لَهُم(2/400)
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
وَقَوله تَعَالَى: {ونجنا بِرَحْمَتك من الْقَوْم الْكَافرين} ظَاهر الْمَعْنى.(2/400)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
قَوْله تَعَالَى: {وأوحينا إِلَى مُوسَى وأخيه أَن تبوءا} معنى قَوْله: {تبوءا} اتخذا.
قَالَ الشَّاعِر:
(نَحن بَنو عدنان لَيْسَ شكّ ... تبوأ الْمجد بِنَا وَالْملك)
وَقَوله {لقومكما بِمصْر بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قبْلَة وَأقِيمُوا الصَّلَاة} ذكر أهل التَّفْسِير أَن فِرْعَوْن أَمر بتخريب كنائس بني إِسْرَائِيل وبيعهم لما جَاءَ مُوسَى وَدعَاهُ إِلَى الله، فَأَمرهمْ الله تَعَالَى أَن يأمرا بني إِسْرَائِيل أَن يتخذوا فِي بُيُوتهم الْمَسَاجِد، فَهَذَا معنى قَوْله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قبْلَة} يَعْنِي: مَسْجِدا.
وَحكي عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ أَمرهم الله تَعَالَى أَن يتوجهوا إِلَى الْكَعْبَة. وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّهُم خَافُوا من إِظْهَار الصَّلَاة، فَأَمرهمْ الله تَعَالَى أَن يقيموا الصَّلَاة فِي الْبيُوت. وَقَوله تَعَالَى: {وَبشر الْمُؤمنِينَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/400)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى رَبنَا إِنَّك آتيت فِرْعَوْن وملأه} الْآيَة. قَوْله: {زِينَة(2/400)
{سَبِيلك رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم (88) قَالَ قد أجيبت دعوتكما فاستقيما وَلَا تتبعان سَبِيل الَّذين لَا يعلمُونَ (89) } وأموالا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا) قيل فِي التَّفْسِير: إِنَّه كَانَ من فسطاط مصر إِلَى الْعَريش إِلَى قريب من الْحَبَشَة معادن الذَّهَب وَالْفِضَّة والياقوت والزبرجد، فَهَذَا معنى قَوْله: {زِينَة وأموالا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا رَبنَا ليضلوا عَن سَبِيلك} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذِه " اللَّام " لَام الصيرورة، وَيُقَال: هِيَ لَام الْعَاقِبَة، وَهَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(وللموت مَا تَلد الوالدة ... )
فَلَمَّا كَانَت عَاقِبَة أَمرهم الضلال وَالْكفْر قَالَ: ليضلوا عَن سَبِيلك {رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم} الطمس: تَغْيِير صُورَة الشَّيْء، وَقيل: هُوَ الإنمحاء، ودروس الْأَثر. قَالَ قَتَادَة: صَارَت أَمْوَالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حِجَارَة كلهَا. وَفِي بعض الرِّوَايَات: إِن عبيدهم وإماءهم صَارُوا حِجَارَة.
وَقَوله: {وَاشْدُدْ على قُلُوبهم} قَالَ مُجَاهِد: بالضلالة. وَقَالَ السّديّ: أمتهم على الْكفْر.
وَقَوله: {فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} قيل: هَذَا بِمَعْنى الدُّعَاء (كَأَنَّهُ) قَالَ: فَلَا آمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم. وَقيل: مَعْنَاهُ معنى الْخَبَر.(2/401)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ قد أجيبت دعوتكما} فِي الْقَصَص: أَنه كَانَ بَين دُعَاء مُوسَى وإجابته أَرْبَعُونَ سنة، وَكَذَلِكَ كَانَ بَين دُعَاء يَعْقُوب وإجابته أَرْبَعُونَ سنة. فَإِن قَالَ قَائِل: إِن الدَّاعِي كَانَ مُوسَى، وَقَالَ: {قد أجيبت دعوتكما} .
الْجَواب الْمَرْوِيّ: أَن مُوسَى كَانَ يَدْعُو وَهَارُون يُؤمن، والتأمين: دُعَاء؛ فَإِن معنى التَّأْمِين: اللَّهُمَّ استجب.
قَوْله: {فاستقيما} يَعْنِي: على الطَّاعَة وَالدّين. وَقَوله: {وَلَا تتبعان سَبِيل الَّذين لَا يعلمُونَ} مَعْلُوم الْمَعْنى.(2/401)
{وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر فأتبعهم فِرْعَوْن وَجُنُوده بغيا وعدوا حَتَّى إِذا أدْركهُ الْغَرق قَالَ آمَنت أَنه لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيل وَأَنا من الْمُسلمين (90) آلآن وَقد}(2/402)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
قَوْله تَعَالَى: {وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر} الْآيَة، مَعْنَاهُ: عبرنا ببني ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر. وَقَوله: {فأتبعهم فِرْعَوْن وَجُنُوده} قَالَ الْأَصْمَعِي: يُقَال: اتبعهُ إِذا سَار فِي أَثَره، وَأتبعهُ إِذا أدْركهُ ولحقه. وَقَوله: {بغيا وعدوا} ظلما واعتداء، قرىء: " عدوا " و " عدوا " وَالْمعْنَى وَاحِد.
وَقَوله: {حَتَّى إِذا أدْركهُ الْغَرق} يَعْنِي: حَتَّى إِذا غمره المَاء وَقرب هَلَاكه {قَالَ آمَنت أَنه لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بن بَنو إِسْرَائِيل} وَمَعْنَاهُ: آمَنت بالإله الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيل {وَأَنا من الْمُسلمين} .(2/402)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
وَقَوله: {آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين} فِي الْقَصَص " أَن جِبْرِيل كَانَ وَاقِفًا حِين قَالَ هَذَا القَوْل، فَقَالَ لَهُ: آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين، وَقَالَ لَهُ هَذَا القَوْل بِأَمْر الله تَعَالَى، آلآن وَقد عصيت.
وروى يُوسُف بن مهْرَان، عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي " أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: يَا مُحَمَّد، لَو رَأَيْتنِي وَأَنا آخذ من حَال الْبَحْر، وأدسه فِي فَم فِرْعَوْن خشيَة أَن تُدْرِكهُ الرَّحْمَة ". وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: " أَن جِبْرِيل قَالَ: يَا مُحَمَّد، مَا أبغضت أحدا من خلق الله مثل مَا أبغضت فِرْعَوْن لما قَالَ لِقَوْمِهِ: مَا علمت لكم من، إِلَه غَيْرِي، فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ حِين غرق فَجعلت أدس الطين فِي فَمه لِئَلَّا يَقُول(2/402)
{عصيت قبل وَكنت من المفسدين (91) فاليوم تنجيك ببدنك لتَكون لمن خلقك آيَة وَإِن كثيرا من النَّاس عَن آيَاتنَا لغافلون (92) وَلَقَد بوأنا بني إِسْرَائِيل مبوأ صدق} لَا إِلَه إِلَّا الله ". وَفِي رِوَايَة: " لِئَلَّا يثنى مَخَافَة أَن يغْفر الله لَهُ ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: والْحَدِيث صَحِيح فِي الْجُمْلَة.(2/403)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
وَقَوله تَعَالَى: {فاليوم ننجيك ببدنك} فِي الْبر، قرىء: " ننحيك ببدنك " بِالْحَاء [من التنحية] ، وَالْمَعْرُوف بِالْجِيم أَي: نلقيك على نجوة من الأَرْض. والنجوة: الْمَكَان الْمُرْتَفع. فِي الْقَصَص: أَن فِرْعَوْن لما غرق قَالَت بَنو إِسْرَائِيل: هُوَ أجل من أَن يغرق، فَلم يصدقُوا مُوسَى أَنه قد غرق، فَأمر الله تَعَالَى المَاء حَتَّى أَلْقَاهُ على وَجهه؛ وَهَذَا معنى قَوْله: {ننجيك ببدنك} وَقَوله: {ببدنك} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: بدرعك، وَكَانَ لَهُ درع مَشْهُور من اللُّؤْلُؤ مرصع من الْجَوَاهِر، فرأوه فِي درعه فصدقوا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: ببدنك يَعْنِي: بجسد لَا روح فِيهِ.
قَوْله: {لتَكون لمن خَلفك آيَة} أَي: عِبْرَة. وَقَوله: {وَإِن كثيرا من النَّاس عَن آيَاتنَا لغافلون} ظَاهر الْمَعْنى.(2/403)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
وَقَوله تَعَالَى {وَلَقَد بوأنا بني إِسْرَائِيل مبوأ صدق} أَي: أنزلنَا بني إِسْرَائِيل مبوأ صدق أَي: أنزلنَا بني إِسْرَائِيل منَازِل صدق. وَقيل: إِن تِلْكَ الْمنَازل هِيَ مصر. وَقيل: إِنَّهَا الشَّام. وَقَوله: {مبوأ صدق} يَعْنِي: بصدقهم وَإِيمَانهمْ. وَقَوله: {ورزقناهم من الطَّيِّبَات} مَعْلُوم. وَقَوله: {فَمَا اخْتلفُوا حَتَّى جَاءَهُم الْعلم} يَعْنِي: التَّوْرَاة، فَإِنَّهُم اخْتلفُوا بعد نزُول التَّوْرَاة وَذَهَاب مُوسَى اخْتِلَافا شَدِيدا. ثمَّ قَالَ: {إِن رَبك يقْضِي بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/403)
{ورزقناهم من الطَّيِّبَات فَمَا اخْتلفُوا حَتَّى جَاءَهُم الْعلم إِن رَبك يقْضِي بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِن كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك فاسئل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك لقد جَاءَك الْحق من رَبك فَلَا تكونن من الممترين (94) وَلَا تكونن}(2/404)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِن كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك} فِي الْآيَة سُؤال مَعْرُوف، وَهُوَ: أَنه قَالَ: {فَإِن كنت فِي شكّ} كَيفَ يجوز أَن يكون الرَّسُول فِي الشَّك حَتَّى يَقُول لَهُ: فَإِن كنت فِي شكّ؟ .
الْجَواب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن الْخطاب مَعَه وَالْمرَاد مِنْهُ قومه، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} وأمثالها كَثِيرَة.
وَقَالَ بَعضهم: تَقْدِيره: فَإِن كنت فِي شكّ أَيهَا الشاك فأسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة: مَا كنت فِي شكّ.
وَقَوله: {فاسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك} زِيَادَة تثبيت؛ وَالَّذين يقرءُون الْكتاب: هم الَّذين أَسْلمُوا من الْيَهُود، مثل عبد الله بن سَلام، وَابْن يَامِين وَغَيرهمَا.
وَالْوَجْه الثَّالِث: هَذَا على عَادَة كَلَام الْعَرَبِيّ، فَإِن الرجل يَقُول لِابْنِهِ: افْعَل كَذَا إِن كنت ابْني، وَلَا يكون هَذَا على الشَّك، وَكَذَا يَقُول لغلامه: أَطْعمنِي إِن كنت عَبدِي، وَلَا يكون على الشَّك. ٍ
وَقَوله: {فاسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك} فَقَالَ: مرهم {فاسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك لقد جَاءَك الْحق من رَبك فَلَا تكونن من الممترين} من الشاكين، وَمَعْنَاهُ: دم على الْيَقِين الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ.
الْوَجْه الأول اخْتِيَار الزّجاج وَغَيره من أهل الْمعَانِي.(2/404)
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تكونن من الَّذين كذبُوا بآيَات الله} إِلَى آخر الْآيَة ظَاهر(2/404)
{من الَّذين كذبُوا بآيَات الله فَتكون من الخاسرين (95) إِن الَّذين حقت عَلَيْهِم كلمت رَبك لَا يُؤمنُونَ (96) وَلَو جَاءَتْهُم كل آيَة حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم (97) فلولا كَانَت قَرْيَة آمَنت فنفعها إيمَانهَا إِلَّا قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة} الْمَعْنى.(2/405)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين حقت عَلَيْهِم كلمة رَبك} مَعْنَاهُ: وَجب عَلَيْهِم عَذَاب رَبك.
وَيُقَال: معنى الْكَلِمَة: هُوَ قَوْله تَعَالَى: " هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاء فِي النَّار وَلَا أُبَالِي " كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَار.
وَقَوله: {لَا يُؤمنُونَ وَلَو جَاءَتْهُم كل آيَة حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} يَعْنِي: الْإِيمَان عَن الْبَأْس.(2/405)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
قَوْله تَعَالَى: {فلولا كَانَت قَرْيَة آمَنت فنفعها إيمَانهَا إِلَّا قوم يُونُس} مَعْنَاهُ: فَلم تكن قَرْيَة آمَنت - أَي أهل قَرْيَة آمَنت - فنفعهم إِيمَانهم إِلَّا قوم يُونُس، وَهَذَا الْإِيمَان هُوَ عِنْد نزُول الْعَذَاب. وَالْمَنْقُول فِي الْقَصَص: أَن يُونُس - صلوَات الله عَلَيْهِ - أنذر قومه بِالْعَذَابِ وَخرج من بَينهم، فَلَمَّا رَأَوْا الْعَذَاب شبه النيرَان فِي السَّمَاء خَرجُوا من بلدهم إِلَى الصَّحرَاء، وَفرقُوا بَين الْأَوْلَاد والأمهات والبهائم والأجنة، وضجوا إِلَى الله تَعَالَى ضجة وَاحِدَة، فكشف الله عَنْهُم الْعَذَاب بعد أَن رَأَوْهُ عيَانًا، وَلم يفعل هَذَا بِأحد غَيرهم، فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ومتعناهم إِلَى حِين} أَي: إِلَى أجل مَعْلُوم.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الدُّعَاء الَّذِي دَعَا بِهِ قوم يُونُس هُوَ: يَا حَيّ حِين لَا حَيّ، يَا حَيّ يَا محيي الْمَوْتَى، يَا حَيّ لَا إِلَه إِلَّا أَنْت.(2/405)
{الدُّنْيَا ومتعناهم إِلَى حِين (98) وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا أفأنت تكره النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤمنين (99) وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله وَيجْعَل}
وَاخْتلف القَوْل فِي أَنهم هَل رَأَوْا الْعَذَاب عيَانًا أَو رَأَوْا دَلِيل الْعَذَاب؟ فالأكثرون على أَنهم رَأَوْا الْعَذَاب عيَانًا. قَالَ قَتَادَة: تدنى عَلَيْهِم الْعَذَاب حَتَّى صَار بَينهم وَبَين الْعَذَاب قدر ميل. وَقَالَ بَعضهم: رَأَوْا دَلِيل الْعَذَاب، وَلم يرَوا عين الْعَذَاب.
وَالْقَوْل الأول أصح؛ بِدَلِيل قَوْله: {كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} والكشف إِنَّمَا يكون بعد وُقُوع الْعَذَاب أَو قرب الْعَذَاب. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قبل إِيمَانهم عِنْد المعاينة، وَلم يقبل إِيمَان غَيرهم، وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ} دلّ أَن الْإِيمَان المقبول هُوَ الْإِيمَان بِالْغَيْبِ؟
الْجَواب: أَن قوم يُونُس استثنوا من هَذَا الأَصْل بِنَصّ الْقُرْآن، وَالله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء وَلَا سُؤال عَلَيْهِ فِيمَا يفعل. وَزعم الْخَلِيل وسيبويه: أَن الِاسْتِثْنَاء هَاهُنَا مُنْقَطع، وَمعنى الْآيَة: لَكِن قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا.
وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: الحذر لَا يرد الْقدر، وَالدُّعَاء يرد الْقدر؛ فَإِن الله تَعَالَى كشف الْعَذَاب عَن قوم يُونُس بِالدُّعَاءِ. وَعَن عَليّ - أَيْضا - أَنه قَالَ: كَانَ كشف الْعَذَاب يَوْم عَاشُورَاء.
وَقيل فِي تَقْدِير ابْتِدَاء الْآيَة: " فَهَلا " كَانَت قَرْيَة آمَنت حِين ينفعها إيمَانهَا؛ لَكِن قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم الْعَذَاب، وَمعنى قَرْيَة: أهل قَرْيَة. وَقيل: اسْم تِلْكَ الْقرْيَة كَانَ نِينَوَى، من بِلَاد الجزيرة.(2/406)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا} فِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى أخبر أَنه لم يَشَأْ إِيمَان جَمِيع النَّاس، وَعِنْدهم أَنه شَاءَ إِيمَان جَمِيع النَّاس. وَقَوله: {أفأنت تكره النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤمنين} هَذَا تَسْلِيَة للنَّبِي(2/406)
{الرجس على الَّذين لَا يعْقلُونَ (100) قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا تغني الْآيَات وَالنّذر عَن قوم لَا يُؤمنُونَ (101) فَهَل ينتظرون إِلَّا مثل أَيَّام الَّذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين (102) ثمَّ ننجي رسلنَا وَالَّذين آمنُوا كَذَلِك حَقًا} أَنى لَو أردْت لأكرهتهم على الْإِيمَان، وَلم أرد، فَلَا ترد أَنْت - أَيْضا - أَن تكرههم على الْإِيمَان.(2/407)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله} قَالَ عَطاء: إِلَّا بِتَوْفِيق الله. وَقَالَ غَيره: إِلَّا بِعلم الله. وَقيل: إِلَّا بِإِطْلَاق الله ذَلِك بِدفع الْمَوَانِع، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تَمُوت إِلَّا بِإِذن الله} مِنْهُم من قَالَ: " بِإِذن الله " أَي: بِقَضَائِهِ وَتَقْدِيره وَحكمه، والمعاني كلهَا صَحِيحَة. وَقَوله تَعَالَى: {وَيجْعَل الرجس على الَّذين لَا يعْقلُونَ} قَالَ الْفراء: الرجس بِمَعْنى الرجز، وَالرجز هُوَ الْعَذَاب. وَقَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - إِن الرجس هُوَ السخط. وَقيل: إِنَّه الْإِثْم. وَقيل: إِنَّه الْهَلَاك. وَأما قَوْله: {على الَّذين لَا يعْقلُونَ} مَعْنَاهُ: لَا يُؤمنُونَ. وَقيل: معنى قَوْله: {لَا يعْقلُونَ} أَي: لَا يعْقلُونَ عَن الله أمره وَنَهْيه.(2/407)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
قَوْله: {قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} مَعْنَاهُ: قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض من الدَّلَائِل والعبر والحجج. وَقَوله: {وَمَا تغني الْآيَات وَالنّذر عَن قوم لَا يُؤمنُونَ} هَذَا فِي قوم بأعيانهم علم الله تَعَالَى أَنهم لَا يُؤمنُونَ وَإِن نظرُوا فِي الْآيَات.(2/407)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
قَوْله تَعَالَى: {فَهَل ينتظرون إِلَّا مثل أَيَّام الَّذين خلوا من قبلهم} الِانْتِظَار هُوَ الثَّبَات لتوقع أَمر. وَقَوله: {إِلَّا مثل أَيَّام الَّذين خلوا من قبلهم} يَعْنِي: مثل أَيَّام الْهَلَاك فِي الَّذين خلوا من قبلهم من الْأُمَم المكذبة. قَوْله: {قل فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين} ظَاهر الْمَعْنى.(2/407)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ ننجي رسلنَا وَالَّذين آمنُوا} قَوْله: " ننجي " مُسْتَقْبل بِمَعْنى(2/407)
{علينا ننج الْمُؤمنِينَ (103) قل يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي شكّ من ديني فَلَا أعبد الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله وَلَكِن أعبد الله الَّذِي يتوفاكم وَأمرت أَن أكون من الْمُؤمنِينَ (104) وَأَن أقِم وَجهك للدّين حَنِيفا وَلَا تكونن من الْمُشْركين (105) وَلَا تدع من دون} الْمَاضِي، وَمَعْنَاهُ: أنجينا رسلنَا وَالَّذين آمنُوا. قَوْله {كَذَلِك حَقًا علينا ننجي الْمُؤمنِينَ} يَعْنِي: مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه.(2/408)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي شكّ من ديني} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: إِن كُنْتُم فِي شكّ من ديني، وهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ بطلَان مَا جَاءَ بِهِ على بَصِيرَة؟
الْجَواب: أَنه قد كَانَ فيهم قوم شاكوك، فَالْمُرَاد من الْآيَة أُولَئِكَ الْقَوْم.
وَالثَّانِي: أَنهم لما رَأَوْا الْآيَات اضْطَرَبُوا وَشَكوا فِي أَمرهم وَأمر النَّبِي.
قَوْله: {فَلَا أعبد الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله وَلَكِن أعبد الله الَّذِي يتوفاكم} ظَاهر الْمَعْنى. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: {إِن كُنْتُم فِي شكّ من ديني فَلَا أعبد الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله} وَهُوَ لَا يعبد الَّذين من دون الله شكوا أَو لم يشكوا؟ وَمَا معنى قَوْله: {وَلَكِن أعبد الله الَّذِي يتوفاكم} ولأي شَيْء خص الْوَفَاة بِالذكر؟
الْجَواب: أما الأول مَعْنَاهُ: إِن كُنْتُم فِي شكّ فلست فِي شكّ، وَلَا أعبد إِلَّا الله على يَقِين وبصيرة. وَأما ذكر الْوَفَاة فِي قَوْله: " يتوفاكم " بِمَعْنى التهديد، فَإِن الْعَذَاب يَقع على الْكَافِر حَتَّى تُدْرِكهُ الْوَفَاة.
