تفسير قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة.)
قال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] من العلماء من قال: إن الهمزة هنا محذوفة، وهي: أفلا اقتحم العقبة، والمعنى: بعد إنعامنا عليه أفلا عمل أعمالاً يقتحم بها هذه العقبة ويتجاوزها.
ومنهم من قال: هي نافية، {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:11-13] .
لا يظن شخص أن تفسير العقبة: فك رقبة، وهذا خطأ يقع فيه كثير من الناس، يقول: وما أدراك ما العقبة؟! فك رقبة، العقبة شيء، وفك الرقبة سبب من أسباب اقتحام العقبة، وهذا الوهم يقع فيه كثير من الناس، مثلاً تقدم في قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:19-20] فيتوهم البعض أن ((كتاب مرقوم)) تفسير لعليين، إنما المراد كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:18-19] تفخيم لشأنها وتعظيم لقدرها، وهنا كذلك: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} ، أي: ما عمل أعمالاً تجعله يقتحم العقبة ويتجاوزها.
وما هي العقبة؟ من أهل العلم من قال: هي عقبة يوم القيامة، يمرها ويقطعها كل شخص، المؤمن يقتحمها ويتجاوزها، والكافر يسقط فيها.
ومن العلماء من حملها على الصراط، فالمؤمن يتجاوزه ويمر عليه، والصراط عقبة أيضاً، والكافر يسقط فيه، والناس يمرون عليه بحسب الأعمال، فهذا قول قوي.
ومنهم من قال: إن العقبة جبل في النار، وهو المذكور في قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17] أي: سأتعبه -أي: هذا الكافر- في الصعود على هذا الجبل، مع أنه في نار، ويضاف إلى عذابه في النار إرهاقه.
{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} فلا عمل أعمالا تجعله يقتحم العقبة ويتجاوزها، ثم فخم شأن العقبة فقال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} ما هي الأعمال التي تجعل الشخص يقتحم هذه العقبة؟ قال الله سبحانه: {فَكُّ رَقَبَةٍ} من الأعمال التي تجعلك خفيفاً تتجاوز هذه العقبة عتق الرقاب، إما العتق أو المساهمة في العتق، قال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:14] والمسغبة: المجاعة، أي: يوم جاع فيه الناس، واعتراهم جوع شديد.(93/9)
تفسير قوله تعالى: (يتيماً ذا مقربة)
قال تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:15] ذا قرابة منك، ففيه أن الإنفاق على الأقارب الأيتام مقدم على الإنفاق على غيرهم إذا تساوت الحاجة، يعني: هنا يتيم في ظروف معينة قريب لك، ويتيم آخر ظروفه نفس الظروف بعيد منك، فالقريب هو الأولى، الأقربون أولى بالمعروف دوماً، وفي المعنى أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:123] الأقرب فالأقرب.
{يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} : قدم اليتيم على المسكين، وقد جاءت جملة آيات تحث على الرفق باليتيم، والله يقول: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9] ، {كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر:17] ، {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:1-2] الذي يدع اليتيم رجل ضعيف الإيمان، يكذب بالدين، وفيه خصال سيئة.(93/10)
تفسير قوله تعالى: (أو مسكيناً ذا متربة)
قال الله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] ما معنى (ذَا مَتْرَبَةٍ) ؟ أي: ألصقته المسكنة والفقر بالأرض، فأصبح لا يملك شيئاً إلا التراب، فـ (مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) يعني: هو مسكين لا يمتلك أي شيء إلا التراب، فالمسكين الذي ألصقه الفقر وألصقته المسكنة بالتراب، فأصبح لا مأوى له إلا التراب، وفيه دليل على أن الشخص عند الإنفاق يتحرى الأحوج كي يعطيه، فمثلاً يعمد قوم إلى زكوات أموالهم فيتصرفون فيها، وفي الحقيقة أن زكاة الأموال ليس من حقك أن تتصرف فيها كما تشاء، إنما هي كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] ، فواحد مثلاً يأتي ويقول لك: يا شيخ! إن لي أختاً متزوجة، وحالتها غير متيسرة، فهل يجوز أن أعطيها الزكاة؟ فأنت قد تفتيه بالجواز؛ لأنها بحاجة لا تكفيها؛ ولأنها لا تلزمه نفقتها، فيجوز أن تكون مصرفاً للزكاة، وهي أولى، لكن ينبغي النظر إلى المستوى واليسر الذي يسأل عنه الشخص، فهو قد يقول: إنها لا تأكل في كل أسبوع لحماً، ويكون هناك أفقر منها لا يرى اللحم إلا في المواسم، بل يكون هناك من لا يرى اللحم حتى في المواسم، فيقدم الشخص الفقير في هذه الحالة على الأخت التي في بيتها تلفاز ولكنها لا تأكل لحماً إلا في كل شهر مرة، فهذه الآية الكريمة أشارت إلى هذا المعنى.(93/11)
الفقير أشد فاقة من المسكين
فإذا أردت أن تتصدق فتحرى الأحوج وأعطه المال، حتى يعظم لك الأجر عند الله سبحانه وتعالى وتأخذ أجرك مستوفياً.
هل هناك فرق بين المسكين والفقير؟ الجمهور يقولون: الفقير أشد من المسكين، واستدلوا بقوله تعالى: {وأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] ، وقالوا: المسكين يجد شيئاً، ولكن الشيء لا يكفيه، هذا رأي الجمهور، واعترض على هذا الرأي بأن الله قال: (مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) وهنا المسكين ليس له أي شيء، وجمع بين الأقوال بأن قيل: إن اصطلاح المسكين والفقير قد يأخذ كل منهما معنى الآخر، إذا افترقا اجتمعا، يعني: إذا جاء المسكين في سياق ليس معه الفقير يأخذ معنى المسكين والفقير، وإذا جاء ومعه الفقير في سياق واحد، يكون الفقير أقل حاجة من المسكين، فهنا المسكين جاء في السياق وحده، لم يرد معه ذكر للفقير، فأخذ معنى الفقير والمسكين، وهو كاصطلاح البر والتقوى، فالبر إذا جاء منفرداً أخذ معه معنى التقوى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] ، فالبر أخذ معنى التقوى في بعض الأعمال.(93/12)
تفسير قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا.)
قال الله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17] ما هو وجه إيراد قوله تعالى: (ثم) هنا؟ من المعلوم أن الشخص الكافر إذا عمل عملاً لا يقبل منه هذا العمل إلا إذا كان مؤمناً في الأصل، وإلا عمله حابط، فلماذا أخر الإيمان هنا عن العمل مع أن جل الآيات الأخر تربط الإيمان بالعمل كقوله: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) وهنا: {إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:14-17] وثم موضوعه في أغلب الأحوال للترتيب مع التراخي؟ فأجاب بعض العلماء بأجوبة، منها: أن (ثم) لترتيب الذكر، وليس للترتيب الزمني، كقول الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده (قل لمن ساد ثم ساد أبوه) وأبوه كان سيداً (ثم قد ساد قبل ذلك جده) فـ (ثم) للترتيب الذكري.
القول الثاني: أن (ثم) بمعنى الواو، أي: أطعم وكان مؤمناً وكان من الذين آمنوا.
القول الثالث: إنه فعل هذه الصالحات في جاهليته، فأثبتت هذه الأفعال الصالحة التي في جاهليته، فلما آمن انتقلت معه هذه الخصال الطيبة إلى إسلامه، فأصبح أيضاً بعد إسلامه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على أسلفت من خير) ، هذه وجوه ثلاثة، وهناك وجوه أخر.
وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] أي: أوصى بعضهم بعضاًَ، الصبر: الصبر على المصائب، والصبر على الطاعات، هذه نصوص عامة، فالتواصي بالصبر من شيم أهل الإيمان والصلاح {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا} [العصر:1-3] أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر، {بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] .
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ} [لقمان:17] فلقمان يوصي ولده بالصبر.
((وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)) المراد بالمرحمة: رحمة الناس والرفق بهم، فالشدة على الناس الأصل أنها مذمومة إلا في حالات واستثناءات إذا رأيت أن الشدة تنفع في هذا المقام، وإلا فالأصل أن الناس يتراحمون بينهم، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق فيما بينهم، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها) ((وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)) وفي هذه الجزئية فقه متسع، المقام لا يتحمله وتفسير السورة لا يتحمله.
{أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد:18] أي: أصحاب اليمين الذي يتلقفون الكتب -كتب الأعمال- بأيمانهم، ومن ثم يقولون: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] .(93/13)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [البلد:19] أي: الشمال الذي يتلقفون كتبهم بشمائلهم {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20] أي: مغلقة مطبقة، تطبق عليهم ولا تفتح، ليست ناراً مكشوفة إلى السماء، بل نار تغلق عليهم والإحراق داخلها.
وفقنا الله لما يحب ويرضى.(93/14)
الأسئلة(93/15)
حال حديث: (إن الله يبغض المرأة.)
السؤال
ما مدى صحة حديث (الله يبغض المرأة) ؟
الجواب
لا أعرف له سنداً.(93/16)
جواز تأديب الطفل بالضرب وهو دون العاشرة
السؤال
يقول لي زوجي: إن ضرب الأطفال وتأديبهم لا يكون إلا عند سن العاشرة قياساً على أمر الصلاة، فما مدى صحة ذلك، خاصة أني أخاف أن أتركهم بغير أن أضربهم عندما يخطئون فيفشلوا؟
الجواب
الذي يضبطنا في هذا الباب العمومات، منها قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ، إذا كان الطفل مؤذياً، يسرق، يعبث، ولا ينكف إلا بالضرب، شرع أن يضرب لتقليل المفاسد، فالله سبحانه وتعالى لا يحب الفساد، وإذا تركنا الأمر على ما يريد هذا الزوج، انطلق الأطفال للعبث والسرقة والضياع كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25] فالموعظة إذا لم تنفع استعمل الضرب أحياناً، فعموم الآيات ثم إطباق أهل العلم على ذلك إذا كان لمصلحة التأديب، فهذا مما يدفع قول هذا الزوج.(93/17)
حكم سفر المرأة بدون محرم
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم لطلب علم خاصة وأنها سوف تستغرق يوماً واحداً؟
الجواب
إذا دعت الضرورة إلى ذلك جاز، وفي الحقيقة أن هذه قضية خاصة ما أدري هل نفتي بها أو نمسك بها بعض الشيء؟! لأنها تعتبر كفتوى وتقدر بقدرها، فمثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن سفر المرأة بدون محرم، فهل ينظر إلى العلة من نهيه عليه الصلاة والسلام أو يوقف مع النظر ويغض الطرف عن النظر إلى العلة؟ فهذه مسالك للعلماء: فمن العلماء من ينظر ليس في هذه المسألة لخصوصها، بل ينظر في عموم الأحاديث إلى العلة من وراء هذا الحديث.
وبعض العلماء يقف على متن الحديث، ويبني عليه الحكم دون نظر إلى ما وراءه من العلة، فمثلاً: الخلط والنبذ، فمثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن نبذ الخليطين، يعني: أن تأتي بتمر وزبيب، وتنقع هذا مع هذا، هل أبني على هذا أنك إذا طرحت زبيباً وتمراً في ماء يحرم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخليطين أو أمعن النظر في سبب النهي وأدور مع العلة كما تدور؟! فمثلاً من العلماء من قال: إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نبذ الخليطين لأنه -يعني: التمر والزبيب- إذا نقعا معاً يسرع إليهما التخمر، فقد تأتي تشرب الشيء المنبوذ وتظن أنه لا يسكر فتفاجأ أنه قد أسكر.
ونظر فريق منهم إلى العلة وقال: إن الشراب حلال ما لم يصل إلى حد الإسكار، وأجرى هذا المجرى في حديث النهي عن الانتباذ في الظروف، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ في الحنتم والمقير والمزفت والنقير؛ لأن هذه القدور تسرع بالنبيذ إلى الإسكار، ثم في آخر الأمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في الظروف فانتبذوا ولا تشربوا مسكراً) ، فهل ينسحب هذا على الخليطين أيضاً، أي: اخلطوا ولا تشربوا مسكراً؟! الشاهد: أن من العلماء من يدور مع العلة من وراء هذه الأوامر، ومنهم من يقف عند الحديث.
مسألة: سفر المرأة بدون محرم، إذا كانت هناك ضرورة يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم، إذ الضرورات تقدر بقدرها، والضرورة تجيز للشخص أن يأكل الميتة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] .
ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تسافر المرأة مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها محرم، وورد أنه نهى أن تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا ومعها محرم، وورد أنه نهى أن تسافر المرأة مسيرة ليلة إلا ومعها محرم، وورد أنه نهى أن تسافر المرأة مسيرة بريد إلا ومعها محرم، وورد أنه نهى أن تسافر المرأة دون قيد إلا ومعها محرم.
فبالنسبة للناحية الأصولية: هل المطلق يحمل على المقيد؟ نقول: إن الروايات المطلقة كحديث ابن عباس نهى أن تسافر المرأة بدون محرم قيدتها الروايات الأخرى بالليلة أو الليلتين أو الثلاث أو البريد، ونقول: ما دون ذلك يجوز للمرأة أن تسافر أو أن الروايات المطلقة قضت على الروايات الأخر، وغطت عليها كما قال النووي وابن حزم، روايات ابن عباس هي القاضية على الروايات كلها التي فيها أن النبي نهى أن تسافر المرأة إلا ومعها محرم؟! فهذه جزئية ينبغي أن تحرر بشيء من الدقة، والقول فيها ليس واحداً، وإن كنا نجنح إلى قول النووي رحمه الله تعالى.
جزئية أخرى: هل ينظر إلى مخرج حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في الوقت الذي قال فيه الرسول هذه المقولة أو لا ينظر؟ يعني: الرسول قال الحديث في وقت خطورة الأسفار، وفيها صحاري يعني: إذا سافرت من المدينة إلى خيبر -مثلاً- فهي مسافات شاسعة تمشيها المرأة منفردة، لا بد حتى لو مشت ساعة واحدة أو نصف ساعة أن يتسلط عليها شرير، فيعبث بها وينصرف ولا أحد يعلم، ولا رقيب إلا الله سبحانه وتعالى، فكون المرأة معرضة للفساد لا شك أنه متحقق في مثل ذلك الموطن، لكن لو أن شاباً أعزب في السعودية عقد على امرأة هنا في مصر، هو مصري يعمل في السعودية وعاقد على امرأة في مصر، وأراد أن يأتي بزوجته، فهو يقول في نفسه: وجودي بدون زوجة أخشى على نفسي الفتنة، خاصة إذا كان في بلد فيه نساء متبرجات، قال: أخشى على نفسي الفتنة، وزوجتي في بلدتي أخشى عليها أيضاً الفتنة، وهو يريد أن تأتي إليه زوجته.
ويقول: أنا أرغب أن آتي بها، لكن أموالي لا تسمح لي أن آتي بها مع محرمها، فهذا يكلف مبلغاً ليس قليلاً، هل أصبر على ما أنه فيه من العنت، وهي تصبر، أو يجوز لأخيها مثلاً أن يوصلها إلى المطار وأنا أستقبلها في مطار السعودية، والرفقة الآمنة موجودة في الطائرة، والتواطؤ على الفاحشة صعب في مثل هذا الموقف، فهل تتنزل على مثل هذه الحالة أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي صدرت على قوم كانوا في البادية أو لا تتنزل؟ والكلام هذا لا نقوله في محاضرة عامة، بل نقوله في وسط إخواننا طلبة علم، فنقول: العلماء إذا سئلوا في فتاوى عامة بمثل هذه المسائل لا بد أن تصدر منهم فتوى تسد الذريعة، يعني: إذا قال العالم: جائز للمرأة أن تسافر في الطائرة بدون محرم، فقد تسافر بنت من القاهرة إلى باريس لوحدها، وتقول: لأن العالم الفلاني أفتى، فمثل هذه المسائل تكون جرعات من الدواء تقدم للمريض بقدر حاجته.
فأظن -والله أعلم- أن الباب لا يقفل مرة واحدة أمام الاجتهاد وأمام مراعاة المصالح الأخرى، فإنه يخاف أن تقع البنت في الفاحشة مع جارها المؤذي، أو مع ساكن آخر في البيت، وهو أيضاً يخاف أن يقع في فاحشة مع امرأة متبرجة في البلدة التي هو فيها، فتصدر فتوى بقدر الحاجة إليها، لا أسد الباب قولاً واحداً وأقول: لا تذهب، ولا يفتح الباب فتصدر فتوى عامة لعموم الناس فيظنون أنه يجوز السفر بدون محرم.(93/18)
تفسير سورة الليل والشرح
أقسم الله في سورة الليل على أن سعي الناس مختلف، وبين أن من أعطى ما أمره الله واتقاه فسييسر له فعل الطاعات، ومن بخل واستغنى عن مولاه فإن الله ييسر له فعل المعاصي، ويحرمه من فعل الخيرات، ثم ختم الله السورة بصفات المؤمن الأتقى المخلص في نفقاته ابتغاء وجه ربه، ووعده بالرضا، فحري بنا أن نتقي الله ليرضينا في الدنيا والأخرى.
أما سورة الشرح فقد عدد الله فيها بعض نعمه على نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن أعظمها أنه وسع صدره لحمل أعباء الرسالة، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، فهو أعظم وأشرف وأفضل مخلوق، وذكر الله في هذه السورة بشارة كبيرة، وفتح باب أمل واسع لمن ضاقت أحواله، فإن بعد العسر يسراً.(94/1)
تفسير قوله تعالى: (والليل إذا يغشى.)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:1-4] .
يقسم الله سبحانه وتعالى بالليل وبالنهار، ويقسم بالذي خلق الذكر والأنثى، وهو نفسه سبحانه وتعالى، يقسم بذلك على: ((إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)) .
وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أي: يغطي بظلامه، ومنه قوله تعالى: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:54] أي: فاعتراها ما اعتراها، وأصابها ما أصابها، وحل بها ما حل بها، ونفس المعنى مضمن في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف:189] ، (تغشاها) أي: جامعها، فيقسم الله بالليل عند إقباله ومجيئه وتغطيته للأشياء، ويقسم بمقابل ذلك وهو النهار: {إِذَا تَجَلَّى} أي: أضاء وظهر وأنار، وهذا القسم كقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:1-4] .
{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} أي: والذي خلق الذكر والأنثى، يقسم الله سبحانه بهذه الأشياء على: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} .(94/2)
قراءة ابن مسعود: ((والذكر والأنثى))
ورد في صحيح البخاري ومسلم من طريق علقمة قال: أتيت الشام في نفر من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -أي: مع مجموعة من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه-، فالتقينا بـ أبي الدرداء، فقال أبو الدرداء: هل منكم من سمع عبد الله يقرأ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ؟ قلنا: نعم، قد سمعناه يقرأ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} .
قال: أيكم أقرأ؟! يعني: من منكم الأحفظ؟ فأشاروا إليَّ أي: إلى علقمة، قال أبو الدرداء: فاقرأ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ، فقرأ فقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1-2] ((والذَّكَرَ وَالأُنْثَى)) ، ولم يذكر كلمة (وَمَا خَلَقَ) ، فقرأها علقمة: (والذَّكَرَ وَالأُنْثَى) ، فقال أبو الدرداء: هكذا سمعتها من عبد الله؟ قال: نعم، هكذا سمعتها من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: وأنا والله! لقد سمعتها من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا -أي: بدون ذكر كلمة: (وما خلق) -، ولكن هؤلاء يأبون عليَّ -أي: يمنعونني أن اقرأ بهذه القراءة-، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، والحديث في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم.
إلا أن علماء القراءات يقولون: هذه من القراءات الشاذة، فالقراءة المتواترة هي: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى) ، وهذا لا يثار في مجالس عموم الناس، إنما يثار في مجالس طلبة العلم، ولكن على كلٍ فقد قال أهل القراءات: إنها من القراءات الشاذة، أما أهل الحديث فيقولون: السند ثابت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وفي غيرهما.
(وَمَا خَلَقَ) أي: والذي خلق الذكر والأنثى، (إِنَّ سَعْيَكُمْ) ، السعي المراد به: العمل، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19] ، فالسعي المراد به هنا أيضاً: العمل، (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) ، أي: إن عملكم لمتنوع ومختلف، فمنكم من يعمل الصالحات، ومنكم من يعمل السيئات، منكم من يعمل عمل أهل السعادة، ومنكم من يعمل عمل أهل الشقاوة، (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) ، أي: إن عملكم لمختلف ومتنوع.(94/3)
تفسير قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى.)
ثم قال الله سبحانه: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) ، أي: أعطى المال وأنفقه في سبيل الله، (وَاتَّقَى) ، أي: واجتنب محارم الله سبحانه وتعالى ولم يقع فيها، (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) ، والحسنى لأهل العلم في تفسيرها هنا ثلاثة أقوال: القول الأول: أن المراد بالحسنى: الجنة، والذين قالوا هذا القول استدلوا بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] .
القول الثاني: أن المراد بالحسنى: قول: لا إله إلا الله، أي: من صدق بالتوحيد.
القول الثالث: المراد بالحسنى: التصديق بوعد الله بأنه سيخلف على المنفق، كما قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبتيها ملكان، يقول أحدهما: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكاً تلفاً) ، فللعلماء ثلاثة أقوال في تفسير الحسنى: أحدها: أن المراد بالحسنى: الجنة.
والثاني: أن المراد بالحسنى: لا إله إلا الله.
والثالث: أن المراد بالحسنى: وعد الله بالإخلاف على المنفق.
(فَسَنُيَسِّرُهُ) ، أي: سنهيئه ونوفقه، (لِلْيُسْرَى) ، أي: لعمل الخير.(94/4)
تفسير قوله تعالى: (وأما من بخل واستغنى.)
قال الله: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) ، بخل بالمال وامتنع عن إنفاقه في أوجه الخير، (وَاسْتَغْنَى) عن ربه سبحانه وتعالى!! (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) * (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) ، أي: سنوفقه ونهيئه لعمل الشر، قال علي رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة في بقيع الغرقد، فجلس وجلسنا حوله، وكان معه عود ينكت به، فقال عليه الصلاة والسلام: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو مقعده من النار، فقلنا: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] ) .
وفي الصحيحين (أن شاباً أو شابين من الأنصار -كما في بعض الروايات- أتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! أرأيت العمل الذي نعمل فيه، أهو عمل مستأنف أم عمل طويت عليه الصحف، وجفت به الأقلام، وجرت به المقادير؟ قال: بل تعملون عملاً طويت عليه الصحف وجفت به الأقلام وجرت به المقادير، فقالا: يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] ) .(94/5)
تيسير الله لمن سلك طريق الهداية
وهذه الآيات تفيد أن الشخص إذا سلك طريق الهداية يزيده الله سبحانه وتعالى هدىً، وإذا سلك طريق الغواية فتحت له أبواب الغواية كذلك، ففيها أن الشخص إذا التمس أسباب الخير سهلها الله عليه، وإذا التمس أسباب الشر والفساد فتحت له هذه الأبواب -والعياذ بالله-، فالشخص يقدم شيئاً من الخير ثم ييسر الله سبحانه وتعالى له أموره إذا اقترب من الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (وإن تقرب إليَّ شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً) ، وفي هذا المعنى عدة آيات وعدة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها تؤكد أن الشخص إذا سلك طريقاً أُعين على هذا الطريق الذي سلكه، فمثلاً رب العزة يقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] ، ويقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ، وتقدم قول الله في شأن موسى عليه الصلاة والسلام: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14] ، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] ، وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] ، وقوله تعالى: {ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة:127] ، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثيرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من يتصبر يصبره الله، ومن يستعف يعفه الله، ومن يستغني يغنه الله) ، وكتوضيح يسير لذلك، مثلاً: أنت إذا قمت تصلي من الليل ركعتين لله، الفرش دافئ، والزوجة بجوارك حسناء، وسمعت الصارخ قبل الفجر بساعة أو أقل أو أكثر، وتريد أن تقوم إلى الصلاة، والقيام عليك في غاية المشقة، ولكنك استعنت بالله سبحانه وتعالى، وتقويت به سبحانه، وتجافيت عن الفراش، وقمت واستعنت بالله وصليت ركعتين، فتذوق طعم هذه الطاعة، وكلما تذكرتها في النهار حمدت الله، وصدرك منشرح لها، وإذا وقعت في كربة في النهار تذكرت أنك قمت من الليل وصليت ركعتين لله، فتتوسل بهاتين الركعتين إلى الله، تأتي الليلة الثانية فتتذكر حلاوة الطاعة فيكون القيام عليك أيسر من القيام في الليلة السابقة، وإذا استمر بك شهراً على هذا المنوال يصبح قيام الليل عندك في غاية اليسر، يصبح على قلبك يسيراً خفيفاً بإذن الله سبحانه وتعالى، ييسره الله عليك غاية التيسير، فتكون عادة لك إذا سمعت الصارخ قمت تلقائياً، كأنك تقوم لعملك، وأنت متلذذ بهذه الطاعة.
جرب طاعة أخرى، صلِ الفجر في جماعة، ثم امكث في مكان صلاتك يوماً إلى طلوع الشمس، تذكر الله، وتأتي بأذكار الصباح، وتتلو ما تيسر لك من كتاب الله، في أول يوم العمل عليك شاق غاية المشقة، وفي اليوم التالي ييسر عليك العمل شيئاً ما، وبمرور الأيام -بتوفيق الله- يصبح عليك الجلوس في المصلى إلى طلوع الشمس في غاية السهولة واليسر، وإذا قلت لرجل آخر: تعال معي نجلس من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فكأنك تسجنه سجناً، بينما يكون العمل عليك في غاية اليسر، يأتيك ضيف مثلاً، فيبيت عندك، وأنت متعود أن تصلي الفجر وتمكث في المصلى إلى طلوع الشمس، فالضيف صلى معك الفجر، ثم قلت له: أنا أريد أجلس في المصلى إلى طلوع الشمس، يصاب بهم ما بعده هم، كأنك ضربته ضرباً مبرحاً؛ لأنه سيجلس إلى طلوع الشمس!! وأنت بسلوكك لهذا الطريق، واستمرارك عليه جعله الله يسيراً عليك بإذن الله، وهو لابتعاده عن هذا الطريق جعله الله شاقاً عليه في غاية المشقة، وهكذا كل الطاعات.
صم يوم الإثنين والخميس، أول إثنين وأول خميس تصومهما في غاية المشقة، تقول: أجوع، أنا لا أصبر إذا تأخر الغداء نصف ساعة، وأعمل مشكلة مع الزوجة في البيت، فكيف أصوم الإثنين والخميس؟ لكن جرب واصبر أول أمرك، فيسهل عليك بعد ذلك هذا الصيام، ويكون لك دأباً، وتكون تلقائياً تصبح كل يوم إثنين وأنت صائم، وكل يوم خميس وأنت صائم، بدون أي مشقة، وبدون أي تعب، وبدون تكلف، وبدون إرهاق، فمن سلك طريق الطاعات يسرها الله له، وكذلك الإعطاء كما في هذه الآية: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) أعط الناس، قد يكون الإعطاء عليك في أول يوم شاق، تخرج جنيهاً من جيبك كأنك تقطع من جلدك شيئاً وأنت تتصدق به، تقول: أنا أولى، أشتري بالجنيه كيلو سكر أو أي شيء، فكأنك تقطعه من جلدك، لكن إذا استمريت على هذه الطاعات تشعر بعد ذلك بأنك تفعل الطاعات وأنت في غاية السعادة والانشراح، وتشعر أن الله يبارك لك في صحتك، وأن الله يدفع عنك بلايا كانت ستحل بك وبنيك، ترى أبناء إخوانك عند الأطباء وفي المستشفيات وأنت مبارك لك في مالك وفي ولدك، فتحمد الله وتشكر الله.
فالشاهد: أن من سلك طريق الهداية فتح الله له أبوابها، ووفقه الله لها وسهلها عليه، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) * (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) * (فَسَنُيَسِّرُهُ) ، أي: سنهيئه ونوفقه لعمل الخير، ونهديه للطريق اليسرى السهلة السمحاء، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) * (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) * (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) ، وهذا الذي ييُسر للعسرى.(94/6)
تفسير قوله تعالى: (وما يغني عنه ماله إذا تردى)
قال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:11] ، (تردى) أي: سقط، سقط في جهنم، هذا المال الذي جمعه ولم ينفقه في الطاعات لا يغني عنه كما قال هو بنفسه في الآية الأخرى فيما حكى الله عنه: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28-29] ، وكما قال سبحانه في الآية الثالثة: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ} [الهمزة:2-3] ، أي: يظن، {أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:2-6] ، فهو سينبذ في الحطمة، أي: في النار الموقدة، وماله سيقذف به أيضاً معه في الحطمة.
فهنا يقول تعالى: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ) ، أي: الذي بخل به، (إِذَا تَرَدَّى) ، أي: إذا سقط في النار، فالمال ليس بنافع صاحبه يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: أهله، وماله، وعمله -يعني: إلى القبر- فيرجع اثنان، ويبقى واحد) ، يتبع الميت المال والأهل والعمل، فيدخل مع الميت في القبر العمل، ويرجع المال والأهل، يبقى واحد، ويرجع اثنان، العمل هو الذي يصاحب صاحبه إلى القبر، ويرجع المال ويرجع الأهل، فالمال لا ينفع صاحبه إلا مع إيمان، قال الله سبحانه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37] ، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ} [الأنعام:70] ، أي: بالقرآن، {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} [الأنعام:70] ، أي: تحبس نفس، {بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} [الأنعام:70] ، يعني: إن تقدم كل فدية، {لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام:70] .(94/7)
تفسير قوله تعالى: (إن علينا للهدى)
قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل:12] ، أي: علينا أن نبين للناس طريق الهداية، وطريق الغواية كذلك يبينه الله للعباد، ولكن حذف لدلالة السياق عليه، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] ، أي: وتقيكم البرد، وفهم أنها تقينا البرد من كونها تقينا الحر، وكذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] ، أي: ونساءً كثيراً كذلك، فقوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) ، أي: وإن علينا أيضاً بيان طريق الضلالة كذلك، كما قال تعالى في الآية الأخرى، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] ، وكما قال في الآية الثالثة: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، يعني: بينا له الطريقين.
وقوله سبحانه: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) فيها قولان لأهل العلم: القول الأول: إن علينا أن نبين لخلقنا طريق الهداية وطريق الغواية، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] ، فهذا هو القول الأول.
القول الثاني: إن هداية الناس مردها إلينا لا إلى غيرنا، فلا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100] ، وكما قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99] ، وكما قال أهل الإيمان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] ، وكما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] ، فهذا هو القول الثاني، (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) أي: إن أمر الهداية وكذلك أمر الغواية موكول إلينا نحن، ولا يستطيعه نبي ولا ملكٌ ولا بشرٌ ولا أي خلق، إنما مرده إلينا، والمراد بالهداية: هداية التوفيق، أما هداية الدلالة، فقال الله عنها: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] ، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، فهذه هداية الدلالة، أما هداية التوفيق فمردها إلى الله وحده، لم يملكها نوح لولده، ولا إبراهيم لأبيه، ولا نوح ولا لوط لزوجتيهما، ولا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لعمه، ولا يملكها أحد، قال الله سبحانه: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ} [الليل:12-13] ، أي: للدار الآخرة، (وَالأُولَى) ، أي: الحياة الدنيا.(94/8)
تفسير قوله تعالى: (فأنذرتكم ناراً تلظى)
قال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل:14] ، أي: تتوهج وتتلهب وتشتعل وتتوقد، (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى) ، أي: حذرتكم من هذه النار المتوهجة الملتهبة المتقدة.
(لا يَصْلاهَا) ، أي: لا يدخلها فيصلى بحرها {إِلَّا الأَشْقَى} [الليل:15] ، والأشقى هنا هو: الكافر والمشرك، فإن قيل: هل هذه النار لا يصلاها إلا الكافر؟ هل هناك مسلمون يدخلون هذه النار أو ليس هناك مسلمون يدخلون هذه النار؟ قد يقول قائل: إن قوله: (لا يَصْلاهَا) ، أي: لا يدخلها (إِلَّا الأَشْقَى) ، وهو -كما قلتم- الكافر أو المشرك، وكذلك في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131] ، فهي معدة للكفار، فهل النار يدخلها أحد من المسلمين؟
الجواب
نعم، هناك مسلمون يدخلون النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ فذكر أن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أُخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) ، وهذا وهو مسلم! وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:130-131] ، وقال تعالى: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68] ، فهناك مسلمون يدخلون النار، فكيف -إذاً- نوجه قوله تعالى: (لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى) ؟ للعلماء في هذا أجوبة: الوجه الأول من هذه الأجوبة: أن النار نيران، وليست ناراً واحدة، وهي دركات، فهناك نار معدة للكافرين، ونار أقل منها معدة للمسلمين العصاة الذين لم يتب الله عز وجل عليهم لجرائمهم، فهم يدخلون النار مدداً ثم يخرجون منها إلى الجنان على ما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الوجه الأول.
الوجه الثاني: أن المراد بقوله: (لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى) ، أي: (لا يصلاها) مخلداً فيها خالداً إلا الكافر، أما المؤمن فهو وإن دخلها فلا يخلد فيها، لقول الله كما في الحديث القدسي: (اخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه من الخير ما يزن ذرة ... ) الحديث.
{الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:16] ، (تولى) معناها: أعرض.(94/9)
تفسير قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى)
قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا} ، فسيبعد عنها {الأَتْقَى} [الليل:17] ، التقي، {الَّذِي يُؤْتِي} ، أي: يعطي، {مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18] ، أي: يتطهر، فإن بقاء أموال الزكوات معه تلوثه، أموال الزكوات تلوث من لم يخرجها (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) ، أي: يتطهر بإيتاء المال، وأيضاً: يتطهر من الشرك ومن الكفر ومن المعاصي.
