تفسير سورة الجمعة [2]
لقد سميت هذه السورة بسورة الجمعة برهاناً على عظم يوم الجمعة، وأنه ينبغي للمسلمين أن يتفرغوا فيه لذكر الله سبحانه، وأن يراعوا التبكير إلى الصلاة، مع الامتثال لأحكام الجمعة من غسل وتطيب وتجمل وليس أحسن الثياب، ثم إذا قضى العبد الصلاة على أكمل وجه فلا مانع من انتشاره في الأرض طلباً للرزق والمعاش، فإن شرع الله لا يتعارض مع ذلك؛ بل يحث العبد على أن يكسب ويأكل من عمل يده، وأن ينفق على زوجه وأولاده من كسب يده.(63/1)
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] .(63/2)
مسألة صلاة السنة بعد الجمعة
ترد هنا مسألة وهي: السنة التي بعد الجمعة.
ذكر البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا صلى في المسجد صلى أربعاً، وإذا صلى في البيت صلى ركعتين) ، وهذا التقييد غير جيد وغير صحيح، وبعد تحرير القول في هذه المسألة فالحاصل فيها أنك إن شئت صليت أربعاً في المسجد أو اثنتين، وإن شئت صليت في البيت أربعاً أو ركعتين، والتقييد هكذا ليس بمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذي يحضرني الآن على ما يغلب على ظني أنه من فعل ابن عمر نفسه، وليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالشاهد: أنك تصلي إما ركعتين في البيت أو أربعاً، وإما ركعتين في المسجد أو أربع ركعات.
{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] ، الخيرية هنا لا تقتضي مجرد التفضيل، فقد تقول مثلاً: زيد خير من عمرو، فقولك: زيد خير من عمرو تفيد أن عمراً فيه خير، لكن زيد أفضل من عمرو، أما قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة:9] لا يفيد أن هناك خيرية في ترك الجمعة أبداً، بل قال الرسول: (من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً طبع الله على قلبه) ، والأحاديث في ذم التخلف عن صلاة الجمعة قد تقدمت، وهي كثيرة مشهورة جداً، ولكن كما قال الله سبحانه: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] ، فأهل النار ليسوا في شيء من الخيرية بحال.(63/3)
استحباب جماع الرجل لزوجته يوم الجمعة
هل يستحب للشخص أن يجامع زوجته يوم الجمعة وهو متجه إلى الصلاة، أو في نهار الجمعة، أو في ليلة الجمعة؟ ورد حديث فيه: (من غسل واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ثم أتى إلى الجمعة فاستمع وأنصت، ولم يفرق بين اثنين، ثم صلى مع الإمام فإنه لا يخطو خطوة إلا كتب له بها أجر سنة قيامها وصيامها) .
أخذ بعض العلماء من قوله: (غسل واغتسل) أي: غسل زوجته - تسبب لها في أن تغتسل وذلك بالإتيان الذي يترتب عليه الجنابة فمن ثم تغتسل، وهو كذلك سيغتسل، فحملوها على هذا المعنى.
وهذا الحديث -في الحقيقة- صحيح من حيث سلامة الإسناد، لكن في القلب من متنه شيء، وذلك لأن النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد ثابتة صحيحة كالجبال، عمومها يفيد أن الخطوة تحط خطيئة وترفع درجة، وهي في الصحيحين أو في غيرهما، لكن هذا الحديث خارج الصحيحين.
وهذا الحديث فيه زيادة وهي: (أن كل خطوة بها يكتب أجر سنة صيامها وقيامها) ، فهذا من ناحية المعنى لا يتفق مع الوارد في الصحيحين بأسانيد أثبت وأصح من هذه الأسانيد أن كل خطوة تحط خطيئة أو ترفع درجة.
وقد قال الذهبي في تعليقه على مستدرك الحاكم في شأن هذا الحديث: وهذا الحديث له علة مهدرة يعني: أنه لا يقبل العلة المهدرة التي فيه.
وفي الحقيقة أن بعض أهل العلم يقولون: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومنهم من يقول: إن من العلماء من جعل من القرائن التي تحكم على الحديث بالضعف الأجر الكبير جداً مقابل العمل اليسير، أو العذاب الشديد جداً مقابل الذنب اليسير، فيجعلون ذلك من القرائن على الحكم على الحديث بالوضع أو بالضعف.
ومن ثم فضعف بعض العلماء حديث السوق (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتبت له ألف ألف حسنة، ورفعت له ألف ألف درجة، ومحيت عنه ألف ألف سيئة) إلى آخر الحديث.
مع أن الحديث الثابت في صحيح مسلم: (له بكل تهليلة صدقة) فالأحاديث الثابتة (لك بالتهليلة صدقة، وبالتسبيحة صدقة، وبالتحميدة صدقة) بينما ذاك جعل لك ألف ألف حسنة، ومحا عنك ألف ألف سيئة، ورفعت بذلك ألف ألف درجة، بيد أن الحديث في إسناده عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير، وهو ضعيف، وهو غير عمرو بن دينار صاحب الصحيحين.
فمن العلماء من يجعل الأجر العظيم جداً مقابل العمل اليسير فيه إشارة إلى ضعف الحديث، لكن على كل حال: إسناد الحديث حتى الآن ثابت، وهو إما صحيح أو حسن، ولا ينزل عن الحسن، إلا أن البحث ما زال جارياً عن علة لعدم طمأنينة النفس إلى هذا الحديث، كعدم طمأنينة النفس من قبل إلى حديث: (الربا سبعون باباً أيسرها أن يأتي الرجل أمه) هذا الحديث أصلاً مخالف من ناحية المعنى لثوابت أخر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أكبر الكبائر قال (الشرك بالله، ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، ثم أن تزاني حليلة جارك) فجعل الزنا بحليلة الجار مقدم على الربا، ولا شك أن الزنا بالمحرم كالأم أو الأخت أعظم من الزنا بحليلة الجار، إذاً قدم على الربا بعمومه، فكيف تقول: أيسر شعبة في الربا بسبعين زنية بالمحرم؛ الأم أو الأخت؟ فلهذا ضعفه فريق من العلماء من هذا الباب فضلاً عن ما في أسانيده من ضعف، وثم رسالات مؤلفة في هذا الحديث.
على كل حال: استحب فريق من أهل العلم الجماع يوم الجمعة؛ لما يجره الجماع من اغتسال، ولما يجره الاغتسال من ثواب سواء للرجل أو للمرأة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
شذ ابن حزم هنا شذوذاً غريباً خالف فيه جماهير العلماء وفحوى شذوذه: أن من جامع زوجته في يوم الجمعة فعليه غسلان، غسل لرفع الجنابة، وغسل آخر للجمعة، وهذا من القول الغريب العجيب إذ لم يرد أن الرسول اغتسل غسلين صلوات الله وسلامه عليه يوم الجمعة، لكن لعله بنى على أنه لا يصلح أن تكون هناك نيتان لعمل واحد، فقال: هذه الجنابة يلزمها غسل بنية، والجمعة يلزمها غسل بنية أخرى، لكن على كل حال هذا قول شاذ ومطرح ومنبوذ.(63/4)
الاستدلال بالمفهوم المخالف من أضعف الاستدلالات
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] المفهوم المخالف لا يعمل به هنا، يعني: إذا لم ينادى إلى الصلاة ليس معناها لا أسعى إليها، ولهذا قال فريق من أهل العلم: إن الاستدلال بالمفهوم المخالف يكون من أضعف الاستدلالات.
ومعنى المفهوم المخالف يتمثل أو يتضح عند قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ، إن جاءنا عدل بنبأ هل لا نتبين من الأصل، أو يجوز لنا أيضاً أن نتبين؟ فالمفهوم المخالف يقول: إن جاءك عدل بنبأ فلا تتبين، لكنه ضعيف، وليس بصريح في تقرير القاعدة التي جلبت من ورائه.
فكذلك هاهنا: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] لا يفيد أنه: إذا لم ينادى إلى الصلاة لا تسعوا، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة) .
وبهذا استدل العلماء على التفريق بين البدن والبقر، فقالوا: البدن: الإبل، لكن أحياناً قد يأتي التغليب وتكون البدن أو البدنة تطلق على البقرة: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36] ، للعلماء فيها القولان.
قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] تقدم الكلام على قوله سبحانه: (وذروا البيع) {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] ، يعني: إن كانت عندكم عقول وكنتم تفهمون أن متاع الدنيا زائل، وأن ما عند الله خير وأبقى، فإن كنتم تعلمون فإقبالكم على الجمعة خير لكم من اللهو ومن التجارة.
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:10] ، تقدم الكلام على ذلك أيضاً.(63/5)
خلاف العلماء في غسل يوم الجمعة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] يلحق بنا هنا مبحث سريع في غسل الجمعة وهل هو واجب أو غير واجب؟ يرى جمهور العلماء أن غسل الجمعة مستحب وليس بواجب، ومن العلماء من يرى الوجوب.
أما أدلة الجمهور القائلين بالاستحباب: فمنها حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان الناس يأتون من العوالي - عوالي المدينة - مسافات طويلة يمشون، فيعلوهم الغبار فيأتون إلى المسجد ولهم روائح - أي روائح كريهة من العرق والحر الشديد والغبار الذي خالط الأجسام - فقيل لهم: لو اغتسلتم) .
وأوردوا أيضاً في الاستدلالات على أنه مستحب وليس بواجب حديثاً آخر: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل) وهو حديث ضعيف.
وأوردوا حديثاً ثالثاً في بيان الاستحباب وعدم الإيجاب وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ في بيته ثم أتى إلى المسجد فصلى ما كتب الله له أن يصلي فلا يخطو خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة) ، فمن لفظه عليه الصلاة والسلام: (من توضأ في بيته) ولم يذكر (ومن اغتسل) .
فأصبحت عمدة القائلين بأن الغسل - غسل الجمعة - ليس بواجب ثلاثة أحاديث: حديث أم المؤمنين عائشة وحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) لكن في إسناده ضعف، وحديث: (من توضأ ثم أتى إلى المسجد فصلى ما كتب الله له أن يصلي ثم استمع وأنصت) الحديث.
قالوا: إن فيه (من توضأ) وليس فيه من اغتسل.
أما أدلة القائلين بالوجوب فمنها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) .
والثاني: (حق لله على كل مسلم أن يغسل جسده في كل أسبوع يوماً) .
والثالث: حديث ابن عمر: (من أتى إلى الجمعة فليغتسل) .
والرابع: أثر عمر لما كان يخطب فدخل أمير المؤمنين عثمان وهو يخطب، فلما رآه عمر دخل متأخراً بعد الأذان - بعد صعود الإمام المنبر - قال له: (أية ساعة هذه؟) أي: لماذا تأخرت حتى إن الملائكة طوت الصحف؟! قال: (والله يا أمير المؤمنين! ما زدت على أن توضأت.
قال: (توضأت وقد علمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل) ، فأخذوا من قوله: (أن الرسول كان يأمر بالغسل) على أن الأمر أمر إيجاب إلا إذا صرفه صارف.
هذه عمدة القائلين بوجوب غسل الجمعة.
وكما أسلفنا فالجمهور على أن غسل الجمعة مستحب وليس بواجب.
قد يقول قائل: كيف يسوغ للجمهور أن يقولوا: إنه مستحب، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ؟! فأجاب الجمهور على ذلك: بأن كلمة (واجب) من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعني نفس المدلول الاصطلاحي الذي أصله الفقهاء والأصوليون، فكلمة (واجب) بمعنى (حق) ولا تعني الوجوب الاصطلاحي الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه.
وثم جملة اصطلاحات للرسول صلى الله عليه وسلم، بل للكتاب العزيز فيها مدلولات وللأصوليين فيها مدلولات أخر.
فمثلاً كلمة الكراهية، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:33] ، {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151] ، {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:34] ، في آخر الآيات: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38] ، فالكراهية هنا تدل على التحريم يقيناً، وليس الكراهية الاصطلاحية الموضوعة في مباحث الفقهاء.
هذه إجابة الجمهور على الاستدلال بحديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) .
أما حديث: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) ، أو حديث: (قد علمت أن الرسول كان يأمر بالغسل) فهذا وذاك قد صرفهما صارف، ألا وهو حديث عائشة: (قيل لهم: لو اغتسلتم) أو الحديث الآخر: (من توضأ في بيته ثم أتى إلى المسجد) .
فالمسألة هذا حاصلها، وثم أقوال أخر فيها، والله أعلم.
الحاصل أن رأي الجمهور على أن غسل الجمعة مستحب وليس بواجب، ومن العلماء من ذهب إلى الوجوب لظواهر الأحاديث التي سمعتموها، وقد علمتم توجيهها.
يستحب للساعي إلى الجمعة أن يلبس أحسن الثياب، وذلك أنه: (لما قدمت على الرسول حلل سيراء من عطارد قال عمر يا رسول الله! خذ هذه فتجمل بها للوفود والأعياد والجمع، فردها الرسول لعلة أنها كانت من حرير، وقال: إنما يلبسها من لا خلاق له) فيستحب للجمعة لبس أحسن الثياب، وقد ورد حديث وإن كان فيه مقال: (ما على أحدكم لو اتخذ ثوباً ليوم الجمعة غير ثوب مهنته) .
فيستحب للشخص أن يلبس أجمل الثياب، وأن يتطيب بأحسن ما يجد من الطيب، وأن يستاك بالسواك أو ما يقوم مقام السواك في حالة غياب السواك، فهذه سنن حث عليها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.(63/6)
المراد بالسعي المأمور به إلى صلاة الجمعة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، قوله سبحانه: (فاسعوا) قد تقدم الكلام عليه، وكيف يجمع بين قوله سبحانه وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) ؟ ويجاب على هذا الإشكال بأن السعي تتعدد معانيه، فالسعي أحياناً يطلق على المشي، وأحياناً السعي يطلق على العمل، وأحياناً السعي يطلق على الجري: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20] ، أي: تجري وتضطرب.
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فللسعي معانٍ عدة.
فالسعي المنهي عنه في قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تأتوها وأنتم تسعون) يعني: تسرعون في المشي وتجرون.
أما {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] أي: فامضوا واذهبوا إلى ذكر الله.
قال فريق من أهل العلم: وهكذا هي في قراءة ابن مسعود (فامضوا إلى ذكر الله) .(63/7)
من فوائد الآية عدم ذكر الأشخاص بأسمائهم وتجريحهم في الخطبة
قوله سبحانه: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] يؤخذ منه أدب يتأدب به الخطيب ويتأدب به المستمعون، فالخطيب الذي يقف على المنبر ويتناول الأشخاص بأسمائهم غير موافق لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالف للشرع من وجوه: أولاً: أن الله قال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ولم يقل: اسعوا إلى ذكر فلان وفلان، وكذلك ينسحب هذا على الإطراء الزائد على المنابر، إذا وقف شخص وجلس يمدح على المنابر أشخاصاً بأسمائهم في يوم الجمعة هذا أيضاً مخالف؛ لأننا ما أمرنا أن نذهب للاستماع إلى سباب فلان وفلان، أو إلى الثناء على فلان وفلان، فإن فعل فيكون عارضاً على حسب الحاجة إليه، ولا يكون أصلاً، إن الله قال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] فالغالب في الجمع أن يكون فيها ذكر الله سبحانه وتعالى، وذكر جنته وناره.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر شخصاً باسمه على المنبر في يوم الجمعة أياً كان هذا الشخص، فما ذكر شخصاً من الذين عاصروه من الكفار أو أهل النفاق باسمه، فأشد الناس نفاقاً وأعظمهم وهو عبد الله بن أبي ابن سلول، لما فعل فعلته القبيحة وقذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عمل أمراً مؤلماً وموجعاً غاية الإيجاع والإيلام، إلا أن الرسول ما صعد المنبر وذكر يوماً واحداً أو مرة واحدة اسم عبد الله بن أبي ابن سلول، حتى إنه لما قام على المنبر في حديث الإفك قال: (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً؟!) حتى إن الصحابة الذين كانوا يحضرون المجلس في مسجد الرسول ما عرفه إلا بعضهم، حتى قام سعد بن معاذ وقال: (يا رسول الله! أخبرنا من هو إن كان منا -أي: من الأوس- قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فقتلناه؛ فقام سعد بن عبادة يدافع.
الشاهد: أن الصحابة منهم من لم يكن يعرف من هو هذا الرجل، مع أنه رئيس المنافقين، ومع أنه ارتكب فرية بقذف محصنة غافلة مؤمنة عللاوة على أنها زوجة نبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أن النبي ما ذكر شخصاً باسمه على المنبر أياً كان هذا الشخص، وعلى هذا فأخونا الذي يقف على المنبر ذاكراً مساوئ أحد الناس يكون قد خالف الشرع، وهذا القول مني على إطلاقه وليس حباً في وزير، أو دفاعاً عن رئيس أو وزير فكل منهم له شأن ولنا شأن.
أقول: الذي يقف على المنبر ويقول في خطب الجمعة -وكان هذا متفشٍ في بعض الأزمنة-: فلانة زوجة فلان فعلت كذا وكذا وصورتها في كذا وكذا كل هذا من العبث والمخالفة للشرع التي يجهلها الخطيب ويظن أنه يحسن صنعاً وهو مسيء غاية الإساءة، بتشويشه على أفكار الناس.
ثم إن الله عز وجل قال في كتابه الكريم: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:148] وقد تقدم أن كثرة الحديث على المفاسد والمعاصي على المنابر تسبب للناس فقدان حساسية تجاه هذه المعاصي والكبائر.
تقدم أن بعض المفسرين ذكر عند قول الله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] قال: كنت ببلدة صغيرة لا يعرف أهلها الخمر، وكنا إذا سمعنا أن شخصاً أتى من الخارج مثلاً وشرب خمراً في البلدة، فكل البلدة بالإجماع تقاطعه، إذا تقدم يتزوج امتنعنا عن تزويجه، وإذا تقدم ليصلي لا نصلي وراءه، فلما ذهبت إلى بعض البلدان وجدت الخمر تباع في الطرقات، والسكارى يمشون في الشوارع، عندها قلَّت كراهيتي لشارب الخمر يوماً بعد يوم بعد يوم إلى أن تلاشت كراهيتي لشارب الخمر.
فكثرة الحديث في مسألة تهونها على السامعين، فمثلاً قد تستبشع إذا سمعت أن شخصاً ما زنى، ثم بتكرار الكلام في مسائل الزنا والعياذ بالله، فلان زنى فلانة زنت أصبح الأمر عندك سهلاً، فتأتي تريد أن تسمع خبراً أبشع من الزنا، فيلفت نظرك خبر آخر أن رجلاً زنى بامرأة من محارمه فتستبشع الخبر، فيضربون على هذا الوتر مرات ومرات حتى يسهل عندك الأمر، ثم يقولون: فلان زنى بامرأة واغتصبها في الطريق فتستبشع ذلك، ولهذا عيبت الصحف وانتقدت جرائد الحوادث وصفحات الحوادث التي تروج للرذيلة من حيث لا تشعر، وتنشر الفساد في الأرض من حيث لا تشعر، والرسول يقول: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) .
فتسمية الأشخاص على المنابر أمر غير محمود وغير مشروع، ونحن نحاجج من يريد أن يحاجج بأن يأتينا بأثر واحد عن رسول الله أنه سمى شخصاً واحداً على المنبر في يوم الجمعة في رواية ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.
فالفقه في الدين واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلب شرعي، فقد تصعد على المنبر وترتكب المخالفة، وتسب مثلاً وزير الداخلية باسمه، وبعد أن تسب وزير الداخلية تعتقل، وفي الحقيقة أنك اعتقلت أصلاً -أو أيضاً- لمخالفتك للشرع، لأنك ما وافقت سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا اتبعت سنته في الهدي، وفي التصحيح والتقويم.
إذا كان هناك أمر ما مخالف للشرع فنبه على هذا الأمر المخالف للشرع لا تُمنع من ذلك أبداً، بل لزاماً عليك أن تنبه، لكن لا يلزمك أبداً ولا يتعين عليك أن تسمي الشخص باسمه، وهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل هدي.
ثم لعل هذا الذي قذفته يتوب، فيجد بينه وبين التوبة حائلاً وهو شريطك المنتشر في العالم كله والذي تفضحه فيه وتشهر به، قد تسب شخصاً على المنبر الآن وتلعن فيه، وتسب راقصة وتلعن فيها، والله يتوب على من تاب، فالغالب أنها تتوب، فكيف تصنع أنت بشريطك الذي شهرت بها فيه وشرحتها فيه تشريحاً؟! فتكون حينئذ سلكت سبيل الذين يصدون عن سبيل الله، وينشرون للمرأة التائبة أو للممثلة التائبة أشرطتها كي يصدونها عن سبيل الله بهذه الأشرطة الفاضحة التي أخذوها عليها، فسنة الرسول عليه الصلاة والسلام فيها خير هدي.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] وهذا المنع يشمل باب الذم وباب الإطراء، فلا تقف على المنبر تسبح بحمد الأشخاص، وتثني على الأشخاص، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (احثوا في وجوه المداحين التراب) ، وقد ورد في أثر صححه البعض وضعفه آخرون: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) ، فلا تسرف في الحب ولا في البغض، فالاقتصاد مطلب شرعي علمنا إياه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن المغالاة في الحب تحملك على الدفاع عن المحبوب ولو بالباطل، والمغالاة في البغض تحملك على هضم الحق وإماتته الحق والعياذ بالله.
ولكن انظر إلى اتزان الرسول صلى الله عليه وسلم والرزانة والوقار، يحب ابنته فاطمة حباً جماً عليه الصلاة والسلام، وكلما دخلت عليه قبلها وأجلسها، وكلما ذهب إليها قامت إليه فقبلته وأجلسته، لكنها محبة منضبطة بالشرع يقول: (والذي نفسي بيده لو أن فاطمة سرقت لقطع محمد يدها) .
يحب أسامة بن زيد غاية المحبة، يعثر أسامة فيجرح أنفه على عتبة الباب، ويذهب الرسول يمص دم أسامة بفيه، ومع ذلك يقول لـ أسامة: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟!) .
فالشاهد: لا تبالغ في الطعون ولا تبالغ في الثناءات، فالقصد القصد كما حث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.(63/8)
هل خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث؟
قوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (يا) دائماً تكون حرف نداء، و (أي) منادى، والهاء للتنبيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] هنا يثار مبحث فقهي أصولي، فحواه: هل خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث، أم أن خطاب الذكور للذكور، ويلزم أن يكون هناك خطاب آخر للإناث؟ أي آية فيها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هل يدخل فيها الرجال والنساء أم هي خاصة بالرجال، ويلزم أن يكون هناك خطاب آخر يتعلق بالنساء؟ هذه قاعدة أصولية تنبني عليها جملة من الأحكام الفقهية.
من الأحكام التي تترتب على هذه القاعدة: مسألة المجامع في رمضان، أي: الرجل الذي جامع امرأته في رمضان، فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوم شهرين متتابعين، فلما لم يستطع أمره أن يطعم ستين مسكيناً.
الشاهد: هل المرأة هي الأخرى تؤمر بصيام شهرين متتابعين؟ أو هل المرأة هي الأخرى تؤمر بإطعام ستين مسكيناً؟ فإذا قلنا: إن خطاب الذكور للذكور والإناث فسيكون مقتضى أمر النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بصيام شهرين متتابعين أن المرأة هي الأخرى تصوم شهرين متتابعين، وإذا قلنا: إن الرجل يطعم ستين مسكيناً في حالة عدم استطاعته الصيام فالمرأة هي الأخرى تطعم ستين مسكيناً.
وهي مسألة طويلة جداً طال فيها النزاع بين العلماء، وكان من أسباب طول النزاع الوارد فيها اختلافهم في أصل المسألة: هل خطاب الذكور للذكور والإناث، أم خطاب الذكور للذكور وخطاب الإناث للإناث؟ فالذين قالوا: إن خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث استدلوا بأدلة منها: أن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] فكُتب على الجميع.
وأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] ولم يقل: وكانت من القانتات.
وكذلك قال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29] ولم يقل: كنت من الخاطئات.
فدخلت امرأة العزيز في الخاطئين، ودخلت مريم مع القانتين، فهذا بعض مستندات القائلين: إن خطاب الذكور للذكور والإناث.
وأما الذين قالوا: إن خطاب الذكور للذكور وخطاب الإناث للإناث فاستدلوا بأدلة منها: قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] .
وبقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر الآية.
فلو كانت المسلمات داخلات في المسلمين لابتدئ بذكر: إن المسلمين والمؤمنين والقانتين والصادقين إلى آخر الآية، فهذه بعض استدلالات القائلين بأن خطاب الذكور للذكور فقط، وخطاب الإناث للإناث فقط.
وأجاب أصحاب القول الأول على هذه الاستدلالات بقولهم: إن قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] ، من باب عطف الخاص على العام، والخاص يعطف على العام لبيان أهميته، فعطفت النساء على العام الذي هو القوم لكون السخرية في النساء أكثر منهن في الرجال، كأن تقول: جاء القوم وزيد، وزيد في الأصل جاء مع القوم، لكنك خصصت زيداً بالذكر لأهمية مجيء زيد مع القوم.
وأحسن من ذلك قول الله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] ، فمحمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم من النبيين، لكن نص عليهم أو خصوا بالذكر؛ لأنهم من أولو العزم من الرسل.
وكذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:163] ، هذا من باب عطف الخاص أيضاً على العام.
وكذلك قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] ، والنخل والرمان داخلان في الفاكهة، فكانت هذه إجابة فريق من العلماء على استدلال المستدل بقوله تعالى: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] ، أنه من باب عطف العام على الخاص لكثرة السخرية في الإناث.
أما إجابتهم على قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] ، قالوا: هذه الآية نزلت لأن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال الرجال يذكرون يا رسول الله! ولا نذكر؟ فنزل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب:35] الآية إلى آخرها) .
وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] ، إذا سلمنا أن خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث ورد إشكال شهود النساء للجمعة، لكن قد انعقد الإجماع هنا أن هذا الخطاب لا تدخل فيه النساء.
وقد نقل ابن قدامة والخطابي والنووي وغير واحد الإجماع على أن النساء لا يدخلن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، فالتحرير في مسألة خطاب الذكور هل هو للذكور والإناث أو هو للذكور فقط، ينبني على أن لكل خطاب ملابساته المحيطة به وقرائنه المحتفة به، وهي التي تستصدر الحكم الخاص في لكل قضية بعينها، يعني: فكل مسألة وجزئية ملابساتها الخاصة التي تستوجب قولاً من الأقوال.
فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] ، بالإجماع لا يدخل فيه النساء، فلا تجب الجمعة على النساء بالاتفاق.
وإذا شهدت المرأة الجمعة أجزأت عنها أيضاً بالاتفاق، فلا تؤمر بإعادة صلاة الظهر.
إن قال قائل: هل صح حديث في أن المرأة يعفى عنها أو لا تؤمر بحضور الجمعة؟ فالإجابة: قد وردت جملة أحاديث فيها أن الجمعة لا تجب على المرأة ولا على الصبي ولا على العبد.
إلخ، لكن يثبت من هذه الأحاديث حديث واحد.
وقال فريق من أهل العلم: إن نقل الإجماع كافٍ عن الأحاديث الضعيفة في هذا الباب.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد) وهذا عام تدخل فيه الجمعة كما تدخل فيه غيرها من الصلوات.(63/9)
تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ.)
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] فيه حث على الاكتساب، وعلى الضرب في الأرض للبحث عن الرزق وقد تقدم الكلام على ذلك.
وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأكلون من عمل أيديهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (ما بعث الله من نبي إلا وقد رعى الغنم) كان داود صلى الله عليه وسلم حداداً يعمل سابغات ويقدر في السرد، وكان زكريا صلى الله عليه وسلم نجاراً كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عيسى عليه الصلاة والسلام طبيباً بإذن الله يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، إلى غير ذلك من الأعمال، فكلهم كانوا يمتهنون، والسلف الصالح كانوا يعملون نظام الحمالة في الأسواق، فـ أبو مسعود عقبة بن عمرو البدري يقول: (لما نزلت آية الصدقة كنا نذهب إلى الأسواق نحامل على ظهورنا، فنأتي بالمال ونتصدق به) ، وكان سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى تاجراً يتاجر في الزيت، كلهم كان يمتهن مهنة ويأكل من عمل أيديهم من الحلال.
وكان بعضهم له أرض يكريها ويؤجرها كـ رافع بن خديج، وكانت لهم مهن متعددة، وليس في شيء من ذلك عيب، إنما العيب مد اليد للناس: (فاليد العليا خير من اليد السفلى) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، والعيب امتهان مهنة حرام، ككتابة الربا وأكل الربا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن آكل الربا، وكاتبه، وموكله، وشاهديه) ، لعن المصور صلى الله عليه وسلم، ونهى عن التجارة في أشياء بعينها كالتجارة بالأصنام، ونهى عن التجارة بالكلاب، وحرم ثمن الكلب، وثمن الدم صلى الله عليه وسلم.(63/10)
مشروعية القيام للخطيب حال خطبة الجمعة
قال الله سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] ، استدل العلماء بهذا على أن الخطيب يشرع له أن يقف في الخطبة، ولا يخطب جالساً، فإن السنة في خطبة الجمعة أن يخطب الخطيب قائماً، هكذا قال الجماهير من العلماء.
ومنهم من أجاز له الجلوس لعلة، كأن يكون به مرض أو نحو ذلك؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام رخص لمن هو أشد من الخطيب تلبساً بالعبادة وهو المصلي أن يصلي جالساً إذا لم يستطع الصلاة قائماً، لكن لا يتجه إلى الصلاة جالساً إلا لعذر عدم القيام، فأخذ العلماء من قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] مشروعية قيام الخطيب وهو يخطب خطبة الجمعة.(63/11)
صلاة الجمعة تنعقد بما تنعقد به صلاة الجماعة
هنا مسألة فقهية استنبطها العلماء من سبب نزول الآية ومن قصة النزول: وهي بم تنعقد الجمعة؟ قال بعض العلماء: إن الجمعة لا تنعقد إلا باثني عشر رجلاً؛ لأن الرسول ما ثبت معه إلا اثنا عشر رجلاً، وهذا القول في الحقيقة قول غير جيد؛ لأنه هب أنه لم يبق مع الرسول إلا ثلاثة، هل معنى ذلك أن الجمعة لا تنعقد إلا بالثلاثة أو أن الرسول كان يترك صلاة الجمعة؟ فهذا محل نظر.
نفس هذا النظر يرد في الأيام التي تقصر فيها الصلاة، فبعض العلماء يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم سافر تسعة عشر يوماً يقصر فيها الصلاة، فإذا سافرنا تسعة عشر يوماً قصرنا، وإذا زدنا أتممنا، فنفس الإجابة ترد عليه، وما أدراك أن الرسول كان إذا زاد سيتم؟ من الذي أعلمك أن الرسول لو كان زاد وسافر خمسين يوماً كان سيتم؟ فالتحديد بتسعة عشر يوماً في الأيام التي تقصر فيها الصلاة أو باثني عشر رجلاً لانعقاد الجمعة محل نظر؛ إذ هو ليس بنص عن رسول الله، وليس بصريح حتى عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والذي رآه كثير من أهل العلم أن الجمعة تنعقد بما تنعقد به الجماعة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] أي: قائماً تخطب.
{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] .
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(63/12)
سبب نزول قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا.)
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] أي: انصرفوا إليها.