{وَأمرت أَن أكون من الْمُؤمنِينَ} أَي: من المخلصين.(2/408)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَن أقِم وَجهك للدّين حَنِيفا} مَعْنَاهُ: وَأمرت أَن أستقيم لله على الدّين مخلصا. وَيُقَال مَعْنَاهُ: واستقم على الدّين الَّذِي أمرت بِهِ بِوَجْهِك. قَوْله تَعَالَى: {حَنِيفا} قد بَينا من قبل، وَيُقَال: إِن الْآيَة فِي التَّوَجُّه إِلَى الْقبْلَة، وَهِي الْكَعْبَة؛ وَهِي فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام} . وَقَوله: {وَلَا تكونن من الْمُشْركين} ظَاهر الْمَعْنى.(2/408)
{الله مَا لَا ينفعك وَلَا يَضرك فَإِن فعلت فَإنَّك إِذا من الظَّالِمين (106) وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يردك بِخَير فَلَا راد لفضله يُصِيب بِهِ من يَشَاء من عباده وَهُوَ الغفور الرَّحِيم (107) قل يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم الْحق من ربكُم فَمن اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا وَمَا أَنا عَلَيْكُم بوكيل (108) وَاتبع مَا يُوحى}(2/409)
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تدع من دون الله مَا لَا ينفعك وَلَا يَضرك} الدُّعَاء يكون بمعنيين: أَحدهمَا: بِمَعْنى النداء، كَقَوْلِك: يَا زيد، وَيَا عَمْرو، وَالْآخر: بِمَعْنى الطّلب.
وَقَوله: {مَا لَا ينفعك وَلَا يَضرك} مَعْنَاهُ: لَا ينفعك إِن دَعوته، وَلَا يَضرك إِن تركت دعاءه. وَقَوله: {فَإِن فعلت فَإنَّك إِذا من الظَّالِمين} يَعْنِي: مِمَّن وضع الدُّعَاء فِي غير مَوْضِعه.(2/409)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ} مَعْنَاهُ: إِن يصبك الله بضر، والضر: هُوَ الْخَوْف وَالْمَرَض والجوع وَنَحْوه.
وَقَوله: {فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ} أَي: لَا كاشف لذَلِك الضّر إِلَّا الله.
وَقَوله: {وَإِن يَرك بِخَير} أَي: يصبك بِخَير، وَالْخَيْر: هُوَ الخصب وَالسعَة والعافية وَنَحْوه.
وَقَوله: {فَلَا راد لفضله} أَي: لَا مَانع لفضله.
قَوْله: {يُصِيب بِهِ من يَشَاء من عباده وَهُوَ الغفور الرَّحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.(2/409)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم الْحق من ربكُم} الْحق هَاهُنَا: هُوَ مَا ينجو بِهِ الْإِنْسَان، وضده: الْبَاطِل، وَهُوَ الَّذِي يهْلك بِهِ الْإِنْسَان. وَقيل: مَعْنَاهُ: الْإِسْلَام. وَقيل: مَعْنَاهُ: الْقُرْآن. وَقَوله: {فَمن اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ} " يَعْنِي ": يحْتَاط لنَفسِهِ. {وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا} يَعْنِي: من كفر وَترك الْإِيمَان؛ فَإِنَّمَا وباله وضلاله عَلَيْهِ.
قَوْله: {وَمَا أَنا عَلَيْكُم بوكيل} أَي: بمسلط، وَمَعْنَاهُ: أَنكُمْ تسْأَلُون عَن(2/409)
{إِلَيْك واصبر حَتَّى يحكم الله وَهُوَ خير الْحَاكِمين (109) } أَعمالكُم وَلَا أسأَل أَنا عَن أَعمالكُم، كَمَا يسْأَل من وكل بالشَّيْء.(2/410)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
قَوْله تَعَالَى: {وَاتبع مَا يوحي إِلَيْك} الْوَحْي: إِلْقَاء الشَّيْء فِي قلب الْإِنْسَان على الْخفية. وَقَوله: {واصبر} الصَّبْر: تجرع المرارة بالامتناع عَن الشَّيْء المشتهى لتوقع المحبوب فِي الْعَاقِبَة، وَمِمَّا يعين الْإِنْسَان على الصَّبْر علمه بِحَقِيقَة الْأَمر، وَمَا ينَال من الثَّوَاب، والثقة بموعود الله تَعَالَى. وَقَوله {حَتَّى يحكم الله} أَي: حَتَّى يقْضِي الله {وَهُوَ خير الْحَاكِمين} أَي: خير القاضين.(2/410)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{آلر كتاب أحكمت آيَاته ثمَّ فصلت من لدن حَكِيم خَبِير (1) أَلا تعبدوا إِلَّا الله}
تَفْسِير سُورَة هود
سُورَة هود مَكِّيَّة، إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل} إِلَى آخر الْآيَة؛ فَإِنَّهَا مَدَنِيَّة.(2/411)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
قَوْله تَعَالَى: {الر} مَعْنَاهُ: أَنا الله أرى. وَقَوله: {كتاب} أَي: هَذَا كتاب.
وَقَوله: {أحكمت آيَاته} فِيهِ أَقْوَال:
قَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ: أحكمها الله فَلَيْسَ فِيهَا اخْتِلَاف وَلَا تنَاقض.
وَالثَّانِي: أَن معنى قَوْله: (أحكمت آيَاته) يَعْنِي: هِيَ محكمَة غير مَنْسُوخَة.
وَالثَّالِث: {أحكمت أياته} يَعْنِي: بِالْأَمر وَالنَّهْي، والحلال وَالْحرَام.
وَقَوله: {ثمَّ فصلت} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: ثمَّ فصلت بالوعد والوعيد. وَقَالَ مُجَاهِد: فصلت أَي: فسرت وبينت. وَالثَّالِث: ثمَّ فصلت أَي: أنزلهَا الله شَيْئا فَشَيْئًا.
وَقيل: أحكمت آيَاته للمعتبرين، ثمَّ فصلت أَحْكَامه لِلْمُتقين.
وَقيل: أحكمت آيَاته للقلوب، ثمَّ فصلت أَحْكَامه على الْأَبدَان.
وَقُرِئَ فِي الشاذ: " ثمَّ فصلت " وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا جَاءَت.
{من لدن حَكِيم خَبِير} أَي: من عِنْد حَكِيم خَبِير.(2/411)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
قَوْله تَعَالَى: {أَلا تعبدوا إِلَّا الله} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: بِأَن لَا تعبدوا إِلَّا الله.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَمركُم أَن لَا تعبدوا إِلَّا الله.
وَقَوله: {إِنَّنِي لكم مِنْهُ نَذِير وَبشير} مَعْنَاهُ: نَذِير للعاصين، وَبشير للمطيعين.(2/411)
{إِنَّنِي لكم مِنْهُ نَذِير وَبشير (2) وَأَن اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يمتعكم مَتَاعا حسنا}(2/412)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَن اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قَالَ أهل الْمعَانِي: إِنَّمَا قدم الْمَغْفِرَة على التَّوْبَة؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَطْلُوبَة بِالتَّوْبَةِ.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " مَا أصر من اسْتغْفر وَإِن عَاد سبعين مرّة ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " لَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار، وَلَا كَبِيرَة مَعَ الاسْتِغْفَار ".
وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن معنى قَوْله: {وَأَن اسْتَغْفرُوا ربكُم} يَعْنِي: فِي الْمَاضِي {ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} يَعْنِي: فِي المستأنف.
قَوْله: {يمتعكم مَتَاعا حسنا} مَعْنَاهُ: يعيشكم عَيْشًا حسنا. وَقيل: يعمركم عمرا حسنا. وَأما الْعَيْش الْحسن: قَالَ بَعضهم: هُوَ الرِّضَا بالميسور، وَالصَّبْر على (الْمُقدر) . وَقيل: الْعَيْش الْحسن: هُوَ طيب النَّفس وسعة الرزق. وَيُقَال: الْعَيْش الْحسن: هُوَ الْكِفَايَة بالحلال. وَقَوله {إِلَى أجل مُسَمّى} أَي: إِلَى حِين الْمَوْت.
وَقَوله: {وَيُؤْت كل ذِي فضل فَضله} فِيهِ قَولَانِ:(2/412)
{إِلَى أجل مُسَمّى وَيُؤْت كل ذِي فضل فَضله وَإِن توَلّوا فَإِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم كَبِير (3) إِلَى الله مرجعكم وَهُوَ على كل شَيْء قدير (4) أَلا إِنَّهُم يثنون صُدُورهمْ}
أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ يُؤْت كل ذِي عمل حسن فِي الدُّنْيَا ثَوَابه فِي الْآخِرَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {يُؤْت كل ذِي فضل فَضله} يَعْنِي: من عمل لله تَعَالَى وَفقه الله تَعَالَى فِيمَا يسْتَقْبل على طَاعَته ويهديه إِلَيْهَا.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: كل مَا يحْتَسب الْإِنْسَان فِيهِ من قَول أَو عمل هُوَ دَاخل فِيهَا، حَتَّى الْكَلِمَة الْوَاحِدَة يَقُولهَا.
قَوْله: (وَإِن توَلّوا) أَي: فَإِن أَعرضُوا. قَوْله: {فَإِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم كَبِير} أَي: يَوْم الْقِيَامَة.(2/413)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
ثمَّ قَالَ الله تَعَالَى: {إِلَى الله مرجعكم وَهُوَ على كل شَيْء قدير} ظَاهر الْمَعْنى.(2/413)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
قَوْله تَعَالَى {أَلا إِنَّهُم يثنون صُدُورهمْ ليستخفوا مِنْهُ} الْآيَة، قَالَ عبد الله بن شَدَّاد: كَانَ الرجل الْكَافِر يمر بِالنَّبِيِّ فيثني صَدره، ويستغشي بِثَوْبِهِ بغضا للنَّبِي حَتَّى لَا يرَاهُ النَّبِي وَلَا يرى هُوَ النَّبِي. وَعَن بَعضهم: أَن الرجل من الْكفَّار كَانَ يدْخل بَيته ويرخي ستره، ويتغشى بِثَوْبِهِ ويحني ظَهره وَيَقُول: هَل يعلم الله مَا فِي قلبِي؟ وَعَن أبي رزين قَرِيبا من القَوْل الأول، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَمعنى قَوْله: {يثنون صُدُورهمْ} أَي: يعطفون ويطوون، وَمِنْه ثني الثَّوْب، قَالَ الشَّاعِر فِي التغشي:
(أرعى النُّجُوم وَلم أُؤمر برعيتها ... وَتارَة أتغشى فضل أطمار)
وَقَوله: {ليستخفوا مِنْهُ} أَي: ليستخفوا من الله تَعَالَى. وَقيل: ليستخفوا من النَّبِي. وَفِي الشاذ أَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَرَأَ: " أَلا إِنَّهُم يثنوني صُدُورهمْ " على وزن يفعوعل، وكما يُقَال: يحلولي.
{أَلا حِين يستغشون ثِيَابهمْ} يَعْنِي: يتغشون بثيابهم. قَوْله تَعَالَى: {يعلم مَا(2/413)
{ليستخفوا مِنْهُ أَلا حِين يستغشون ثبابهم يعلم مَا يسرون وَمَا يعلنون إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (5) وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها وَيعلم مستقرها ومستودعها كل فِي كتاب مُبين (6) وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام وَكَانَ عَرْشه} يسرون وَمَا يعلنون إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور) قَالَ الْأَزْهَرِي وَغَيره: معنى الْآيَة من أَولهَا إِلَى آخرهَا: إِن الَّذين أضمروا عَدَاوَة النَّبِي لَا يخفى علينا حَالهم. وَفِي بعض التفاسير: أَن رجلا كَانَ يبطن عَدَاوَة النَّبِي وَكَانَ يخْتَلف إِلَيْهِ وَيظْهر الْمحبَّة لَهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهِ هَذِه الْآيَة.(2/414)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} الْآيَة. الدَّابَّة: كل مَا يدب على الأَرْض من الْحَيَوَانَات. وَقَوله: {إِلَّا على الله رزقها} أَي: إِن الله يسبب ويسهل رزقها.
قَالَ أهل الْمعَانِي: هَذَا على الْمَشِيئَة، لِأَنَّهُ قد يرْزق وَقد لَا يرْزق. وَقَوله: {وَيعلم مستقرها ومستودعها} فِي الْآيَة أَقْوَال:
روى مقسم عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: المستقر: هُوَ الْمَكَان الَّذِي يأوي إِلَيْهِ، والمستودع: هُوَ الْمَكَان الَّذِي يدْفن فِيهِ.
وَعَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: المستقر: هُوَ أَرْحَام الْأُمَّهَات، والمستودع: هُوَ الْموضع الَّذِي يدْفن فِيهِ.
وَقَالَ بَعضهم: المستقر: هُوَ الَّذِي يسْتَقرّ عَلَيْهِ عمله، والمستودع: هُوَ الَّذِي يصير إِلَيْهِ أمره فِي الْعَاقِبَة.
وَيُقَال: المستقر: أَرْحَام الْأُمَّهَات، والمستودع: هُوَ أصلاب الْآبَاء. وَهَذَا مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا.
وَقَوله: {كل فِي كتاب مُبين} فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ.(2/414)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام} قد بَينا من قبل.(2/414)
{على المَاء ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا وَلَئِن قلت إِنَّكُم مبعوثون من بعد الْمَوْت ليَقُولن الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين (7) وَلَئِن أخرنا عَنْهُم الْعَذَاب إِلَى أمة مَعْدُودَة ليَقُولن مَا يحسه أَلا يَوْم يَأْتِيهم لَيْسَ مصروفا عَنْهُم وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون}
وَقَوله: {وَكَانَ عَرْشه على المَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ الْعَرْش على المَاء، وَالْمَاء على متن الرّيح، أَي: صلب الرّيح. وروى يزِيد بن هَارُون، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن وَكِيع ابْن حدس، عَن أبي رزين الْعقيلِيّ أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، أَيْن كَانَ رَبنَا قبل أَن يخلق خلقه؟ قَالَ: فِي عماء مَا فَوْقه هَوَاء وَمَا تَحْتَهُ هَوَاء، وَكَانَ عَرْشه على المَاء ". قَالَ يزِيد بن هَارُون: معنى قَوْله: " فِي عماء " أَي: لَيْسَ مَعَه غَيره. أوردهُ ابو عِيسَى فِي كِتَابه على هَذَا الْوَجْه.
قَوْله: {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} مَعْنَاهُ: ليختبركم أَيّكُم أعمل بِطَاعَة الله تَعَالَى، وأسرع إِلَى طلب مرضات الله، وَأَوْرَع عَن محارم الله، وَمَعْنَاهُ: الِابْتِلَاء من الله وَقد بَينا من قبل.
وَقَوله: {وَلَئِن قلت إِنَّكُم مبعوثون من بعد الْمَوْت ليَقُولن الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} أَي: إِلَّا خدع ظَاهر.(2/415)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أخرنا عَنْهُم الْعَذَاب إِلَى أمة مَعْدُودَة} مَعْنَاهُ: إِلَى أجل مَعْدُودَة. قَوْله: {ليَقُولن مَا يحْبسهُ} مَعْنَاهُ: ليَقُولن الَّذين كفرُوا: أَي شَيْء يحْبسهُ؟ يَعْنِي: الْعَذَاب. وَقَوله: {أَلا يَوْم يَأْتِيهم لَيْسَ مصروفا عَنْهُم} مَعْنَاهُ: أَلا يَوْم يَأْتِيهم الْعَذَاب لَا يكون الْعَذَاب مصروفا عَنْهُم.
وَقَوله {وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون} مَعْنَاهُ: وَنزل بهم جَزَاء استهزائهم.(2/415)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة} الرَّحْمَة هَاهُنَا: هِيَ سَعَة الرزق.(2/415)
( {8) وَلَئِن أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة ثمَّ نزعناها مِنْهُ إِنَّه ليئوس كفور (9) وَلَئِن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليَقُولن ذهب السَّيِّئَات عني إِنَّه لفرح فخور (10) إِلَّا الَّذين صَبَرُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير (11) فلعلك تَارِك بعض مَا يُوحى إِلَيْك وضائق بِهِ صدرك أَن يَقُولُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ كنز أَو جَاءَ مَعَه ملك إِنَّمَا أَنْت}
وَقَوله: {ثمَّ نزعناها مِنْهُ} يَعْنِي أخذناها مِنْهُ، قَوْله: {إِنَّه ليئوس كفور} أَي: قنوط من رَحْمَة الله تَعَالَى، كفور بِنِعْمَة الله.(2/416)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليَقُولن ذهب السَّيِّئَات عني} يَعْنِي: يَقُول الْإِنْسَان: ذهب السَّيِّئَات عني باستحقاقي لذَلِك، وَلَا يرَاهُ من الله تَعَالَى.
وَقَوله: {إِنَّه لفرح فخور} الْفَرح: لَذَّة فِي الْقلب بنيل المشتهى، وَالْفَخْر: هُوَ التطاول على النَّاس بتعديد المناقب، وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ فِي الْقُرْآن فِي مواضغ كَثِيرَة.(2/416)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
وَقَوله: {إِلَّا الَّذين صَبَرُوا} قَالَ الْفراء والزجاج: هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ. وَلَكِن الَّذين صَبَرُوا {وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/416)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
قَوْله تَعَالَى: {فلعلك تَارِك بعض مَا يُوحى إِلَيْك وضائق بِهِ صدرك} قَالَ أهل التَّفْسِير: سَبَب نزُول الْآيَة: أَن الْكفَّار لما قَالُوا: يَا مُحَمَّد، أئت بقرآن غير هَذَا أَو بدله، يعنون: ائْتِ بقرآن لَيْسَ فِيهِ سبّ آلِهَتنَا - على مَا ذكرنَا فِي سُورَة يُونُس - همّ النَّبِي أَن يدع سبّ آلِهَتهم ظَاهرا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {فلعلك تَارِك بعض مَا يُوحى إِلَيْك} يَعْنِي: سبّ الْآلهَة ظَاهرا {وضائق بِهِ صدرك} يَعْنِي: ولعلك يضيق صدرك {أَن يَقُولُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ كنز أَو جَاءَ مَعَه ملك} أَي: هلاّ أنزل عَلَيْهِ كنز أوجاء مَعَه ملك. وَقَوله: {إِنَّمَا أَنْت نَذِير} مَعْنَاهُ: إِن عَلَيْك الْإِنْذَار والإبلاغ، وَلَيْسَ عَلَيْك أَن تَأتي بِالْآيَاتِ الَّتِي يقترحونها.
وَقَوله {وَالله على كل شَيْء وَكيل} أَي: حَافظ.(2/416)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ افتراه} مَعْنَاهُ: بل يَقُولُونَ: افتراه، وافتراه: اختلقه {قل(2/416)
{نَذِير وَالله على كل شَيْء وَكيل (12) أم يَقُولُونَ افتراه قل فَأتوا بِعشر سور مثله مفتريات وَادعوا من اسْتَطَعْتُم من دون الله إِن كُنْتُم صَادِقين (13) فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا} فَأتوا بِعشر سور مثله مفتريات) ومعني مثله: أَي: مثله فِي البلاغة.
قَالَ عَليّ بن عِيسَى النَّحْوِيّ: البلاغة على ثَلَاث مَرَاتِب: الْمرتبَة الْعليا: معْجزَة، وَالْوُسْطَى والأدنى ممكنه. وَالْقُرْآن فِي الْمرتبَة الْعليا من البلاغة.
فَإِن قيل: قد قَالَ فِي سُورَة يُونُس: {فَأتوا بِسُورَة مثله} وَقد عجزوا عَن أَن يَأْتُوا بِسُورَة، فَكيف يَصح أَن يَقُول لَهُم {فَأتوا بِعشر سور مثله} ، وَمَا هَذَا إِلَّا كَرجل يَقُول لغيره: أَعْطِنِي درهما، فيعجز عَنهُ فَيَقُول: أَعْطِنِي عشرَة دَرَاهِم، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {مفتريات} وَهل يجوز أَن يَأْمر الله تَعَالَى أَن يَأْتُوا بالافتراء؟
الْجَواب عَنهُ: عَنهُ مِنْهُم من قَالَ: إِن سُورَة هود نزلت أَولا وَإِن كَانَت فِي التَّرْتِيب آخرا، وَأنكر الْمبرد هَذَا، وَقَالَ: لَا، بل نزلت سُورَة يُونُس أَولا. وَأجَاب عَن السُّؤَال وَقَالَ: معنى قَوْله: {فَأتوا بِسُورَة مثله} فِي سُورَة يُونُس يَعْنِي مثله فِي الْخَبَر عَن الْغَيْب وَالْأَحْكَام. والوعد والوعيد، فعجزوا، فَقَالَ لَهُم فِي سُورَة هود: إِن عجزتم عَن الْإِتْيَان بِسُورَة مثل الْقُرْآن فِي أخباره وَأَحْكَامه ووعده ووعيده، فَأتوا بِعشر سور مثله مفتريات يَعْنِي: مختلقات من غير خبر عَن غيب وَلَا حكم وَلَا وعد وَلَا وَعِيد، وَإِنَّمَا هِيَ مُجَرّد البلاغة. وَهَذَا جَوَاب صَحِيح.