{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:19] ، أي: يعطي المال ولا ينتظر مقابلاً من أحد من الخلق، كما في الآية الأخرى، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9] ، فأي عمل يُعمل لابد أن يبتغى به وجه الله وحده سبحانه وتعالى حتى يكمل الثواب، قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] ، فالشاهد في قوله: {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم:39] ، وفي الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد:22] ، فالصبر أيضاً لا يثاب صاحبه إذا كان يصبر تجلداً أو يصبر خوفاً على صحته أو يصبر ليقال عنه: صابر، إنما يصبر ابتغاء وجه الله، {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد:22] ، وقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114] ، قد تذهب للإصلاح ليقال عنك: مصلح، فلا تثاب، تتكلم كلمة طيبة ليقال عنك: متكلم بكلمة طيبة، فلا تثاب، لكن: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114] ، وهنا يقول سبحانه: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ) ، أي: عند هذا التقي المنفق (مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) ، ينتظر ثوابها، {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20] ، إنما ينتظر لقاء ربه وثواب ربه سبحانه وتعالى، {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21] ، سوف يرضيه الله سبحانه وتعالى ويجازيه بنيته الحسنة الطيبة.(94/10)
تفسير قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك)
ندخل إلى سورة الانشراح، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] ، الهمزة للاستفهام المتضمن معنى النفي، ومن المعلوم أن نفي النفي إثبات، فعلى ذلك فالمعنى: قد شرحنا لك صدرك، كقوله تعالى حاكياً عن فرعون: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:18] أي: قد ربيناك فينا وليداً، وكقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36] المعنى: الله كافٍ عبده، وكقول الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راحِ أي: أنتم كذلك، فالشاهد: أن نفي النفي إثبات، فقوله سبحانه: (أَلَمْ نَشْرَحْ) ، معناه: قد شرحنا، (لَكَ صَدْرَكَ) ، وهو تعديد لنعم الله على عبده ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام وتذكير له بهذه النعم، ومعنى (نشرح) : نوسع ونفسح، (أَلَمْ نَشْرَحْ) ، أي: ألم نفسح لك في صدرك ونوسع لك فيه؟ ومن المعلوم أن شرح الصدر الذي امتن الله به على نبيه محمد إنما هو شرح الصدر للإسلام، فقد يكون شرح الصدر للكفر -والعياذ بالله- كما قال تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106] ، أي: وسع صدره للكفر، وقال سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] ، ولتقريب المعنى إلى الأذهان: أنت إذا كنت تحب شخصاً من الناس، فكل قول يقوله هذا الشخص قلبك يتسع له ويقبله، حتى الخطأ الذي يقوله تجد منك تأويلات لهذا الخطأ، أما إذا كنت تبغض شخصاً، فكل قول يصدر منه مكروه عندك، ولا يجد له أي مسلك يدخل به إلى قلبك، فالصدر ضيق مغلق تجاه أي قول يقوله، فشرح الله صدر نبينا للإسلام، وشرح الله صدور عباده المؤمنين للإسلام، فكل قول يقال لهم من ربهم، وكل أمر يؤمرون به، وكل نهي ينهون عنه؛ يجدون في صدورهم متسعاً له، ولو كانت آية ظاهرها التعارض مع آية أخرى تقبل قلوبهم أن نجمع بين الآيتين، أي تكليف يجد متسعاً ومسكناً يسكن في قلوبهم، فشرح الصدر -الذي هو التوسعة والفسح- نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى على العبد، فإذا شرح الله صدرك للإسلام تجد أن كل التكاليف وكل التعاليم تدخل إلى قلبك وأنت مستريح في غاية الراحة، ومن ثم طلب موسى هذا الطلب من ربه سبحانه فقال أول ما قال لما كلفه الله الذهاب إلى فرعون: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25-28] ، فشرح الصدور نعمة من رب العالمين سبحانه وتعالى، فالله شرح صدر نبيه صلى الله عليه وسلم، وشرح الصدر أيضاً المراد به: الشق، فقد شق صدر رسول الله حقيقة مرتين: مرة وهو عند ظئره أي: مرضعه التي كانت ترضعه، فخرج يلعب مع الصبيان، فجاء جبريل عليه السلام وأخذه من بين الصبيان، وشق صدره واستخرج حظ الشيطان من صدره، وغسل صدره وملأه إيماناً وحكمة، ثم لأمه -أي: ضم بعضه على بعض- فذهب الصبيان إلى ظئره وقالوا: إن محمداً قد قتل، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام، وأثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.
والشرح الثاني الذي تم لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء، أُخذ النبي صلى الله عليه وسلم وشرح صدره، ثم غُسل قلبه، ثم استخرج حظ الشيطان، وملئ القلب إيماناً وحكمة، ثم لئم الصدر كذلك، فصدره عليه الصلاة والسلام شُرح بالمعنى الأول، وشُرح أيضاً بالمعنى الثاني.
فيمتن الله على نبيه صلى الله عليه، فيقول له: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) .(94/11)
تفسير قوله تعالى: (ووضعنا عنك وزرك)
قال تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2] الوزر: هو الحمل والثقل، ومنه قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25] ، الوزر يطلق على الذنب كهذه الآية، ويطلق على الحمل كما في قول الإسرائيليين لموسى: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه:87] ، فالوزر أصله: الحمل، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ، فالله يقول لنبيه: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) ، أي: حِملك.
قال تعالى: {الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:3] ، (أنقض ظهرك) يعني: كأنه من ثقل الحمل على ظهرك سمع لفقار الظهر نقيض، إذا وضعت شيئاً ثقيلاً على السقف تسمع للسقف نقيض، أي: يبدأ السقف في التكسر، فكأن النبي كان يحمل أوزاراً ثقيلة، فكادت هذه الأوزار أن تكسر ظهره حتى سمع لفقار الظهر نقيض، وهذا من شدة الحمل الذي كان يحمله الرسول، فالله يمتن على نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه وضع عنه هذا الحمل الثقيل الذي كاد أن يكسر ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وما هو هذا الحمل الذي كاد أن يكسر ظهر النبي صلى الله عليه وسلم؟ ما الحمل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمله حتى أنقض للنبي صلى الله عليه وسلم ظهره؟ من العلماء من يقول: إن هذا الحِمل هو هم الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكان النبي يحمل هذا الحمل، ويهتم بهذا اهتماماً عظيماً صلى الله عليه وسلم، حتى كاد هذا الحمل أن يكسر له الظهر، ومنهم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذنوباً صغيرة، ولكنها عند الأنبياء كبيرة، فكان يخشى منها خشية بالغة، فغفرها الله له، كما قال في الآية الأخرى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] ، وكما قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:1-3] ، فأُمر أن يستغفر، فمن العلماء من قال: إن النبي فعل صغائر، ولكنها كانت عنده بمثابة الكبائر العظيمة، فأهل الصلاح إذا صدرت منهم أشياء يسيرة فهي عندهم كبيرة كما قال الخليل: (نفسي نفسي إني كذبت ثلاث كذبات) وهذه الكذبات لا تخفى عليكم، قوله عن زوجته: هذه أختي، ويقصد أخته في الله، وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] عندما دعوه للخروج معهم إلى عبادة الأصنام، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] ، على سبيل السخرية والاستهزاء بأهل الكفر، ومع ذلك عدها ذنوباً، ويعتذر عن الشفاعة بسببها فيقول: (إني كذبت ثلاث كذبات) وكما قال أنس رضي الله عنه، (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) أي: من المهلكات.(94/12)
تفسير قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك)
قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] ، رفع الله للنبي ذكره بماذا؟ رفع له ذكره بهذا القرآن أولاً، فقد قال الله عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ} [الزخرف:44] ، أي: لشرف {لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] ، إن هذا القرآن -يا محمد- شرف لك؛ لأنه نزل عليك، وشرف لقومك كذلك؛ لأنه نزل على رجل منهم، ورفع له ذكره بأن قرن اسم النبي مع اسم الله في الشهادة، فمن يدخل الإسلام لابد أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وفي الأذان كذلك خمس مرات يومياً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وفي كل صلاة يصليها العبد يذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وذكر اسمه في الأولين وفي الآخرين، ففي يوم القيامة الشفاعة العظمى تحال إليه صلى الله عليه وسلم، ولا يفتح باب الجنة إلا لمحمد عليه الصلاة والسلام، ويقول الخازن: (بك أُمرت ألا أفتح لأحد قبلك) ، وفي الحج يذكر، وفي الصلوات يذكر، وفي كل موطن يذكر صلى الله عليه وسلم، فآتاه الله الوسيلة، وآتاه الله الفضيلة عليه الصلاة والسلام، وجُعل سيد ولد آدم، (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) ، فرفع الذكر للشخص نعمة والله! خاصة الذكر الحسن، ومن ثم طلبه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84] .
قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5] ، فإن ابتليت بشيء -يا محمد- فاصبر فقد أذهب الله عنك هموماً كثيرة، وأعطاك من النعم ما لا يعلمه ولا يحصيه إلا هو، فإن أصابك عسر، أي: شدة وضيق وكرب، فاعلم أن مع هذا العسر يسراً، أي: فرج ومخرج وسعة وغنىً، ثم أكد هذا، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] ، وكما قال قائل السلف: لن يغلب عسر يسرين، فالله أكد أن مع العسر يسرى، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] فكل كرب يتبعه فرج، وكل شدة يتبعها رخاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، (وأن الفرج مع الكرب، وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرى) وكما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [البقرة:214] ، الفقر والضر في الأبدان، {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] ، وفي الآية الأخرى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110] ، فدائماً الأمور إذا ضاقت جاء معها الفرج بإذن الله.(94/13)
تفسير قوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب)
قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] ، فرغت من ماذا؟ من أهل العلم من قال: إذا فرغت من أمور الدنيا فأقبل على العبادة وعلى الطاعة، أي: أقبل على العبادة والطاعة وأنت فارغ البال، فإن العبادة تحتاج إلى هدوء بال، ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) ، هذا قول: إذا فرغت من أمور الدنيا فاجتهد في العبادة.
والقول الثاني: إذا فرغت فانصب، أي: اجتهد واتعب في العبادة، إذا فرغت من الصلاة فاجتهد في الدعاء بعد الصلاة، وهذا قول قتادة، وروي بإسناد ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما!(94/14)
حكم الدعاء بعد السلام
وهنا يرد مبحث -وقد سيق من قبل-: ما هو حكم الدعاء بعد الصلاة؟ وهل هو مشروع أو غير مشروع؟ وفي الحقيقة أن هذا يجرنا إلى تنبيه لإخواننا طلاب العلم الذين يقرءون الكتب المعاصرة، الصحوة المعاصرة اتجهت في كثير من خطواتها إلى كتب أهل علم أفاضل، كـ الشوكاني والصنعاني وابن حزم رحمهم الله، وبعض كتب الأفاضل المتأخرين كالشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، ولكنهم تركوا التوغل والبحث في كتب الأوائل، كالإمام الشافعي وكالإمام مالك وكالإمام أحمد وغيرهم من الأئمة، فكان جديراً بهؤلاء الإخوة الذين اتجهوا إلى طلب العلم أن يتجهوا أيضاً إلى كتب الأوائل، ويظهروا استنباطات هؤلاء الأفاضل، ولا يبخسوهم حقوقهم، كما أنهم لا يبخسون الأواخر حقوقهم كذلك.
فمثلاً: مسألتنا هذه: الدعاء بعد الصلاة، غالب المصادر التي يقرأ منها الإخوة الآن، وأقربها إلى أيديهم كتاب زاد المعاد لـ ابن القيم رحمه الله تعالى، وأنعم بـ ابن القيم، فهو من أهل العلم والفضل، وله من المنزلة والمكانة مالا يخفى عليكم، لكن ليس هو الفاضل وحده، فهناك فضلاء آخرون ينبغي أن تقرأ أقوالهم وأن تسمع أخبارهم، وأن ينظر في أدلتهم كذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20] .
وفي الحقيقة أن ذكرنا لمسألة الدعاء بعد الصلاة إنما هو فقط من باب عدم الإنكار والتشديد في الإنكار على من خالفك في الرأي إذا كانت عنده أدلة ثابتة يستدل بها، فمن الناس من يقول: إن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع واستدل هذا القائل بأمور: أول الأمور التي استدل بها: حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته لم يقعد في مصلاه إلا بقدر ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام!) هذا هو الدليل الأول.
الدليل الثاني -وهو من ناحية النظر- قالوا: كيف تترك الدعاء أثناء الصلاة، وأنت قريب من ربك، ومقبل على ربك، ثم تدعو الله بعد الانصراف من الصلاة؟! ومن أدلتهم -وقد بالغوا في ذلك- أنهم قالوا: إنه لم يثبت عن النبي أنه دعا بعد الصلاة، وهذا هو الدليل الثالث.
ولما أوردت عليهم بعض الإيرادات، قالوا: إن دبر الشيء منه، فالأحاديث التي ورد فيها أن النبي كان يدعو دبر الصلاة، فدبر الصلاة قبل التسليم عندهم، هذا مجمل ما استدل به القائلون بمنع الدعاء بعد الصلاة.
أما الذين قالوا باستحباب الدعاء بعد الصلاة، فلهم جملة أدلة، والصراحة أنها أصرح، ومن ناحية الصحة فهي صحيحة كذلك، فمن أدلتهم حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم- قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته قال: اللهم! اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت) فقالوا: هذا دليل على الدعاء بعد التسليم.
والدليل الثاني: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: (كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه كي يلتفت إلينا إذا سلم، فسمعته يقول: رب! قني عذابك يوم تبعث عبادك) .
والدليل الثالث: قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل رضي الله عنهما: (يا معاذ! والله! إني أحبك، لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: رب! أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك) .
والدليل الرابع: ما ورد عن سعد بن أبي وقاص في صحيح البخاري أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الصبيان، ألا وهي: اللهم إني أعوذ بك من البخل، -والاستعاذة دعاء- وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر.
الدليل الخامس: حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الدعاء دبر الصلوات المكتوبات) لكن هذا الحديث الراجح فيه الإرسال، فهو من طريق عبد الرحمن بن ثابت عن أبي أمامة، وهو لم يسمع من أبي أمامة، هذا الحديث على وجه الخصوص لا يصح.
الدليل السادس: (أن النبي كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً) ، والاستغفار معناه: رب! اغفر لي، رب! اغفر لي، فهو دعاء.
الدليل السابع: أن الدعاء يشرع بعد الأعمال الصالحة، كحديث: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم! إني أستخيرك) ، والرجل الذي أذنب ذنباً أُمر أن يتوضأ ويحسن وضوءه ويصلي، وفي صلاة الاستسقاء أو صلاة الخسوف أو صلاة الكسوف تدعو الله وتستغفر الله وتتصدق، ومن الأدلة كذلك هذه الآية (إذا فرغت فانصب) على التفسير الذي سمعتموه.
فهذه أدلة القائلين باستحباب الدعاء بعد الصلاة، وأجابوا على القائلين بأن دبر الشيء منه فقالوا: نعم قد يكون دبر الشيء منه، فدبر الدابة منها، وقد يكون دبر الشيء خارجاً عنه، والدليل على ذلك، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (معقبات لا يخيب قائلهن، ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وثلاث وثلاثون تكبيرة، دبر كل صلاة) .
ولا أعلم خلافاً أن التسبيحات والتحميدات والتكبيرات إنما تكون بعد الصلاة، فهذه أدلة القائلين بأنه يشرع الدعاء بعد الصلاة.
وتوسط قوم فقالوا: يشرع الدعاء لكن بعد ذكر، ما يدعو مباشرة بالصلاة، ولكن بعد الصلاة يذكر الله ثم بعد الذكر يأتي بالدعاء، وهذا القول قول لا طائل تحته، وإن تقلده بعض الفضلاء، ومال إليه ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، لكنه لا طائل تحته؛ لأن الرسول كان إذا انصرف من صلاته استغفر، ولم يرد أنه ذكر ثم استغفر، والاستغفار نوع دعاء.
وهل هذا الدعاء جماعي؟ لم يرد أنه جماعي، بل يدعو كل شخص بما تيسر له.(94/15)
مسألة رفع الأيدي في الدعاء
وهل ترفع الأيدي في الدعاء أو لا ترفع؟ الخطب في هذا يسير، والحقيقة أنه لم يرد نص أن النبي كان يرفع يديه بالدعاء دوماً بعد الصلوات، فهذا الذي يصار إليه، لكن إن رفع شخص أحياناً فلا بأس؛ لأن النبي ذكر في أبواب الدعاء: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء) فمن آداب الدعاء مد اليد إلى السماء، وصحح بعضهم حديث: (إن الله حيي ستير كريم يستحي أن يرفع العبد إليه يديه ثم يردهما خائبتين صفراً) وفيه رفع اليدين، فهذه أدلة القائلين باستحباب الدعاء دبر الصلوات، والله أعلم.
قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] ، أي: فاجتهد في العبادة، {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:8] ، أي: اجعل رغبتك فيه وحده سبحانه، كما كان الصحابة يقولون في حجهم: إليك الرغباء والعمل، ارغب فيما عنده، واجعل ملتجأك إليه سبحانه وتعالى دون من سواه.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(94/16)
الأسئلة(94/17)
حكم التصوير الفوتوغرافي
السؤال
يقول: لقد قرأت في كُتيب للشيخ عبد الله بن جبرين أن الصور الفوتوغرافية حرام، وصدقت ذلك وامتنعت عن الصور، ولكني رأيت صورة الشيخ عبد الحميد كشك والشيخ حسن البناء والشيخ محمد الغزالي على الكتب الخاصة بكل واحد منهم، وقرأت أيضاً أن الصور حرام في روائع البيان ولكني حائر هل هي حرام أم حلال؟
الجواب
حق للسائل أن يتحير؛ لأنه لم يعرف المصدر الأصل الذي يتلقى منه دينه، فاعلم أن المصدر الأصل الذي تتلقى منه دينك كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فليست العبرة بقول الشيخ ابن جبرين، ولا بقول الشيخ الغزالي، ولا بقول الشيخ فلان ولا فلان، الحجة دائماً قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسأل عن دينك، اسأل كما كان الصحابة يسألون، ماذا في كتاب الله عن كذا؟ ماذا في سنة رسول الله عن كذا؟ أما تقول: صورة الشيخ الفلاني موجودة، وتحتج بالشيخ، لا، أبداً لا تسير الأمور هكذا، إنما اسأل عن الدليل الذي استدل به هؤلاء أو أولئك، ما هو الوارد عن رسول الله في الصور؟ اسأل عن هذا: هل ورد في كتاب الله شيء عن الصور؟ اسأل: هل نبيك كانت له صورة؟ وأين صورة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام؟ كان الممثلون والنحاتون موجودين على عهد الرسول، وكانوا يتخصصون في صناعة الأصنام التي هي أقوى من صناعة الصور، ولم ترد لنا صورة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم ترد لنا صورة لـ أبي بكر ولا لـ عمر ولا لـ عثمان ولا لـ علي، ولم ترد لنا صورة للإمام الشافعي ولا لـ مالك ولا لـ أبي حنيفة ولا لـ أحمد ولا لليث بن سعد ولا لـ عروة بن الزبير ولا لغيرهم.
اسأل عن الأدلة من السنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لُعن المصورون) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدع صورة إلا طمستها) ، ومن العلماء من يستدل بحديث: (إلا رقماً في ثوب) إذ أن المعنى: نقشاً في الثوب، فيجوز تصوير الصورة في الثوب، وليس الصورة الفوتوغرافية، إنما يستدل به على الثياب التي فيها صور نقوش، كثور أو نخلة أو أي شيء مرسوم في الثوب، لقوله: (إلا رقماً في ثوب) ، وبعض من العلماء قال: المراد بالرقم في الثوب: ما لم يكن من ذوات الأرواح، وكان يجدر بالسائل أن يسأل أيضاً: ما هي أقوال الصحابة بعد قول رسول الله في هذا الباب؟ جاء رجل مصور إلى عبد الله بن عباس فقال: يا ابن عباس! إني رجل مصور، وليس عندي دخل إلا من هذه التصاوير، قال: تعال، ادنُ مني، ادنُ مني، فقربه ثم قال: إن كنت صانعاً فاصنع الشجر وما لا روح فيه، (فالذين يصنعون هذه الصورة يعذبون بها يوم القيامة) ، وفي الحديث الآخر يقال لهم: (أحيوا ما خلقتم) ، (من صور صورة كُلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ) .
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: والتفريق بين ماله ظل وما ليس له ظل مذهب باطل، واستدل له (بأن النبي لما رأى الستارة معلقة وعليها تصاوير؛ جاءت عائشة وشققتها أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، وجعلت منها وسادتين) ، فهذه هي الأدلة، فكون الشيخ فلان جاء في المجلة، أو الشيخ فلان رسم صورته على كتاب، فالعبرة بالدليل، وليست بقول فلان ولا فلان، أقرب ما يقال: يا شيخ! لماذا تصور نفسك؟ هل الرسول تصور؟! رسول الله أفضل منك، هل تريدنا أن نحبك أكثر من حبنا لرسول الله؟! لا، معاذ الله أبداً أن نحبك أكثر من حبنا لنبينا محمد، ولست كـ جرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله الذي كان يقال عنه: يوسف هذه الأمة؛ لجمال صورته، ومع هذا ليست له صورة، أين صورة جرير بن عبد الله؟ ليست له صورة، أين صورة يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام؟ إن الرسول عندما دخل الكعبة وجد فيها صورة إبراهيم وإسماعيل، وهما يستقسمان بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله! -أي: المشركين- والله! ما استقسما بالأزلام قط) ، ثم طمس الرسول صورة إبراهيم وصورة إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فلو كان شيء من ذلك باقياً لبقيت صور رسل الله عليهم الصلاة والسلام، إنما كما قال الرسول لما ذكرت له أم حبيبة وأم سلمة كنيسة رأتاها بأرض الحبشة، وفي هذه الكنيسة صور، فقال: (أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة، أولئك كانوا إذا مات فيهم العبد الصالح صوروا له تلك التصاوير، وبنوا على قبره مسجداً) ، والحديث في الصحيح، فوصف النبي الذي فعل هذه الفعلة بأنهم: (شرار الخلق) .
فلا يغرنك الشيخ فلان ولا الشيخ فلان أبداً، وكيفما كان حبك للشيخ، دائماً اجعل سنة رسول الله فوق كل السنن، وهدي رسول الله فوق كل هدي، يكفينا أنه ليست بين أيدنا صورة لمحمد عليه الصلاة والسلام أبداً، فلا تفعل ذلك، وسل دائماً عن الدليل من الكتاب والسنة، ولا يرد أن الصور لم تكن موجودة، كانت التماثيل تصنع بعالي الدقة والبراعة، ومن ثم قال الرسول: (أشد الناس عذاباً المصورون الذين يضاهئون بخلق الله) فكان هناك قوم يصورون، لكن إذا دعتك الضرورة إلى صورة بطاقة أو صورة جواز ونحو ذلك فلا بأس بذلك.
وأنا سائلكم بالله وأنصفوا من أنفسكم، الذي يصور صورته وينشرها في جريدة أو على كتاب، هل ترون -والله أعلم بالنيات، وليس لنا تدخل فيها، لكن قلوبكم لها فكر- أنه يتقرب بهذا النشر أمام الله أو أنه يريد لفت النظر إلى منظره؟ كلٌ يسأل نفسه عن ذلك، المتصور الذي ينشر صورته على كتاب، هل يريد بنشر الصورة وجه الله سبحانه؟ الله أعلم بالنيات، لكن لنا أيضاً فكر، الله يقول عن قوم: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] ، فأنت افهم الأمور كيف تسير، وليس لنا تسلط على النيات، لكن تخيل أن صورتك نشرت، فالله الله! في سنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(94/18)
تفسير سورة الضحى
سورة الضحى من السور التي أنزلها الله سبحانه وتعالى تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتطييباً لخاطره بسبب انقطاع الوحي عنه وشماتة الكفار به، وقد ذكره الله فيها بنعمه عليه؛ فقد آواه بعد يتمه، وأغناه بعد فقره، وهداه بعد ضلاله، وأوصاه بمقابلة الناس بالحسنى، فلا يقهر اليتيم، ولا ينهر السائل، وأن يحدث بنعمة الله عليه.(95/1)
تفسير قوله تعالى: (والضحى، والليل إذا سجى)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1-5] .(95/2)
المراد بالضحى
يقسم الله سبحانه وتعالى بالضحى، فالواو: واو القسم.
من العلماء من قال: إن المراد بالضحى: النهار كله، والقرينة التي حملت قائل هذا القول على أن يقول به هو قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:2] ، قال: فأقسم الله بالضحى الذي هو النهار، وبمقابله الليل، كما في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1-2] .
ومن العلماء من قال: إن المراد بالضحى: صدر النهار، أي: أول النهار إلى وقت الزوال، والمراد بوقت الزوال: زوال الشمس عن منتصف السماء، ويكون ذلك قبيل صلاة الظهر بقريب من نصف ساعة.
فالحاصل: أن لأهل العلم قولين في تحديد الضحى: أحدهما: أن المراد بالضحى النهار كله.
والثاني: أن المراد بالضحى وقت الضحى المعروف، أي: وقت صلاة الضحى، الذي يبدأ بعد الشروق بقريب من عشر دقائق أو عشرين دقيقة، وينتهي إلى قبيل الزوال الذي هو قبل صلاة الظهر بما يقارب نصف ساعة.
ويقسم الله سبحانه وتعالى بهذه الآيات الكونية التي هي: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2] على شيء ألا وهو: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] .(95/3)
فضل صلاة الضحى
قبل أن ندخل في تفسير قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] سنورد بعض الأحاديث التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل صلاة الضحى.
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة: فأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وبكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما ابن آدم من الضحى) .
وأيضاً صح من حديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة) ، فذكر نحواً من حديث أبي ذر وفيه زيادة: (النخاعة في المسجد تدفنها والشىء تنحيه عن الطريق) ، وفي بعض الطرق الأخرى: (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما ابن آدم من الضحى) .
فالشاهد: أن الإنسان عليه أن يؤدي شكر نعم الله عليه في مفاصله، ويكون ذلك بتأدية ثلاثمائة وستين صدقة إما بتسبيح أو حمد أو تكبير أو تهليل أو أمر أو نهي، ويجزئ عن ذلك كله أن يركع ركعتين من الضحى، ففي مسند الإمام أحمد من حديث نعيم بن عمار الغطفاني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله سبحانه وتعالى: يا ابن آدم! اركع لي أربع ركعات أول النهار؛ أكفك آخره) ، فمن العلماء من حمل هذه الركعات على أنها من الضحى، فتكون هذه الركعات كالحرز يحفظك الله بها إلى آخر النهار.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (أوصاني خليلي بثلاث: بأن أوتر قبل أن أنام، وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وبركعتي الضحى) .
فمن الفضل الوارد في صلاة الضحى: الأول: أن صلاة الضحى تجزئ وتكفي وتقوم مقام ثلاثمائة وستين صدقة.
الثاني: أن أربع ركعات من الضحى حرز لك حتى آخر اليوم.
الثالث: أنها إمضاء لوصية رسول الله التي أوصى بها أبا هريرة رضي الله تعالى عنه.
وثمّ فضائل أخر في صلاة الضحى.(95/4)
الرد على من أنكر صلاة الضحى
من العلماء من أنكر صلاة الضحى، وقال: لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى، وأورد بعض الفقهاء هذا الرأي في كتبهم وسكت عنه، وكان من اللائق أن يسترسل في توجيهه إن استطاع أن يوجهه أو إبطاله إذا احتاج الأمر إلى إيقاف، أما توجيه هذا الكلام وتسنيده فيتلخص في أمور: أولها: أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم منها سنن قولية أو فعلية أو تقريرية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها وحث عليها، سواء فعلها أو لم يفعلها، ما دام قد حث عليها، فثبتت بهذا الحث سنية ومشروعية صلاة الضحى.
ثانيها: أنه قد ثبت عن رسول الله أنه صلى الضحى، فقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: كان يصلي أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله له أن يزيد) .
وورد من حديث علي عند ابن خزيمة: (أن النبي كان يصلي الضحى) .
وورد أيضاً أن عتبان بن مالك رضي الله عنه: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة في بيته، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم ضحى، فقال له: أين تريد أن أصلي في بيتك؟ فأشار إليه إلى المكان الذي يريد أن يصلي فيه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وصف الصحابة خلفه، وصلى بهم ركعتين، وكان ذلك ضحىً) ، أخرجه البخاري ومسلم.
وثبت من حديث أم هانئ رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عام الفتح ثمان ركعات، وكان ذلك ضحىً) .
ومن المقرر أن المثبت مقدم على النافي، فإذا جاء صحابي ونفى شيئاً، وأثبته صحابي آخر، فالمقرر في الأصول أن المثبت مقدم على النافي، فمثلاً قال بعض الصحابة: من حدثكم أن رسول الله بال قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا جالساً.
فهذا الحديث، فيه نفي من بعض الصحابة، ولكن ثبت من حديث حذيفة في صحيح البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) ، وهذا حديث آخر مقابل ذلك الحديث.
فالصحابي قد يفتي بما يعلم أو أن ينقل ما رآه، لكن لا يكون علمه قد أحاط بكل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) ، وثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثلاث عشرة ركعة) ، فالمثبت يقدم قوله على قول من نفى، إذ مع المثبت زيادة علم.
فيقال لمن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الضحى: قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى الضحى.
فالوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم حث عليها، وحثه كفعله أو أقوى من فعله، إذ الفعل قد يتجه إليه القول بأنه مخصوص، أي: أنه خاص برسول الله، لكن الحث وأمر الغير أو أمر الآخرين أقوى من مجرد الفعل.
والثاني: أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك.
أما قول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الضحى، فيوجه قوله على الوجوه التالية: الوجه الأول: أن هذا القائل قد ينقل بناءً على ما علمه، فلما لم ير النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى، ظن أنه ما صلاها قط، فنقل هذا النقل، وتتبعه غيره فأثبته.
والوجه الثاني: أنه قد يقال: إن هذا الصحابي الذي نقل ذلك أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحافظ على صلاة الضحى وإن كان قد صلاها.
ومن العلماء من يجيب على ذلك أيضاً فيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتزئ كثيراً لصلاة الليل عن صلاة الضحى، والله أعلم.(95/5)
عدد ركعات صلاة الضحى
ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أبا هريرة أن يصلي ركعتين أو يركع ركعتين من الضحى، فصلاها ركعتين، أما أكثر ركعات صلاة الضحى فلم يرد نهي عن حد معين، أما السنة التي فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم أعني السنة الفعلية، فإنه قد صلى عام الفتح ثمان ركعات وكان ذلك ضحىً، ومن العلماء من يحمله على صلاة الفتح.
وورد أنه كان إذا نام عن صلاته من الليل صلى من النهار ثنتا عشرة ركعة، لكن وإن كان قد فعل ذلك، لكنه ليس هناك حد لعدد الركعات لو تجاوز، بل الأمر مفتوح إلى قبيل الزوال.(95/6)
قسم الله بالضحى والليل إذا سجى
يقسم الله سبحانه وتعالى بالضحى وبالليل إذا سجى، فهي أشياء متقابلة، فمن العلماء من قال: إن القرآن الكريم أطلق على آياته مثاني: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] ؛ لأنه يذكر فيه الشيء ويذكر مقابله، فالله يقسم بالضحى بما حواه من نهار وضياء ورؤية ووضوح، وبمقابله: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:2] ونحو ذلك: ذكر جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم يتبع بذكر جزاء الكافرين، وأيضاً: المتقابلات من أنواع العذاب والمتضادات كقوله: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ} [ص:57] وهو الذي بلغ أعلى درجات الحرارة، وقوله: (وَغَسَّاقٌ) وهو الذي نزل إلى أقل درجات البرودة، {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:58] .
فيقسم الله بـ {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2] ، كما أقسم بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:1-4] ، فيقسم بقدرته على تصريف الآيات للعباد، فهو القادر على ذلك، ولن يستطيع ذلك أحد من خلقه، فهو الذي يأتي بالليل ويتبعه بالنهار، وهو الذي يأتي بالضحى ويأتي بالليل، ويحرك الشمس والقمر، سبحانه وتعالى هو الذي يسير الأمور وهو يدبرها.
ومعنى (سجى) : غطى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة موسى مع الخضر: (فرجع موسى فوجد رجلاً مسجى بثوب أخضر) ، أي: مغطى بثوب أخضر.
فالليل إذا سجى، أي: أقبل وغطى على الأشياء بظلامه.(95/7)
تفسير قوله تعالى: (ما ودعك ربك وما قلى)
قال تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] ، ما ودعك أي: ما تركك، من التوديع، فودعت فلاناً إذا تركته، ((وَمَا قَلَى)) [الضحى:3] أي: وما أبغض، فالمعنى: ما ودعك ربك وما قلاك، أي: ما تركك ربك ولا أبغضك منذ أحبك، وسبب نزول هذه الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى، بمعنى: مرض، فلم يقم ليلة أو ليلتين ليصلي الليل، فقالت امرأة: إني أرجو أن يكون صاحبك وشيطانك قد قلاك، يعني: أبغضك، وفي بعض التفاسير أن امرأة أبي لهب قالت: إني أرجو يا محمد أن يكون هذا العفريت أو الشيطان الذي يأتيك قد قلاك وابتعد عنك، فنزل قوله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1-3] ، أي: ما تركك ربك ولا أبغضك منذ أحبك سبحانه وتعالى.(95/8)
تفسير قوله تعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى)
قال تعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4] ما المراد بالآخرة؟ من العلماء من يقول: المراد بالآخرة: الدار الآخرة، والأولى: الحياة الدنيا، وقلة قليلة تذكر أن المراد بالآخرة: مرحلة ما بعد قول هذه المرأة أو ما بعد شكوى الرسول صلى الله عليه وسلم، والأولى: حال النبي صلى الله عليه وسلم الأولى قبل نزول هذه السورة وقبل شكواه، أي: على هذا التأويل الثاني الذي تبناه قلة من المفسرين سيكون المعنى: حالك بعد انقطاع الوحي عنك سيكون أحسن من حالك قبل انقطاعه عنك، لكن التأويل الأول عليه الأكثرون.(95/9)
تفسير قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى)
قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] يخبر الله أنه سوف يعطي نبيه صلى الله عليه وسلم حتى يرضى، وقد وفى الله لنبيه ذلك، فأعطاه الله سبحانه وتعالى من خيري الدنيا والآخرة ما رضي به النبي صلى الله عليه وسلم.
أعطي عليه الصلاة والسلام من المال مفاتح خزائن الأرض، كما قال صلى الله عليه وسلم، وفتحت له دول بعد أن كان فقيراً عليه الصلاة والسلام.
وأثني عليه ثناء حسناً، فدائماً اسمه يردد في كل آذان: "أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله" كما قال القائل: أغر عليه للنبوة خاتم إذا قال المؤذن عند الأذان أشهد أو كما قال الشاعر.
ففي كل أذان يذكر اسمه مع اسم الله سبحانه وتعالى، وفي كل صلاة يذكر اسمه صلى الله عليه وسلم: "التحيات لله" إلى قوله: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله".
وفي الحج يذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب الله يذكر اسمه، وله سورة باسمه صلى الله عليه وسلم، وفي الملأ الأعلى يذكر اسمه عليه الصلاة والسلام، ويصلي عليه المصلون: صلى الله على محمد، صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بتشريفه كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ} [الزخرف:44] أي: لشرف لك {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44] ، فهذا كله من العطاء الذي أعطاه الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد أوتي من النعم ما لا يعلمه إلا الله.(95/10)
تفسير قوله تعالى: (ألم يجدك يتيماً فآوى)
قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6] يمتن الله بنعمه على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، فيقول له: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} ، أي: فآواك، وكان ذلك بضمه إلى عمه أبي طالب الذي كان يحوطه ويرعاه.(95/11)
تفسير قوله تعالى: (ووجدك ضالاً فهدى)
قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] ، وهل كان الرسول عليه الصلاة والسلام ضالاً؟ فمن العلماء من قال: إنه قد ضل في شعب من شعاب مكة، وهو صغير، وكاد يهلك، فرده الله إلى أهله سالماً.