نزلت هذه الآية -كما في الصحيحين وغيرهما- بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وأصحابه معه في المسجد، وكانوا في حال من القلة -قلة المال والطعام- فسمعوا بعيرٍ قد قدمت من الشام، ومن العلماء من ذكر أن الذي كان قادماً بالعير هو عبد الله بن سلام، ومنهم من قال أقوالاً أخر.
والعير لها جلبة وهي آتية أصوات وصبيان ينادون: التجارة وصلت والبضاعة جاءت إلى آخر هذه الضجة التي تصاحب التجار، وإلى غير ذلك من الصخب الذي هو معهود من أهل الأسواق، فخرج المصلون من عند رسول الله وتركوا الخطبة، وذهبوا إلى التجارة، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلاً، فهذا يفيدك إفادة أن الصحابة رضي الله عنهم بشر، يجري عليهم ما يجري على البشر، فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم بشر، فالملتحون أيضاً بشر، والسنيون أيضاً بشر، إذا كان الصحابة رضي الله عنهم صدر من بعضهم أشياء فأولى ثم أولى أن تصدر من السنيين، فلا تستغرب إذا قيل: إن هناك سنياً سارقاً، وردت أشياء مثل ذلك على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: قطعت يد المخزومية رجل من الصحابة رضي الله عنهم أقسم يميناً كاذبة امرأة على عهد الرسول اتهمها زوجها بالزنا وتلاعنا عند الرسول عليه الصلاة والسلام، وكل أقسم أربعة أيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقف يذكر بالله، والمذكر هو رسول الله! سيد ولد آدم! والزوج وزوجته معاً أمام رسول الله وأمام المسلمين، والرسول يقول لهما: (الله يعلم أن أحدكما كاذب) ، مؤكد يقيناً أن أحدهما كاذب، (الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟) ، ولم يتنبها لهذه المسألة، وأقسما، فإذا كان هذا هو شأن خير القرون، إذاً نحن من باب أولى لسنا بمعصومين، ولذلك إذا قال ربنا سبحانه في شأن أهل الإيمان: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر:35] ، فدليل على أنهم عملوا أعمالاً سيئة، {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الفتح:5] وهذا واضح.
فالشاهد: عند مناقشتك للأشياء أو عند إصلاحك بين الناس لا تجعل للحية مرتبة لا تنخرم، لا بل هم بشر، والمسلمون كلهم بشر يجري عليهم ما يجري على البشر.
أصحاب رسول الله رأوا تجارة أو لهواً وانفضوا إليها وتركوا الرسول يخطب، لا أظن أن هناك من هو أحسن خطبة من رسول الله أبداً بحال من الأحوال عليه الصلاة والسلام، كلهم خرجوا، وما بقي إلا اثنا عشر رجلاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] ، قال عليه الصلاة والسلام في بعض الروايات: (لو انفضوا جميعاً لسال بهم الوادي ناراً) .(63/13)
الدين شامل لجميع مناحي الحياة
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] وهذا فيه إشارة يشير إليها العلماء وهي: أن العبادات إذا انتهت لا تظن أنك ابتعدت عن ربك سبحانه، فلست مع الرب في الصلاة فقط كما يقول أهل الكفر وغيرهم الذين يرون أن الصلاة في المساجد فقط، وخارج المساجد لا دخل للدين بالحياة، ولا دخل للدين بالسياسة، بل ربنا يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] أي: فليكن ذكر الله منك على بال في عملك وفي طرقك.
وهكذا أيضاً قيل في الحج: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:200] ، إذا قضيتم المناسك وانتهيتم من أعمال الحج لا تظنوا أن الرب غاب عنكم، أو أنكم غبتم عنه وابتعدتم عن الرب، بل: {إِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:200] .
كذلك بعد الانتهاء من الصيام: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] .
كذلك دبر الصلوات، وبعد أن تنتهي من الصلاة، ويبوب العلماء لذلك: باب الذكر بعد الصلاة، وقد قال ابن عباس: (كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير) ، وفي رواية أخرى: (إن رفع الصوت بالتكبير عند الانتهاء من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
فكلما انتهيت من عبادة بعد أن تلبست بها لا تظن أنك فارقت الذكر، بل حث ربنا على الذكر في كل المواطن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] تبدأ عملك باسم الله، أنت الشافي يا رب! أنت المعين يا رب! تدعو الله عز وجل، تجعل ذكر الله دائماً لك على بال، لا تفارق الذكر، فإنك مهما كنت معتصماً بالذكر فشيطانك مهزوم، وتعلوه سياط التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، أما إذا غفلت نشط عليك الشيطان وتمكّن منك، فقد وصفه الله سبحانه وتعالى بالخناس في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ) * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:1-4] يخنس: أي: يختفي عند ذكر الله سبحانه وتعالى.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] فأفادت الآية أن ذكر الله كثيراً يجلب لك الفلاح، والفلاح: هو الفوز بالمطلوب والفرار من المرهوب.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:10-11] لِم لم يقل: وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليهما؟ فالإجابة على هذا كالإجابة على قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ولم يقل: وإنهما.
وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء:112] ولم يقل: ثم يرم بهما بريئاً.
وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62] ولم يقل: والله ورسوله أحق أن يرضوهما.
وكذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا} [التوبة:34] ولم يقل: ولا ينفقونهما، وكذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون:50] ولم يقل: آيتين، إلى غير ذلك.
فقال العلماء: اجتزئ بأحدهما لدلالته على الآخر، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] أي: وتقيكم أيضاً البرد، {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل:81] فالسرابيل تقي الحر كما أنها تقي أيضاً من البرد، فحذف البرد لدلالة الحر عليه، وكذلك تقدم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] أي: ونساء كثيراً، حذفت كثيراً لدلالة السياق عليها، والله أعلم.(63/14)
الأسئلة(63/15)
حكم شق المرأة ثيابها حال الغضب
السؤال
عجوز شقت ثوبها في حالة الغضب فماذا تفعل؟
الجواب
تستغفر الله وتفعل حسنات تضاهي شق الثياب، فشق الثياب كبيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب) والمراد بالجيوب فتحة الصدر في الثوب، فعليها أن تعمل عملاً صالحاً يوازي هذه الكبيرة، فتتصدق مثلاً لو هي ثرية فتخرج مائة جنيه، أو تصلي عدداً كبيراً من الركعات، أو تصوم أياماً تكفر به هذا الذنب الكبير.(63/16)
حكم من جامع في نهار رمضان ولم يجد كفارة
السؤال
جامع رجل في نهار رمضان مرتين مكرهاً لزوجته، علماً بأنه يعمل في البناء وعمله شاق وهو فقير جداً، لكن هناك من أهل الخير من يتطوع بإخراج الكفارة عنه، هل يقوم أهل الخير بإخراجها أم من وقعت عليه الكفارة يخرجها بنفسه؟
الجواب
هو أصلاً يخاطب بالصيام، إذا لم يستطع الصيام يكفر، ثم إذا ما استطاع أن يكفر يكفر عنه غيره وانتهى الأمر.(63/17)
حال حديث: (إذا حليتم المصاحف.)
السؤال
حديث: (إذا حليتم المصاحف وزينتم المساجد، دمرتم دنياكم) .
الجواب
ضعيف.(63/18)
حال حديث: (لو أن أمتك سلكت إليَّ كل طريق.)
السؤال
حديث قدسي: (لو أن أمتك سلكت إلي كل طريق، واستفتحت علي كل باب، ما فتحت لها إلا أن يأتوا خلفك) .
الجواب
ضعيف.(63/19)
حكم نزع الشخص من الصف والوقوف مكانه في الصلاة
السؤال
ما حكم نزع الشخص من الصف والوقوف مكانه؟
الجواب
نزع الشخص من الصف والوقوف مكانه، أو نزع الشخص من الصف للوقوف معه أجازه بعض العلماء لحديث أبي بن كعب في سنن النسائي بسند صحيح من حديث قيس بن عباد قال: (كنت أصلي في الصف الأول، فجاء رجل فجذبني من الصف ووقف مكاني -يعني قيس واقف في الصف الأول وجاء شخص سحبه ووقف مكانه - فلما انقضت الصلاة التفت إليه مغضبا، فإذا هو أبي بن كعب، فقال له أبي: يا بن أخي! لا يسوءك إنه عهد النبي الأمي إلينا أن نليه في الصلاة) ، فـ أبي جذبه من الصف وهو له منزلة، يعني: سيد القراء، إذا كان الله سبحانه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ سورة البينة على أبي بن كعب! حتى إن أبياً سأل الرسول: (أسماني لك يا رسول الله؟! -يعني: قال لك فعلاً اقرأ عليَّ بالاسم- قال: نعم سماك لي، فبكى أبي) .
الشاهد: أن أبياً جذب الشخص ووقف مكانه، فهذا دليل مستند يدل على الجواز.(63/20)
حكم المرأة إذا امتنعت عن الجماع لمرض
السؤال
امرأة تعتذر لزوجها عن الجماع نتيجة مرض بجسدها أو تعبها الشديد من العمل في المنزل، فهل تعاقب عليه بلعنة الملائكة؟
الجواب
الأصل أنها لا تمتنع، فإذا جاء شيء فوق طاقتها فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، إذا كانت لا تطيق فحينئذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وتكون معذورة.(63/21)
استحباب طلب الدعاء من الصالحين
السؤال
ما حكم طلب الدعاء من الصالحين؟
الجواب
طلب الدعاء من الصالحين مستحب خلافاً لمن كرهه، أما الدليل على استحبابه فقول عمر (استغفر لي يا أويس!) ، وكذلك ورد في حديث فيه ضعف: (يا أخي! أشركنا في دعائك) قاله الرسول لـ عمر، لكن في إسناده ضعف، ثم قول أم الدرداء لرجل مسافر: (ادع لنا فإني سمعت الرسول يقول: (دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجاب، عند رأسه ملك موكل يقول: آمين ولك بمثل) .(63/22)
استحباب التسمي بالأسماء الحسنة
السؤال
هل اسم محمد من الأسماء الواجب تسميتها في كل أسرة؟
الجواب
أما الوجوب فلا يجب، لكن الاستحباب أن يسمى بهذه الأسماء المباركة: عبد الله، وعبد الرحمن، وإبراهيم، ومحمد، وأحمد، يعني: يكون في البيت اسم من هذه الأسماء الطيبة.(63/23)
حكم فتاة تترك الصلاة وعمرها ستة عشر سنة
السؤال
فتاة عمرها ستة عشر سنة لا تستطيع أن تداوم على الصلاة، وهي شديدة الكذب، مع العلم أنها حجت ثلاث مرات؟
الجواب
لابد أن تداومي على الصلاة، وتسألي الله العون على الصلاة، وتقولي: رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتختلطي بالصالحات اللاتي يذكرنك بالله سبحانه وتعالى، وفي الكذب تتذكري قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) .(63/24)
حكم من طاف طواف الوداع ثم مكث يشتري شيئاً مما يحتاجه
السؤال
امرأة أدت مناسك الحج كاملة، ثم طافت طواف الوداع، وقبل الرحيل احتاجت جوارب لتلبسها، فذهبت تشتري واحداً لستر قدميها من الحمامات الموجودة أسفل الحرم، فأعجبها السعر فاشترت ثلاثاً، وبعد ذلك حاولت إعادة طواف الوداع فلم تتمكن من الزحام وضيق الوقت فهل عليها شيء؟
الجواب
ليس عليها أي شيء، لأنها ما أطالت المكث بعد الوداع، فالعلماء يرخصون في ساعة وساعتين وثلاث ساعات، إذا كنت في طريقك خارجاً من مكة، وعلى ذلك فليس عليها أي شيء.(63/25)
حكم استعمال العطور التي تحتوي على الكحول
السؤال
هل العطور التي بها كحوليات تنقض الوضوء؟
الجواب
لا تنقض الوضوء.
وهل هي محرمة الاستعمال في التطيب كحرمتها في الشرب؟ هي عندنا مكروهة لا تصل إلى التحريم؛ لأن إجراءها مجرى الخمر قولاً واحداً لا نطيقه ولا نتحمله.(63/26)
جواز الجمع بين نية السنة ونية تحية المسجد
السؤال
هل يجوز عند دخول المسجد لصلاة الفرض صلاة ركعتين بنية تحية المسجد وسنة الفرض؟
الجواب
نعم يجوز، صل سنة الظهر تسقط عنك تحية المسجد، فإن الرسول ما قال: صلوا ركعتين تحية المسجد، وإنما قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين) ، فكانت الركعتان سنة الوضوء، وسنة الظهر، أي ركعتين.(63/27)
حكم أخذ العوض الناتج عن التفريط
السؤال
كثيراً ما نسمع مقولة: أنا لا أقبل العوض، فنرجو معرفة هل التعويض، عن إتلاف آلة معينة أو ضرر حصل بالسيارة نتيجة حادث أو شخص استعار شيئاً وأتلفه حرام أو مكروه؟
الجواب
العوض ليس بحرام ولا بمكروه، فالديات شرعها الله سبحانه، وسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، الديات قال الله سبحانه: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] ، صحيح أن الأفضل الترك: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] ، {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92] ، لكن إذا قبلت تعويضاً من شخص أخطأ في مالك، مثلاً: لو كنت تمشي بسيارتك في طريقك مستقيماً وجاء شخص مخالف بسيارة، فسبب لك فساداً، ليس هناك أدنى حرج أن تأخذ منه قيمة التلف الذي حدث، إذا كنت أنت لا تقبل العوض أنت حر، لكن هي جائزة لا إشكال فيها، صحيح أن تركها أفضل وأكمل، لكن هي ليست بمكروهة.(63/28)
الغناء المباح والمحرم
السؤال
ورد في بعض فتاوى المفتين الاستشهاد بقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] على أن الغناء مباح، بناء على أن الناس كانوا يستقبلون القوافل في المدينة بالغناء وهو اللهو فما حكم ذلك؟
الجواب
مسألة الغناء فيها تفصيل لابد منه، فليس كل غناء محرم، وليس كل غناء مباح.
فلا يشك عاقل أن الغناء الذي يهيج على الفواحش ويثير الكامن محرم؛ لأنه من الفساد والله لا يحب الفساد.
والغناء الذي في الأفراح، والذي ليس فيه مخالفات للشرع حث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (ماذا كان معكم من اللهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو) .(63/29)
حكم صلاة المرأة الحامل جالسة
السؤال
ما حكم الصلاة جالساً إذا كانت المرأة حاملاً ولا تقدر على الوقوف، أو كان بها مرض في الساقين مثل الروماتيزم أو خلافه، وهل تأخذ نصف الثواب؟
الجواب
تأخذ الثواب كاملاً إذا كانت لا تستطيع القيام، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم) .(63/30)
حكم أكل الكوارع
السؤال
ما حكم أكل الكوارع؟
الجواب
الكوارع حلال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى كراع لقبلت، ولو أهدي إلي ذراع لأكلت) وقال: (لا تحقرن جارة جارتها ولو فرسن شاة) والفرسن يطلق على الحافر عند بعض العلماء.(63/31)
باب التوبة مفتوح
السؤال
ما الحكم في المداومة على نفس المعصية؟ بمعنى أنه يفعل الذنب ثم يتوب منه ويعود إليه؟
الجواب
كلما أذنبت فارجع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما: (أذنب عبد ذنباً فقال يا رب! أذنبت ذنباً فاغفره لي، قال الله سبحانه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنباً فقال: يا رب! أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله سبحانه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثلاثاً وفي الآخرة قال: فليعمل عبدي ما شاء) أي: ليس معناه إباحة المعصية كما قدمنا، ولكن إذا أذنبت فاستغفر.(63/32)
حكم من طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد وهي حائض
السؤال
ما حكم رجل طلق زوجته ثلاث تطليقات في جلسة واحدة وهي حائض؟
الجواب
حائض أو ليست بحائض فالطلقة واقعة، وهذا رأي الجماهير من العلماء، ورأي الأئمة الأربعة، صحيح أن الذي يطلق امرأته في أثناء حيضتها مخالف للسنة، لكن مع مخالفته الطلقة أيضاً واقعة، فمخالف السنة لا يكرم ويقال له: طلقتك ليست واقعة، بل يقال له: طلقتك واقعة، وإذا طلقتها عند الطهر واقعة أيضاً لرأي الجمهور؛ لأن ابن عمر قال: (حسبت علي تطليقة) ، هذه واحدة.
والثانية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مروه فليراجعها) ولا مراجعة إلا بعد وقوع، وقد قدمنا الكلام على هذا باستفاضة، ولكن أكرر التنبيه على الوهم الذي وهم فيه العلامة ابن القيم رحمه الله تبعاً لـ أبي محمد بن حزم رحمه الله تعالى، فهو وهم نشأ عن اختصار مخل أفسد الاختصار.
مما استدل به القائلون بأن طلاق المرأة في حيضتها لا يقع: ما ورد عن ابن عمر أنه سئل عن طلاق المرأة وهي حائض أيعتد بتلك؟ فقال: (لا يعتد بتلك) هكذا روي الأثر مختصراً عند ابن حزم بهذا اللفظ: (لم يعتد بتلك) ، والأثر لما وقفنا عليه مطولاً عند ابن أبي شيبة وغيره، وفيه: (سئل ابن عمر عن رجل طلق امرأته وهي حائض أيعتد بتلك الحيضة؟) يعني: يعتد بتلك الحيضة كقرء من الأقراء وتحسب كما في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فهو سأل: هل يعتد بتلك الحيضة من زمن التطليقات أم لا؟ فقال: (لا يعتد بتلك) ، أي: لا يعتد بالحيضة التي طلقت فيها المرأة، وهذا إشكال! لما اختصر المتن، وقع ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في هذا الوهم؛ لأنه قد شنع بهذه الرواية تشنيعاً غير مقبول؛ لما سمعتموه من أن دلالة السياق المختصرة أخلت بالمعنى إخلالاً كبيراً.
فنقول للرجل: أشهد شاهدي عدل أنك طلقت زوجتك مرة وراجعتها.(63/33)
ضابط السفر الذي تقصر به الصلاة
السؤال
أسافر مسافة خمسة عشر كيلو وأعود في نفس اليوم هل أقصر الصلاة، لأنه يطلق عليه سفر؟
الجواب
على رأي فريق من أهل العلم أنك تقصر الصلاة إذا كان مرد السفر إلى العرف، فكل ما يسمى سفر عند فريق من أهل العلم تقصر فيه الصلاة.(63/34)
حال حديث: (عليكم بمزاحمة الأقدار)
السؤال
ما حكم هذا الحديث: (عليكم بمزاحمة الأقدار فإن أرزاق أمتي في الأسواق) ؟ ما أعرف عنه شيئاً، ولم أسمع عنه إلا الآن.(63/35)
تفسير سورة المنافقون
سورة المنافقون من السور المدنية التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والنفاق لم يكن موجوداً بمكة وإنما نشأ في المدينة حينما قويت شوكة المسلمين فيها.
وأهل النفاق يهتمون اهتماماً بالغاً بالمظهر دون المخبر، فهم ذوو أجسام حسنة وهيئات بهية، ولكنهم كالخشب المسندة التي لا فائدة منها، وأما أهل الإيمان فهم حريصون غاية الحرص على القلب والعمل الصالح، وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة جملة من صفاتهم وأخلاقهم وما فعلوه مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نحذر منهم ومن أن نكون مثلهم.(64/1)
أقسام النفاق
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فسورة المنافقين من السور المدنية التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والنفاق لم يكن موجوداً بمكة، إنما نشأ النفاق بالمدينة لما قويت شوكة المسلمين فيها، والنفاق ينقسم إلى قسمين: نفاق اعتقاد، ونفاق عمل.
ونفاق الاعتقاد: هو الذي يخلد صاحبه في النار، وهو الذي ورد فيه قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145] .
أما نفاق العمل: فهو مثل الوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) ، وكالوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً) إلى آخر الحديث.
فنفاق العمل يلحق بالمعاصي والآثام، ولا يخلد صاحبه في النار؛ وذلك لأن الكذب وإخلاف المواعيد ونحو ذلك، معاصٍ تكاد تصل إلى حد الكبائر، لكن لا توجب لصاحبها خلوداً في النار.
أما نفاق الاعتقاد، وهو إضمار الكفر وإظهار الإسلام، فهو الذي يخلد صاحبه في النار، وهو الذي تتعلق به هذه السورة الكريمة، وكذلك أكثر الآيات الواردة في ذكر النفاق في كتاب الله سبحانه إنما تتعلق بنفاق الاعتقاد، أما نفاق العمل فوروده في كثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.(64/2)
تفسير أوائل سورة المنافقين
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] .
(نشهد) هنا بمعنى: نحلف، أحياناً يكون معنى الشهادة هو معنى الحلف، وأحياناً تختلف الشهادة عن الحلف، وما هو وجه اختلاف الشهادة عن الحلف أحياناً؟ من المعلوم عند المحاكمات أن أيمان اليهود وأيمان النصارى تجزئ ويُطلب منهم الأيمان، لكن شهادتهم لا تعتمد في كثير من المسائل، فمثلاً: في مسائل الطلاق يقول الله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ، فأحياناً يتحد معنى الشهادة ومعنى الحلف، وأحياناً تأخذ الشهادة معنىً والحلف معنىً آخر.
فمثلاً: في آيات الملاعنة يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6] ، (فشهادة أحدهم) أي: يمين أحدهم، وكذلك في قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ} [المائدة:106] ، والآية مصدرة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة:106] ، وفي ختام الآية: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة:106] ، فالشهادة هنا هي اليمين.(64/3)
سبب اعتقاد المنافقين كل صيحة عليهم
{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] .
وهذا شأن كل أثيم، كل أثيم كما يقول المثل العامي المصري: (الذي على رأسه بطحاء يحسس) ، فأنت تتكلم مثلاً في عقوبة الزنا، وفي عقوبة السرقة، وفي عقوبة المرتشي، وليس في ذهنك شخص، ولكن هناك شخص مرتش وزان جالس فيحسب أن الكلام الذي يقال منصب عليه: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] ، وكما قال سبحانه في آية أخرى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة:64] .
وهنا يقول الله سبحانه: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] ، أي: كل آية تنزل يظنونها نزلت فيهم، فقد اجتمعت فيهم الموبقات، وعلى حسب الموبقات التي تراكمت عليهم يكون خوفهم وفزعهم، فأنت إذا كنت قد ارتكبت ذنباً واحداً فلن تحسب كل صيحة عليك، وإنما تحسب أن الحديث في هذا الذنب خاصة موجه إليك، لكن إذا كنت قد ارتكبت كل الذنوب، من سرقة وشرب خمر وربا.
إلخ، فكل آية يتكلم بها الشخص تحسبها عليك.
فقوله تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] ، أي: لكثرة الموبقات التي ارتكبوها، فإنهم كذبوا على رسول الله، وآذوا رسول الله، وحدثوا فكذبوا، ووعدوا فأخلفوا، واؤتمنوا فخافوا، وأضمروا الكفر وأظهروا الإسلام، فكل شيء ينزل في أهل نفاق يحسبونه موجهاً لهم.
قوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] ، لا يعني نفي عداوة غيرهم، وإنما يعني بيان عظيم العداوة التي يكنونها للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يتفطن إليه فيتصدق عليه) ، فالذي ترده اللقمة واللقمتان مسكين، لكن الأشد منه مسكنة هو الذي لا يجد غنىً يغنيه ولا يتفطن إليه فيتصدق عليه.
وكذلك حديث: (ليس الشديد بالصرعة) ، وحديث: (أتدرون من الرقوب فيكم؟ قالوا: الرقوب من لم يولد له يا رسول الله، قال: ولكن الرقوب الذي لم يقدم شيئاً من الولد) أي: الذي لم يمت له أولاد.
فقوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] ، من هذا الباب، أي: هم كاملو العداوة لك؛ لأن الكفار أظهروا أمرهم وأظهروا عداوتهم لك، لكن هؤلاء أبطنوا العداوة وأظهروا الإسلام، فكانت عداوتهم أشد وأبشع.(64/4)
الإرشاد إلى عدم الاغترار بالمظاهر
وربنا يقول في آية أخرى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم) ، ويقول: (التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا, وأشار إلى صدره ثلاث مرات) صلى الله عليه وسلم.
وقد ضحك الصحابة رضي الله عنهم من دقة ساق ابن مسعود؛ لما صعد شجرة وكشفت الريح عن ساقه، فرأى الصحابة دقة ساقه فعجبوا منها وضحكوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من دقة ساقيه؟! لهي والله في الميزان أثقل من جبل أحد) ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة، وتلا قول الله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] ) .
وقال الشاعر: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير فالمعول عليه دائماً هو الإيمان، فلا تعجب ببدانة شخص، ولا بضخامة جسم شخص، ولا ببهاء شخص، فقد كان أهل النفاق ذوي أجسام حسنة، وذوي هيئات جميلة، وشارات حسنة بهية، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] ، أي: فعندهم ألسن يصيغون الكلام صياغات، ويتكلفون الكلام تكلفات.(64/5)
إعراض المنافقين عن العلم النافع
{كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] ، وما المراد بالخشب المسندة؟ الخشب المسندة على الجدران، فهي خشب لا فائدة منها إلا شغل المكان، فالخشبة قد يكون لها فائدة، وهي أنها تحمل سقفاً مثلاً، أو خشبة قامت مقام العمود الذي يحمل السقف، لكن هؤلاء خشب مسندة على الجدران لا فائدة منها إلا أنها شغلت المكان فحسب.
وعند هذه الآية أثار العلماء بحثاً، ينصب هذا البحث على أدب الجلوس لطلب العلم، فإذا كان هناك أقوام جلوس في المسجد أثناء درس علم مثلاً، كلٌ قد أخذ له مكاناً مريحاً، هذا وراءه عمود، وهذا ذهب إلى جدار في مكان مريح ليس غرضه أن يفهم، المهم أن يستريح جسمه، وليس حريصاً على العلم، فلا يبالي فهم أو لم يفهم؛ فكان أهل النفاق هكذا، أهم شيء عند المنافق منهم أن يبحث عن مكان مريح يجلس فيه في المسجد، فلا يبالي! كما قال الله سبحانه في شأن الفئات الأخرى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [محمد:16] جالس يستمع في المسجد، {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16] ، أي: هذا الرجل ماذا كان يقول؟ هذا مضمون كلامهم.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ} [محمد:16] ، فهم جالسون يستمعون خطب الرسول عليه الصلاة والسلام وأقواله، ولكن أهم شيء عندهم الجلوس في مجلس مريح، فلا يبالون بالحديث من أصله، {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16] صاحبكم هذا ماذا كان يقول في المجلس؟ فهذا شأنهم، وصفهم ربنا سبحانه فقال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] ، أي كأنهم خشب مستندة إلى جدار.
وفي حديث الثلاثة الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو يدرس أصحابه أدب لطلاب العلم، فأحدهم وجد فرجة في المجلس فأقبل وجلس فيها، والآخر جلس في آخر المسجد، والثالث أدبر وأعرض، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فأقبل فأقبل الله عليه، وأما هذا فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما هذا فأعرض فأعرض الله عنه) .
فللجلوس في مجالس العلم آداب، منها ما يستنبطها العلماء من حديث جبريل ومجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه) ، ثم بدأ يسأل صلى الله عليه وسلم، ولا يمتثل كل ما جاء في حديث سؤال جبريل عليه الصلاة والسلام، وإنما يؤخذ منها أدب السؤال كما صنع جبريل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] .(64/6)
اتقاء المنافقين بالأيمان الكاذبة
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ} [المنافقون:1] أي: نحلف لك بالله، {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] أي: نقسم ونحلف أنك رسول من عند الله، وهو تستر منهم وراء الأيمان، وهذا شأن أهل النفاق وأهل الكذب والغدر، يتسترون دائماً وراء الأيمان، كما قال الله سبحانه: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:2] ، (اتخذوا أيمانهم جنة) أي: وقاية يتقون بها أهل الإيمان، وبطش أهل الإيمان، ويتقون بها حدود الله، إلى غير ذلك، فمن شعار أهل النفاق أنهم يكثرون من الأيمان، ولذلك كره جمهور أهل العلم الإكثار من اليمين.
ومن حججهم وأدلتهم على كراهية الإكثار من اليمين: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10-11] ، فالحلاف: هو كثير الحلف.
ومن أدلتهم على ذلك: أحد الوجوه في تفسير قول الله سبحانه: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224] ، وإن كان جمهور المفسرين في تفسير الآية على أن المعنى: لا تجعلوا اليمين بالله حائلاً بينكم وبين فعل الخير، لكن ثمّ وجه آخر من أوجه التأويل بأن المعنى: لا تكثروا الأيمان.
ثالث أدلة القائلين بكراهية الإكثار من اليمين: أنه فعل أهل النفاق، وقد نهينا عن التشبه بأهل النفاق، ولا يمنع هذا أن تقسم أحياناً حتى وإن لم يطلب منك القسم ولا يثرب عليك؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك مراراً، فحين جاءه رجلان يختصمان، فجاء الرجل وقال: (يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، فقضوا أن على ابني مائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: -وهذا وجه الاستشهاد- والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل) ، ولم يطلب منه اليمين.
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) دون أن يطلب منه القسم، فقد يكون هناك داعٍ يدعو إلى تثبيت الحكم فيقسم الشخص، لكن لا يكون هذا القسم شعاراً له ولا ديدناً، فهو شعار وديدن المنافقين، يتقون بأس المسلمين بأيمانهم الكاذبة.
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ} [المنافقون:1] ، وهي: نحلف عند الجمهور من المفسرين، ومن المفسرين من قال: إن معناها نقر ونعترف، لكن أكثر المفسرين قالوا: (نشهد) أي: نحلف.
{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:1-2] ، والجُنَّة هي الوقاية، ومنه ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، (في المتصدق الذي يلبس ثياباً تجن بنانه) أي: تخفيها وتغطيها، وهذا أصل مادة الجن والجُنَّة فكلها منشؤها الإخفاء، ومنه قولهم: للجن جن لاستتارهم وخفائهم، وقيل للجنة جنة؛ لأنها تجن من دخلها لكثرة أشجارها.
فقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:2] ، أي: وقاية يتقون بها أهل الإسلام، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:2] ، وذلك؛ لأنهم في الظاهر أهل إسلام، ومع إسلامهم يقسمون بالله أيماناً كاذبة فيظن ضعيف العلم والإيمان أنهم على حق في مقالتهم، فينصرف عن الدين وراءهم للأيمان التي يقسمونها وللشهادات التي يشهدونها في الظاهر.
فلأهل النفاق علامات ذكرها الله في مواطن متعددة من كتابه، قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] .
فقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) ، أي: إن جاءته بلية أو مصيبة في بدنه أو في ماله، فلضعف إيمانه بالله يسوي بين هذه البلية وبين عذاب الله، فيترك الإيمان ويرجع إلى الكفر والردة والعياذ بالله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] ، والآيات في وصف المنافقين في غاية الكثرة والوقت لا يتسع لها، فنحن بصدد تفسير سورة المنافقين فقط.
قال الله جل ذكره: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:2] ، أي: صدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام، {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا} [المنافقون:2-3] ، بألسنتهم، {ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون:3] ، بقلوبهم، {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:3-4] ، هذا شأنهم وهذا حالهم، كانوا على درجة كبيرة من الحسن والبهاء والجمال، إذا نظرت إليهم أعجبك منظرهم، وإذا رأيت أولادهم أعجبك منظر أولادهم.(64/7)
لا منافاة بين الحذر من المنافقين وبين التوكل
قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4] .