وَأما السُّؤَال الثَّانِي فَالْجَوَاب: قُلْنَا: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يَأْمُرهُم بالإفتراء، وَإِنَّمَا تحدى، وَمَعْنَاهُ: أَن إصراركم فِي تَكْذِيب مُحَمَّد وزعمكم أَنه افترى الْقُرْآن يُوجب عَلَيْكُم أَن تَأْتُوا بِمثلِهِ افتراء، ليظْهر كذب مُحَمَّد كَمَا زعمتموه، فَلَمَّا عجزتم دلّ أَنه صَادِق.
وَقَوله: {وَادعوا من اسْتَطَعْتُم من دون الله} مَعْنَاهُ: وَاسْتَعِينُوا بِمن اسْتَطَعْتُم من دون الله {إِن كُنْتُم صَادِقين} .(2/417)
{لكم فاعلموا أَنما أنزل بِعلم الله وَأَن لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَهَل أَنْتُم مُسلمُونَ (14) من كَانَ يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا نوف إِلَيْهِم أَعْمَالهم فِيهَا وهم فِيهَا لَا يبخسون (15) أُولَئِكَ الَّذين لَيْسَ لَهُم فِي الْآخِرَة إِلَّا النَّار وحبط مَا صَنَعُوا فِيهَا وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ (16) أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَة من ربه ويتلوه شَاهد مِنْهُ وَمن قبله كتاب مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَة أُولَئِكَ}(2/418)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لكم فاعلموا أَنما أنزل بِعلم الله} يجوز أَن يكون قَوْله: {فاعلموا} خطاب للْمُؤْمِنين، وَيجوز أَن يكون خطابا للْمُشْرِكين. وَقَوله {بِعلم الله} بِمَعْنى أنزلهُ وَفِيه علمه، وَهَذَا رد على الْمُعْتَزلَة حَيْثُ قَالُوا: لَا علم لله.
وَقَوله: {وَأَن لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَهَل أَنْتُم مُسلمُونَ} يَعْنِي: فاعلموا أَن لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، فَهَل أَنْتُم مُسلمُونَ؟ أَي: مخلصون.(2/418)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا نوف إِلَيْهِم أَعْمَالهم فِيهَا} قَالَ الضَّحَّاك: نزلت الْآيَة فِي الْمُشْركين. وَقَالَ مُجَاهِد وَجَمَاعَة: نزلت الْآيَة فِي كل من عمل عملا وَأَرَادَ بِهِ غير الله. وَقَوله: {نوف إِلَيْهِم أَعْمَالهم فِيهَا} يَعْنِي: نجازيهم على أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بسعة الرزق وَدفع المكاره وَمَا أشبه ذَلِك. وَقَوله: {وهم فِيهَا لَا يبخسون} فِيهَا أَي: فِي الدُّنْيَا، لَا يبخسون يَعْنِي: لَا ينقص حظهم. ثمَّ قَالَ:(2/418)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
{أُولَئِكَ الَّذين لَيْسَ لَهُم فِي الْآخِرَة إِلَّا النَّار وحبط مَا صَنَعُوا فِيهَا} وَبَطل مَا صَنَعُوا فِيهَا. وَقَوله: {وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: وَمَا حق مَا كَانُوا يعْملُونَ.(2/418)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَة من ربه} فِي الْآيَة حذف، وَمَعْنَاهُ: أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَة من ربه كمن يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا. وَعَامة أهل التَّفْسِير على أَن المُرَاد بِهِ النَّبِي، وَقيل: إِن المُرَاد مِنْهُ: النَّبِي وكل مُؤمن فِي الْعَالم. وَالْأول هُوَ الصَّحِيح.
وَقَوله: {على بَيِّنَة من ربه} أَي: على بَيَان من ربه. وَقَوله {ويتلوه شَاهد مِنْهُ} فِيهِ أَقْوَال:
الأول: عَلَيْهِ أَكثر أهل التَّفْسِير: أَن المُرَاد مِنْهُ: جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَهَذَا قَول(2/418)
ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر تلميذ النَّخعِيّ، وَالنَّخَعِيّ، وَغَيرهم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {ويتلوه شَاهد مِنْهُ} يَعْنِي: لِسَان مُحَمَّد. حكى هَذَا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَرَوَاهُ بَعضهم عَن [الْحُسَيْن] بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَالثَّالِث: أَن قَوْله {ويتلوه شَاهد مِنْهُ} هُوَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: مَا من قرشي إِلَّا وَنزلت فِيهِ آيَة من الْقُرْآن، فَقيل لَهُ: وَهل نزل فِيك شَيْء؟ فَقَالَ: {وتيلوه شَاهد مِنْهُ} .
وَالرَّابِع: {ويتلوه شَاهد مِنْهُ} ملك من الْمَلَائِكَة نزل يحفظه ويسدده وَيشْهد لَهُ.
وَقيل: إِن قَوْله: {شَاهد مِنْهُ} هُوَ الْإِنْجِيل، وَمَعْنَاهُ: يتبعهُ مُصدقا لَهُ، يَعْنِي: وَهُوَ مصدقه. وَقَوله: {وَمن قبله كتاب مُوسَى إِمَامًا} أَرَادَ بِهِ: التَّوْرَاة، وَقَوله {إِمَامًا وَرَحْمَة} يَعْنِي: كَانَت إِمَامًا وَرَحْمَة لمن اتبعها، وَهِي مصدقة لِلْقُرْآنِ، شاهدة للنَّبِي. وَقَوله: {أُولَئِكَ يُؤمنُونَ بِهِ} قَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ الَّذين أَسْلمُوا من أهل الْكتاب. وَقَوله: {وَمن يكفر بِهِ} يَعْنِي: بالرسول {من الأخزاب} وهم تحزبوا على النَّبِي أَي: تفَرقُوا من قبائلهم واجتمعوا عَلَيْهِ من قُرَيْش وَغَيرهم. وَفِي بعض التفاسير: أَنهم بَنو أُميَّة وَبَنُو الْمُغيرَة وبنوأبي طَلْحَة بن عبد الْعُزَّى، وَالْمرَاد هُوَ: الْكفَّار مِنْهُم دون الْمُسلمين.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الْأَحْزَاب أهل الْملَل كلهَا. روى أَبُو موس الْأَشْعَرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من أحد يسمع بِي فَلَا يُؤمن إِلَّا أدخلهُ الله النَّار ". قَالَ سعيد بن جُبَير: طلبت مصداق هَذَا من الْقُرْآن فَوَجَدته فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن يكفر بِهِ من الْأَحْزَاب فَالنَّار موعده} .(2/419)
{يُؤمنُونَ بِهِ وَمن يكفر بِهِ من الْأَحْزَاب فَالنَّار موعده فَلَا تَكُ فِي مرية مِنْهُ إِنَّه الْحق من رَبك وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ (17) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أُولَئِكَ يعرضون على رَبهم وَيَقُول الأشهاد هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم أَلا لعنة الله على الظَّالِمين (18) الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله ويبغونها عوجا وهم بِالآخِرَة هم كافرون}
وَقَوله: {فَلَا تَكُ فِي مرية مِنْهُ} يَعْنِي: فَلَا تَكُ فِي شكّ مِنْهُ. وَقيل مَعْنَاهُ: فَلَا تَكُ فِي شَيْء مِنْهُ أَيهَا الشاك. قَوْله: {إِنَّه الْحق من رَبك وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/420)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته} مَعْنَاهُ: لَا أحد أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا. ثمَّ قَالَ: {أُولَئِكَ يعرضون على رَبهم} الْعرض: هُوَ إِظْهَار الشَّيْء ليرى وَيُوقف على حَاله، وَمِنْه قَوْلهم: عرض السُّلْطَان الْجند. وَقَوله: {وَيَقُول الأشهاد هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم} اخْتلف القَوْل فِي الأشهاد، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هم الْأَنْبِيَاء والمرسلون. وَقَالَ مُجَاهِد: هم الْمَلَائِكَة. وَقَالَ بَعضهم: الْخَلَائق كلهم. وَقَوله: {هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم أَلا لعنة الله على الظَّالِمين} ظَاهر الْمَعْنى.
وروى ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي قَالَ: " يدنى الْمُؤمن ربه يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يضع كنفه عَلَيْهِ، فيقرره بذنوبه وَيَقُول: هَل تعرف كَذَا؟ فَيَقُول: أعرف. هَل تعرف كَذَا؟ فَيَقُول: أعرف. فيسأله مَا سَأَلَهُ، ثمَّ يَقُول: سترته عَلَيْك فِي الدُّنْيَا، وَأَنا أغفره لَك الْيَوْم، ثمَّ يعْطى كِتَابه بِيَمِينِهِ، وَأما الْكفَّار فينادى على رُءُوس الأشهاد: هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم، أَلا لعنة الله على الظَّالِمين ".
وَهَذَا الحَدِيث هُوَ حَدِيث النَّجْوَى، اتَّفقُوا على صِحَّته عَن النَّبِي.(2/420)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله} مَعْنَاهُ: الَّذين يمْنَعُونَ عَن دين الله.
وَقَوله: {ويبغونها عوجا} يَعْنِي: وَيطْلبُونَ الأعوجاج فِي دين الله. وَقَوله {وهم(2/420)
( {19) أُولَئِكَ لم يَكُونُوا معجزين فِي الأَرْض وَمَا كَانَ لَهُم من دون الله من أَوْلِيَاء يُضَاعف لَهُم الْعَذَاب مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمع وَمَا كَانُوا يبصرون (20) أُولَئِكَ} بِالآخِرَة هم كافرون) قَالَ ثَعْلَب: تَكْرِير " هم " على طَرِيق التَّأْكِيد لدُخُول الْآخِرَة بَينهمَا.(2/421)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ لم يَكُونُوا معجزين فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ: أُولَئِكَ لم يَكُونُوا فائتين، وَقيل: أُولَئِكَ لم يَكُونُوا هاربين من عذابنا؛ فَإِن من هرب عَن الشَّيْء وَقع الْعَجز عَنهُ. وَقَوله: {وَمَا كَانَ لَهُم من دون الله من أَوْلِيَاء} يَعْنِي: من ناصرين وحافظين عَن عذابنا. وَقَوله: {يُضَاعف لَهُم الْعَذَاب} فَإِن قيل: مَا معنى تَضْعِيف الْعَذَاب وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا} ؟
الْجَواب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن مضاعفة الْعَذَاب بمضاعفة الجرم.
وَالْآخر: أَن الْآيَة فِي رُؤَسَاء أهل الشّرك، وتضعيف الْعَذَاب عَلَيْهِم بتضليل الإتباع ودعائهم إيَّاهُم إِلَى شركهم.
وَقَوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمع وَمَا كَانُوا يبصرون} قَالَ ابْن عَبَّاس: حَال الله بَينهم وَبَين اإيمان. وَذكر الْفراء عَن بعض أهل الْمعَانِي: أَن معنى الْآيَة: يُضَاعف لَهُم الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمع فَلَا يَسْتَمِعُون.
وَسَائِر النُّحَاة أَنْكَرُوا تَقْدِير " الْبَاء " هَاهُنَا. والاستطاعة: قُوَّة تنطاع بهَا الْجَوَارِح للْعَمَل.
وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَنهم لما يسمعوا اسْتِمَاع (التفهم) وَالِانْتِفَاع بِهِ، وَلم يبصروا بصر الْحَقِيقَة؛ جعلهم كمن لَا يَسْتَطِيع السّمع وَالْبَصَر.(2/421)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)
قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين خسروا أنفسهم} مَعْنَاهُ: غبنوا أنفسهم. وَقيل إِن(2/421)
{الَّذين خسروا أنفسهم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (21) لَا جرم أَنهم فِي الْآخِرَة هم الأخسرون (22) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وأخبتوا إِلَى رَبهم أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ (23) مثل الْفَرِيقَيْنِ كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَل} أعظم الخسران، خسران النَّفس، وَأعظم الرِّبْح: ربح النَّفس. وَقَوله: {وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون} يَعْنِي: فَاتَ عَنْهُم مَا كَانُوا يَزْعمُونَ من شَفَاعَة الْمَلَائِكَة والأصنام.(2/422)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
قَوْله تَعَالَى: {لَا جرم} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: لاجرم يَعْنِي: حَقًا {أَنهم فِي الْآخِرَة هم الأخسرون}
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {لَا} رد لما قَالُوا، وَقَوله: {جرم} ابْتِدَاء كَلَام، وجرم بِمَعْنى: كسب، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَقَد طعنت أَبَا عُيَيْنَة طعنة ... جرمت فَزَارَة بعْدهَا أَن يغضبوا)
يَعْنِي: كسبتهم الْغَضَب. وَقَالَ آخر:
(نصبنا رَأسه فِي رَأس جذع ... بِمَا جرمت يَدَاهُ وَمَا اعتدينا.)
فَمَعْنَى الْآيَة: جرم أَي: كسب لَهُم كفرهم التباب والخسران.(2/422)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وأخبتوا إِلَى رَبهم} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: خشعوا. وَقَالَ بَعضهم: اطمأنوا. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: خَافُوا. وَقَوله: {إِلَى رَبهم} أَي: لرَبهم، مثل قَوْله تَعَالَى {بِأَن رَبك أوحى لَهَا} أَي: إِلَيْهَا، فَكَذَلِك هَاهُنَا: إِلَى رَبهم.
وَقَوله: {أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/422)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
قَوْله تَعَالَى: {مثل الْفَرِيقَيْنِ كالأعمى والأصم والبصير والسميع} الْآيَة، الْفَرِيقَانِ هَاهُنَا: فريق الْكفَّار، وفريق الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {كالأعمى والأصم} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن " الْوَاو " صلَة، وَمَعْنَاهُ: كالأعمى الْأَصَم، كَمَا يَقُول الْقَائِل: رَأَيْت الْعَاقِل والظريف أَي: رَأَيْت الْعَاقِل الظريف.(2/422)
{يستويان مثلا أَفلا تذكرُونَ (24) وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه إِنِّي لكم نَذِير جين (25) أَن لَا تعبدوا إِلَّا الله إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم أَلِيم (26) فَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه مَا نرَاك إِلَّا بشرا مثلنَا وَمَا نرَاك اتبعك إِلَّا الَّذين هم أراذلنا بَادِي الرَّأْي وَمَا}
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " الْوَاو " لتعميم التَّشْبِيه، وَمَعْنَاهُ: حَال الْكَافِر كَحال الْأَعْمَى، وحاله كَحال الْأَصَم، وحاله كَحال الْأَعْمَى والأصم.
وَقَوله: {والبصير والسميع} الْكَلَام فِيهِ مثل هَذَا، وَالْمرَاد مِنْهُ: حَالَة الْمُؤمن. وَقَوله {هَل يستويان مثلا} رُوِيَ أَن الْكفَّار لما سمعُوا هَذَا قَالُوا: لَا يستويان، فَأنْزل الله تَعَالَى: {أَفلا تذكرُونَ} يَعْنِي: أَفلا تتعظون؟ !(2/423)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
قَوْله: {وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه إِنِّي لكم نَذِير مُبين} قرئَ بقراءتين؛ بِالنّصب والخفض؛ فَمَعْنَى النصب: بِأَنِّي لكم نَذِير مُبين.(2/423)
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
قَوْله تَعَالَى: {أَلا تعبدوا إِلَّا الله} مَعْنَاهُ: آمركُم أَلا تعبدوا إِلَّا الله، وَالْعِبَادَة: التَّوْحِيد، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِالتَّوْحِيدِ لِأَنَّهُ من أهم الْأُمُور.
وَقَوله: {إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم أَلِيم} أَي: مؤلم، والمؤلم: الموجع.(2/423)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه} الْمَلأ هم الْأَشْرَاف والرؤساء.
وَقَوله: {مَا نرَاك إِلَّا بشرا مثلنَا} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وَمَا نرَاك اتبعك إِلَّا الَّذين هم أراذلنا بَادِي الرَّأْي} والأراذل: جمع الرذل، والرذل: الخسيس الدون. وَقيل: الأراذل: الأسافل، والرذل: السفلة، وَفِي السفلة أَقْوَال كَثِيرَة لأهل الْعلم.
قَالَ مَالك بن أنس: السفلة: هُوَ الَّذِي يسب أَصْحَاب النَّبِي. وروى عَن الْحسن بن زِيَاد اللؤْلُؤِي أَنه قَالَ: السفلة: الَّذِي لَا دين لَهُ.
وَعَن الْأَصْمَعِي أَنه قَالَ: السفلة: الَّذِي لَا يُبَالِي مَا قَالَ وَمَا قيل لَهُ.
وَعَن ابْن الْمُبَارك قَالَ: هم الَّذين يتقلسون ويأتون أَبْوَاب الْقُضَاة يطْلبُونَ الشَّهَادَات.
وروى ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: السفلة: هُوَ الَّذِي يَأْكُل بِدِينِهِ، وسفلة السفلة هُوَ(2/423)
{نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين (27) قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي وآتاني رَحْمَة من عِنْده فعميت عَلَيْكُم أنلزمكموها وَأَنْتُم لَهَا كَارِهُون (28) وَيَا قوم لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ مَالا إِن أجري إِلَّا على الله وَمَا أَنا بطارد الَّذين آمنُوا إِنَّهُم ملاقوا}
الَّذِي يُسَوِّي دنيا غَيره بِدِينِهِ. وَفِي بعض الْآثَار: أَشْقَى الأشقياء من بَاعَ دينه بدنيا غَيره. وَقيل: إِن السفلة هم أَصْحَاب الصناعات الدنية مثل: الكناسين، والدباغين، والسماكين، والحجامين، والحاكة، وَغَيرهم. وَرُوِيَ أَن بعض الْعلمَاء بِبَغْدَاد سُئِلَ عَن امْرَأَة قَالَت لزَوجهَا: يَا سفلَة، فَقَالَ: إِن كنت سفلَة فَأَنت طَالِق، فَقَالَ لَهُ ذَلِك الْعَالم: مَا صناعتك؟ فَقَالَ: سماك، فَقَالَ: سفلَة وَالله سفلَة.
وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: هم الَّذين إِذا اجْتَمعُوا غلبوا، وَإِذا تفَرقُوا لم يعرفوا.
وَقَوله: {بَادِي الرَّأْي} قرئَ بقراءتين: بِالْهَمْز، وَترك الْهَمْز فَأَما بِالْهَمْز فَمَعْنَاه: أول الرَّأْي؛ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُم اتبعوك فِي أول الرَّأْي وَلم يتفكروا وَلَو تَفَكَّرُوا، لم يتبعوك. وَأما بَادِي الرَّأْي بترك الْهَمْز فَمَعْنَاه: ظَاهر الرَّأْي. قَالَ الزّجاج: يَعْنِي: اتبعوك ظَاهرا لَا بَاطِنا.
وَقَوله: {وَمَا نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} ظَاهر الْمَعْنى.(2/424)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي} يَعْنِي: على بَيَان من رَبِّي. وَقَوله: {وآتاني رَحْمَة من عِنْده} الرَّحْمَة هَاهُنَا هِيَ النُّبُوَّة وَالْهدى. قَوْله {فعميت عَلَيْكُم} أَي: فخفيت عَلَيْكُم؛ لِأَن من عمي عَن الشَّيْء فقد خفى ذَلِك الشَّيْء عَلَيْهِ. وَقُرِئَ: " فعميت عَلَيْكُم " مَعْنَاهُ: فأخفيت عَلَيْكُم. وَقَوله: {أنلزمكموها} مَعْنَاهُ: أنلزمكم الدعْوَة {وَأَنْتُم لَهَا كَارِهُون} قَالَ قَتَادَة: لَو قدر الْأَنْبِيَاء أَن يلزموا قَومهمْ لألزموا [قَومهمْ] ؛ وَلَكِن لم يقدروا.(2/424)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ مَالا إِن أجري إِلَّا على الله} مَعْنَاهُ: مَا(2/424)
{رَبهم وَلَكِنِّي أَرَاكُم قوما تجهلون (29) وَيَا قوم من ينصرني من الله إِن طردتهم أَفلا تذكرُونَ (30) وَلَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله وَلَا أعلم الْغَيْب وَلَا أَقُول إِنِّي ملك وَلَا أَقُول للَّذين تزدري أعينكُم لن يُؤْتِيهم الله خيرا الله أعلم بِمَا فِي أنفسهم إِنِّي إِذا لمن الظَّالِمين (31) قَالُوا يَا نوح قد جادلتنا فَأَكْثَرت جدالنا فأتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من} ثوابي إِلَّا على الله. وَقَوله: {وَمَا أَنا بطارد الَّذين آمنُوا} فِيهِ دَلِيل أَنهم طلبُوا مِنْهُ أَن يطرد الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {إِنَّهُم ملاقوا رَبهم} يَعْنِي: إِنَّهُم صائرون إِلَى رَبهم فيجزي من طردهم. وَقَوله: {وَلَكِنِّي أَرَاكُم قوم تجهلون} ظَاهر الْمَعْنى.(2/425)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم من ينصرني من الله إِن طردتهم} مَعْنَاهُ: من يَمْنعنِي من عَذَاب الله إِن طردتهم {أَفلا تذكرُونَ} أَي: أغلا تتعظون؟ .(2/425)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله} مَعْنَاهُ: لَيْسَ عِنْدِي خَزَائِن الله فَآتي مَا تطلبون. وَقَوله: {وَلَا أعلم الْغَيْب} يَعْنِي: لَا أعلم الْغَيْب فأخبركم بِمَا تُرِيدُونَ. وَقَوله: {وَلَا أَقُول إِنِّي ملك} هَذَا جَوَاب لقَولهم: {مَا نرَاك إِلَّا بشرا مثلنَا} . وَقَوله: {وَلَا أَقُول للَّذين تزدري أعينكُم} تزدري أَي: تحتقر وتستخس، هَذَا جَوَاب لقَولهم: {وَمَا نرَاك اتبعك إِلَّا الَّذين هم أراذلنا بَادِي الرَّأْي} .