ومن العلماء من قال: إنه كان ضالاً عن الحق، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] ، وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا القرآن غافلاً، وقد جاء في مستدرك الحاكم بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق هو وزيد بن حارثة إلى زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن يبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان زيد بن عمرو بن نفيل موحداً من الموحدين، ومسلماً من المسلمين، اعتنق ملة الحنيف إبراهيم صلى الله عليه وسلم، كما تقدم أن: زيد بن عمرو بن نفيل ذهب إلى اليهود وقال: يا معشر اليهود! أريد أن أدخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، قال: أعوذ بالله من غضب الله، والله! لا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً، إنما فررت من غضب الله، هل عندكم شيء آخر؟ قالوا: لا، إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
فانطلق إلى النصارى وقال: يا معشر النصارى! أريد أن أدخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: لا والله! ما أحمل شيئاً أبداً من لعنة الله، هل عندكم شيء آخر؟ قالوا: لا، إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فخرج يقول: أشهدكم إني على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وسلك سبيل المحسنين، فكان يمنع أن توأد البنات، وبه يفتخر الفرزدق ويقول: وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد فالشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة انطلقا إلى زيد بن عمرو بن نفيل فقربا إليه لحم شاة، فقال لهما زيد: إني لا آكل من لحومكم التي تذبحونها على أنصابكم.
فالشاهد أن من العلماء من يقول: كان ضالاً عن طريق الهداية وعن القرآن لهذه النصوص.
{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] ، والضلال: الذهاب عن القصد، وقد تقدم القول فيه: ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا(95/12)
تفسير قوله تعالى: (ووجدك عائلاً فأغنى)
قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:8] والعائل هنا بمعنى: الفقير، فمنه قول الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل أي: متى يفقر؟! ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28] أي: فقراً، ومن العلماء من قال: عائلاً، أي: يعول غيره، لكن الأكثرين على أن عائلاً بمعنى: فقيراً.
وقوله: {فَأَغْنَى} [الضحى:8] ، متى أغناه وهذه السورة مكية؟! من العلماء من قال: أغناه بالفتوح التي فتحت عليه، وبالجزية التي جلبت إليه عليه الصلاة والسلام، والغنائم التي حملت له، إلا أن هذا القول معترض عليه بأن السورة مكية، والفتوحات إنما كانت بعد أن هاجر إلى المدينة، فكيف وجده عائلاً فأغنى؟ من العلماء من أجاب عن ذلك فقال: الآية باعتبار ما سيئول إليه الأمر، كما في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] ثم قال: {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] ، وكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] أي: باعتبار ما ستئول إليه هذه الأموال.
ومن العلماء من قال: إنه أغناه أيضاً في نفسه، وكان النبي عليه الصلاة والسلام فقيراً لا يجد ما يتزود به ولا ما يعمل فيه من الأموال، فتزوج بـ خديجة، وكانت ذات مال وثراء، فأغناه الله سبحانه وتعالى بمال زوجته خديجة.
ولا مانع أبداً أن تتزوج بامرأة ثيب إذا كنت فقيراً لا تستطيع الزواج، ولا ترهق نفسك ولا تتعب نفسك في أن تجمع الأموال من هنا ومن هنا، وأمامك نساء ثيبات يحتجن الزواج وهن صالحات، إما امرأة مات زوجها أو امرأة طلقت لفساد زوجها، أو امرأة مات زوجها بحادث، وعندها شقتها وعندها مالها، لا تكلفك شيئاً بل تحتاج إلى رجل تستظل به، فلتعف نفسك بها وتعفها هي الأخرى، وأنت مثاب، وإذا وسع الله عليك وأردت أن تتزوج بعد ذلك فالشرع يبيح لك ذلك.
فالشاهد: أن القيود التي وضعها مجتمعنا في أمور الزواج ينبغي أن تكسر؛ لأن الفساد قد استشرى في زماننا، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) .
فقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:8] توجيهه أن الله أغناه بتزويجه بـ خديجة رضي الله عنها.(95/13)
تفسير قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر)
قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9] أي: كما كنت يتيماً فآواك الله، كذلك فلتقابل هذه النعمة بإحسان، والإحسان يجازى بالإحسان، كما أن الله آواك وكنت يتيماً، فكذلك أنت بالنسبة لليتيم لا تقهر اليتيم، وكما أن الله أغناك فقد كنت فقيراً، فالسائل أيضاً لا تنهره، فيؤخذ من هذا منهج الدعوة إلى الله ألا وهو: هل يذكر الشخص بما كان فيه من حال قبل أن يصل إلى منصب أو يصل إلى حالة من الثراء حتى يفعل الخير أو أن هذا التذكير غير مرغوب فيه؟
السؤال
لو ذهبت أدعو رجلاً، هل أذكره بما كان فيه قبل أن يصل إلى هذه الحال، ومن ثم أطلب منه طلبي أو لا؟ لكل وجهة، لكن أحياناً يستحب تذكير الشخص بالحال التي كان فيها قبل أن يصل إلى هذا الحال التي هو عليها، والدليل على ذلك هذه الآيات: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6-8] فكذلك {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9] فأنت كنت يتيماً، والسائل أيضاً لا تنهره فأنت كنت أيضاً فقيراً، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ، على ما سيأتي تأويله.
ويستدل لهذا المبدأ أيضاً بحديث الثلاثة: الأبرص والأقرع والأعمى، فالأبرص والأقرع والأعمى لما جاءهم الملك يسألهم: ماذا تريدون؟ كل طلب مطلباً، فقال أحدهم: أريد غنماً تملأ هذا الوادي، وأريد شعراً حسناً؛ فقد تقذرني الناس، فأعطاه الله الشعر الحسن، وأعطاه من المال ما شاء، والآخر أزال الله عنه البرص الذي كان يتأذى به أمام الناس، وأعطاه الله من البقر، والثالث أعطاه الله ما شاء من الإبل وأزال عنه العمى، الحديث إلى آخره.
الشاهد: أن الملك لما جاء يسألهم مرة أخرى، قال لهم طالباً: لا بلاغ لي إلا بالله ثم بك، شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: إن الحقوق كثيرة، وجلس يتعلل بعلل، فحينئذ ذكره بالحال التي كان فيها: كأني بك كنت فقيراً فأغناك الله، وكنت أبرصاً فشفاك الله، كأني أنظر إليك، قال: لقد ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فما نفعته الذكرى، فقال: إن كنت كما تقول؛ فردك الله إلى ما كنت فيه، الحديث.
فهل يستحب تذكير الشخص بالذي كان فيه أو يكره؟ هذه المسألة ليس فيها نص صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر صريح بفعل معين، إنما هي مجرد تصرفات صدرت، فإن رأيت أن تذكير الشخص بما كان فيه من فقر أو غنى أو مرض ينتفع به الشخص، فذكره حينئذ وتوكل على الله؛ لأن التذكير يهيج فيه شكر نعم الله، فيحمله هذا الشكر على فعل الإحسان، وإن كنت ترى أن الشخص الذي أمامك إذا ذُكر بالحالة التي كان فيها فسينفعل وسيغضب وسيثور؛ فحينئذ يترك التذكير، كقولك للشخص: اتق الله، فكلمة (اتق الله) كلمة طيبة، فيها غاية الحسن، لكن أحياناً لا تقال، فمثلاً: الله قال لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] ، وتداول الصحابة فيما بينهم كلمة: (اتق الله) ، لكن أحياناً يكون لها موطن تكره فيه، لا تكره لأنها كلمة: (اتق الله) ، لكن كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يقسم القسمة بين أصحابه وجاءه رجل فقال: يا محمد! اتق الله واعدل في القسمة.
صحيح كلمة (اتق الله) قوية، لكن ليس هذا هو موطن قولها، فإنك تضمنها اتهاماً للشخص، فقال الرسول: (ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟!) .
فالكلمة الطيبة إن ضمنت معنىً يحمل اتهاماً فحينئذ تذم، لكن لا تذم لأنها هي الكلمة ولكن لما تضمنته الكلمة من معاني أخر، فمثلاً: شخص يسألك عن شخص آخر، فقلت له: الله يهديه، "الله يهديه" كلمة طيبة جداً، وفي غاية الحسن، لكن (الله يهديه) توحي بها إلى أنه ضال وزائغ، وتسأل الله له الهداية، فحينئذ تكون نوعاً من أنواع الاغتياب واللمز، والله أعلم.
فالشاهد: هل يشرع تذكير الشخص بالحال التي كان فيها قبل أن أطلب منه ما أطلب؟ هذا أمر مرده إلى حال الذي أمامي، إن رأيت أن الشخص ينتفع بهذه الموعظة قدمتها، وإن رأيت أنه سينفعل إذا ذكر بالذي كان فيه من حال! تركت هذا التذكير؛ لأنه سيكون من باب الإيذاء، والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن سب الأموات؛ حتى لا يتأتى الأذى إلى الأحياء من ناحية، وأيضاً فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا من عمل.(95/14)
منزلة اليتيم في الشريعة الإسلامية
قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9] من محاسن هذا الدين أن جاءت نصوص الكتاب العزيز ونصوص سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بحفظ اليتيم، حفظه في ماله وفي عرضه وفي دمه، وفي كل شيء.
ففي باب الأموال: قال الله سبحانه محذراً أشد التحذير: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] ، ذلك أن اليتيم ليس له من يدافع عن حقه غير الله سبحانه وتعالى، وقال تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2] ، ومهور النساء قد يتساهل فيها، لكن مهر الطفلة اليتيمة خاصة لا يتساهل فيه، ولا يجوز لك أن تأتي إلى طفلة يتيمة وتقول: أنا أزوجها من الأخ فلان بالقرآن، لا يجوز لك هذا أبداً، وإن ظننت أنك على سنة، بل أنت آكل لأموال اليتيمة بالباطل ومضيع لحقها، فالله يقول في شأن اليتيمة خاصة: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] أي: في صداق اليتامى: البنات الصغيرات، فلا تتزوجوهن، التقدير: فلا تتزوجوهن، أي: فالنساء سواهن كثير، فلا تقدموا على الزواج بهن إلا إذا أقسطتم لهن، ولا تقدموا على الزواج باليتيمات إلا إذا عدلتم معهن في الصداق، {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] ، فالتقدير: فالنساء سواهن كثير، {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] .
فجاءت الآيات بحفظ مال اليتيم، وكان بعض السلف إذا سئل عن شيء من أمر اليتيم؛ يرد ذلك إلى النيات لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] .
وهل يجوز ضرب اليتيم لتأديبه؟ يعني: إذا كان يتيماً مشاغباً، أو يسرق، أو يسب ويستعمل ألفاظاً قبيحة، يجوز ضربه لمصلحته: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] .(95/15)
تفسير قوله تعالى: (وأما السائل فلا تنهر)
قال تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] السائل هنا عام، فيدخل في ذلك السائل عن العلم، فلا ينبغي لشيخ ولا لعالم ولا لأحد إخواننا الخطباء أو الدعاة أن يزجر سائله.
وأيضاً يجدر بإخواننا الدعاة أن يرفعوا الأجهزة التي وضعت في بيوتهم للرد على التلفونات، ويردوا هم مباشرة على أسئلة السائلين، وكذلك الأطباء الذين يغيرون الأرقام يومياً فراراً من المسلمين الذين يحتاجون إلى نصائحهم، جدير بكل هؤلاء أن يفتحوا صدورهم للمسلمين، جدير بهم أن يفتحوا أبوابهم ولا يكونوا كالسلاطين، سلاطين الظلم الذين يجعلون لأنفسهم بوابين وحجبة يحجبون الناس عن الدخول إليهم.
فلا يجدر بالعلماء أن يضعوا مسجلات على التلفونات، وكذلك الأطباء لا يجدر بهم أن يغيروا أرقام التلفونات يوماً بعد يوم، هذا يفر من سؤال السائل، وهذا يفر من استشارة المريض، وكل من كان في هذا المقام ينبغي له أن يفتح صدره وقلبه للمسلمين وإلا فالله قادر على أن يزيل ما به من نعمة، يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} [الإسراء:86] .
وكذلك السائل المحتاج الذي يسأل الناس أموالاً لاحتياجه وفقره، أو السائل الذي ضل الطريق، أو السائل عن أي شيء، عن صحته أو أي شيء ينتفع به في دينه ودنياه ما لم يكن سائلاً تجاوز الحد الشرعي الذي شرع له في السؤال.(95/16)
تفسير قوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث)
قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ، ما المراد بالتحديث بنعمة الله؟ من العلماء من قال: إن المراد بالتحديث بنعمة الله: العمل بمقتضى نعمة الله عليك.
فمثلاً، التحديث بنعمة المال: أن تنفقه في أوجه الخير، التحديث بنعمة الصحة: أن تستعملها في الخير، التحديث بنعمة المنصب: أن تساعد به أهل الاحتياج، التحديث بنعمة الزكاة: أن تفهم الأغنياء وترشدهم.
فكل نعمة لها شكر.
ومنهم من قال: اذكر نعمة الله عليك في نفسك، ولا تنساها، فإنك إذا ذكرت نعمة الله عليك في نفسك حملك هذا الذكر على فعل الخير.
ومن العلماء من قال: أظهرها للناس وحدث الناس بما أنعم الله عليك، ولكن لهذه الفقرة الأخيرة ضابطاً فقهياً.
فإذا كنت لا تخشى من الناس الحسد والمكر بك، حينئذ يستحب لك التحديث، تقول: إن الله أكرمني بكذا، أكرمني ربي بكذا، أكرمني ربي بكذا.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) ، حتى في حياتنا الدنيا، فأنت مثلاً إذا جئت وأهديت لأخيك أو لجارك الفقير ثوباً، كم تسعد إذا رأيت هذا الفقير الذي كان يلبس ثوباً مقطعاً خرج وهو منشرح الصدر ويلبس الثوب الجديد ويمشي به في الناس، فصدرك ينشرح وتسعد غاية السعادة.
إذا ذهبت إلى بيت فقير، ووجدته يتأوه ويتقلب على الفراش من البرد، وأهديته بطانية، وذهبت ورأيته يتقلب في البطانية ويحمد الله ويثني عليه، ويشكرك على صنيعك؛ لا شك أنك تفرح، وقلبك وصدرك ينشرحان لهذا الفعل الذي رأيته.
فحدث بنعمة الله عليك ولير عليك أثر نعمة الله سبحانه وتعالى، ودع عنك أهل الجهل من أهل التصوف المقيت الذين يفترون أحاديث مكذوبة وموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحمل على لبس المرقع، ويروون أشياء لا أصل لها، منها أن ثوب عمر كان فيه ثلاث عشرة رقعة، إلى غير ذلك من التخاريف التي يروونها عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام قد خرج يوماً في حلة حمراء لم يُر على أحد مثلها.
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] هذا تفسيره، لكن إن خشيت من حسد الحاسدين، فحينئذ استر عن هذا الحاسد النعمة، كما قال يعقوب عليه الصلاة والسلام: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] ، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم في منامه ما يحب، فليحدث به من يحب) ، فقط تحدث الذي تحبه فقط، أما الذي تخشى من حسده فاكتم عنه هذه الرؤيا.
أما حديث: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) ، فقد أطبق العلماء الأوائل: كـ أحمد بن حنبل، ويحيى ين معين وابن المديني وغيرهم على تضعيفه وتوهينه، وبالغ بعضهم فحكم عليه بالوضع، لكن معناه يدخل في القضية فقهياً.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.(95/17)
تفسير سورة التين
كثيرة هي السور التي أقسم الله فيها بأشياء متعددة، وهو سبحانه غني عن القسم، ولكنه أقسم بهذه الأمور ليدل على عظم المقسوم به، وأهمية المقسوم عليه، ومن هذه السور سورة التين، وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة ما جبل عليه الإنسان من الكفران، ثم استشنى الله من عصم قلبه بالإيمان.(96/1)
تفسير قوله تعالى: (والتين والزيتون وطور سينين)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:1-6] .
الواو في قوله تعالى: (وَالتِّينِ) واو قسم، فأقسم الله سبحانه وتعالى بأربعة أشياء: بالتين، وبالزيتون، وبطور سينين، وبالبلد الأمين، أما المراد بالتين: فلأهل العلم فيه أقوال، أشهرها: أنه التين الذين يأكله الناس، وكذلك الزيتون فهو الزيتون الذي يعصر، ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالتين والزيتون: منابت التين ومنابت الزيتون، أي: الأماكن التي ينبت فيها التين، والأماكن التي ينبت فيها الزيتون.
وهذا القول له قوة.
واستظهر بعض العلماء قولاً فقالوا: إن الله أقسم بثلاثة مواطن: بمنابت التين والزيتون وهي: الشام، وبطور سينين وهو: طور سيناء، وبالبلد الأمين وهو: مكة.
قالوا: فأقسم الله سبحانه وتعالى بهذه المواطن الثلاثة التي نزلت فيها أشهر كتبه على أفضل خلقه عليهم الصلاة والسلام، فالتين والزيتون المراد بهما: منابت التين ومنابت الزيتون، وهي بلاد الشام التي كان فيها عيسى صلى الله عليه وسلم، وطور سينين وهو طور سيناء الذي كلم الله عنده موسى صلى الله عليه وسلم، والبلد الأمين وهو مكة التي بعث فيها رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام.
فهذه وجهة القائلين بأن المراد بالتين والزيتون منابت التين ومنابت الزيتون.
وعلى ذلك فالقسم بثلاثة مواطن، وهي: الشام حيث ينبت التين والزيتون، وطور سينين، والبلد الأمين.
قال تعالى: (وَطُورِ سِينِين) أما الطور: فهو كل جبل ينبت يطلق عليه طور، فهناك جبال إذا نزل عليها المطر أنبتت، وجبال إذا نزل عليها المطر لا تنبت، فكل جبلٍ ينبت يطلق عليه فهو طور.
أما قوله: (سِينِينَ) فلأهل العلم فيه قولان: أحدهما: أن المراد بسينين: سيناء.
ومن العلماء من قال: إن المراد بسينين أي: مبارك حسن، وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم لجارية كان يقال لها أم خالد حينما أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أقاربها وعليها ثوب حسن، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا أم خالد؟! هذا سناه، هذا سناه) ، أي: هذا حسن بلسان الحبشة، فقال هذا القائل: إن المراد بسينين: مبارك حسن، والمعنى: وطور مبارك حسن.(96/2)
حرمة البلد الأمين
قال تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} أما الأمين: فهو الآمن، آمن أولاً بحرمة الله له، فالله سبحانه قد حرمه، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67] ، فكان الرجل يلتقي بقاتل أبيه وبقاتل أخيه ولا يعترضه بسوء، ولا يمسه بمكروه ما دام داخل الحرم، أي: داخل مكة وما حولها من الحرم، فمنى من الحرم، وكذلك جزء من مزدلفة.
ومن صور الأمن التي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس) فذكر الحديث، وفيه: (فلا تلتقط لقطتها إلا لمنشد، ولا يعضد شوكها، ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يسفك فيها دم) إلخ، فلها حرمة، فأقسم الله سبحانه وتعالى بهذه البلدة.
وعلى ماذا يقسم الله بهذه الأشياء؟(96/3)
خلق الله للإنسان وما يؤول إليه هذا الخلق
يقول سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أي: في أحسن صورة، وأكمل خلق، وأحسن استقامة واعتدال، وأحسن قوام، وأجمل منظر، فليس هو كالدواب التي تمشي على بطنها، ولا كالأنعام التي تمشي على أربع، إنما خلق الإنسان في أحسن تقويم، {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} ما المراد بأسفل سافلين؟ لأهل العلم أيضاً فيها قولان مشهوران: القول الأول: أن المراد بـ ((أَسْفَلَ سَافِلِينَ)) أي: قلبناه على وجهه في النار في أقبح صورة، فعلى ذلك يكون المراد بالإنسان هنا: الإنسان الكافر، فالمعنى: لقد خلقنا هذا الإنسان الكافر في أحسن تقويم، ثم بعد ذلك لما لم يؤمن ولم يشكر؛ قلبناه على وجهه في النار في أقبح صورة.
فهذا قول لكنه ليس بالقول الأشهر، وليس عليه الأكثر.
والأكثرون على أن المراد بـ (أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أرذل العمر، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل:70] ، وكما قال سبحانه: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68] ، فمعنى قوله: (أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أي: إلى أرذل العمر، وهنا يقول الشاعر: يود الفتى طول السلامة والغنى فكيف ترى طول السلامة يفعل يكاد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا رام القيام ويحمل فبعد أن يكون في أحسن تقويم يبدأ بالتمايل وانحناء الظهر، فالمراد بالإنسان على هذا التأويل: عموم الإنسان (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ) أي: كل الإنسان، (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي: في أعدل خلق، وأحسن قوام، ثم بعد ذلك (رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أي إلى أرذل العمر، فبدأ هذا القوام الجميل المستقيم في الانحناء والرجوع.
لكن يرد على هذا الوجه من التأويل إشكال وهو: أن الله قال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ؛ فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات استثناء، ومن المعلوم أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الآخرون ينكسوا في الخلق، وينحنوا كما ينحني غيرهم، ويكبروا كما يكبر غيرهم، فكيف توجه هذه الآية: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ؟ أجاب الذين اختاروا هذا التأويل على هذا الإشكال بقولهم: إن قوله تعالى: (إِلَّا) بمعنى لكن، فالمعنى: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنون، واحتاجوا مع هذا إلى أن يقدروا محذوفاًَ في الآية الكريمة، فقالوا: إن في الآية محذوفاً يفهم من السياق، فالمعنى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ، أي: في أحسن صورة، وأعدل قوام، {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي: إلى أرذل العمر، حيث الكبر والتخريف، فلما يكبر ويخرف ينقطع عمله ولا يقبل، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا تنقطع أجورهم، فهم وإن ردّوا إلى أرذل العمر، وانقطعت أعمالهم، ولم يستطيعوا القيام بما كانوا يقومون به من أعمال صالحة؛ مع ذلك كله لا تنقطع أجورهم فهم: (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) ، أي: غير مقطوع، ولا منقوص.
وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في صحيحه: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من الأجر ما كان يعمل وهو صحيح مقيم) ، فقال هؤلاء العلماء: إن قوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) معناه: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات انتظروا وضعفت صحتهم، وخارت قوتهم، وانحنت ظهورهم، ولا تنقطع أجورهم؛ بل تثبت لهم الأجور وإن ضعفوا عن العمل الذي كانوا يقومون به، وذلك على خلاف الكافر.(96/4)
تفسير قوله تعالى: (فما يكذبك بعد بالدين)
قال تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7] ، أي: فما يكذبك بعد هذا الذي ذكرناه لك ما يكذبك بعد هذا البيان الذي بيناه بالجزاء والحساب، أي: من هو هذا الإنسان الذي يكذبك بعد أن بيّنا هذا البيان بالجزاء وبالحساب؟ فإننا قد خلقناك أيها الإنسان في أحسن صورة وأعدل قوام، كما قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54] ، بعد هذا كله، وبعد هذا التسلسل في الخلق؛ فنحن قادرون على إعادة الخلق ما دمنا قد بيّنا لك أن الإنسان هذه حاله، فلابد وأن نعيده مرةً ثانية، وقد استدل على البعث بجملة أمور، منها: تطور الإنسان في الخلق، ومنها: خروج النبات من الأرض، واشتداد عوده، ثم تمايله وسقوطه بعد ذلك، فكل هذه أدلة يثبت بها البعث، أو يستدل بها على البعث.
وثم قولٌ آخر في تفسير قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) ، أي: ما هو الحامل لك أيها الإنسان على التكذيب بالدين وقد بيّنا لك حالك وما ستصير إليه؟ ما هو الحامل لك بعد هذا البيان على التكذيب بالدين؟ أي: بالجزاء والحساب.
فقوله سبحانه: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ) فيه قولان: أحدهما: أن الخطاب لرسول الله أي: فمن يكذبك بعد هذا البيان الذي بيّناه لك يا محمد؟! ومن يستطيع أن يكذبك في أن هناك بعثاً وجزاءً؟! والثاني: أن الخطاب للإنسان أي: فما الحامل لك أيها الإنسان على التكذيب بالدين؟ وما هو الذي يحملك على أن تكذب بالجزاء والحساب؟(96/5)
تفسير قوله تعالى: (أليس الله بأحكم الحاكمين)
قال الله عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] ، الهمزة هنا للاستفهام المتضمن معنى النفي، ونفي النفي إثبات، فالمعنى: أن الله أحكم الحاكمين، كما فصلنا ذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] فالهمزة في (أَلَمْ نَشْرَحْ) همزة الاستفهام، وهي تحمل معنى النفي، ودخلت على نفي آخر وهو: (لم) فنفي النفي إثبات، فالمعنى: قد شرحنا لك صدرك، ومنه: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:18] ، أي: قد ربيناك فينا وليداً، ومنه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36] ومنه: (ألستم خير من ركب المطايا) ، فهنا قال: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فالمعنى: أن الله هو أحكم الحاكمين، أي: أعدل الحاكمين حكماً وقضاءً، وأتقن الحاكمين صنعاً سبحانه وتعالى.
وقد ورد بأسانيد فيها ضعف: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ، قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين) ، لكن لم يثبت في هذا الباب خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما ورد فيه أحاديث ففيها مقال.(96/6)
تفسير سورة العلق
سورة العلق أول سور القرآن نزولاً على معلم الخير للبشرية عليه الصلاة والسلام، وفيها امتنان الله تعالى على الإنسان بأن علمه ما لم يكن يعلم، ولكن هذا العبد الضعيف يقابل هذه النعم بالطغيان والبعد عن سبيل الله تعالى ومحاربة أولياء الله، والله تعالى يراه ويطلع عليه ويمهله عله أن يرجع، فإن لم يرجع فلا يلومن إلا نفسه مما سيلقاه من زبانية جهنم.(97/1)
سبب نزول الآيات الأول من سورة العلق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد على آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن أول شيء نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ، فهذه الآيات هي أول آيات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أهل العلم من قال: إن أول الآيات نزولاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1-2] .
ولكن التحقيق يقتضي أن آيات العلق الأول هي أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوجيه القول الثاني بأن يقال: إن الآيات الأول من العلق نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سكن الوحي مدة طويلة، ثم نزل بعد سكون الوحي سورة المدثر، فظن الراوي أن المدثر هي أول ما نزل على رسول الله، ولكن يحمل قوله على أن أول ما نزل بعد فترة سكون الوحي هو سورة المدثر.
وسبب نزول هذه الآيات الخمس الأول من سورة العلق: ما ذكرته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) ، وعائشة لم ترَ هذا؛ بل كان هذا الحدث قبل ميلاد عائشة بخمس سنين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة وهي بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين، ومكث معها تسع سنين، فكان المجموع من ميلاد عائشة إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سنة.
أما هذه الآيات فقد نزلت قبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بثلاث وعشرين سنة، أي: أنها نزلت قبل ميلاد عائشة بخمس سنين، فكيف إذاً نوجه هذا؟ نقول: عائشة رضي الله عنها روت شيئاً لم تره، وهذا يسميه العلماء: مرسل الصحابي، فهو إما أن يكون الصحابي قد أخذه من رسول الله، بأن تكون عائشة أُخبرت من رسول الله بهذا، أو أن صحابياً آخر هو الذي أخبر عائشة، والصحابة كلهم عدول.
ومن هذا الباب رواية أبي هريرة لجملة أحاديث حدثت لرسول الله عليه الصلاة والسلام بمكة، ورواية ابن عباس لجملة أحاديث حدثت لرسول الله بالمدينة، وابن عباس لم يهاجر؛ بل كان من المستضعفين هو وأمه بمكة.
فالشاهد: أن كل هذه تسمى: مراسيل صحابة، والصحابة كلهم عدول، ومراسيلهم في حكم المتصل.
قالت عائشة رضي الله عنها: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) ، أي: تتحقق الرؤيا كما أن الصبح يتحقق، وهذه من علامات الصلاح في الغالب، فإن صدق الرؤيا من صدق الحديث، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) ، ولا يمتنع أن يكون هناك كافر تتحقق رؤياه أيضاً كما تحققت رؤيا الملك {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف:43] لكن من العلماء من يحملها على أن الملك وإن كان كافراً لكنه كان صادق اللهجة، وهناك ملوك كفار لكنهم في لهجتهم أهل صدق.
قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنث -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد) ، الذي جاء في الحديث: يتحنث، والذي يقرأ الحديث يظن أن تفسير التحنث بالتعبد أنه من كلام عائشة، ولكنه ليس من كلامها؛ بل هو من كلام الزهري، وهذا يسميه علماء الحديث: المدرج، وهو: أن تنقل كلاماً عن شخص ثم تفسر إحدى الكلمات التي تكلمها الشخص، ولا تبين أن هذا التفسير من تفسيرك، فيظن القارئ أنه من كلام ذلك الشخص.
مثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للعبد المملوك أجران، والذي نفسي بيده لولا الجهاد وبر أمي لأحببت أن أكون مملوكاً) فقوله: (والذي نفسي بيده لولا الجهاد وبر أمي) ليس من كلام رسول الله قطعاً؛ لأن أم الرسول صلى الله عليه وسلم كانت قد ماتت، وإنما هو من كلام أبي هريرة.
فالإدراج: أن تدخل لفظة في الحديث تظنها من قول الذي نُقل عنه الكلام، وهي ليست من قوله.
قالت: (ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخرج إلى حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاء الملك، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني -أي: ضمني ضماً شديداً- وقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني وغطني الثالثة، قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] )) إلى آخر الحديث، وفي الحديث: (فرجع الرسول إلى خديجة وهو يقول: زملوني زملوني، من شدة البرد، ثم أخذته خديجة إلى ورقة بن نوفل، فقالت: اسمع يا ابن عم من ابن أخيك، فسمع ورقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخبر، فقال: هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى صلى الله عليه وسلم، ليتني أكون فيها حياً إذ يخرجك قومك، ليتني فيها جذعاً، قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي) .
فالشاهد: أن هذا سبب نزول هذه الآيات الخمس.(97/2)
تفسير قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك.)
قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] أي: اقرأ مفتتحاً القراءة باسم ربك الذي خلق، على قول بعض العلماء، وعلى ذلك هل تشرع البسملة عند ابتداء القراءة أم لا تشرع؟ هذه الآية مستأنس لمن قال: تشرع البسملة عند الابتداء، ولقائل أن يقول أيضاً ويعزز هذا القول بقوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم ذكر الخير الذي أعطاه له ربه سبحانه فخرج مسروراً، فقرأ على أصحابه قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] ) فذكر (بسم الله الرحمن الرحيم) بين يدي سورة الكوثر كما في صحيح مسلم.
ثم تتفرع تفريعات، منها: هل البسملة آية أم ليست بآية؟ وقد تقدمت المباحث في ذلك.
قال تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:2] (العلق) : جمع علقة، وهي قطعة الدم المتماسك، وأطلق عليها علقة كما قال فريق من المفسرين: لأنها تعلق بأي شيء تمر به، فهي قطعة دم إذا رميت مثلاً على التراب فإنها تلتقط التراب، وتلصق بالشيء الذي تمر به، وتعلق بها الأشياء.
والعلقة هي الواردة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين نطلقة، ثم يكون علقة مثل ذلك.
... ) الحديث.
وقوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:2] المراد بالإنسان هنا: بنو آدم، ولا يدخل فيهم آدم عليه السلام، فأحياناً يأتي ذكر الإنسان بمعنى عام، وأحياناً يأتي بمعنى خاص، فقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] ، فالإنسان هنا آدم وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2] فالإنسان: بنو آدم، فأحياناً يأتي عاماً وأحياناً يأتي خاصاً.
قال الله سبحانه وتعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:3] (الأكرم) : الذي يفعل الشيء ولا ينتظر المقابل، كذا فسره بعض العلماء، يفعل المعروف ولا ينتظر جزاءً من أحد.
قال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:4] فهو امتنان من الله سبحانه وتعالى على خلقه إذ علمهم بالقلم، فالعلم بالقلم نعمة من الله سبحانه وتعالى على عباده، وهذا الامتنان ذُكر في سورة أخرى، قال سبحانه: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3-4] ، فالبيان بيانان: بيان بالقلم، وبيان باللسان، فالأشياء التي تبين بها ما في نفسك وما في صدرك إما القلم وإما اللسان، ويلتحق بذلك الإشارات.
فالتعليم بالقلم نعمة من الله سبحانه وتعالى على خلقه، وقد أفردت سورة باسم (القلم) ألا وهي سورة القلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صححه بعض العلماء بمجموع الطرق: (أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) الحديث، فهذا وجه من الوجوه.
فإن قال قائل: لماذا لم ينعم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بالتعليم بالقلم؟ ف
الجواب
أن الله أنعم عليه بما هو أعظم وأعز من القلم: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:17-19] ، ثم هناك حكمة أخرى ذكرها الله في كتابه في عدم التعليم لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] أي: لشك المبطلون، فمن تمام الإعجاز للنبي صلى الله عليه وسلم أنه رجل أمي ومع ذلك يحفظ القرآن كاملاً ويتلوه، ويخبر بما فيه من قصص الأولين وأنباء ما هو آت إلى غير ذلك مما هو في الكتاب العزيز.
فعلى ذلك: التعليم بالقلم منة من الله على خلقه، أما الوارد من الأحاديث في النهي عن تعلم النساء الكتابة فهي ضعيفة جداً، بل بعضها موضوع.
أما قول الشاعر: ما للنساء وللخطابة والكتابة هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة فهذا من الأشياء التالفة التي لا يحتج بها ولا كرامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة كانت ترقي: (ارقيها وعلميها حفصة كما علمتيها الكتابة) ، وهناك عمومات يستدل بها في الباب، مثل قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] فهي نصوص عامة يستأنس بها في مشروعية العلم وأفضليته، والله أعلم.
قال تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5] الإنسان كما قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] ، فكل الناس خرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، فالعلم بالتعلم، فلا تستحقر نفسك؛ بل أقبل على التعلم والله يوردك علم ما لم تعلم.(97/3)
تفسير قوله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى)
قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6] (كلا) تحمل معنى الردع والزجر، فهي نفي لشيء تقدم، ومع أنها نفي فإنها تحمل معنى الردع والزجر، ومن العلماء من قال: إنها نفي لشيء مستتر مضمر في الآيات، فمعناها: كلا ليس، الأمر كما تزعمون من أنه لا بعث؛ بل هناك بعث.
وقوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6] (يطغى) أي: يتجاوز الحد في الظلم والعدوان، والطغيان: هو تجاوز الحد في الظلم، ومن تفسير الطغيان بالازدياد قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] أي: ازداد الماء وعلا وارتفع.
قال تعالى: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7] (رآه) ترجع إلى نفسه، أي: أن الإنسان إذا رأى نفسه مستغنياً عن الخلق بدأ في التكبر عليهم والطغيان، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ} [فصلت:51] ، ويؤيده أيضاً قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27] ، فهذا دأب الإنسان، يبدأ في الطغيان إذا رأى نفسه مستغنياً عن الناس.