قوله تعالى: {فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4] ، أمر بأخذ الحذر، والله يقول في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71] ، فالأمر بأخذ الحذر والحيطة لا ينافي التوكل، فإن قوماً فهموا هذا الباب على غير وجهه، ففهموا أن التوكل ينافي الأخذ بالأسباب، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث في البخاري وغيره: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، فجاء سعد بن أبي وقاص وسمع لمجيئه صوت السلاح، قال: جئت أحرسك يا رسول الله) .
ومن الناس من يستدل بأقوال لا أعلم لها أصلاً، وخاصة الوارد عن عمر لما رآه أحدهم نائماً فقال: (حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر) ، فلم يجد عنده حراس ولا غير ذلك، وهذا الأثر لا أعلم له سنداً، والأسانيد الثابتة إلى عمر بخلاف ذلك، فإن عمر كان يتخذ الحجبة والبوابين، ففي الصحيح أن عمر كان في مجلسه وله غلام يقال له: يرفأ، فقال: يا أمير المؤمنين هذا عثمان يستأذن عليك، قال: فأذن له، ثم قال: هذا عبد الرحمن بن عوف يستأذن عليك، قال: فأذن له.
وأيضاً أراد عيينة بن حصن الفزاري أن يدخل على عمر فلم يستطع، فقال لابن أخيه الحر بن قيس: يا ابن أخي! إن لك وجاهة عند هذا الأمير فاستأذن لي في الدخول عليه، فاستأذن الحر بن قيس لعمه عيينة بن حصن الفزاري في الدخول على عمر.
وأيضاً علي بن أبي طالب رضي الله عنه، جاءه آتٍ فقال: يستأذن عليك ابن جرموز قاتل الزبير بن العوام فقال: ائذن له وبشره بالنار، فالشاهد في قوله: يستأذن عليك فلان.
فاتخاذ الحجبة واتخاذ الحرس لا ينافي التوكل على الله، بل أمرنا الله أمراً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] ، فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى، وهنا يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4] ، فلا يُفهم التوكل على غير وجهه الصحيح، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو خير المتوكلين يؤمر بالحذر من المنافقين.
{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} [المنافقون:4] : من العلماء من يطلق القول فيقول: كل آية فيها (قتل) ، مثل: (قاتلهم الله، أو قتل الخراصون، أو قتل الإنسان ما أكفره) فمعناها: لعن، فمعنى {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] : لعن الخراصون، {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] ، أي: لعن الإنسان ما أشد كفره.
{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] من العلماء من يجري المعنى الأصلي على هذا فيقول معناها: لعنهم الله أنى يؤفكون، و (يؤفكون) معناها: يصرفون، مثل قوله سبحانه: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] ، أي: يصرف عنه من صرف.(64/8)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله.)
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5] : هذا حالهم، لا يبالون باستغفار رسول الله ولا غيره لهم، ومن أمثالهم: الجد بن قيس صاحب الجمل الأحمر، الذي ورد له ذكر في صلح الحديبية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد بيعة الرضوان فله الجنة -وفي بعض الروايات- إلا صاحب الجمل الأحمر) .
قال فريق من المفسرين: إن صاحب هذا الجمل الأحمر هو الجد بن قيس، وقد جاء في بعض الأحاديث أنه ضل بعيره يوم الحديبية فذهب يبحث عنه، فقال له الناس: هذا رسول الله يبايع المسلمين تعال فبايع، وسل الرسول أن يستغفر لك، فقال: لا والله لأن أجد جملي أحب إليَّ من أن يستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو صاحب الجمل الأحمر، وقد ورد فيه هذا الحديث.
والجد بن قيس هو الذي عزله الرسول عن السيادة، فقال لبني سلمة: (من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: يا رسول الله! الجد بن قيس على أنّا نبخله، قال: وأي داءٍ أدوى من البخل؟! بل سيدكم فلان) وسمى لهم سيداً آخر؛ بسبب بخل هذا الرجل.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5] ، فحالهم أنهم يرفضون استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، والله يقول: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:6] ، أي: يستوي في حقهم {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6] ، وهذه الآية كقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:80] .(64/9)
ترتب الثواب على الدعاء وإن لم يستجب
فقد يقول قائل: مالي أدعو ربي ولا يستجيب دعائي؟! فنقول له: إن الله يقول أولاً: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام:41] ، ثم إن أجرك في الدعاء ثابت أُجيبت الدعوة أو لم تستجب، فإذا قلت: يا رب ارزقني، فأجرك ثابت رزقت أو لم ترزق، وذلك إذا استوفيت شروط الإجابة من الطعام الطيب، ومن عدم الدعوة بإثم ولا بقطيعة رحم، إلى آخر ما ورد في شرائط إجابة الدعاء.
فالدعاء عبادة تثاب عليها إذا استوفيت شروطها، ثم إن استجيبت دعوتك فأنت مثاب، وإن لم تستجب فأنت مثاب، شأن ذلك شأن الشفاعة، قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (اشفعوا تؤجروا) ، اشفع، أي: توسط، لكن الشفاعة بالحق هي الشفاعة الحسنة، وليس لك تسلط على المشفع فيه ولا على الشافع، قال عليه الصلاة والسلام: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله ما شاء) أي: أنت إذا شفعت أُثبت سواء قبلت منك الشفاعة أو ردت شفاعتك، فأنت مثاب على كل حال، ومسألة قبول الشفاعة أو رد الشفاعة ليست لك ولا للذي تشفع عنده، إنما مردها إلى الله، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ويقضي الله ما شاء) .
ولذلك شفع النبي صلى الله عليه وسلم عدة مرات، مع أن شفاعته ردت عليه الصلاة والسلام، وذلك كما في قصة مغيث مع بريرة: كان مغيث رجلاً أسود وكان يحب بريرة حباً جماً، فشاء الله أن تعتق بريرة، والسنة في المعتقة أن تخيّر بين البقاء مع زوجها أو الفراق، فاختارت الفراق، فمن شدة حبه لها كان يطوف خلفها في الأسواق يبكي وتبلّ دموعه خده ولحيته، فرآه الرسول على هذه الحال، وكان الرسول يمشي مع عباس، فقال الرسول للعباس: (يا عباس! ألا تعجب من حب مغيث لـ بريرة وبغض بريرة لـ مغيث؟ فقال: يا رسول الله! لو شفعت، فذهب الرسول يشفع، قالت: تأمرني يا رسول الله؟ قال: لا.
إنما أنا شافع، قالت: لا حاجة لي فيه) ، فالشاهد: أن أجر الرسول عليه الصلاة والسلام ثابت في شفاعته وقد ردت.
فكذلك في الاستغفار لقوم، لكن أهل النفاق الذين عُلم بنص الكتاب العزيز أنهم أهل نفاق لا يستغفر لهم، كذلك أهل الشرك لا يستغفر لهم، وقد تأثم إذا استغفرت لأهل الشرك؛ لأن الله يقول: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] .
فالدعاء يثاب عليه الداعي حصلت الاستجابة أو أُجلت، فإذا دعوت الله وقلت: يا رب ارزقني، يا رب احفظني، يا رب أكرمني، فأنت مثاب أُجيبت الدعوات إجابات عاجلة، أم اُُدخرت، أم صرف عنك من السوء شيء كان سينزل بك.
قال الله سبحانه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6] .(64/10)
مسألة استجابة الله لكل دعوات الأنبياء
يقول الله سبحانه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:6] ، وهنا يثار بحث سريع: هل كل دعوات الرسول صلى الله عليه وسلم استجيبت؟ أو هل كل دعوات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم استجيبت؟ تحرير الإجابة: أنه لم تستجب كل دعوات الأنبياء، فثم دعوات دعا بها الأنبياء فلم يستجب دعاؤهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته: أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها، -وفي بعض الروايات: ولكن يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً) الحديث.
وإبراهيم صلى الله عليه وسلم لما قال الله له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] .
ونوح لما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45] ، قال الله: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] .(64/11)
تفسير قوله تعالى: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله)
قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] .
وهذا المسلك مسلك أهل النفاق، ويسلكه الشيوعيون دائماً لصرف الناس عن الأديان، يشغلونهم بمسائل الطعام والشراب، ويجوعونهم حتى يصرفوهم عن الأديان، فسلفهم في هذا هم أهل النفاق الذين قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] ، أي: حتى يذهب كل واحد ليبحث عن عمل وينصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمسلك التجويع لصرف الناس عن الأديان، ومسلك رفع الأسعار لصرف الناس عن الأديان مسلك قديم، فعله المشركون لما حاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب، ودعا إليه أهل النفاق لما قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] .
وأكثر مسالك الكفار لها أصولها من عهد المرسلين، فهي مسالك قديمة، وعلاجها أيضاً معروف في كتاب الله ومعروف في سنة رسول الله، ولذلك جاء الحث على الصبر في البأساء والصبر في الضراء في عدة آيات.
قوله سبحانه: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] .
فيه حث على الإنفاق على أهل الدين حتى يثبتوا على دينهم، ومن هنا شرعت مسائل تأليف القلوب بالأموال، فلما كان نداء الكفار: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] ، كان لأهل الإيمان شعار مقابل: (إنما المؤمنون إخوة) ، وفي الحديث: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) .(64/12)
موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] وهذه أيضاً قالها عبد الله بن أبي لما قال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فتشاجروا فيما بينهم، فقال عبد الله بن أبي: نافسونا في ديارنا، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
فأيضاً أصحاب الدعوة إلى العصبيات الجاهلية سلفهم عبد الله بن أبي ابن سلول، والدعاة إلى النعرات القومية إمامهم عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين.
قد وردت في ذلك روايات مشهورة يتحدث بها بعض المفسرين، وإن كان في إسنادها ضعف، أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان رجلاً مؤمناً، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! لقد بلغني أن أبي قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولقد بلغني يا رسول الله! أنك تريد قتله، فإن كنت تريد قتله يا رسول الله فدعني أنا أقتله، فإني أخشى أن يقتله رجل من المسلمين فتأخذني الحمية فأقتله، فأقتل مسلماً بكافر فأدخل النار، ولكن دعني يا رسول الله آتيك برأسه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لا ولكن نستوصي به خيراً) أو كما قال.(64/13)
سبب نزول قوله تعالى: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله.)
يقول زيد بن أرقم: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات، فتشاجر مهاجري مع أنصاري، فالأنصاري نادى الأنصار والمهاجري نادى المهاجرين، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أوقد فعلوها، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وأيضاً قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، فذهب زيد بن أرقم وأخبر عمر بذلك، فذهب عمر وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم فحدثه بالذي كان.
فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي ابن سلول ومن قالوا هذه المقولة، فأتوا إلى الرسول وأقسموا بالله ما قالوا هذه المقالة، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه مسلم وكذب زيد بن أرقم، قال أصحاب زيد بن أرقم وأعمامه ماذا جنيت؟ مقتك رسول الله وكذبك رسول الله، قال: فبت بشر ليلة، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] ، فأرسل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: (إن الله قد صدقك يا زيد) وفي هذا يقول الأنصار: ومنا الذي سمع الله له بأذنه، يعني: صدق الله سماعه وأنزل الله ما يؤيد صحة سماعه.
وفي الآية معنىً، وهو أن الله سبحانه وتعالى يبرئ ساحة المظلوم، ويبرئ ساحة الصادق، فـ زيد كان صادقاً مع رسول الله فبرأه الله سبحانه وتعالى.
وعائشة أنزل الله براءتها.
ويوسف برأه الله سبحانه إذ قالت امرأة العزيز: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:51] .
وموسى أيضاً برأه الله وكان عند الله وجيهاً.
وتلك الجارية التي قالت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني فقد كانت هذه الجارية لـ عائشة وكانت تكثر من ترديد هذا البيت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني والوشاح هو: نسيج عريض تلبسه المرأة.
فسألتها عائشة رضي الله عنها: مالكِ ترددين هذا البيت؟ قالت: والله لقد كنت عند قوم، ففقدوا وشاحاً لابنة من بناتهم، فاتهموني بسرقة هذا الوشاح، وفتشوا كل شيء في جسمي حتى فتشوا قبلي، واتهموني بسرقته، فبينما هم على هذه الحال، إذا جاء طائر وألقى بالوشاح فوقهم وهم يفتشونني، فبرأني الله بذلك، فحفظت هذا البيت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني فلتقر عين كل من ظُلم! فإن الله سبحانه وتعالى يبرئ ساحته عاجلاً أو آجلاً، فالله سبحانه وتعالى حكم عدل.
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون:7] .
إن الذي يقسم الأرزاق هو الله، وكل الخزائن أمرها بيد الله، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21] ، فالذي يبسط الأرزاق هو الله، والذي يضيق على العباد هو الله سبحانه وتعالى، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27] ، فالمرزوق من رزقه الله، والمحروم من حُرم، فأمر ذلك كله إلى الله سبحانه وتعالى.
{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] .(64/14)
تفسير قوله تعالى: (لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله)
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:8-9] ، أي: كما ألهت أهل النفاق، وكما شغلت أهل النفاق، فقد يكون هذا هو وجه الربط بين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9] ، وبين موضوع السورة.
وبعض أهل العلم ومنهم: الشوكاني في تفسيره فتح القدير، وتبعه وأخذ ذلك منه صديق حسن خان في فتح البيان لا يقولون بلزوم التناسب، بل وألّف قبلهما مؤلفون في مناسبة الآية مع التي قبلها.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى ما حاصله وفحواه: لا يلزم أن يكون هناك ترابط بين كل آية والآية التي بعدها، صحيح قد يكون هناك ترابط بين الآية والآية التي سبقتها والآية التي تتلوها، ولكن ليس هذا في كل وقت وحين.
فقد تأتي آيات مستقلة تنشئ معنىً جديداً كما في سورة البقرة، حيث ترى آيات تتعلق بالطلاق، وآيات أُخر تتعلق بالربا، وآيات تتعلق بالجهاد، وآيات نصفها عن الربا ونصفها في الحث على تقوى الله، فأحياناً تجد آيات لها صلة بالآيات التي قبلها في المعنى، ولكن ليس هذا بلازم، فلا يلزم في كل وقت أن يكون هناك مناسبة في المعنى بين كل آية والتي بعدها.
فإن التمس وجه للمناسبة في المعنى فبها ونعمت، وإن لم يكن هناك اتصال ولا مناسبة فليس هناك شيء ملزم من الكتاب والسنة يقول إنه لابد أن تكون الآية متصلة بما قبلها في المعنى، أو منفصلة عما قبلها في المعنى.(64/15)
مسألة ترك العمل والاتكال على ما في اللوح المحفوظ
{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:10-11] .
وهنا بحث أصولي عقائدي ذو أهمية، قوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11] ، إذا كان الأجل لا يؤخر، فلماذا يدعو الرسول بطول العمر، ويقول في شأن أنس: (اللهم أطل عمره) ؟ ولماذا ندعو أيضاً بسعة الأرزاق، ونقول: يا رب ارزقنا وأنت خير الرازقين؟ والرزق مقدر لنا ونحن في بطون أمهاتنا، وعلى شاكلتها جملة من المسائل.
إذا كان الشفاء مقدراً في وقت بعينه، فلماذا أرفع يدي وأقول: يا رب اشفني؟ وإذا كان النجاح مقدراً، فلماذا أقول: يا رب نجحني في الامتحان؟ مسائل في الحقيقة أورد بعض المفسرين عندها إشكالات في غاية الطول، والمخرج منها اتباع الوارد عن رسول الله.
أما الإجابة على ما سبق فإجابة إجمالية ثم تفصيلية.
الإجابة الإجمالية: أولاً: أننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن الآجال مقدرة وأن الأرزاق مقدرة، ومع هذا الاعتقاد نعمل كما أمرنا ربنا وكما أمرنا رسولنا، وليس لنا وراء ذلك شيء، وبهذا أرشد رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لما سأله سراقة بن مالك فقال: (يا رسول الله أرأيت العمل الذي نعمل، عمل جرت به المقادير، وجفت به الأقلام، وطويت عليه الصحف، أم عمل مستأنف؟ قال: بل عمل طويت عليه الصحف، وجفت به الأقلام، وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل إذاً يا رسول الله؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) .
فأهل الإسلام والذي سار عليه أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم هو اعتقاد أن الأمور مقدرة، والعمل كما أمرهم الله وكما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعون ما وراء ذلك الخوض في الفلسفات التي تأتي من وراء ذلك، والله أعلم.
أما الإجابة التفصيلية ففي وقت لاحق إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،(64/16)
الانشغال بمتاع الدنيا عن ذكر الله
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9] .
هذا نداء من الله لجميع المؤمنين، فإن الناس الآن قد شغلوا بدنياهم وأموالهم شغلاً ألهاهم عن ذكر الله، فتجد مثلاً أخاً من إخواننا التجار شغلته تجارته حتى عن المكتوبات، وتجد أخاً طبيباً شغله طبه عن مجالس العلم حتى هجر مجالس العلم تماماً، وتجد أخاً مهندساً شغلته هندسته عن تلاوة جزء من كتاب الله في كل يوم.
فلابد أن تنظم نفسك، وتنظم وقتك، وتنظم عملك، ولا تجعل الدنيا والأموال تلهيك، طبيب مثلاً يفتح العيادة من العصر إلى الساعة الواحدة في الليل، ليس من أجل المرضى، بل من أجل جيبه في الدرجة الأولى، ولا يعنيه شأن المرضى في كثير من الأحيان، إلا من رحم الله، فإذا لم تضبط نفسك وتدخر لأخراك شيئاً، أتيت يوم القيامة من المفلسين.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9] ، والآية الأخرى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] .
فلا ينبغي أن تُشغل عن ذكر الله بأي شيء و {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] ، وقد يبارك الله في المال القليل الذي تصحبه دعوة بالبركة فيه، وتصحبه آية من كتاب الله قد تليت، أو حديث لرسول الله قد حفظ.
وهذه الآية الكريمة آية محكمة عند الجميع، ليست بمنسوخة بالاتفاق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9] .(64/17)
فقه الإنفاق
قوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون:10] ، بعض العلماء يقول: (من) هنا للتبعيض، أي: لا تنفقوا كل ما رزقناكم، ولكن أنفقوا شيئاً مما رزقناكم، وهي الزكوات المفروضة عند فريق من المفسرين، وهي كقوله تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] ، فقوله تعالى: (وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) ، أي: لا يسألكم إنفاق جميع أموالكم، إنما يسألكم جزءاً من أموالكم، فـ (من) للتبعيض، أي: أنفقوا شيئاً مما رزقناكم.
وقد تقدم أن للإنفاق فقهاً، متسعاً يدور حول قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29] ، وأيضاً يحكمه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِه كَفُوراً} [الإسراء:27] ، وقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دينار تصدقت به، ودينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك) .
ويضبطه أيضاً: (ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله) ومع ذلك: (الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، فتسبك هذه المسائل سبكة فقهية مأخوذة من هذه الأحاديث، حتى تعرف متى تنفق وفي أي موطن تنفق، ومتى تسعى في الكسب ومتى تفرغ وقتاً للطاعات والعبادات؟(64/18)
الأسئلة(64/19)
حكم إعطاء المتزوج بهاشمية من الزكاة والصدقة
السؤال
شخص زوجته من بني هاشم، فهل يحرم إعطاؤه من الزكاة أو الصدقة؟
الجواب
نعم يجوز إعطاؤه من الصدقة، ولا يجوز إعطاؤها هي من الصدقة، فهو يعطى من الصدقة، لأن مسئولية البيت في الإنفاق عليه هو وليست عليها، (والنبي صلى الله عليه وسلم كان في بيته، فقرب إليه طعام، وكان قد رأى برمة -يعني: صحفة فيها لحم- فقال: ألم أر البرمة؟ قالوا: لحم تصدق به على بريرة يا رسول الله، قال: هو لها صدقة ولنا هدية) ، فاستحالت الصدقة من بريرة إلى هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.(64/20)
حكم قتل القطة المؤذية
السؤال
لدينا قطة كثيرة المشاكسات، وتصيب الطيور عندنا، وربما أكلتها واحدة تلو الأخرى، فهل يحل قتلها أم يحرم؟
الجواب
يحل قتلها، فإن النمل التي هي أشد احتراماً من الهرة -إذ النبي قد نهى عن قتل النمل- إلا أن النبي قد رخص في قتل المؤذي منها لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لدغت نملة نبياً من الأنبياء فأمر ببيت النمل فأحرق، فأوحى الله إليه: هلا نملة واحدة?) ، فاستدل به على جواز قتل المؤذي حتى من الأشياء المحترمة، فالنمل أشد احتراماً من القطة، أما القطة فهي من ذوات الأنياب.(64/21)
حكم زواج رجل من فتاة رضع أخوه من أمها
السؤال
أريد أن أتزوج من فتاة ولكن أخي رضع مع أختها من أمها رضعات كثيرة، فهل يحل لي أن أتزوج منها؟
الجواب
نعم يحل لك؛ لأن أخاك رضع من أمها، لكن إذا كانت البنت رضعت من أمك فإنها تحرم عليك.(64/22)
حكم صلاة الوتر قبل النوم في أول الليل ثم التهجد بعده
السؤال
هل يمكن أن أصلي الوتر في أول الليل قبل النوم؟
الجواب
نعم، لحديث أبي هريرة قال: (أوصاني خليلي بثلاث وذكر منها: أن أوتر قبل أن أنام ... ) .
السؤال: ثم إذا منّ الله علينا باليقظة فهل نصلي تهجدنا؟ الجواب: نعم إذا منّ الله عليك باليقظة فصل مثنى مثنى ولا توتر مرة أخرى، إذ لا وتران في ليلة.(64/23)
حكم رجوع زوج سب الدين إلى زوجته بعقد جديد
السؤال
زوجي سب الدين، وعلمت أن سب الدين كفر، فقلت له: إنني محرمة عليك إلا أن تتزوجني مرة أخرى بعقد جديد، هل هذا صحيح؟ ولو كان صحيحاً ماذا أفعل؟
الجواب
ليس بصحيح، إذا تاب فلا يلزم إنشاء عقد جديد للزواج؛ لأن الكفار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسلمون ويبعد أن يقال: إن كل الكفار أسلموا مع أزواجهم في آنٍ واحد، فهذا يسلم الآن وزوجته تسلم مثلاً بعد شهر أو بعد يوم أو بعد سنة أو بعد سنتين، وبعدها ترجع إليه، ولم يرد في حديث ثابت أنه أنشأ أحدهم عقداً جديداً لرجعة زوجته إليه.
ورد حديثان في شأن زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما ضعيف، وكل منهما يضاد الآخر، لكن أراحنا ضعفهما لتضادهما.
الأول: أن النبي أعاد زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع بعقد جديد وبصداق جديد، وهذا ضعيف.
والثاني: أنه أعادها إليه بالعقد الأول والصداق الأول، وهذا أيضاً ضعيف.
لكن عموم أحوال سائر الصحابة رضي الله عنهم تدل على أنه ما ورد أن واحداً جدد عقده مع زوجته بعد أن أسلم، فإذا سب هذا الشخص الدين فلابد من النظر إلى المخرج، وإن كان بعض العلماء يقولون: نشدد في الزجر ولا نحلل في مثل هذه المسألة حتى لا يتهاون الناس بها، لكن لأن المجلس مجلس علم فلابد أن تعرف الأحكام.
هناك فرق بين من يسب الدين لكونه دين الإسلام، ويسب الإسلام قاصداً بذلك الإسلام، وبين شخص يسب الشخص في صورة سب الدين، كلفظة جرت على اللسان، فهذه النية تختلف عن تلك النية.
فالشاهد: أنه لا إعادة للعقد إذا تاب من سبته.(64/24)
الجمع بين كون سعد بن أبي وقاص حارساً للنبي وبين قوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)
السؤال
كان سعد بن أبي وقاص يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هل يدل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] على عدم اتخاذ الحجاب؟
الجواب
قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ} [المائدة:67] ، لا تمنع من اتخاذ البوابين، فالرسول أيضاً في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله، جاء عمر فقال لغلام أسود يقال له رباح: يا رباح استأذن لي على رسول الله، قال: قد استأذنته فلم يأذن، فلا يمنع أن تتخذ حرساً أحياناً وأن تترك الحرس أحياناً، على حسب الحال.(64/25)
حكم لعب الأطفال
السؤال
هل لعب الأطفال حرام؟
الجواب
لعب الأطفال ليست محرمة.(64/26)
حكم من قال لزوجته: أحضري أهلك وفي ستين داهية
السؤال
حدثت مشكلة بيني وبين زوجتي، فرفعت صوتها وقالت: طلقني، وأنا حريص وحذر جداً من إطلاق هذا اللفظ، ولكني غضبت وقلت لها: (أحضري أهلك وفي ستين داهية) ، ولما ذكرت ذلك لها أقسمت بالله أنها لم تطلب مني الطلاق، مع العلم بأنها لم تخرج من المنزل ولم يأت أحد من أهلها، فما حكم الإسلام في ذلك؟
الجواب
ليس فيما ذكر شيء، وهي ما زالت زوجته ولم تقع طلقة.(64/27)
أحاديث ضعيفة
السؤال
ما هو حكم حديث: (أول من يأخذ كتابه بيمينه عمر) ، وحديث: (الملك الذي طاف في الجنة سبعين سنة، ثم تعب فاستراح، فأتت حوراء من حور العين) ، وحديث: (الدابة التي أمرها الله أن تبتلع السماوات والأرض) ؟
الجواب
كل هذه الأحاديث الثلاثة المذكورة ضعيفة.(64/28)
حكم الدعاء أثناء الإقامة
السؤال
ما هو حكم حديث الدعاء أثناء الإقامة؟
الجواب
هناك دعاء إسناده حسن.(64/29)
حكم حديث: (كان النبي إذا صلى المغرب ذهب إلى بيته.)
السؤال
حديث: (كان إذا صلى المغرب ذهب إلى بيته ولا يكلم أحداً حتى يصلي ركعتين) ؟
الجواب
لا يحضرني الحكم عليه.(64/30)
حكم رواية الحديث بالمعنى
السؤال
هل تجوز رواية الحديث بالمعنى؟
الجواب
نعم تجوز رواية الحديث بالمعنى إذا كنت عالماً بما يحيل المعنى، يعني: عالماً بالألفاظ ومدلولات الألفاظ.(64/31)
حكم رد المشتوم على الشاتم
السؤال
كانت لي بنت مخطوبة ولم يحدث نصيب وأرجعنا لهم الشبكة، وبعدها انهال الخطيب عليَّ بالشتم المقذع في الهاتف، وللأسف رددت عليه شتمه، وقلت له: يا ابن (ال ... ) ، المهم أني شتمته بأمه، وأخاف من القصاص يوم القيامة، فهل أطلبها وأعتذر لها، مع العلم بأن في ذلك إحراجاً لنا وضرراً علينا؟
الجواب
البادئ أظلم، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم) ، فإذا رأيتِ أنكِ ستمته بالقدر الذي شتم فهذه بتلك والبادئ أظلم، وإلا فالتحلل من المظالم وذلك إذا شعرتِ أنكِ ظلمتيه، كما حث على ذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.(64/32)
حكم إصلاح سيارات الشرطة
السؤال
أنا (ميكانيكي) وتأتي إليَّ سيارات الشرطة لأصلح ما بها من أعطاب، فهل عليَّ إثم؟
الجواب
ليس عليك إثم.(64/33)
حكم قراءة الفاتحة على روح المتوفى
السؤال
هل قراءة الفاتحة على روح المتوفى من السنة؟
الجواب
لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(64/34)
المحارم مؤقتاً وحكم جلوس المرأة معهم بدون نقاب
السؤال
من هم المحارم المؤقتون للمرأة، وهل يجوز أن تجلس معهم بدون نقاب؟
الجواب
المحرم المؤقت للمرأة لا يحل له السفر بها ولا الخلوة بها، بل هو مؤقت، يعني: أنت محرم مؤقت لأخت زوجتك؛ لأنك لا تجمع بينها وبين أختها، ومع أنك محرم مؤقت لها فلا تسافر بها ولا تخلو بها، فقد تعجبك بها فتطلق الزوجة وتتزوجها، وكذلك عمة الزوجة وخالة الزوجة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها) .(64/35)
حدود عورة المرأة مع المرأة
السؤال
هل عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل؟
الجواب
الجمهور يقولون: إن عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل.(64/36)
حكم ربط المحبلة أو استئصال الرحم
السؤال
هل عملية ربط المحبلة أو استئصال الرحم حرام أم حلال؟
الجواب
يُنظر إلى السبب من وراء هذه العملية، والغرض الذي من أجله تمت هذه العملية، وعلى ذلك يأتي الحكم، والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله،،،(64/37)
تفسير سورة التغابن
سورة التغابن هي إحدى سور القرآن العظيمة، حيث افتتحت بتسبيح الله وتمجيده والثناء عليه، ثم عرجت على ذكر يوم القيامة وهو يوم التغابن الذين يغبن فيه أهل الجنة أهل النار، كما اشتملت هذه السورة على ذكر طاعة الله ورسوله وخطر التولي عنهما، وفي آخرها بينت أعداء الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وأن الواجب على الإنسان أن يكون مع ربه ويتقيه حتى يسلم من شرور الأعداء.(65/1)
تفسير قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ.)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1] .
هذه السورة هي سورة التغابن، وهي كما قال بعض العلماء: آخر سورة من المسبحات، وقد ورد في فضلها حديث ضعيف تالف الإسناد، ألا وهو: (ما من مولود يولد إلا وتشتبك عند رأسه خمس آيات من سورة التغابن) .
يقول الله سبحانه وتعالى في مطلع هذه السورة: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [التغابن:1] أي: ينزه الله سبحانه وتعالى كلٌّ من في السموات ومن في الأرض، عن كل عيب وعن كل نقص، {لَهُ الْمُلْكُ} [التغابن:1] أي: ملك السموات والأرض وما بينهما، {وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن:1] أي: الثناء من جميع الخلائق، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1] .
فإن قال قائل: هل يثني ربنا سبحانه وتعالى على نفسه في قوله سبحانه: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن:1] ؟ فالإجابة: نعم، إن الله سبحانه وتعالى يثني على نفسه وليس لنا أن نثني على أنفسنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لك الحمد أنت كما أثنيت على نفسك) ، فربنا يثني على نفسه، أما نحن فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] .(65/2)
تفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ.)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِن} [التغابن:2] .
قال جمهور المفسرين: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِن} [التغابن:2] أي: خلقكم فمنكم كفار ومنكم مؤمنون وهم في بطون الأمهات، أو حتى قبل أن تخلقوا في بطون الأمهات، فإن الله سبحانه وتعالى قد مضى أمره وجرت سنته في الخلق، على أن من الخلق من خلق كافراً ومنهم من خلق مؤمناً، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] ، (ذرأنا) أي: خلقنا، وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] أي: سبق في علمنا وفي كتابتنا أن لهم الحسنى، (أولئك) عن النار (مبعدون) ، وقال الله سبحانه وتعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود المتفق عليه: (فيسبق عليه الكتاب -أي: المكتوب عليه- فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، أو يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ، والشقاوة والسعادة مقدرتان.