وَقَوله {لن يُؤْتِيهم الله خيرا} أَي: لن يُؤْتِيهم أجرا {الله أعلم بِمَا فِي أنفسهم} . [يَعْنِي: فِي صُدُورهمْ، فِي أَن يَأْتِيهم الله خيرا]
وَقَوله: {إِنِّي إِذا لمن الظَّالِمين} يَعْنِي: إِنِّي إِذا لمن الظَّالِمين لَو قلت هَذَا أَو طردتهم.(2/425)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا نوح قد جادلتنا فَأَكْثَرت جدالنا} رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " فَأَكْثَرت جدالنا " بِالْفَتْح؛ والمجادلة خُصُومَة على وَجه الْمُبَالغَة، وأصل الجدل: هُوَ الفتل، وَالْعرب تسمى الصَّقْر: الأجدل؛ لِشِدَّتِهِ فِي الْجَوَارِح.
وَالْفرق بَين الْحجَّاج والمجادلة: أَن الْمَطْلُوب من الْحجَّاج ظُهُور الْحق فِي الْمَطْلُوب، وَمن المجادلة هُوَ رُجُوع الْخصم إِلَى قَوْله.(2/425)
{الصَّادِقين (32) قَالَ إِنَّمَا يأتيكم بِهِ الله إِن شَاءَ وَمَا أَنْتُم بمعجزين (33) وَلَا ينفعكم نصحي إِن أردْت أَن أنصح لكم إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم هُوَ ربكُم وَإِلَيْهِ ترجعون (34) أم يَقُولُونَ افتراه قل إِن افتريته فعلي إجرامي وَأَنا بَرِيء مِمَّا تجرمون (35) }
وَالْفرق بَين المراء والمجادلة: أَن الْمَرْء مَذْمُوم؛ لِأَنَّهُ خُصُومَة بعد ظُهُور الْحق، والجدال غير مَذْمُوم، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُبَالغ فِيهِ من غير قصد طلب الْحق.
وَقَوله تَعَالَى: {فأتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من الصَّادِقين} هَذَا دَلِيل على أَنه كَانَ وعدهم الْعَذَاب إِن لم يُؤمنُوا.(2/426)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِنَّمَا يأتيكم بِهِ الله إِن شَاءَ} يَعْنِي: بِالْعَذَابِ. وَقَوله: {وَمَا أَنْتُم بمعجزين} أَي: بفائتين وَلَا هاربين.(2/426)
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا ينفعكم نصحي} والنصح: إخلاص الْعَمَل عَن الْفساد. وَقيل: إِنَّه بَيَان مَوضِع الغي ليجتنب، وَبَيَان مَوضِع الرشد ليطلب. وَقَوله: {إِن أردْت أَن أنصح لكم} أَرَادَ مُوَافقَة لأمر الله. وَقَوله: {إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن مَعْنَاهُ: يضلكم. وَقيل: يخلق الغي فِي قُلُوبكُمْ، والغي ضد الرشد. وَذكر مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ أَن معنى قَوْله: {يغويكم} : يهلككم. وَلم يرض ابْن الْأَنْبَارِي هَذَا من حَيْثُ اللُّغَة، وَقَالَ: لَا يَسْتَقِيم فِي اللُّغَة أَن يذكر الإغواء بِمَعْنى الإهلاك. وَقَالَ بَعضهم: يخيبكم من رَحمته.
وَقَوله: {هُوَ ربكُم وَإِلَيْهِ ترجعون} ظَاهر الْمَعْنى، وَفِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة.(2/426)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ افتراه} بل يَقُولُونَ: افتراه أَي: اختلقه. وَقَوله: {قل إِن افتريته فعلي إجرامي} قرئَ فِي الشاذ: " قعلي أجرامي " بِالْفَتْح، والأجرام: جمع الجرم، والإجرام: هُوَ كسب الذَّنب، وَمعنى الْآيَة: فعلي وبال ذَنبي وجرمي. وَقَوله: {وَأَنا برِئ مِمَّا تجرمون} يَعْنِي: أَنا برِئ مِمَّا تكتسبون من الذَّنب.(2/426)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
قَوْله تَعَالَى: {وَأوحى إِلَى نوح} روى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَن قوم نوح كَانُوا يضْربُونَ نوحًا حَتَّى [يسْقط] ، فيلقونه فِي لبد ويلقونه فِي بَيته ويظنون أَنه قد(2/426)
{وأوحي إِلَى نوح أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن فَلَا تبتئس بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) واصنع الْفلك بأعيننا ووحينا وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا إِنَّهُم مغرقون (37) }
مَاتَ، فَيخرج فِي الْيَوْم الثَّانِي ويدعوهم إِلَى الله؛ فَروِيَ أَن شَيخا جَاءَ يتَوَكَّأ على عَصا وَمَعَهُ ابْنه فَقَالَ: يَا بني لَا يغرنك هَذَا الشَّيْخ الْمَجْنُون، فَقَالَ: يَا ابة، أمكني من الْعَصَا، فَدفع إِلَيْهِ الْعَصَا، فَضرب نوحًا على رَأسه وشجمة شجة مُنكرَة حَتَّى سَالَتْ الدِّمَاء مِنْهُ، وَهُوَ يَدعُوهُم إِلَى الْإِيمَان، فَأنْزل الله تَعَالَى: {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} فَحِينَئِذٍ استجار بِالدُّعَاءِ وَقَالَ: {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} . وَقَوله: {فَلَا تبتئس بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة: فَلَا تحزن. قَالَ أهل اللُّغَة: الابتئاس: حزن مَعَ استكانة، قَالَ الشَّاعِر:
(مَا يقسم الله فاقبل غير مبتئس ... مِنْهُ واقعد كَرِيمًا ناعم الْبَالِي)(2/427)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
قَوْله تَعَالَى: {واصنع الْفلك بأعيننا} عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: بمرأى منا.
وَعَن الضَّحَّاك: بمنظر منا. وَقيل: برؤيتنا وحفظنا. وَفِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - أَتَى نوحًا - عَلَيْهِ السَّلَام - فَقَالَ: إِن رَبك يَأْمُرك أَن تصنع الْفلك. قَالَ: كَيفَ أصنع وَلست بنجار؟ ! فَقَالَ: إِن رَبك يَقُول: اصْنَع الْفلك فَأَنت بعيني. فَأخذ الْقدوم وَجعل يصنع الْفلك فَلَا يخطيء موضعا.
وَقَوله: {ووحينا} أَي: وأمرنا. وَقَوله: {وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا إِنَّهُم مغرقون} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: وَلَا تخاطبني فِي إمهال الْكفَّار، فَإِنِّي قد حكمت بإغراقهم.
وَالثَّانِي: لَا تخاطبني فِي ابْنك؛ فَإِنَّهُ هَالك مَعَ الْقَوْم.(2/427)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
قَوْله تَعَالَى: {ويصنع الْفلك} رُوِيَ عَن زيد بن أسلم أَنه قَالَ: مكث نوح مائَة سنة يغْرس الْأَشْجَار وَيقطع، وَمكث مائَة سنة يعْمل الْفلك. وَعَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ: إِن نوحًا عمل السَّفِينَة فِي ثَلَاثِينَ سنة. وَرُوِيَ عَن سلمَان الْفَارِسِي: أَن نوحًا(2/427)
{ويصنع الْفلك وَكلما مر عَلَيْهِ مَلأ من قومه سخروا مِنْهُ قَالَ إِن تسخروا منا فَإنَّا نسخر مِنْكُم كَمَا تسخرون (38) فَسَوف تعلمُونَ من يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه وَيحل عَلَيْهِ عَذَاب} عمل السَّفِينَة فِي أَرْبَعمِائَة سنة. ذكر فِي بعض التفاسير، وَالْمَعْرُوف الأول.
وَقَوله: {وَكلما مر عَلَيْهِ مَلأ من قومه سخروا مِنْهُ} قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانُوا إِذا مروا عَلَيْهِ قَالُوا: إِن هَذَا الَّذِي كَانَ يزْعم أَنه نَبِي قد صَار نجارا.
وَرُوِيَ أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: يَا نوح، مَا تصنع؟ فَيَقُول: أصنع بَيْتا يمشي على المَاء، فيضحكون ويتعجبون مِنْهُ.
وَفِي بعض التفاسير عَن ابْن عَبَّاس: أَنهم لم يَكُونُوا رَأَوْا بحرا قطّ وَلَا سفينة، وَإِنَّمَا الْبحار الْآن من بقايا الطوفان.
وَقَوله: {قَالَ إِن تسخروا منا فَإنَّا نسخر مِنْكُم كَمَا تسخرون} فَإِن قيل: كَيفَ يجوز أَن يسخر نَبِي من الْأَنْبِيَاء من قومه؟
الْجَواب: إِن هَذَا على وَجه ازدواج الْكَلَام، وَمَعْنَاهُ: إِن تستجهلوني فَإِنِّي أستجهلكم إِذا نزل الْعَذَاب. وَقيل مَعْنَاهُ: إِن تسخروا مني فسترون عَاقِبَة سخريتكم.(2/428)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
قَوْله تَعَالَى: {فَسَوف تعلمُونَ من يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه} هَذَا مُتَّصِل بقوله: {فَسَوف تعلمُونَ} وَمَعْنَاهُ: فَسَوف تعلمُونَ أَيّنَا {يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه} وَقيل: فَسَوف تعلمُونَ الَّذِي يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه، هَذَا وَمعنى قَوْله: " يخزيه ": يهلكه، وَقيل: يذله. وَقَوله {وَيحل عَلَيْهِ عَذَاب مُقيم} مَعْنَاهُ: ينزل عَلَيْهِ عَذَاب دَائِم، وَهُوَ الْغَرق.(2/428)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا جَاءَ أمرنَا وفار التَّنور} اخْتلفُوا فِي التَّنور على أَقْوَال: الْأَكْثَرُونَ على أَنه تنور الخابزة، هَذَا قَول ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَجَمَاعَة.
وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: هُوَ وَجه الأَرْض. وَحكي هَذَا عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا. وَقَالُوا: كَأَن الله تَعَالَى جعل بَينه وَبَين نوح عَلامَة، وَقَالَ: إِذا رَأَيْت المَاء قد فار على وَجه الأَرْض فاركب السَّفِينَة.(2/428)
{مُقيم (39) حَتَّى إِذا جَاءَ أمرنَا وفار التَّنور قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأهْلك}
وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " وفار التَّنور " يَعْنِي: انفجر الصُّبْح؛ وَهُوَ من قَوْلهم: نور الصُّبْح تنويرا. وَقَالَ بَعضهم: التَّنور هَاهُنَا: تنور من حِجَارَة كَانَت حَوَّاء تخبز فِيهِ فورثه نوح، وَقَالَ الله تَعَالَى لنوح: إِذا فار المَاء من آخر مَوضِع فِي دَارك فَهُوَ الْعَلامَة، وَاسم التَّنور اسْم وَافَقت الْعَرَبيَّة فِيهِ العجمية.
وَاخْتلفُوا فِي مَوضِع التَّنور:
رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: كَانَ بِالْكُوفَةِ، وَأَشَارَ إِلَى بَاب كِنْدَة لِلْمَسْجِدِ، وَمثله عَن الشّعبِيّ أَن التَّنور فار من نَاحيَة الْجَانِب الْأَيْمن من مَسْجِد الْكُوفَة. وَحكي أَن رجلا جَاءَ إِلَى عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنِّي اشْتريت رَاحِلَة وأعددت زادا لأذهب وأصلي فِي مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس، فَقَالَ: بِعْ راحلتك، وكل زادك، وصل فِي هَذَا الْمَسْجِد - يَعْنِي: مَسْجِد الْكُوفَة -؛ فَإِنَّهُ صلى فِيهِ سَبْعُونَ نَبيا، وَمِنْه فار التَّنور.
وَقَالَ بَعضهم: كَانَ التَّنور بِالشَّام. وَقَالَ بَعضهم كَانَ بِأَرْض الْهِنْد.
وَقَالَ بَعضهم: التَّنور عين بالجزيرة تسمى عين الوردة.
وَقَوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} " فِيهَا " ينْصَرف إِلَى الْفلك، وَاخْتلفُوا فِي قدر الْفلك:
رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: كَانَ طول السَّفِينَة ألفا وَمِائَتَيْنِ ذِرَاع، وعرضها سِتّمائَة ذِرَاع. وَالْمَعْرُوف أَن طولهَا كَانَ ثلثمِائة ذِرَاع، وعرضها كَانَ (خمسين) ذِرَاعا، وارتفاعها إِلَى السَّمَاء كَانَ ثَلَاثِينَ ذِرَاعا، وَقد قيل غير هَذَا، وَالله أعلم.
قَالَ قَتَادَة: وَكَانَ بَابهَا فِي عرضهَا. قَالُوا: وَكَانَت ثَلَاث طَبَقَات: الطَّبَقَة الْعليا للطير، والطبقة السُّفْلى للسباع والوحوش، وَالْوُسْطَى للنِّسَاء وَالرِّجَال، والحاجز بَين النِّسَاء وَالرِّجَال جَسَد آدم؛ فَإِنَّهُ كَانَ حمله مَعَ نَفسه فِي السَّفِينَة.(2/429)
{إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل وَمن آمن مَعَه إِلَّا قَلِيل (40) وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسم الله}
وَقَوله: {من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} الزَّوْج كل وَاحِد لَا يَسْتَغْنِي عَن مثله، يُقَال: زوج خف، وَزوج نعل، وَالْمرَاد من الزَّوْجَيْنِ هَاهُنَا: الذّكر وَالْأُنْثَى، وَمَعْنَاهُ: من كل ذكر وَأُنْثَى اثْنَيْنِ.
وَفِي الْقِصَّة: أَن نوحًا - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: يَا رب، كَيفَ أحمل من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ؟ فحشر الله تَعَالَى السبَاع وَالطير إِلَيْهِ، فَجعل يضْرب بيدَيْهِ فِي كل جنس، فَيَقَع الذّكر فِي يَده الْيُمْنَى وَالْأُنْثَى فِي يَده الْيُسْرَى فيحملها فِي السَّفِينَة. وَذكر وهب بن مُنَبّه أَن النَّاس شكوا الفأر إِلَى نوح فِي السَّفِينَة، فَأمره الله تَعَالَى أَن يمسح جبهة الْأسد، فَخرج من مَنْخرَيْهِ سنوران فأكلا الفأر، وَشَكوا إِلَيْهِ أَيْضا كَثْرَة الْعذرَة فَأمره أَن يمسح على مُؤخر الْفِيل، فَخرج مِنْهُ خنزيران فأكلا الْعذرَة.
وَقَوله تَعَالَى: {وَأهْلك} مَعْنَاهُ: واحمل أهلك {إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} يَعْنِي: ابْنه وَامْرَأَته. وَقَوله: {وَمن آمن} مَعْنَاهُ: وأحمل من آمن.
وَقَوله: {وَمَا آمن مَعَه إِلَّا قَلِيل} اخْتلفُوا فِي عَددهمْ، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: كَانُوا ثَمَانِينَ نَفرا. وَعَن بَعضهم: كَانُوا اثْنَيْنِ وَسبعين نَفرا. وَعَن الْأَعْمَش قَالَ: كَانُوا سَبْعَة نفر: ثَلَاثَة بَنِينَ لنوح وهم: سَام، وَحَام، وَيَافث وَثَلَاث كنائنهم - يَعْنِي: نِسَاؤُهُم -، ونوح. وَقَالَ قَتَادَة: كَانُوا ثَمَانِيَة نَفرا.(2/430)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسم الله مجريها ومرسيها} بِفَتْح الميمين، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاء العطاردي: " مجريها ومرسيها " بِالرَّفْع.
أما معنى قَوْله: {مجريها ومرسيها} يَعْنِي: بِسم الله إجراؤها وإرساؤها، وَمعنى مجريها ومرسيها بِالنّصب يَعْنِي: بِسم الله جريها ورسوها. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ إِذا قَالَ نوح: بِسم الله وَأَرَادَ الجري جرت، وَإِذا قَالَ: بِسم الله وَأَرَادَ الرسو رست.
وَأما مُدَّة لبث نوح فِي السَّفِينَة: قَالُوا: اسْتَقَلت السَّفِينَة على وَجه المَاء لعشر خلون من رَجَب، وَجَرت مائَة وَخمسين يَوْمًا، وأرست لعشر خلون من ذِي الْحجَّة، وهبطوا(2/430)
{مجريها وَمرْسَاهَا إِن رَبِّي لغَفُور رَحِيم (41) وَهِي تجْرِي بهم فِي موج كالجبال ونادى نوح ابْنه وَكَانَ فِي معزل يَا بني اركب مَعنا وَلَا تكن مَعَ الْكَافرين (42) قَالَ سآوي إِلَى جبل يعصمني من المَاء قَالَ لَا عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله إِلَّا من رحم وَحَال بَينهمَا الموج} يَوْم عَاشُورَاء إِلَى الأَرْض، فصَام ذَلِك الْيَوْم وَأمر الْقَوْم بصومه.
وَفِي الْقَصَص: أَن السَّفِينَة طافت جَمِيع الدُّنْيَا، وَحين وصلت إِلَى الْكَعْبَة طافت بهَا أسبوعا، وَكَانَت الْكَعْبَة قد رفعت وَبَقِي الْموضع.
وَقَوله: {إِن رَبِّي لغَفُور رَحِيم} مَعْنَاهُ ظَاهر.(2/431)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
قَوْله تَعَالَى: {وَهِي تجْرِي بهم فِي موج كالجبال} معنى الموج: قِطْعَة من الْبَحْر ترْتَفع عِنْد شدَّة الرّيح.
وَقَوله: {ونادى نوح ابْنه وَكَانَ فِي معزل} قيل: فِي معزل من السَّفِينَة، وَقيل: فِي معزل من قومه.
وَقَوله: {يَا بني اركب مَعنا} قرىء بقراءتين: " يَا بني " و " يابني "، ومعناهما وَاحِد. وَقَوله: {وَلَا تكن مَعَ الْكَافرين} أَي: من الْكَافرين، مَعْنَاهُ ظَاهر.
وَاخْتلفُوا فِي أَنه هَل كَانَ ابْنه من صلبه أَولا؟
فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَعِكْرِمَة، وَسَعِيد بن جُبَير، وَالضَّحَّاك، وَجَمَاعَة أَنهم قَالُوا: كَانَ ابْنه من صلبه. قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: مَا بَغت امْرَأَة نَبِي قطّ. وَكَانَ عِكْرِمَة بِحلف أَنه كَانَ ابْن نوح لصلبه. وَأما الْحسن وَمُجاهد: فَإِنَّهُمَا قَالَا: كَانَ ابْن امْرَأَته، وَلم يكن ابْنه، واستدلا بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} ، قَالَا: كَانَ يظنّ أَنه ابْنه وَلم يكن ابْنه. وَالْأول هُوَ الْأَصَح. وَقيل: إِن اسْمه كَانَ كنعان. وَقيل: إِن اسْمه كَانَ " يام ".(2/431)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ سآوي إِلَى جبل يعصمني من المَاء} يَعْنِي: ألتجىء إِلَى الْجَبَل يَمْنعنِي من الْغَرق. ف {قَالَ} لَهُ نوح: {لَا عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله إِلَّا من رحم}(2/431)
{فَكَانَ من المغرقين (43) وَقيل يَا أَرض ابلعي ماءك وَيَا سَمَاء أقلعي وغيض المَاء وَقضي الْأَمر واستوت على الجودي وَقيل بعدا للْقَوْم الظَّالِمين (44) ونادى نوح ربه فَقَالَ رب} فَفِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن العاصم بِمَعْنى الْمَعْصُوم، وَمَعْنَاهُ: لَا مَعْصُوم الْيَوْم من أَمر الله إِلَّا من رحم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله إِلَّا الله.
قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا من رحم} هُوَ الله تَعَالَى. وَقَوله {وَحَال بَينهمَا الموج فَكَانَ من المغرقين} أَي: صَار من المغرقين.
وَفِي الْقِصَّة: أَن المَاء علا على رُءُوس الْجبَال بِقدر أَرْبَعِينَ ذِرَاعا. وَقيل: دونه، وَالله أعلم.(2/432)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
قَوْله تَعَالَى: {وَقيل يَا أَرض ابلعي ماءك} مَعْنَاهُ: اشربي ماءك، وَيُقَال: ابلعي أَي: غيبي ماءك فِي جوفك. وَقَوله: {وَيَا سَمَاء أقلعي} أَي: أمسكي. وَقَوله: {وغيض المَاء وَقضى الْأَمر} مَعْنَاهُ: وَنقص المَاء ونضب. وَقَوله: {وَقضي الْأَمر} أَي: فرغ من الْأَمر، وَهُوَ هَلَاك الْقَوْم. وَقَوله: {واستوت على الجودى} مَعْنَاهُ: واستقرت على الجودى، قيل: إِنَّه جبل بِنَاحِيَة آمد. وَقَالَ الْفراء: جبل بِنَاحِيَة نَصِيبين. وَقَوله: {وَقيل بعدا للْقَوْم الظَّالِمين} أَي: هَلَاكًا للْقَوْم الظَّالِمين.