ولكن يا أيها الإنسان الطاغي: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:8] يا من تستكبر وتتعالى لكونك رأيت نفسك مستغنياً عن الخلق اعلم {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} أي: المرجع والمآب يوم القيامة.(97/4)
تفسير قوله تعالى: (أرأيت الذي ينهى)
ثم قال الله سبحانه وتعالى مبيناً حال رجل كافر {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10] أي: ما رأيت خيبة مثل خيبة هذا الخائب، أو جرماً مثل جريمة هذا المجرم، والعبد هو أبو جهل، والعبد المنهي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هي تعم كل ناه وكل منهي، ومناسبة ذلك: أن أبا جهل قال: (لئن رأيت محمداً يعفر رأسه بين أظهرنا لأطأن عنقه) أي: سأدوس على رقبته إذا رأيته يصلي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو دنا لخطفته الملائكة) ، فالله يقول: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} وهي تنطبق على كل أب ينهى ولده عن الصلاة، وعلى كل أم تنهى ابنتها عن الصلاة وعن الاستقامة.
قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} [العلق:11] أي: هذا العبد المنهي هو على الهدى {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} [العلق:12] أي: هو عبد مهتدٍ مصلٍ مستقيم يأمر بالتقوى، ومع هذه الحالة الطيبة والخصال الطيبة يأتيه شخص ويقول له: لا تصل، لا تأمر بالهدى، لا تأمر بالتقوى، ابتعد عن طريق الهدى، أمرك غريب، فالاستفهام يحمل معنى التعجب والتوبيخ لهذا الناهي، تعجب منه وتوبيخ له، {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} واحد يطبق سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فتقول له: لا تطبقها، {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ} أي: هذا المنهي {عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} >ثم يتحول السياق إلى هذا الناهي، وهذا يسميه العلماء في البلاغة: الالتفات، حيث يكون الخطاب موجهاً تجاهك ثم يحول في اتجاه آخر، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ} [يونس:22] الخطاب للحاضر {فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس:22] فتحول الخطاب من الحاضر إلى الغائب (وجرين بهم) ، ولم يقل: (بكم) ، وكما في قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ} [الإنسان:21] الضمير للغائب {رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21] ، ثم تحول الخطاب: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان:22] ولم يقل: (كان لهم جزاءً) فتحول الخطاب، فهذا يسميه العلماء: الالتفات.
قال الله: {أَلَمْ يَعْلَمْ} [العلق:14] أي: هذا الناهي {بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] .(97/5)
تفسير قوله تعالى: (كلا لئن لم ينته.)
{كَلَّا} [العلق:15] ليس هذا الناهي على هدى ولا خير {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} [العلق:15] عن تماديه وظلمه للعباد وعن نهيه للعباد عن الصلاة: {لَنَسْفَعًا} [العلق:15] السفع: هو الجلد بشدة، وهو اللطم والتسويد كذلك، فالسفعة تطلق على اللطمة، وتطلق على التسويد، ومنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في وجه جارية لـ أم سلمة سفعة، أي: تغيراً وسواداً، فقوله: (لنسفعاً) معناها: لنلطمن أو لنسودن أو لنجلدن بشدة {بِالنَّاصِيَةِ} [العلق:15] وهي شعر مقدم الرأس، أي: لنجلدنه من ناصيته بشدة.
قال الله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16] يقول أهل التفسير: أطلقت الناصية وأريد بها صاحب الناصية، وإذا طرح
السؤال
لماذا وصفت الناصية بأنها كاذبة خاطئة؟ فالإجابة: أن العلماء من أهل التفسير قالوا: أريد صاحب الناصية أنه كاذب وخاطئ، أما إخواننا من أهل الطب فقد اكتشفوا أن الناصية فيها مركز للإحساس غير المخ إضافة إلى المخ، وثبتت أيضاً من الناحية التشريحية أن فيها مراكز إحساس ومراكز تحكم كالتي في المخ، فلا يمتنع أن يكون التشديد -على حد قوله- صدر من هذه الناصية فعلاً، هكذا ذكر، والله أعلم.
واستشهد لذلك من أحد الجالسين بأن الشخص إذا كان يفكر بأمر فإنه يضع يديه على مقدمة رأسه، والله أعلم.
قال تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} [العلق:17] لما هدد النبي محمد صلى الله عليه وسلم أبا جهل وقال له: (لو دنا لاختطفته الملائكة) ، فقال أبو جهل: (تهددني وتتوعدني يا محمد وأنا أكثر أهل هذا الوادي نادياً) ، وأهل النادي هم الذين يجالسونه في مجلسه، فقال: سأدعو العشيرة والأنصار، فقال الله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:17-18] وهم ملائكة العذاب، فالله قادر على أن ينتقم، ولكنها من باب الأسباب والمسببات.
قال الله: {كَلَّا} [العلق:19] ليس الأمر كما يظن أنه فائت {لا تُطِعْهُ} [العلق:19] فيما يأمرك به، ففي الآية نهي عن طاعة الكافرين، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] ، فالشاهد: أن هذه الآية أيضاً أصل في أن كل من دعا إلى مخالفة الشرع لا يطاع ولو كان الأب، فإذا قالت الأم لابنها: لا تصل، لا تهتدِ، لا تأمر بالتقوى، وإذا قال الأب ذلك لولده فالله يقول: {لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] أي: اقترب من ربك، فإذا أمرك الأب بشيء يبعدك عن طريق الله ويوقعك في المعاصي فلا يطاع، فالله يقول: {كَلَّا لا تُطِعْهُ} [العلق:19] ، وفي هذا المعنى قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] ، فكل من يدعو إلى خلاف هدي الله وهدي رسوله لا يطاع، قريباً كان أو بعيداً.
وفي قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] قولان للعلماء: أحدهما: (اسجد) معناها: صل، فأحياناً يعبر عن الصلاة ببعض أجزائها، كما قال تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:219] ، {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] فـ (اسجد) عند بعض العلماء معناه: صل واقترب من ربك، فإن الصلاة وأنت فيها أقرب من ربك من كونك خارج الصلاة.
والقول الثاني: (واسجد واقترب) المراد بها: السجود على الحقيقة، فإنك إذا سجدت كنت أقرب إلى الله، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(97/6)
تفسير سورة القدر
الله سبحانه يخلق ما يشاء ويختار، وقد اختار بعض الأزمنة وفضلها على غيرها لحكمة بالغة، ومن ذلك ليلة القدر، فقد جعلها الله خيراً من ألف شهر، وهي ليلة ذات قدر كبير، فيها تقدر أعمال السنة، وفيها نزل القرآن، وفيها تتنزل الملائكة والروح بكل أمر حكيم، وهي ليلة سالمة من كل شر، فالموفق من وفقه الله فيها، والمحروم من حُرمها.(98/1)
تفضيل الله لبعض المخلوقات على بعض
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:1-2] .
أسلفنا مراراً أن الله سبحانه وتعالى فضل بعض الأيام على بعض، وبعض الليالي على بعض، وبعض الشهور على بعض، وبعض السنين على بعض، وبعض القرون على بعض، وبعض الأمم على بعض، كما أنه سبحانه وتعالى فضل بعض النبيين على بعض، وبعض الملائكة على بعض.
فقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى بالتفضيل في عموم مخلوقاته سبحانه وتعالى، فليلة القدر خير من ألف شهر، ويوم عرفة خير يوم في السنة، وشهر رمضان أفضل الشهور، وقرن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل القرون، جرت سنة الله بهذا التفضيل، وهناك مكان أفضل من مكان، فمكة ليست كالمنصورة، والمسجد الحرام ليس كمسجد التوحيد في المنصورة، فالأماكن تختلف بعضها عن بعض في الفضل، وكذلك الأشخاص {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] ، وكذلك الأماكن، فالمساجد ليست كالأسواق، مع أن كلها أرض الله سبحانه وتعالى، وفضل الله سبحانه وتعالى ليلة القدر على غيرها من الليالي فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أنزلنا ماذا؟ لا شك أن المراد به القرآن، (إنا أنزلناه) أي: أنزلنا القرآن.
وفي قوله: (إنا أنزلناه) دليل على مسألة العلو، ألا وهي أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه في السماء، وعلى هذا أدلة كثيرة قال فريق من أهل العلم: إنها تصل إلى ألف دليل من الأدلة العقلية ومن الأدلة النقلية من الكتاب ومن السنة، فمثلاً: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) ، دليل على العلو، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] دليل على العلو وهكذا.(98/2)
فضل ليلة القدر
قال تعالى: ((فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)) ، ما معنى القدر؟ من العلماء من قال: إن القدر معناه: الحكم والتقدير، أي: أن الأمور تقدر فيها، والأحكام تصدر فيها، وشاهد هذا القول: قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:3-4] ، وقالوا: إن أعمال السنة وأقدار السنة تكتب في هذه الليلة وتحكم في هذه الليلة.
ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالقدر: الشرف والمنزلة، كما تقول: فلانٌ من الناس ذو قدر، أي: ذو مكانة وذو وجاهة وذو منزلة.
وثم معنىً ثالث لكنه منبوذ، ألا وهو أن المراد بالقدر: الضيق، ومنه قوله تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ} [الفجر:15-16] ، أي: فضيق، ونحو قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء:30] ، أي: يضيق، فقالوا: سميت بذلك لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرة نزولهم في هذه الليلة، وعلى هذا ففي المراد بالقدر ثلاثة أقوال: القول الأول: أن القدر هو: الحكم والتقدير، أي: تقدير الأمور وإنزال الأحكام.
القول الثاني: أن القدر هو المنزلة والشرف، كما يقال: فلانٌ ذو قدر.
القول الثالث: أن القدر هو: الضيق، فتضيق الأماكن بالملائكة عند نزولهم من السماء إلى الأرض.(98/3)
الجمع بين نزول القرآن في ليلة القدر وبين نزوله في ثلاث وعشرين سنة
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وهنا يرد شبه إشكال وقد يشكل على البعض ألا وهو: أن الكفار طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم القرآن جملةً واحدة، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32] ، أي: كذلك أنزلناه على مدى ثلاث وعشرين سنة (لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً) ، وهنا قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، فكيف يوفق بينه وبين نزول القرآن منجماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة؟ وقد قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] : إن المراد بمواقع النجوم: أوقات نزول الآيات على رسول الله، وهذا رأي ابن عباس في هذه الآية الكريمة {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، قال: أزمنة نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يوفق بين قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وفي معناها قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:3] ، وفي معناها أيضاً قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ، فكل هذه الآيات على وتيرة واحدة، فكيف يجمع بينها وبين نزول القرآن مفرقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة؟ لأهل العلم إجابتان: إحداهما: ما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بإسناد صحيح أنه قال: (إن القرآن نزل من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى سماء الدنيا جملة واحدة في ليلة القدر، ثم نزل من السماء الدنيا على نبي الله صلى الله عليه وسلم بحسب الوقائع والأحداث في ثلاث وعشرين سنة) ، فهذا أول وجهٍ للجمع.
والوجه الثاني: أن القرآن ابتدئ نزوله في ليلة القدر، فقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) ، أي: إنا أنزلنا أوله في ليلة القدر، كما تقول: وصل الحجيج، مع أن هناك حجيجاً وصلوا الآن وحجيجاً سيصلون بعد شهرين، فقوله: وصل الحجيج في يوم كذا وكذا، أي: بدأ وصولهم يوم كذا وكذا.
وجمع بعض العلماء بجمع آخر فقالوا: نزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ونزل أوله أيضاً على رسول الله في ليلة القدر، وبهذا جمعوا بين الوجهين السابقين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ، استفهام القصد منه تعظيم شأن هذه الليلة، كما قال تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1-3] .(98/4)
وقت ليلة القدر
أيضاً يطرح سؤال آخر وهو: متى ليلة القدر؟ للعلماء فيها أقوال متعددة متكاثرة، وصلت إلى ثمانية وأربعين قولاً، لكن قد تتكاثر الأقوال في باب من الأبواب، وإذا جئت تبحث عن الأقوال المدعمة بالدليل، والمستندة إلى دليل، فتجد أنها لا تصل إلا إلى خمسة أقوال، ثم إذا جئت تصفي هذه الأقوال تجد الأقوال المستندة إلى دليل صحيح تصل إلى ثلاثة أقوال، فلا تخيفنا كثرة الأقوال في مسألة من المسائل، بل بكل يسر نقول: كل قول لا يستند إلى دليل فيطرح، سواء كان الدليل صريحاً غير صحيح، أو صحيحاً غير صريح، ونبدأ في تصفية الأقوال التي لا تستند إلى دليل.
قال جمهور العلماء: إن هذه الليلة في رمضان؛ لقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، ولقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ، فبالجمع بين الآيتين يفهم أن ليلة القدر في رمضان، فخرج بهذا القول كل قول قيل فيه: إنها في أي وقت من أوقات السنة؛ لأن بعضهم قال: إنها في أي شهر من الشهور وفي أي ليلة من الليالي، فخرج كل قول يخرجها عن شهر رمضان، ثم هي في العشر الأواخر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان) ، فخرجت أيضاً الأقوال التي فيها أنها في العشرين الأول، ثم هي في الوتر من العشر الأواخر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في عشر يبقين، في سبع يبقين، في خمس يبقين، في ثلاث يبقين) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (التمسوها في كل وتر من العشر الأواخر) .
وبعد ذلك قال فريق من العلماء: إنها في ليلة السابع العشرين، وهذا رأي الجمهور، قالوا: لأن أبي بن كعب روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، كما في صحيح مسلم، ومن حجة أبي أن الشمس خرجت صبيحتها بيضاء نقية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هل هذا يكون في كل عام في ليلة السابع والعشرين، أم أنه في العام الذي رآها فيه أبي بن كعب رضي الله عنه؟ نحن ما كذبنا أبياً، ولكن نقول: هل هي ثابتة في كل عام في ليلة السابع والعشرين أم أنها متنقلة في الليالي التي هي وتر؟ ومما لا يخفى أن شؤم الخلاف بين المسلمين كان سبباً في رفع العلم بليلة القدر؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليخبر أصحابه بليلة القدر، فتلاحى رجلان فلانٌ وفلان، أي: اختلفا وتجادلا وتخاصما، فرفع العلم بها، فخرج النبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت) .
فالخلاف دائماً سبب في رفع الخير، وقد تقدم أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بين أن الخلاف سبب للشر، فقال: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: (هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً) ، فقال عمر: حسبنا كتاب الله، وكان النبي في مرض الموت، فظن أنه يقول هذا الكلام من شدة المرض فقال: حسبنا كتاب الله، وقال العباس: بل قربوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فاختلف الناس، فلما اختلفوا طردهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (قوموا عني، فوالله للذي أنا فيه خيرٌ مما أنتم فيه) ، قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية -أي المصيبة كل المصيبة- ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لأصحابه ذلك الكتاب.
فالخلاف دائماً سبب في الشر، والأدلة على ذلك لا تكاد تحصى؛ كقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] ، {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] ، والآيات متعددة في هذا الباب.(98/5)
فضل ليلة القدر
قال الله سبحانه وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] .
لماذا قال: (ليلة القدر خير من ألف شهر) ؟ قال بعض أهل العلم: إنها خيرٌ من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقيل: السبب في ذلك أن أهل الكتابين اليهود والنصارى كانوا لا يطلقون على الشخص أنه عابد إلا إذا عبد ربه ألف شهر، فجاءت منقبة وفضيلة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه المنقبة والفضيلة أن الله جعل لهم ليلة القدر؛ من قامها كان كمن قام ألف شهرٍ من أهل الكتابين ومن الأمم السابقة.
وفي هذه الآية دليل -كما أسلفنا- على فضل بعض الليالي على بعض، وفيها أن العمل اليسير الذي يوافق السنة خيرٌ من العمل الكثير الذي ليس على هدى ولا على بصيرة، والفقيه في الدين قد يعمل عملاً قليلاً ويؤجر عليه كثيراً، وهذا مصداق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) ، فيعلم أين الغنيمة، وكما يقول الناس: فلان يعلم من أين تؤكل الكتف، وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً من عند جويرية بنت الحارث زوجته وهي تذكر الله بعد صلاة الصبح، وذهب إلى حيث أراد الله له، ثم رجع وهي ما زالت تذكر الله، فقال: (ما زلت على الحالة التي فارقتك عليها؟ لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلتهن لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة) أي: لها أجران.
فالذي يقوم ليلة القدر خيرٌ ممن يقوم شهراً كاملاً، والذي يداوم مثلاً على قيام العشر الأواخر خيرٌ من الذي يقوم شهرين أو ثلاثة أشهر متصلة في السنة في غير العشر الأواخر.
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، أي: خيرٌ من ألف شهر ليس فيها ليلة قدر.(98/6)
نزول الملائكة والروح في ليلة القدر
قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] ، ما هو الروح؟ للعلماء فيها سبعة أقوال: قيل: إنها أرواح بني آدم، وقيل: إن الروح خلق لا يعلمه إلا الله.
والذي عليه الأكثرون أن الروح هو جبريل صلى الله عليه وسلم، فقد أطلق عليه روح في قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] ، وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل:102] ، فإن قيل: إن جبريل داخل في الملائكة في قوله (تنزل الملائكة) ، فلماذا نص على الروح على تفسير الروح بجبريل مرة ثانية؟ ف
الجواب
أن هذا من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية ذلك الخاص، وفضل ذلك الخاص، فعطف الخاص -وهو الروح الذي هو جبريل- على العام الذي هو الملائكة، وهذا لبيان شرف جبريل صلى الله عليه وسلم، كما بين شرف أولي العزم من الرسل في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] ، فمحمد رسول الله، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم من النبيين، ولكن نص عليهم بالذكر لبيان شرفهم، وكما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} [النساء:163] ، فكل هؤلاء من الأنبياء، وذكروا مرة ثانية لبيان شرفهم، وكما قال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] ، والرمان داخل في الفاكهة، فخص بالذكر لبيان شرفه، وهنا ذكر الروح -مع أن الروح من الملائكة- لبيان شرف جبريل، فجبريل ذو شرف وذو فضل كبير، وقد ذكر شرفه وذكرت فضائله في عدة آيات من كتاب الله: قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97-98] ، وقال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] ، وقال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20] ، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، فله قوة وله مكانة عند الله سبحانه وتعالى، {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21] ، أي: مطاع هناك في الملأ الأعلى، يطيعه أهل السماء، (أَمِينٍ) أي: أمين على الوحي، فكل هذه مناقب لجبريل صلى الله عليه وسلم.
فالملائكة تتنزل، وينزل مع الملائكة جبريل صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} ، فهو منظرٌ مهيب، ومشهد عجيب، وأمر عظيم، ألا وهو نزول الملائكة إلى سماء الدنيا ومعهم جبريل سيدهم صلى الله عليه وسلم! فهو منظر مهيب، ومشهد عجيب، وإن كنا لا نراه! {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر:4] ، أي: أن نزول الملائكة لا يكون ارتجالاً منهم، فهم لا يتحركون إلا إذا أذن الله لهم في ذلك، وقد قال الرسول لجبريل: (ما يمنعك أن تأتينا أكثر مما تأتينا؟ فأنزل الله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] ) ، فقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} ، يفيد أن نزول الملائكة لا يكون باختيارهم إنما هو بإذن ربهم.(98/7)
تفسير قوله تعالى: (من كل أمر سلام)
{مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4] ، ما المراد بها؟ (من كل أمر) من العلماء من فسرها على أساس ارتباطها بما قبلها، ومنهم من فسرها على أساس ارتباطها بما بعدها، فمن فسرها على أساس ارتباطها بما قبلها قرأ: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} ووقف، قال: (من كل أمر) أي: بكل أمر، وأحرف الجر تتناوب، فإن الباء قد تأتي بمعنى: (مِن) ، ومِن تأتي بمعنى الباء، فأحرف الجر تأخذ معاني بعضها.
فقالوا: المعنى: أن الملائكة تتنزل بكل أمر، أي: بكل أمر قضاهُ الله وأراده وحكم به، أي: أن الملائكة تنزل في هذه الليلة وهي تحمل أمر الله سبحانه الذي أراده وقضاه، وتنزله إلى الدنيا في هذه الليلة قضى ربك في هذا العام كذا وكذا، أثبت الله في هذا العام لفلان وفلان السعادة ولفلان وفلان الشقاوة، أثبت الله لفلان رزقاً وأجلاً، فتتنزل الملائكة في هذه الليلة بهذه الأقدار التي قدرها الله، والأحكام التي حكمها الله، والأوامر التي أمر بها الله.
فقوله سبحانه: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} ، أي: بكل أمر قضاه الله وحكم به وأمر به، هذا على ربط الآية بما قبلها.
وبعض العلماء ربطها بما بعدها فقال: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} ، وانتهى الكلام، وبدأ كلامٌ جديد: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ} [القدر:4-5] ، أي: هي سالمة من كل أمور الشر، فليس في هذه الليلة إلا الخير، أي: أنها سالمة آمنة، فلا تتنزل مع الملائكة الشياطين، إنما ينزل -فقط- الملائكة، فتختفي الشياطين وتبتعد، ولا يأتي الباطل ولا الشيطان في هذا الوقت؛ بل هي سالمة آمنةٌ، فالملائكة إذا نزلوا فرت الشياطين، ومن ثم جاء في الحديث المرسل: (ما رئي الشيطان أصغر ولا أحقر في مثل يوم عرفة إلا ما كان منه يوم بدر، قيل: وماذا رأى يوم بدر يا رسول الله؟! قال: رأى جبريل يزع الملائكة -أي: يصفُّ الملائكة- فهرب واندحر) ، فعندما تتنزل الملائكة تبتعد الشياطين وتهرب، فيحصل الأمن، ويندحر الباطل، فهذا على ربط الآية بما بعدها: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ} ، أي: هي سالمة من كل الأمور، سالمة آمنة، لا يأتي فيها الباطل ولا يتنزل فيها الشيطان.(98/8)
تفسير قوله تعالى: (حتى مطلع الفجر)
قال تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5] ، أي: هذه الليلة تنتهي بطلوع الفجر، وهل هذه الليلة فيها استتباع، أي: هل يتبعها اليوم الذي بعدها أو اليوم الذي قبلها؟ لم يرد شيءٌ في ذلك عن رسول الله، والاستتباع كيوم عرفة، فإنه تتبعه الليلة التي بعده، فمثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم وقف بعرفات إلى أن غربت الشمس، وبعد أن غربت الشمس بدأ في الإفاضة إلى مزدلفة، لكن هب أن شخصاً جاء ووصل إلى عرفات في منتصف الليلة التي انطلق فيها الرسول إلى مزدلفة، والرسول ذهب إلى مزدلفة بعد غروب الشمس، فلو جاء شخص بعد خروج الرسول بست ساعات أو بسبع ساعات ووقف بعرفات، فوقوفه بعرفات صحيح إذا أدرك مزدلفة قبل الفجر، فيوم عرفة تتبعه الليلة التي بعده؛ لأن عروة بن مضرس قال: يا رسول الله! أتعبت نفسي، وأكللت راحلتي، وما تركت جبلاً إلا وقفت عليه؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من شهد معنا صلاة الفجر بمزدلفة، وكان قبل ذلك وقف ساعة من ليل أو نهار بعرفات، فقد أتم حجه، وقضى تفثه، وأتم نسكه) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، لكن ليلة القدر ليس فيها استتباع؛ لأن الآية قطعت ذلك بقوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} ، لكن هل اليوم الذي قبلها يدخل فيها؟ ليس في هذا خبرٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام.(98/9)
تفسير سورة البينة
سورة البينة هي السورة الوحيدة التي أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقرأها على أبيّ بن كعب رضي الله عنه، لفضيلة أراد الله تعالى أن يظهرها لهذا الصحابي الجليل، ثم إن الناظر في آيات هذه السورة يرى أنها تحدثت عن أهل الكتاب والمشركين الذين عادوا النبي عليه الصلاة والسلام وهم يعلمون أنه خاتم الأنبياء والرسل، ثم فيها أمر لكل من آمن بإقامة الملة على دين إبراهيم، والعناية بأصول هذه الملة الحنيفية السمحة.(99/1)
أمر الله تعالى لنبيه بقراءة سورة البينة على أبي بن كعب
سورة البينة أطلق عليها: (سورة لم يكن) ؛ لأنها تبتدئ بـ: (لم يكن) ، كسورة النبأ فقد أطلق عليها: (سورة عم) ؛ لأنها تبتدئ بـ: (عمَّ) ، والملك أطلق عليها: (تبارك) ؛ لأنها بدأت بـ: (تبارك) .
وسورة البينة لها فضيلة كباقي السور، إلا أن لصحابي فضيلة عظمى بسببها، أما الصحابي فهو سيد من سادات الأنصار، وأعلم الصحابة بالقراءات، كما قال فيه عمر: (أقرؤنا أُبيّ) أي: أعلمنا بالقراءات أبي بن كعب.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (يا أُبيّ! إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة -وفي رواية: لم يكن الذين كفروا- فتعجب أُبيّ! -الرسول يقرأ عليه سورة البينة- وقال: يا رسول الله أوسماني لك يا رسول الله؟! -يعني: هل ربنا قال لك: اقرأ على أبي بن كعب بالاسم- قال: نعم سمّاك لي، فبكى أُبيّ) ، وهذه منقبة عظمى، فرب العزة يسمي أبي بن كعب ويقول: يا محمد! اقرأ سورة (لم يكن) على أبي بن كعب، وهي منقبة تجعل أي شخص يبكي من الفرح، فبكى أبي بن كعب رضي الله عنه.
وفي الحديث: قراءة الفاضل على المفضول، والفاضل هو الرسول، والمفضول هو أبي بن كعب؛ حتى يتواضع المسلمون في مسائل العلم، فالعلم لا يناله مستكبر ولا مستحىٍ، ولذلك ذكر الله لنا في كتابه أمثلةً لذلك، منها: قصة موسى عليه السلام مع الخضر، فمع أن موسى عليه الصلاة والسلام من أولي العزم من الرسل لكنه يأتي بكل أدب إلى الخضر ويقول: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] ، وهو نبي من أولي العزم يذهب إلى الخضر، بل ويسافر إليه طلباً للعلم، فمسألة العلم ليس فيها كبر، ولا ينال العلم مستكبر ولا مستحي، كما قال قائل السلف، وقد كان السلف يفرون من القضاء لا كالخلف الموجودين الآن الذين يتقاتلون على القضاء، وهو قضاء بغير ما أنزل الله، أما السلف فكانوا حتى القضاء بما أنزل الله يفرون منه، للضغوط التي يواجهونها فيه، إلا من ثبته الله، يقولون: من عيوب القضاء: أن القاضي إذا عزل لا يجلس للعلم.
أي: أن القاضي يكون طالب علم قبل أن يتولى القضاء، ويحرص على أن يبحث في المسائل ويحرر وينقح، ويناقش العلماء، ويجلس متواضعاً، أما إذا أصبح قاضياً وجلس يقضي بين الناس، ثم عزل فإنه يستكبر أن يجلس مرةً ثانية في مجالس العلم، ويقول: أنا قاضي ثم أجلس أتعلم ممن؟! فيظن أنه قد حاز العلم بحذافيره، فيحصل له التردي بسبب بعده عن مجالس العلم.
ففي قوله: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة) منقبة لـ أُبيّ، وفيها قراءة الفاضل على المفضول؛ حتى يتعلم الناس التواضع في هذا الباب.(99/2)
تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا.)
قال الله سبحانه وتعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] ، فأهل الكتاب كفار والمشركون كفار، و (أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ) تفصيل وتفسير للذين كفروا، فإن قال قائل: ما هو وجه شرك أهل الكتاب؟ ف
الجواب
أن الله سبحانه قال في شأن اليهود والنصارى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:30-31] ، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] ، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] الآيات.
والذين كفروا من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، والمراد بالكتاب: الكتب السماوية، والمشركون هم عبدة الأوثان الذين كانوا يقطنون مكة والجزيرة وغيرها، ومن العلماء من قال: إن أهل الكتاب هم أهل الشرك أنفسهم.(99/3)
معنى قوله تعالى: (منفكين)
وقوله: ((مُنفَكِّينَ)) فيها ثلاثة أقوال تدور على شيء مربوط بشيء وفك منه، فلم يكونوا منفكين، أي: لم يزالوا مربوطين إلى أن تأتيهم البيّنة.
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} عما ربطوا به إلا إذا جاءتهم البيّنة، وما هو الشيء الذي ربطوا به؟ فكلمة (منفكين) من الفك، فكأنهم مربوطون ولم يفكوا حتى تأتيهم البيّنة.
(منفكين) : من الانفكاك، وتأتي بمعنى: منتهين وتاركين، وبمعنى: متركوين وسيأتي تأويل ذلك.
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} ، أي: عن الكفر الذي هم فيه -على قول- {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] والبينة هي: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [البينة:2] ، أي: أن أهل الكتاب لن ينفكوا عما هم فيه إلا إذا جاءهم رسول من الله يتلو عليهم آيات الله، فحينئذٍ ينفكون عن الذي كانوا فيه من الشرك، والشيء الذي كانوا مربوطين به هو الكفر أو الشرك، هذا قول.
القول الثاني: أن الشيء الذي ربطوا فيه وتمسكوا به هو صفة محمد عليه الصلاة والسلام، فهم كانوا متمسكين بصفة محمد، وكانوا يقولون: سيأتي نبي صفته كذا، وكذا وعليه خاتم للنبوة، يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، ليس بفظ، ولا بغليظ، ولا بصخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء للناس، حتى يقولوا: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، فتفتح بها أعين عمي، وأذان صم، وقلوب غلف، كل هذه صفات رسول الله مثبتة في التوراة والإنجيل، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29] الآية.
فكانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة عند هؤلاء الكفار، وكانوا متمسكين بها غاية التمسك، ولم يكونوا أبداً يفرطوا فيها، بل كانوا يعرفون رسول الله تمام المعرفة، ولم ينفكوا عن هذه الصفات أبداً؛ بل كانوا يحفظونها تمام الحفظ، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} [الأعراف:157] ، فكانوا يعرفون الرسول تمام المعرفة، ومتمسكين بصفته غاية التمسك، ويحفظونها، فلم يتركوا صفة الرسول ولم يتخلوا عنها إلا بعد أن جاءهم رسول الله، ولمَ تركوها؟ قالوا: لست أنت هو.
حسداً من عند أنفسهم؛ فكانوا يستفتحون على الذين كفروا، ويقولون: سيخرج نبيٌ صفته كذا وكذا، فنتبعه ونقتلكم نحن وهو قتل عادٍ وإرم، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] ، ولما جاء الرسول من نسل إسماعيل صلى الله عليه وسلم -وكانوا يريدونه من نسل إسحاق- كفروا برسول الله، وانفكوا عن صفة رسول الله، وقالوا: ما هذه الصفة؟ وتحللوا من هذه الصفة.
فعلى ذلك: الانفكاك يكون عن أحد الشيئين، الأول: انفكاك عن الكفر، فلم يكونوا منتهين عما هم فيه من الكفر إلا إذا جاءهم رسول يوضح لهم الحق، فمنهم من يتركه، ومنهم من يتمسك به.
والثاني: لم يكونوا منفكين عن صفة رسول الله إلا بعد أن جاءهم رسول الله، فتركوا صفة رسول الله حسداً من عند أنفسهم، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء:54-55] ، أي: لم يكونوا متروكين هملاً وسدى؛ بل لابد من مجيء رسول إليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قضى أن تأتيهم الرسل.(99/4)
معنى البينة والكتب القيمة
فسرت البينة بأنها: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً} مطهرة: لم يعتريها تحريف أو خلط شياطين، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:41-42] ، ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ)) أي: الشيطان، {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] .
{فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:3] ، الكتابات التي فيها كلها مقالات عادلة، وكلها مقالات مستقيمة، والناظر إلى كتاب الله يجد ذلك يجد كتاب الله فيه حفاظٌ على الأموال والعقول والأعراض والدماء، كل هذا موجودٌ في كتاب الله سبحانه وتعالى لا يسمح لأحد في الشرع أن ينظر إلى زوجتك أو ابنتك أموالك محفوظة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] ، وعقلك محفوظ، ومن ثم حرم الخمر ودمك محفوظ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه) .
وفي كتاب الله ما يرقق القلب، ويذرف الدمع من العين في كتاب الله حث على صلة الأرحام، وجبر الخواطر المنكسرة، وصلة المرضى وعياداتهم، واتباع الجنائز، وإكرام المسلمين أحياءً وأمواتاً، والاستغفار لمن مات أو لمن هو حي منهم، فكل خيرٍ في كتاب الله.(99/5)
تفسير قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب.)
قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] هل البينة تكون سبباً للفرقة؟ وهل العلم يكون سبباً للفرقة؟ نعم.
في كثيرٍ من الأحيان يكون العلم سبباً للفرقة، فما تفرقوا حتى جاءهم العلم، لكن العلم ليس سبباً في نفسه، بل الحسد هو الحامل على ذلك كما قال الله: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى:14] ، كان الناس كلهم قبل مجيء البينة في ضلال، قويٌ يستضعف فقيراً، قويٌ يستعبد ضعيفاً، غنيٌ يستعبد فقيراً، وهكذا تسير الأمور، استعباد واستذلال، فلما جاءت البينة آمرة بالمساواة بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، مانعة للقوي من التسلط على عرض الضعيف، وعلى ماله، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] لما جاءت البينة آمرةً بذلك، أبى أهل الكفر، وأبى الملأ المستكبرون هذه البينة، ورفضوها فحصلت الفرقة حصلت الفرقة بين أقوامٍ رضوا بالبينة وأقوام رفضوا هذه البينة.(99/6)
أمر الله بإخلاص العبادة له وحده
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] أي: مفردين له الطاعة دون من سواه، ((حُنَفَاءَ)) أي: مائلين عن الشرك إلى التوحيد، وقد قدمنا أن الحنيف: هو المائل، على رأي جمهور المفسرين، أي: مائل من الشرك إلى التوحيد، وتفسير الحنيف بالمائل كما في قول المرأة تصف ابنها: والله لولا حنفٌ في رجله ما كان في صبيانكم من مثله ومن العلماء من فسر الحنفاء بالمقبلين، لكن الأول هو الذي عليه الجمهور.
{وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] هذه أصول الدين أمرٌ بالتوحيد، وأمرٌ بإقامة الصلاة، وأمرٌ بإيتاء الزكاة، فأيضاً نلفت النظر إلى شيءٍ هام ينبغي أن يذكر به المذكرون وهو أصول الدين، ثم بعد ذلك فروعه، لكن التركيز يكون على أصول الدين بالدرجة الأولى أمرٌ بالتوحيد، وبإقامة الصلاة، وبإتياء الزكاة، وببر الوالدين، وبالجهاد والإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وبالتآخي بين المسلمين كما قال الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] ، ومع ذلك أيضاً يذكر بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثال لأصول ديننا: الوفاء بالوعد، الصدق في الحديث، صلة الأرحام، بر الوالدين كلها من الأوامر التي أمر بها ديننا، وأمر بها الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أصولٌ ثوابت.