فمن أهل العلم من قال: إن قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ} [التغابن:2] أي: خلق خلقاً هم في أصل خلقتهم كفار، قال عليه الصلاة والسلام عن الغلام الذي قتله الخضر: إنه طُبع كافراً، وخلق خلقاً آخرين في أصل خلقتهم، هم أهل إيمان، وهذا رأي جمهور المفسرين في هذا الباب.
بينما اختار آخرون رأياً آخر، وقالوا إن معنى قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ} [التغابن:2] ، لما خلقكم اختار قوم منكم الكفر، واختار قوم منكم الإيمان، وأوردوا شاهداً لهذا، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45] ، أي: لما خلقها من ماء بدأ بالتقسيمات فقال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور:45] .
واستشهد قائل هذه المقولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ، إلا أن الاختلاف حدث في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) ، ما معنى الفطرة؟ وما المراد بها؟ فرأى بعض أهل العلم: أن المراد بالفطرة: الإسلام.
ورأى آخرون: أن الفطرة: هي الخلقة التي خلقه الله عليها، سواء كانت الإسلام أو غير الإسلام، وفي هذا تفصيلات أخرى لعلها تأتي في باب أوسع إن شاء الله.
لكن رأي الأكثرين مبني على أن أصل الخلق منهم كافر في تقدير الله وفي علم الله سبحانه وتعالى، ومنهم مؤمن كذلك في علم الله وفي تقدير الله سبحانه.
فإن قال قائل: فما فائدة العمل إذاً والأمور مقدرة؟ قلنا: العمل امتثال لأمر نبينا صلى الله عليه وسلم لما سأله الشابان الأنصاريان: (ففيم العمل إذاً يا رسول الله؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) .(65/3)
تفسير قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ.)
قال الله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن:3] .
الباء في قوله تعالى: (بالحق) ، من أهل العلم من قال: إنها بمعنى اللام، أي: خلق السموات والأرض للحق، فلم يخلقها عبثاً ولا لهواً، بدليل قوله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16] ، وقوله: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:39] ، وتقدم مزيد من التفسير لهذه الآية.
(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) هذه الآية كقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] ، ومن أهل العلم من جعل الضمير في قوله تعالى: ((وصوركم)) راجعاً إلى آدم صلى الله عليه وسلم؛ بدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11] ، فآدم عليه السلام صور في أحسن تقويم وفي أتم خلق، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم واصفاً خلق آدم: (خلق آدم وطوله في السماء ستون ذراعاً، فما زال الخلق في تناقص حتى الآن) .
ومنهم من قال: هو راجع إلى ذرية آدم، فربنا سبحانه وتعالى خلقها في أحسن الصور، ليست منكبة على وجوهها في الأرض، ولا تمشي على أربع، بل خلقها معتدلة حسنة الاستواء وقوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن:3] : فيه دليل على أن الذي يصور هو الله سبحانه وتعالى، فليس لك من أمرك أيها الوسيم الجميل شيء، وليس لك من أمرك أيها الدميم شيء، فالذي صورك هو الله، والذي جملك هو الله، والذي خلقك على هذه الخلقة التي أنت عليها هو الله سبحانه وتعالى، فمن ثم لا يزدرى شخص لدمامته، ولا يغالى في حب شخص لوسامته وجماله؛ ولذلك يقول العلماء في تربية الأبناء: لا ينبغي أن تحتقر ولداً من أولادك لقلة جماله ودمامته، ولا أن تغالي في حب ولد لوسامته، فالذي يصور في الأرحام هو الله سبحانه وتعالى: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6] ، ثم إنه سبحانه وتعالى لا ينظر إلى الصور والأجساد، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن:3] أي: المرجع والمآب.(65/4)
تفسير قوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ.)
قال سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن:4] .
(ذات الصدور) أي: الأمور التي تكنها الصدور ولا تكاد تخرجها حتى لأنفسها، فهي أمور ملاصقة للصدور لا تفارقها، فالله سبحانه وتعالى عليم بها، فثم أمور تسرها أنت وتبالغ في الإسرار بها حتى لا تريد أن تحدث بها نفسك، فالله عليم بهذه الذوات.(65/5)
تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا.)
قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التغابن:5] .
النبأ: هو الخبر، أي: ألم يأتكم خبر الذين كفروا من قبل، قوله: {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} [التغابن:5] أي: سوء عاقبتهم وعملهم، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التغابن:5] أي: مؤلم موجع.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن:6] ، أي: بسبب تعجبهم لكون الرسول من البشر، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:24] ، وقوله: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47] .
فكان اعتراضهم على إرسال الرسول من البشر، وقد أجاب الله سبحانه وتعالى على هذا الاعتراض، فقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9] ، قال سبحانه: {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6] .(65/6)
تفسير قوله تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا.)
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] .
قوله: (زعم) بمعنى: ظن، والزعم يأتي في كتاب الله وفي سنة رسول الله وفي لغة العرب على معانٍ متعددة: فأحياناً يأتي (الزعم) ويراد به الكذب الصراح، وأحياناً يأتي (الزعم) ويراد به مطلق القول صدقاً كان أو كذباً، وأحياناً يأتي (الزعم) ويراد به القول المشوب بالكذب.
قالت أم هانئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (زعم ابن أمي -أي: علي رضي الله عنه- أنه قاتل رجلاً قد أجرته يا رسول الله، قال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) .
فالزعم هنا بمعنى: الظن، وقد ورد في الأثر وبعضهم رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بئس مطية الرجل زعمه، يعلق عليها كل شيء) .
قوله: {أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] أي: أن لن يكون هناك بعث ولا جمع ولا حساب.
قال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [التغابن:7] : هذه إحدى ثلاث آيات أمر الله فيها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه، ألا وهي قوله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [التغابن:7] فالواو: واو القسم، والآية الثانية: هي قوله تعالى في سورة يونس: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53] ، والآية الثالثة: هي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3] ، فهي ثلاث آيات في كتاب الله أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقسم فيها بربه.
قال تعالى: {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] .
أي: لتخبرن بما صنعتم في دنياكم، وهذا في حق المؤمن، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يدني الله المؤمن يوم القيامة ويضع عليه كنفه ويستره من الناس، ثم يقرره بذنوبه، أعملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا؟ فيقول: بلى يا رب، أعملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا؟ فيقول: بلى يا رب، حتى يظن أنه قد هلك، فيقول الله له: أنا سترتها لك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) .
وأما الكفار والمنافقون فقال تعالى عنهم: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقال للعبد يوم القيامة: عملت كذا وكذا، فيقول: لا، فيختم على فيه بعد أن يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم، فيقول الله له: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً منها، فيختم على فيه فتنطق فخذه بما أحدث) .
وكما قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21] .
فالكل ينبأ بما عمل يوم القيامة، أهل الإيمان ينبئون بما عملوا يوم القيامة، وأهل الكفر ينبئون بما عملوا يوم القيامة، كما قال الله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ، وكما قال سبحانه: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] ، وقال: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] .(65/7)
تفسير قوله تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.)
قال سبحانه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:8-9] .
أما يوم الجمع: فهو يوم القيامة بالاتفاق، ففيه يجمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجمع نوح ويجمع آدم ويجمع رسولنا ويجمع المسيح ابن مريم ويجمع الخلق كلهم في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، أي: المنادي الواحد يسمع جميع الخلق هؤلاء.(65/8)
معنى الغبن
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] : التغابن: من قوله: غُبن فلان: أي: خسر، غبن فلان فلاناً، أي: انتقصه من حقه، وجدير بنا هنا أن نبين بعض أحكام الغبن في التجارات؛ إذ هذا محلها.
فالغبن: أن تشتري سلعة لها ثمن معين، فتشتريها بثمن شديد البخس، مثل سلعة قيمتها مائة، فتشتريها إما بعشرة أو بألف، فإن اشتريتها بألف فقد غبنت أنت، وإن اشتريتها بعشرة فقد غبنت صاحبها، فهذا يرد البيع به عند أكثر الفقهاء، بل ادعى فريق منهم الإجماع على رد السلعة بالغبن الفاحش.
فمثلاً: متعارف على أن الكيلو السكر بجنيه ونصف أو باثنين، ذهبت إلى بقال فباع منك الكيلو بعشرة جنيهات، فيكون قد غبنك غبناً فاحشاً، فترد السلعة بهذا الغبن الفاحش.
مثال آخر: طبيب تعارف الناس على أن الكشف الطبي بعشرة جنيهات، فكشف عليك بمائة جنيه، فهذا يسمى غبناً فاحشاً، ولك أن تطالبه شرعاً بالمبلغ الذي زاد على المعتاد، وهذه صورة مستثناة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) .
وكذلك لو أن بيتاً من البيوت قيمته تقدر بمائة ألف فباعه بمليون، فترد هذه البيعة بسبب هذا الغبن الفاحش، إذ هو نوع من أنواع الغش.
تَرِدْ علينا مسألة هنا أيضاً: هل لتحديد الكسب شيء في كتاب الله، أو في سنة رسول الله؟ هل هناك نسبة للربح في الكتاب أو في السنة؟ ف
الجواب
أنه ليس هناك نسبة للربح في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الأمر في هذه المسائل يردُّ إلى الأعراف وإلى تقديرات الناس، فاعتبار الأعراف وتقديرات الناس له جملة من الأدلة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأحياناً تبيع السلع وتكسب فيها عشرة أضعافها ولا تكون قد غبنت المشتري، فمثلاً: اشتريت قطعة أرض (الآن) المتر بمائة جنيه، ثم صدر قانون فارتفعت أسعار الأراضي فجأة، فالذي بمائة أصبح بعشرة آلاف، فبعتها بعشرة آلاف للمتر الواحد، فكسبت فيها مائة ضعف، وفي نفس الوقت لم تغش ولم تظلم أحداً.
أما إذا غررت بشخص، وبعت له السلعة التي هي بواحد فبعتها باثنين، في أحوال معتادة، فتكون قد غبنته، ويرد البيع بسبب هذا الغبن الفاحش.
فالمسألة إذاً نسبية لا تطرد، بل على حسب الأعراف السائدة، ولتقرير مسألة الأعراف نورد جملة من الأدلة لعلها تنفع في هذا الباب.
فمن هذه الأدلة: اعتبار الأعراف في مسألة مهر المثل، فمهر المثل له أدلته من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] ، فقوله: (إن خفتم أن لا تقسطوا) أي: أن لا تعدلوا مع اليتامى إذا أردتم أن تتزوجوهن، والإقساط مع اليتيمة: أن تبلغ بها أعلى حد في الصداق، فللصداق سنة يقاس عليها.
وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث بروع بنت واشق: (لها مهر مثلها من غير وكس ولا شطط) ، ومهر المثل يقدر بالأعراف السائدة.
وكذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المسيح الدجال، قال: (إن يوماً من أيامه كسنة، وإن يوماً من أيامه كشهر، وإن يوماً من أيامه كجمعة، وإن سائر أيامه كأيامكم، فقالوا: يا رسول الله! هذا اليوم الذي من أيامه كسنة، هل تكفينا فيه صلاة يوم واحد، قال: لا.
اقدروا له قدره) أي: قيسوا الأمور قياساً، فاجعلوا كل زمان يوازي يومكم فيه خمس صلوات، فلا تكفي خمس صلوات في اليوم الذي هو كسنة.
فاعتبار الأعراف والتقديرات له جملة أدلة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ينعكس على مسائل الغبن في البيع أو الشراء.(65/9)
غبن أهل الجنة أهل النار في الآخرة
لو قال قائل: إن الله سبحانه وتعالى ذكر التغابن في كتابه، فدل ذكره للتغابن في كتابه على جواز الغبن؟ فالإجابة: هذا الفهم بعيد عن الصواب؛ لأن الله سبحانه وتعالى اختص يوم القيامة بأنه يوم التغابن، أي: الذي يغبن فيه أهل الجنة أهل النار.
فكيف يغبن أهل الجنة أهل النار في هذا اليوم؟ قال فريق من المفسرين -وهذا أيضاً مأخوذ من قول الله سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]- قالوا: إن للكافر مقعدين: مقعداً في الجنة ومقعداً في النار، وإن للمؤمن كذلك مقعدين: مقعداً في الجنة ومقعداً في النار، فإذا دخل المؤمن الجنة أخذ مقعده من الجنة، وبقي مقعد الكافر شاغراً فيأخذه المؤمن، ويأخذ الكافر مقعد المؤمن من النار، فهنا يحدث التغابن، أهل الجنة غبنوا أهل النار بأخذهم مقاعدهم من الجنة، واستيلائهم على مقاعدهم من الجنة، وأهل النار غُبنوا بأخذهم مقاعد أهل الإيمان في النار، فهذا أحد الأقوال.(65/10)
الغبن بين المظلوم والظالم في الآخرة
كذلك يكون هناك تغابن بين أهل الإيمان وأهل المعاصي، وبين الظالمين والمظلومين، فالتعامل هناك بالحسنات والسيئات، فإذا شُتمت في الدنيا وسُببت وضُربت، فإنك تأخذ مقابل هذا السباب وهذا الشتم وهذا الضرب حسنات من شاتمك وحسنات من ضاربك، فترتفع فوقه درجات، وما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكذلك المظلومون يغبنون الظلمة بأخذ أشياء من حسناتهم، وبأخذ المظالم التي ظلموهم بها حسنات ورفعة في الدرجات يوم القيامة، فالتغابن بين أهل الجنة وأهل النار من ناحية، وبين أهل الظلم والمظلومين من ناحية أخرى، وثم صور أخرى للتغابن يوم القيامة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) أي: خاسر فيهما كثير من الناس، ومنقوص فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ.(65/11)
اجتماع الحسنات مع السيئات التي دون الكفر
قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار} [التغابن:9] .
هذه الآية فيها دليل على أن أهل الإيمان وأهل العمل الصالح لهم أيضاً مع الإيمان والعمل الصالح سيئات ترتكب، وهذا تصديق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) .
وتصديق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر الحديث) ، ومن القرآن قوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر:35] ففيه دليل على أنهم عملوا أعمالاً سيئة وهم من أهل الإيمان، فلا ينبغي أن يزكي شخص نفسه، والله سبحانه أعلم.(65/12)
الرد على المرجئة والمتصوفة
قول الله سبحانه وتعالى: {وَيَعْمَلْ صَالِحًا} [التغابن:9] فيه رد على المرجئة الذين يقولون: يكفي قول: لا إله إلا الله بلا عمل، فالله ذكر هنا: (ويعمل صالحاً) .
وفيه أيضاً رد على الصوفية من وجوه: فإن الصوفية يسوون بين المجانين والعقلاء الذين يعملون الصالحات، بل بعضهم يرفع المجنون درجة فوق الذي يعمل الصالحات، ونصوص الكتاب والسنة تدل على خلاف ذلك، فإن جل الآيات في كتاب الله فيها: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ثم يذكر الجزاء بعدها، في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] ، والمجنون لم يعمل صالحات.
ثم أمره إلى الله كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعة يدلون بحججهم عند الله يوم القيامة، فذكر النبي منهم: المجنون يقول: يا رب! أتاني الإسلام وأنا لا أعقل شيئاً، فيبتلى بالنار لاقتحامها) على ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فهؤلاء المتصوفة الذين يزعمون أن المجانين أفضل من العقلاء، وأن المجانين مرفوع عنهم الحجب والحساب، ومن ثم فهو أفضل من العقلاء، هذا قول مردود بهذه الآية الكريمة.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التغابن:10] .
يلفت بعض العلماء النظر إلى كلمة: (أصحاب) ، فالصاحب: هو من طالت مدة ملازمته لصاحبه، فأطلق على الكفار أنهم أصحاب للنار؛ لطول ملازمتهم لها، وكأنهم قد عقدوا صداقات بينهم وبين النار، لكنها صداقات لا تجلب رحمة.
فكلمة (أصحاب النار) تفيد: طول الملازمة في النار، وكذلك: (أصحاب الجنة) أي: طول الملازمة في الجنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(65/13)
تفسير قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه)
قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه} [التغابن:11] : من العلماء من قال: هنا محذوف مقدر فهم من السياق: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله) أي: وما أصاب من خير أيضاً إلا بإذن الله، وهي كقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] أي: وجعل لكم كذلك سرابيل تقيكم البرد؛ فقال فريق من العلماء: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه) معها مقدر محذوف مدمج فيها، أي: وما أصاب من خير أيضاً فبإذن الله.
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه) : أفادت الآية الكريمة ما أفاد غيرها من الآيات، ألا وهو: أن المصائب التي يصاب بها الأشخاص في أبدانهم أو أولادهم أو أموالهم أو أراضيهم؛ كل ذلك مقدر ومكتوب، وقد قال الله ذلك في آيات أخر، ففي سورة الحديد يقول الله سبحانه وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] ، ثم جاء التعليل من وراء هذا البيان: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23] .
وقوله جل ذكره: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) يفيد المعنى الذي أشرنا إليه: وهو أن الحسنات كذلك مقدرة، والخيرات كذلك مقدرة، وذلك لقوله تعالى: (وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) فما آتاكم مقدر كذلك فما آتاك الله من ذكاء، وما آتاك الله من نباهة ذكر، وما آتاك الله من جاه ومال وزوجات وأولاد؛ كل ذلك مقدر لك ومكتوب، فلا تفرح ولا تبالغ في الفرح، فإن الذي قدره لك هو الله، فقم بشكره وأداء حقه.
قال الله سبحانه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] : قال فريق من أهل العلم: إن المراد بالإيمان بالله هنا: الإيمان بقدر الله، وكما تقدم مراراً أن الاصطلاح الواحد من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتعدد معانيه، لكن يفهم المعنى من السياق الذي ورد فيه، فكلمة: (يؤمن بالله) معناها أعم وأوسع من الإيمان بالقدر، لكن عندما جاءت عقب قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) فهم أن المراد بها الإيمان بالقدر، فأريد بها معنى أخص من معاني الإيمان لكونها جاءت بعد التذكير بالمصائب وبأنها مقدرة، وهذا هو الذي رآه جمهور المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] ، أي: ومن يؤمن أن المصائب مقدرة ومكتوبة، فيقول كما أمره الله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] ، ويقول كما علمه رسول الله: (قدر الله وما شاء فعل) ، فهذا يهدي الله سبحانه وتعالى قلبه.
وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من مخالفة ذلك الهدي في آيات أخر، فقال جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:156] في تصوراتهم وأفكارهم ومعتقداتهم، {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156] ، فذكر الله حال الكفار الذين فارقهم إخوانهم وخرجوا غزاة أو مسافرين فماتوا، فيقولون إذا بلغهم خبر موت إخوانهم: ((لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا)) [آل عمران:156] ، ويتأسفون ويتحسرون على ذلك الخروج، فيجلس الكافر مكتئباً يقول: يا ليت أخي ما خرج، يا ليته لم يسافر.
فنهانا الله عن هذا الاعتقاد السيئ الرديء، فقال: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156] ، فالله جعل هذا التحسر عذاباً يعذب الله به أهل الكفر، قال: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156] .(65/14)
تفسير قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)
قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [التغابن:12] : هذه الآية جاءت عقب قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن:11-12] ، فلقائل أن يقول: ما وجه الربط بين قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن:12] بعد قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11] ؟ أجاب بعض العلماء على الربط بين الآيتين من وجه حسن، فقالوا: قد يكسل شخص في العمل، ويقول: ما دامت الأمور والمصائب مقدرة فلا معنى للاحتراز وللاحتياط ولأخذ الحذر، قالوا: فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن:12] ، فأمرنا الله بالعمل بعد أن بيّن لنا أن الأمور مقدرة ومثبتة، ثم حثنا على السمع المصحوب بالطاعة، لا السمع المصحوب بالعصيان كما هو شأن بني إسرائيل.
قال القرطبي رحمه الله تعالى وغيره من المفسرين: وقد جازف الحجاج بن يوسف الثقفي لما قصر هذه الآية على عبد الملك بن مروان فإنه -أي: الحجاج - تلا هذه الآية الكريمة: (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) وقال: (هذه خاصة بأمير المؤمنين وخليفة الله عبد الملك لا مثنوية فيها) ، ففسرها بلا برهان ولا دليل، قال الحجاج بن يوسف الثقفي: (فلو أمرت رجلاً أن يخرج من باب المسجد هذا فخرج من الباب الآخر لاستحللت قتله) ، وهكذا كان يفعل إذا أمر بأي أمر وخولف فيه، فكان يرى أن المخالف إما أنه كفر وعليه الرجوع عن كفره أو يقتل -والعياذ بالله-، فقرأ هذه الآية على عبد الملك بن مروان بلا أي مسحة من دليل من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا القصر وهذا التخصيص.(65/15)
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ.)
قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:12-14] : (من) هنا للتبعيض في قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ، فليس كل الأزواج أعداء، وليس كل الأبناء أعداء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما يكنز العبد المرأة الصالحة) ، وقال: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) ، وقال زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:5-6] ، وقوله: {وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ، من أهل العلم من قال: ليست العداوة هنا أن ينصبوا لك العداء بالسيف ولا بالضرب، وإن كان هذا قد يرد في حق أقلية، لكن المراد بالعداوة هنا فعل ما يفعله الأعداء، فالعدو يطلق عليه عدو لفعله -عند بعض العلماء- وليس لذاته إلا في شأن الكفار.
فقوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن:14] أي: إن من أزواجكم وأولادكم من يفعل بكم فعل أعدائكم من صرفكم عن طاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأعداء يصرفوننا عن طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكذلك من الزوجات من تصرفنا عن طاعة الله وطاعة رسوله، فتتنزل حينئذٍ منزلة العدو، كذلك: إن من أبنائكم من يصرفكم عن طاعة الله وعن طاعة رسوله، فيتنزل هذا الابن منزلة العدو؛ لصرفه لك عن طاعة الله وعن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمؤدى من العدو ومن الزوجة الصارفة لك عن الدين ومن الابن الصارف لك عن الدين؛ مؤدى واحد.
فـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ} [التغابن:14] من يصرفكم عن دين الله، ومن تفتنون به فتصرفون بسببه عن دين الله، ومن تقعون في المحرمات بسببه، فثم امرأة تحمل زوجها على الكسب الحرام إشباعاً لشهواتها وإرضاء لنزواتها، فتفعل بزوجها فعل الأعداء الذين يحملونه على فعل الحرام، وكذلك كم من ابن يحمل أباه على أن يكتسب له من الحرام ويطعمه، فيفعل بذلك فعل الأعداء مع أبيه.
قال تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14] ، ما وجه إيراد هذا عقب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ؟ قال بعض العلماء: إن وجه الربط يتضح من سبب نزول هذه الآية، فإنه ورد في أسباب نزولها من طريق عن عكرمة عن ابن عباس -لكن فيها كلام-: (أن قوماً أرادوا الإسلام فخرجت لهم نساؤهم وخرج لهم أولادهم يرققون قلوبهم ويقولون: لم تفارقونا وتؤثرون علينا غيرنا؟ لم تذهبون إلى محمد هذا الذي به وبه؟ وطعنوا في رسول الله إلى أن أخروهم عن لقاء رسول الله، فلما التقى هؤلاء الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأوا أن إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان قد سبقوهم فحملوا فقهاً كبيراً وسبقوهم في هذا الطريق، قالوا: والله لنرجعن إلى أهالينا وأزواجنا ولنفعلن بهم ولنفعلن، وتوعدوا أهاليهم الذين تسببوا في تأخيرهم عن الإسلام، فأنزل الله: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14] .
وهذا يتنزل على شخص انتظم مع جماعة من الجماعات التي لا تبني أعمالها على علم شرعي، جلس معها سنوات طويلة فما استفاد إلا القيل والقال، فلما اتجه إلى اتجاه يتعلم فيه كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: لأرجعن إلى من كان يضللني ويصرفني عن كتاب ربي وسنة نبيي صلى الله عليه وسلم فلأعاتبنه ولأزجرنه، كيف جعل غيري يسبقني في هذا المجال! كيف وغيري قد حمل كتاب الله وحمل سنة رسول الله! وأنا ما زلت في بداية طريقي وقد كبر سني ورق عظمي؛ فلأذهبن إليه ولألومنّه ولأستبدن عليه! فالله يقول: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:14-15] أي: اختبار وابتلاء، يبتليكم الله في الأموال ويختبركم فيها وكذلك في الأولاد، {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15] فاتق الله في تربية الأولاد وافعل فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد كان رسولنا يسلك مسلكاً رشيداً في هذا الباب: حب وعطف وحنان مع حزم وعدل وإنصاف، صلوات الله وسلامه عليه.
فلا تهلك نفسك من أجل أولادك، فقد كان رسولنا يحب الحسن أشد الحب، يراه مقبلاً وهو يخطب على المنبر يوم الجمعة، فينزل من على المنبر عندما يرى الحسن والحسين مقبلين وعليهما ثوبان أحمران؛ ينزل من على المنبر ويترك خطبة الجمعة ويحتضن الحسن والحسين ويعلمنا ويقول: (صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] رأيت هذين فلم أصبر) ، ويرى الحسن فيحتضنه ويقول: (اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه) .
ومع هذا كله يرى في فم الحسن تمرة من تمر الصدقة فيستخرجها من فيه، ويقول: (كخ كخ، أما علمت أنَّا آل محمد لا نأكل الصدقة) .
وكان يحب فاطمة حباً جماً، كان إذا أقبل إليها قامت إليه فقبلته وأجلسته، وإذا أقبلت إليه قام إليها فقبلها وأجلسها، ومع ذلك يقول: (والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) ، هكذا يعلمنا نبينا محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم.
وقد تعلم منه أصحابه هذا فلم يفتنوا بأولادهم، عمر رضي الله تعالى عنه العدل العادل، يسمع عن ولده أنه شرب الخمر وأقيم عليه الحد، ولكن أقيم عليه الحد سراً، فلا يقتنع بإقامة هذا الحد على ولده، فكما يقام الحد على الناس يقام الحد على ولده، فأرسل إلى عمرو بن العاص بمصر أن أرسل إليَّ ولدي، فأتى به إلى مدينة رسول الله، فأقام عليه الحد على رءوس الأشهاد.
يقسم عمر الفيء والغنمية فيؤثر أسامة بن زيد على عبد الله بن عمر، فيقول ابن عمر رضي الله عنهما: يا أبتِ! كيف تؤثر أسامة عليَّ ولم يسبقني بمشهد في جاهلية ولا في إسلام، فيقول: إن رسول الله كان يحبه أكثر من حبه لك، فلذلك أوثر أسامة عليك! فهكذا العدل والإنصاف، لا تضيع نفسك من أجل ولدك، يا مدرس لا ترفع ولدك درجات وتبخس الأبناء الآخرين حقوقهم، فربك سبحانه وتعالى سائلك عما استرعاك؟ لا تجامل زملاءك من المدرسين ولا من الدكاترة في الجامعة، حتى يرفعوا ولدك درجات ويخرج ولدك معيداً وغيره أفضل منه ومتفوق عليه، فهذه من صور الفتن التي يبتلى بها الآباء مع أبنائهم، يحمل الابن أباه على الكسب المحرم من أجل إشباع الرغبات، {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء:11] .(65/16)
تفسير قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16] : هذه إحدى الآيات في رفع الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي اختصها الله سبحانه وتعالى برفع الحرج عنها، وبعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لوضع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم من قبلنا، كما قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] ، فرسولنا بعث، ومن بعثته وضع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم من قبلنا، فالحرج موضوع عن أمة محمد.
ومن العلماء من قال: إن هذه الآية ناسخة لقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] .
وبعضهم رام الجمع، ولذلك كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يعلمنا فيما يعلمنا أن نرفع عن أنفسنا العنت والحرج، كما في دعاء سيد الاستغفار: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) ، فقد لا تستطيع أن تقوم على عهد الله وبعهد الله، ولا تستطيع أن تقوم بوعد الله كذلك، فتلقين رسولنا صلى الله عليه وسلم لنا: (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) ، حتى إذا صدر منا خلل يجبر بقولنا: (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) .
وقد بايع بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، قال: (فلقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما استطعت) ، أي: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما استطعت، وكذا قال ابن عمر عند بيعته لبعض خلفاء بني أمية: (أبايعك على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما استطعت) ؛ فهذه الآية من الآيات التي ترفع الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
والآيات في هذا الباب متعددة وكثيرة، وفي الحقيقة أنها عمومات يعمل بها عند أي إشكال أو خارج عن حد الاستطاعة، فكل أمر أمرت به وخرج عن حد طاقتك واستطاعتك فانتقل إلى المرحلة التي بعده، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، وفي بعض الروايات: (فأومئ إيماءً) ، توضأ بالماء، فإن لم تجد الماء فتيمم صعيداً طيباً، فإن لم تجد الصعيد الطيب فصل صلاة فاقد الطهورين بلا ماء ولا صعيد.
إذا سافرت فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن صلاة النافلة على الراحلة حيثما توجهت بك، لكن إذا جاءت الفريضة فانزل، فإذا لم تستطع النزول فصل الفريضة على ما تيسر لك، وإذا كنت في قطار ولم تجد ماء تتوضأ به، فاضرب يديك على الكرسي وتيمم بالتراب الذي عليه، وإذا لم تجد تراباً ولم تجد ما تتيمم به فصل على حالك: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] والآيات في هذا الباب كثيرة متعددة.
وكذلك الأحاديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) ، وليس ذلك في أمر العبادات فحسب بل في سائر التكاليف، كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) ، قال فريق من أهل العلم: إن هذا في الأوامر ولا يتطرق إلى النواهي؛ لأن النواهي الأصل فيها الترك، لكن الأوامر تحمل التكاليف، فافعل منها ما استطعت.
وفي الحقيقة هناك مسائل لا يفتى فيها بصفة خاصة بناءً على دليل خاص فيها، ولكن يعمل فيها بعمومات، فمثلاً: حد الإكراه وحد الاستطاعة يختلف من شخص إلى شخص آخر، فلذلك تجد فتاوى وأقوال العلماء تتنوع وتتعدد في كثير من المسائل، فقد تذهب إلى شخص من أهل العلم وتستفتيه في مسألة، وتذكر له من حالك وملابساتك ما يحمله على إعطائك فتيا تتناسب مع حالك، وتذهب إلى عالم آخر وتقصر في عرض المشكلة فيعطيك فتيا تتناسب مع حالك الذي قصرت في بيانه، فتذهب وتزعم أن الفتيا قد اختلفت من عالم إلى آخر، وأنت الذي قصرت في الإبراز، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولذلك تجد فتاوى الأئمة كـ الشافعي وأحمد رحمهما الله تتنوع وتتعدد والسؤال الموجه واحد، لكن أحد الأشخاص يكون قد استرسل في بيان حاله والثاني قصر في بيان حاله، وهي مسائل دقيقة لا يعقلها إلا العالمون، والله أعلم.
قال تعالى: {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16] ، وهذه دعوة كان ابن عوف يدعو بها في طوافه، طاف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حول الكعبة، فكان يقول في دعائه: (رب قني شح نفسي، رب قني شح نفسي، فقال له قائل: يا عبد الرحمن! لِمَ تكثر من هذه الدعوة؟ فقال: إنك إن وقيت شح نفسك فقد أفلحت كل الفلاح) .