وَفِي مصحف ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: " وغيض المَاء واستوت على الجودي وَقضي الْأَمر ".
وَرُوِيَ أَن نوحًا - صلوَات الله عَلَيْهِ - بعث بالغراب ليَأْتِيه بِخَبَر الأَرْض، فَوَقع على جيفة وَلم يرجع، فَبعث بالحمامة فَجَاءَت بورق زيتونة فِي منقارها ولطخت رِجْلَيْهَا بالطين؛ ليعلم نوح أَن المَاء قد نضب، فَأعْطيت الطوق [وخضاب] الرجلَيْن من ذَلِك الْوَقْت.
وَهَذِه الْآيَة تعد من فصيحات الْقُرْآن، وَحكي أَنَّهَا قُرِئت عِنْد أَعْرَابِي فَقَالَ: هَذَا(2/432)
{إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق وَأَنت أحكم الْحَاكِمين (45) قَالَ يَا نوح إِنَّه لَيْسَ من أهلك إِنَّه عمل غير صَالح فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِنِّي أعظك أَن تكون من} كَلَام قَادر.(2/433)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ونادى نوح ربه فَقَالَ رب إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق وَأَنت أحكم الْحَاكِمين} يَعْنِي: أَنْت وَعَدتنِي أَن تنجي أَهلِي وَأَنت أحكم الْحَاكِمين يَعْنِي: وَأَنت أحكم الْحَاكِمين بِالْعَدْلِ.(2/433)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
قَالَ الله تَعَالَى: {يَا نوح إِنَّه لَيْسَ من أهلك} مَعْنَاهُ: لَيْسَ من أهلك الَّذين وعدتك أَن أنجيهم. وعَلى قَول الْحسن، وَمُجاهد يَعْنِي: لَيْسَ بابنك.
وَقَوله: {إِنَّه عمل غير صَالح} مَعْنَاهُ: إِنَّه ذُو عمل غير صَالح.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن سؤالك إيَّايَ إنجاءه؛ عمل غير صَالح.
وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ - " إِنَّه عمل غير صَالح ".
{فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَهَذَا يُؤَيّد الْمَعْنى الثَّانِي. وقرىء: " إِنَّه عمل غير صَالح " وَمَعْنَاهُ: إِن ابْنك عمل غير صَالح.
وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن نوحًا كَانَ يظنّ أَنه مُسلم وَهُوَ يبطن الْكفْر من أَبِيه، فَهَذَا معنى قَوْله: {لَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم}
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: أَنه لَيْسَ بِابْن لَك على مَا ذكرنَا.
وَقَوله: {إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين} مَعْنَاهُ: إِنِّي أحذرك أَن تكون من الآثمين، وذنب الْمُؤمن جهل، وذنب الْكَافِر كفر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: {إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين} - يَعْنِي: أَن تَدْعُو بِهَلَاك الْكفَّار ثمَّ تطلب نجاة كَافِر.(2/433)
{الْجَاهِلين (46) قَالَ رب إِنِّي أعوذ بك أَن أَسأَلك مَا لَيْسَ لي بِهِ علم وَإِلَّا تغْفر لي وترحمني أكن من الخاسرين (47) قيل يَا نوح اهبط بِسَلام منا وبركات عَلَيْك وعَلى أُمَم مِمَّن مَعَك وأمم سنمتعهم ثمَّ يمسهم منا عَذَاب أَلِيم (48) تِلْكَ من أنباء الْغَيْب نوحيها إِلَيْك مَا كنت تعلمهَا أَنْت وَلَا قَوْمك من قبل هَذَا فاصبر إِن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين (49) وَإِلَى عَاد أَخَاهُم هودا}(2/434)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ} أَي: قَالَ نوح: {رب إِنِّي أعوذ بك أَن أَسأَلك}
غير أَنِّي أمتنع بك أَن أَسأَلك {مَا لَيْسَ لي بِهِ علم} وَمَعْنَاهُ: سُؤال الْعِصْمَة.
وَقَوله: {وَإِلَّا تغْفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} ظَاهر الْمَعْنى.(2/434)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
قَوْله تَعَالَى: {قيل يَا نوح اهبط بِسَلام منا} مَعْنَاهُ: انْزِلْ بسلامة لَك من قبلنَا.
وَقَوله: {وبركات عَلَيْك} الْبركَة: ثُبُوت الْخَيْر، وَمِنْه بروك الْبَعِير. وَقيل: إِن الْبركَة هَاهُنَا هُوَ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعله آدم الْأَصْغَر، فَأهْلك سَائِر من مَعَه من غير نسل، وَجعل النَّسْل من ذُريَّته إِلَى قيام السَّاعَة. وَقَوله: {وعَلى أُمَم مِمَّن مَعَك} مَعْنَاهُ: على ذُرِّيَّة أُمَم مِمَّن مَعَك. قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: دخل فِيهِ كل مُؤمن إِلَى قيام السَّاعَة كَانَ فِي صلب نوح. وَقَوله {وأمم سنمتعهم} ابْتِدَاء كَلَام، وَمَعْنَاهُ: وأمم سنمتعهم وهم الْكفَّار. وَقَوله {ثمَّ يمسهم منا عَذَاب أَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى.(2/434)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ من أنباء الْغَيْب نوحيها إِلَيْك} أَي: نلقيها إِلَيْك. قَوْله: {مَا كنت تعلمهَا أَنْت وَلَا قَوْمك من قبل هَذَا} يَعْنِي: من قبل انزال الْقُرْآن. قَوْله: {فاصبر إِن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين} ظَاهر الْمَعْنى.(2/434)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى عَاد أَخَاهُم هودا} عَاد قوم كَانُوا بالأحقاف، وَهِي رمال بَين الْيمن وَالشَّام. وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا بِنَفس الْيمن، وَكَانُوا أعْطوا زِيَادَة فِي الْجِسْم وَالْقُوَّة على سَائِر الْخلق. وَقَوله: {أَخَاهُم} يَعْنِي: أَخَاهُم فِي النّسَب لَا فِي الدّين، وَمعنى الْآيَة: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَاد أَخَاهُم وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَاد أَخَاهُم هودا.(2/434)
{قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره إِن أَنْتُم إِلَّا مفترون (50) يَا قوم لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِن أجري إِلَّا على الَّذِي فطرني أَفلا تعقلون (51) وَيَا قوم اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا ويزدكم قُوَّة إِلَى قوتكم وَلَا تَتَوَلَّوْا مجرمين (52) قَالُوا يَا هود مَا جئتنا بِبَيِّنَة وَمَا نَحن بتاركي آلِهَتنَا عَن قَوْلك وَمَا نَحن لَك بمؤمنين}
قَوْله: {قَالَ يَا قوم اعبدوا الله} أَي: وحدوا الله. قَوْله: {مالكم من إِلَه غَيره إِن أَنْتُم إِلَّا مفترون} والافتراء: الْكَذِب، وَكَانَ كذبهمْ على الله تَعَالَى.(2/435)
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
قَوْله تَعَالَى: {يَا قوم لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا} أَي: ثَوابًا، يَعْنِي: لَا أَسأَلكُم على الإبلاغ أجرا. وَقَوله: {إِن أجري إِلَّا على الَّذِي فطرني} مَعْنَاهُ: إِن ثوابي إِلَّا على الَّذِي فطرني، أَي: خلقني {أَفلا تعقلون} ظَاهر [الْمَعْنى] .(2/435)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قدم الاستغفارعلى التَّوْبَة لما بَينا من الْمَعْنى. وَقَوله: {يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} مَعْنَاهُ: يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا بالمطر مرّة بعد أُخْرَى فِي أَوْقَات الْحَاجة، والمدرار على طَرِيق الْمُبَالغَة، يُقَال: امْرَأَة معطار مذكار. وَقَوله: {ويزدكم قُوَّة إِلَى قوتكم} رُوِيَ أَن الله تَعَالَى حبس عَنْهُم الْمَطَر ثَلَاث سِنِين، وأعقم أَرْحَام الْأُمَّهَات فَلم يلدن، فَمَعْنَى قَوْله: {يزدكم قُوَّة إِلَى قوتكم} يَعْنِي: يُرْسل عَلَيْكُم الْمَطَر فتزدادون مَالا، ونعيد أَرْحَام الْأُمَّهَات إِلَى مَا كَانَ فيلدن فتزدادون قُوَّة بالأموال وَالْأَوْلَاد. وَقيل: " ويزدكم قُوَّة إِلَى قوتكم " أَي: شدَّة إِلَى شدتكم. وَقيل: يزدكم قُوَّة فِي دينكُمْ إِلَى قوتكم فِي أبدانكم. وَقَوله: {وَلَا تَتَوَلَّوْا مجرمين} أَي: وَلَا تعرضوا.(2/435)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا هود مَا جئتنا بِبَيِّنَة} أَي: بِحجَّة وَاضِحَة. وَقَوله: {وَمَا نَحن بتاركي آلِهَتنَا عَن قَوْلك} أَي: بِسَبَب قَوْلك: {وَمَا نَحن لَك بمؤمنين} أَي: بمصدقين.(2/435)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
قَوْله تَعَالَى: {إِن نقُول إِلَّا اعتراك} مَعْنَاهُ: إِلَّا أَصَابَك، قَالَ الشَّاعِر:
(أَتَيْتُك عَارِيا خلقا ثِيَابِي ... على خوف تظن بِي الظنونا)(2/435)
( {53) إِن نقُول إِلَّا اعتراك بعض آلِهَتنَا بِسوء قَالَ إِنِّي أشهد الله واشهدوا أَنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون (54) من دونه فكيدوني جَمِيعًا ثمَّ لَا تنْظرُون (55) إِنِّي توكلت على الله رَبِّي وربكم مَا من دَابَّة إِلَّا هُوَ آخذ بناصيتها إِن رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم (56) فَإِن}
والعاري هَاهُنَا هُوَ السَّائِل؛ سمي عَارِيا لِأَنَّهُ يطْلب الْإِصَابَة.
وَقَوله: {بعض آلِهَتنَا بِسوء} أَي: بلمم وخبل، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّك سببت آلِهَتنَا فانتقموا مِنْك بالتخبيل واللمم. وَقَوله: {قَالَ إِنِّي أشهد الله واشهدوا أَنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون من دونه} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ للْمُشْرِكين: {واشهدوا} وَلَا شَهَادَة لَهُم؟ قُلْنَا: هَذَا مَذْكُور على طَرِيق الْمُبَالغَة فِي الْحجَّة، لَا على طَرِيق إِثْبَات الشَّهَادَة لَهُم.
وَقَوله: {فكيدوني جَمِيعًا ثمَّ لَا تنْظرُون} الكيد: احتيال بشر. وَهَذَا القَوْل معْجزَة لهود صلوَات الله عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَمرهم أَن يحتالوا بِكُل حِيلَة لإيصال مَكْرُوه إِلَيْهِ، ومنعهم الله تَعَالَى عَن ذَلِك فَلم يقدروا عَلَيْهِ، وَهَذَا مثل قَول نوح فِي سُورَة يُونُس: {فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة ثمَّ اقضوا إِلَيّ وَلَا تنْظرُون} وَقد بَينا تَفْسِيره.(2/436)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي توكلت على الله رَبِّي وربكم} مَعْنَاهُ: اعتمدت على الله رَبِّي وربكم. وَقَوله: {مَا من دَابَّة إِلَّا هُوَ آخذ بناصيتها} مَعْنَاهُ: مَا من دَابَّة إِلَّا وَهِي فِي قَبضته وتنالها قدرته، وَخص الناصية بِالذكر؛ لِأَن الإذلال والإقماء فِي أَخذ الناصية.
وَقَوله: {إِن رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم} فِيهِ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن مَعْنَاهُ: إِن رَبِّي يعْمل بِالْعَدْلِ، وَإِن كَانَ قَادِرًا على كل شَيْء، فَلَا يعْمل إِلَّا بِالْإِحْسَانِ وَالْعدْل.
وَالثَّانِي: {إِن رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم} مَعْنَاهُ: إِن دين رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم.
وَالثَّالِث: قَوْله {إِن رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم} هُوَ فِي معنى قَوْله: {إِن رَبك لبالمرصاد} يَعْنِي: إِنَّه على طَرِيق الْخلق أجمع.(2/436)
{توَلّوا فقد أبلغتكم مَا أرْسلت بِهِ إِلَيْكُم ويستخلف رَبِّي قوما غَيْركُمْ وَلَا تضرونه شَيْئا إِن رَبِّي على كل شَيْء حفيظ (57) وَلما جَاءَ أمرنَا نجينا هودا وَالَّذين آمنُوا مَعَه برحمة منا ونجيناهم من عَذَاب غليظ (58) وَتلك عَاد جَحَدُوا بآيَات رَبهم وعصوا رسله وَاتبعُوا أَمر كل جَبَّار عنيد (59) وأتبعوا فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة أَلا إِن عادا}(2/437)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِن توَلّوا فقد أبلغتكم مَا أرْسلت بِهِ إِلَيْكُم} مَعْنَاهُ: فَإِن أَعرضُوا فقد أبلغتكم مَا أرْسلت بِهِ إِلَيْكُم. وَقَوله: {ويستخلف رَبِّي قوما غَيْركُمْ} مَعْنَاهُ: إِن أعرضتم يهلككم ويستخلف قوما غَيْركُمْ هم أطوع لله مِنْكُم. وَقَوله {وَلَا تضرونه شَيْئا} يَعْنِي: وَلَا تنقصونه شَيْئا. وَقَوله: {إِن رَبِّي على كل شَيْء حفيظ} أَي: حَافظ لأمور خلقه على مَا دبر وَقدر.(2/437)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
قَوْله تَعَالَى {وَلما جَاءَ أمرنَا نجينا هودا وَالَّذين آمنُوا مَعَه} الْآيَة. قَوْله: {أمرنَا} أَي: عذابنا، {نجينا هودا وَالَّذين آمنُوا مَعَه برحمة منا} أَي: بِمَا هديناهم وبيناهم طَرِيق الْهدى حَتَّى آمنُوا. وَقَوله: {ونجيناهم من عَذَاب غليظ} الْعَذَاب الغليظ: هُوَ الْعَذَاب الَّذِي أهلك بِهِ عادا وَقَومه وَهُوَ الرّيح الْعَقِيم، فَكَانَت الرّيح تدخل فِي مناخرهم وأفواههم، وَتخرج من أدبارهم فتقطعهم تقطيعا أَي: قِطْعَة قِطْعَة.(2/437)
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
وَقَوله تَعَالَى: {وَتلك عَاد جَحَدُوا بآيَات رَبهم} مَعْنَاهُ: أَنْكَرُوا آيَات رَبهم. وَقَوله: {وعصوا رسله} أَي: بالتكذيب. وَقَوله: {وَاتبعُوا أَمر كل جَبَّار عنيد} قيل: الْجَبَّار هُوَ الَّذِي يقتل على الْغَضَب، والعنيد هم هُوَ المعاند. قَالَ الشَّاعِر:
(إِنِّي لشيخ لَا أُطِيق العندا ... وَلَا أُطِيق البكرات الشردا)(2/437)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
قَوْله تَعَالَى: {وأتبعوا فِي هَذِه الدُّنْيَا لَعنه} اللَّعْنَة: هِيَ الإبعاد عَن الرَّحْمَة. قَالَ أهل الْعلم: وَلَا يجوز لعن الْبَهَائِم؛ لِأَنَّهَا غير مُسْتَحقَّة للبعد من رَحْمَة الله. وَقد ثَبت " أَن رجلا لعن بعيره فِي سَفَره فَأمره النَّبِي أَن ينزل عَنهُ ويخليه وَقَالَ: لَا يصحبنا مَلْعُون ". وَهَذَا على طَرِيق الزّجر والردع للاعن. وَقَوله: {وَيَوْم الْقِيَامَة أَلا إِن عادا(2/437)
{كفرُوا رَبهم أَلا بعدا لعاد قوم هود (60) وَإِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره هُوَ أنشأكم من الأَرْض واستعمركم فِيهَا فاستغفروه ثمَّ تُوبُوا} كفرُوا رَبهم) أَي: كفرُوا برَبهمْ. وَقَوله: {أَلا بعدا لعاد قوم هود} مَعْنَاهُ: أَلا سحقا وخزيا وهلاكا لعاد قوم هود.(2/438)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا} مَعْنَاهُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا، وَقَوله: {أَخَاهُم} على مَا قدمنَا، وَثَمُود قوم كَانُوا بِحجر بَين الْحجاز وَالشَّام.
وَقَوله: {قَالَ يَا قوم اعبدوا الله} أَي: وحدوا الله {مالكم من إِلَه غَيره} أَي: مالكم من معبود غَيره.
وَقَوله: {هُوَ أنشأكم من الأَرْض} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا أنشأكم فِي الأَرْض، وَالْآخر وَهُوَ: أَنه أنشأكم من الأَرْض؛ لِأَنَّهُ خلقهمْ من آدم، وَخلق آدم من الأَرْض.
وَقَوله {واستعمركم فِيهَا} ] فِيهِ [قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَطَالَ عمركم فِيهَا وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يعِيش من ثلثمِائة سنه إِلَى ألف سنة، وَهَكَذَا قوم عَاد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: جعلكُمْ عمارا فِيهَا، بِبِنَاء المساكن وغرس الْأَشْجَار. ذكره الْفراء والزجاج.
وَقَوله: {فاستغفروه ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قد بَينا الْمَعْنى. وَقَوله: {إِن رَبِّي قريب(2/438)
{إِلَيْهِ إِن رَبِّي قريب مُجيب (61) قَالُوا يَا صَالح قد كنت فِينَا مرجوا قبل هَذَا أتنهانا أَن نعْبد مَا يعبد آبَاؤُنَا وإننا لفي شكّ مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ مريب (62) قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي وآتاني مِنْهُ رَحْمَة فَمن ينصرني من الله إِن عصيته فَمَا تزيدونني غير تخسير (63) وَيَا قوم هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة فذروها تَأْكُل فِي أَرض الله وَلَا} مُجيب) قريب من الْمُؤمنِينَ، مُجيب لدعائهم.(2/439)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا صَالح قد كنت فِينَا مرجوا قبل هَذَا} أَي: قد كُنَّا نرجوا فِيك الْخَيْر، والآن قد يئسنا من خيرك وفلاحك. وَقَوله: {أتنهانا أَن نعْبد مَا يعبد آبَاؤُنَا} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وإننا لفي شكّ} لفي ريب {مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ مريب} أَي: مرتاب. وَهَذَا على طَرِيق التَّأْكِيد.(2/439)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي} أَي: على حجَّة من رَبِّي. وَقَوله تَعَالَى: {وآتاني مِنْهُ رَحْمَة} الرَّحْمَة هَاهُنَا: بِمَعْنى النُّبُوَّة.
وَقَوله: {فَمن ينصرني من الله إِن عصيته} أَي: فَمن يمْنَع مني عَذَاب الله إِن عصيته.
وَقَوله: {فَمَا تزيدونني غير تخسير} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: إِن اتبعتكم مَا كنت إِلَّا كمن يزْدَاد خسارا وهلاكا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: فَمَا تزيدونني غير تخسير لكم، وَحَقِيقَته: أَنِّي أطلب مِنْكُم الرشد، وَأَنْتُم تعطونني الخسار والهلاك، يَعْنِي: لأنفسكم.
هَذَا كُله جَوَاب عَن سُؤال من سَأَلَ فِي هَذِه الْآيَة: كَيفَ قَالَ {فَمَا تزيدونني غير تخسير} وَلم يَك صَالح فِي خسار؟(2/439)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
وَقَوله تَعَالَى: {وَيَا قوم هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة} روى أَن قومه طلبُوا مِنْهُ أَن يخرج نَاقَة عشراء من هَذِه الصَّخْرَة الصماء، وأشاروا إِلَى صَخْرَة أمامهم، قَالَ: فَدَعَا صَالح ربه فتمخضت الصَّخْرَة وَسمع لَهَا أَنِين كأنين النَّاقة، ثمَّ خرجت مِنْهَا نَاقَة كأعظم مَا(2/439)
{تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب قريب (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تمَتَّعُوا فِي داركم ثَلَاثَة أَيَّام ذَلِك وعد غير مَكْذُوب (65) فَلَمَّا جَاءَ أمرنَا نجينا صَالحا وَالَّذين آمنُوا مَعَه برحمة منا وَمن خزي يَوْمئِذٍ إِن رَبك هُوَ الْقوي الْعَزِيز (66) وَأخذ الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة} يكون من النوق، وَولدت فِي الْحَال ولدا مثالها، فَهَذَا معنى قَوْله: {هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة} .
وَقَوله: {فذروها تَأْكُل فِي أَرض الله} أَي: فدعوها تَأْكُل فِي أَرض الله. وَقَوله: {وَلَا تمسوها بِسوء} أَي: بإهلاك. وَقَوله {فيأخذكم عَذَاب قريب} مَعْنَاهُ: قريب من إهلاك النَّاقة.(2/440)
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
قَوْله تَعَالَى: {فَعَقَرُوهَا} الْعقر هَا هُنَا: جِرَاحَة تُؤدِّي إِلَى الْهَلَاك.
وَقَوله {فَقَالَ تمَتَّعُوا فِي داركم} مَعْنَاهُ: عيشوا فِي داركم، وَالدَّار بِمَعْنى الديار.