وعند تقييمنا للأشخاص يكون ذلك بعموم ما فيهم منها، فمثلاً: شخصٌ ملتحي، فهذا الملتحي طبق سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يثاب عليها إن شاء الله؛ لأنه طبق السنة وامتثل أمر الرسول، لكن إذا كان هذا الملتحي نصاب يأخذ أموال الناس، فهنا الوزن يكون كما قال الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، فالنصب جريمة، واللحية طاعة أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجريمة النصب واختلاس أموال الناس بالباطل أشد من جريمة حلق اللحية؛ لأن حلق اللحية ليس فيها تجني على حقوق الآخرين، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الشهيد فقال: (يغفر للشهيد كل ذنبٍ إلا الدين) ، لأن الدين متعلق بحقوق العباد، أما الذنوب التي اقترفها الشهيد المتعلقة بحق الله فإنه يغفرها له، أما الدين الذي هو متعلق بالعباد فالله سبحانه وتعالى لا يغفره للشهيد، ويأخذ من الشهيد هذا الدين إلا إذا أراد الله سبحانه أمراً آخر.
ومثلاً: رجل ملتحي وعاق لوالديه، إذا جئنا نزن فالموازين القسط فيها: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) .
فإذا جئنا نزن الأمور فنقول: عقوق الوالدين أعظم ثم أعظم من حلق اللحية، وليس معنى هذا التهوين من شأن اللحية، فإن اللحية أمرٌ أمر به رسول الله، وحالقها آثم، لكن الآثام تتفاوت في عظمها وفي قدرها وأحجامها، ولذلك يحدث الانتكاس في الفهم، تقول: فلان من الناس طيب، أو فلان أخ، وهذا الرجل الثاني ليس بأخ، فبأي ميزان قست الأخوة؟ هل الأخوة فقط متمثلة في ثوب تلبسه مشابهاً لثوب رسول الله؟ صحيح أن الثوب المشابه لثوب رسول الله حسن، وأن الموافقة في الظاهر تجلب الموافقة في الباطن، لكن المشابهة في القلوب كذلك مطلوبة، اجعل قلبك شبيهاً بقلب رسول الله، قلباً رقيقاً لكل ذي قربى ومسلم، قلباً تقياً ورعاً خائفاُ من الله سبحانه وتعالى، فلابد أن تمشي في الطريقين معاً، ولما أنفي الأخوة عن شخص لكونه ليس ملتحياً، فأنا نفيت الأخوة بناءً على معصية.
لا، فهناك كبيرة قد تكون في هذا الملتحي، وقد تكون ظاهرة.
فالشاهد يا معشر الإخوة: أن أصول الدين مع فروعه يركز عليها جميعاً، لكن يفهم أن في الدين أصولاً، وأن للدين أيضاً مسائل لا نقول: إن فاعلها في حل، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر حتى الصغائر وحذر منها، فقال: (يا عائشة! إياك ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كقوم نزلوا ببطن وادي، فجمع هذا عوداً، وهذا عوداً، حتى جمعوا حطباً كثيراً فأنضجوا لحمهم) ، فحتى في شأن الصغائر لا يستهان بها، ولكن التنبيه هو على إخواننا الذين يفرطون في أصول الدين، وغرتهم الأماني أن طبقوا بعض أوامر رسول الله، وتركوا أعظم أوامر الله وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يكون -مثلاً- ملتحياً ومتبعاً للسنة ولكنه ينصب على الناس ويختلس الأموال، وينتهك الأعراض، أو يرتكب المحرمات مع بنات الناس، كهؤلاء السفهاء الذين يعالجون بالجن بزعمهم ويخلون بالنسوة خلوة محرمة، تتسبب في انتكاسات لقوم، وتزل قدم بعد ثبوتها، وأنت الآثم، وأنت المتسبب في هذا كله، فالله عز وجل قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} هذا أمرٌ بالتوحيد، {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} أمرٌ بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها، {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} أيضاً من أصول الدين، ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة)) أي: الطريقة العادلة المستقيمة.(99/7)
بيان خير البرية وشرها في الآخرة
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [البينة:6] هذا مصيرهم، {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6] ، البرية: الخليقة، وفي المقابل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] أي: خير الخليقة، فإن سأل سائل: من هم خير البرية؟ ورد في صحيح مسلم أن رجلاً نادى الرسول فقال له: يا خير البرية! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ذاك إبراهيم صلى الله عليه وسلم) ، فبنص الحديث خير البرية: هو إبراهيم، وبنص الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} ، وفي حديثٍ آخر قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم) ، فكيف يجمع بين هذه النصوص؟ أولاً: هي لا تعارض بينها، أما الذي قد يبدو فيه من التعارض فهو بين قول الرسول في خير البرية: (ذاك إبراهيم) ، وبين قوله: (أنا سيد ولد آدم) صلى الله عليه وسلم، فمن العلماء من يقول: إن الرسول قال في إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي قال قبل أن يخبره الله بأنه سيد ولد آدم، أو أن الرسول قال في شأن خير البرية: (ذاك إبراهيم) على سبيل التواضع منه صلى الله عليه وسلم.
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم من خير البرية على الإجمال، وإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم منهم.
{جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [البينة:8] أي: إقامة، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [البينة:8] ، أي: وأحل عليهم رضوانه، كما في الحديث: (يا أهل الجنة! هل تريدون شيئاً؟ قالوا: وهل فوق ما أعطيتنا يا ربنا؟! قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) .
{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:8] ، ما معنى رضوا عنه؟ من العلماء من أجراها على ظاهرها، ومنهم من قال: رضوا عنه للثواب الذي أثابهم، والعطاء الذي أعطاهم، ومثل هذا في الدنيا -ولله المثل الأعلى- قد يعطيك شخص أموالاً، ومع إعطائه لك فأنت كاره له، ومهما يعطيك فأنت لست له من المحبين، ولست له من الشاكرين، وأنت تأخذ منه وتظهر له بأي مظهر رضاك عنه، لكن قلبك مليء ببغض هذا الشخص، وقد يعطيك شخص آخر وترضى عنه غاية الرضا، فمن العلماء من قال: رضوا عنه لثوابه إياهم، أو محبة منهم له سبحانه وتعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] .
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى والسلام عليكم.(99/8)
تفسير سورة الزلزلة
الإيمان بالبعث والنشور أحد أركان الإيمان الستة التي يجب على كل مسلم أن يعرفها، وحقيقة البعث -كما بينته كثير من السور ومنها سورة الزلزلة- هو خروج الناس من قبورهم إلى عرصات القيامة ليروا أعمالهم التي عملوها في الحياة الدنيا، فمن عمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن عمل مثقال ذرة شراً يره.(100/1)
اشتمال جزء عم على قضايا البعث والنشور
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:1-8] .
تقدم أن أكثر سور هذا الجزء المبارك الكريم -جزء عم- تتناول قضايا البعث والنشور الذي هو الخروج من القبور، كما تتناول الحساب والسؤال عن الأعمال، وقد بدئ ذلك بسورة النبأ، قال سبحانه: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:1-5] .
ثم ثني بسورة النازعات، وفيها: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1] إلى قوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:13-14] أي: وجه الأرض كما تقدم.
ثم في نفس السورة: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:34-36] .
وفي سورة عبس كذلك: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:33-35] .
وجاءت سورة التكوير كذلك: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:1-3] إلى قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14] .
وجاءت أيضاً سورة الانفطار بعد ذلك: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:1-5] .
فكل هذا يتعلق بالبعث، حتى سورة المطففين كذلك: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] إلى قوله: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4-6] .
وكذلك عقبت بسورة الانشقاق: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1] إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] أي: عامل عملاً فملاقٍ جزاء عملك، وهكذا سائر السور، فأغلب سور هذا الجزء تتناول قضايا البعث والنشور، وهذا يتفرع عنه أن سلامة العمل تكمن في سلامة المعتقد، فإذا كان الشخص يعتقد اعتقاداً صحيحاً أنه مبعوث ومسئول أمام الله عن أعماله فحينئذٍ يعمل عملاً صحيحاً؛ لأنه موقن أن سيلاقي جزاء هذا العمل، ولذلك قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين:1-4] ألا يظن، أي: لو أيقنوا أنهم مبعوثون ليوم عظيم ما طففوا المكاييل ولا طففوا الموازين.
والحاصل: أن أغلب سور هذا الجزء تناولت ركن الإيمان الذي هو الإيمان بالبعث وما يتعلق به من مقدمات وتوابع تتبع هذا اليوم.
ففي هذه السورة كذلك جاء المسير على هذا المنوال.(100/2)
تفسير قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض)
قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] ، والزلزلة من الحركة الشديدة السريعة، والمراد بزلزالها هنا: الزلزال الأعظم، فالأرض تزلزل زلازلاً، ولكن المراد بالزلزال في هذه السورة الزلزال الأعظم والأكبر الذي يعم جميع الأرض، ويكون سبباً لتدمير كل ما عليها، وهو من أشراط الساعة العظمى.
ومن هذا الباب أيضاً ما ورد في ذكر المسيح الدجال، فهناك دجاجلة كثيرون، لكن إذا أطلق الدجال فالمراد به الدجال الذي بين يدي الساعة.(100/3)
تفسير قوله تعالى: (وأخرجت الأرض)
{وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2] ، هنا يطرح
السؤال
متى هذا الزلزال؟ هل هو قبل يوم القيامة، أو هو بعد يوم القيامة؟(100/4)
الخلاف في وقت وقوع الزلازل في الآخرة
هناك قرائن في السورة الكريمة استدل بها على أن هذا الزلزال قبل يوم القيامة، وقرائن أخرى في نفس السورة استدل بها على أن هذا الزلزال في يوم القيامة بعد النفخ في الصور.
أما القرائن التي استدل بها على أن هذا الزلزال قبل يوم القيامة، فقوله تعالى: {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:3] أي: ما الذي حدث للأرض، فهذا استغراب من الإنسان عما يحدث.
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: (تقيء الأرض أفلاذ أكبادها كأمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيأتي السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ويأتي القاتل، فيقول: في هذا قتلت، ويأتي قاطع الرحم، فيقول: في هذا قطعت رحمي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً) هل هذا قبل يوم القيامة؟ أو بعد النفخ في الصور؟ الظاهر من هذا أنه قبل يوم القيامة، فاستدل بهذا الحديث وبقول الإنسان: مالها؟ على أن الزلزلة المذكورة قبل يوم القيامة.
وهناك أدلة أخرى تفيد أن هذه الزلزلة بعد النفخ في الصور، أي: يوم القيامة، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1-2] وسياق هذه الآيات يشعر أنها قبل يوم القيامة.
لكن ما ورد فيها من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو: (يقول الله سبحانه وتعالى لآدم يوم القيامة: يا آدم! فيقول: لبيك ربنا وسعديك -وفي رواية- والخير في يديك، والشر ليس إليك.
فيقول الله له: يا آدم! أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول: يا رب! وما بعث النار، فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذٍ يشيب الصغير، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] ) ، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث لأصحابه شق ذلك على أصحابه فقالوا: وأينا ذاك الرجل يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحداً، ألا ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبر الصحابة حمداً لله، ثم قال: ألا ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبر الصحابة حمداً لله، ثم قال: والذي نفسي بيده! إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث يفيد أن الزلزلة المذكورة أيضاً بعد القيامة.
ومن العلماء من حاول التوفيق بين القولين، وقال: إنها قريبة جداً من القيامة، فلقربها من القيامة كأنها هي القيامة، أو كأنها جزء من القيامة، فالإنسان إذا كان قريباً من الشيء يعبر عنه بأنه هو، كما قال تعالى في سورة النحل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] والأمر، ما أتى ولا حل فعلاً؛ لكنه لقرب مجيئه عبر عنه بلفظ: (أتى) ، فللتلازم الشديد والتقارب الشديد بين الساعة وبين القيامة عبر عنها بهذه التعبيرات، فهي مع الساعة مباشرة.
وقوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] أي: زلزالها الأكبر، بأن حركت حركة شديدة فدمر كل شيء عليها، كما قال تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة:4] .(100/5)
معنى إخراج الأرض أثقالها
قال تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2] ما هي هذه الأثقال؟ للعلماء فيها قولان: القول الأول: أن الأثقال هم الأموات الذين دفنوا فيها، فقد كانت الأرض لهم بعد موتهم كفاتاً، كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:25] فكانت كفاتاً لهم تسترهم، فتخرج هذه الأثقال يوم القيامة، كما في الآية الأخرى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} [الانشقاق:3-4] أي: ألقت من الأموات وتخلت عنهم {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:2] أي: سمعت لهم وأطاعت.
القول الثاني: أن المراد بالأثقال الكنوز التي في بطنها، كالذهب والفضة وغير ذلك كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة) لكن قبل الساعة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فيأتي الناس يتقاتلون، فيقتل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ويبقى واحد، ويظن كل رجل منهم أنه هو الواحد) .
فهذان هما القولان في تفسير الأثقال {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2] .(100/6)
تفسير قوله تعالى: (وقال الإنسان ما لها)
قال تعالى: {وَقَالَ الإِنسَانُ} [الزلزلة:3] (وقال) تعجب واستغراب، {مَا لَهَا} [الزلزلة:3] ما الذي حدث للأرض حتى تفعل هذه الأفعال.
قال تعالى: {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:3] هل كل إنسان يقول ذلك؟ أم الإنسان الكافر فقط؟ فالمؤمن يعلم أن هذا هو أمر الله؟ فمن العلماء من قال: إن الآية أفادت العموم، وكل إنسان يقول ذلك، لأن الله أطلق ولم يقيد، فكل إنسان يتعجب! ما الذي حدث؟ ومنهم من حمل الإنسان على الكافر، واستشهد بقوله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:55-56] .(100/7)
تفسير قوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها)
قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:4-5] : من العلماء من قال: إن الأرض تتكلم كلاماً حقيقياً مجيبة للإنسان على تساؤله، فعندما يقول الإنسان مستغرباً متعجباً: ما الذي حدث للأرض؟ فتجيبه قائلة: إن الله أوحى إليّ بذلك، وأمرني به، لأن ربك أوحى لها، فالمعنى: إذا سألها الإنسان عن سبب أفعالها التي فعلت، فإنها ستجيبه قائلة: إن الذي فُعِل بي إنما حدث بوحي الله إليّ.
بلسان المقال.
ومنهم من قال: إن الإجابة بلسان الحال، فيتساءل الإنسان: مالها؟ فلا يجد إلا إجابة، وهي: إن هذا الذي حدث إنما هو بأمر الله.
وإن لم تتلفظ الأرض بهذا اللفظ.
ومن أهل العلم من قال: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] أي: تخبر عن كل شخص بما عمل على ظهرها، تأتي الأرض يوم القيامة وتشهد على كل عامل بعمله، يا رب! هذا الرجل مشى عليّ كي يذهب إلى المسجد ويصلي وسجد لك عليّ، يا رب! هذا العبد مشى عليّ كي يتصدق، مشى عليّ وخطا خطوات كي يشهد الجمعة والجماعة، ويحضر مجالس العلم، يا رب! ذاك العبد، مشى عليّ للشر والفساد، وسار على وجهي وطفق يهلك الحرث والنسل.
فتحدث عن كل شخص بالذي عمل عليها، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] أي: نكتب الآثار، من العلماء من قال: آثار الخطأ، قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] .
ويشهد لهذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة لما كانت ديارهم بعيدة عن المسجد وأرادوا أن يقتربوا من مسجد رسول الله ويشتروا بيوتاً بجوار المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا البقاء في دياركم البعيدة، تكتب آثار خطاكم في موازينكم أو في صحفكم، فهذا وجه في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] .
ففيه أوجه: أحدها: أن الأرض تجيب إذا سألها الإنسان مالكِ؟ فتجيبه إما بلسان الحال أو بلسان المقال: أن هذا الذي حدث لي إنما هو بوحي الله إليّ.
الوجه الثاني: أنها تخبر عن كل شخص بما عمل على ظهرها.(100/8)
تفسير قوله تعالى: (يومئذ يصدر الناس)
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} [الزلزلة:6] (يصدر) أي: يرجع، ومنه قول الفتاتين: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] أي: حتى يرجع الرعاء من السقي، فقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} [الزلزلة:6] أي: يرجع الناس.
ولكن من ماذا يرجعون؟ فيه قولان للعلماء: أحدهما: يرجعون من موقف الحساب بعد أن حوسبوا، لكن هذا القول يحتاج إلى تقدير في الآية، فالمعنى: يومئذٍ يرجع الناس من موقف الحساب ليروا جزاء أعمالهم، فيكون قوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6] أي: ليروا جزاء أعمالهم.
فيرجع الناس من موقف الحساب، فمنهم الذي تلقى كتابه بيمينه، ومنهم الذي تلقاه بشماله من وراء ظهره عياذاً بالله، فيتلقون جزاء الأعمال، إما رجل يطير فرحاً، ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19-20] وآخر بائس متبائس اسود وجهه وازرقت عيناه، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] ، يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25-29] .
فقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة:6] أي: أشتاتاً متفرقين من موقف الحساب، هذا راجع في هذا الاتجاه وهذا راجع في هذا الاتجاه.
ويا له من موقف إذا أمعنت النظر فيه وتخيلته وتصورته، كلهم تلقوا الكتاب ورجعوا متفرقين، ثم بعد ذلك ينظمون في جماعات، كل جماعة مع أمثالها وأضرابها، كل أصحاب وجهة مع بعضهم، كما قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر:71] ، وكما قال: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73] أي: جماعات جماعات، فيرجعون من موقف الحساب متفرقين، كل معه كتاب أعماله يرجع حتى يلاقي جزاء العمل وينتظم في سلك أمثاله وأشكاله، إن كانوا صالحين أو كانوا طالحين، كما قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] أي: وأمثالهم ونظراءهم، {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22-23] .
القول الثاني في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة:6] أي: يرجع الناس من قبورهم عندما ينفخ في الصور إلى موقف الحساب {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6] فكل شيء قد فعلوه أثبت في الزبر، وكل صغير وكبير قد سطر، فيرجعون من القبور إلى موقف الحساب كي يروا أعمالهم، وهنا يرجعون من القبور أيضاً متفرقين كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] وعند خروجهم من القبور لأول وهلة يخرجون متفرقين كالفراش المبثوث الطائش، كل فراشة في اتجاه يركب بعضه بعضاً، وبعد مدة ينظم الركب ويكونون كالجراد المنتشر، فالجراد له وجهة محددة يسير في اتجاهها، أما الفراش الطائش فيركب بعضه بعضاً، والله أعلم.(100/9)
تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة)
قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] أي: فمن يعمل في دنياه مثقال ذرة من الخير يراها، وما هو ضابط الذرة؟ من العلماء من قال: إن الذرة هي النملة الصغيرة الحمراء، ومنه قول الحسن البصري في بعض مقالاته في شأن الأبرار: البر هو الذي لا يؤذي الذر.
فالشاهد: أن من العلماء من ضبط الذرة بأنها النملة الصغيرة الحمراء.
فإن قال قائل: إن العلم الحديث وضح أن الذرة تنقسم إلى الكترون وبروتون، وكل هذا لا يرى بالعين المجردة، فلماذا فسرت الذرة بهذا التفسير الذي هو النملة؟ فالإجابة أن الله خاطب الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصغر شيء في أعينهم وهو النملة الصغيرة الحمراء.
والقول الثاني: إنها ذرة الغبار التي تكون في شعاع الشمس في الغرفة التي يدخلها ثقب، على ما قاله بعض العلماء، وكان هذا أصغر شيء يتخيله العرب، لكن أصغر منه أثبت أيضاً في كتاب الله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ} [يونس:61] فأثبت الذي هو أصغر من الذرة، فيندرج تحته ما اكتشف مؤخراً {وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61] .
فقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة:7] حتى الذرة، ولذلك فقد روي عن أم المؤمنين عائشة أنها كانت إذا أتاها سائل لا تبخل عليه بالصدقة، ولو بتمرة، وتقول: سبحان الله! كم في التمرة من ذرات، والله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة جارتها ولو فرس شاة) أي: لا تحقرن جارة الهدية أن تهديها إلى جارتها أو تقبلها من جارتها ولو كانت الهدية هذه حافر شاة أو رجل شاة، وإذا أهديتِ أيتها المسلمة أو إذا رغبتِ في الإهداء وليس عندك شيء فلا تستقلي الهدية أن تهديها، وإن كانت قليلة فبادري بإخراجها ولا تحتقريها، فكم فيها من ذرات.
والوجه الثاني: إذا أهدت لك أيتها المسلمة أختكِ شيئاً فاقبليه، فالهدية في أصلها دليل على المحبة، ومن ثم حسَّ بعض العلماء حديث: (تهادوا تحابوا) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها.
فالشاهد: أنه على العبد ألا يستقل أعمال البر ولا يستصغر أعمال الشر كذلك، فقد ترى العمل في عينيك يسيراً ولكنه عند الله كبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لما مر بالقبرين (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير -أي: في أنظاركم- بلى إنه كبير) أي: عند الله سبحانه وتعالى.
فقد تتكلم بكل بساطة في عرض مسلم وتظن أنك ما فعلت شيئاً وأنت قد أكلت لحماً ميتاً، {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] ، وقد تقدم عن أنس بن مالك كما في البخاري (إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إنا كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) أي: من المهلكات.
فالله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] هذا النص عام تندرج تحته كل أفعال البر وكل أفعال الشر، وقد استدل به الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر حديثاً في فضل الخيل، فسأله سائل: يا رسول الله! والحمر -أي: والحمير يا رسول الله ما القول فيها إذا احتبستها في سبيل الله- (فقال: ما أنزل عليّ فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ) .
فأفادت الآية أن كل شيء يفعله العبد مثبت، حتى خائنة الأعين مثبتة، اللفظ الذي يتلفظه العبد مثبت، حركة اليد مثبتة، قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52-53] ، وقال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف:49] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30] ، فالأمر كما قال سبحانه: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] .
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:8] ، لقد صحح بعض العلماء حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لـ عائشة: (يا عائشة، إياكِ ومحقرات الذنوب، فإنهن إذا اجتمعن على رجل يهلكنه -وفي رواية-: كقوم نزلوا ببطن وادٍ، فجمع هذا عوداً، وجمع هذا عوداً، حتى جمعوا حطباً كثيراً فأنضجوا لحمهم) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما قال الشاعر: لا تحقرن من الذنوب صغيرها إن الصغير غداً يعود كبيراً إن الصغير وإن تضاءل قدره عند الإله مسطر تسطيراً فجدير بكل عبد أن يحدث توبة لكل ذنب.
والله الموفق.(100/10)
تفسير سورة العاديات
في هذه السورة يقسم الله سبحانه وتعالى بشيء من مخلوقاته وهو الخيل، ثم يستمر في وصف سرعتها وشدة اندفاعها نحو العدو من آثارها، وكل هذا ليبين الله طبيعة هذا الإنسان، وأنه ينسى كل خير ومعروف، وينكر ويجحد الجميل من ربه سبحانه، وإذا نظرت إليه تجاه الدنيا وجدته شديد المحبة للمال والجاه والسلطان، لكن لا بد أن يعلم هذا الإنسان أنه إذا بعث إلى ربه، وأخرج مكنون صدره فإنه محاسب على انشغاله بهذه الدنيا ونسيانه لطاعة ربه سبحانه وتعالى.(101/1)
تفسير سورة العاديات
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول الله سبحانه: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:1-5] كل هذا لبيان ماذا؟ قال تعالى بعد هذا: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] أي: لكفور جحود، فإلى متى أنت وحتى متى تذكر المصائب وتنسى النعم؟!(101/2)
بيان المراد بالآيات إذا حملت العاديات على أنها الخيل
قال تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1] ، أقسم الله بالعاديات، ما هي هذه العاديات؟ العدو: هو الجري، فالحقيقة أنه قسم بصفة.
فـ (العاديات) جمع عادية، والعدو معروف وهو: الجري، فأقسم الله سبحانه وتعالى بشيء يجري ويضبح، والضبح هو صوت النفس الشديد بعد الجري، فما المراد بالعاديات التي أقسم الله بها؟ جمهور العلماء قالوا: العاديات هي الخيل التي تجري وتعدو بسرعة نحو العدُوّ، هذه المناظر كان يعرفها العرب ويألفونها، مناظر تستقر في الأذهان؛ لأن على إثرها يتم وقتل أو أسر أو نصر أو هزيمة، خيول تجري مسرعة بسرعة فائقة مندفعة نحو العدو، فيحصل معها إما قتل لهذا أو قتل لذاك، أو نصر لهذا وهزيمة لذاك.
فأقسم الله بالعاديات التي هي الخيول التي تجري مسرعة نحو العدو، وتضبح بعد جريها، أي: تأخذ نفساً شديداً وتحمحم حمحمة بعد هذا الجري، فالضبح هو: صوت الأنفاس، وهو الحمحمات، (وَالْعَادِيَاتِ) أي: والخيل العاديات التي تجري نحو العدو بسرعة.
وهنا لفتة سريعة: وهي أن الله أقسم بالخيل العادية ولم يقسم بالخيل التي تحمل الزبالات، بل بالخيل العادية القوية التي تجري نحو العدو، فهناك تفاضل بين الدواب، فهناك فرس نشيط همته عالية، وفرس كسول، فرس لا يرضى أن يقف عند المزابل بل يمشي سريعاً إلى القتل والقتال، وفرس خامل بليد، رضي بالذلة والهوان، ورضي بالوقوف عند المزابل إلى غير ذلك.
{فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:2] ، يوري أي: يستخرج الشرر، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة:71] أي: التي توقدون وتستخرجون شررها {أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} [الواقعة:72] ، (فَالْمُورِيَاتِ) ، أي: الخيل إذا جرت واحتكت حوافرها بالأحجار وكانت سريعة في جريها، يخرج شرر من أثر احتكاك الحوافر بالأحجار، فتقدح الشرر أثناء جريها من شدة سرعتها.
العاديات ضبحاً: الخيل التي تجري بسرعة فائقة، فيخرج منها النفس، وتخرج منها الحمحمات، وهذه الخيول توري النيران وتستخرج الشرر من الأحجار التي تحتك بها أرجلها.
(فَالْمُغِيرَاتِ) أي: الخيل التي تغير على العدو صباحاً، {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات:3] أي: الخيول تجري في الصباح مسرعة نحو العدو، يسمع لأنفاسها صوت، تحتك حوافرها بالأحجار فتستخرج الشرر، هذا كله على تأويل العاديات على أنها الخيل.
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} [العاديات:4] أي: بهذا الفرس القوي السريع، ومعنى (أثرن) : أي: رفعن، والنقع: هو الغبار، يعني: من سرعته هيج التراب، حين تمشي السيارة مسرعة يخرج الغبار خلفها فكذلك الخيل، أثرن به نقعا، من الإثارة، فينفعل ويخرج كل ما عنده.
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} [العاديات:5] أي: توسطنا بهذه الخيول جموع العدو، فالخيل هذا تمثيلها، خرجت مسرعة شديدة في الصباح في اتجاه العدو، فاستخرجت عند جريها الشرر من الأحجار، فتوسطت المعركة، فأثارت الغبار أثناء سيرها، ودخلت في وسط جموع العدو، وهذا التأويل عليه الأكثر.(101/3)
بيان المراد بالآيات إذا حملت العاديات على أنها الإبل
تأويل آخر: أن المراد بالعاديات التي تعدو الإبل التي تأتي مسرعة سرعة زائدة، فتأتي مسرعة من عرفات إلى مزدلفة بعد الحج.
(وَالْعَادِيَاتِ) الإبل التي تعدو من عرفات إلى مزدلفة، {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1] نفس الشيء يسمع لها صوت {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:2] نفس الشيء تستخرج الشرر بأقدامها.
{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:3-5] قال بعضهم: إن (جمعاً) هنا هي مزدلفة، فمزدلفة يطلق عليها جمع، وهي أيضاً تغير في الصباح، أي: تتجه من مزدلفة إلى منى بعد الفجر، وهنا تأويلان للآية: من العلماء من نزل العاديات على الخيل.
ومنهم من نزلها على الإبل.
والأمر في هذا قريب.
ومنهم من نزلها على القتال.
ومنهم من نزلها على الحج، والأمر يحتمل الاثنين معاً كذلك، والتفسير بالعموم أولى من التفسير بالخصوص.
وهذا القول الأخير على ما يحضرني مروي عن علي رضي الله عنه.
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:5] ، إما بالجمع الذي هي جموع العدو، وإما جمع التي هي مزدلفة.(101/4)
تفسير آيات جواب القسم في سورة العاديات
{إِنَّ الإِنسَانَ} [العاديات:6] ، أقسم الله بهذا القسم لأجل شيء {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] ، (كنود) أي: جحود كفور، يذكر المصائب وينسى النعم قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود:9-10] .(101/5)
معنى قوله تعالى: (وإنه على ذلك لشهيد)
{إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:6-7] ، الضمير في قوله: (وَإِنَّهُ) يرجع إلى من؟ من العلماء من قال: (وَإِنَّهُ) راجع إلى الرب، أي: إن الرب شهيد على كفر الإنسان وعلى جحوده، {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:7] ، أي: وإن ربه على كفر عبده وجحوده لشاهد.
ومنهم من قال: إنه قوله: (وَإِنَّهُ) ، راجع إلى الإنسان، أي: والإنسان شاهد على نفسه، بأنه جحود لنعم الله سبحانه وتعالى، تشهد عليه في الآخرة جوارحه، وضميره يشهد عليه كذلك أنه جحود، {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] ، أي: كفور جحود، هذا على الغالب، لكن لا يمنع أن من الناس من هو مؤمن، فقد يتجه إلى الآية قولان: أحدهما: أن المراد بالإنسان الإنسان الكافر، لكن إن قيل: ومن أين هذا التقييد بالكافر؟ فالإجابة: أن الشرع يستعمل اللفظ على أغلب ما وضع له، قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، والآية الأخرى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:99] ، فأطلق على الأكثر، أي: فالمراد الأكثر والأغلب.
أو يقال: إن عموم الناس لا يستطيعون أن يؤدوا شكر نعم الله سبحانه وتعالى، فمع صلاة الإنسان وصومه فذلك لا يوازي نعم الله عليه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا) فالوجهان واردان.(101/6)
معنى قوله تعالى: (وإنه لحب الخير لشديد)
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} [العاديات:8] ، رجع الضمير إلى الإنسان، (وَإِنَّهُ) ، أي: الإنسان (لِحُبِّ الْخَيْرِ) : الخير في أكثر الآيات في الكتاب العزيز يطلق على المال، {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:180] ، أي: إن ترك مالاً.
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} [العاديات:8] ، أي: المال، وشاهدها: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20] ، أي: (وَإِنَّهُ) ، طبيعة الإنسان، {لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] ، محب المال بشدة: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا) .(101/7)
معنى قوله تعالى: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور)
{أَفَلا يَعْلَمُ} [العاديات:9] ، هذا الإنسان الجحود المحب للمال الشديد، {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} [العاديات:9] ، أي: استخرج وأثير من في القبور، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] ، (حصل) أي: مُيز وبُين ووضح ما في الصدور.
فالمعنى: هذا الكفور المحب للمال حباً شديداً، الذي حمله حبه للمال على إضاعة دينه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص الرجل على المال والشرف لدينه) ، أي: حرص الشخص على المال، وحرصه على الشرف والجاه والمنصب يفسد دينه كما يفسد الذئبان الجائعان زريبة الغنم إذا نزلا فيها، كيف يصنعا بالغنم؟ يمزقان الغنم تمزيقاً، كذلك هذا الحريص على المال والجاه والشرف، يمزق الدين كما تمزق الذئاب الجائعة الأغنام في زريبة الغنم.
فالله يقول: أفلا يعلم هذا الإنسان الحريص على المال المحب له، الذي حمله هذا الحب على اكتسابه من الحرام وعلى ظلم العباد والتعالي عليهم والتكبر، {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} [العاديات:9] ، أي: استخرج وأثير من في القبور، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] .
لأنه معلوم بداهة أنك مسئول حينئذٍ، إذا أخرجت من القبر وحصل ما في صدرك، فبُين أن هذا خير هذا شر نيته صالحة نيته فاسدة.(101/8)
معنى قوله تعالى: (إن ربهم بهم يومئذ لخبير)
{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:11] ، هنا تقدير، أي: وسيجازيهم على ما صنعوا أو يعفو عنهم إن شاء، فإن قال قائل: لماذا قيل في هذه الآية: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:11] ، أليس الله بخبير أيضاً بعباده في الدنيا؟! ف
الجواب
أن الآية كقوله أيضاً: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ، أليس الملك في الدنيا لله كذلك؟! فلماذا قيل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ؟ وذلك والله أعلم لأن المقام بالنسبة للملك أنه قد يدعي رجل في الدنيا أنه ملك، وينازع ربه أمام الناس، لكن يوم القيامة ليس هناك مدع لهذا، فلا أحد يدعي أبداً أنه الملك، وأيضاً في قوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:11] ، المقام مقام حساب لما في الصدور؛ لأنها استخرجت، فالمقام مقام حساب حتى تبين رهبة المقام، وحتى تدل هذه الدلالات على التحذير والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(101/9)
تفسير سورة الفيل
تتجلى عظمة الله وقدرته في الانتقام من أعدائه والانتصار لأوليائه، وتتجلى هذه العظمة في حماية رب العالمين للبيت الحرام عندما أراد أبرهة الحبشي أن يهدم الكعبة، فأرسل الله عليهم جنداً من جنوده وهو الطير، ترميهم بحجارة قاسية، فأردتهم في الهلاك والخزي.(102/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم ترك كيف فعل ربك بأصحاب الفيل.)
يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1-5] .(102/2)
الإشارة إلى الرسول بأن الله ناصره كما نصر قومه على أصحاب الفيل
تعد حادثة الفيل من الإرهاصات، كما أن اقتتال الأوس والخزرج يعد من الإرهاصات، أعني: من المقدمات بين يدي بعثة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكتوطئات لبعثة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ} [الفيل:1] قال كثير من أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل فما رأى صلى الله عليه وسلم الذي حدث في هذا العهد.
فكلمة (ألم تر) في كتاب الله تأتي أحياناً ويراد بها الرؤية الحقيقية، وتأتي أحياناً ويراد بها العلم، كقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:243] ، وقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر:6] ، وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] ، فكلمة: (ألم تر) أحياناً تأتي بمعنى: ألم تعلم، وتكون الرؤية رؤيا بالقلب، أي: ألم تر بعين قلبك، وأحياناً تكون الرؤيا بالعين.
فهنا المراد بالرؤيا العلم، أي: ألم تعلم، والهمزة للاستفهام المقتضي التقرير، كما في قول فرعون لموسى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:18] أي: قد ربيناك فينا وليداً، فهي همزة للاستفهام الذي يقتضي التقرير، وكما في قول الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح أي: أنتم كذلك.
فـ (ألم تر) معناها: ألم تعلم، ومعناها أيضاً: قد علمت يا محمد كيف فعل ربك بأصحاب الفيل.
وفي قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل:1] لم يقل: ألم تر كيف فعل الله بأصحاب الفيل، وأن ربك هو الله، للإشعار بالمؤانسة.