قال فريق من المفسرين: إن الشح هو البخل، وقال آخرون: إن الشح هو أشد البخل؛ إذ هو البخل بما هو في يدك وبما في يد غيرك، فقد تبخل بمالك فيقول لك شخص: خذ هذا المال فأعطه لفلان، فأنت مكلف بإعطاء المال وليس هو مالك، فتبخل أيضاً بإعطاء المال للآخرين مع أنه ليس بمالك، وقد يأتيك شخص ويقول لك: أعط هذه الصدقة للفقراء، فتضن بها على الفقراء، صحيح أنك لا تأخذها لنفسك ولكن تضن بها، فتقول: كيف أعطي هؤلاء؟ وتماطل في العطاء.
فمن العلماء من قال: إن الشح هو البخل، وقال آخرون: الشح هو البخل مع الحرص، وقال آخرون: هو البخل بما في يدك وما في يد غيرك، والله أعلم.
كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى هذا المعنى في حديث: (الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به له النصف) ، أي: الخازن الأمين في بيوت أقوام أثرياء، يضعونه على مخزن البيت خازناً فيقال له: أعط فلاناً وأعط فلاناً، فمن هؤلاء الخزنة خازن يتضايق ويتبرم إذا قال له صاحب المال: أعط فلاناً وفلاناً، مع أنه لا يعطي من مال نفسه، ومنهم خازن ينشرح صدره، إذا قال له سيده: أعط فلاناً وفلاناً، فهذا تفسير ثالث للشح.
ومن العلماء من وسع دائرة الشح فقال: إن الشح لا يقتصر على المال بل يمتد إلى غيره من سائر الحقوق والمتعلقات، كما قال الله في شأن الزوجين المتخاصمين على شيء: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ، وهذا ليس في المال، بل في امرأة ورجل، امرأة كانت تحت رجل فتزوج عليها وآثر الزوجة الثانية عليها ولا حاجة له في الزوجة الأولى، فأراد أن يطلقها فقالت: لا تطلقني، أنت في حل من شأني لا تقسم لي أياماً، فهو يقول في نفسه: لماذا أمسكها ولا حاجة لي فيها؟ لماذا أنفق عليها ولا حاجة لي فيها؟ وهي الأخرى تقول: لماذا لا يعدل بيني وبين الزوجة الجديدة وأنا زوجته؟ فتشح بنصيبها منه، وهو يشح بالمال الذي ينفقه عليها، فيقول الله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ، فمن العلماء من وسع تعريف الشح، فيقول: هو أعم من الشح بالمال.(65/17)
تفسير قوله تعالى: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا.)
قال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17] أصل القرض: القطع والجز، فكما يقال مثلاً: فلان قرض شيئاً، أي: قطع شيئاً، ويقال في التعبير اللغوي: الفأر قرض كذا، أي: قطع منه شيئاً.
فالقرض هو القطع، فمعنى: (إن تقرضوا الله) إن تقتطعوا من أموالكم شيئاً وتقرضونه لله، وهذا مقيد بالقرض الحسن، فلا تقرضوا قرضاً من الربا أو السرقة.
قال: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [التغابن:17] ، فلماذا قال: (تقرضوا) ، والله سبحانه وتعالى صاحب الفضل وإنما جعلنا مستخلفين في هذا المال، وهو الذي يعطي ويهب؟ قال فريق من أهل العلم: إن القرض أطلق هنا؛ لأن الله وعد برده مضاعفاً وبالإثابة عليه، فلذلك جرت الصدقة مجرى القرض، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الشاهد: أن القرض قيد بأنه قرض حسن، وفي الحديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) .
قال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن:17] ، كم حد هذا التضعيف؟ بعض العلماء حاول أن يقيد التضعيف بسبعمائة ضعف، وقال: هذا أكثر ما ورد صريحاً في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن غيره من العلماء أطلق وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تصدق أحدكم بصدقة من كسب طيب كعدل التمرة، فإن الله يتقبلها ويربيها له حتى تأتي يوم القيامة كالجبل العظيم) والجبل بالنسبة للتمرة أكثر من مئات الألوف بل الملايين من الأحجام، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال تعالى: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17] أي: شاكر لأفعالكم التي تصنعونها ابتغاء وجهه، شاكر لنفقاتكم التي تنفقونها ابتغاء وجهه سبحانه وتعالى.
{وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17] ، لا يعاجل بالعقوبة، فإذا أخطأت لم يعاجلك ربك سبحانه وتعالى بالعقوبة، وقد ورد في هذا الباب حديث، وللعلماء في تحسينه وتضعيفه قولان، ألا وهو: (إن ملك السيئات يرفع يده عن كتابة السيئة ست ساعات، فإن فاء المذنب وإلا كتبها) ، فبعض أهل العلم يورد هذا الحديث عند تفسير صفة الله سبحانه وتعالى الحليم، ولا يتعارض هذا مع قول الله سبحانه وتعالى -كما في الحديث القدسي- لملائكته: (إذا هم العبد بسيئة فارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له سيئة) فقوله: (فاكتبوها له) : لا تفيد الكتابة المباشرة؛ فتحمل على الكتابة بعد هذا الوقت المحدد، جمعاً بين الدليلين، والله تعالى أعلم.
وقوله: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17] فيه إثبات صفة الحلم التي هي عدم المعاجلة بالعقوبة، وهي من الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها العباد، فلله صفات ينبغي أن يتحلى بها العباد، وصفات لا يشاركه فيها غيره: (العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قذفته ناري) .
أما صفة الحلم فيحبها الله سبحانه وتعالى في عباده، فثم صفات لله يحبها في عباده: (إن الله جميل يحب الجمال) ، الله كريم يحب الكرماء، الله رحيم يحب الرحماء، الله حليم يحب الحلماء من عباده.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله، قال: وما هما يا رسول الله؟ قال: الحلم والأناة) ، وهذا ثابت في صحيح مسلم وفي غير مسلم بعض الزيادات: (أنا جبلت عليهما يا رسول الله أم تخلقت بهما؟ قال: بل جبلت عليهما) ، فالشاهد: أن صفة الحلم صفة يحبها الله سبحانه وتعالى في عباده، فلا تتعجل بإنزال العقوبات، بل تأنَّ وتريث، فالتؤدة في كل شيء خير، والله أعلم.
قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [التغابن:18] .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(65/18)
الأسئلة(65/19)
استحضار النية عند الاغتسال
السؤال
هل يلزم النية عند الغسل عموماً وعند الغسل من الجنابة خصوصاً؟
الجواب
نعم (الأعمال بالنيات) .(65/20)
صحة الصلاة في مسجد معزول عن القبر
السؤال
بجوارنا مسجد كان يضم ضريحاً، ثم لما أرادوا هدم المسجد وبناءه من جديد، وقف بعض الإخوة وأقنعوا المهندس بنقل الضريح عن المسجد، فاقتنع بذلك ورفض الأهالي، فأقنعهم أن القبر قديم وسبَّب ضرراً للمسجد، ثم بني المسجد مفصولاً عن القبر، وأصبح لكل منهما بناء منفرد، وكان المسجد قديماً متخذاً على القبر، والآن أصبح مسجداً جديداً غير متخذ على القبر، فهل تجوز الصلاة فيه، علماً بأن الإخوة عادوا للصلاة فيه؟
الجواب
تجوز الصلاة في المسجد، إذا أصبح المسجد مستقلاً عن القبر، والله أعلم.(65/21)
جماع الحائض والنفساء
السؤال
رجل جامع زوجته أثناء نفاسها ولكنه لم يباشرها، مع العلم أنه كان حريصاً على أن لا يباشرها؟
الجواب
إذا جامع الزوجة أثناء النفاس أو أثناء الحيض فهو آثم، وكفارة هذا الإثم: فعل ما استطاع من خيرات.
أما كونه آثماً فلأن النفاس يجري مجرى الحيض، والله يقول في شأن الحيض: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] ، وقد جاءت أحاديث مضطربة تفيد أن الكفارة دينار أو نصف دينار أو ربع دينار، فنرجع إلى الأصل أن الإثم يكفر بعمل صالح؛ لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) .(65/22)
التفصيل في مسألة التورق
السؤال
ما حكم من يشتري شيئاً بثمن غالٍ أو بثمنه الأصلي بالشيكات، ثم يبيعها بأقل من ثمنها ليأخذ ثمنها مالاً، وما حكم من اشترى من هذا الرجل الأخير؟
الجواب
مثال هذا: رجل ذهب واشترى سيارة بمائة ألف جنية بالتقسيط، وأخذ السيارة وباعها بثمانين ألف جنيه نقداً كي يتصرف في الثمانين ألفاً، فليس عندنا دليل يمنع، إلا أن من العلماء من قال: هذه المسألة تسمى التورق، ومنعوها إلحاقاً ببعض أبواب الربا، لكن ليس عندنا دليل صريح بالمنع، ما دام لم يبعها للشخص الذي اشتراها منه، أما إذا باعها من الشخص الذي اشتراها منه، فتكون حينئذٍ بيعتين في بيعة، وهي التي حرمها جمهور العلماء، والله أعلم.
السؤال: إذا كان هناك تواطؤ منهما؟ الجواب: إن كانت هناك حيلة أو تواطؤ على الربا فهو حرام.(65/23)
جواز تنازل الزوجة عن قسمها للزوجة الأخرى
السؤال
إذا أرادت امرأة أن تتزوج من رجل متزوج بأخرى، ورضيت أن يقسم لها يومين في الأسبوع وللأولى باقي الأسبوع كي ترضيه وترضيها، وهي أيضاً راضية، هل في ذلك إثم؟
الجواب
ليس في ذلك إثم، فقد تنازلت سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن يومها لـ عائشة.(65/24)
حكم الملاكمة
السؤال
ما حكم الملاكمة؟
الجواب
الملاكمة فيها ضرب في الوجه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه) ، وفيها تكشف وتعر كما هو واضح.(65/25)
حكم التماثيل
السؤال
ما حكم تماثيل أبي الهول وغيره؟
الجواب
هذه التماثيل من المفروض أن تهدم، ففي الحديث: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته) ، لكن من الذي يهدمها؟ لا نستطيع.(65/26)
حكم مباشرة المرأة العمل
السؤال
تقول السائلة: مرتبها مائة وعشرون جنيهاً، وزوجها يأخذ للبيت ستين جنيهاً ويتبقى لها ستون جنيهاً، هي مواصلات، ولكنه الآن غضبان يريد أكثر من الستين، تقول: مع العلم بأن مبلغ الستين لا يكفيني وحدي، فماذا أفعل؟
الجواب
الأصل أن العمل لا يجب عليها بالإجماع، والإجماع منعقد على أن نفقة المرأة واجبة على الرجل، فهي الآن تعمل وتنفق، وتعطيه ستين جنيهاً ولكنه طماع.(65/27)
حكم حديث أبي أميمة في تفسير قوله تعالى: (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ)
السؤال
عن أبي أميمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:16-17] ، قال: يقرب إلى فيه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعائه حتى يخرج من دبره) .
الجواب
إسناد الحديث ضعيف، لكن معناه قال به جمهور المفسرين.(65/28)
حكم الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بتفسير المهل بعكر الزيت
السؤال
ما صحة الحديث في معنى قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج:8] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كعكر الزيت) .
الجواب
هذا الحديث حسنه كثير من العلماء.(65/29)
صحة حديث: (لا ضرر ولا ضرار)
السؤال
ما حديث: (لا ضرر ولا ضرار) .
الجواب
صحيح.(65/30)
الطلاق بيد الزوج
السؤال
هناك زوجة ثانية لأخ ملتزم، وكان زواجها خفية عن أهله؛ لأن زوجته الأولى قريبة له، ولما عرف أخوه الأكبر طلب منه أن يطلقها، وهي رافضة هذا الطلاق؟
الجواب
إذا طلقها فقد وقعت؛ لأن الأمر بيده.(65/31)
نقض عقد الزواج بسبب سب الزوج دين الزوجة
السؤال
زوجة سب زوجها الدين مرتين بلفظ: عند دينك، والآخر: بدين أهلك، فهل هذا السبب ينقض العقد؟
الجواب
إذا تاب الزوج من هذا السباب فالعقد صحيح.(65/32)
حكم اقتناء الصور للذكرى
السؤال
ما حكم تصوير الصور للذكرى دون حاجة؟
الجواب
تصوير الصور للذكرى حرام، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله المصورين) ، ويقول: (لا تدع صورة إلا طمستها) ، ولم يتصور الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نتذكره، وكان الفنانون الذين يصنعون التماثيل موجودين على عهده صلى الله عليه وسلم ولم يصوروا له صورة، صلى الله عليه وسلم.(65/33)
بقاء الزوجة عند زوج يصلي أحياناً
السؤال
زوج يصلي أحياناً ويترك الصلاة أحياناً، هل أفارقه أم لا؟
الجواب
الزوج الذي يصلي أحياناً ويترك الصلاة أحياناً مسلم آثم، متوعد بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] ، وبقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) .
لكنه في التقعيد الكلي مسلم؛ لأنه ليس بجاحد، وهذا رأي الجمهور فيه، فهل تبقى زوجته معه على هذا الوضع، أم تفارقه؟ فابتداءً: أصل المسألة فيها خلاف، فالحنابلة يرون الكفر، لكن الجمهور يرون أنه مسلم وهذا الذي ندين الله به.
ويبقى: هل تفارقه أم لا تفارقه؟ هذا يتأتى على مسألة المفاسد والمصالح المترتبة على الزوجة، فإن كانت ترى أن من مصلحتها المفارقة، وأن لها أهلاً يقومون بها وتتزوج أفضل منه، ففي هذه الحالة تفارقه ولا تبالي فليس له كبير قيمة، أما إذا وجدت أن المفارقة فيها مفسدة لها، فلا تفارقه، فهو مسلم داخل في عداد المسلمين، ولتصبر ولتكثر من تذكيره ونصحه، والله أعلم.(65/34)
حديث الإعانة على حفظ القرآن
السؤال
ما حال حديث الإعانة على حفظ القرآن الكريم: عن عبد الله بن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره بحديث حفظ القرآن) ؟
الجواب
ضعيف.(65/35)
معنى حديث: من مات وليس في عنقه بيعة
السؤال
ما حال حديث: (من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية) ؟
الجواب
هذا في الإمام الذي اتفق عليه المسلمون وأشاروا عليه بالإصبع، وقوله: (مات ميتة جاهلية) ، ليس معناها أنه مات على الكفر، إنما معناها: مات كما يموت أهل الجاهلية الذين كانوا يستنكفون من تأمير شخص عليهم، فأهل الجاهلية كانوا لا يحبون أن يكون عليهم أمير أو كبير، وكل واحد يحب أن يفعل الذي في رأسه، فالالتزام لم يكن عندهم، فمعنى: (مات ميتة جاهلية) ، أي: كما يموت أهل الجاهلية الذين يأنفون من اتخاذ الأمراء، ولكن ليس معناه أنه يكفر.(65/36)
مراعاة المصالح والمفاسد في الزوجة مع زوج يصلي أحياناً
السؤال
ما حكم المعيشة مع زوج يصلي بعض الأحيان؟
الجواب
المسألة لا نستطيع أن نصدر فيها حكماً عاماً، إنما يختلف من حال امرأة إلى أخرى على حسب المفاسد والمصالح، فكل واقعة أوكل زوجة لها ملابساتها الخاصة، لكن التقعيد الكلي أنه مسلم، والمعيشة معه جائزة على رأي الجمهور مع اعتبار أنه جليس سوء، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير) ، لكن فرق بين تحريم المعيشة معه وبين اختيار الأفضل والأولى، فالمسألة مبنية على المفاسد والمصالح، والله أعلم.(65/37)
رؤيا النبي في المنام بدون لحية
السؤال
امرأة رأت النبي صلى الله عليه وسلم في منامها ووصفته وصفاً دقيقاً، إلا أنها قالت: إنها لم تره بلحية، فهل هذا يكون من تلبيس إبليس، أم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يرى ناقصاً منه بعض صفاته؟
الجواب
إذا رأيت شخصاً ليس ملتحياً، قال فريق من المفسرين: ليست بمذمة؛ لأن أهل الجنة قال الله فيهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنهم يحشرون جرداً مرداً) ، فأهل الجنة مرد ليس لهم لحى، وخاصة صفة اللحية إذا لم ترها في شخص، لكن استوفت سائر شروط الرسول صلى الله عليه وسلم، من ناحية الوصف أنه أبيض، ومن ناحية الطول، ومن ناحية الوصف العام الذي ورد في رسول الله، فمن العلماء من يتجوز في مسألة اللحية لهذه الصفة، يقول: إن أهل الجنة مرد، والله أعلم.(65/38)
تفسير سورة الطلاق
لقد شرع الله الطلاق لحكمة، وذلك عند تعذر العشرة الزوجية، والطلاق يندرج تحت الأحكام التكليفية الخمسة، فقد يكون واجباً، وقد يكون حراماً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مباحاً.
والطلاق من الأمور التي تفرح الشيطان الرجيم، فهو يرسل سراياه ليفسدوا بين الناس، فالذي يأتي إليه وقد فرق بين زوجين يقول له: أنت أنت ويلتزمه.
وذلك لأن فعل ذلك الشيطان فيه تفكيك للأسر، وضياع للأولاد، وتهديم للبيوت، وغيرها من المفاسد المترتبة على الطلاق.
وفي سورة الطلاق أحكام عدة، منها: أحكام العدة، والطلاق للعدة وهو طلاق السنة، وأحكام السكنى والنفقة للمطلقة الرجعية، وكذلك الأجرة للمرضع، والنفقة للمطلقة الحامل، وغيرها من الأحكام.(66/1)
معنى الطلاق ومشروعيته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فسورة الطلاق سورة مدينة، تتعلق بالأحكام التي تجري بين المسلمين.
ومعنى الطلاق في اللغة: هو الإرسال والترك.
وفي الشرع: حل عقدة التزويج.
والطلاق قد وردت جملة من الأدلة على إباحته، كقول الله سبحانه وتعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236] ، وقال الله سبحانه وتعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] ، وقال الله سبحانه: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] .
فهذه نصوص أفادت مشروعية الطلاق وجوازه، وقد ثبت أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها) ، وقد روي في هذا الحديث: (أن جبريل أمره بمراجعتها وقال له: راجعها فإنها صوامة قوامة) .
أما كون النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها فثابت، أما مقولة جبريل: (راجعها فإنها صوامة قوامة) ففي إسنادها ضعف، ولكن العلماء قبلوها؛ إذ لا تعارض بينها وبين أصل الحديث عند فريق من أهل العلم، وقد أوصى الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولده إسماعيل أن يغير عتبة بابه، وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كانت تحتي امرأة وكنت أحبها وكان عمر يكرهها، فقال لي عمر: طلقها.
فأبيت، فرفعني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطع أباك) .
فدلت هذه النصوص من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل الصحابة مع انعقاد الإجماع؛ كل هذه دلت على مشروعية الطلاق.
وفي الحقيقة أن الطلاق يأخذ الأحكام الخمسة، فأحياناً يجب الطلاق، وأحياناً يستحب، وأحياناً يباح، وأحياناً يكره، وأحياناً يحرم.
وقد وردت أحاديث في التنفير من الطلاق أكثرها ضعيفة، كحديث: (الطلاق يهتز له عرش الرحمن) ، وحديث: (لعن الله الذواقين والذواقات) ، وحديث: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ، فكل هذه الأحاديث ضعيفة.
والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة ذم الطلاق: ما أخرجه مسلم في صحيحه، وفيه: (أن عرش إبليس على الماء، وأنه يرسل سراياه فيفتنون الناس، فأقربهم وأعظمهم عنده أعظمهم فتنة، فيأتي أحدهم ويقول له: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما فعلت شيئاً.
إلى أن يأتيه آخر فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين زوجته، فيدنيه منه ويقربه ويقول له: أنت أنت) ، فهذا الحديث يصلح للاستشهاد به على ذم الطلاق والتنفير من الطلاق، مع ما في الطلاق من تفكك للأسر، وتهدم للبيوت، وضياع للأولاد، وقطيعة بين الأقارب، وقطيعة بين المسلمين والمسلمات.
لكن أحياناً يندب إليه ويشرع، فقد قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] أي: إن خشيت المرأة هي وزوجها أن لا يقيما حدود الله فيما بينهما فلا جناح عليهما فيما افتدت به، وكذلك قال الله سبحانه: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] ، فأحياناً يشرع التفريق لعلة وهي عدم إقامة حدود الله بين الزوجين.
فالساعي حينئذٍ بالتفريق لعله يؤجر، كالساعي في الإصلاح وكالساعي في التزويج كذلك، وذلك محله إذا خشي الزوجان أن لا تقام بينهما حدود الله، فإن الله قال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] ، وللطلاق أحكام ستأتي في ثنايا السورة إن شاء الله.(66/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ.)
يقول الله سبحانه وتعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لم يقل: يا أيها النبي إذا طلقت النساء؟ للعلماء على هذا إجابات: الإجابة الأولى: أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على ثلاث أنحاء: الأول: فأحياناً يأتي الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون المراد وحده، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب:50] إلى قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] أي: فهي خاصة بك لا يشاركك فيها أحد.
الثاني: أن يأتي الخطاب لرسول الله لكن ليس هو المراد منه قطعاً، كما قال الله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] ، فهذا الخطاب وإن كان موجهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكن المراد منه الأمة، فأبو الرسول وأم الرسول قد ماتا وهو في الصغر.
الثالث: أن يأتي الخطاب لرسول الله ويراد هو وأمته صلى الله عليه وسلم، وهذا من هذا النوع.
هذه إحدى الإجابات على قوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] .
الإجابة الثانية: أن الآية من باب التحول في الخطاب، والتحول في الخطاب يكون لجذب انتباه السامعين، وله أمثله في كتاب الله كما قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22] فقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} [يونس:22] للمخاطب، ثم قال محولاً الخطاب إلى الغائب: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22] .
وكذلك في قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان:21-22] تحول الخطاب من الغائب إلى المخاطب، فكذلك هو في قوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ} [الطلاق:1] ثم تحول الخطاب إلى أهل الإيمان، هذه إجابة ثانية.
والإجابة الثالثة: أن هنا مقدراً محذوفاً، فالمعنى: يا أيها النبي قل للمؤمنين: إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن.
المحذوف هو: قل للمؤمنين.(66/3)
الحكمة من إبقاء الزوجة المطلقة في بيت زوجها
قال تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] : أي: أن الذي يقلب القلوب هو الله، فقد تدخل على الزوجة المطلقة فتراها حزينة منكسرة، وترى الأولاد بجوارها في حال يرثى له، فحينئذٍ تقرر مراجعتها.
وهي الأخرى قد ترى زوجها أصبح مسكيناً لا يجد من يصنع له لقمة العيش، فتجده لا يجيد الطهي، وتجد ثيابه متسخة، فحينئذٍ تفكر هي الأخرى وترجع إلى التنازل عن أخطائها أو التغاضي عن أخطاء زوجها، فالذي يقلب القلوب هو الله سبحانه وتعالى.
قال: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] فهو الرجعة كما قال العلماء.(66/4)
حقيقة الفاحشة المبينة وأحكامها
قال الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] ما هي الفاحشة المبينة التي بسببها يجوز للزوج أن يخرج زوجته المطلقة من البيت؟ من العلماء من قال: إن الفاحشة المبينة هي الزنا، فإذا زنت المرأة وهي تعتد في بيت الزوج، فللزوج أن يخرجها، ومنهم من قال: إن الفاحشة المبينة هي البذاءة والتطاول على أهل زوجها، مثلاً: امرأة لسانها بذيء وطويل، تظل تلعن كل من في البيت: تلعن الزوج، تلعن والد الزوج، تلعن أم الزوج، فقال فريق من العلماء: هي البذاءة على زوجها أو على أهل زوجها.
فهذان القولان هما تفسير الفاحشة المبينة، وثم قول آخر: هو الخروج نفسه، لكنه قول ضعيف.
قال الله سبحانه: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] أي: أن الذي يتعدى حدود الله ويخرج الزوجة المطلقة، أو الزوجة هي الأخرى إذا تعدت حدود الله وخرجت، فقد ظلمت نفسها وأثمت، وأثم زوجها كذلك إن أقرها أو وافقها على الخروج.(66/5)
معنى إحصاء العدة في الطلاق وما يتعلق بها من أحكام
{يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] يعني: عليك أن تعرف اليوم الذي طلقت فيه، وتبدأ في العد، لتنظر هل انتهت العدة أم لم تنته؟ فعلى المرأة أن تحسب جيداً الوقت الذي طلقت فيه، وعلى الزوج كذلك أن يحسب الوقت الذي طلقت فيه امرأته؛ وذلك لأنها تحل للنكاح من بعد هذا الوقت والنفقة تنقطع بعد هذا الوقت، فجملة أمور شرعية مضافة إلى أمر الله سبحانه: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] .(66/6)
عدم جواز خروج المطلقة من بيت زوجها حال العدة
قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] : هذا أدب أخل به أكثر المسلمين الآن؛ فكل من طلق زوجته فإن الزوجة تذهب إلى بيت أبيها، هذا خطأ شديد ومصادمة صريحة لكتاب الله سبحانه، فلا يجوز للمرأة المطلقة أن تخرج، ولا يجوز لزوجها أن يخرجها.
وفي قوله: {مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] إيماء إلى أن البيت ما زال بيتها، فلذلك عبر بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] أي: لا تخرج هي نفسها باختيارها ولا هو يخرجها، فليس لك أيها الزوج وليس لك أيتها الزوجة خيار في هذا، بل لزاماً أن تمكث المرأة في بيت الزوجية تقضي العدة، وهذا بالنسبة للمطلقة الرجعية التي دخل بها.
أما المطلقة قبل المسيس فلا إشكال في أنها بانت في الحال؛ لأنه لم يدخل بها، وكذلك المطلقة المبتوتة التي طلقت ثلاث تطليقات فلا نفقة لها ولا سكنى فتخرج مباشرة؛ لأنها ليست بزوجة، فإذا بقيت المطلقة ثلاثاً في البيت فلعل الرجل يثب عليها فيقع في فاحشة الزنا؛ لأنها بانت منه، أما المطلقة الرجعية فإذا قدر ووثب عليها زوجها فهي رجعة.(66/7)
حكم الطلاق المعلق وأقسامه
صورة أخرى من صور الطلاق المشهورة بين الناس وهي: مسألة الطلاق المعلق.
أولاً: جمهور العلماء يوقعونه إذا وقع الشرط الذي علق عليه الطلاق، فإذا قال الرجل لزوجته: أنتِ طالق إذا خرجتِ، أنتِ طالق إذا دخلتِ، أنتِ طالق إذا طلعت الشمس، أنتِ طالق في رمضان القادم، أنتِ طالق في فصل الربيع، فكل هذه عند الجمهور تقع إذا وقع الشرط الذي علق عليه الطلاق.
ثانياً: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو رأي عدد من السلف، ورأي كثير من أهل العلم، لهم تفصيل في مسألة الطلاق المعلق، فقالوا: التعليق على قسمين: القسم الأول من أقسام التعليق: أن تعلق الطلاق بقصد التهديد أو الحث على فعل شيء، كأن يقول الرجل لزوجته: أنتِ طالق إذا خرجتِ، لا ينوي تطليقاً إنما ينوي تخويفاً وتهديداً، أو: أنتِ طالق إذا لم تفعلي كذا، وهو لا ينوي تطليقاً إنما ينوي حثاً على الفعل.
قالوا: فهذا لا يقع طلاقه وكفارته كفارة يمين.
أما إذا قال لها: أنتِ طالق إذا رأينا القمر، فالقمر لابد وأن يُرى، أو أنتِ طالق إذا رأينا الشمس، فالشمس لابد وأن ترى، قالوا: فيقع إذا علق على شيء سيقع أو كان يقصد الطلاق.
ثالثاً: رأي أبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى، وهو مروي عن الحسن البصري وهو بعض روايات بعض الشافعية، قالوا: لا يقع الطلاق المعلق بأي صورة من الصور، إلا إذا قال للزوجة بعد فعل هذا الشيء: أنتِ طالق.
هذه أقوال العلماء في الطلاق المعلق نبحث لها عن استدلالات: أولاً: لم أقف على أي دليل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة الطلاق المعلق، ولا وقفنا على أي واقعة حدثت بسند صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن طلاقاً معلقاً قد حدث، هذا بالنسبة للأخبار المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الموقوفات على الصحابة فأسانيدها لم تبرز لنا إلا أثراً معلقاً ورد في البخاري، ولكن الحافظ لم يورد له إسناداً، وما اطلعنا له على إسناد صحيح إلى الآن.
فالجمهور قالوا: يقع هذا الطلاق إذا وقع الشرط الذي أخذه على نفسه، لأن هو الذي اشترط على نفسه هذا، فنلزمه ما ألزم به نفسه، وشيخ الإسلام ابن تيمية استدل على التفصيل بأثر صحيح الإسناد عند عبد الرزاق في المصنف، وعند ابن أبي شيبة فحواها: أن امرأة أتت إلى حفصة وقالت: يا أم المؤمنين! إني قلت لهذا الرجل أو لقريب لي أو لعبد: إذا تطلق امرأتك فكل أموالي في رتاج الكعبة - أي: فكل أموالي سأجعلها وقفاً- وكل عبد لي فهو حر، فماذا أصنع؟ قالت لها حفصة: كفِّري عن يمينك وخلي بين الرجل وبين امرأته، فالمرأة لم تقتنع بالإجابة فذهبت إلى ابن عمر فأفتاها بنفس الفتيا، فذهبت إلى صحابي ثالث فأفتاها بنفس الفتيا.
فقال: هذا يدل على أنها تكفر عن يمينها وتعد يميناً، وهو فعل الأصحاب، وهو أولى من غيره، فهذا مستند الذين فصَّلوا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية.
أما أمثلهم استدلالاً رغم قلة القائلين بهذا الرأي، فـ ابن حزم؛ إذ استدل بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب:28] فهذا تعليق {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] فلم يقل لهن: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فأنتن طوالق؛ لأنه إذا قال لهن: (فأنتن طوالق) ، فمعناه: أنه جعل الطلاق لهن، والطلاق عند الفقهاء لمن أخذ بالساق، فقال الله لنبيه: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ} [الأحزاب:28] فرجع الأمر ثانية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو الزوج، قال: فكذلك ينبغي أن يرد الأمر إلى الزوج، فإذا قال الرجل لزوجته: أنتِ طالق إذا اخترتِ كذا، فاختارت هذا الشيء، فإنه يرجع هو ويطلقها بنفسه، فإن تخلف عن التطليق لم يقع عند هؤلاء الذين قالوا بهذا القول، وهو أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى، وهو قول الحسن البصري وقول بعض الشافعية.
والله أعلم.
هذا بالنسبة للطلاق المعلق على وجه الإجمال، وهناك مسائل أخر كطلاق الغضبان وفيها تفصيل يأتي في محله إن شاء الله، وطلاق المكره، وطلاق الموسوس ونحو هؤلاء، وستأتي في ثنايا الشرح إن شاء الله.(66/8)
حكم الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد
نتحول إلى صورة أخرى من صور الطلاق: وهي طلاق الثلاث في المجلس الواحد، كقول الرجل لزوجته: أنتِ طالق ثلاثاً، أو أنتِ طالق أنتِ طالق أنتِ طالق، أو أنتِ طالق عدد نجوم السماء، أو أنتِ طالق ألف مرة! فجمهور العلماء في هذه المسألة يقولون: تقع عليه ثلاث تطليقات، سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأة قال لها: أنتِ طالق ألف مرة؟ قال: نحسب عليه ثلاثاً، ونترك تسعمائة وسبعة وتسعين، لكن ما هي الأدلة على وقوع هذا الطلاق طلاق الثلاث للمجلس الواحد التي استدل بها الجمهور؟ استدل الجمهور على إيقاع الطلاق الثلاث في المجلس الواحد بأن هذا فعل أمير المؤمنين عمر، وتبعه الصحابة على ذلك، وتبعه الجمهور على ذلك، واستدلوا بقصة عويمر العجلاني لما لاعن امرأته عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكرهما الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟ فأقسم الرجل وأقسمت المرأة، فلما رأى الرجل امرأته قد أقسمت أربعة أيمان بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، طلقها ثلاثاً قبل أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم) ، فقالوا: ها هو طلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، فسكوت الرسول بمنزلة التقرير لطلاق الثلاث.