وَقَوله: {ثَلَاثَة أَيَّام ذَلِك وعد غير مَكْذُوب} فَروِيَ أَنه قَالَ لَهُم: يأتيكم الْعَذَاب بعد ثَلَاثَة أَيَّام، فتصبحون الْيَوْم الأول ووجوهكم مصفرة، ثمَّ تُصبحُونَ الْيَوْم الثَّانِي ووجوهكم محمرة، ثمَّ تُصبحُونَ الْيَوْم الثَّالِث ووجوهكم مسودة؛ فَكَانَ كَمَا قَالَ، وأتاهم الْعَذَاب الْيَوْم الرَّابِع.(2/440)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أمرنَا نجينا صَالحا وَالَّذين آمنُوا مَعَه برحمة منا} فِي بعض التفاسير: أَنه آمن مَعَه أَرْبَعَة آلَاف نفر. وَقَوله: {وَمن خزي يَوْمئِذٍ} مَعْنَاهُ: وَمن هَلَاك يَوْمئِذٍ. وَقَوله: {إِن رَبك هُوَ الْقوي الْعَزِيز} قد بَينا معنى الْقوي والعزيز من قبل.(2/440)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
قَوْله تَعَالَى: {وَأخذ الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة} الْمَعْرُوف انه صَاح بهم جِبْرِيل صَيْحَة وَاحِدَة فهلكوا عَن آخِرهم، وَقَالَ بَعضهم: خلق الله تَعَالَى صياحا فِي جَوف بعض الْحَيَوَانَات فأهلكهم، فَإِن قيل: الصَّيْحَة مُؤَنّثَة، وَقد قَالَ: {وَأخذ الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة} ؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الصَّيْحَة هَا هُنَا بِمَعْنى الصياح، وَهُوَ جَائِز فِي اللُّغَة.(2/440)
{فَأَصْبحُوا فِي دِيَارهمْ جاثمين (67) كَأَن لم يغنوا فِيهَا أَلا إِن ثَمُود كفرُوا رَبهم إِلَّا بعدا لثمود (68) وَلَقَد جَاءَت رسلنَا إِبْرَاهِيم بالبشرى قَالُوا سَلاما قَالَ سَلام فَمَا لبث أَن}
وَقَوله: {فَأَصْبحُوا فِي دِيَارهمْ جاثمين} أَي: ميتين. وَيُقَال: إِنَّهُم سقطوا على وُجُوههم موتى عَن آخِرهم، وَمِنْه جثم الطَّائِر. وَمِنْه الْخَبَر الْمَرْوِيّ: " نهى عَن الْمُجثمَة ".(2/441)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
وَقَوله تَعَالَى: {كَأَن لم يغنوا فِيهَا} مَعْنَاهُ: كَأَن لم يقيموا فِيهَا منعمين مسرورين.
وَقَوله: {أَلا إِن ثمودا كفرُوا رَبهم} أَي: برَبهمْ. وَقَوله: {أَلا بعدا لثمود} مَعْنَاهُ كَمَا قدمنَا من قبل.(2/441)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد جَاءَت رسلنَا إِبْرَاهِيم بالبشرى} قَالَ السّديّ: كَانُوا اثنى عشر ملكا. وَقَالَ غَيره: كَانُوا تِسْعَة من الْأَمْلَاك.
وَيُقَال: إِنَّهُم ثَلَاثَة: جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل، وإسرافيل. وَقيل: جَاءُوا على صُورَة الْبشر.
وَفِي الْقِصَّة: أَن إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - كَانَ لَا يَأْكُل إِلَّا مَعَ الضَّيْف، وَمكث خمس عشرَة لَيْلَة وَلم يَأْته ضيف، ثمَّ جَاءَهُ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة. وَقَوله: {بالبشرى} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: بالبشرى بِإسْحَاق، وَالْآخر: بالبشرى بإهلاك قوم لوط.
وَقَوله: {قَالُوا سَلاما} مَعْنَاهُ: قَالُوا سلمنَا سَلاما {قَالَ سَلام} قرئَ بقراءتين: إِحْدَاهمَا: " سَلام " وَهُوَ الْمَعْرُوف، وَالْآخر: " سلم " قِرَاءَة حَمْزَة وَالْكسَائِيّ. أما قَوْله: {سَلام} مَعْنَاهُ: جوابي سَلام، أَو قولي سَلام. أما قَوْله: " سلم " قيل: إِن السّلم وَالسَّلَام بِمَعْنى وَاحِد، كالحل، والحلال، وَالْحرم وَالْحرَام. وَيُقَال: إِن " السّلم " بِمَعْنى(2/441)
{جَاءَ بعجل حنيذ (69) فَلَمَّا رأى أَيْديهم لَا تصل إِلَيْهِ نكرهم وأوجس مِنْهُم خيفة قَالُوا لَا تخف إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم لوط (70) وَامْرَأَته قَائِمَة فَضَحكت فبشرناها بِإسْحَاق وَمن} الصُّلْح، فَمَعْنَاه: أَنا أطلب السَّلامَة مِنْكُم.
وَقَوله: {فَمَا لبث أَن جَاءَ بعجل حنيذ} فَهَذَا دَلِيل على ان الضَّيْف يَنْبَغِي أَن يعجل لَهُ [بِشَيْء] يَأْكُلهُ، وَهُوَ سنة إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَقَوله: {أَن جَاءَ بعجل حنيذ} الْعجل: ولد الْبَقَرَة، والحنيذ: هُوَ المحنوذ، وَهُوَ المشوي على الْحِجَارَة المحماة يخد لَهُ فِي الأَرْض خدا فيشوى فِيهِ. وَرُوِيَ أَنه كَانَ سمينا يسيل دسما.(2/442)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رأى أَيْديهم لَا تصل إِلَيْهِ} أَي: لما رَآهُمْ لَا يَأْكُلُون؛ فَإِن الْمَلَائِكَة لَا تَأْكُل. قَوْله: {نكرهم} أَي: أنكرهم، قَالَ الشَّاعِر:
(فأنكرتني وَمَا كَانَ الَّذِي نكرت ... من الْحَوَادِث إِلَّا الشيب والصلعا)
وَقَوله: {وأوجس مِنْهُم خيفة} كَانَ إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - نازلا على طرف من النَّاس، فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْقَوْم وَلم يَأْكُلُوا خَافَ انهم جَاءُوا لبلية وَقصد مَكْرُوه، وَعَادَة الْعَرَب أَن الْقَوْم إِذا أكلُوا من الطَّعَام أمنُوا مِنْهُم، وَإِذا لم يَأْكُلُوا استشعروا خوفًا، فَهَذَا معنى قَوْله: {وأوجس مِنْهُم خيفة} وَقَوله: {وأوجس} أَي: فاضمر مِنْهُم خوفًا. وَقَوله: {قَالُوا لَا تخف إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم لوط} مَعْنَاهُ: إِنَّا مَلَائِكَة أرسلنَا رَبنَا إِلَى قوم لوط.(2/442)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
وَقَوله: {وَامْرَأَته قَائِمَة} فِي مصحف ابْن مَسْعُود: " وَامْرَأَته قَائِمَة وَهُوَ قَاعد " وَهِي سارة بنت هاران، فَيُقَال: إِن سارة كَانَت تخدمهم وَإِبْرَاهِيم يتحدث مَعَهم. وَيُقَال: إِن سارة كَانَت قَائِمَة وَرَاء السّتْر.
قَوْله: {فَضَحكت} الْأَكْثَرُونَ على أَن الضحك هَاهُنَا هُوَ الضحك الْمَعْرُوف، وَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة: فَضَحكت، أَي: حَاضَت. يُقَال: ضحِكت الأرنب، إِذا حَاضَت.(2/442)
{وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب (71) قَالَت يَا ويلتي أألد وَأَنا عَجُوز وَهَذَا بعلي شَيخا إِن هَذَا}
وَأما الضحك الْمَعْرُوف فَاخْتلف القَوْل فِي أَنَّهَا لم ضحِكت؟
فالأكثرون على أَنَّهَا ضحِكت سُرُورًا بِمَا زَالَ من الْخَوْف عَنْهَا وَعَن إِبْرَاهِيم. وَقيل: بِبِشَارَة إِسْحَاق. وعَلى هَذَا القَوْل: الْآيَة على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَامْرَأَته قَائِمَة فبشرناها بِإسْحَاق وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب فَضَحكت.
وَالْقَوْل الثَّالِث: ضحِكت تَعَجبا من غَفلَة قوم لوط، وَقد نزلت الْمَلَائِكَة بعذابهم.
وَقَوله {فبشرناها بِإسْحَاق} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله {وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب} أَي: من بعد إِسْحَاق يَعْقُوب. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الوراء: ولد الْوَلَد.
وَقَوله {يَعْقُوب} قرئَ بقراءتين: " يَعْقُوب " و " يَعْقُوب " بِالرَّفْع وَالنّصب أما الرّفْع مَعْنَاهُ: وَيحدث يَعْقُوب من بعد إِسْحَاق. وَأما النصب فَمَعْنَاه: بشرناها بِإسْحَاق وبشرناها بِيَعْقُوب. وَأنْشد الشَّاعِر فِي الوراء:
(حَلَفت فَلم أترك لنَفسك رِيبَة ... وَلَيْسَ وَرَاء الله للمرء مَذْهَب)
وَهَذَا شعر الْأَعْشَى.(2/443)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَت يَا ويلتي أألد وانا عَجُوز وَهَذَا بعلي شَيخا} قَالُوا: أصل قَوْله: {يَا ويلتي} : يَا ويلتي؛ إِلَّا أَن هَا هُنَا أبدل الْألف عَن الْيَاء. وَمعنى قَوْله: {يَا ويلتي} هَاهُنَا: اعجبا؛ وَهَذِه كلمة يَقُولهَا الْإِنْسَان عِنْد رُؤْيَة مَا يتعجب مِنْهُ، وَلَيْسَ على حَقِيقَة الدُّعَاء بِالْوَيْلِ.
وَقَوله تَعَالَى: {أألد وَأَنا عَجُوز} اخْتلفُوا فِي سنّ إِبْرَاهِيم وَسَارة فِي ذَلِك الْوَقْت.
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: كَانَ سنّ إِبْرَاهِيم مائَة وَعشْرين سنة، وَسن سارة تسعين سنة. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ سنّ إِبْرَاهِيم مائَة سنة، وَسن سارة تِسْعَة وَتِسْعين سنة. وَقيل غير هَذَا، وَالله أعلم.(2/443)
{لشَيْء عَجِيب (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله رحمت الله وَبَرَكَاته عَلَيْكُم أهل الْبَيْت إِنَّه حميد مجيد (73) فَلَمَّا ذهب عَن إِبْرَاهِيم الروع وجاءته الْبُشْرَى يجادلنا فِي قوم}
قَوْله تَعَالَى {وَهَذَا بعلي} يَعْنِي: هَذَا زَوجي {شَيخا} نصب على الْقطع، وَقيل: على الْحَال.
وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " وَهَذَا بعلي شيخ " على الْخَبَر. قَوْله تَعَالَى {إِن هَذَا لشَيْء عَجِيب} يَعْنِي: إِن هَذَا لشَيْء مستعجب بِخِلَاف الْعَادة.(2/444)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
قَوْله: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله} مَعْنَاهُ: لَا تعجبي من أَمر الله؛ فَإِن الله إِذا أَرَادَ شَيْئا كَانَ.
وَقَوله تَعَالَى: {رَحْمَة الله وَبَرَكَاته عَلَيْكُم أهل الْبَيْت} فِيهِ مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: أَن هَذَا على معنى الدُّعَاء من الْمَلَائِكَة.
وَالْآخر: أَنه على معنى الْخَبَر، و {رَحْمَة الله} أَي: نعْمَة الله {وَبَرَكَاته} والبركات: جمع الْبركَة، وَالْبركَة: ثُبُوت الْخَيْر. وَقيل: وَبَرَكَاته: سعاداته.
وَقَوله: {عَلَيْكُم أهل الْبَيْت} هَذَا دَلِيل على أَن الْأزْوَاج يجوز أَن يسمين أهل الْبَيْت.
وَزَعَمت الشِّيعَة فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} أَن الْأزْوَاج لَا يدخلن فِي هَذَا. وَهَذِه الْآيَة دَلِيل على أَنَّهُنَّ يدخلن فِيهَا.
قَوْله: {إِنَّه حميد مجيد} الحميد: هُوَ الْمَحْمُود فِي أَفعاله، والمجيد: هُوَ الْكَرِيم، وأصل الْمجد هُوَ الرّفْعَة والشرف.(2/444)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا ذهب عَن إِبْرَاهِيم الروع} قَالَ قَتَادَة: الروع: الْفَزع؛ وَأما الروع بِالرَّفْع هُوَ النَّفس، وَمِنْه قَوْله: " ألْقى روح الْقُدس فِي روعي: (أَن لن) تَمُوت(2/444)
{لوط (74) إِن إِبْرَاهِيم لحليم أَواه منيب (75) يَا إِبْرَاهِيم أعرض عَن هَذَا إِنَّه قد جَاءَ} نفس حَتَّى تستكمل رزقها، فَاتَّقُوا الله واجملوا فِي الطّلب ". وَقَوله: {وجاءته الْبُشْرَى} قيل: إِن الْبُشْرَى بِإسْحَاق وَيَعْقُوب. وَقيل: إِنَّهَا بإهلاك قوم لوط. وَقَوله: {يجادلنا} مَعْنَاهُ: جعل إِبْرَاهِيم يجادلنا، والمجادلة هَاهُنَا كَمَا قَالَ فِي سور الذاريات وَالْحجر: {قَالَ فَمَا خطبكم أَيهَا المُرْسَلُونَ} فَإِن قيل: كَيفَ يجوز أَن يُجَادِل إِبْرَاهِيم ربه فِي شَيْء قَضَاهُ وَأمر بِهِ؟
الْجَواب: أَن هَذِه المجادلة كَانَت مَعَ اللائكة لَا مَعَ الرب، وَإِنَّمَا قَالَ: {يجادلنا} على توسع الْكَلَام. وَفِي التَّفْسِير: أَن مجادلته كَانَت أَنه قَالَ للْمَلَائكَة: أَرَأَيْتُم لَو كَانَ فِي مَدَائِن قوم لوط خَمْسُونَ من الْمُؤمنِينَ أتهلكونهم؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتُم إِن كَانَ فيهم أَرْبَعُونَ أتهلكونهم؟ قَالُوا: لَا، فَمَا زَالَ ينقص عشرَة عشرَة حَتَّى بلغ خَمْسَة نفر وَكَانَ عِنْد إِبْرَاهِيم أَن امْرَأَة لوط مُؤمنَة. وَكَانَت هِيَ الْخَامِسَة، وَلم يعلم أَنَّهَا كَافِرَة، فَمَا بلغ عدد الْمُؤمنِينَ خَمْسَة {فِي قوم لوط} .(2/445)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
وَقَوله تَعَالَى {إِن إِبْرَاهِيم لحليم أَواه منيب} قد بَينا من قبل. وَرُوِيَ عَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ قَالَ: الْمُنِيب هُوَ الَّذِي يكون قلبه مَعَ الله تَعَالَى. وَحَقِيقَة الْإِنَابَة: هِيَ الرُّجُوع، يُقَال: نَاب وآب وأناب، إِذا رَجَعَ.(2/445)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
قَوْله تَعَالَى {يَا إِبْرَاهِيم أعرض عَن هَذَا} معنى الْآيَة: أَن الْمَلَائِكَة قَالُوا: يَا إِبْرَاهِيم أعرض عَن المجادلة.
قَوْله: {إِنَّه قد جَاءَ أَمر رَبك} أَي: قَضَاء رَبك وَحكم رَبك. وَقَوله: {وَإِنَّهُم(2/445)
{أَمر رَبك وَإِنَّهُم آتيهم عَذَاب غير مَرْدُود (76) وَلما جَاءَت رسلنَا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وَقَالَ هَذَا يَوْم عصيب (77) وجاءه قومه يهرعون إِلَيْهِ وَمن قبل كَانُوا} آتيهم عَذَاب غير مَرْدُود) أَي: غير مَصْرُوف عَنْهُم.(2/446)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
قَوْله: {لما جَاءَت رسلنَا لوطا} هَؤُلَاءِ الرُّسُل هم الَّذين كَانُوا عِنْد إِبْرَاهِيم جَاءُوا لوطا على صُورَة غلْمَان مرد، حسن وُجُوههم، نظيف ثِيَابهمْ، طيب [روائحهم] .
وَفِي الْقِصَّة: أَنهم لقوا لوطا وَهُوَ يحتطب واستضافوه، فَحمل الْحَطب وَتَبعهُ الْمَلَائِكَة، فَمر مَعَهم على جمَاعَة من قومه فغمزوا فِيمَا بَينهم، فَقَالَ لوط لَهُم: إِن قومِي شَرّ خلق الله، ثمَّ إِنَّه مر مَعَهم على قوم آخَرين مِنْهُم، فغمزوا - أَيْضا - فِيمَا بَينهم، فَقَالَ لوط - ثَانِيًا -: إِن قومِي شَرّ خلق الله تَعَالَى، ثمَّ إِنَّه مر مَعَهم على قوم آخَرين، فتغامزوا فِيمَا بَينهم - أَيْضا - فَقَالَ لوط - ثَالِثا -: إِن قومِي شَرّ خلق الله، وَكَانَ الله تَعَالَى قَالَ لجبريل: لَا تهلكهم حَتَّى يشْهد لوط عَلَيْهِم ثَلَاث مَرَّات، فَكَانَ كلما قَالَ لوط هَذَا القَوْل قَالَ جِبْرِيل للْمَلَائكَة الَّذين مَعَه: اشْهَدُوا.
وَقَوله: {سيء بهم} مَعْنَاهُ: سَاءَهُ مجيئهم. وَقَوله: {وضاق بهم ذرعا} يُقَال: ضَاقَ ذرعاً فلَان بِكَذَا إِذا وَقع فِي مَكْرُوه لَا يُطيق الْخَلَاص عَنهُ.
وَمعنى الْآيَة هَاهُنَا: أَنه ضَاقَ ذرعا فِي حفظهم وَمنع القَوْل مِنْهُم.
قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ هَذَا يَوْم عصيب} أَي: شَدِيد. قَالَ الشَّاعِر:
(فَإنَّك إِن لم ترض بكر بن وَائِل ... يكن لَك يَوْم بالعراق عصيب)
أَي: شَدِيد. وَقَالَ آخر:
(يَوْم عصيب يعصب الأبطالا ... عصب القوى السّلم الطوالا)(2/446)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
قَوْله تَعَالَى: {وجاءه قومه يهرعون إِلَيْهِ} الْآيَة، يهرعون إِلَيْهِ مَعْنَاهُ: يسرعون ويهرولون؛ وَقد بَينا أَن لوطا قد مر مَعَهم بهم. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن الْمَلَائِكَة جَاءُوا إِلَى بَيت لوط - عَلَيْهِ السَّلَام - وَكَانَ لوط فِي دَاره، فَذَهَبت امْرَأَته السوء الْكَافِرَة إِلَى قومه وَأَخْبَرتهمْ مَجِيء هَؤُلَاءِ فَلَمَّا سمعُوا جَاءُوا لقصد الْفَاحِشَة.(2/446)
{يعْملُونَ السَّيِّئَات قَالَ يَا قوم هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هن أطهر لكم فَاتَّقُوا الله وَلَا تخزون فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُم رجل رشيد (78) قَالُوا لقد علمت مَا لنا فِي بناتك من حق وَإنَّك لتعلم مَا}
وَقَوله: {وَمن قبل كَانُوا يعْملُونَ السَّيِّئَات} يَعْنِي: الْفَوَاحِش؛ وَهِي: إتْيَان الرِّجَال.
وَقَوله: {قَالَ يَا قوم هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هن أطهر لكم} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه عرض عَلَيْهِم بَنَات نَفسه تزويجا ونكاحا؛ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يجوز للمشرك أَن يتَزَوَّج بِمسلمَة؟
وَالْجَوَاب: أَن ذَلِك كَانَ جَائِزا فِي شريعتهم. وَمِنْهُم من قَالَ: عرض عَلَيْهِم بِشَرْط الْإِسْلَام.
وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ قَول مُجَاهِد، وَسَعِيد بن جُبَير، وَغَيرهمَا -: أَنه عرض عَلَيْهِم نِسَاءَهُمْ، وسماهن بَنَات نَفسه؛ لِأَن النَّبِي للْأمة بِمَنْزِلَة الْأَب؛ وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وَهُوَ أَب لَهُم ". وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا على طَرِيق الدّفع، لَا على طَرِيق التَّحْقِيق، وَلم يرْضوا هَذَا القَوْل؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْصُوما من الْكَذِب. وَقَوله: {هن أطهر لكم} مَعْنَاهُ: أحل لكم.
قَوْله: {فَاتَّقُوا الله وَلَا تخزون فِي ضَيْفِي} مَعْنَاهُ: خَافُوا الله وَلَا تفضحوني فِي أضيافي. {أَلَيْسَ مِنْكُم رجل رشيد} مَعْنَاهُ: أَلَيْسَ مِنْكُم رجل يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَيدْفَع الْقَوْم عَن أضيافي. وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: معنى قَوْله: {أَلَيْسَ مِنْكُم رجل رشيد} مَعْنَاهُ: أَلَيْسَ فِيكُم رجل يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله.(2/447)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
قَوْله: {قَالُوا لقد علمت مَا لنا فِي بناتك من حق} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: مَا لنا فِي بناتم من حق، أَي: حَاجَة وشهوة.