وأيضاً قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] معناه أن الله ناصرك، فإنه نصر قومك من قبل على أصحاب الفيل، فكلمة (ربك) هنا تشعر بالمؤازرة والمؤانسة، إذ هو ربك وهو ناصرك سبحانه وتعالى.(102/3)
ذكر قصة أصحاب الفيل
أما قصة أصحاب الفيل فإنها لم ترد بسند صحيح لذاته، أي: ليس هناك نص صريح إسناده صحيح لذاته يثبت حادثة الفيل بالتفصيل المعهود، لكن كتاب الله أثبتها إجمالاً، وجاءت الإشارة إليها في بعض الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء عام الفتح، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء يدخل مكة عام الفتح امتنعت ناقته من الدخول، فقال الصحابة: خلأت القصواء، وامتنعت من الدخول، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) ، يعني: أن المانع الذي منع الفيل من دخول مكة هو الذي منع القصواء من دخول مكة.
وجاءت جملة أخبار وأحاديث منقطعة ذكرها الطبري رحمه الله، وذكرها ابن إسحاق كذلك في سيرته تفيد أو تذكر تفصيلاً للذي حدث في هذا العام، ولأنها منقطعة؛ نأخذ منها المضمون فقط الذي أيده كتاب الله وأيدته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالحاصل من القصص التي أوردوها في هذا الشأن: أن أبرهة الأشرم وكان من ملوك اليمن، وكان قبل ذلك من الأحباش، وكانت اليمن خاضعة للأحباش، وكان نصرانياً، قال القرطبي: عزم أبرهة على هدم الكعبة ونقل وجهة الحجيج إلى بلاده بدلاً من اتجاه الحجيج إلى مكة؛ حسداً من عند نفسه وانتقاماً وثأراً لبعض شيء أصابه وأصاب بلاده من بعض العرب.
فعزم على الرحيل لتدمير البيت الحرام ونقل وجهة العباد إلى بلاده، فكان ما ذكره الله سبحانه وتعالى أنه لما اتجه إلى مكة وقبل أن يدخلها أرسل إلى عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سلب منه النعم وسلب الإبل من سائر القرشيين، فجاءه عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستعطفه برد الإبل إليه، بينما أصر أبرهة على هدم الكعبة، فخرج عبد المطلب يدعو ربه سبحانه وتعالى الانتقام من هذا الرجل، فأرسلت الطير الأبابيل التي ذكرها الله في كتابه.
هذا بإيجاز شديد؛ لأن القصص لا يثبت لها إسناد، إنما هي مقاطيع وبلاغات وروايات معضلة.
وقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] هل هو فيل واحد أم فيلة؟ أكثر أهل العلم على أنها مجموعة من الأفيال، ولم تكن فيلاً واحداً، ولكن أفرد الفيل وأريد به أعظم هذه الأفيال وهو الفيل الذي جندوه لسحب وتدمير الكعبة، ومن العلماء من قال: إنه اسم جنس.
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:2] أي: جعل الله تكبرهم ومكرهم في إبطال وضياع.
قوله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل:3] الأبابيل: الجماعات الكثيرة المتتابعة.(102/4)
تفسير قوله تعالى: (ترميهم بحجارة من سجيل)
{تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:4] السجيل هو الطين المتحجر القاسي.
جاءت طيور كما في كتاب الله سبحانه ترمي هؤلاء القوم بحجارة من هذا الطين المتحجر القاسي، وبعض أهل العلم ذكر أن كل من أصيب بهذا الطين أصيب بمرض الجدري، وليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء يشهد لهذا.
وقد ذهب بعض المفسرين وهم قلة قليلة لا يكاد يلتفت لقولهم: أن هذا الذي أصاب أبرهة وأصحابه إنما هو مرض سريع تفشى فيهم جميعاً.
وأجيب على هذا بأن قائل هذا القول يحاول أن يمنع هذه المعجزة التي هي انتقام الله من أصحاب الفيل، فقال: ليس هناك شيء، وإنما المرض تفشى في أبرهة وأصحابه، وأجيب على فرض التسليم بصحة هذه المقولة، أن الذي سلط المرض في هذه اللحظة لحظة إرادة التدمير إنما هو الله سبحانه وتعالى، يعني كأنك فررت من شيء فوقعت في شيء آخر، فإن فررت من قدرة الله على إرسال طير أبابيل، فقد وقعت أيضاً في الاستسلام لتقدير الله بإرسال الأمراض في هذه الأوقات.
وقوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:4] وقد أرسلت هذه الحجارة أيضاً على قوم لوط، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] .(102/5)
تفسير قوله تعالى: (فجعلهم كعصف مأكول)
قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] .
العصف: هو التبن على رأي كثير من العلماء، والمأكول هو الذي قد أكل منه، ومن العلماء من قال: إنه الذي أكل وأصبح روثاً، أي: العصف هو التبن وما تأكله البهائم، فالتبن بعد أن تأكله البهائم يصبح مهروساً على حاله من الإهمال.
فمنهم من قال: عصف مأكول، أي: تبن أو علف للبهائم أكل منه.
ومنهم من قال: إنه علف البهائم بعد أن أكلته فأصبح روثاً، فهكذا كان حال أبرهة وأصحابه عندما جاءت الطيور وأرسلت عليهم الحجارة، فتمزقت جلودهم وانسلخت عن عظامهم، وأصبح حالهم كالعصف المأكول.
وفي هذا بيان لقدرة الله سبحانه وتعالى على الانتقام من أعدائه ولمن أراد ببيته سوءاً، فجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عبد المطلب ومن معه من القرشيين لم يبذلوا أي شيء في الدفاع عن هذا البيت، إلا أنهم دعوا الله سبحانه وتعالى بأن يهلك العدو، فكانت هذه تقدمة بين يدي بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ثم امتن الله على القرشيين بها، كما في السورة التي تليها، والتي جعلها بعض أهل العلم هي وسورة الفيل سورة واحد، ألا وهي سورة قريش.
وقد ذكر فريق من العلماء أن أبي بن كعب رضي الله عنه كان يجعل سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة ويفصل البسلمة التي بينهما، أما جمهور أهل العلم فيجعلون الفيل سورة مستقلة وسورة قريش سورة مستقلة.(102/6)
تفسير سورة قريش
امتن الله تعالى على قريش بأن جمعهم بعد أن كانوا متفرقين، وأمنهم بعد أن كانوا خائفين، وأطعمهم بعد أن كانوا فقراء جائعين، فكان الواجب عليهم تجاه هذه النعم العظيمة والمنن الكثيرة أن يشكروا الله تعالى حق شكره؛ ومن تمام الشكر وأوجبه تحقيق عبادة الخالق وحده، وصرف جميع أنواع الطاعات والقربات له لا لغيره.(103/1)
تفسير قوله تعالى: (لإيلاف قريش)
قال الله سبحانه: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش:1] ، فالذين جعلوها سورة واحدة قالوا: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [قريش:5] ، (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش:1] ، أي: لتأليف القرشيين ولجمع كلمتهم، فأنتم يا معشر قريش لما أتاكم أبرهة وأصحابه، أوشكتم وأشرفتم على الضياع وعلى الفرقة وعلى الهرب، كل شخص هرب في مكان، وأشرفت القبائل على التكالب عليكم، فلكي تجمع كلمتكم وتتفق وتأتلف أهلك الله عدوكم.
فـ (لِإِيلافِ) أي: لتأليف قريش، وجمع كلمتهم جعلنا أصحاب الفيل كعصف مأكول، أي: هذا الذي صنعناه بأصحاب الفيل إنما هو لمنفعتكم يا معشر قريش، ولجمع كلمتكم، فهذا قول من ربط بين السورتين.(103/2)
الاختلاف في تفسير الآية
قوله سبحانه: (لِإِيلافِ) من التأليف، والتأليف من معانيه الجمع والاجتماع، فـ (تأليف القلوب) أي: الجمع بين القلوب، (تأليف كتاب) : أي جمع موضوعات الكتاب وضم الموضوعات إلى بعض، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43] أي: ثم يجمع بينه، هذا هو وجه الربط، فقوله سبحانه: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} أي: لتأليف قريش، ولجمع كلمة قريش، ولتوحيد قريش.
فهذا قول.
القول الثاني: أن السورة مستقلة، فإذاً: ستحتاج إلى تأويل آخر، فيكون المعنى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} لتوحيد قريش، ولجمع كلمة قريش، ماذا صنعنا لتأليفهم ولتوحيد كلمتهم؟ قال تعالى: {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:2] أي: جعلناهم (يألفون) رحلة الشتاء والصيف، أي: يتعودون، تقول: ألِفتُ الشيء: إذا تعودت عليه، وهذا شيء مألوف، أي: شيء معتاد.
هذا على التأويل الثاني.
فقوله: (إِيلافِهِمْ) أي: تعودهم {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:2] أي: جعلناهم يألفون ويسافرون مع بعضهم رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام، فأنت إذا سافرت مع الناس ازداد التآلف فيما بينكم، وأيضاً لهذا التآليف آمنهم الله من خوف وأطعمهم من جوع، فقد كانوا يسافرون ولا يعترضهم أحد من الناس، على ما سيأتي.
الشاهد أن هنا تفسيراً آخر وهو أن: لتأليف قريش ولجمع كلمة هذه القبيلة جعلناهم يألفون رحلة الشتاء والصيف، وسهّلنا عليهم رحلة الشتاء والصيف.
وقول ثالث: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} فيه تقدير محذوف، وهو: اعجبوا لتعود قريش على رحلتي الشتاء والصيف، وبعدهم عن طريق الإيمان وعن طريق الله سبحانه وتعالى.
إذاً: هناك ثلاثة أقوال مشهورة في تفسير قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} .(103/3)
مناقب وفضائل قريش
في قبيلة قريش كما قال النبي صلى الله عليه وسلم جملة مناقب وفضائل: منها: ما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، قبيلة كنانة اصطفاها الله من أولاد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ، فقريش من نسل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، لأن قبيلة قريش من كنانة، وقبيلة كنانة من ولد إسماعيل، وإسماعيل هو ابن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم، فعلى ذلك كل قرشي يرجع نسبه إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
هذا الحديث: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) فيه أن كل هاشمي قرشي، وليس كل قرشي هاشمياً.
ومن مناقبها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) ، أي: من شروط إمام المسلمين الذي هو الإمام الأعظم الذي يحكم بلاد المسلمين كلها؛ من شروطه أن يكون قرشياً؛ لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) .
وفي الحديث زيادات: (لا ينازعهم أحد إلا أكبه الله على وجهه) ، وهذه من أقوى الاعتراضات التي كانت تدمِّر جماعة التكفير والهجرة، فـ شكري مصطفى الذي شُنِق كان يقول: إنه إمام المسلمين، كان يقول حتى في المحاكمات: أنا شكري مصطفى إمام المسلمين، فكان الإخوة الذين بصرهم الله من الذين التحقوا بجماعتهم وأراد الله لهم الابتعاد عنها يحتجون عليه بهذا الحديث، أنت لست قرشياً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الأئمة من قريش) ، فبأي وجه حق تستحق الإمامة.
وإن قال قائل: لماذا الأئمة من قريش؟ نقول: هذه إرادة الله، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فللقرشيين مواصفات طبعاً الأئمة من قريش وبني هاشم من قريش، وأي هاشمي يصلح أن يكون إماماً، وأي قرشي يصلح أن يكون إماماً، فإذا قال قائل: لماذا هذا؟ فنقول: إن الله سبحانه وتعالى أراد ذلك فضّل قوماً على قوم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش في الخير والشر، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم) .
وفي رواية ثالثة: (الأئمة من قريش ما أقاموا الدين) ، وفي بعض الروايات: (إذا استرحموا رحموا، وإذا عاهدوا وفوا، وإذا حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) وصحح بعض أهل العلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (للقرشي قوة رجلين من غير قريش) ، ومن العلماء من حمله على الجماع.
وفي نسائهم فضل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير نساءٍ ركبن الإبل، صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغر، وأرعاه على زوج في ذات يده) ، والحديث ثابت في الصحيح.
فهذه مناقب لقبيلة قريش، والله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس، ويفعل الله ما يشاء، ويحكم الله سبحانه وتعالى بما يريد، والله فضل بعض الناس على بعض.
فمن شروط الإمام الأعظم الذي يحكم المسلمين عامة، أن يكون قرشياً فتصور الإمامة للمسلمين ليس كتصورها الآن، ليس في الإسلام أن كل دولة يكون لها رئيس أو ملك، بل الذي في الإسلام هكذا، في الإسلام أن للمسلمين كلهم إماماً واحداً، وهذا الإمام له شروط مبسوطة في كتب الفقه، وهذا الإمام يرسل أمراءه على البلدان، أميراً على مصر، أميراً على اليمن، أميراً على الحجاز، أميراً على المغرب، أما الآن فغيروا حتى اسم الإمام إلى الرئيس في نظام الجمهوريات التي ظهرت.(103/4)
تفسير قوله تعالى: (إيلافهم رحلة الشتاء.)
قال الله سبحانه: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1-2] ، (إِيلافِهِمْ) أي: تعودهم، كانت رحلة إلى اليمن شتاءً ورحلة إلى الشام صيفاً، لبرد الشام الشديد.
وفي قوله: (رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) في معرض الامتنان، يدخل ضمناً الحث على الأسفار لطلب الرزق، لأن الله امتن عليهم أنه عوّدهم على رحلة الشتاء وعلى رحلة الصيف، فلما امتن الله عليهم بهذا الامتنان أفاد أن هذا عمل محمود، والأسفار لكسب الأرزاق عمل مشروع في كتاب الله، قال الله سبحانه: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] .
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى} [آل عمران:156] ، فقوله: (ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ) يفيد جواز السعي للتجارة، وقال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] ، فالضرب في الأرض والسفر للبحث عن الرزق سبيل مسلوك سلكه من كان قبلنا، وأقره شرعنا، ما دام التماس الرزق من الحلال.(103/5)
تفسير قوله تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت.)
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3-4] .
قلنا: إن الله سبحانه وتعالى يذكر الناس بنعمه، ثم بعد أن يذكرهم بنعمه يطلب منهم طاعته سبحانه وتعالى، فمثلاً --ولله المثل الأعلى- أنا فعلت لك كذا وكذا فبناءً عليه عليك أن تفعل كذا وكذا، فالله سبحانه أنعم على قريش بنعم: أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، فمن ثم طلب منهم أن يعبدوا رب هذا البيت.
والأدلة على ذلك كثيرة في كتاب الله، قال تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] ، فلهذا الاصطفاء {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144] ، أي: خذ ما آتيتك بقوة.
وقال تعالى: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42] ، ثم يأتي التكليف: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] .
وقال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1-4] ، كل هذه نعم، فعلى ذلك {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7-8] .
وقال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6-8] ، لذلك {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9-11] .
كذلك في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي ذكر فيه الثلاثة: الأبرص والأعمى والأقرع، لما أتاهم الملك وقال لأحدهم: كأني بك فقيراً فأغناك الله، وأقرع فرزقك الله شعراً جميلاً، هل من شاة أتبلغ بها في سفري، فيذكر العبد الناس بنعم الله عليهم ثم يطلب منهم التكاليف، وهذا واضح.
فلذلك قال سبحانه: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:3] ، الذي هو البيت الحرام، وجاءت فيه جملة فضائل، والله تعالى هو رب الأرض ورب البيوت كلها، لكن نسبة البيت إلى الله هنا نسبة تشريف، وتخصيصه بالذكر لتشريفه.(103/6)
تفسير قوله تعالى: (الذي أطعمهم من جوع.)
قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4] .
فنعمة الأمن نعمة يجب أن يُشكر عليها الرب سبحانه وتعالى، فمثلاً: أنت تنام في بيتك آمناً مطمئناً، وغيرك يكون نائماً ويتوقع أي يوم أن ينزل به بلاء، يتوقع أي عدو يغير عليه في الليل، يتوقع أن يهجم عليه الكفار كاليهود في بلادهم.
فنعمة الأمن تحتاج إلى شكر، وقل المتفطنون لذلك، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة:11] ، أي: هو الذي منعهم عنكم سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4] ، كيف آمنهم من خوف؟ كانت القرى حول مكة يغار عليها، وتسلب أموالها، وتسبى ذراريها، وتنتهك حرمات نسائها، أما مكة فكان الرجل يلتقي بقاتل أبيه فيها ولا يعترضه بسوء، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت:67] فكان المشرك يأتي إلى مكة، ويقابل من قتل أباه في الطريق فلا يعترضه بسوء؛ لأنه داخل الحرم.
وكان أهل مكة أيضاً إذا سافروا وعرف الناس أن هؤلاء من مكة وقروهم غاية التوقير واحترموهم غاية الاحترام، وخاف أحدهم أن يمس هؤلاء بسوء، وخاصة لما حدثت حادثة الفيل وجاءت طيرٌ أبابيل دمرت أبرهة بعد أن أذل أبرهة العرب.
فإن أبرهة لما قدم من اليمن، فكانت كل منطقة يمر بها ينزل بها العذاب، وينتقم من أهلها أشد الانتقام، فلما جاء أبرهة وحل به ما حل على مشارف مكة، عندها وقّر العرب أهل مكة غاية التوقير، ووقّر العرب حرمات مكة غاية التوقير بعد ذلك؛ لأنهم قالوا: هذا أبرهة ملك صُنع به الذي صنع، فدل هذا على حرمة هذه البلدة وعلى حرمة أهلها، فهذا سبب توقير الناس للقرشيين.(103/7)
تفسير سورة الماعون
من خصال الكافرين الذين يكذبون بيوم الدين أنهم يطردون الأيتام ويصرفونهم عن الأبواب، ولا يحثون على إطعام المساكين والمحتاجين، أما المراءون في الصلاة والساهون عنها فقد توعدهم تعالى بالويل وهو العذاب الشديد.(104/1)
اتصاف المكذبين بظلم الأيتام والمساكين
قال الله سبحانه وتعالى في سورة الماعون: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:1-2] (الدين) ، الدين هو البعث والجزاء، فالذي يكذب بالدين هو الذي يدع اليتيم، لكن هل كل من يدع اليتيم يكذب بالدين؟ لا يكاد ينعكس لما سيأتي، فالذي يكذب بيوم القيامة، وبالجزاء، وبالحساب، لماذا سيعطف على اليتيم؟ فإذا كان الشخص غير مقر بالبعث ولا بالجزاء، فلماذا إذاً سيكرم اليتيم؟ لذلك أذكّر دائماً بأن تقرير البعث في قلوب العباد، وتذكير الناس بالبعث وبيوم القيامة أصل في صلاح الناس، وفي حسن تصرفاتهم؛ لأن هذا المعتقد ينعكس على أفعال العباد: يمنعهم من السرقة والزنا والغش والخداع.
يقول الله سبحانه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون:1] أي: بالجزاء والحساب، هذا الذي يكذب بالدين يدع اليتيم، أي: يقهر اليتيم ويطرده طرداً شديداً.
{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:2] : فالدع هو الطرد والدفع بشدة، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13] ، وقوله: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ} [الماعون:2] أي: يطرد اليتيم ويصرفه عن الأبواب.
قال الله: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:3] ، هذه الآية فيها إشارة إلى أن دفع اليتيم وزجره من أعمال المكذبين بالدين، أي: من أعمال الكفار.
وإذا كانت هذه الخصلة من أعمال الكفار، وأنت مأمور ابتداءً أن لا تتشبه بالكفار ولا بأفعالهم، فعليك أن ترحم اليتيم، ولا تدفعه عن الأبواب، فالذي يدفع اليتيم عن الأبواب هو الكافر.
فعلى ذلك عليك أيها المسلم أن لا تطرد يتيماً عن بابك، ولا تستعمل العنف والشدة مع الأيتام، لأن ذلك من فعل الكفار، وهذا من محاسن ديننا، ومن أصول ديننا؛ فقد جاءت جملة أحاديث وآيات في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصدد.
فقد أتت امرأة معها ابنتان إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تسألها الصدقة، فما وجدت عائشة في بيتها إلا تمرة، فأعطتها إياها، فأخذت المرأة التمرة فقسمتها بين ابنتيها، فتعجبت عائشة من صنعها، فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن، كن ستراً له من النار) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وفرق بين أصبعيه) .
وقد قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:220] .
وقال الله في شأن اليتامى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] ، فإذا كنت قائماً على أيتام أو على أموالهم فأدبت الأولاد، واستثمرت لهم الأموال، فمن الصحابة من كان يتحرج عن التعاملات مع الأيتام تماماً خشية أن يقع في ظلمهم، فالله قال رفعاً للحرج عن هذه الأمة: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] أي: يعلم هل نيتك إصلاح للأيتام، ويعلم نيتك وأنت تضرب اليتيم هل تضربه للتأديب، أم تضربه استضعافاً له وإذلالاً له؟ قال تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:3] أي: هذا الكافر من صفاته أنه لا يحث غيره على طعام المسكين، لأن الحض على أفعال الخير من خصال أهل الصلاح، أفعال الخير بصفة عامة والتحريض عليها من أفعال أهل الخير وأهل الصلاح، قال الله تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال:65] ، وقال تعالى في آية الفجر: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:18] ، فمن خصال المؤمن أنه يحث غيره على فعل الخير، والذي لا يحث غيره على فعل الخير مذموم.
ومن خصال الكفار أنهم لا يحضون أو لا يتحاضون فيما بينهم على إطعام المسكين، فأنت يا مؤمن يستحب لك أن تحض غيرك على إطعام المسكين وعلى أفعال البر، فالمفهوم المخالف له اعتباراته في الاستدلال.(104/2)
جمع الأدلة واستكمالها قبل الحكم
قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] .
وقد أفرد بعض أهل العلم هنا فصلاً طويلاً في التأكيد على قاعدة وجوب الأخذ بعمومات الأدلة وعدم الاقتصار على دليل واحد عند تقرير الأحكام أو القضايا، فإذا جئت مثلاً وأخذت آية واحدة: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] كما قال أحدهم: ما قال ربك ويل للذي سكروا وإنما قال ويل للمصلينا وبنيت عليها العمل ضللت.
لكن حتى يستقيم لك الحكم فلابد أن تأخذ بالأدلة التي وردت في الباب كلها: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] .
(الويل) وادٍ في جهنم، أو هو التوعد بالهلاك والعذاب الشديد.
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] أصل يركز عليه، فعند البحث في مسألة عليك أن تأخذ مجمل الأدلة التي وردت فيها، وتصدر حكماً عاماً في شأنها، فمثلاً: في مسألة الشفاعة إذا أخذت دليلاً واحداً وقعت فيما وقع فيه المعتزلة حيث نفوا الشفاعة لأهل الكبائر، واستدلوا بقول الله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] ، وقال: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:70] .
لكن أهل السنة لما أتوا بالأدلة الأخرى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] أثبتوا الشفاعة؛ لكنها بإذن الله، فلا بد من الجمع بين الأدلة الواردة في المسألة الواحدة من كتاب الله ومن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لنستخرج حكماً فقهياً ينتظم من هذه الأدلة جميعاً.
فمثلاً أذكر أخوة كان أحدهم يضرب ابنه ضرباً شديداً إذا رآه يشرب قائماً، ولعل عدداً من إخواني يذكرون هذا، كانوا يضربون الولد ضرباً شديداً إذا شرب قائماً، ويستدلون بحديث: (زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً) والحديث صحيح، لكن ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام شرب قائماً، في البخاري وفي مسلم من حديث علي أنه قال بعد أن توضأ: (إن هناك أناساً يزعمون أن رسول الله لم يشرب قائماً، وإني رأيت النبي توضأ نحو وضوئي هذا ثم شرب قائماً) ثم شرب علي قائماً لتأكيد الفتيا.
فقد يغيب عليك الدليل فتقع بسبب ذلك في تشدد وتزمت وظلم لنفسك وللعباد، فعليك إذا أردت أن تقرر الحكم في مسألة أن تأخذ المسألة وتدرس الأدلة التي وردت فيها عموماً، وبعد ذلك تستخرج حكماً فقهياً ينتظم به الأدلة مجتمعة، وهذا في جل المسائل، سواء كان في الأدب في الأخلاق أو في العقائد، حتى لا تقع في بدعة من البدع.
والشيعة لما أخذوا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في شأن علي: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) قالوا: هذا رسول الله قال لـ علي ذلك، فأي شخص حارب علياً فهو منافق عندهم؛ لأنه قال: القتال أشد من البغض.
فقيل لهم: إن الذي قال لـ علي: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) قال في شأن الزبير الذي قاتل علياً (لكل نبي حواري، وحواريي الزبير) ، وقال: (الزبير في الجنة) .
فلابد إذاً أن نجمع بين الأدلة التي فيها (الزبير في الجنة) ، وبين حديث: (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق) ، وهكذا فالجمع بينها يتعين.
وقد فسر العلماء حديث: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) بأن الذي يبغضك يا علي بغضاً شرعياً؛ لكونك ناصرت رسول الله وجاهدت مع رسول الله، ونمت في فراش رسول الله، وكنت سبباً في نصرة الإسلام، الذي يبغضك لهذا السبب منافق، لأنه يبغض الدين، والذي يحبك يا علي لشجاعتك ولقرابتك لرسول الله ولسبقك للإسلام، فهو في الحقيقة مؤمن، لأنه يحب أعمالك الإيمانية، ولكن إذا حصلت مشكلة بينك يا علي وبين صحابي من أجل الدنيا، فما صلة هذه بالنفاق أو بالإيمان، فقد حدثت خلافات بين علي وبين عدد من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام كـ العباس بن عبد المطلب في أموال، ومع ذلك لم يخرج العباس إلى حيز أهل النفاق رضي الله تعالى عنه.
فالشاهد: أن الجمع بين الأدلة متعين، وهذه الآية كما قال عطية محمد سالم في تتمته لأضواء البيان: إنها أصل في الجمع بين الأدلة عند مناقشة مسألة من المسائل، سواء كانت في الفقه أو في العقائد أو في الأحكام أو في الآداب أو في غير ذلك.(104/3)
ذم الساهين عن الصلاة
قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] وقد قال فريق من السلف: الحمد لله الذي لم يقل: الذين هم في صلاتهم ساهون؛ لأن السهو في الصلاة يعتري كل شخص.
السهو عن الصلاة للعلماء فيه أقوال: أحدها: أن المراد بالسهو عن الصلاة تأخيرها عن وقتها، فلا يبالي الشخص أصلى أم لم يصل، دخل الوقت أم لم يدخل الوقت، إن تيسر له صلى في الوقت أو بعد أن فات الوقت، فهذا هو السهو عن الصلاة، كما قال بعض السلف: إنهم لم يتركوها بالكلية، وإنما أخروها عن وقتها، فتوعدهم الله بالويل.
ومن العلماء من فسر السهو هنا بمعنى الترك.
فإذا كان الله توعد الذين سهوا عن الصلاة وأهملوها حتى خرج وقتها، فمن باب أولى الذي لا يصلي، {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] .
وفي قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] دليل على أنهم يصلون، فهذا يضعف قول من قال: إن المراد بالترك بالكلية.(104/4)
ذم الرياء والمرائين
قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:6-7] .
(يراءون) أي: يعملون العمل كي يراهم الناس، ولا يبالون برؤية الله لهم، يأتون للصلاة ويصلون كي يراهم الناس فيثنون عليهم، ويعمدون إلى الصدقة فيأتون أمام الناس ويتصدقون عمداً كي يراهم الناس، وهكذا {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142] فهذه الآية في ذم المرائين.
وهناك آيات أخر فيها ذم المرائين كما في مثل قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال:47] وقوله: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38] .
وأحاديث وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذم الرياء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر.
قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء) وفي بعض الزيادات: (إذا جاء الناس بأعمالهم يوم القيامة، يقول الله: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء) ، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] .
قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون:6] أي: يظهرون أعمالهم للناس، {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] (الماعون) : للعلماء فيه أقوال: مدارها على أن الماعون كل ما يستعار كي تقضى به الحاجة، مثل الأمور التي يستعيرها الناس بعضهم من بعض، فمثلاً: طالب يذاكر في الكلية مع طالب، قال له: أعرني كتابك أذاكر فيه إذا لم تكن تذاكر فيه، أو تقول المرأة لجارتها: أريد الخلاط أخلط فيه بعض العصيرات إذا لم تكوني تستعملينه الآن، فكل هذا المنع فاعله مذموم.
هل منع الماعون محرم أم مكروه؟ ذهب فريق من العلماء إلى أنه محرم؛ لأن الله سبحانه وتعالى توعد الذين يمنعون الماعون.
ومن أهل العلم من قال: إنه مكروه فقط؛ لأن الذم الذي في مانعي الماعون جاء مقروناً بقوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] فالمنع للماعون جاء مقروناً بترك الصلاة.
وجمهور العلماء على أن الإعارة مستحبة وليست بواجبة، وهناك نصوص حملتهم على القول بأنها مستحبة وليست بواجبة، ومن هذه النصوص الأخذ بالعمومات، كما ورد في الحديث الذي بمجموع طرقه ممكن أن يحسن: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه) ، وقوله: (هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع) هذه النصوص تحمل العلماء أحياناً على الحكم بأنها مستحبة وليست بواجبة، وهذا رأي جمهور أهل العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(104/5)
تفسير سورة الكوثر
سورة الكوثر من السور القصيرة ذات الدلالات العظيمة، فإنها ذكرت ما أنعم الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرته بأن يقابل ذلك بالشكر للخالق وحده، وإفراده بالصلاة والقربات.
وهذه السورة هي مما استدل به الفقهاء على إثبات البسملة آية في أوائل السور.(105/1)
المراد بالكوثر
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] هذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما المراد بالكوثر؟ من العلماء من فسر الكوثر بتفسير خاص، ومنهم من فسره بتفسير عام، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الكوثر نهر أعطانيه ربي عز وجل) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر أعطانيه ربي عز وجل) ، وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الكوثر بحوضه صلى الله عليه وسلم، فلرسول الله حوض (ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً) ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم للكوثر تفسيران: التفسير الأول: أن الكوثر هو نهر.
التفسير الثاني: أن الكوثر هو حوض للنبي صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة للأحاديث التي أثبتت الحوض لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أحاديث متواترة، جاءت من عدة طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأحاديث المتواترة أصح الأحاديث على الإطلاق، فحديث الحوض من الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن العلماء من جمع بين القولين: أن الكوثر هو الحوض، وأن الكوثر هو النهر، وقالوا: هو نهر يصب في الحوض.
وورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (الكوثر هو الخير الكثير الذي أعطاه الله للنبي صلى الله عليه وسلم، فقيل لـ سعيد بن جبير الراوي عن ابن عباس: إنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الكوثر هو الحوض) ، قال: الحوض من الخير الكثير الذي أعطاه الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم) .
فـ ابن عباس يرى التفسير بالأعم، فالخير الكثير يدخل فيه الحوض، والنهر، ويدخل فيه القرآن الذي آتاه الله للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والمقام المحمود والشفاعة العظمى، ويدخل فيه كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وسيد ولد آدم، وكون أمته صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس، وكون أمته شهيدة على سائر الأمم، فكل المناصب التي أعطاها الله للنبي صلى الله عليه وسلم تدخل في الكوثر.(105/2)
التفسير بالأعم لا ينافي التفسير بالأخص
من المفسرين من إذا فسر يفسر بالتفسير الأعم، ومنهم من إذا فسر يفسر بالتفسير الأخص، وهذان مسلكان للمفسرين، مثال ذلك ما ورد في تفسير (الغاسق إذا وقب) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة لما رأى القمر: (يا عائشة! استعيذي بالله من هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) ، فورد أن الرسول فسر الغاسق إذا وقب بالقمر.
ومن العلماء مع ورود حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي فيه أنه فسر الغاسق إذا وقب بالقمر، قال: الغاسق إذا وقب هو الليل إذا دخل، وقال: لا تعارض بين تفسير الغاسق إذا وقب بالقمر، وتفسيره بالليل إذا دخل، فالليل إذا دخل يدخل فيه مجيء القمر، لكن دخول الليل فيه أشياء أخرى يستعاذ بالله منها: كانتشار الجن والشياطين، وانتشار الحيات والعقارب، وانتشار اللصوص، وهناك أمور تدبر في الليل كثيرة منها: ما يأتي من الغاسق إذا وقب، ومنها ما يأتي من القمر أو يأتي القمر معها.
فالشاهد: أن هناك من يفسر بالأعم، وهناك من يفسر بالنص الوارد عن رسول الله.
ونذكر مثالاً آخر: قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] فسر الرسول صلى الله عليه وسلم التثبيت في الحياة الدنيا وفي الآخرة أنه إجابة المؤمن في قبره إذا سئل: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ديني الإسلام، نبيي محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن العلماء من فسر الآية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} بتفسير أوسع فقال: هو التثبيت على الإيمان في الدنيا، التثبيت على النطق بالشهادتين في القبر، والتثبيت على الصراط، وعند الأسئلة التي توجه إلى العبد يوم القيامة.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] الخطاب أو السياق كله جاء في خطاب أزواج النبي؛ لأن الآية مصدرة بـ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] إلى قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34] الآيات كلها في نساء النبي، فقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} فيه تفسير أو بيان أن المراد بآل البيت: الأزواج، فمن العلماء من جنح إلى هذا، وآخرون قالوا: هي أعم من الأزواج؛ لأن النبي لما نزلت الآيات دعا علياً وحسناً وحسيناً وفاطمة ووضع عليهم الكساء وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً) الشاهد: أنه أحياناً تكون هناك تفسيرات عامة، وتفسيرات خاصة تدخل تحت التفسيرات العامة، ولا يكون هناك تعارض بين التفسيرين.
فالتفسير الأعم يكون في الغالب أحوط؛ لأنه تدخل فيه مفاريد التفسيرات.(105/3)
إعطاء الله الكوثر لنبيه صلى الله عليه وسلم
يقول الله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] فالله يمتن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإعطائه الكوثر، فإن قال قائل: أليس المن مذموماً في شرعنا؟ والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال أبو ذر: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) فثبت بهذا أن المن في شرعنا مذموم، فلم يمتن الله عز وجل على نبيه محمد ويقول له: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ؟! الإجابة: إن الله يمتن على من يشاء، إذ الخلق خلقه، والأمر أمره سبحانه وتعالى، وأما بالنسبة للبشر فالمن لا يمنع في كل الأحوال، بل أحياناً إن احتاج الأمر إلى تذكر بعض مناقبك أمام قوم جحدوها وغدروا بك فلا بأس بذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال -وإن كانت المناسبة غير المناسبة- قال للأنصار لما بلغته عنهم المقالة: (ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: الله ورسوله أمن، ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي؟ قالوا: الله ورسوله أمن ... ) الحديث.
وعثمان أيضاً لما حاصره الثوار وتآمروا على قتله نظر إليهم وقال: (أناشدكم الله، ولا أناشد إلا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أما سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حفر بئر رومة فله الجنة، فحفرتها؟ قالوا: بلى.
قال: أناشدكم الله! ألم تسمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من جهز جيش العسرة فله الجنة، فجهزته؟ قالوا: بلى، قال: فبم تقتلونني؟ والله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا ارتددت عن ديني حتى أقتل، ولا قتلت نفساً بغير حق، والنبي يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.