فهذه حجج الجمهور في هذا الباب، لكنها حجج ضعيفة؛ لأنه قد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان طلاق الثلاث في المجلس الواحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعد واحدة، فلما جاء عمر قال: أرى الناس قد تتابعوا على أمر كانت لهم فيه أناة -يعني: استعجلوا فصار كل واحد يطلق امرأته ثلاثاً أو يطلقها عشراً- فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم عمر) .
فأفاد حديث ابن عباس أن طلاق الثلاث في المجلس الواحد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعد طلقة واحدة، وأن الذي أوقعه عليهم ثلاثاًَ هو عمر، وصيغة عمر في حديثه (أرى الناس قد تتابعوا على أمر كانت لهم فيه أناة) تفيد أن عمر فعلها من باب التعزير لهؤلاء المتسرعين في التطليق.
فإذا احتج محتج بأن عمر أوقع الطلاق الثلاث لمن طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد، فقد أجابوا بأن هناك من الأحاديث ما هي وقائع أعيان، ومن الأحاديث ما هي مقعدة لقواعد، وقول ابن عباس: (كان طلاق الثلاث في المجلس الواحد يعد واحدة) هو تقرير لقاعدة سار عليها الناس في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما فعل عويمر فهو فعل خاص، وسكوت الرسول صلى الله عليه وسلم على تطليقه ثلاثاً لا حجة فيه؛ لأن الملاعنة لا تجتمع مع زوجها الذي لاعنها؛ لأنها تحرم عليه على التأبيد؛ ولأن أحدهما ملعون أو مغضوب عليه، فالاستدلال بقصة الملاعنة غير صحيح؛ لأن قصة الملاعنة قصة خاصة في واقعة خاصة، والتفريق بينهما أبدي حتى بدون الطلاق.
هذه إجابة الذين قالوا: إن طلاق الثلاث في المجلس الواحد يعد واحدة، ومنهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقوله هنا موفق لموافقته الدليل الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما الذي يرويه عن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم إن المعنى اللغوي أيضاً للطلاق يقتضيه، فإذا قال الرجل لامرأته: أنتِ طالق، كأنه كان يمسكها، ثم لو جاء بعد مدة في نفس المجلس وقال: أنتِ طالق فلا معنى للقول الثاني فهي مطلقة ابتداءً، لكن إذا راجعها بضمها إليه وقال لها بعد ذلك: أنتِ طالق، فحينئذٍ تحسب طلقة ثانية.
ثم أيضاً من الأدلة التي قوت هذا المذهب بشدة، قول الله سبحانه وتعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فلم يرد أن شخصاً ما طلق ثلاثاً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأوقعها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث تطليقات إلا ما كان من عويمر، وقصته خاصة في الملاعنة، فعلى ذلك يتألق بشدة قول من قال: إن طلاق الثلاث في المجلس الواحد يعد واحدة.
أما الرواية التي فيها: (أن رجلاً طلق ثلاثاً ثم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا كنت تريد أو ماذا قصدت؟) فهي رواية ضعيفة من ناحية الإسناد فلا يستدل بها على المدعى؛ لضعف إسنادها والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا بالنسبة لطلاق الثلاث في المجلس الواحد.(66/9)
ذكر الطلاق السني وتفسير القرء بالطهر
وما معنى قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] ؟ من أهل العلم من يقول: إن معناها: لزمان عدتهن، أي: في زمان العدة، وهو الطهر عند هؤلاء، فاعتبر هؤلاء المراد بالعدة هنا زمان الطهر، ومن ثم فسروا القرؤ في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] بالأطهار؛ لهذه الآية.
ومن العلماء من قال: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] أي: لقبل عدتهن.
والسنة دلت على أن التفسير المعتمد لهذه الآية: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] أي: في وقت طهر لم تجامعوهن فيه، وهذا الذي يسميه العلماء: طلاق السنة، فليس كل من أراد أن طلق يطلق في أي وقت شاء، وإنما يطلق طلاق السنة، وطلاق السنة هو: أن يطلق الرجل زوجته طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، فهذه صورة طلاق السنة.
ومن العلماء من أضاف إليها شيئاً آخر: وهو أن يطلقها وهي حامل قد استبان حملها، كرجل مع امرأته مثلاً وهي حامل في الشهر الخامس أو في الشهر السادس أو في الشهر الأول، ويريد طلاقها، فهل نقول: اتركها بلا طلاق حتى تنتهي التسعة الأشهر؟ لا، فيقولون: إما أن يطلقها وهي في طهر لم يجامعها فيه، أو يطلقها وهي حامل قد استبان حملها، أي: ظهر حملها، أو يطلقها قبل المسيس، أو يطلقها وهي آيسة من المحيض وهو غير مقيد بقيد، فإذا لم تكن تحيض فيطلقها كيفما شاء.
وكلما كان الطلاق على غير السنة فهو طلاق بدعة، والطلاق البدعي: هو ما ليس وفق سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولطلاق البدعة صور: من صور طلاق البدعة: أن يطلقها في طهر جامعها فيه.
ومنها: أن يطلقها وهي حائض.
ومنها: أن يطلقها وهي نفساء، فالنفساء تأخذ أحكام الحائض.
فهذه بعض صور الطلاق البدعي.(66/10)
بيان مسألة اعتبار الطلاق البدعي وحكمه
وبالنسبة لاعتبار الطلاق البدعي، مثل: رجل طلق امرأة وهي حائض، فهل تحسب هذه الطلقة، أو لا تحسب؟ أولاً: إذا تعمد أن يطلقها في وقت حيضها فقد رأى كثير من أهل العلم أنه آثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه أمر عبد الله بن عمر، قال عبد الله بن عمر: (طلقت امرأة لي وهي حائض، فذهب عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فتغيظ النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك) ، وفي رواية أخرى لهذا الحديث وهي ثابتة في الصحيح (مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر) فجعل لها طهرين، فالعلماء يقولون: رواية إمساكها لمدة طهرين من باب الاحتياط فقط.
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم) يفيد تأثيم من طلق امرأته وهي حائض وهو يعلم.
فالخلاصة: أنه إذا كان يتعمد ويعلم الحكم فإنه يأثم عند كثير من العلماء.
ثانياً: هل تقع هذه الطلقة التي وقعت للمرأة وهي في حيضها، أو لا تقع؟ هل تحسب طلقة، أو لا تحسب؟ رأى جمهور العلماء: أن هذه الطلقة تحسب ويعتد بها، وهذا هو الرأي الصحيح الذي تؤيده الأدلة.
وفريق آخر من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وتبعه تلميذه ابن القيم رحمه الله قالا: لا تحسب هذه الطلقة، وكانت استدلالات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهم الله منصبة على الآتي: رواية من طريق أبي الزبير في قصة ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها ولم يرها شيئاً) هذا أول استدلال استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
والاستدلال الثاني: أن ابن عمر سئل عن طلاق المرأة في حيضتها أيعتد بتلك؟ قال: لا يعتد بتلك.
ثم استدلا بشيء من النظر فقالا ما حاصله: كيف نأمره الآن أن يراجعها، فسيراجعها لأمر الرسول بمراجعتها، فتكون قد حُسبت عليه طلقة، ثم إذا جاء الطهر فيطلقها طلقة ثانية فنكون قد حسبنا عليه تطليقتين وهذا من باب التعسير على العباد.
هكذا ذكرا رحمهما الله تعالى.
أما الإجابة على استدلالاتههما رحمهما الله تعالى فمن وجوه: أولاً: حديث ابن عمر الذي من طريق أبي الزبير (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئاً) أطبق علماء علل الحديث على تضعيف هذا الحديث، وعلى توهين هذه الرواية، وهذا هو فصل الخطاب بالنسبة لهذا الحديث: أن الرواية ضعيفة ليست بثابتة بحال من الأحوال، علماء علل الحديث يعللونها ويسقطونها قولاً واحداً.
الشيء الثاني: أن من قبلها من الفقهاء وجه قوله: (لم يرها شيئاً) أي: لم يرها شيئاً شرعياً صحيحاً فهي واقعة لكنه آثم أيضاً، أي من رآها صحيحة لم يجعل لها تعلقاً باعتبار الطلقة أو عدم اعتبارها، لكن إجابة أهل الحديث هو الذي عليه التعويل، وهي أن الرواية منكرة وضعيفة.
الإجابة على الاستدلال الثاني الذي استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وشنع ابن القيم بها على من خالفه، وطار فرحاً بها يريد أن يثبت بها منهجه قال: إن ابن عمر سئل عن رجل طلق امرأته وهي حائض أيعتد بتلك؟ قال: لا، لا يعتد بتلك، فهذه الرواية رواها ابن حزم في المحلى مختصراً لها اختصاراً مخلاً بالمعنى تماماً، وتبعه على هذا الاختصار ابن تيمية رحمه الله، وتبعه على هذا الاختصار ابن القيم في زاد المعاد وطار فرحاً بهذه المقولة! والرواية مطولة موجودة في مصنف ابن أبي شيبة فحواها: أن ابن عمر سئل عن طلاق المرأة وهي حائض: أيعتد بتلك الحيضة؟ وهذا اللفظ هو الذي أسقطه ابن حزم في المحلى في هذه الرواية، فالرواية عند ابن حزم أيعتد بتلك؟ قال: لا، لكن في الرواية الأخرى المطولة: أيعتد بتلك الحيضة؟ فقال: لا.
ويوجد فرق بين قوله: أيعتد بتلك؟ وبين قوله: أيعتد بتلك الحيضة؟ لأنك إذا سألت: أيعتد بتلك؟ قد تقدر محذوفاً وهو: أيعتد بتلك التطليقة؟ لكن إذا قال: أيعتد بتلك الحيضة؟ تحول المعنى تحولاً كلياً، فيكون المعنى أيعتد بتلك الحيضة على أنها من الأقراء التي ذكرها الله في كتابه، وقال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] على رأي من قال إن القرء هو الحيض، فهل يعتد بتلك الحيضة؟ أي: هل تحسبها المرأة من زمان العدة التي تحل بعدها للتزوج ويمتنع عنها النفقة أو لا؟ فلما رويت مختصرة اختل المعنى، لكنها عندما رويت مطولة جاءت صحيحة صريحة، وهي من نفس المخرج الذي عند ابن حزم موجودة عند ابن أبي شيبة، وبوب لها ابن أبي شيبة: باب الأقراء أي: أيعتد بتلك الحيضة من الأقراء أم لا؟ حينئذٍ فُقِدَ هذا الاستدلال لشيخ الإسلام ابن تيمية ولتلميذه ابن القيم.
بقيت مسألة النظر التي طرحها ودار حولها، فالإجابة عليها: أن النصوص الصريحة تدفع هذه الأنظار، والعلماء يقولون: نوقعها أيضاً بالنص، وفضلاً عن النص فهي من باب التعزير، لكن المقدم هو النص؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ل عمر في شأن ولده عبد الله: (مره فليراجعها) ولا مراجعة إلا بعد طلاق، هذا استدلال الجمهور، وجاء في ورواية أخرى: (أن ابن عمر سئل عن طلاق المرأة وهي حائض قال: حسبت عليّ تطليقة) وفي رواية: (أتحتسب تلك الطلقة؟ قال: مه! أفرأيت إن عجز واستحمق) فهذا رأي جمهور العلماء، وهو الصحيح: أن طلاق المرأة في حيضتها وإن لحق المطلق إثم لكنه يقع.(66/11)
لا تجب مراجعة المطلقة في حيض
ثم القول في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم:: (مره فليراجعها) هل هو أمر إيجاب؟ أعني: هل يلزم أن يراجع الرجل الذي طلق امرأته وهي حائض أو هو أمر استحباب وندب وإرشاد؟ أيضاً رأى الجمهور: أن هذا الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ندب وإرشاد لا أمر إيجاب، قالوا: لأنه لا يجبر على معاشرتها من الأصل، واستدامة النكاح لا تجب عليه من الأصل؛ فيجوز له أن يفارقها، فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (مره فليراجعها) التمس له بعض العلماء التماسات، قال بعضهم: لعله رأى منها في حيضتها ما لم يره منها في طهرها، ولعلها إذا رجعت إلى طهرها كانت على حال أحسن منها في حيضتها، فهذه تعليلات، لكن التعويل على أن العلماء حملوا قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (مره فليراجعها) على أن الأمر أمر ندب وإرشاد لا أمر إيجاب.
فعلى هذا نكرر أن رأي الجماهير من العلماء وهم أكثر أهل العلم: أن طلاق المرأة في حيضتها يقع، ومن قال إن طلاق المرأة حال حيضتها لا يقع فأدلته ضعيفة تالفة، لكن روج ما ذكره ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، وكما هو معلوم عن العلامة ابن القيم رحمه الله، أنه طويل النفس في تقرير ما يريد أن يقرره، وتقرير ما يريد أن ينتصر له، فطول نفسه يجعل القارئ يكاد يوقن بأن هذا الكلام صحيح، لكن ما ذكرناه هو رأي جماهير أهل العلم.
والله أعلم.(66/12)
تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ.)
قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [الطلاق:2] لا يراد به ظاهره قطعاً، فليس المراد بقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ} [الطلاق:2] أي: إذا بلغن أجلهن فقد بِنَّ من الأزواج، ولكن المعنى: إذا قاربن بلوغ الأجل، وهذا له نظائر في كتاب الله، مثل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] أي: اقترب.
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [الطلاق:2] أي: إذا قاربن البلوغ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم الخلاء) أي: إذا أراد أن يدخل.
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [الطلاق:2] بلوغ الأجل هو انقضاء العدة.(66/13)
حكم الإشهاد في الطلاق والرجعة وصفة الشهود
يقول الله جل ذكره: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] الإشهاد في الطلاق والرجعة أوجبه كثير من العلماء لهذه الآية ... ) ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي: من الرجال المسلمين، فلا تجوز شهادة الكفار؛ لأن الله قال: {ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ولا تجوز شهادة الفساق من المسلمين؛ لأن الله قال: {ذَوَي عَدْلٍ} [الطلاق:2] وكذلك لا تجوز شهادة النساء؛ لما في هذه المسائل من الشبهات؛ ولأن الخطاب في قوله: {مِنْكُمْ} [الطلاق:2] أي: من رجالكم؛ هذا على رأي جمهور العلماء.
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] تحول الخطاب فقوله: {وَأَشْهِدُوا} [الطلاق:2] خطاب للمطلق، وقوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] خطاب للشهود، فتحول الخطاب على ما بينَّاه آنفاً.
فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] أي: يا أيها الشهود لا تشهدوا من أجل الزوج والزوجة، واجعلوا شهادتكم لله سبحانه وتعالى، {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [الطلاق:2] وهذا أسلوب من أساليب التهييج والحث على امتثال أمر الله، يعني: إن كنت مؤمناً فافعل كما أمرك الله.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] أي: إذا طلقت الزوجة على السنة مرة واحدة في طهرٍ، فإنه قد يكون أمامك فسحة بأن تراجعها على السنة، أما أن تطلق وهي حائض فتضطر إلى أن تطلق مرة ثانية، وكذلك لا تطلق ثلاثاً في مجلس واحد، فتقع في مسائل فقهية شديدة، ولا تجد مخرجاً، فافعل ما علمك إياه الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذا أراد شخص أن يطلق الزوجة وهي حائض وكان منفعلاً، فعليه أن يصبِّر نفسه إلى أن تطهر ثم يمتنع عن جماعها، فلعله إن صبر حتى تطهر ويمتنع عن جماعها يشتاق إليها مرة ثانية وينسى أن يطلقها، والتؤدة في كل شيء خير كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.(66/14)
حقيقة الإمساك بمعروف والمفارقة بمعروف
قال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] الإمساك هنا هو المراجعة، تقول لها: قد راجعتك، {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] أي: تتركها حتى تنقضي عدتها.
فإما أن تمسك بمعروف، وإما أن تفارق بمعروف؛ فالبذاءة ليست من خلق المسلمين، والإضرار بالناس ليس من أخلاق المسلمين، فلست مخيراً أيها الزوج الطاغي أن تطلق كما تشاء وتؤذي كما تشاء قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] ، فإما أن تمسك بمعروف وإما أن تفارق بالمعروف، وليس لك خيار.
فالإمساك بمعروف هو المراجعة، والمفارقة بمعروف هي تركها حتى تنقضي العدة.
وفي الآية الأخرى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231] فمن الناس من يمسك الزوجة بقصد الإضرار بها، كأن يطلقها ثم يتركها ولا يراجعها حتى تقترب عدتها من الانتهاء، فمثلاً: عدتها ثلاثة أشهر، يأتي بعد خمسة وثمانين يوماً ويقول: راجعتك، ثم بعد أن يراجع يقول: طلقتكِ، حتى تعتد ثلاثة أشهر أخرى، وبذلك تطول عليها مدة العدة، فالله نهى عن ذلك بقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة:231] هكذا يقول الله سبحانه وتعالى.(66/15)
تفسير قوله تعالى: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.)
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: من يجعل الله وكيلاً له فالله كافيه، يعني: اجعل الله وكيلاً عنك في زواجك في طلاقك في كل شئونك اجعل الله وفي كل مسائلك، كما في قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9] .
فإذا كنت تريد أن تتوظف في وظيفة حكومية، فاجعل الله وكيلك، فهو نعم الوكيل سبحانه وتعالى، هناك ربط بين رب المشرق والمغرب {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9] فإذا كان لك حاجة في المشرق أو حاجة في المغرب فاجعل وكيلك هو الله سبحانه وتعالى، وكذلك في زواجك وفي طلاقك وفي شئونك كلها.
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: فهو كافيه.
{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق:3] أي: رب العزة ينفذ الشيء الذي يريده سبحانه وتعالى.
{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] فالعدة لها قدر، وكل شيء له قدر كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21] وقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27] كذلك الطلاق والعدد لها مقادير، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] .
فقد يقول قائل: ما هي الحكمة في أن المطلقة تعد ثلاثة قروء؟ نقول: قال الله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] ، وهذا أمر الله سبحانه وتعالى.(66/16)
تفسير قوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ.)
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق:4] أي: كبيرات السن اللواتي انقطع عنهن الحيض.
{إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق:4] أي: إن شككتم، وللعلماء فهيا تفسيران: أحدها: إن ارتبتم في عدتهن فالعدة هنا هي ثلاثة أشهر.
الثاني: إن ارتبتم في الدم الذي ينزل منهن، هل هو دم حيض أو دم فساد أو دم استحاضة ولم تعرفوا، ولم تستطيعوا تحديد الدم، فعدتهن أيضاً ثلاثة أشهر.
{وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] هذا من المقدم والمؤخر فالمعنى: واللائي يئسن من المحيض إن ارتبتم واللائي لم يحضن أي: من الفتيات الصغيرات اللواتي تزوجن قبل الحيض؛ فهؤلاء عدتهن ثلاثة أشهر، أما أولات الأحمال فأجلهن أن يضعن حملهن، فالحوامل من المطلقات أجلهن أن يضعن حملهن فالآية فيهن، وكذلك أولات الأحمال من المتوفى عنهن الأزواج، أجلهن أن يضعن حملهن.
ومن المعلوم أن العلماء في كثير من الأحيان يستدلون بالنصوص العامة؛ وذلك عند غياب النصوص الخاصة، فمثلاً: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمر وما فيها من أجر فقال: ما أنزل علي فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] .
وسئل ابن عباس عن شراب يصنع باليمن يقال له البتع: أحرام هو؟ قال: قال صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام) ، فأحياناً يستدلون بالنصوص العامة عند غياب النصوص الخاصة، لكن أحياناً تستدل بالنصوص العامة ويكون في المسألة نص خاص، فاستدلالك بالعام أحياناً يبتعد عن الصواب، وفي هذه المسألة قد وقع استدلال بالنصوص العامة من صحابيين جليلين فجانبهما الصواب.
فقد سئل ابن عباس -وهو رأي علي أيضاً- عن امرأة مات عنها زوجها وهي حامل متى تنقضي عدتها؟ ففي شأنها آيتان: الآية الأولى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] .
والآية الثانية: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] ؟.
فقال ابن عباس وعلي رضي الله عنهما: تعتد أبعد الأجلين، أي: إذا كانت الحامل في الشهر الأول، فإذا جئنا نطبق عليها قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] فبعد أربعة أشهر وعشر ستكون حاملاً في الشهر السادس، ولا يحل لأحد أن يتزوجها وهي حامل؛ لأنه ستختلط الأنساب، فتعتد بأبعد الأجلين وهو وضع الحمل، وإذا كانت في الشهر الثامن ووضعت فإنها تنتظر حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، فهذا رأي علي وابن عباس فأفتيا بالنصوص العامة.
لكن يوجد في المسألة نص خاص احتج به أبو سلمة بن عبد الرحمن رحمه الله -وهو من التابعين- على عبد الله بن عباس وكان أبو سلمة كثير المراجعة لـ ابن عباس، فحرم من علم ابن عباس كثيراً.
احتج أبو سلمة بن عبد الرحمن رحمه الله تعالى على عبد الله بن عباس بحديث سبيعة الأسلمية (فـ سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حامل فما لبثت إلا ليالي ووضعت حملها، فتجملت للخطاب، فقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما لي أراك متجملة للخطاب؟ والله لا تحلين للنكاح حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر.
فحملت عليها ثيابها وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: إنك حللت حين وضعتِ) .
فاستدل أبو سلمة بما رواه عن أبي هريرة عن رسول الله في قصة سبيعة: على أن المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع حملها، فقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وإن كان سياقه في المطلقات لكن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن سبيعة يفيد أن المتوفى عنها زوجها أيضاً تنقضي عدتها بوضع الحمل.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثَمَّ نساء ليس لهن عدد، وهن المطلقات قبل المسيس، فالمطلقة قبل المسيس، أي: قبل البناء، لا عدة عليها، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49] .
كذلك دب النزاع في عدد بعض النساء كالمختلعات، فإذا افتدت امرأة نفسها من زوجها وقالت: لا أريده.
فمن العلماء من قال: عدة المختلعة كعدة المطلقة سواءً بسواء، ورأى كثير من أهل العلم رأياً آخر: وهو أن عدة المختلعة حيضة واحدة؛ وذلك لإثبات براءة الرحم شأنها شأن المسبيات فيستبرئن بحيضة، وهذا القول مروي عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4](66/17)
حكم طلاق الغضبان وأقسامه
قال تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5] بهذا تقريباً تنتهي أسس مسائل الطلاق.
وثم أنواع من الطلاق تجري بين الناس كطلاق الغضبان، فلزاماً أن يُبَيََّن: طلاق الغضبان للعلماء فيه تفصيل: فمن العلماء من يقول: إن طلاق الغضبان على أقسام ثلاثة، وأحكامه تنبني على درجة الغضب: القسم الأول: إذا كان الرجل قد غضب غضباً شديداً جداً، أخرجه عن عقله ولا يدري مع الغضب ما يقول، فطلاقه لا يقع، لأنه أصبح كالمجنون فيأخذ أحكام المجنون، ولا يقع طلاقه على رأي أكثر أهل العلم، بل نقل البعض الاتفاق على عدم وقوعه.
القسم الثاني من أقسام الغضب: هو غضب معتاد يجري بين الناس، وأنت في كامل عقلك وفي كامل تفكيرك وفي كامل اختيارك، قلت لها وأنت مغضب منها: أنتِ طالق.
قالوا: فهذا طلاقه يقع.
القسم الثالث: المرحلة المتوسطة بين الغضبين: وهو الغضب الشديد جداً الذي تدري معه ما تقول وتعلم ما تقول، فأنت تعرف الذي تقوله وتدري ما تقول، ولكنك لا تستطيع أن تمنع نفسك، فغضبت وانفعلت انفعالاً شديداً؛ مثلاً: زوجة جاءت ولطمت زوجها على قفاه لطمة شديدة، فقال لها: أنتِ طالق.
هو عارف الذي صدر منه، ولكن لم يستطع أن يمنع نفسه من شدة الغضب، فهذه هي التي اختلف العلماء فيها، فرأى فريق منهم أن مثل هذا الغضبان لا يقع طلاقه؛ لأنه قد حدث على عقله نوع من أنواع الإغلاق، وقد ورد حديث يعله أبو حاتم الرازي في كتابه العلل، وبعض العلماء يحسنه: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) والجمهور يفسرون الإغلاق بالإكراه.
ومن العلماء من أطلق القول في تفسير الإغلاق وقال: الإغلاق كل مؤثر يؤثر على العقل ويجعله يتصرف على غير طبيعته وغير هيئته، فقالوا: إن الغضب الشديد يحدث نوعاً من أنواع الإغلاق، والإكراه يحدث نوعاً من أنواع الإغلاق، والضرب الشديد والمرض الشديد كذلك.
مثلاً: شخص مصاب بحمى شديدة أثرت على عقله ببعض التأثيرات، فأصبح يتكلم بأشياء لا يستطيع أن يمنع نفسه منها، وإن كان يدري معناها، فهذه هي المرحلة المتوسطة من مراحل الغضب، التي فيها نزاع بين العلماء، ويرى كثير من أهل العلم: أن هذا المطلق لا يقع طلاقه، واستدل هذا القائل بحديث: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) وقد تقدم الكلام على سنده.
واستدل أيضاً بفعل موسى صلى الله عليه وسلم لما ألقى الألواح حين وجد القوم يعبدون العجل، وإلقاء الألواح بمنزلة إلقاء القرآن، وهذا كفر، لكن غفر ذلك لموسى صلى الله عليه وسلم، قالوا: فالطلاق من باب أولى، والله سبحانه وتعالى أعلم، هذا بالنسبة لطلاق الغضبان.
ففي الحقيقة أن إخواننا الذين يفتون في مسائل الطلاق عندما يأتي الرجل إليهم يقصر في وصف حاله، فيفتيه بعض الأفاضل من العلماء بفتيا، وأحياناً يذهب إلى عالم آخر فيسترسل معه في بيان مسألته ومشكلته ويقول: أنا مريض بالأعصاب، وهذه ورقة فيها علاجي، والجيران يشهدون، فيفتي العالم الذي فُصِّل له بقول آخر غير العالم الذي لم يفصِّل له، أو يأتي الوسيط في مسائل الطلاق ويقصر في النقل أو يحرف في الكلام أحياناً، وأحياناً يأتي الوسيط وينقل بدقة، فترى الأخ يتهم العلماء، وهو المتهم نفسه والمقصر نفسه في الذي نقل.
والله أعلم.(66/18)
تفسير قوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ.)
ومن الأحكام الأخر قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] .
(مِنْ وُجْدِكُمْ) أي: من سعتكم، فعلى الزوج لزوجته المطلقة طلاقاً رجعياً النفقة والسكنى، ورأي جماهير أهل العلم أن النفقة على قدر السعة، والسكنى كذلك في بيتها على قدر السعة.
أما المطلقة طلاقاً مبتوتاً آخر ثلاث تطليقات، فلا نفقة لها ولا سكنى على رأي جماهير العلماء؛ لما ورد في حديث فاطمة بنت قيس (أن زوجها أرسل إليها بآخر ثلاث تطليقات من اليمن، وأرسل لها مع وكيله شعيراً فسخطته واستقلته، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترفع أمرها فقال لها: إنه لا نفقة لكِ ولا سكنى) فالمطلقة ثلاثاً لا نفقة لها ولا سكنى.
فقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] في المطلقات الرجعيات.
{وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق:6] هذا نهي عن الإضرار كما تقدم في قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231] .(66/19)
نفقات المطلقات من الحوامل وسكناهن
{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فالحوامل من النساء لهن أحوال: إما أنها حامل ومطلقة طلاقاً رجعياً.
وإما أنها حامل ومطلقة طلاقاً بائناً.
فالحامل المطلقة طلاقاً رجعياً يلزم الزوج بالإنفاق عليها لاعتبارين: الاعتبار الأول: أنها ما زالت زوجة لها نفقة ولها سكنى.
والاعتبار الثاني: باعتبار الجنين الذي في بطنها فهو ولده.
أما الحامل المطلقة المبتوتة فينفق عليها الزوج باعتبار واحد ألا وهو: باعتبار الحمل الذي في بطنها.(66/20)
حكم إرضاع الطفل من أمه المطلقة
قال سبحانه: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} [الطلاق:6] بعد وضع الحمل {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] أي: أجر المرضعة، {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:6] هذا خطاب للرجل وللمطلقة، فالله أمرهما أن يتشاورا فيما بينهما في شأن الطفل المولود بالمعروف، فتتشاور الزوجة مع مطلقها في شأن الطفل: ماذا نفعل؟ وما هو الأنسب للطفل؟ وهذا من الخلق الكريم الذي حث عليه ديننا، وحثنا عليه ربنا سبحانه وتعالى.
فإن كانت العلاقة الزوجية قد انقطعت فما زالت علاقة الأخوة الإيمانية باقية: (فالمسلم أخو المسلم) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] .
وإذا تتبعت آيات الطلاق: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:6] {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فستجد أنها كلها تنصب على حسن المعاشرة بين الزوجين.
{وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:6] أي: تشاورا فيما بينكما أيها المطلق والمطلقة في شأن الولد، وما هو الأنفع للولد.
{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} [الطلاق:6] أي: إن أبت المرأة المرضعة الأجر الذي أعطاها إياه الزوج واستقلته: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق:6] أي: لا تلزم الأم حينئذٍ بإرضاعه، إلا إذا كان لا يرضع إلا منها، وإذا كان سيضيع بدونها، فحينئذٍ تتجه نصوص أخر لإلزامها بالإرضاع كقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] إلى غير ذلك من النصوص.(66/21)
تفسير قوله تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ.)
ثم قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] أي: النفقة على المطلقة.
{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] فلا يلزم المطلق بنفقة فوق طاقته؛ لكن لخراب الذمم وقلة الأمانات في هذه الأزمان، رأى فريق من أهل العلم أن من المصالح المرسلة الآن تحديد شيء يعطى للزوجة على قدر سعة الزوج، فالمطلقون الآن خربت ذممهم وقلت أماناتهم، فكل زوج مطلق يريد أن يجحف بالزوجة تماماً ولا يعطيها أي شيء.
والمطلقة هي الأخرى تريد أن تأخذ منه كل ما تريد من مال، فالرأي أن من المصالح المرسلة أن يتدخل القاضي إذا لم يتم الصلح على شيء معين، وإلا فلا دخل للقاضي آنذاك، لكن إذا امتنع الزوج من الإنفاق وأبت الزوجة إلا أن تجحف بكل مرتباته، فحينئذٍ يتدخل القضاة للفصل بينهما على ما ذكر الله سبحانه: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] وهذه مسألة مردها إلى الأعراف السائدة، وإلى حال الزوج وحال الزوجة كذلك.