وَالثَّانِي: مَا لنا فِي بناتك من حق، أَي: من نِكَاح. وَقَوله {وَإنَّك لتعلم مَا نُرِيد} مَعْنَاهُ: إِنَّا نُرِيد أدبار الرِّجَال.(2/447)
{نُرِيد (79) قَالَ لَو أَن لي بكم قُوَّة أَو آوي إِلَى ركن شَدِيد (80) قَالُوا يَا لوط إِنَّا رسل رَبك لن يصلوا إِلَيْك فَأسر بأهلك بِقطع من اللَّيْل وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد إِلَّا امْرَأَتك إِنَّه}(2/448)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لَو أَن لي بكم قُوَّة أَو آوي إِلَى ركن شَدِيد} الْقُوَّة هَاهُنَا: هِيَ الْقُوَّة فِي الْبدن، أَو الْقُوَّة بالأتباع. والركن الشَّديد: المنعة بالعشيرة.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رحم الله أخي لوطا؛ لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد " أَي: إِلَى الله. رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة.
وَعَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: مَا بعث الله بعد ذَلِك نَبيا إِلَّا فِي مَنْعَة من قومه.(2/448)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا لوط إِنَّا رسل رَبك لن يصلوا إِلَيْك} . روى أَنهم جَاءُوا وكسروا بَاب لوط وقصدوا الدُّخُول. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَنهم كَانُوا ينازعون مَعَ لوط على الْبَاب، فَقَالَ جِبْرِيل: يَا لوط، افْتَحْ الْبَاب ودعهم يدخلُوا، فَلَمَّا دخلُوا ضرب بجناحه وُجُوههم فعموا كلهم، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد راودوه عَن ضَيفه فطمسنا أَعينهم} فَقَالُوا: يَا لوط، لقد جئتنا بِقوم سحرة، سترى مَا تلقى منا غَدا، وَكَانُوا جَاءُوا مسَاء. وَقَوله: {لن يصلوا إِلَيْك} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَقَوله: {فَأسر بأهلك بِقطع من اللَّيْل} قرئَ: " فسر " من السرى، و " فَأسر " من الْإِسْرَاء؛ والسرى: هُوَ السّير بِاللَّيْلِ. وَقَالَ الشَّاعِر:
(عِنْد الصَّباح يحمد الْقَوْم السرى ... وتنجلي عني غيابات الْكرَى)
وَقَوله: {أسر} من الْإِسْرَاء، والمعنيان وَاحِد. وَقَوله: {بِقطع من اللَّيْل} أَي: بآخر اللَّيْل. وَقيل: إِنَّه السحر الأول. قَالَ الشَّاعِر:
(ونائحة تنوح بِقطع ليل ... على ميت بقارعة الصَّعِيد)(2/448)
{مصيبها مَا أَصَابَهُم إِن موعدهم الصُّبْح أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب (81) فَلَمَّا جَاءَ أمرنَا جعلنَا عاليها سافلها وأمطرنا عَلَيْهَا حِجَارَة من سجيل منضود}
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد إِلَّا امْرَأَتك} بِالرَّفْع، وَقُرِئَ: " إِلَّا امْرَأَتك " بِالنّصب؛ فَقَوله بِالنّصب مَعْنَاهُ: فَأسر بأهلك إِلَّا امْرَأَتك. وَمن قَرَأَ بِالرَّفْع مَعْنَاهُ: وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد إِلَّا امْرَأَتك؛ فَإِنَّهَا تلْتَفت؛ فَروِيَ أَنَّهَا لما سَمِعت الهدة فِي هَلَاك الْقَوْم التفتت وَرَاءَهَا فأصابها حجر فَمَاتَتْ، وَقد كَانَ الله أَمر لوطا وَأَهله أَن لَا يلتفتوا. وَقَوله: {إِنَّه مصيبها مَا أَصَابَهُم} ظَاهر الْمَعْنى. قَوْله: {إِن موعدهم الصُّبْح} رُوِيَ أَن لوطا - عَلَيْهِ السَّلَام - لما سمع هَذَا من جِبْرِيل قَالَ: يَا جِبْرِيل، أُرِيد أَن تهلكهم الْآن فَقَالَ لَهُ مجيبا: {أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب} ؟(2/449)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أمرنَا} أَي: عذابنا. وَقَوله: {جعلنَا عاليها سافلها} رُوِيَ أَن جِبْرِيل جعل جنَاحه تَحت مدائ لوط، وَهِي خمس مَدَائِن، وفيهَا أَرْبَعمِائَة ألف، وَقيل: فِيهَا أَرْبَعَة آلَاف ألف - ثمَّ رفع الْمَدَائِن حَتَّى قربت من السَّمَاء وَسمع أهل السَّمَاء صياح الديكة ونباح الْكلاب، وَرُوِيَ أَنه لم يكفأ لَهُم إِنَاء وَلَا انتبه لَهُم نَائِم، ثمَّ قَلبهَا وأتبعهم الله تَعَالَى بِالْحِجَارَةِ، هَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {جعلنَا عاليها سافلها وأمطرنا عَلَيْهَا حِجَارَة من سجيل} .
وَقَوله: {من سجيل} قَالَ ابْن عَبَّاس: سنك وكل؛ وَكلمَة سجيل فارسية معربة.
وَقيل: إِنَّه كَانَ طينا مطبوخا كالآجر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن السجيل هُوَ السَّمَاء الدُّنْيَا.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن السجيل هُوَ السجين؛ أبدلت النُّون بِاللَّامِ. وَقيل: إِن السجيل: مَأْخُوذ من السّجل؛ وَهُوَ سجل الدَّلْو. قَالَ الشَّاعِر:
(وَأَنا الْأَخْضَر من يعرفنِي ... أَخْضَر الْجلْدَة من بَيت الْعَرَب)(2/449)
{مسومة عِنْد رَبك وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد (83) وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا قَالَ يَا قوم}
(من يساجلني يساجل ماجدا ... يمْلَأ الدَّلْو إِلَى عقد الكرب)
وَمعنى السجيل فِي الْآيَة: هُوَ الْإِرْسَال، يَعْنِي: إرْسَال الْحِجَارَة.
وَقَوله: {منضود} مَعْنَاهُ: يتبع بَعْضهَا بَعْضًا.(2/450)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
وَقَوله: {مسومة} أَي: معلمة. وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ عَلَيْهَا خطوط حمر فِي سَواد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: " مسومة " أَي: عَلَيْهَا أَسمَاء الْقَوْم. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَنه كَانَ عَلَيْهَا شبه الخواتيم.
قَوْله: {عِنْد رَبك} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: {وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد} يَعْنِي: من ظالمي أهل مَكَّة بِبَعِيد.
وَقد رُوِيَ فِي بعض الْآثَار: أَن على رَأس كل ظَالِم حجرا مُعَلّقا فِي السَّمَاء ينْتَظر أَمر الله تَعَالَى. وَهَذَا من الغرائب، وَالله أعلم.
وَفِي بعض الْقَصَص: أَنه كَانَ مِنْهُم رجل فِي الْحرم، فَبَقيَ الْحجر مُعَلّقا فِي السَّمَاء أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى خرج الرجل [وأصابه الْحجر] . وَرُوِيَ أَن الْحجر اتبع شرادهم ومسافريهم أَيْن كَانُوا فِي الْبِلَاد حَتَّى هَلَكُوا.
وَأورد بَعضهم أَن الله تَعَالَى أهلك مَدَائِن لوط سوى زعر، فَإِنَّهُ أبقاها للوط وَأَهله.(2/450)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا} قد بَينا أَن الْأُخوة هَاهُنَا هِيَ الْأُخوة فِي النّسَب لَا فِي الدّين. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه لم يكن بَين شُعَيْب وَأهل مَدين أخوة فِي النّسَب - أَيْضا - وَكَانَ غَرِيبا فيهم، وَإِنَّمَا أَرَادَ بالأخوة المجانسة فِي البشرية. وَالصَّحِيح هُوَ الأول.(2/450)
{اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره وَلَا تنقصوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَان إِنِّي أَرَاكُم بِخَير وَإِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم مُحِيط (84) وَيَا قوم أَوْفوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين (85) بقيت الله خير لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ (86) قَالُوا يَا شُعَيْب أصلاتك تأمرك أَن نَتْرُك مَا}
وَقَوله: {قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره} ظَاهر الْمَعْنى. قَول: {وَلَا تنقصوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَان} مَعْنَاهُ: وَلَا تبخسوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَان. وَكَانُوا مَعَ شركهم يُطَفِّفُونَ فِي الْمِكْيَال وَالْمِيزَان. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمر أَنه كَانَ إِذا مر بِالسوقِ قَالَ: أَيهَا الباعة، أَوْفوا الْكَيْل وأوفوا الْوَزْن، وَقد سَمِعْتُمْ مَا فعل الله بِقوم شُعَيْب.
وَعَن ابْن عَبَّاس قريب من هَذَا.
وَقَوله: {إِنِّي أَرَاكُم بِخَير} قَالَ مُجَاهِد: أَي: بخصب وسعة.
وَقَوله: {وَإِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم مُحِيط} أَي: مُحِيط بكم فيهلككم.(2/451)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم أَوْفوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ.
وَقيل: تَقْوِيم لِسَان الْمِيزَان. وَقَوله: {وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم} أَي: لَا تنقصوا النَّاس أشياءهم. وَقَوله: {وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين} .(2/451)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
قَوْله تَعَالَى: {بَقِيَّة الله خير لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين} مَعْنَاهُ: مَا أبقى الله لكم من الْحَلَال خير مِمَّا تأخذون بالبخس فِي الْمِكْيَال وَالْمِيزَان. وَقيل: بَقِيَّة الله: طَاعَة الله. وَقَوله: {إِن كُنْتُم مُؤمنين} أَي: إِن كُنْتُم مُؤمنين أَن مَا عنْدكُمْ من رزق الله تَعَالَى وعطائه.
قَوْله: {وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ} قيل مَعْنَاهُ: لم أُؤمر بقتالكم. وَقيل: مَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ أَي: بوكيل.(2/451)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا شُعَيْب أصلاتك تأمرك أَن نَتْرُك} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أدينك يَأْمُرك؟ ، وَالثَّانِي: أقرآنك يَأْمُرك أَن نَتْرُك {مَا يعبد آبَاؤُنَا أَو أَن(2/451)
{يعبد آبَاؤُنَا أَو أَن نَفْعل فِي أَمْوَالنَا مَا نشَاء إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد (87) قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رزقا حسنا وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أنهاكم عَنهُ إِن أُرِيد إِلَّا الْإِصْلَاح مَا اسْتَطَعْت وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب (88) وَيَا قوم لَا يجرمنكم شقاقي أَن يُصِيبكُم مثل مَا أصَاب قوم نوح أَو قوم} نَفْعل فِي أَمْوَالنَا مَا نشَاء) يَعْنِي: من النُّقْصَان وَالزِّيَادَة: وَقيل: من قرض الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير، وَكَانَ قد نَهَاهُم عَن ذَلِك، وَزعم أَنه محرم عَلَيْهِم.
وَقَوله: {إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد فِي زعمك؛ قَالُوا ذَلِك استهزاء.
وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: إِنَّك لأَنْت السَّفِيه الأحمق.(2/452)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي} مَعْنَاهُ: على بَيَان من رَبِّي.
وَقَوله: {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رزقا حسنا} مَعْنَاهُ: رزقا حَلَالا. وَفِي الْقِصَّة: أَن شعيبا كَانَ كثير المَال. وَقيل: الرزق الْحسن هَاهُنَا: هُوَ النُّبُوَّة.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أنهاكم عَنهُ} مَعْنَاهُ: مَا أُرِيد أَن آمركُم بِشَيْء وأعمل خِلَافه.
وَقَوله: {إِن أُرِيد إِلَّا الْإِصْلَاح مَا اسْتَطَعْت} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: {وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه} دَلِيل على أَن الطَّاعَة لَا يُؤْتى بهَا إِلَّا بِتَوْفِيق الله، والتوفيق من الله: هُوَ التسهيل والتيسير والمعونة.
قَوْله تَعَالَى: {عَلَيْهِ توكلت} أَي: عَلَيْهِ اعتمدت.
وَقَوله: {وَإِلَيْهِ أنيب} مَعْنَاهُ: إِلَيْهِ أرجع.(2/452)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
قَوْله: {وَيَا قوم لَا يجرمنكم شقاقي} مَعْنَاهُ: لَا يكسبنكم وَلَا يحملنكم شقاقي أَي: خلافي على فعل {أَن يُصِيبكُم} فيصيبكم {مثل مَا أصَاب قوم نوح} من(2/452)
{هود أَو قوم صَالح وَمَا قوم لوط مِنْكُم بِبَعِيد (89) وَاسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِن رَبِّي رَحِيم ودود (90) قَالُوا يَا شُعَيْب مَا نفقه كثيرا مِمَّا تَقول وَإِنَّا لنراك فِينَا ضَعِيفا} الْغَرق {أَو قوم هود} من الرّيح {أَو قوم صَالح} من الصَّيْحَة الصعقة. وَقَوله {وَمَا قوم لوط مِنْكُم بِبَعِيد} قيل: إِنَّهُم كَانُوا جيران قوم لوط فِي الديار، وَكَانَت مدائنهم قَرِيبا بَعْضهَا من بعض.(2/453)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قد بَينا الْمَعْنى. وَقَوله: {إِن رَبِّي رَحِيم ودود} فِي الْوَدُود مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: أَن الْوَدُود هُوَ الْمُحب لِعِبَادِهِ.
وَالثَّانِي: أَو الْوَدُود بِمَعْنى المودود أَي: يُحِبهُ الْعباد لفضله وإحسانه.
وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " أَحبُّوا الله بِمَا يغذوكم بِهِ مِنْهُ نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بَيْتِي لحبي ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " كَانَ شُعَيْب خطيب الْأَنْبِيَاء ".(2/453)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا شُعَيْب مَا نفقه كثيرا مِمَّا تَقول} مَعْنَاهُ: مَا نفهم كثيرا مِمَّا تَقول. وَقَوله: {وَإِنَّا لنراك فِينَا ضَعِيفا} فِي الضَّعِيف أَقْوَال، أَكثر الْمُفَسّرين أَن الضَّعِيف هَاهُنَا: هُوَ ضَرِير بالبصر. وَيُقَال: إِنَّه لُغَة حمير.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الضَّعِيف هُوَ الضَّعِيف فِي الْبدن.
وَالثَّالِث: أَنه قَلِيل الأتباع.(2/453)
{وَلَوْلَا رهطك لرجمناك وَمَا أَنْت علينا بعزيز (91) قَالَ يَا قوم أرهطي أعز عَلَيْكُم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إِن رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيط (92) وَيَا قوم اعْمَلُوا على}
وَقَوله: {وَلَوْلَا رهطك لرجمناك} أَي: وَلَوْلَا عشيرتك لرجمناك، وَالرَّجم أقبح القتلات. وَقَوله: {وَمَا أَنْت علينا بعزيز} يَعْنِي: مَا أَنْت عندنَا بعزيز، وَإِنَّمَا نَتْرُكك لمَكَان رهطك.(2/454)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم أرهطي أعز عَلَيْكُم من الله} مَعْنَاهُ: أمكان رهطي عنْدكُمْ أهيب وَأَمْنَع من الله تَعَالَى؟ وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنكُمْ تركْتُم قَتْلِي بمَكَان رهطي فَأولى أَن تحفظوني فِي الله تَعَالَى.
وَقَوله: {واتخذتموه وراءكم ظهريا} مَعْنَاهُ: وألقيتم أَمر الله تَعَالَى وَرَاء ظهوركم. يُقَال: فلَان جعل كَذَا مِنْهُ ظهريا أَي: أَلْقَاهُ وَرَاء ظَهره.
وَقَوله: {إِن رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيط} ظَاهر الْمَعْنى.
وَذكر الْأَزْهَرِي فِي تَقْدِير الْآيَة وَمَعْنَاهَا قَالَ: إِنَّكُم تَزْعُمُونَ أَنكُمْ تتركون قَتْلِي لكرامة رهطي، فَأولى أَن تكرموا أَمر الله وتتبعوه؛ وَحَقِيقَة الْمَعْنى: هُوَ الْإِنْكَار على من اتَّقى النَّاس وَلم يتق الله. قَالَ: وَقَوله: {واتخذتموه وراءكم ظهريا} تَقول الْعَرَب: فلَان جعل كَذَا بِظهْر إِذا تَركه وَلم يلْتَفت إِلَيْهِ. قَالَ الشَّاعِر:
(تَمِيم بن قيس لَا تكونن حَاجَتي ... بِظهْر فَلَا يعيا على جوابها)(2/454)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم اعْمَلُوا على مكانتكم} قيل: المكانة: هِيَ الْحَالة الَّتِي يتَمَكَّن فِيهَا الْمَرْء من الْفِعْل) .
وَمعنى الْآيَة: اعْمَلُوا على تمكنكم ومنزلتكم {إِنِّي عَامل} على تمكني ومنزلتي {سَوف تعلمُونَ} من ينجو وَمن يهْلك.
وَالْآيَة فِيهَا تهديد ووعيد شَدِيد، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآن {سَوف تعلمُونَ} إِلَّا فِي هَذِه الْآيَة.(2/454)
{مكانتكم إِنِّي عَامل سَوف تعلمُونَ من يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه وَمن هُوَ كَاذِب وارتقبوا إِنِّي مَعكُمْ رَقِيب (93) وَلما جَاءَ أمرنَا نجينا شعيبا وَالَّذين آمنُوا مَعَه برحمة منا وَأخذت الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة فَأَصْبحُوا فِي دِيَارهمْ جاثمين (94) كَأَن لم يغنوا فِيهَا أَلا بعدا لمدين كَمَا بَعدت ثَمُود (95) وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين (96) إِلَى}
وَقَوله تَعَالَى: {من يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه} يذله ويفضحه {وَمن هُوَ كَاذِب} فِيهِ حذف، وَتَقْدِير الْآيَة: سَوف تعلمُونَ من يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه، وَمن هُوَ كَاذِب يخزى أَيْضا.
وَقَوله: {وارتقبوا إِنِّي مَعكُمْ رَقِيب} يَعْنِي: انتظروا إِنِّي مَعكُمْ منتظر.(2/455)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
قَوْله تَعَالَى: {وَلما جَاءَ أمرنَا} مَعْنَاهُ: لما جَاءَ وَقت عذابنا {نجينا شعيبا وَالَّذين آمنُوا مَعَه برحمة منا وَأخذت الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة} والصيحة: الْهَلَاك، تَقول الْعَرَب: صَاح فلَان فِي مَال فلَان أَي: أهلكه، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(فدع عَنْك نهبا صِيحَ فِي حجراته ... وَلَكِن حَدِيثا مَا حَدِيث الرَّوَاحِل)
رُوِيَ أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - تمثل بِهَذَا الْبَيْت فِي بعض أُمُوره.
وَيُقَال: إِن الصَّيْحَة هَاهُنَا صَيْحَة جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - صَاح بهم صَيْحَة وَاحِدَة فماتوا عَن آخِرهم، فَهَذَا معنى قَوْله: {فَأَصْبحُوا فِي دِيَارهمْ جاثمين} أَي: ميتين خامدين، لَا يتحركون.(2/455)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
قَوْله: {كَأَن لم يغنوا فِيهَا} مَعْنَاهُ: كَأَن لم يَكُونُوا يُقِيمُونَ فِيهَا منعمين مسرورين.
وَقَوله: {أَلا بعدا لمدين كَمَا بَعدت ثَمُود} مَعْنَاهُ: أَلا خيبة وهلاكا لمدين كَمَا خابت وَهَلَكت ثَمُود.(2/455)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين} مَعْنَاهُ: بِآيَاتِنَا التسع، وسلطان مُبين أَي: حجَّة بَيِّنَة، وكل سُلْطَان ذكر فِي الْقُرْآن فَهُوَ بِمَعْنى الْحجَّة. وَقيل:(2/455)
{فِرْعَوْن وملئه فاتبعوا أَمر فِرْعَوْن وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد (97) يقدم قومه يَوْم الْقِيَامَة فأوردهم النَّار وَبئسَ الْورْد المورود (98) وأتبعوا فِي هَذِه لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة بئس الرفد المرفود (99) ذَلِك من أنباء الْقرى نَقصه عَلَيْك مِنْهَا قَائِم وحصيد (100) وَمَا}
السُّلْطَان مَأْخُوذ من السليط، وَهُوَ الزَّيْت الَّذِي يستضاء بِهِ.(2/456)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
قَوْله: {إِلَى فِرْعَوْن وملئه} وملأه مَعْلُوم. قَوْله: {فاتبعوا أَمر فِرْعَوْن وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد} مَعْنَاهُ: اتبعُوا أَمر فِرْعَوْن فِي اتِّخَاذه إِلَهًا وَترك الْإِيمَان بمُوسَى {وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد} أَي: بمرشد إِلَى خير وَصَلَاح.(2/456)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
قَوْله تَعَالَى: {يقدم قومه يَوْم الْقِيَامَة} مَعْنَاهُ: يتَقَدَّم قومه يَوْم الْقِيَامَة {فأوردهم النَّار} فأدخلهم النَّار. {وَبئسَ الْورْد المورود} مَعْنَاهُ: بئس الدَّاخِل وَبئسَ الْمدْخل.