فبم تقتلونني؟ ... ) الشاهد: أنه ذكر بعض المناقب التي فعلها، فليس المن -أو الامتنان- مذموماً في كل الأحوال، فإن كان يراد به دفع باطل فلا بأس به، أما على سبيل التعالي والافتخار على الناس فالله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] فبينت الآية أن المن والأذى يبطل الصدقات ويذهب ثوابها.(105/4)
وجوب شكر النعم
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] والشخص إذا أُنعم عليه بنعمة يجب عليه أن يؤدي شكراً موازياً لهذه النعمة، فالله يقول: يا محمد! أعطيناك الكوثر الذي هو نهر في الجنة، أو الحوض والخير الكثير، فلذلك صل لربك وانحر.
فالعبد إذا أنعم الله عليه بنعمة لزمه شكر يوازي هذه النعمة، ولذلك أمثلة متعددة كقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:10-11] ، {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12] إلى قوله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ:13] ، وقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1-4] إلى قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7-8] .
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:6-11] ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42-43] فهكذا إذا أُنعم عليك بنعم لا بد أن تقابل هذه النعم بشكر يكافئها بالعمل، وباللسان، وبالقلب، كما قال القائل: أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا(105/5)
تفسير قوله تعالى: (فصل لربك وانحر)
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] ، من العلماء من فسرها تفسيراً عاماً، ومنهم من فسرها تفسيراً أخص، فقال فريق منهم: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أي: اجعل صلاتك كلها خالصة لله، ونحرك كله خالصاً لله، لا كما يفعل أهل الشرك إذ يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله، ويراءون بصلاتهم، ويشركون في ذبحهم.
إذا: المعنى الأول: صل لله، واجعل صلاتك خالصة له سبحانه وتعالى لا لأحد سواه، وانحر لربك كما في الآية: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162-163] .
ومن العلماء من قال: إن المراد صلاة مخصوصة، ونحر مخصوص، وهي: صلاة العيد، ونحر الأضاحي يوم العيد.
أي: صل صلاة العيد، وبعد أن تصلي صلاة العيد انحر يوم العيد.
وثم قول غريب وهو: (صل لربك وانحر) أي: اجعل يدك اليمنى على اليسرى عند النحر، وهذا قول ضعيف، لكن يرد عنده بحث: أين توضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة؟ ولم يثبت في الباب أي خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الثابت في أحاديث عدة أن اليد اليمنى توضع على اليد اليسرى، وأما موضعهما ففيه نزاع: كحديث سهل بن سعد الساعدي في صحيح البخاري: (أمرنا بوضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) ، وحديث وائل بن حجر رضي الله عنه: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً يده اليمنى على اليسرى في الصلاة) ، لكن أين توضع اليمنى على اليسرى؟ هل تحت السرة؟ أم فوق السرة؟ أم بمحاذاة السرة؟ أم على الصدر؟ أم على النحر؟ كخبر ثابت عن رسول الله لم يثبت في هذا الباب شيء، بل ورد فيه أثران، الأول: أثر عن طاووس بن كيسان اليماني عند أبي داود وغيره: (أن النبي كان يضع يده اليمنى على اليسرى على صدره) لكنه مرسل، والمرسل من قسم الضعيف.
الثاني: زيادة في حديث وائل بن حجر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً يده اليمنى على اليسرى على صدره) زاد (على صدره) وهي زيادة ضعيفة، فهذا أمثل ما ورد في الباب، وليس معنى كونه أمثل ما ورد في الباب أنه صحيح، لكن المعنى أنه أحسن ما ورد في الباب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
من العلماء من قال: إن اليد تسدل سدلاً وتكون بجوارك، ولا توضع اليمنى على اليسرى، واستدلوا بحديث المسيء صلاته وفيه: (كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، ولم يقل له: ضع يدك اليمنى على اليسرى، وأجيب على هذا: بأن صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤخذ من مجموع الأحاديث التي رويت لا من حديث واحد، والله تعالى أعلم.
وقال الله سبحانه وتعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] : النحر يختلف عن الذبح، فالنحر هو الطعن بالسكين في اللبة، فمعنى (انحر) أي: اطعن في اللبة التي هي منتهى اتصال رقبة الناقة بجسمها، هذه اللبة يطعن فيها بضربة قوية باليد، أما الذبح فهو: إمرار السكين على العروق.
والذبح يكون في البقر، ويجوز فيها النحر، والنحر يكون في الإبل، ويجوز فيها الذبح أيضاً، والغنم الأفضل فيها الذبح، وإن كان النحر جائزاً.
أما جواز النحر في ثلاثتها فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل، عدا السن والظفر أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة) سكاكين الأحباش.
وأما جواز النحر في البقر فلحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت كأن بقراً تنحر، فأولتها على أنهم أصحابي الذين قتلوا يوم أحد) الشاهد من قوله: (رأيت بقراً تنحر) .
أما استحباب ذبح البقر فلقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] فهنا النص في البقر على الذبح.
إذاً: في قوله: (فصل لربك وانحر) أربعة أقوال: أحدها: صل عموم الصلوات واجعلها خالصة لله، واجعل نحرك كله خالصاً لله.
الثاني: صل صلاة العيد، وانحر الأضاحي.
الثالث: صل الفجر وبعد الفجر انحر.
الرابع: صل لربك وضع يدك اليمنى عند النحر على اليسرى.(105/6)
تفسير قوله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر)
{إِنَّ شَانِئَكَ} [الكوثر:3] أي: مبغضك، والشانئ هو المبغض، والشنآن هو البغض: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] .
فالشانئ هو المبغض، أي: إن مبغضك يا محمد وكارهك {هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] وذلك أنهم كانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: اتركوه فهو رجل أبتر، أي: منقطع الذكر ليس له ولد يحمل اسمه بعد موته، فإذا مات انقطع ذكره، فليس له إلا بنات والبنت ذريتها لا تكون باسمها، فيقول الكفار لبعضهم: اصبروا عليه فإنه إذا مات انقطع ذكره، فكان قائلهم يقول هذه المقالة فقال الله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] رداً على الذي يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أبتر.
والأبتر هو المنقطع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتلوا ذا الطفيتين والأبتر؛ فإنهما يلتمسان البصر، ويستسقطان الحبل) (والأبتر) : الحية التي هي قصيرة الذيل، فهي تلتمس البصر: يعني: تنفخ سمها في العين فتصاب بالعمى، إذا رأت الرجل من بعيد نفخت سمها في عينيه فأصيب بالعمى، فالرسول أمر بقتلها وقتل ذا الطفيتين الذي على رأسه نقطتان من الحيات؛ لأنها نقاط ممتلئة سماً.
فالشاهد: أن الأبتر هو المقطوع.
وكذلك يقولون: الخطبة البتراء، وهي: الخطبة المقطوعة التي ليس فيها حمد ولا شهادة.
والأبتر: منقطع الذكر.
فالله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ شَانِئَكَ)) أي: مبغضك ((هُوَ الأَبْتَرُ)) يا محمد.(105/7)
البسملة في سورة الكوثر
وسورة الكوثر لما نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم خرج النبي على أصحابه يتلوها ويقول: (نزلت علي آنفاً سورة هي أحب إلي من كذا وكذا، وقرأ عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] الآيات ... ) .
فلما قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) أخذ فريق من العلماء منها أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من هذه السورة؛ لأن الرسول قرأ بين يديها بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: البسملة آية من سورة الكوثر ومن غير سورة الكوثر، وهذا محل خلاف طويل، خاصة فيما يتعلق بالفاتحة، فمن العلماء من قال: البسملة آية منها لحديث الكوثر، ولقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87] ولا تكون الفاتحة سبعاً إلا باعتبار البسملة آية على رأي الجمهور.
ومن العلماء من قال: ليست بآية، لقوله تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل: إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي ... ) الحديث.
ولم تذكر البسملة، ولما نزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1-2] لم يقل: (بسم الله الرحمن الرحيم) (اقرأ باسم ربك الذي خلق) .
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.(105/8)
تفسير سورة الكافرون
من أصول هذا الدين وأركانه العظيمة: الولاء للمؤمنين، والبراء من المشركين ومما يعبدون من دون الله.
وقد جاءت سورة الكافرون معلنة لهذا المعلم البارز من معالم الدين، فأظهرت البراءة من المشركين ومعبوداتهم، وخاطبتهم خطاباً واضحاً لا نقاش فيه ولا مداهنة، تحقيقاً لمبدأ الولاء الكامل للإسلام وأهله، وتحطيماً لأي مداهنة أو مراوغة في التخلي عن توحيد الله.(106/1)
البراءة من آلهة المشركين
ورد في فضل سورة (الكافرون) حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل طرقه مقال، يقول: (سورة (قل يا أيها الكافرون) تعدل ربع القرآن) ، ومن العلماء من حسن هذا الحديث بمجموع طرقه.
وهذه السورة قد حملت أصلاً عظيماً من أصول ديننا، وهو البراءة من آلهة المشركين، والتبرؤ من آلهة المشركين قد ورد في كتاب الله في جملة مواطن، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26-27] ، وقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] .
فنتبرأ من آلهة المشركين أمر واجب، ويشهد له أيضاً نصوص أخر كقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ، فالتبرؤ من كل شيء يخالف شرع الله أمر واجب، فتبرأ من الآلهة التي تعبد مع الله، ومن القوانين التي تخالف قانون وشرعة الله سبحانه وتعالى، ومن كل شيء يخالف أوامر الله عز وجل، ومن كل آلهة تعبد مع الله سبحانه وتعالى.
فسورة (الكافرون) حملت براءة من البراءات، وهي البراءة من آلهة المشركين، وقد ورد لها سبب نزول، لكن في إسناده ضعف: (أن المشركين عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم يوماً ويعبدون إلهه يوماً، فنزلت السورة) .(106/2)
الحكمة من التكرير في قوله تعالى: (ولا أنا عابد ما عبدتم)
قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون:1-4] ، لماذا هذا التكرير؟ من العلماء من يقول: إن التكرير للتأكيد، كما في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] ، تأكيداً على أن العسر يتبعه يسر، وكما قال تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3-4] ، وكما قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:24] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لما استأذنه آل أبي جهل في تزويج ابنتهم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: (لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن) ، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور) ، وكما في قول الشاعر: يا علقمة يا علقمة يا علقمة خير تميم كلها وأكرمه وكما قال الآخر: يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع وهكذا فالتكرير يكون للتأكيد، فمن العلماء من قال: إن التكرير {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] حتى يقطع أمل المشركين ورجاءهم في إيمان الرسول بآلهتهم، أو في عبادة الرسول لآلهتهم.
{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] أي: الآن، ثم قال في المرة الثانية: {وَلا أَنَا عَابِدٌ} [الكافرون:4] أي: في المستقبل {مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون:4] يعني: لا الآن ولا في المستقبل ولا في مقدم حياتي.(106/3)
التوفيق بين قوله تعالى: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) وإيمان بعض الكفار بعد نزولها
قال تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] إن قال قائل: كيف وقد أسلم أناس من الكفار وعبدوا الله سبحانه وتعالى؟ أو كيف نوفق بين قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] مع ما حدث من إيمان بعض الكفار بالله سبحانه وتعالى؟ التوفيق والله أعلم: أن الآية محمولة على الكفار الذين كتب في علم الله أنهم سيموتون على الكفر، فالذين كتب عليهم أنهم سيموتون على الكفر لن يعبدوا إلهك أبداً.
وقول آخر: إنهم لن يعبدوا إلهك ما داموا على شركهم، ولن تتحقق عبادتهم لإلهك ما داموا على شركهم، فإن تمسكوا بشركهم وعبدوا الله فعبادتهم لله ليست بصحيحة.(106/4)
الرد على شبهة الإقرار بدين الكفار في قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين)
هل في الآية الكريمة: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] بأنهم يقرون على دينهم ولا يعترضون؟ الآية وإن فهم منها ذلك، لكن جاءت آيات أخر بعدها تضيق في ذلك بل تنفيه، قال الله سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] .
وقال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] الآيات.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك؛ فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) .
وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] فالمفهوم: إذا لم يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة؛ فلا تخلوا سبيلهم.
فإن فهم من الآية أن الكفار يقرون على كفرهم ولا يمسون بسوء من دول الإسلام، فهذا مدفوع بما ذكرنا من الآيات.
أما إن قيل: إن معنى الآية الكريمة: أنتم لكم دينكم وجزاء دينكم أو وجزاء عبادتكم، فالدين أحياناً يحمل على الجزاء؛ فإن حمل على أن المعنى لكم دينكم، أي: جزاؤكم على كفركم، ولي جزائي على إيماني، فهو معنى صحيح، وتشهد له آيات متعددة لقوله تعالى: {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] ، وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ، وحديث: (كما تدين تدان) إلى غير ذلك.
وإن قيل: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:6] أي: لكم عبادتكم وستجازون عليها، ولي عبادتي وسأجازى عليها، وليس فيه تعرض للمعاملات الدنيوية؛ فهو أيضاً له وجه قوي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(106/5)
تفسير سورة النصر
نعت سورة النصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله، وذلك بعد أن تحقق النصر المبين والفتح العظيم، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فأمر الله نبيه بعد ذلك أن يستعد لملاقاة ربه، وذلك بالتسبيح والاستغفار.(107/1)
سبب نزول سورة النصر
سورة النصر آخر سورة نزلت في كتاب الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله، أي: أُخبر فيها أنه سيموت عليه الصلاة والسلام.
كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يدخل كبار الصحابة من أهل العلم وأهل الفضل، وكبار الصحابة من البدريين الذين شهدوا بدراً؛ كان يدخلهم عمر إلى مجلسه ويستشيرهم في شئون المسلمين، وكان يدخل معهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وكان صغيراً، كان عمره عشرين سنة تقريباً، فقال الصحابة: لماذا تدخل هذا الغلام معنا، ولنا أبناء مثله أو أكبر من سنه ولا تدخلهم؟ قال: إنه من حيث علمت.
أي: إنه ابن عم رسول الله، وله فقه واسع في الدين، فالرسول صلى الله عليه وسلم دعا له بالفقه في الدين، إذ قال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) .
قال ابن عباس: فدعاني عمر يوماً، ورأيت أنه ما دعاني إلا ليريهم مني أشياء -أي: يسألني أمامهم- فسأل عمر رضي الله عنه الصحابة: ما تقولون في سورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3] ؟ ففسروا الآيات على ظاهرها، وقالوا: أمرنا الله إذا انتصرنا ودخل الناس في الدين جماعات أن نسبح بحمد ربنا ونستغفره، قال: ما تقول أنت يا ابن عباس في هذه السورة؟ قال: يا أمير المؤمنين، أما أنا فلا أقول كما قالوا، إنما هذه السورة نعت إلى رسول الله أجله، أي: أخبرت الرسول أنه سوف يموت، فيستعد للموت بالاستغفار.
وقد استنبط عبد الله بن عباس ذلك من جملة نصوص: - أن الصلاة تختم بالاستغفار.
- وأن نوحاً عليه السلام لما أغرق الله قومه قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] .
- وأن المجالس تختم بالاستغفار: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) .
- وأن الله قال في الحج: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة:198] إلى قوله: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] .
فالأعمال تختم بالاستغفار، ففهم أن المراد أن السورة نعت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أجله، أي يا محمد! استغفر؛ لأنك ستموت.
فقال عمر: (والذي نفسي بيده ما أعلم منها إلا كما علمت يا ابن عباس) .
فأقر المحدث الملهم عمر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على هذا الفهم، وكان كذلك، فلما مات لم تنزل سورة بعدها، مات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يقول في ركوعه وسجوده بعد نزول هذه السورة عليه: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) يتأول القرآن.
وكان يقول في مرض موته: (اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق) ، وفي رواية أخرى: (وألحقني بالرفيق الأعلى) ، والرفيق: هم الرفقاء من المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.(107/2)
تفسير قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح)
قال الله سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ، نقل عدد من المفسرين الإجماع على أن المراد بالفتح فتح مكة، وقد كان المشركون في الجزيرة العربية متوقفين في الإسلام، قالوا: محمد يحارب قومه، هو من أهل الحرم، وهم من أهل الحرم، هم قرشيون وهو قرشي، فكانت العرب تترقب من الذي سينتصر؟ إن انتصر المشركون على محمد فنحن باقون على ديننا لا نترك الدين، لأن الأمر لن يتغير، وإن انتصر محمد على المشركين وفتح مكة فسوف ندخل في هذا الدين.
كان هذا موقف الجزيرة بصفة عامة، كانوا ينتظرون المعركة الحاسمة، فإذا انتصر محمد فنحن معه، وإن لم ينتصر محمد فهم مع المشركين، قالوا: فلما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم وفتح مكة جاءت الوفود تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل فج، وجاءت القبائل فوجاً فوجاً، كل فوج يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ودخلوا في دين الله أفواجاً، وهم محسنون صحابة، لكن الذي أنفق في أوقات الشدة وجاهد قبل الفتح أفضل من الذي علق إيمانه على الفتح، فلذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) .
فهناك أوقات درهم يسبق فيها ألف درهم، وعمل صالح يسبق فيها ألف عمل صالح، ولذلك فإن من أكثر الصحابة الذين أنفقوا مالاً عثمان رضي الله عنه، وإنفاق أبي بكر مع أنه أقل من إنفاق عثمان، لكنه أعظم أجراً من إنفاق عثمان، مع أن في الكل أجراً؛ لأن أبا بكر أنفق وقت شدة المسلمين وحاجتهم إلى المال، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر) .
فجُعل الفتح فيصلاً بين المنفقين قبله والمجاهدين قبله، وبين المهاجرين والمنفقين فيما بعد، ولذلك كان الخلفاء الراشدون إذا قسموا أموالاً أو غنائم يعطون الذين هاجروا قبل الفتح أكثر من الذين هاجروا بعد الفتح؛ لأن هؤلاء بذلوا، وهؤلاء وإن بذلوا لكن بذلهم كان في وقت أقل احتياجاً من هؤلاء الذين بذلوا في أول الأمر.(107/3)
تفسير قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره)
يقول الله لنبيه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1-2] وقد أسلفنا أن النعم تحتاج إلى شكر فلذلك قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] .
معنى (فسبح بحمد ربك) من العلماء من قال: قل: سبحان الله وبحمده على ظاهرها، وأيد هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه السورة كان يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.
ومن العلماء من قال: هذا أمر من الله لنبيه بالاستغفار؛ لأن الاستغفار في حد ذاته عبادة تثاب عليه كما تثاب على الذكر والصلاة، فإذا قلت: الحمد لله فأنت مثاب؛ لأنك حمدت الله وعبدته، إذا قلت: أستغفر الله، فهي عبادة أيضاً يثاب فاعلها.
ومن العلماء من قال: إذا كان الأفضل والأورع وسيد ولد آدم أُمر بالاستغفار فهو حث لغيره من باب أولى، فكأنه يقول: إذا كان أفضلكم أمر أن يستغفر، فإذاً أنتم أيها المذنبون الأكثر ذنوباً من باب أولى أن تستغفروا.
ومن العلماء من قال: إنها على بابها، لكن كما قال القائل: إن أهل الفضل والصلاح يرون صغار الهفوات ذنوباً كبيرة لأنها تتساقط عليهم، كما في الحديث: (إن المؤمن يرى صغار الذنوب كجبل يريد أن يسقط عليه) ، فالمؤمن إذا أذنب ذنباً صغيراً يرى أن هذا الذنب جبل سيسقط عليه، وأما الفاجر فيرى كبار الذنوب كذبابة جاءت على أنفه فهشها فطارت.
ولذلك يقول إبراهيم عليه السلام: (نفسي نفسي! إني كذبت ثلاث كذبات) اثنتان منها في ذات الله: لما دعوه لعبادة الأصنام وقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] ولم يخرج لعبادة الأصنام، ولكنه عدها كذبة.
فعزز هؤلاء القوم قولهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة) ، وبقول الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) ، وببعض النصوص الأخرى.
وأوردوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار اختيارات غيرها أفضل منها، فعوتب فيها، كقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1-2] ، وكقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] ، وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم وقوله لـ عمر: (لقد عرض علي عذاب أصحابك أدنى من هذه الشجرة يـ ابن الخطاب، ولو نجا أحد لكان أنت يا عمر) ، وبأنه مثلاً لما قيل له: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80] استغفر للمنافقين وبعد ذلك قيل له: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84] .
قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] في كلمة (سبحان الله وبحمده) فضل، جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) فكلمة (سبحان الله وبحمده) التي هي تأويل {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} من فضلها أنها تمحو الذنوب وتغسل الذنوب.
قال عليه الصلاة والسلام أيضاً في نفس الباب: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) .
قول الله: (وَاسْتَغْفِرْهُ) أمر بالاستغفار، وهذا الأمر امتثله عموم الأنبياء: فنوح عليه السلام كان يستغفر الله، قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] ، وإبراهيم عليه السلام قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] ، وأبونا آدم عليه السلام يقول هو وزوجه: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ، وموسى عليه السلام يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151] ، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يعد له أصحابه في المجلس الواحد: (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور) مائة مرة.
قال الله: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] ، التوبة هي الرجوع، فتب إلى الله، معناها: ارجع إلى الله، يتب الله عليك، أي: يرجع الله برحمته وفضله عليك، وتقول: تب علينا، أي: لا تحرمنا فضلك وتفضل علينا برحمتك وبفضلك.
فالتوبة من معانيها الرجوع {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} أي: إذا تبتم إلى الله رجع عليكم فضل الله سبحانه وتعالى، ورجعت عليكم رحمة الله سبحانه وتعالى، وغفر لكم ربكم ذنوبكم.
قال الله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] ، فإذا أقبلت على الله فقد قال: (من أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً) فالأئمة من العباد مذنبون، لذلك قيل في قصة سبأ: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} [سبأ:15] ، وأتبعت البلدة الطيبة بقوله تعالى: {وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] ، فإنكم مع أكلكم وشكركم تصدر منكم زلات وهفوات ويصدر تقصير منكم، فاعلموا أن الرب غفور {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25] .
قال الله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] أي: رجاعاً للعباد برحمته إذا هم تابوا وأقلعوا عن ذنوبهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(107/4)
تفسير سورة المسد
من دلائل نبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أنه أخبر عن أمور مستقبلية ستحدث، فكانت كما أخبر، ومن ذلك نبأ أبي لهب وزوجه وما ماتا عليه من الكفر والإلحاد والعياذ بالله، وذلك بسبب أذيتهما لرسول الله وصد الناس عن اتباعه.(108/1)
سبب نزول سورة المسد ودلالتها على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1-2] .
لهذه السورة سبب نزول ألا وهو ما أخرجه البخاري وغيره، وفيه: (لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا، فنادى بأعلى صوته: يا معشر قريش! يا بني عبد مناف! ونادى على قبائل قريش، فأجابوه إلى طلبه، ومن لم يستطع منهم الإتيان إليه بعث إليه نائباً عنه، فلما اجتمعوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبهم قائلاً: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد غزوكم، أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم.
ما جربنا عليك كذباً قط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟! فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1-3] ) .
فعلى ذلك فقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] نزل قبل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1-2] .
وأبو لهب اسمه: عبد العزى بن عبد المطلب، وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أخو عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وامرأته اسمها: العوراء أم جميل، وكانت امرأة مؤذية كافرة، تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
هذه السورة تعد علماً من أعلام النبوة، ودليلاً من أدلة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أخبر عن أمور مستقبلية ستحدث، فحدثت كما أخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ومن هذه الأمور المستقبلية أمور جاء ذكرها في كتاب الله، كقوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2-4] ، وقد كان كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الدلائل: الأشراط الصغرى والأشراط الكبرى للساعة.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأشراط الصغرى وبعض الأشراط الكبرى، فوقع جلّ الأشراط الصغرى ووقع بعض الأشراط الكبرى، كالنار التي حشرت الناس، وباتت معهم حيث باتوا، وقالت معهم حيث قالوا.
فمن دلائل نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أخبر في هذه السورة أن أبا لهب {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] .
ومن مقتضيات ذلك ومن لوازمه: أن يموت أبو لهب على الكفر، فكان من الممكن أن يسلم أبو لهب كما أسلم غيره من الكفار؛ ولكن مات أبو لهب على الكفر، فصدِّقت الآيات بعد موته على الكفر.
فكان في قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] وتحقُّقِ ذلك بموت أبي لهب على الكفر علماً من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليلاً من أدلة نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام.(108/2)
تفسير قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب)
- يقول الله سبحانه وتعالى: (تَبَّتْ) أي: هلكت أو قطعت.
قال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ، لماذا كرر (تَبَّتْ) (وَتَبَّ) ؟
الجواب
من العلماء من قال: إن التكرير للتأكيد، وهو يأتي كثيراً جداً، كما في قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:15] وكررت هذه الآية مراراً في السورة.
وكما في قوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3-4] .
وكما في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] .
وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آل أبي جهل استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، وإني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن) ، فهذا التكرير للتأكيد.
وكقول الشاعر: يا علقمة يا علقمة يا علقمة خير تميم كلها وأكرمه وقوله: يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع وكل هذه للتأكيد.
فمن العلماء من قال: إن قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] تأكيد لهلاك أبي لهب.
ومن العلماء من قال: هلكت يداه وقد هلك.
وقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ، لماذا عُبِّر باليد دون غيرها من الجوارح؟ قال فريق من العلماء: لأن اليد هي التي تسعى بالأعمال؛ أعمال الخير أو أعمال الشر، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10] أي: ذلك بما عملت، فلأن أغلب الأعمال تكون باليد؛ سواء كانت أعمال خير أو أعمال شر، فوُصفت اليد بالهلاك؛ لأنها هي صاحبة الأعمال.
ولا يُعترض على هذا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! وهل يَكُبُّ الناسَ على وجوههم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم؟!) لأن المراد هنا أعمال الألسُن؛ لكن الأغلب يكون باليد.
وقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] كان أبو لهب يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصور كثيرة من الأذى، فكانت الوفود تأتي إلى مكة وإلى أسواقها يسألون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما جاء به، وأبو لهب يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم يضربه بالحجارة والطوب من خلفه حتى يُدمي رجليه، ويقول: أيها الناس! هذا هو ابن أخي وأنا أعرَف الناس به، إنه كذاب، يكذب على الله.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لقريش: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) ، وأبو لهب يتبع رسول الله، ويقول: هذا ابن أخي وهو كذاب ويكذب على الله، وأنا أعرَف الناس به.
فكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أذىً شديداً.
وفي الحقيقة: أن الأذى بالتكذيب أشد من الأذى بالضرب.
ولذلك لما سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: (يا رسول الله! هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ قال: نعم يا عائشة، لقد لقيت من قومك ما لاقيت، وكان أشدها علي يوم أن عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال فردني وكذبني) ، فكان هذا من عبد ياليل بن عبد كلال لرسول الله أشد من الذي لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
يقول الله سبحانه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] أي: هلكت يداه وقد هلك، أو هلك وهلك للتأكيد.(108/3)
تفسير قوله تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب)
قال تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ} [المسد:2] : المال معروف، (وَمَا كَسَبَ) الكسب هنا: قال كثير من المفسرين: إن المراد به الولد، فالمعنى: ما أغنى عنه ماله، وما أغنى عنه ولده.
فقوله: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2] أي: ولا الذي كسب.
وقد ورد أن ابن عباس رضي الله عنهما تدخل ذات مرة للإصلاح بين أولاد أبي لهب، فجاء أحدهم وكان ابن عباس قد عمي، فضرب ابن عباس ضربة أسقطته على الأرض، فقال ابن عباس: (كسبٌ خبيث) ، فحمل الكسب على الولد.
فكثير من أهل العلم من فسروا الكسب هنا بالولد.
وبعضهم يحمل الكسب على العمل، كقوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:164] ، والمعنى: فما أغنى عنه ماله ولا عمله.
لكن في مثل هذا الموطن حمل الكسب على الولد أليق؛ لوجود نظائر لهذه الآية تحمل معنى المال والولد {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} [الكهف:34] ، فكان الافتخار في الغالب بالمال وبالنفر الذين هم الولد والحاشية وغير ذلك.
قال تعالى: (سَيَصْلَى) أي: سيدخل ويذوق، {نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] أي: ذات شرر.(108/4)
ذم زوجة أبي لهب
قال تعالى: (وَامْرَأَتُهُ) : هي الأخرى، واسمها العوراء أم جميل، {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4] : لماذا وُصفت بأنها حمالة الحطب؟ لذلك تعليلات عند العلماء: التعليل الأول: أن هذه المرأة كانت تسعى بين الناس بالنميمة، والذي يسعى بين الناس بالنميمة يقال فيه: إنه يحمل الحطب بين الناس، أي: يحمل الحطب لكي يوقد النار ويشعل الفتنة بين الناس.
التعليل الثاني: لأنها كانت تحمل الحطب والشوك وتلقيه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التعليل الثالث: أن هذا تعيير لها وتوبيخ، فقد كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، وعملها كان الاحتطاب، فالمعنى: كيف تعيرين رسول الله بالفقر وأنت حمالة الحطب؟! التعليل الرابع أن: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} أي: حمالة الذنوب والأوزار.(108/5)
تفسير قوله تعالى: (في جيدها حبل من مسد)
قال تعالى: {فِي جِيدِهَا} [المسد:5] أي: في عنقها، {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:5] : المسد فيه أقوال: قيل: إن المسد هو: النار، أي: في رقبتها حبل من نار {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] ، فكما كانت تحمل الحبل في رقبتها وتربط فيه الحطب الذي تؤذي به رسول الله، فكذلك في النار سيكون في رقبتها حبل.
وقيل: إن الحبل من مسد: الحبل من الليف، فالمسد هو الليف.
وقيل: إن المسد هو السلسلة المذكورة في قوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30-32] .
فقوله: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:5] أي: يوم القيامة، وهذا يفيد أن الجزاء دائماً من جنس العمل، فكما كانت تربط في رقبتها حبلاً وتربط به الشوك الذي تلقيه في طريق رسول الله، كذلك يُربط في رقبتها حبل من نار يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل.
كذلك كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:17] ، لما فكر وقدر وشخص ببصره إلى أعلى وخفض وأدبر واستكبر، قال الله سبحانه: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:17] أي: سيطلع وينزل ويصعد في جهنم ويُرهَق؛ لأن الصعود يُرهِق، فالصعود في النار أشد إرهاقاً؛ لأن المقرر أن الجزاء من جنس العمل.
وعلى ذلك جملة أدلة في الخير أو في الشر، كقوله عليه الصلاة والسلام: (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) ، (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) ، (ارحموا تُرحموا) ، (اغفروا يُغفر لكم) ، (يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس بأخفافهم) .
فدائماً (الجزاء من جنس العمل) .(108/6)
حكم قراءة سورة المسد في الصلاة
بعض الناس يكره القراءة بسورة (تَبَّتْ) في الصلوات! ولا نعلم لهذه الكراهية مستنداً، لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي سورة كسائر سور القرآن، الحرف منها بعشر حسنات كالحرف من غيرها، ولا داعي لوسوسة موسوس وتشغيب مشغب بلا دليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
صحيحٌ أن سور القرآن تتفاضل، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تعدل ثلث القرآن، و (الفاتحة) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيه رسول الله، و (آية الكرسي) هي أعظم آي القرآن؛ لكن ليس معنى ذلك أن يُتخذ شيء من القرآن مهجوراً.
والله أعلم.(108/7)
تفسير سورة الإخلاص
ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، وذلك لأن آي القرآن على ثلاثة أقسام: أحكام، وعقائد، وقصص وأخبار، فكانت سورة الإخلاص تحمل العقائد التي توحد الرب وتنزهه عن الشريك والمثيل، والصاحبة والولد، وهي فرق بيننا وبين أهل الكتاب والملحدين.(109/1)
فضل سورة الإخلاص
هذه السورة تسمى سورة الإخلاص، ومن الناس من يطلق عليها سورة الصمد، وقد جاء في فضلها جملة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن.
ثم خرج عليهم فقرأ سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، ثم دخل، وانتظره الصحابة رضي الله عنهم فقالوا: لعله شُغِل! لعله نزل عليه شيء! ثم خرج لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا: يا رسول الله! قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ثم قرأت سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ودخلت، قال: والذي نفسي بيده، إنها تعدل ثلث القرآن) .
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم: وذلك لأن العلماء قسموا القرآن إلى: · أحكام.
·عقائد.
·قصص وأخبار.
فكانت سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تحمل العقائد، وتخالف بها أمة الإسلام سائر الأمم، فكل الملل وكل الأمم إذا رتبتها من ناحية الأديان تجد لها أكثر من إله، أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهي تخالف الأمم كلها، فلها إله واحد سبحانه وتعالى، حتى الذين يدرسون الأديان -الآن- في الجامعات الأمريكية وغيرها يقسمون الناس أو العالم كله إلى قسمين: · قسم اتخذ عدة آلهة يعبدها.
·وقسم له إله واحد.
فالمسلمون فقط هم الذين تحت بند من يعبد إلهاً واحداً.
وجاء في فضلها أيضاً: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة من الغزوات أميراً وكان يصلي بالناس، وكلما صلى صلاة قرأ فيها بسورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بعد الفاتحة، وإما أنه يقرأ سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بعد الفاتحة ثم يركع، أو أنه يقرأ سورة بعد الفاتحة ويُتْبِعها بسورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، أو يقدمها بسورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، فتضايق أصحابه من ذلك؛ فقالوا له: إما أن تقرأ بسورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وإما أن تقرأ بسورة أخرى، أما كل يوم وكل صلاة تقرأ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فلا! فشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه، فقال: يا رسول الله! إنها صفة الرحمن وإني أحبها، فقال عليه الصلاة والسلام: حبك إياها أدخلك الجنة) .
وفي رواية أخرى: (أخبروه أن الله يحبه) .
فهذا بعض الوارد في فضلها.
وأيضاً كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في: · ركعتي المغرب في الركعة الثانية.
·وركعتي الفجر النافلة في الركعة الثانية.
·وركعتي الطواف في الركعة الثانية.
·والركعة الأخيرة من ركعات الوتر.
·وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ بها مع المعوذات إذا اشتكى، فإذا اشتكى نفث في يديه بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذات ومسح بها رأسه وسائر جسده.
·وكان يقرأ بها أيضاً مع المعوذات عند النوم.
·وكان يقرأ بها مع المعوذات صباحاً ومساء.
وقد يقال: وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة الاستخارة؟!
و
الجواب
أما الاستخارة فلم يثبت فيها قراءة، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها بقراءة معينة؛ لأن الوارد فيها من حديث جابر: (إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك) ، وليس فيها تفصيل.
فحديث جابر في الاستخارة أخرجه البخاري وغيره وهو أصح ما ورد، وهذا لفظه: (إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك) .
وكل حديث ورد في الاستخارة غير حديث جابر فهو حديث ضعيف؛ حتى حديث جابر مع كون البخاري رحمه الله أخرجه إلا أن من أهل العلم من تكلم فيه أيضاً كالإمام أحمد، قال: هذا الحديث رُوي من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر عن جابر، وأهل المدينة إذا كان الحديث غلطاً يقولون: ابن المنكدر عن جابر، وهذا منكَر.
لكن من العلماء من حَمَل قول أحمد: (منكَر) على أنه يريد بها التفرد، كما قال العلماء في ترجمة محمد بن إبراهيم التيمي راوي حديث: (إنما الأعمال بالنيات) .
فالشاهد: أنه لم يصح في الاستخارة خبر إلا هذا الخبر، أما حديث: (اللهم اغفر لي واختر لي) وغيره، فكل ما ورد في الاستخارة من حديث فهو ضعيف.
وعلى ذلك: فالذي يظن أن الاستخارة لا بد أن تتبعها رؤيا من الرؤى يراها في نومه، أو انشراحاً في الصدر، أو أي شيء من ذلك، فليس على هذا دليل؛ وإن حصل فلا مانع من حصوله؛ لكن كونه يسلتزم أن ترى رؤيا فليس هناك دليل يفيد ذلك، إنما الاستخارة دعاء.
فالشاهد: أنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بسور معينة، فإنما هي ركعتان غير الفريضة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالإخلاص إذا اشتكى، ويقرأ بها عند نومه، ويقرأ بها في الصباح والمساء، ويقرأ بها أدبار الصلوات، وبعد صلاة المغرب ثلاثاً، وبعد صلاة الفجر ثلاثاً.
وهناك عدة روايات تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من قراءة هذه السورة، ولك أن تتخيل كم مرة كان الرسول يقرأ بها في يومه؟! كان يقرأ كل ليلة عند النوم مع المعوذات (ثلاث مرات) ويقرأ بها بعد كل صلاة.
(فهذه خمس) .
ويقرأ بها أيضاً في الصباح والمساء (ثلاثاً ثلاثاً) .
ويقرأ بها في ركعتي الفجر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر يومياً، ولم يتركها في سَفَر ولا في حَضَر.
ويقرأ بها في ركعتي المغرب.
فهذه ست عشرة مرة.
أضف إلى ذلك: إذا اشتكى صلى الله عليه وسسلم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يقرأ في كل ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وأينا يطيق ذلك يا رسول الله؟! قال: إن سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تعدل ثلث القرآن) .
فالآن ينبغي أن تقرأ بها وأنت في مسجدك، وتقرأ بها وأنت على جنبك، وتقرأ بها في طريقك، لِمَا علمته من فضلها.(109/2)
معنى الصمد وأقوال العلماء فيه
وقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] : أما (الصمد) ففيها عدة أقوال: القول الأول: أن (الصمد) الذي يصمد إليه الخلق لقضاء حوائجهم، -أي: يتجه إليه الخلق- ولدفع الضر عنهم، ولجلب الخير لهم.
القول الثاني: أن (الصمد) هو السيد الذي انتهى إليه السؤدد، أو الذي انتهت إليه السيادة في كل شيء، فهو الكريم الذي إليه المنتهى في الكرم، والرحيم الذي إليه المنتهى في الرحمة، والحليم الذي إليه المنتهى في الحلم، والغني الذي إليه المنتهى في الغنى، وانتهى إليه السؤدد في كل شيء، وانتهت إليه السيادة في كل شيء.
القول الثالث: أن المراد بـ (الصمد) الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3-4] .
القول الرابع: أن المراد بـ (بالصمد) : المُصْمَد الذي لا جوف له، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله آدم جعل إبليس يطيف به) يعني: يدور حول آدم، ينظر! ما هذا المخلوق الجديد؟! (فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك) ، أي: يسقط سريعاً، وأيُّ شيء يسقطه بسرعة.
فمن العلماء من قال: إن (الصمد) : الذي لا جوف له.
ومن العلماء مَن قال: (الصمد) يحمل هذه المعاني كلها: ·فهو سبحانه السيد الذي انتهت إليه السيادة في كل شيء.
·وهو سبحانه الصمد الذي يصمد إليه الخلق لقضاء حوائجهم.
·وهو سبحانه الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3-4] .
إلى غير ذلك مما ورد في تفسير (الصمد) .(109/3)
تفسير قوله تعالى: (قل هو الله أحد)
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] : بهذه الآية تفارق المشركين، فكل مشرك يخالفك كمسلم في هذه الآية، فأنت تقول: الله أحد، والمشرك يقول مع الله آلهة، سواءً كانت هذه الآلهة أصناماً أو كانت بشراً أو ملائكةً أو شمساً أو قمراً أو غير ذلك، فالمشركون يشركون مع الله آلهةً أخرى كاللات، والعزى، ومناة، وهُبل وغير ذلك، وطائفة من مشركي العرب كان تقول: الملائكة بنات الله، وطائفة من الموجودين الآن يعبدون العجول والبهائم والفروج ونحو ذلك فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تفارق بها جميع مَن أشرك مع الله آلهةً أخرى.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1-2] : لو كان هناك رجل -والعياذ بالله- يرتكب الفواحش ويشرب المسكرات ويتعاطى المخدرات ويسكر ويعربد ويفعل كل شيء؛ لكنه يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، ورجل يقول مع الله إلهاً آخر، ويعمل صالحاً ويتصدق ويصلح بين الناس؛ فأيهما أشر؟ المشرك أشر.
فالعقيدة أو الاعتقاد القلبي أهم من العمل ولذلك قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] .
فهذا الأخير الذي يسكر ويشرب ويزني ويقتل قد يغفر الله له: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وهو وإن عُذِّب ألف سنة أو ألفين في نار جهنم؛ لكن مآله إلى الخروج باعتباره من الموحدين.
أما الآخر فكما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] .(109/4)
تفسير قوله تعالى: (لم يلد)
{لَمْ يَلِدْ} [الإخلاص:3] : أي: ليس له ولد سبحانه، وهذه أيضاً تفارق بها اليهود والنصارى، وتفارق بها طوائف من مشركي جزيرة العرب، فاليهود يقولون: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] ، والنصارى يقولون: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] ، ومشركو جزيرة العرب يقولون: إن الملائكة بنات الله، فبقولك: {لَمْ يَلِدْ} فارقتَ كل هؤلاء.
وقد جاءت الأدلة في كتاب الله متكاثرة ومتضافرة تؤيد هذا المعنى، وهذا لا شك فيه: قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً * قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:1-5] .
وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدَّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدَّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:88-91] .
وقال تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4] .
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] .
والآيات في هذا الباب لا تحصى، ولا أحدٌ أصبر -على أذىً سمعَه- من الله، يدَّعون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم سبحانه وتعالى.
فالذي يقول: إن لله ولداً، مشرك، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:30-31] .(109/5)
تفسير قوله تعالى: (ولم يولد)
{وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] : هذه أيضاً تفارق بها النصارى الذين يقولون: إن عيسى هو الله، وهذا من العجب! إذ يقولون: إن عيسى هو الله وقد ولدته مريم! فمن هو الله قبل أن تخلق مريم؟! وأين كان الله قبل أن تخلق مريم إذا قالوا: إن عيسى هو الله! ويُجاب عليهم: إذا كان هذا هو الرب، فقبل أن يولد من الذي كان يدبر أمر السماء والأرض؟! وقبل أن تولد مريم، فضلاً عن عيسى ولدها؟! من الذي كان يدير السماوات والأرض ويدبر أمرها؟! وهل بطن امرأة مليء بالدم وقد حوت جوانبُها العذرةَ؛ هل بطن هذه المرأة يسع إلهاً يحكم السماوات والأرض؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! وأما أضل خلق الله فهم الهنود الكفرة الذين يقولون: إن إلههم هو العجل والبقرة.
{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] أي: لم يكن له قريب، لا أخ، ولا ابن عم، ولا ابن خال، ولا عم، ولا خال.(109/6)
تفسير قوله تعالى: (ولم يكن له كفوا أحد)
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] سبحانه وتعالى، فليس له شريك.
قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22] .
وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سبحانه وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوَّاً كَبِيراً} [الإسراء:42-43] .
فلو كانت هناك آلهة مع الله لتصارعت هذه الآلهة حتى ترى مَن الذي ينتصر ويدبر أمر السماء والأرض! {سبحانه وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوَّاً كَبِيراً} [الإسراء:43] .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(109/7)
تفسير سورتي الفلق والناس
أفضل العبادة هو الدعاء، وقد ختم الله كتابه بسورتين من الدعاء، وهما: سورتا الفلق والناس، اللتان اشتملتا على الاستعاذة بالله من شر ما خلق عموماً، فكانتا حرزاً ورقية من الأدواء والأوجاع والسحر والحسد والوسوسة وغيرها؛ لذا قال عليه الصلاة والسلام: (ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما) .(110/1)
تفسير قوله تعالى: (قل أعوذ برب الفلق)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فسورة الفلق تقرأ مع سورة الإخلاص في عدة مواطن.
ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قول شذ فيه عن سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه كان يرى أن سورة: (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) ليستا من القرآن، إنما أمر النبي أن يقول فقال، ولم يثبتها ابن مسعود في مصحفه، وجمهور الصحابة أثبتوا هاتين السورتين في مصاحفهم على النمط الذي هي فيه الآن.
وقد أجاب أبي بن كعب على ذلك، فقال: (سألت الرسول، فقال لي: قل، فقلت كما قال لي) .
ما معنى: (الْفَلَقِ) ؟ الفلق هو كل شيء ينفلق عن الشيء الآخر، أي: ينفصل عنه، فالصبح ينفلق عن الليل، قال الله: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} [الأنعام:96] ، والحب ينفصل عن النوى، {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام:95] ، ومنه قول العامة: (أفلق رأسك) ، أي: أفصله عن بعضه، فالفلق كل شيء يفصل، ورب الفلق هو: رب الشيء الذي ينفصل عن الشيء، هذا من الناحية اللغوية، لكن الفلق هنا في هذه السورة الكريمة المراد به الصبح عند أكثر أهل العلم.
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] الفلق: الصبح، ودليله: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} [الأنعام:96] .
((قُلْ أَعُوذُ)) أي: ألجأ وأستجير.(110/2)
تفسير قوله تعالى: (من شر ما خلق)
{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] يا رب! لذت بك، واعتصمت بك، واستجرت بك، ومن شر كل خلق، من شر عموم الخلق، فدخل فيه شر الإنس، ودخل فيه شر الجن والشياطين، ودخل فيه شر السباع والهوام، والحيات والعقارب، ودخل فيه شر الرياح، ودخل فيه شر الظلام، وشر كل شيء يخشى منه، فهي -إذاً- آية في غاية البلاغة، تشمل شر كل الخلق، شر رجل ظالم، أو مؤذٍ، ومن شر حية، ومن شر أي شيء، ونحوه حديث رسول الله: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) .(110/3)
تفسير قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب)
{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] .
الغاسق إذا وقب مما خلقه الله، فهو من عطف الخاص على العام، وهذا الأسلوب يأتي لبيان أهمية الخاص، مثل قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] فالفاكهة عامة، والنخل والرمان خاص، فعطف العام على الخاص، وكما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] .
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [النساء:163] .
{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] أي: الليل إذا دخل، فالغاسق هو الليل، ويشهد لذلك من التنزيل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78] أي: إلى ظلام الليل، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] .
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أنه خرج مع عائشة ذات ليلة، ونظر إلى القمر فقال: (يا عائشة! استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) ، فمن العلماء من قال: إن من متبوعات دخول الليل ظهور القمر، وإن مجيء القمر مؤذن بدخول الليل، فقوله: (استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) ؛ لأن ظهور القمر علامة على دخول الليل، وفي الليل تنتشر الشياطين، وتنتشر السباع، وتنتشر الهوام، ويبيت فيه للمكر، ويبيت فيه بالخداع، ويخطط فيه للحروب، ويخطط فيه للاغتيالات.
فالليل فيه شر مستطير، وفيه شر كثير إلا في الثلث الأخير، فإن أهل الصلاح يقومون فيه امتثالاً لقول الله تعالى: (هل من داع فأستجيب له) وإذا جاء الليل فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، وأوكئوا الأسقية واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً) ، وفي الحديث الآخر: (فإنه ينزل في ليلة في السنة داء لا يدع سقاء ليس عليه وكاء، ولا إناء ليس عليه غطاء، إلا نزل فيه من ذلك الداء) .
فدخول الليل يصحبه انتشار الشياطين، ويصحبه كثير من البلاء، ويصحبه مكر الأعداء، ويحصل فيه جملة أمور، ولذلك لما قال فرعون لموسى: {اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:58-59] ؛ لأن السحر يبطل في وقت الضحى، وصعب على الساحر أن يسحر في وقت الضحى، أما في الليل فربما تنظر ظلك فتظنه عفريتاً.
ففي الظلام يمكن التلبيس والدجل على الناس، وغش الناس، ولذلك أغلب أعمال الشعوذة تحدث في الظلام، ومن المشعوذين من يدجلون في الغرفة المظلمة، تدخل الغرفة فيقول لك: هذه صورة علي بن أبي طالب يجري، وهو الذي يجري، وهذه صورة عمر، وهذا عبد الله بن سلام، وهذا كله دجل يحدث في الظلام والعياذ بالله.
فالغاسق إذا وقب، قيل: هو الليل، وقيل: هو القمر، وقيل غير ذلك، ولكن أشهر الأقوال أن الغاسق هو الليل، ومن متبوعاته القمر، ومعنى وقب: دخل وأقبل بظلامه.(110/4)
تفسير قوله تعالى: (ومن شر النفاثات في العقد)
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] النفاثات هن السواحر اللاتي يسحرن، وينفثن في العقد.
قد تقدم بيان بعض فضائل سورتي الفلق والناس، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنهما قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عقبة! قل، قلت: ما أقول يا رسول الله؟!، قال: قل، قلت: ما أقول يا رسول الله؟!، قال: قل: قلت: ما أقول يا رسول الله؟!، قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ حين تصبح، وحين تمسي، تكفيك من كل شيء) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما) وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما إذا اشتكى مع سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وينفث بهذه السور في يديه، ويمسح رأسه وما استطاع من جسده.
وكان يقرأ بهما مع: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عند النوم، وحث على القراءة بهن دبر الصلوات صلى الله عليه وسلم.
يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] وقد ورد بسند ضعيف سبب نزول هاتين السورتين، ألا وهو قصة سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فورد بأسانيد فيها ضعف أن هاتين السورتين نزلتا لما سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فكانتا سبباً في حل السحر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح سبب النزول.
يقول الله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أي: ألجأ وأستجير وأعتصم، (بِرَبِّ الْفَلَقِ) وتقدم أن الفلق الصبح، وأن الفلق كل شيء انفلق عن شيء، فالصبح لما انفلق عن الظلمة قيل له: فلق، وأيضاً قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام:95] ، وقال سبحانه: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} [الأنعام:96] ، لكن المراد بالفلق هنا الصبح، فالمعنى: أستجير برب الصبح وما حواه من نور وضوء، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ قد أسلفنا أنه يدخل في قوله: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ عموم الشرور التي يمكن أن يستعاذ منها: كشر الناس، وشر السباع والدواب والهوام، وشر الجن، وشر الريح، وسائر الشرور التي يمكن أن يتعوذ منها، فالآية جامعة.
{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} ، تقدم أن الغاسق إذا وقب فيه أقوال لأهل العلم: قيل: هو القمر، وقيل: هو الليل إذا دخل، وهذا هو رأي الجمهور في تفسير الغاسق إذا وقب، ومنه قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78] ، ووقب معناه: دخل أو أقبل بظلامه، قالوا: لأن الليل إذا أقبل بظلامه انتشرت السباع، وانتشرت الهوام، وانتشرت الشياطين كما في حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم واذكروا اسم الله، وأوكئوا قربكم واذكروا اسم الله، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، وأطفئوا المصابيح واذكروا اسم الله، فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ) وفي رواية لـ مسلم: (فإن للجن انتشاراً وخطفاً) .
فيستعاذ برب الفلق من الليل ومن دخول الليل؛ لأن الشياطين تنتشر، وكذلك الحيات والوحوش فإنها تخرج من أماكنها، وكذلك اللصوص يتسترون بالليل لإمضاء أعمالهم، وكذلك الأعداء يمكرون بالليل بمن يريدون غزوه، ولهذا استعيذ بالله من شر الغاسق إذا وقب، وهو الليل إذا دخل.
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ} [الفلق:4] النفاثات: جمع نافثة، والنافثة هي: المرأة التي تنفث في عقد الخيط، فالنفاثات هن: السواحر، جمع ساحرة، وهن اللواتي يسحرن وينفثن في عقد الخيط، فالسحرة يقرءون ثم يعقدون هذه العقد، فالنفاثات في العقد هن السواحر اللواتي ينفثن في عقد الخيط.(110/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد)
{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] ،السورة الكريمة أثبتت شيئين: السحر والحسد.
والحسد ثابت في كتاب الله في جملة مواطن، تصريحاً وتلميحاً، فقد ذكر الله الحسد تصريحاً في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] وقال تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح:15] ، وكذلك في قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109] ، وقال سبحانه: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) فثبت الحسد صريحاً في هذه الآيات الكريمة.
وثبت تلميحاً كذلك في قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة:27] ، وقال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] ، وقال إخوة يوسف {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] ، وقال عن المشركين: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] ، فكل هذه من صور الحسد وأشير إليها تلميحاً في كتاب الله سبحانه.(110/6)
معنى الحسد
والحسد هو: تمني زوال النعمة عن الآخرين، ومن العلماء من قيدها بالمسلمين، وقال: هو تمني زوال النعمة عن المسلمين، ومن العلماء من أتى بتقييد ثالث فقال: هو تمني زوال النعمة عن المسلمين مع العمل على إزالتها، ومع السعي في إزالتها، لكن الجمهور على أن الحسد هو: تمني زوال النعمة سواء عملت على إزالتها أو تمنيت أزالتها من قلبك، فالجمهور على هذا التعريف.
وقد ثبت الحسد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم: (كان سهل بن حنيف يغتسل، وكان رجلاً أبيض الجلد، فمر به رجل يقال له: عامر بن ربيعة، فلما رأى حسن جلده، قال: والله! ما رأيت جلداً مخبئاً مثل هذا الجلد قط، فسقط سهل في الحال صريعاً، فذهب أهله إلى رسول الله وقالوا: يا رسول الله! أدرك سهلاً فإنه صريع يا رسول الله!، قال: من تتهمون به؟ قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: علام يقتل أحدكم أخاه، إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع بالبركة) ، ثم أمر عامر بن ربيعة أن يتوضأ ويغسل داخلة إزاره وركبتيه، ويؤخذ هذا الماء ويصب على سهل بن حنيف، فصب عليه فقام وكأنما نشط من عقال، أي: كأنه كان مربوطاً وحل عنه الرباط.(110/7)
العين حق
في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أسماء بنت عميس بعد مقتل جعفر بثلاث ليال، فرأى عبد الله بن جعفر وإخوته فقال لها: (ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة، قالت: تسرع لهم العين يا رسول الله! قال: استرقي لهم) .
قال بعض العلماء: إن العين تؤثر في الطفل فترى الطفل يأكل ويشرب وليس به مرض، وتراه نحيفاً شديد النحافة، فتكشف عليه عند الأطباء ولا ترى به داء، ولكن العين أثرت فيه كما أشار إليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
بل قد تؤثر العين في الوجه وتصيبه إصابات حسية، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة -كما في صحيح البخاري - ورأى جارية لـ أم سلمة في وجهها سفعة، أي تغير وسواد، فسأل عن ذلك، فقالوا: أصابتها النظرة يا رسول الله!، قال: (فاسترقوا لها) .
فدلت هذه النصوص أن الحسد واقع، وأن العين واقعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا) أي: إذا طلب منكم أن تغتسلوا لشخص ظن أنكم حسدتموه؛ فلا تترددوا، بل اغتسلوا، وخففوا عن صاحبكم، وخففوا عن إخوانكم، هذا معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالآية فيها الاستعاذة بالله من شر الحاسد إذا حسد، وقد قسم العلماء الحسد إلى أقسام، ورتبوه مراتب: أعلى هذه المراتب أن تتمنى زوال النعمة عن أخيك، سواء حصلت لك هذه النعمة أم لم تحصل لك هذه النعمة.
الثاني: أن تتمنى زوال النعمة عن أخيك وتحولها لك.
الثالث: أن تتمنى لك ما لأخيك، إلى آخر الأقسام التي ذكروها، وأباحوا منها قسماً واحداً، وهو: الغبطة، وهو ما ذكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) .(110/8)
طرق السلامة من شر الحساد
ولسلامة الشخص من شر الحساد جملة أمور: منها: تقوى الله، والتوكل عليه، فالله يقول: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] ومنها قول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] ومنها: حفظ الله عز وجل، وحفظ حدود الله، وفي الحديث: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) .
ومنها: إخفاء النعمة عمن يظن أنه يحسد، فإذا رأيت شخصاً يتمنى لك زوال النعمة، فأخف هذه النعمة عنه ولا تحدثه بها، وأصل ذلك في كتاب الله في قول يعقوب صلى الله عليه وسلم ليوسف: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] .
وقد سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى فقيل له: يا حسن! أيحسد المؤمن؟ أي: هل هناك مؤمن يحسد؟ فقال سبحان الله! ما أنساك لإخوة يوسف {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] ، فالمؤمن قد يحسد أيضاً.
وعامر بن ربيعة كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتهم بأنه هو الذي أصاب سهل بن حنيف، كما ذكرنا في الحديث السابق، فإخفاء النعمة عن الحاسد سبب من أسباب الحفاظ على النفس من شر هذا الحاسد، بدليل قوله تعالى: (يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فلا يحدث بها إلا من يحب) ؛ لأنه كما العلماء: لكل نعمة حاسد على قدرها، فإذا قصصت على شخص يبغضك رؤيا طيبة فسيعبرها لك بتعبير مؤذ ويكون سبباً في إيذائك، وإتلاف الرؤيا عليك، والله أعلم.
ومنها: الإحسان إلى الحاسد، فإن الله يقول: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ، ولذلك قال العلماء: لو كنت غنياً من الأغنياء وبجوارك رجل فقير جار لك، وهذا الجار يراك كل يوم يراك تدخل على أهلك وبنيك أصناف الطعام والشراب، وأولاده ينظرون إليك وأنت تدخل، وينتظرون أن تعطيهم شيئاً من الذي دخلت به، فلم تعطهم؛ فيدخلون على أبيهم ويطلبون منه شيئاً من المال لشراء ذلك فلا يجد؛ فحينئذ يتمنى هذا الرجل لك الفقر بأن تزول نعمة الله عنك حتى لا يؤذى هو في بيته، لكن إذا أكرمت الأولاد وأعطيتهم شيئاً مما تحمل، ودخلوا على أبيهم بهذا الشيء؛ دعا أبوهم لك بالبركة، فتحول الحاسد إلى داع لك، وبعد أن كان يتمنى زوال النعمة عنك إذا به يسأل الله لك الزيادة من هذه النعمة، فالإحسان إلى الحاسد سبب من أسباب اتقاء شره.
ومنها: التعوذ بالله منه، والتحصن بالمعوذات التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: عدم الاشتغال بالحاسد، وعدم التفكير فيه، فلا تفكر كثيراً فيه، ولا تبال به، ولا تهتم به، بل اعتصم بالله، فالله حسبك، وهو كافيك سبحانه وتعالى.
والحاسد إذا أراد أن يتخلص من الحسد فعليه أن يتذكر أنه معترض على أقدار الله، فالله هو الذي يقسم الأرزاق وكون الحاسد يتمنى زوال النعمة عنك فهو يعترض على أقدار الله، والحاسد متشبه بالشيطان، فالشيطان يتمنى زوال النعمة عن المؤمنين، والحاسد كذلك، فهو من جند إبليس والعياذ بالله، وكذلك هو متشبه بالكافرين إذ إن أهل الكفر يتمنون زوال النعمة عن أهل الإسلام، والحاسد قد شاركهم في هذا، والله سبحانه أعلم.(110/9)
أسباب الحسد
وللحسد أسباب كما قال العلماء، فله حامل يستدعي الحسد فيقوى، وأحياناً يضعف ويخبو، فمن أسباب الحسد: المجاورة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وجاره، تكفرها الصلاة والصيام والأمر والنهي والصدقة) والمجاورة في كل شيء، حتى في المهنة، فمثلاً: طبيب أطفال، وبجواره طبيب أطفال آخر، فتجد أحدهما قد يحسد الآخر، ولا يحسد أصحاب السيارات المرسيدس مثلاً، مع أن صاحب المرسيدس يكسب أضعاف أضعافهما، ولكن لا يحسد إلا مجاوره في مهنته، ولا يحسد الذي يكسب الملايين ولكن ينظر إلى جاره الآخر، ويتسائل: كم مريض دخل عنده اليوم؟ حتى قال العلماء: إن الإسكافي يحسد الإسكافي، وهو الذي يصلح النعال وينظفها فتراه لا يحسد أصحاب المحلات الذين يكسبون الآلاف، ولكن يحسد الإسكافي الآخر!.
وكذلك الحال في أنواع التجارات كلها، وكذلك في الضرائر: فإنهن يحسدن بعضهن البعض في الغالب إلا من رحم الله، فالمجاورة سبب في اجتلاب الحسد إلا من عصمه الله سبحانه وتعالى بالورع في هذا الباب.
ومن أسباب الحسد حب الجاه والرئاسات فمنصب كبير يتنافس عليه المتنافسون، وكل يحسد الآخر حتى لا يصل إلى هذا المنصب.
وكان هذا الحسد سبب في نفاق عبد الله بن أبي، فلما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه وقال: (يا سعد! ألم تسمع ما قال أبو حباب -يعني: عبد الله بن أبي -) ، قال: يا رسول الله! اعف عنه واصفح يا رسول الله! فوالله! لقد أكرمك الله بالحق الذي أكرمك به، وقد اصطلح أهل هذه الحرة على أن يتوجوه، ويجعلوه سيداً عليهم أجمعين، فلما أكرمك الله بما أكرمك به من الحق شرق لذلك، وطفق يصنع ما تراه، فاعف عنه واصفح يا رسول الله!.
فأسباب الحسد حب الجاه وحب الرياسات، والمجاورة في الأعمال، والتنافس في الدنيا، وعلاجه الرضا بأقدار الله، والرضا بقسمة الله سبحانه وتعالى التي قسمها للعباد.
فهذه السورة جمعت الاستعاذة من أنواع الشرور.(110/10)
تفسير قوله تعالى: (قل أعوذ برب الناس.)
ثم تممت الاستعاذة بقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1-3] فاستعاذ العبد في هذه السورة بملك الناس، وبرب الناس، وبإله الناس الذي هو معبودهم، من ماذا؟ استعاذ بالرب وبالملك وبالإله {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس:4] والوسواس هو الشيطان، والوسواس صفة له، والوسوسة هي: الصوت الخفي، ومنه قيل لحركة الحلي في الإذن: وسوسة الحلي؛ لأن صوته خفيف لا تسمعه إلا المرأة التي تلبس الحلي.
فالوسوسة هي الصوت الخفي، والوسواس هو الشيطان، يوسوس أي: يحدث بصوت خفي في الصدر، فاستعذنا برب الناس، وملكهم وإلههم من شر الوسواس الذي هو إبليس.
قال بعض العلماء: إبليس يرانا ولا نراه، كما قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] ، فاستعذنا بالذي يرى إبليس ولا يراه إبليس، فالله يرى إبليس، وإبليس لا يراه، فاستعذنا برب الناس وإلههم ومليكهم من شر هذا الوسواس.
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] .
الخناس هو: الشيطان، والخنوس صفة له، فهو يخنس أي: يختفي عند ذكر الله سبحانه وتعالى، ومنه قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير:15-16] ، ومنه قول أبي هريرة رضي الله عنه: (لقيني النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة وأنا جنب، فانخنست منه) ، أي: اختفيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فوصف إبليس بأنه خناس، أي: كثير الاختفاء، فكلما ذكرت الله اشتد اختفاؤه وأمعن في الهرب، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط) .
قال العلماء: إن شيطان الكافر عاتٍ متمرد على الكافر، أما شيطان المؤمن فدائماً مضروب ودائماً مطرود، فالمؤمن دائماً يعلوه بسياط التسبيح والتحميد والتكبير، لا يكاد الشيطان يفيق من ضربة ضربها به المؤمن بقول: لا إله إلا الله؛ حتى تأتيه ضربة أخرى فيها: لا حول ولا قوة إلا بالله، أو فيها: سبحان الله، أو فيها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى أن سجود المسلم يبكيه كما قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار) .
فيولي باكياً إذا سجدت، ويولي هارباً وله ضراط إذا سمع المؤذن، ويولي هارباً من البيت إذا دخلت البيت فذكرت الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه.
قال: أدركتم المبيت والعشاء) ، فهو لص ولكنه لص جبان، يهرب إذا ذكر الله سبحانه وتعالى، وإذا لم تذكر الله شاركك في أعمالك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إن أحدكم إذا أتى أهله فقال: باسم الله، اللهم! جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن يقدر بينهما ولد، لم يضره شيطان) ، أما إذا لم يفعل فماذا يكون؟ في تفسير قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء:64] قال بعض العلماء: مشاركة الشيطان الرجل في ولده يكون عند الجماع، فيتلذذ الشيطان بالمرأة إذا لم يذكر زوجها الله سبحانه وتعالى عند الجماع.
وصف الشيطان بأنه خناس، أي: كثير الاختفاء، وقد قدمنا أن شيطان المؤمن ذليل يطرد ويهان، فإذا سقطت من دابتك وقلت: باسم الله، تصاغر حتى يكون مثل الذباب، وإذا قوي إيمان الشخص فر منه الشيطان، كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك) ، وفي الرواية الثانية: (إن الشيطان يفر منك يا عمر!) فإذا قوي إيمان الشخص، وتسلح بكتاب الله، وبالذكر الوارد عن رسول الله، وتحصن بالحصون الواردة عن رسول الله؛ لم يجد الشيطان إليه منفذاً ولا سبيلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس:4] ، قلنا: الوسوسة هي: الصوت الخفي، ومن شواهده ما جاء في قصة حديث أم زرع، وفيه قول المرأة عن زوجها: أناس من حلي أذني؟ أي: ملأ أذني بالحلي، حتى سمع لها الصوت.(110/11)
تفسير قوله تعالى: (الذي يوسوس في صدور الناس.)
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:5] ، قيل: أي: يلقي الوسواس إلى الصدور، وتدخل الوساوس من الصدور إلى القلوب، ومن العلماء من قال: يوسوس في القلوب لأن القلوب داخل الصدور، والله أعلم.
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6] ، من العلماء من قال: إن الموسوس جن وإنس، ومنهم من قال: إن الموسْوَس إليه جن وإنس.
من العلماء من قال: إن الموسْوِس بالكسر المستعاذ بالله منه إنس وجن، ومنهم من قال: إن الوسواس الخناس الذي هو كبير الأبالسة يوسوس في صدور الفريقين: يوسوس في صدور الإنس، ويوسوس في صدور الجن كذلك.
وانتصر كل عالم للرأي الذي تبناه، فالذين قالوا: إن الذي يوسوس إنس وجن، أما الجن فمعلوم أنها توسوس، وأما الإنس فاستدلوا بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] ، فللإنس شياطين وهم يوسوسون أيضاً في الصدور، ويوغرون الصدور، ويملئونها شراً، يملئون صدور قوم شراً على قوم آخرين، فهناك إنس يوسوسون، وهناك جن يوسوسون، ومن أهل العلم من قال: إن الشيطان يوسوس في صدور الإنس، ويوسوس في صدور الجن أهل الصلاح أو عموم الجن واستدل قائل هذا القول بقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:6] ، فقالوا: لا يطلق على الجن رجال.
وعلى كل: فكون الإنس يوسوس لا شك في ذلك، وكون الجني يوسوس لا شك في ذلك، لكن وسوسة شيطان الجن أعظم من شيطان الإنس، وكما قال فريق من أهل العلم: إن شيطان الإنس يدفع بأمور لا يدفع بها شيطان الجن، فشيطان الإنس إذا أكرمته ببعض الكرامات في الدنيا، وأعطيته بعض الأموال، قد يسكت عنك كما قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] ، فقد تعطيه مالاً أو تتكلم معه بكلمة طيبة، أو تتنازل عن جزء من مالك فيسكت عنك، أما شيطان الجن فلا يرضى منك إلا بالكفر والعياذ بالله.(110/12)
حروز شرعية من الشيطان
وقد ذكر العلماء رحمهم الله جملة حروز يُحترز بها من الشيطان: أولها وأعظمها: ذكر الله عز وجل والاستعانة به سبحانه, وقد ورد في حديث الحارث الأشعري رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها) ، فذكر من الخمس الكلمات (وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً، حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم) ، فذكر الله للعبد بمثابة الحصن، فالشيطان يفر عند ذكر الله سبحانه وتعالى، ويقبل على العبد ويجثم على صدره إذا هو غفل عن ذكر الله سبحانه وتعالى.
ومن الحروز: التعوذات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97-98] وقراءة المعوذتين مع سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وقراءة الآيتين -الأخيرتين- من سورة البقرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ هاتين الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه) قال فريق من العلماء: كفتاه من الشيطان، وقيل: كفتاه عن قيام الليل، وثم أقوال أخر، ومن ذلك قول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، إذا نزلت منزلاً، وقول: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاثاً صباحاً وثلاثاً مساء، فلا يضرك شيء حتى تمسي وحتى تصبح.
ومن الحروز: صلاة أربع ركعات أول النهار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: يا ابن آدم! اركع لي أربع ركعات أول النهار أكفك آخره،) .
وادفع الوساوس عن إخوانك فلا تقف في مواقف الشبهات، فإنها يدخل منها إبليس إلى قلوب إخوانك فيظنون بك ظن السوء، ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً مع صفية بنت حيي فرآه رجلان من الأنصار فأسرعا، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما إنها صفية بنت حيي.
فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءًا أو قال شيئاً) .
ومن الحروز: الانتهاء عن الاسترسال في الفكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ ومن خلق كذا؟ ومن خلق كذا؟ حتى يقول له: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا بلغ ذلك أحدكم فليستعذ بالله، ولينته) ، وفي رواية (فليقل: {اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ) ومن الحروز: أن تمسح على صدرك وتقول باسم الله (ثلاثاً) ، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر (سبعاً) ، وقد جاء عثمان بن أبي العاص الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه وجعاً يجده في صدره منذ أسلم، فقال: (ضع يدك على الذي تألم، وقل: باسم الله (ثلاثاً) ، وأعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر (سبعاً)) .
ومن الحروز: سجود السهو حتى لا يسترسل معك الشيطان بعد ذلك، ويفسد عليك عبادتك، قال عليه الصلاة والسلام: (فإذا سها أحدكم في صلاته فليسجد سجدتين قبل أن يسلم) وفي بعض الروايات أنه سجدها بعد أن سلم صلى الله عليه وسلم، وقال: (كانتا ترغيماً للشيطان) فذكر الله عند الدخول وعند الخروج، ومسح الجسد باليد بعد قراءة المعوذات، هذه كلها حروز نافعة بإذن الله، ولا تحتاج معها أن تذهب إلى من يعالج، ويخلط الرجال بالنساء، ولا غير ذلك.
وفقنا الله لما يحبه ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(110/13)