وَفِي بعض المسانيد: عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة جمع الله الْخَلَائق فِي صَعِيد وَاحِد، ثمَّ يرفع لكل قوم آلِهَتهم الَّتِي كَانُوا يعبدونها من دون الله، فيوردونهم النَّار، وَيبقى الْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُول الله عز وَعلا لَهُم: مَاذَا تنتظرون؟ فَيَقُولُونَ: نَنْتَظِر رَبًّا كُنَّا نعبده بِالْغَيْبِ، فَيَقُول لَهُم: هَل تعرفونه؟ فَيَقُولُونَ: إِن شَاءَ عرفنَا نَفسه. قَالَ: فيتجلى لَهُم، فَيَخِرُّونَ لَهُ سجدا، فَيَقُول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أهل التَّوْحِيد، ارْفَعُوا رءوسكم؛ فقد أوجبت لكم الْجنَّة، وَجعلت مَكَان كل وَاحِد مِنْكُم يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا ".(2/456)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
وَقَوله تَعَالَى: {وأتبعوا فِي هَذِه لعنة} مَعْنَاهُ: فِي الدُّنْيَا لعنة بِعَذَاب التَّفْرِيق {وَيَوْم الْقِيَامَة} لعنة بِعَذَاب النَّار. وَقَوله: {بئس الرفد المرفود} يَعْنِي: بئست اللَّعْنَة بعد اللَّعْنَة. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي: بئس العون (المعان) ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا: أَن اللَّعْنَة جعلت لَهُم فِي مَوضِع المعونة. وَقيل: بئس الْعَطاء الْمُعْطِي.(2/456)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك من أنباء الْقرى نَقصه عَلَيْك} مَعْنَاهُ: من أَخْبَار الْقرى نَقصه(2/456)
{ظلمناهم وَلَكِن ظلمُوا أنفسهم فَمَا أغنت عَنْهُم آلِهَتهم الَّتِي يدعونَ من دون الله من شَيْء لما جَاءَ أَمر رَبك وَمَا زادوهم غير تتبيب (101) وَكَذَلِكَ أَخذ رَبك إِذا أَخذ الْقرى وَهِي ظالمة إِن أَخذه أَلِيم شَدِيد (102) إِن فِي ذَلِك لآيَة لمن خَافَ عَذَاب الْآخِرَة ذَلِك يَوْم مَجْمُوع لَهُ النَّاس وَذَلِكَ يَوْم مشهود (103) وَمَا نؤخره إِلَّا لأجل مَعْدُود (104) يَوْم} عَلَيْك {مِنْهَا قَائِم وحصيد} أَي: مِنْهَا معمور وخراب. وَقيل مَعْنَاهُ: مِنْهَا قَائِم أَي: بقيت الْحِيطَان، وَسَقَطت السقوف. وَمِنْهَا حصيد: أَي: انمحى أَثَره.(2/457)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن ظلمُوا أنفسهم} قد بَيناهُ من قبل. وَقَوله: {فَمَا أغنت عَنْهُم آلِهَتهم الَّتِي يدعونَ من دون الله من شَيْء لما جَاءَ أَمر بك} يَعْنِي: بِالْعَذَابِ. وَقَوله: {وَمَا زادوهم غير تتبيب} أَي: غي تخسير. وَقيل: غير تدمير.(2/457)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخذ رَبك إِذْ أَخذ الْقرى وَهِي ظالمة} وَجه التَّشْبِيه أَن أَخذه هَؤُلَاءِ فِي حَال الظُّلم والشرك كأخذه أهل الْقرى حِين كَانُوا فِي مثل حَالهم من الظُّلم والشرك. وَقَوله: {إِن أَخذه أَلِيم شَدِيد} ظَاهر الْمَعْنى.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله بمهل الظَّالِم - أَو يملي الظَّالِم - حَتَّى إِذا أَخذه لم يفلته " ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخذ رَبك إِذا أَخذ الْقرى وَهِي ظالمة} وَالْخَبَر فِي " الصَّحِيحَيْنِ " بِرِوَايَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.(2/457)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَة} مَعْنَاهُ: لعبرة {لمن خَافَ عَذَاب الْآخِرَة} ظَاهر الْمَعْنى {ذَلِك يَوْم مَجْمُوع لَهُ النَّاس} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة يجمع الله فِيهِ الْأَوَّلين والآخرين {وَذَلِكَ يَوْم مشهود} يَعْنِي: يشهده جَمِيع الْخلق. وَقيل: أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض.(2/457)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا نؤخره إِلَّا لأجل مَعْدُود} يَعْنِي: إِلَّا لوقت مَعْلُوم عِنْد الله لَا(2/457)
{يَأْتِ لَا تكلم نفس إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمنهمْ شقي وَسَعِيد (105) } عِنْد النَّاس.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: مُدَّة الدُّنْيَا سَبْعَة آلَاف سنة، لَا يدْرِي أحدكُم مَا مضى مِنْهَا وَكم بَقِي.(2/458)
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
وَقَوله: {يَوْم يَأْتِ} وَقُرِئَ: " يَوْم يَأْتِي " بِالْيَاءِ. وَحكى الْخَلِيل وسيبويه أَن الْعَرَب تَقول: لَا أدر، أَي: لَا أَدْرِي. وَذكر الْفراء أَن الْعَرَب تجتزيء بالكسرة عَن الْيَاء بعْدهَا. وَقَوله: {لَا تكلم نفس إِلَّا بِإِذْنِهِ} فِي الْآيَة سُؤال مَعْرُوف وَهُوَ: أَن الله تَعَالَى قد قَالَ فِي (مَوضِع) آخر: {وَأَقْبل بَعضهم على بعض يتساءلون} وَقَالَ هَاهُنَا: {لَا تكلم نفس إِلَّا بِإِذْنِهِ} فَكيف وَجه التَّوْفِيق بَينهمَا؟
الْجَواب: قد ذكرنَا أَن فِي الْقِيَامَة مَوَاقِف؛ فَفِي موقف يَتَكَلَّمُونَ ويتساءلون، وَفِي مَوضِع يسكتون وَلَا يَتَكَلَّمُونَ، وَفِي موقف يخْتم على أَفْوَاههم وتتكلم جوارحهم، وَقيل غير هَذَا، وَقد بَينا.
وَقَوله: {فَمنهمْ شقي وَسَعِيد} الشقاوة: قُوَّة أَسبَاب الْبلَاء، والسعادة: قُوَّة أَسبَاب النِّعْمَة. وَمعنى الْآيَة هَاهُنَا عِنْد أهل السّنة: فَمنهمْ شقي سبقت لَهُ الشقاوة، وَمِنْهُم سعيد سبقت لَهُ السَّعَادَة.
وَفِي الْأَخْبَار المسندة: أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف لما حَضرته الْوَفَاة أُغمي عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاق قَالَ: أَتَانِي ملكان فظان غليظان وجراني وَقَالا: تعال نحاكمك إِلَى الْعَزِيز الْأمين، قَالَ: فلقيهما ملك وَقَالَ: أَيْن تريدان بِهِ؟ قَالَا: نحاكمه إِلَى الْعَزِيز الْأمين، فَقَالَ لَهما: خليا عَنهُ، فَإِنَّهُ مِمَّن سبقت لَهُ السَّعَادَة فِي الذّكر الأول.(2/458)
{فَأَما الَّذين شَقوا فَفِي النَّار لَهُم فِيهَا زفير وشهيق (106) }
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِي خبر ملك الْأَرْحَام: " إِنَّه إِذا كتب أَجله وَعَمله ورزقه يَقُول: يَا رب، أشقي أم سعيد؟ فَيَقُول الله تَعَالَى، وَيكْتب الْملك ". خرجه مُسلم.
وروى ابْن عمر عَن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - " أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {فَمنهمْ شقي وَسَعِيد} قَالَ عمر: يَا رَسُول الله: فيمَ الْعَمَل؟ أنعمل فِي أَمر قد فرغ مِنْهُ وَجَرت بِهِ الأقلام، أَو فِي أَمر لم يفرغ مِنْهُ؟ فَقَالَ: بل فِي أَمر قد فرغ مِنْهُ وَجَرت بِهِ الأقلام يَا عمر، وَلَكِن كل ميسر لما خلق لَهُ ". أوردهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامعه.
وَقَالَ بَعضهم: إِن السَّعَادَة والشقاوة هَاهُنَا فِي الرزق والحرمان. وَقَالَ بَعضهم: الشقاوة: بِالْعَمَلِ السيء، والسعادة: بِالْعَمَلِ الْحسن. والمأثور الصَّحِيح هُوَ الأول.(2/459)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين شَقوا فَفِي النَّار لَهُم فِيهَا زفير وشهيق} هَذِه الْآيَة تعد من مشكلات الْقُرْآن، وَقد أَكثر الْعلمَاء فِيهَا الْأَقْوَال، وَنَذْكُر مَا يعْتَمد عَلَيْهِ:
أما الزَّفِير: قيل: إِنَّه صَوت فِي الْحلق، والشهيق: صَوت فِي الْجوف. وَيُقَال: إِن الزَّفِير: أول نهاق الْحمير، والشهيق: آخر نهاق الْحمير.(2/459)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
وَقَوله: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض} أما بِالْمَعْنَى الْمَأْثُور: روى الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْآيَة نزلت فِي قوم من الْمُؤمنِينَ يدخلهم الله تَعَالَى النَّار، ثمَّ يخرجهم مِنْهَا إِلَى الْجنَّة، ويسمون الجهنميين. وَقد ثَبت بِرِوَايَة جَابر أَن النَّبِي(2/459)
{خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك إِن رَبك فعال لما يُرِيد (107) وَأما الَّذين سعدوا فَفِي الْجنَّة خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا} قَالَ: " يخرج الله قوما من النَّار قد صَارُوا (حمما) فيدخلهم الْجنَّة ".
وَفِي الْبَاب أَخْبَار كَثِيرَة.
فعلى هَذَا القَوْل معنى الْآيَة: فَأَما الَّذين شَقوا: هَؤُلَاءِ الَّذين أدخلهم النَّار {لَهُم فِيهَا زفير وشهيق} ظَاهر الْمَعْنى {خَالِدين فِيهَا} مقيمين فِيهَا {مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض} عبر بِهَذَا عَن طول الْمكْث.
وَقَوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبك إِن رَبك فعال لما يُرِيد} الِاسْتِثْنَاء وَقع على مَا بعد الْإِخْرَاج من النَّار بشفاعة الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ.(2/460)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
وَأما قَوْله: {وَأما الَّذين سعدوا فَفِي الْجنَّة} أَرَادَ بِهِ الْمُؤمنِينَ الَّذين أدخلهم الْجنَّة من غير أَن يدخلُوا فِي النَّار. وَقَوله: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: مقيمين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض، كنى بِهَذَا عَن طول الْمكْث، وَالْعرب تَقول مثل هَذَا وتريد بِهِ الْأَبَد، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: لَا آتِيك مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض يَعْنِي: لَا آتِيك أبدا، وَلَا آتِيك مَا كَانَ لله فِي الْبَحْر قَطْرَة يَعْنِي: لَا آتِيك أبدا. فَخرج هَذَا الْكَلَام على مخرج كَلَام الْعَرَب. وَقَوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} الِاسْتِثْنَاء وَقع على الْمدَّة الَّتِي كَانُوا فِي النَّار قبل إدخالهم الْجنَّة.
وَفِي الْآيَة قَولَانِ آخرَانِ معروفان سوى هَذَا عِنْد أهل الْمعَانِي:
أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض} هُوَ على ظَاهره، أَي: مُدَّة بَقَاء السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} مَعْنَاهُ: سوى مَا شَاءَ رَبك من الزِّيَادَة على مُدَّة بقائهما. وَحكى الْفراء عَن الْعَرَب أَنهم يَقُولُونَ: لَك عَليّ ألف إِلَّا الْأَلفَيْنِ يَعْنِي: سوى الْأَلفَيْنِ الَّذين تقدما.(2/460)
{مَا شَاءَ رَبك عَطاء غير مجذوذ (108) فَلَا تَكُ فِي مرية مِمَّا يعبد هَؤُلَاءِ مَا يعْبدُونَ إِلَّا كَمَا يعبد آباؤهم من قبل وَإِنَّا لموفوهم نصِيبهم غير مَنْقُوص (109) وَلَقَد آتَيْنَا}
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: مَا دَامَ سموات الْجنَّة وأرضها. وَقَوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} الِاسْتِثْنَاء وَاقِف على زمَان الْوُقُوف فِي الْقِيَامَة وَمُدَّة الْمكْث فِي الْقَبْر.
وَقيل فِي الِاسْتِثْنَاء قَول ثَالِث وَهُوَ: أَنه قَالَ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} مَعْنَاهُ: وَلَو شَاءَ لقطع التخليد عَلَيْهِم، وَلَكِن لَا يَشَاء، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا [يكون] لنا ان نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين، وَلَكِن لَا يَشَاء الله. وَقَوله: {إِن رَبك فعال لما يرد} يَعْنِي: لَا يمْتَنع عَلَيْهِ شَيْء، وَقَالَ فِي الْآيَة الثَّانِيَة: {عَطاء غير مجذوذ} غير مَقْطُوع.
وَفِي بعض التفاسير عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: يَأْتِي على جَهَنَّم زمَان لَا يبْقى فِيهَا أحد. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَرِيبا من هَذَا.
وَمعنى هَذَا عِنْد أهل السّنة - إِن ثَبت - أَن المُرَاد مِنْهُ الْموضع الَّذِي فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ من النَّار، ثمَّ يخرجُون عَنهُ فَلَا يبْقى فِيهَا أحد، وَأما مَوَاضِع الْكفَّار فَهِيَ ممتلئة بهم أَبَد الْأَبَد على مَا نطق بِهِ الْكتاب وَالسّنة، نَعُوذ بِاللَّه من النَّار.(2/461)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَكُ فِي مرية} فِي شكّ {مِمَّا يعبد هَؤُلَاءِ} يُقَال: إِن الْخطاب مَعَه وَالْمرَاد مِنْهُ الْأمة. وَقَوله: {مَا يعْبدُونَ إِلَّا كَمَا يعبد آباؤهم من قبل} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وَإِنَّا لموفوهم نصِيبهم غير مَنْقُوص} قَالَ ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: لموفوهم نصِيبهم من الْخَيْر وَالشَّر بِلَا نُقْصَان.(2/461)
{مُوسَى الْكتاب فَاخْتلف فِيهِ وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك لقضي بَينهم وَإِنَّهُم لفي شكّ مِنْهُ مريب (110) وَإِن كلا لما ليوفينهم رَبك أَعْمَالهم إِنَّه بِمَا يعلمُونَ خَبِير (111) فاستقم كَمَا أمرت وَمن تَابَ مَعَك وَلَا تطغوا إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (112) }(2/462)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب فَاخْتلف فِيهِ} المُرَاد من الْآيَة: تَسْلِيَة النَّبِي، كَأَنَّهُ قَالَ: إِن اخْتلفُوا عَلَيْك وَلم يُؤمنُوا بك فقد اخْتلفُوا على مُوسَى وَلم يُؤمنُوا بِهِ. وَقَوله: {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك} يَعْنِي: لَوْلَا مَا سبق من حكم الله بِتَأْخِير الْعَذَاب إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {لقضي بَينهم} أَي: لعذبوا فِي الْحَال وأهلكوا. وَقَوله: {وَإِنَّهُم لفي شكّ مِنْهُ مريب} ظَاهر الْمَعْنى.(2/462)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كلا} قرئَ: " وَإِن " و " إِن " - بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد -، أما " إِن " و " إِن " قَالُوا: هما بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر:
((وَوجه) حسن النَّحْر ... كَأَن ثدييه حقان)
مَعْنَاهُ: كَأَن ثدييه حقان.
وَقَوله: {لما} بِالتَّخْفِيفِ قيل: " لما " بِمَعْنى " لمن "، وَيُقَال: إِن اللَّام للقسم، كَأَن الله تَعَالَى قَالَ: وَإِن كلا لمن الله ليوفينهم رَبك أَعْمَالهم. وَأما قَوْله: " لما " بِالتَّشْدِيدِ قيل: معنى " لما " بِالتَّشْدِيدِ هُوَ مَعْنَاهَا بِالتَّخْفِيفِ. ذكره الْمَازِني.
وَقَالَ الْأَزْهَرِي: أصح الْمعَانِي أَن " لما " بِمَعْنى " إِلَّا " أَي: وَإِلَّا ليوفينهم رَبك أَعْمَالهم {إِنَّه بِمَا يعْملُونَ خَبِير} ظَاهر الْمَعْنى.(2/462)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
وَقَوله تَعَالَى: {فاستقم كَمَا أمرت} معنى الاسْتقَامَة: هُوَ المداومة على مُوجب الْأَمر وَالنَّهْي. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي مُسلم الْخَولَانِيّ، عَن عمر بن الْخطاب - وَالصَّحِيح عَن أبي ذَر - أَنه قَالَ: " لَو صليتم حَتَّى تَكُونُوا كالحنايا، وصمتم حَتَّى تَكُونُوا كالحنائر - وَمَعْنَاهُ: كالأوتاد - ثمَّ كَانَ الِاثْنَان أحب إِلَيْكُم(2/462)
من الْوَاحِد لم تبلغوا حد الاسْتقَامَة ". روى هَذَا الْخَبَر جمَاعَة من الزهاد؛ رَوَاهُ حَاتِم الْأَصَم، عَن شَقِيق، عَن إِبْرَاهِيم بن أدهم، عَن مَالك بن دِينَار، عَن أبي مُسلم بِهَذَا الْإِسْنَاد.
وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: أَن النَّبِي قَالَ: " اسْتَقِيمُوا وَلنْ تُحْصُوا، وَلنْ يحافظ على الْوضُوء إِلَّا مُؤمن ". وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: الاسْتقَامَة: أَن تستقيم على الْأَمر وَالنَّهْي، وَلَا تروغ روغان الثعالب. وَهَذَا أثر مَشْهُور.
وَقد رُوِيَ غير هَذَا فِي الاسْتقَامَة، يذكر فِي موضعهَا.
وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَيْضا: أَن النَّبِي قَالَ: " شيبتني هود " وَفِيه مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: قَالَ هَذَا لِكَثْرَة مَا ذكر الله تَعَالَى فِي هَذِه السُّورَة من إهلاك الْقُرُون الْمَاضِيَة (و) الْأُمَم السالفة.
وَالْمعْنَى الثَّانِي: أَنه قَالَ؛ لقَوْله تَعَالَى {فاستقم كَمَا أمرت} .
وَقَوله: {وَمن تَابَ مَعَك} مَعْنَاهُ: وَمن أسلم مَعَك. وَقَوله: {وَلَا تطغوا} فِيهِ مَعْنيانِ:(2/463)
{وَلَا تركنوا إِلَى الَّذين ظلمُوا فتمسكم النَّار وَمَا لكم من دون الله من أَوْلِيَاء ثمَّ لَا تنْصرُونَ (113) }
أَحدهمَا: وَلَا تطغوا فِي الاسْتقَامَة يَعْنِي: لَا تَزِيدُوا على مَا أمرت ونهيت، فتحرموا مَا أحل الله، وتكلفوا أَنفسكُم مَا لم يشرعه الله وَلم يَفْعَله الرَّسُول وَأَصْحَابه.
وَالْمعْنَى الثَّانِي: الطغيان هُوَ البطر لزِيَادَة النِّعْمَة. وَقيل: الطغيان وَالْبَغي بِمَعْنى وَاحِد.
{إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ظَاهر الْمَعْنى.(2/464)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تركنوا إِلَى الَّذين ظلمُوا فمسكم النَّار} الركون: هُوَ الْمحبَّة والمودة والميل بِالْقَلْبِ. وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي قَالَ: هُوَ الرِّضَا بأعمالهم. وَعَن السّديّ قَالَ: هُوَ المداهنة مَعَهم. وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: هُوَ طاعتهم. وَقَوله: {فتمسكم النَّار} أَي: فتصيبكم النَّار.
وَقَوله: {وَمَا لكم من دون الله من أَوْلِيَاء ثمَّ لَا تنْصرُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.(2/464)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
قَوْله تَعَالَى: {وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: طرفِي النَّهَار: الصُّبْح وَالْعصر، {وَزلفًا من اللَّيْل} : الْمغرب وَالْعشَاء.
وَقَالَ مُجَاهِد: طرفِي النَّهَار: الصُّبْح وَالظّهْر وَالْعصر، وَزلفًا من اللَّيْل: الْمغرب وَالْعشَاء.
وعَلى هَذَا القَوْل: الْآيَة جَامِعَة للصلوات الْخمس. وَعَن بَعضهم: طرفا النَّهَار: الصُّبْح وَالْمغْرب، وَزلفًا من اللَّيْل: الْعَتَمَة.
وَمعنى قَوْله: {زلفا من اللَّيْل} سَاعَات اللَّيْل. وَقيل: سَاعَة من اللَّيْل. وَقَرَأَ مُجَاهِد: " وزلفى من اللَّيْل " وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: " وَزلفًا من اللَّيْل ". وَالْمَعْرُوف: زلفا من اللَّيْل. قَالَ الشَّاعِر:
(طي اللَّيَالِي زلفا فزلفا ... سماوة الْهلَال حَتَّى احقوقفا)(2/464)