{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7] أي: ضيق عليه رزقه: {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7] وهذه من الآيات التي يرفع فيها الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.(66/22)
تفسير قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا.)
ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق:8] .
من العلماء من يقول: إن سور الكتاب العزيز تتعدد فيها أصول الدين، فالسورة الواحدة تأتي الأحكام فيها، ثم تتبع بالتحذير من المعاصي والتحذير من ارتكاب الكبائر وانتهاك حرمات الله، ثم تتبع بتبشير أهل الإيمان بالجنات، وهذا في سورة الطلاق واضح.
ذكر الله سبحانه وتعالى قرى عتت عن أمر ربها، أي: بالغت في الطغيان فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [الطلاق:8] و (كأين) هنا للتكثير كما في قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} [آل عمران:146] .
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق:8] ، وقد يكون العتو عن أمر الله وعن أمر رسله في مسائل الطلاق كذلك، قد ترفض أمم شرعة الطلاق التي شرعها الله سبحانه وتعالى، وسنة الطلاق التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلتؤذن حينئذٍ بهذه الآيات: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [الطلاق:8-10] يا أصحاب العقول! {الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق:10-11] ، وكلها آيات تقدم معناها.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] أي: من الأرض سبع أرضين كما في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (من ظلم شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) .
{يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12] .
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.(66/23)
الأسئلة(66/24)
حكم بقاء المطلقة ثلاثاً مع مطلقها في بيت واحد وخدمتها له
السؤال
طُلقت أمه ثلاثاً وما زالت تعيش مع أبيه في شقة واحدة، ولم يخرج أحد منهما من الشقة لرفضهما، ولي أخوة وأخوات صغار يحتاجون الأم، وما زالت تصنع الطعام للأب وتغسل له الملابس، فما الحكم؟
الجواب
إذا كان يخلو بها أو يرى منها ما يرى من الأجنبية فإنه يحرم عليه ذلك، ويحرم عليهما معاً المعيشة في شقة واحدة؛ لأنها الآن امرأة أجنبية تماماً عنه، وليست له بزوجة، فحكمها حكم الأجنبية تماماً، وينسحب عليهما كل ما ينسحب على الرجل مع المرأة الأجنبية.(66/25)
حكم من عُقد بها ثم طلقت قبل دخول زوجها عليها
السؤال
تمت خطبتها وعقد قرانها وبعد أسبوع سافر خطيبها للعمل، وبعدها بسبعة شهور حصل خلاف وحصل طلاق، هل عليها عدة؟
الجواب
ليس عليها عدة؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] أما بالنسبة لما يخصها من الصداق، فلها نصف الصداق إن كان الصداق قد سمي.
إلى هنا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(66/26)
تفسير سورة التحريم
امتازت سورة التحريم عن غيرها من السور بأنها عالجت قضية أسرية حدثت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض أزواجه رضي الله عنهن، وعرضت الحل كيما يكون مثالاً يحتذى به لكل مؤمن ومؤمنة، ثم انتقلت هذه السورة لتخاطب أهل الإيمان والكفر فتبشر أقواماً وتنذر آخرين، إلى أن تنتهي بذكر وقائع لأنبياء الله ورسله، وتحكي كيف أن الأنبياء عليهم السلام قد ابتلي بعضهم حتى في أهل بيته، بينما وجد العكس من ذلك تماماً في طاغوت التاريخ الأكبر فرعون لعنه الله.(67/1)
عتاب الجليل لنبيه الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فسورة التحريم سورة مدنية، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] .
قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ، خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يراد به هو، وتراد به أمته من بعده، فلا ينبغي لأحد أن يحرم شيئاً أحله الله سبحانه وتعالى ابتغاء مرضاة أي شخص كان، وقد عاتب الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم هذا العتاب، كما عاتبه في سورة عبس في قوله سبحانه وتعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1-3] ، لما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على صناديد قريش وترك عبد الله بن أم مكتوم، فعاتب الله النبي هذا العتاب، وهنا عتاب آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله فيه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
فلا ينبغي أن تطغى العاطفة على ديننا، ولا ينبغي أن يطغى الحب على الشرع، بل الشرع فوق كل شيء، وفوق كل أحد، ومحبة الشرع فوق كل محبة، فلا ينبغي أن تحرص على مرضاة أزواجك وتحرم على نفسك شيئاً أحله الله سبحانه وتعالى لك، أو تحل شيئاً حرمه الله سبحانه وتعالى عليك.
وفي تذييل الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) حث على الاستغفار، فإذا كان هذا قد صدر منك، وأحللت شيئاً أو حرمت شيئاً ابتغاء مرضاة أزواجك فباب التوبة مفتوح، فاستغفر الله من ذلك؛ فالله سبحانه غفور رحيم.(67/2)
وعد الله لنبيه باستبدال أزواجه
قال تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم:5] ، هكذا قال عمر لما قال: (وافقت ربي في ثلاث) .
فمن موافقات عمر لربه أنه قال لـ حفصة: (يا حفصة لا تسألي رسول الله ولا تستكثريه، سليني من مالي ما شئتِ) ، وفي ثنايا حديثه معها قال: (كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فأتينا إلى المدينة فإذا رجال تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم) فنساء بعض البلاد يغلبن الرجال، ورجال بعض البلاد يستضعفون النساء، ولا يعني أنها تغلبه بالضرب، بل برأيها كأهل المدينة، أما قريش فلم يكن رجالها كذلك.
الشاهد: أن عمر قال لـ حفصة ولأزواج النبي: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5] ، فنزلت الآية موافقة لقول عمر رضي الله تعالى عنه، فهذا يعد من مناقب عمر، وموافقات عمر لربه رضي الله تعالى عنه.
(عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) ، وما شاء الله أن يطلق أزواجه، اللهم إلا حفصة طلقها النبي وراجعها، وابنة الجون لم تكن من أزواجه عليه الصلاة والسلام، {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} [التحريم:5] ، والقانتة هنا: هي كثيرة الطاعة والعبادة، المداومة عليهما، والقنوت في هذا الموطن معناه: المداومة على الطاعة والعبادة، ومنه قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9] أي: مديماً للقيام ساعات الليل، {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] ، هذا حال أهل الإيمان، فاعرضوا أنفسكم أيها المؤمنون على كتاب الله.
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ) ، أي: مديم للقيام، وللصلاة وللطاعة والخضوع لله، {آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} [الزمر:9] ، أي: ينتظر هذا المصير الذي هو مقدم عليه يقيناً بلا شك، {وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] .
هذا مصيره طول ساعات الليل يقف على هذا المنوال، يستغلها في القيام والركوع والسجود، ويطيل الدعاء، {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] ، فهؤلاء عباد الرحمن وهؤلاء هم أولوا الألباب.
ونفس المعنى مؤكد في قوله تعالى: {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:64-65] فهكذا ينبغي أن يكون المسلم، فلا تتلذذ بالسماع، ولكن انظر إلى كتاب الله وامتثل أمر الله سبحانه وتعالى، اقرأ كتاب الله قراءة شخص يريد أن يعرف ماذا يريد منه ربه سبحانه وتعالى.
فمعنى: (قَانِتَاتٍ) : مديمات الطاعة والعبادة، ففيه حث للنساء على إدامة الطاعة والإكثار من العبادة، فهذا شأن النساء اللواتي عسى الله أن يبدلهن بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم إن طلقهن، فالشاهد: أنه يستحب للمرأة كذلك أن تطيل قيام الليل، ويستحب لها كذلك أن تكثر من الطاعة ومن الدعاء بنيل الجنان وبالنجاة من النيران.
(تَائِبَاتٍ) ، كثيرات الاستغفار، وكثيرات الرجوع إلى الله بعد الزلات، {عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم:5] ، أي: صائمات، فالسياحة هنا الصوم، لا كما يقول هذا الزنديق القصيمي الذي ألف كتاباً في الإلحاد بعد أن كان مهتدياً، ولكن أزاغ الله قلبه، وطفق يؤلف كتاباً جمع فيه بزعمه بين متناقضات، فطفق يأتي بقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ، ويقول: أين القرار في البيوت يا عباد الله وهناك سائحات؟ يعني قبحه الله: كيف يقول الله: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) ، ويقول: (سَائِحَاتٍ) ؟ ففهم -على جهله- أن السياحة هي السياحة إلى بلاد الكفر وأماكن الفسق والدعارة، ونسي أن السياحة تطلق على الصيام وعلى معانٍ أُخر، كما تطلق أيضاً على الهجرة في سبيل الله.
والسياحة لها جملة من المعاني، أما أهل الغباء فيقصرونها على معنى واحد، ويريدون أن يحملوا الناس على اعتقاد هذا المعنى، فالسائحات هنا هن الصائمات على رأي أكثر المفسرين.
(ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) ، أي: منهن الثيبات ومنهن الأبكار؛ لأن المرأة لا تكون ثيباً وبكراً في آن واحد، فهي إما ثيب وإما بكر، فالمعنى: أن بعضهن ثيبات وبعضهن أبكار، ولكن إن قال قائل: قد قدمت الثيبات على الأبكار، فدل هذا التقديم على استحباب نكاح الثيبات، فنقول: إن هذا المعنى مدفوع هنا لأشياء: أولها: أن الرسول قال: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) .
ثانيها: أن الواو لا تقتضي الترتيب إنما تقتضي مطلق التشريك.
ثالثها: أن الثيب قد تستحب وتفضل على البكر إذا كانت دينة، أو إذا كانت المصلحة تتأتى من وراء هذه الثيب، كما فعل جابر وتزوج ثيباً لتقوم على أخواته البنات، فقال له الرسول: (بارك الله لك) ، وقد يقول قائل: إن الثيبات قدمن ههنا لكون أكثر نساء النبي كنّ ثيبات، والله سبحانه وتعالى أعلم.(67/3)
ولاية الله لنبيه
قال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] : هذا حث منه تعالى على التوبة إليه، ولا يتصور أن جواب الشرط هو: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، إنما جواب الشرط محذوف، فالمعنى: إن تتوبا إلى الله فإن الله يتوب عليكما، ثم ابتُدئ كلام جديد: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، أي: مالت عن الحق في هذا الباب، أو في حبكما لتحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته على نفسه، فإن تتوبا إلى الله فإن الله يتوب عليكما.
(فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، أي: مالت قلوبكما عن الحق في هذا الباب، وأصغى أي: مال، (أصغى ليتاً وأمال ليتاً) كما في حديث أشراط الساعة، أي: مال.
(وَإِنْ تَظَاهَرَا) ، أي: إن تتعاونا أيتها الزوجتان على الرسول {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] ؛ هذا كله في مقابل تظاهر امرأتين على الرسول، فالذي ينصر الرسول صلى الله عليه وسلم ويتولاه ضد هاتين المرأتين هم المذكورون في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ} [التحريم:4] ، سيد الملائكة، {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم:4] ، كـ أبي بكر وعمر وعموم الصالحين، {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] .
فانظر إلى تأييد الله لرسله، فقد يقول قائل: إن الله سبحانه وحده كافٍ عبده، فما هو المستفاد من قوله: {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] ؟ وهذا كما قال فريق من أهل العلم: كقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:9-10] ، فهو من باب طمأنة العبد، أعني أن تقاتل: الملائكة مع أهل الإيمان، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12] ؟ وقال: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:10] .
فالشخص المسلم، يعرف أن الله معه وأن الله ناصره، لكن قد يستحوذ عليه الفكر أحياناً ويقول: في البيت شياطين، وفي الطريق شياطين، والشيطان قد يفعل بي! فتذكر أن الله قادر على حفظك، وأن هناك أيضاً ملائكة يحفظ الله بهم أهل الإيمان، كما قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ، أي: بأمر الله.
فهذا إنما هو من أجل طمأنة النفوس، وإلا فكفى بالله سبحانه وتعالى معيناً، وكفى به ظهيراً، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وحسب نبينا ونعم الوكيل! قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم:4] ، أي: متولي نصرته عليكما ومتولي حفظه منكما، {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] .
فمن هاتان المرأتان اللتان تنتصران على الله، ثم على جبريل، وصالح المؤمنين، وعلى الملائكة؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما ما حاصله: كنت حريصاً على أن اسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] ، حتى خرج عمر مسافراً، فسافرت معه وعدل فعدلت معه، فذكر الحديث وفيه: (قلت: يا أمير المؤمنين! من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] ؟ فقال: واعجبا لك يا ابن عباس! هما: عائشة وحفصة) .
ثم ذكر الحديث مطولاً.
فالمرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هما عائشة وحفصة، وهذا الحديث في صحيح البخاري.
وهن رضي الله عنهن نساء حملهن على ما صنعن الغيرة والمحبة الزائدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التصرف منهما مغمور في بحر فضائلهما رضي الله تعالى عنهما، لا كما يقول الشيعة الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فيطعنون في عائشة وحفصة لهذه الآية، وينسون أن الله قال في عائشة وفي زوجها رسول الله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26] ، وينسون أن الله أنزل عشر آيات في براءتها رضي الله تعالى عنها، وينسون أنها خُيرت بين الدار الآخرة والدنيا، فاختارت رسول الله والدار الآخرة، وينسون جملة مناقبها رضي الله تعالى عنها، فهذه منها مغمورة في بحر فضائلها.
وليست هي فحسب، بل أهل الإيمان على وجه العموم، وقد قال الله تعالى في شأن أهل الإيمان: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35] ، فالمغفرة للذنوب، وبنو آدم ليسوا بمعصومين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولماذا قدم جبريل ولم يدخله في عداد الملائكة، إذ قال الله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] ؟ هذا التنصيص على جبريل لبيان منزلة جبريل عليه السلام، فهو سيد الملائكة كما قال كثير من أهل العلم.
قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] ، بمعنى: ظهراء ومعاونون، وكلمة (ظهير) وإن كان ظاهرها الإفراد إلا أنها تؤدي معنى الجمع، كما قال الله سبحانه: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، أي: حسن أولئك رفقاء، فكلمة (رفيقاً) وإن كان ظاهرها الإفراد لكنها تؤدي معنى الجمع، ومنه قول الشاعر: إن العواذل لسن لي بأمير أي: لسن لي بأمراء، فأحياناً تأتي الكلمة المفردة وتؤدي معنى الجمع.(67/4)
موقف الزوج من إفشاء الزوجة لأسراره
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم:3] أي: قال قولاً في السر لبعض أزواجه، فيجوز للرجل الذي عنده أكثر من امرأة أن يسر إلى بعض الأزواج بحديث ولا يسر بهذا الحديث للأخرى؛ فالنسوة يختلفن في الأمانات والضبط، وقد يستفاد الحديث منه عند امرأة ولا يستفاد منه عند الأخرى، فيجوز أن يؤثر الرجل بعض أزواجه بالسر دون البعض، وليس في هذا ظلم ولا إجحاف.
وما هو هذا الحديث؟ فيه أقوال للعلماء: أحدهما: أنه قول الرسول في شأن مارية: (والله لا أقربها ولا أعود) .
والثاني: في شأن العسل: (والله لن أشرب العسل ولن أعود) .
والثالث: أن الله سبحانه لم يبين ذلك، وأنه حديث الله أعلم به.
(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) : نأخذ من هذه الآية فقهاً للتعامل مع النساء، ولتتعز نساؤنا في هذه الآية، فنساؤنا لسن بخير من نساء رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يستكتم امرأته على سر، وهي من أمهات المؤمنين، اللائي يفترض فيهن أنهن أعقل النساء، وهن طيبات بلا شك، قانتات بلا شك، صالحات بلا شك، ومع ذلك لم يكن الذي أسر إليهن برجل عادي، بل الذي أسر إليهن هو رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فمع أنه أسر إليها بالحديث وقال: لا تخبري بذلك أحداً من الناس، خرجت وأفشت سر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا كان هذا قد صدر منهن، فنساؤنا من باب أولى أن يصدر منهن ذلك، فإذا كان النبي لم يثرب عليهن هذا التثريب الشديد، فنحن كذلك لا نثرب عليهن التثريب الشديد، فإذا كان الأمر سري جداً فلا تخبرها به من الأصل، خاصة إذا كنت تخشى من إفشائه، فادخره لنفسك، أما إذا لم تستطع أن تدخر السر لنفسك وأفشيته للزوجة فهي أضعف منك وناقصة عقل ودين فستفشيه هي الأخرى.
فالشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيفية التصرف مع النساء في هذا الباب.
قال تعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} [التحريم:3] ، أي: أخبرت به، {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم:3] ، أي: أطلعه الله عليه، {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3] ، أي: لم يعاتبها في الحديث كله، إنما عاتبها في بعض الحديث، ولم يسرد لها الأخطاء كلها، وإنما سرد لها ما يشعرها أنها أخرجت هذا الحديث وأفشته.
فيأخذ منه العلماء أيضاً فقهاً للتعامل مع النساء: وهو أن المرأة إذا أخطأت في عشرة أخطاء أن لا نؤاخذها بالأخطاء العشرة، وإنما نؤاخذها بخمسة منها مثلاً أو أربعة، ونتغاضى عن الباقي، ومستندهم قوله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3] ، ومستندهم أيضاً قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله سبحانه وتعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] ، قال ابن عباس: (إني لا أحب أن أستنصف جميع حقي على امرأتي؛ لأن الله يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] ) ، أي: فأنا إذا ساويت عقلي بعقل امرأتي فحاسبتها بكل خطأ أصبح عقلي مثل عقلها، فما هو الفارق بيني وبينها؟ لابد أن يكون هناك فارق بيننا، فالرجل هو أشد ديناً وأحكم عقلاً من المرأة؛ ولأن الرسول قال في شأن النساء: (ناقصات عقل ودين) فهذا الفاضل لابد أن يتعامل بمقتضى الفضل الذي آتاه الله إياه.
وكما قدمنا مراراً أنك إذا عاملت الطفل بعقليته لامك الناس؛ لأن عقله صغير، فإذا جئت تحاسب الطفل على كل صغيرة وكبيرة أصبح عقلك مثل عقل الطفل، لكن إذا أخطأ الطفل مرة سامحه في هذه المرة، وإذا أخطأ المرة الثانية ضربته ضرباً خفيفاً، وإذا أخطأ مرة ثالثة فبحسب المقام وبحسب الحال، وبحسب الخطأ إن كان متعمداً أو غير متعمد؟ فلا تقف للطفل على كل خطأ؛ لأنه صغير وناقص العقل.
وكذلك النساء، فقد قال فريق من أهل العلم بل جمهورهم في تفسير قول الله سبحانه: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] ؛ قالوا: (السفهاء) النساء والصبيان، وأصل السفاهة الرقة، فثوب سفيه، أي: ثوب رقيق، فرقة العقل وقلة العقل جبل الله سبحانه وتعالى عليها النساء، وقال سبحانه: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282] .
وهذا كلام الله؛ فلا تطالب المرأة أن تكون كاملة مثل الرجل، ولا تحاسب المرأة على كل الأخطاء التي تصدر منها، فإنهن جبلن على النقص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع) وذكرهن النبي صلى الله عليه وسلم.
فالشاهد: أن المرأة لا تؤاخذ بكل خطأ يصدر منها، بل تؤاخذ بالبعض ويترك لها البعض.
{عَرَّفَ بَعْضَهُ} [التحريم:3] أي: بينه لها، (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) ، تكرمة منه لها، وحلماً منه عليها، وتعليماً لنا منه صلى الله عليه وسلم.
(فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ) فوجئت وقالت: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} [التحريم:3] ، والرسول ليس بثرثار، فما قال: نبأني فلان أو فلان أو فلان أو فلان، بل قال الحق: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] ، على فرض أن إحدى النساء نبأته، ولكن الذي نبأه هو الله سبحانه، كما هو في الآية صريحاً، لكن لا ينبغي أن توسع دائرة المشاكل، بل اختصر الأمر اختصاراً ولا تفتح على نفسك تحقيقات واجتماعات لا جدوى ولا طائل تحتها.
قال الله سبحانه: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] ، هنا قد يقول قائل: لماذا لم يقل: نبأني الله، ولكن أتى بلفظ: (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) ؟
و
الجواب
لأن اسم العليم وهو من أسماء الله سبحانه وتعالى يقتضيه هذا المقام، ولذلك ينبغي في أسماء الله الحسنى أن يؤتى بالاسم من الأسماء الحسنى موافقاً للموقف الذي يثار ويراد.(67/5)
كيفية التحلل من الأيمان
ثم قال الله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] ، أي: قد فرض الله لكم ما تتحللون به من هذه الأيمان حتى لا تقعوا في الإثم، وتحلة الأيمان هي الآية المذكورة في سورة المائدة: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89] .
فأخذ العلماء منها حكماً فقهياً ألا وهو: أن من قال لأي شيء أو لطعام أو لشراب: هذا الشيء عليَّ حرام، وإذا قال رجل لامرأته: أنتِ عليَّ حرام، أو لجاريته: أنتِ عليَّ حرام، أو تحرمي عليَّ، أو حرام عليَّ أن آكل هذا الطعام، أو تحرم عليَّ زيارتك، أو أي شيء من هذا التحريم؛ فكفارة هذا كله كفارة يمين، كمن قال: والله لا أفعل كذا وكذا ثم فعل.
فذهب فريق من أهل العلم: إلى أن كفارة من قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرام كفارة يمين: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] .
وهذه المسألة قد تعددت فيها أقوال العلماء، وقد جمع القرطبي في تفسيره هذه الأقوال، فوصل بها إلى ثمانية عشر قولاً، لكن إذا أخذت الأقوال المعتمدة على الدليل فستجد أن الأقوى من هذه الأقوال قولين: القول الأول: قول من قال: إن الكفارة كفارة يمين.
والقول الذي يليه في القوة: أنه لا شيء عليه، ومستند العلماء القائلين بهذا القول أن قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] له مناسبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (قد شربت عسلاً ولن أعود وقد حلفت) ، فقالوا: إن الله قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] ؛ والرسول قد قال: (قد حلفت) ، فإذا قال الشخص: أنتِ حرام عليَّ وقد حلفت على ذلك، فيكفر كفارة يمين، أما إذا قال: أنتِ حرام عليَّ ولم يحلف فلا كفارة عليه.
لكن يقال من باب الاحتياط: إن الكفارة كفارة يمين، والتحلة هي كفارة اليمين المذكورة في قوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] .
وإطعام عشرة مساكين يكون وجبة واحدة، قال الجمهور: والقيمة لا تجزئ في كفارة اليمين؛ لأن الله قال: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] ، وقال الجمهور أيضاً: إنه يلزم أن يكون العدد عشرة، إلا إذا تعذر الحصول على العشرة فيجوز أن تخرج العشر وجبات لأهل بيت من خمسة أفراد مثلاً، أو لشخص واحد إذا لم تجد المساكين العشرة، أي: فلا يصار إلى إعطاء الشخص أكثر من وجبة إلا إذا تعذر الحصول على العشرة، أما إذا وجد العشرة فالجمهور يقولون: عليك أن تعطي عشرة؛ لأن الله قال: (إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) .
قال الله سبحانه: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] ، فلا تلجأ إلى الصيام إلا إذا فقدت الإطعام، أما إذا كنت تستطيع الإطعام فالصيام منك غير مقبول ولا مجزئ؛ لأن الله قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] .
قال الله سبحانه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] ، أي: قد بيّن الله لكم تحلة اليمين، وأوجبها عليكم.
{وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ} [التحريم:2] أي: ناصركم ومتولي أمركم سبحانه وتعالى، وهذا أيضاً ينبغي أن يدرجه العبد في دعائه؛ فتطلب من الله سبحانه وتعالى أن يتولاك ويتولى إخوانك ويتولى ذراريك، فهو سبحانه وتعالى يتولى الصالحين، وقد كان هذا ضمن دعاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) .
{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2] ، (العليم) بقلوبكم وبنياتكم، (الحكيم) بما شرع.(67/6)
سبب نزول أول آيات سورة التحريم
لهذه الآية سببان في النزول: سبب أشهر، ولكنه من ناحية الصحة أقل صحة، وسبب أصح ولكنه أقل شهرة، أما السبب الأشهر فهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى جاريته مارية -أي: جامع جاريته مارية القبطية التي هي أم إبراهيم عليه السلام ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك في بيت حفصة وفي ليلة حفصة وعلى فراش حفصة رضي الله تعالى عنها، وكما هو معلوم فإن الرجل لا يقسم للإماء، إنما يأتيهن كيفما أراد ومتى ما أراد، أي: أن الزوج عليه أن يقسم بين الزوجة وبين الزوجة الأخرى، أما الإماء فلسن كذلك، فللسيد أن يطأ الأمة في أي وقت شاء؛ إذ ليست بمقسوم لها.
فالذي حدث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى جاريته مارية في ليلة حفصة وعلى فراش حفصة؛ فعلمت بذلك حفصة رضي الله عنها، فدخلت محتدة قائلة: أفي بيتي وعلى فراشي؟! فقال عليه الصلاة والسلام: لا تخبري بذلك أحداً، وقد حرمتها على نفسي، ولن أقربها بعد ذلك، فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] ) ، وفي بعض الروايات: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هي عليَّ حرام) ، هذا هو أشهر سبب لنزول الآية.
لكن أصح سبب هو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب عسلاً عند زينب بنت جحش، فكان يدخل عند زينب ويمكث عندها طويلاً فتسقيه عسلاً، فتواطأ بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن لبعضهن البعض: أيتنا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل له إذا أقبل عليها: إني أجد منك ريح مغافير، فتواطأت حفصة مع عائشة على ذلك، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد شرب عسلاً من عند زينب قالت له حفصة: ما لك! أكلت مغافير؟! إني أجد منك ريح مغافير، قال: ما أكلت مغافير، بل شربت عسلاً، ولن أعود وقد حلفت، فنزلت الآية) .
فهذا هو السبب الأصح للنزول.
وعلى كلٍ فالمؤدى واحد، فالشاهد منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على نفسه أشياء ابتغاء مرضاة الأزواج، أو طلباًَ لمرضات الأزواج، فعاتبه ربه سبحانه وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] ، فلا ينبغي أن تكون الزوجة حكماً على الشرع، بل الشرع يقضي عليها وعلى الزوج وعلى الأولاد، ويقضي على الجميع، ولا يليق بك أيها الرجل أن تجعل امرأة ناقصة العقل والدين حكماً على الشرع، فتحل ما تشاء وتحرم ما تشاء من أجلها.(67/7)
أمر الله سبحانه بتقواه والتوبة إليه والغلظة على الكفار والمنافقين
ثم اتجه الخطاب إلى عموم المؤمنين، فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] .
هذا حال هؤلاء الملائكة، قال بعض العلماء: إن الرحمة التي في قلوبهم تجاه أهل النار نزعت، فليس في قولبهم رحمة لأهل النار أبداً، لذلك لم يضحك مالك خازن النار منذ خلقه الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ) ، كم هؤلاء الملائكة؟ فُسروا بقوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] ، قال بعض العلماء: إن التسعة عشر هم الرءوس، يعني: القادة من خزنة النار، ولا يمنع هذا أن يكون هنالك ملائكة آخرون للعذاب، لما ورد في حديث الميت: (فيأتيه ملائكة معهم مسوح، وأكفان من النار ... ) إلى آخر الحديث.
والآية فيها حث بل إلزام للرجل أن يتفقد أهل بيته، ولا يترك للمرأة الحبل على الغارب لتصنع ما تشاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) ، والله قال: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6] ، ولذلك قال الله سبحانه أيضاً في الباب: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] ، وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54-55] .
وكان النبي يحث أهل بيته على الطاعات كما في حديث: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، من يوقظ صواحب الحجرات كي يصلين، فيا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) أي: كم من نفس مكسوة مستورة في الدنيا تأتي مفضوحة يوم القيامة، لكونها عارية عن الأعمال الصالحة التي لم تجد ما تستتر به.
فأنت مسئول عن أهلك أمام الله لا تطع المرأة في المحرم لا تسحبك امرأتك إلى حيث الفسق والفساد والشر، فأنت قيم عليها، ومسئول عنها في الآخرة أمام الله سبحانه وتعالى، لذلك قال بعض أهل العلم في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) .
قال: لأنه يجب عليه أن يعلمهم حرمة هذه النياحة.
لذا يلزم العبد التوبة التي لا رجعة معها إلى الذنب بحال من الأحوال، هذا وربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] ، ونبيه عليه السلام يقول: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة) ، وأيضاً ذكر النبي: (عبداً أذنب فقال: يا رب أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به! قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنباً فقال: يا رب! أذنبت ذنباً فاغفره لي، فغفر الله له ... ) الحديث إلى آخره.
وتعريف التوبة النصوح بأنها هي التوبة التي لا عودة معها إلى الذنب أبداً، كما لا يرجع اللبن إلى الضرع؛ فيه نظر.
وقد ذكر العلماء ما يقرب من عشرين قولاً في ضوابط التوبة النصوح، منها: التوبة الصادقة، والتوبة الصالحة، ومنها: أن يعزم على أن لا يرجع إلى المعصية، لكن إن غلب على ذنب فيتوب أيضاً مع الذنب الجديد، والله أعلم.
فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:8] ، أصل التوبة الرجعة، تقول: تب إلى الله، أي: ارجع إلى الله سبحانه وتعالى يرجع عليك الله برحمته، ويرجع عليك بمغفرته سبحانه وتعالى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ} [التحريم:8] ، قال فريق من أهل العلم: إن (عسى) في كتاب الله تفيد التحقق إن شاء الله، {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم:8] ، أي: إن أنتم تبتم.
وفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، وقوله في نفس الآية: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم:8] ، دليل على أن أهل الإيمان تصدر منهم سيئات.
{وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8] أي: نورهم يتقدمهم من كل اتجاه، من الأمام وعن اليمين، {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم:8] ، هذا النور كما تقدم تحريره يكون على قدر الأعمال وعلى قدر الصلاح، فمن كان على درجة عالية من الصلاح كان نوره أقوى وأشد، ومن كان على درجة من الشر والفساد كان نوره خافتاً، ومن كان على نفاق انطفأ نوره وهو في أشد الحاجة إليه.
قال الله سبحانه: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم:8] ، أي: أهل الإيمان، لكن متى يقولون هذا الدعاء؟ يقولونه وقد اعتراهم الخوف الشديد، لأنه فجأة يحدث إطفاء لبعض الأنوار أقوام كلهم سائرون معهم نور، ثم فجأة تنطفئ أنوار أقوام منهم، وهم أهل النفاق، كما قال الله سبحانه: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، فقد كان معهم أنوار.
فانطلقوا فإذا بنور أهل الإيمان يثبت وإذا بنور أهل النفاق يخفت، فينادي المنافقون أهل الإيمان: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، أي: نستضيئ بنوركم، {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13] ، أي: هناك نور يوزع ويقسم في المكان الذي أخذنا جميعاً النور منه، فيذهبون يلتمسون نوراً فلا يجدون، فيرجعون كرة أخرى كي يدركوا أهل الإيمان، فيضرب {بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] * {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] .
فأهل الإيمان يتوسلون إلى الله ويرجون ربهم، فيقولون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] .
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} [التوبة:73] ، بالسيف والسلاح، {وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73] ، بالحجة واللسان، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] .
وهنا لا تعارض بين قوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] ، وبين قوله تعالى لموسى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] * {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ، فهناك فقه للخطاب -ولعله يأتي في محاضرة مستقلة إن شاء الله- فهناك أقوام تجدي معهم الكلمات اللينة، وأقوام لابد لهم من الغلظة والشدة حتى ينزجروا.
قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم:9] ، الذي يصيرون إليه.(67/8)
ضرب الله مثلاً للذين كفروا في أنهم لا تنفعهم قرابتهم من المؤمنين
ثم قال الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] .
وصف نوح ووصف لوط بهذا الوصف: (عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ) ، فيه رد على المغالين في الأشخاص ممن أطلقوا عليهم أولياء الله، وهذا التعبير سائد في كتاب الله، (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ) ، أي: فليسا بإلاهين، وقال الله في شأن عيسى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] ، وقال الله عن نبينا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] ، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] ، والآيات في هذا كثيرة متعددة.
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) ، فالآية أفادت المقرر شرعاً: أن لا تزر وازرة وزر أخرى، ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، فهذان مثلان لزوجتين كافرتين ولزوجين مسلمين.
مثال آخر لوالد مؤمن مع ولد كافر، وهو نوح عليه السلام إذ يقول: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] * {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] .
مثال آخر لولد مع والده، وهو إبراهيم إذ يقول: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45] .
مثال ثالث للرسول صلى الله عليه وسلم مع عمه: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) ، فيصر عمه على الكفر والعياذ بالله.
وقول الرسول: (يا فاطمة! سليني من مالي ما شئت، فإني لا أغني عنكِ من الله شيئاً) .
يقول الله سبحانه وتعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) ، قال جمهور العلماء: ليس المراد بالخيانة هنا خيانة الفراش، أي: الخيانة بالزنا، إنما المراد الخيانة في الدين، فكانتا تدلان الكفار على الأماكن التي يستطيعون منها الطعن في أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فالخيانة هنا الكفر وإرشاد الكفار إلى مواطن يطعنون منها في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فإن قال قائل: كيف ذلك والله يقول: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] ؟ فالإجابة: أن هذا كان سائغاً في شريعة من قبلنا، بل في أوائل شريعتنا وفي أوائل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان عمر متزوجاً بكافرة، وكان يجوز للشخص المسلم أن يتزوج الكافرة إلى أن أتى التحريم.
سؤال آخر قد يرد: كيف والله يقول: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] ، فكيف بنوح الطيب مع امرأة خبيثة؟ فالإجابة من وجهين: الوجه الأول: أن المراد بقوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} على قول لبعض المفسرين الأقوال الخبيثة لا تصدر إلا من الخبيثين، والخبيثون لا تصدر منهم إلا الأقوال والأعمال الخبيثة، كذلك الطيبون تصدر منهم الأقوال الطيبة، فليس ما هنا من ذلك، هذا أحد الأقوال في الآية، وهو الذي عليه أكثر المفسرين كما ذكره البغوي والقرطبي وصديق حسن خان وغيرهم.
القول الثاني: أن الآية وإن حملناها على هذا الوجه: وهو أن الزوج الطيب يحرص على زوجة طيبة، والزوج الخبيث يحرص على زوجة خبيثة.
فهذا في الغالب، لكن قد يأتي من لا يعلم الغيب فينتقي امرأة على أنها صالحة وقد تكون فاجرة من الفاجرات، والله أعلم بالعباد، فيكون حكماً أغلبياً استثنيت منه هاتان المرأتان، والله أعلم.(67/9)
ضرب الله مثلاً للذين آمنوا بامرأة فرعون
قال الله تعالى: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] .
ثم يقول الله سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] ، هذا مثال آخر لامرأة صالحة تحت رجل كافر.
والجواب عليها هو ما أُجيب به على ما سبق من أن هذا قبل أن تحرم المؤمنات على الكفار، فأفاد هذا المعنى أنه لا يتسلط أحدٌ على قلب أحد، وأن الإيمان وعكسه مرده إلى الله سبحانه وتعالى، ففرعون أطغى شخص عُرف على وجه الأرض لم يتسلط على قلب زوجته التي هي في بيته رضي الله تعالى عنها، مع أنه أظلم رجل عرفه التاريخ، وأظلم رجل ذكر في كتاب الله سبحانه وتعالى، وكان من البشاعة بمكان، ومع هذا لم يتسلط على قلب امرأة ضعيفة أسيرة في بيته! وكذلك نوح عليه السلام مع أنه من أولي العزم من الرسل، ولكنه لم يستطع أن يحيل قلب امرأته وولده من كفر إلى إيمان، فتؤكد لنا هذه الآيات معنى: ألا وهو الكامن في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100] .
وتؤكد لنا المعنى الموجود أيضاً في قول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] ، فحتى أنت وهو قلبك لا تملكه.
العلماء الذين يتتبعون اللطائف في التفسير يقولون: اختارت الجار قبل الدار بقولها (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) ، فيأخذ منها الفقهاء أشياءهم التي يأخذونها من اللطائف، فيقولون: قبل أن تشتري الدار اسأل عن الجار، فقد ترتفع قيمة المنزل أضعافاً مضاعفة مقابل تواجدك بجوار رجل صالح، فقد يكون جارك تاجر مخدرات، أو جاراً مؤذياً كل يوم وأنت معه في مشكلة، فالبيت الذي هو بمائة ألف لا يساوي بجوار مثل هذا عشرين ألفاً، تأتيه حملة للقبض عليه فيلقي المخدرات على بيتك.
فقال العلماء: اختر الجار قبل الدار، كما اختارت آسية امرأة فرعون وقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] .(67/10)
ضرب الله مثلاً للذين آمنوا بمريم عليها السلام
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع؛ مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون ... ) الحديث.
فنسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يتوفانا وإياكم على الإيمان والإسلام.
وصلى وسلم الله على نبينا محمد وسلم.(67/11)
الأسئلة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:(67/12)
الآداب الواجبة على زائر قبر الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما الآداب التي يجب اتخاذها عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
بالنسبة لآداب زيارة المسجد النبوي وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فالإجابة واسعة، لكن باختصار: لا تدعو الرسول هناك، لا تقل: يا رسول الله! افعل لي كذا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:5] .
إذا جئت عند قبر الرسول فلا ترفع صوتك: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ، وقل كما كان ابن عمر يفعل: (السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه) ، ثم ينصرف، هذا الذي كان يفعله ابن عمر رضي الله عنهما.
واحرص على أن تصلي الصلوات في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فصلاة فيه كألف صلاة فيما سواه من المساجد، (والمدينة حرم كمكة) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.(67/13)
حكم قراءة سورة يس على الميت وتوجيهه إلى القبلة
السؤال
ذُكر في كتاب فقه السنة في أحكام الجنائز جواز قراءة سورة يس على الموتى، وتوجيه الميت إلى القبلة، فما الرأي؟
الجواب
أما قراءة سورة يس على الموتى فلا يثبت فيها أي خبر عن رسول الله صلى عليه وسلم، ولم يثبت في فضل سورة يس أي حديث، إنما شأنها شأن سائر سور القرآن، كما في الحديث: (من قرأ حرفاً فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها) ، إلى غير ذلك من الفضائل.
أما توجيه المحتضر إلى القبلة، فجمهور الفقهاء على مشروعية توجيه المحتضر إلى القبلة، وبعض أهل العلم الأفاضل كالشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى يعد هذا من بدع الجنائز في كتابه أحكام الجنائز، فكأن الأخ السائل سأل السؤال من أجل هذا، فالشيخ ناصر رحمه الله تعالى استدل بأثر -على ما يحضرني- لـ سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وأنه جيء به كيما يوجه إلى القبلة أثناء احتضاره، فقال: أو كنت على غير القبلة قبل ذلك؟ فكأن سعيداً ما أقر على أن يوجه إلى القبلة، فاعتبر الشيخ ناصر التوجيه إلى القبلة بدعة.
أما الجمهور الذين ذهبوا إلى مشروعية توجيه المحتضر إلى القبلة، بل نقل بعضهم الإجماع على مشروعية ذلك واستحبابه كـ النووي، إلا أنه استثنى سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، فمن حججهم أحاديث يرى البعض أنها حسنة بمجموع الطرق، كما في قصة البراء بن معرور أنه أوصى أن يوجه إلى القبلة عند موته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أصاب الفطرة) ، وهو حديث قابل للأخذ والرد من ناحية الصحة والضعف، فالأمر فيه محتمل إذ له شاهد يجعله عند بعض العلماء يُحسَّن، ومن العلماء من يبقيه في حيز الضعف.
لكن ورد أيضاً عن عطاء: (أنه سُئل عن توجيه المحتضر إلى القبلة، فقال: سبحان الله! وهل يترك ذلك أحد من المسلمين؟ قد كنا نأتي بالميت نوجهه إلى القبلة، فإذا لم نستطع توجيهه إلى القبلة أدرنا السرير كله إلى القبلة) ، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وعبد الرزاق في المصنف، وأسانيده صحيحة.
فالأمر في المسألة واسع؛ لكن رأي الجمهور هو التوجيه إلى القبلة، ولا ينبغي أن المسائل التي حدث فيها اختلاف بين أهل العلم نتيجة اختلافهم في تحسين حديث أو تضعيفه أن يحكم على الرأي الآخر بالتبديع، والله سبحانه وتعالى أعلم.(67/14)
وقوع الطلاق الغيابي شرعاً
السؤال
إذا طلق الرجل زوجته بلفظ: (أنتِ طالق) أمام رجل دون أن تسمع المرأة كلمة الطلاق؟
الجواب
يعني الطلاق الغيابي، والطلاق الغيابي يقع؛ لأن فاطمة بنت قيس أرسل إليها زوجها بآخر ثلاث تطليقات من اليمن، فطلاق الغائب يقع.(67/15)
حكم إنشاد النساء في الأعراس
السؤال
في حفلات عرس لأخوات، تقوم بعض الأخوات بإنشاد بعض الأبيات الجميلة، فهل للأخت منا أن تشارك معهن في الإنشاد، علماً بأن الحاضرات قد لا يكن كلهن ملتزمات، فتخرج وتصف ما حدث من أن الأخت فلانة فعلت وكان صوتها جميلاً، وكثيراً ما تتعرض الأخوات المنشدات لذلك؛ لكنها لا تستطيع أن تتأخر؟
الجواب
فلتنشد الأخت؛ لأن الرسول قال: (يا عائشة! ماذا كان معكم من اللهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو؟) ، وعلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أهل المدينة منافقين من الرجال، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] ، فكان فيها مسلمون في الظاهر وهم في الباطن أهل نفاق.
وكذلك في أوساط النساء على عهد الرسول لم يكن كلهن صالحات، فمنهن التي تخرج تفشي سر الزوجية تقول: زوجي يفعل معي كذا وكذا، فإذا كانت هذه تفشي سر الزوجية، حتى يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ذاك شيطان يجامع شيطانة) ، أو كما قال: (إن شر الناس منزلة المرأة تفضي إلى الزوج أو الزوج يفضي إلى المرأة ثم ينشر سرها) ، إذا كان هذا يحدث على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فأيضاً أخواتنا هنا لسن كلهن معصومات، فالمباح يباح والمحرم يحرم.
على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثبت أن هناك نسوة كانت أصواتهن جميلة، وهناك نسوة جميلات وحسناوات، وكن يختلطن بنساء المسلمين، فإذا كانت المفسدة متوقعة فاترك الظن واتبع الوارد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائشة ماذا كان معكم من اللهو؛ فإن الأنصار يعجبهم اللهو؟ ولقنها الرسول هلا قلتِ: أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم) إلى غير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.(67/16)
حكم تقبيل المرأة لزوج ابنتها
السؤال
هل يجوز للزوجة أن تقبل زوج ابنتها؟
الجواب
كيف تقبله؟ هل تقبل رأسه وتراضيه، فيجوز لها وليس المجال مجال فتنة، أقصد أنه لن تكون هناك شهوة في مثل هذه الحالة، والأصل الإباحة؛ لأنه محرم لها والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(67/17)
ما أعده الله للنساء في الجنة
السؤال
يثاب الذي يقوم الليل ويفعل الصالحات بالحور العين، هذا بالنسبة للرجال، فماذا عند النساء؟
الجواب
{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] ، فكل شيء تشتهيه المرأة المؤمنة في الجنة يعطيها الله إياه، وقد يعفها الله سبحانه وتعالى بلا زوج.(67/18)
ضعف حديث (جنبوا أطفالكم المساجد)
السؤال
ما صحة حديث: (جنبوا أطفالكم المساجد) ؟
الجواب
حديث ضعيف.(67/19)
حكم القنوت في صلاة الفجر
السؤال
هل دعاء القنوت في صلاة الفجر بدعة؟
الجواب
تقدم الحديث على ذلك باتساع، وأن للعلماء فيه أربعة أقوال مشهورة: فريق من العلماء يرى أنه مسنون ومشروع في صلاة الفجر، ومنهم الإمام الشافعي رحمه الله، ومنهم من يرى أنه بدعة، فالمسألة فيها أربعة أقوال، والأمر فيها واسع، والله أعلم.(67/20)
حكم الإعلان في الزواج
السؤال
حدثت خطوبة بإشهار وإعلان بين الناس، وبعدها بعام تم عقد رسمي بدون إعلان أو علم الأهل أو الناس، فهل يصح الزواج؟
الجواب
إذا كان الزواج بولي وشهود فالزواج صحيح، وبعد ذلك يخبر الناس، أما إذا كان بدون ولي فالزواج باطل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل) .(67/21)
حكم ما ورد من الآثار والقصص عن السلف في الزهد ونحوه وهي لا توافق السنة
السؤال
بعض الآثار التي ترد عن السلف الصالح رحمهم الله يكون فيها أحياناً مصادمات لما ورد في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كآثار وردت عن بعض التابعين وبعض السلف الصالح أنه كان يختم القرآن في كل ليلة، أو يقرأ القرآن في ركعة، أو أن بعض الصحابة كانت على خدودهم خطوط من الدموع، يقول السائل: ماذا نفعل أمام هذه الآثار وأمام الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
في الحقيقة أنه سؤال حسن ومن الأهمية بمكان؛ لأن إخواننا الوعاظ والمحاضرين كثيراً منهم يتوسع في هذا الباب توسعات تؤخذ عليه لا له.
هذه الآثار التي وردت عن السلف الصالح رحمهم الله هي جملة آثار في عدة أبواب: منها: أن بعض السلف كان يضع حصاة تحت لسانه حتى لا يكثر الكلام، وفي بعض الآثار أن بعض السلف كانت على وجهه خطوط من أثر الدموع، وأن واحداً مثلاً كان يجوع وما كان عنده وقت يأكل، ومثل هذا أشياء كثيرة جداً.
وإذا جئت تزن هذه الأشياء على سنة الرسول عليه الصلاة والسلام تجد: أولاً: أن الرسول خير الخاشعين وخير البكائين لله سبحانه، فهو سيد ولد آدم، وهو أخشى الناس وأتقاهم لله، ومع ذلك لم يكن على خده خطوط من مجرى الدموع صلى الله عليه وسلم، أيضاً كان أشد الناس انشغالاً بالدعوة إلى الله، ومع ذلك لم يأت أنه ترك الطعام لعدم وجود الوقت، وكان كلامه من جوامع الكلم، ومع ذلك لم يأت بحصاة يضعها تحت لسانه حتى لا يتكلم، إلى غير ذلك مما ورد من أشياء يتعجب الشخص إذا سمعها، فهذه الأشياء على أقسام: منها أشياء ثبتت السنة على خلافها أو السنة تضادها في الأصل، فإذا كانت هذه الأشياء تخالفها السنة أو تضادها في الأصل فلا تعتبر من أي شخص كان، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أبداً أي هدي بهدي رسول الله، فالرسول مثلاً قال في شأن القرآن: (اقرأه في ثلاث ولا تزد على ذلك) هنا نمتثل هذا الهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقرؤه في ثلاث ولا نزيد على ذلك، وإن ورد عن غيره أنه زاد فله اجتهاده الخاص به، ونعتذر له حتى لا يُنال منه، وحتى تحفظ له وجاهته ويحفظ له رأيه، لكن المتبع عندنا هو كلام رسولنا وهدي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فالآثار التي فيها مخالفات صريحة لسنة الرسول، فنحن ابتداءً وانتهاءً مع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: أما الآثار الأخرى التي ليس فيها مصادمات مع السنة، فهذه ورد فيها كثير من هذه الآثار، ولا أعني الأثر بعينه، إنما أعني كثيراً من هذه الآثار: كمن كان له حصاة يضعها تحت لسانه حتى لا يتكلم، فهذه لا أعلم لها إسناداً صحيحاً أصلاً، ولا نعلم لها أسانيد ثابتة، فربما قرأها شخص في كتاب، وليس كل ما قُرئ في كتاب صحيحاً، فعلى شرط أهل الحديث نادراً ما يصح أثر من هذه الآثار، وإذا لم يصح فما فائدة الحديث به.
ثالثاً: لابد من تخريج هذه الأعمال حتى على فرض صحتها، فأنا مثلاً ممكن في أي وقت من الأوقات آخذ مسألة علمية وأحرر هذه المسألة العلمية تحريراً، والمسألة شاغلة ذهني شغلاً زائداً، أجوع فآكل وعندما أكون في الأكل أذكر ما يخدمني في المسألة فأترك الأكل وأرجع، فأحياناً المرق أحسن لي من اللحم الذي يؤخرني، فتكون حالة عرضت لي فلا أجعلها تأسيساً يؤسس عليه العمل كله، ولا تكون قاعدة يسار عليها أبداً.
فإذا جاء واحد من إخواننا الأفاضل أو العلماء يدرس هذه المسألة، أو يحث مثلاً على اغتنام الأوقات أو الحرص على الأوقات إذا به يذكر أن من السلف من كان يأكل السمكة بدون أن يطبخها! وهذه حالة حصلت وممكن أن تحصل، مثلاً: مهندس كان يرسم لوحة وذهنه مشغول جداً بها فربما يفعل هذا، لكن ليس معنى هذا أنه كل يوم يأكل السمك هكذا، أو طبيب يقوم بإجراء عملية جراحية، ومن الخطر أنه يترك العملية ويمشي، واستمرت معه عشر ساعات أو عشرين ساعة، فالشرع يجوز له أن يجمع بعض الصلوات عند الضرورات القصوى، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس؛ ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً) .
فلا تأخذ أي قول وتجعله قواعد تسير عليها، نحن عندنا سيرة الرسول خير سيرة، مثلاً: ذهب شخص إلى مجلس من المجالس وهو ذاهب متوقع أن هذا المجلس سيحدث به اغتياب مثلاً، أو تحدث به مشكلة أو أي شيء، فقال: ماذا أفعل حتى لا أتكلم في مثل هذا المجلس، وأنا ضعيف وأخشى أن أغلط؟ كما قالت عائشة رضي الله عنها لما خرجت مع الرسول عليه الصلاة والسلام مسافرة، فقالت لها حفصة من باب الاحتيال كي تمكث مع الرسول: (يا عائشة! ألا تركبين بعيري وأركب بعيركِ تنظرين وأنظر -لأن الرسول كان يحب أن يركب مع عائشة - قالت: نعم أركب، فركبت عائشة بعير حفصة وحفصة ركبت بعير عائشة، فجاء الرسول إلى بعير عائشة ودخل على الهودج فإذا بـ حفصة، فاستحى الرسول أن يخرج، فبقي مع حفصة في السفر كله، وعائشة تقول: ماذا أصنع؟ فكانت تضع رجليها في الأرض وتقول: يا رب سلط عليَّ عقرباً تلدغني، نبيك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً، فكانت تنفعل وتدعو على نفسها بأي شيء يحدث لها حتى لا تؤذي الرسول، فأنا لا آخذ من فعلها مشروعية الدعاء على النفس.
فلا تأخذ هذه الآثار وتؤسس عليها قواعد، فإنك إذا أسست عليها قواعد خالفت سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فكثير من هذه الآثار مخارجها لا تتبين، فلابد أن تخرج هذه الأشياء وتوضح للناس حتى لا تفهم على غير وجهها، والله أعلم.
أحياناً بعض إخواننا يفهم أشياء خطأ، ويطبق خطأ، مثلاً من الملاحظات التي رأيتها مع بعض الإخوة الحريصين على السنة في الظاهر: أنا خرجنا مرة إلى بعض البوادي في بعض الدول، ونحن نقرأ حديث النبي عليه الصلاة والسلام في شأن العرنيين الذين أتوا إلى المدينة وأمرهم الرسول عليه الصلاة بأن يخرجوا إلى إبل الصدقة ويشربوا من ألبانها وأبوالها، فقام إخواننا الذين يشتكون البطون والذين لا يشتكون، وكلهم أتى بقدر ووضعه تحت الناقة وهي تبول، وأخذ البول وشرب.
فالمريض معه عذر أنه مريض، ويمتثل حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (اشربوا من ألبانها وأبوالها) ، لكن السليم المعافى لماذا يشرب من البول؟ الرسول عليه الصلاة والسلام كان معافى، فهل شرب من البول؟ فأحياناً الأفهام تأتي على غير وجهها والله أعلم، وجزى الله الأخ السائل خيراً.(67/22)
حكم النافلة في حق المسافر
السؤال
رجل يسافر إلى بلاد في عرفنا أن الذهاب إليها يطلق عليه سفر، ويدرك الجماعة في مساجد هذه البلاد، فهل تسقط عنه النافلة؟
الجواب
النفل الراتب يسقط عن المسافر؛ لقول ابن عمر: (لو كنت مسبحاً لأتممت) ، ولأنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى النوافل في السفر إلا النفل المطلق، وهو راتبة الفجر والوتر، والله أعلم.(67/23)
قصر المسافر للصلاة وإن طالت مدة سفره
السؤال
إذا كنت من المنصورة وسافرت إلى محافظة أخرى، وأستمر في العمل مدة عشرة أيام أو خمسة عشر يوماً ثم أعود إلى بلدي، فهل أقصر الصلاة، أم أتم؟ وإذا سئلت عن كيفية الصلاة هل أنصح بالإتمام أم القصر؟
الجواب
إذا استمر الشخص في العمل في بلدة أخرى وليس له بها دار إقامة فله القصر فيها، فتقصر طالما أنك لم تتخذ بيتاً، أما إذا رجعت إلى البلدة فتتم.(67/24)
حكم صلاة الفريضة على الراحلة إلى غير القبلة
السؤال
كثيراً ما أتعرض للسفر ويأتي وقت الصلاة وأنا في الطريق، فهل أصلي وأنا جالس إلى غير القبلة أم أنتظر وأصليها قضاءً؟
الجواب
إذا كانت الفريضة سينتهي وقتها تماماً وأنت ما زلت في السيارة، كأن تكون مسافراً قبل الفجر بنصف ساعة، وركبت السيارة والسائق لا يوافق أبداً على أن يوقف السيارة من أجلك، وإذا انتظرت إلى أن تصل لم تصل إلا بعد طلوع الشمس، فصلِّ على ما تيسر لك إن كنت متوضئاً صليت على حالك إلى أي اتجاه كنت، وإن كنت غير متوضئ فتتيمم وصل على أية حالة، فلا تترك فريضة كالفجر إلى خروج وقتها.
أما إذا كانت الصلاة من الصلوات التي تجمع فلك أن تجمع، أما إذا كان الجمع أيضاً سيفوتك، أي: أخرت الظهر إلى العصر والسائق لم يقف إلا بعد المغرب فصلِ حينئذٍ الظهر والعصر على ما تيسر لك.
وذلك لأدلة منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمران بن حصين: (صلِ قائماً؛ فإن لم تستطع فقاعداً؛ فإن لم تستطع فعلى جنب) ، وقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .(67/25)
حكم من يعمل في بيع الأغراض النسائية
السؤال
عملي متعلق بالأغراض النسائية وبيعها، فماذا أفعل؟
الجواب
أنت إذا استفتيت نفسك أولاً تجد الجواب، أعني: أنك أعرف بعملك منا.
فإذا كان يقيس جسم المرأة، ويتحسس عورتها، ويفعل ويفعل ويفعل، بما هو أدرى به منا، فالعمل محرم.
فالضوابط المحيطة بالعمل هي التي تفيدنا، لكن الذي نفهمه عن العمل الحريمي على الإجمال أنه عمل مذموم جداً، بل محرم إذا باشرت محرماً، أما إذا كانت هناك أشياء أُخر، كأن تكون مثلاً شخصاً محترماً وزوجتك هي التي تأخذ المقاس وأنت تنفذ، فسيبقى علينا الكلام عن التنفيذ، هل تنفذ شيئاً تتبرج به المرأة في الطريق، أم شيئاً محترماً موقراً؟ ففيها أيضاً ملابسة، الملابسة الأولى: إمساكك المباشر لجسم المرأة، وخلوتك بالمرأة أثناء التفصيل.
وعلى فرض أنك اتقيت هذه المسائل بزوجة تأخذ لك المقاسات وأنت تطبق وتنفذ، فالذي تنفذه تُسأل عنه: هل تنفذ ثياباً للمتبرجات يفتن بها الرجال، أو تنفذ ثياباً واسعة أو تلبس في البيت؟ فيأتي الحكم بناءً على طبيعة العمل، والله أعلم.(67/26)
تفسير سورة الملك [1]
ورد في فضل سورة تبارك أحاديث، وورد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا ينام كل ليلة حتى يقرأها، وهذا يدل على عظم ما اشتملت عليه من الآيات؛ ففيها ذكر جملة من أسماء الله وصفاته، وفيها ذكر الغاية من خلق الموت والحياة، وفيها الحث على التفكر في السماء وما فيها من الآيات الباهرات، وفيها ذكر مآل شياطين الجن والإنس إلى غير ذلك من المعاني العظيمة التي يحيا بتذكرها القلب، فما أحوج المسلم إلى تدبر هذه السورة المباركة.(68/1)
ما ورد في فضل سورة تبارك
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: نتناول في ليلتنا هذه -إن شاء الله- تفسير سورة تبارك، سورة تبارك ورد في فضلها جملة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلها متكلم فيها، ومن أهل العلم من يحسنها لكونها في فضائل الأعمال.
من هذه الأحاديث التي وردت في فضل سورة تبارك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لصاحبها عند الله عز وجل) فهذا الحديث إسناده فيه ضعف، لكن من العلماء من قبله؛ لأنه من فضائل الأعمال، وكذلك ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ سورة تبارك) ، ولكن في الحديث ضعف، ومن أهل العلم من حسنه لكونه في فضائل الأعمال، وورد حديث يصفها (بأنها منجية) وأيضاً في إسناده كلام.(68/2)
تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك)
يقول الله سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] (تبارك) من العلماء من قال: إن معناها: كثرت بركته، ومنهم من قال: إن معناها: تعالى وتعاظم، فتبارك: كثرت بركته، وتعالى وتعاظم، وأصل البركة ثبوت الخير في الشيء، وتطلق البركة أيضاً على النمو والازدياد، فمثلاً قول القائل: بارك الله فيك، أي: كثر الله الخير فيك، وأيضاً: ثبت الله الخير فيك، فالبركة تطلق على ثبوت الخير في الشيء، وتطلق أيضاً على النمو والازدياد.
فتبارك: تفاعل من البركة، أي: تزايدت بركته وتكاثرت بركته، ومن أهل العلم من قال: تعالى وتعاظم.
وفي الآية الكريمة إثبات صفة اليد لله سبحانه وتعالى، وقد تقدم الحديث على هذا باستفاضة.
ومن الأدلة في هذا الباب: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] , وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله ملأى، سحاء الليل والنهار) , فلله يد لكن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ملك ماذا؟ {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الزخرف:85] وملك كل شيء, {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك:2] من العلماء من قدر محذوفاً وقال: هو الذي خلق الموت والحياة أي: خلقكم للموت وخلقكم للحياة, هذا قول، والقول الآخر أن الموت والحياة مخلوقان من مخلوقات الله سبحانه وتعالى, كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح, فيوقف على قنطرة بين الجنة والنار, ثم ينادى: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت! ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم نعرفه هذا الموت! فيذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] ) ، فالشاهد: أن من أهل العلم من قال: إن الموت والحياة مخلوقان من مخلوقات الله سبحانه وتعالى, كسائر المخلوقات لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وما هي إلا عبرة.
والعلة من خلق الموت والحياة بينها الله في قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ) أي: ليختبركم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي: من منكم أحسن عملاً؟ إذاً: فالعلة من خلق الموت والحياة هي الاختبار, فالله سبحانه وتعالى قد نفى عن نفسه العبث قال سبحانه وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115-116] أي: تعالى الله عن العبث, فما خلقكم عبثاً أبداً، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115-116] تعالى وتنزه عن أن يعبث، وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16] , {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:39] ، وقال سبحانه: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17] ، وعلى هذا: فحياتنا ليست للهو ولا للعبث ولا للمجون ولا للتسالي, إنما كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، فهذه الفترة التي نعيشها هي أعمارنا، وهي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه على وجه الإجمال والتغليب: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وقليل منهم من يتجاوز ذلك) ، هذه المدة الزمنية التي نعيشها نحن, إنما نعيشها للابتلاء فيها وللاختبار كما اختبر من كان قبلنا, فقد اختبرت أمم من قبلنا كانوا أقوى منا أجساماً وأبداناً، وأطول منا أعماراً، ذكرهم الله في كتابه فقال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:38-39] ، فالمدة التي نعيشها في زماننا -التي هي ستون إلى سبعين سنة من أعمارنا على الغالب- مدة للاختبار وللابتلاء كما ابتلي من كان قبلنا، فلسنا بدعاً من الخلق, ورسولنا ليس بدعاً من الرسل صلى الله عليه وسلم, فكما جلس مثل مجالسنا من كان قبلنا فكذلك نحن نجلس مثل هذه المجالس للاختبار في هذه الحياة الدنيا، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] أي: ليختبركم, ليظهر منكم من هو أحسن عملاً من الآخر، ولم يقل: أكثر عملاً، فدل على أن حسن العمل هو الأمر المطلوب قبل كثرة العمل, فقد يكثر الشخص العمل، وعمله باطل أو ليس بباطل ولكنه قليل في أجره, وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج فقال: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) فالخوارج -كطائفة من أهل عمان الآن- إذا جلست بجوار أحدهم وهو يصلي مثلاً في الحرم بعد المغرب لا تستطيع أبداً أن تسابقه في صلاته! يصلي بجوارك عشرين ركعة وهو لا يمل! (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم, وصيامكم إلى صيامهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) كما أن السهم يدخل في الهدف الذي صوب إليه ويخرج سريعاً لا يكاد يبتل بالدم, فكذلك هم يدخلون الدين ويخرجون منه ولا يكادون ينالون أي فضل، ولا يظهر عليهم أي أثر من هذا الدين!! ففي قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) دلالة على أن حسن العمل أفضل من كثرة العمل, فلا بد -أولاً- من سلامة العمل ومن حسن العمل, قد يكون العمل قليلاً، ويسبق عملاً كثيراً عمله آخرون!! حتى أبواب الخير تتفاضل، قال عليه الصلاة والسلام لـ جويرية وقد تركها، وهي تذكر الله بعد صلاة الصبح، وخرج وانصرف وغاب عنها مدة ثم رجع فقال: (ما زلت على الحالة التي فارقتكِ عليها! لقد قلت بعدكِ أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلتي لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته) ، فالكلام الكثير الفارغ -خاصة في زماننا هذا- مذموم إذا لم يكن يحمل علماً أصيلاً من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن أقوال الصحابة رضي الله عنهم.
وقد تفشت عادة إطالة الخطب مع قلة الفائدة! عادة حشو الخطب وملؤها بالقصص والحكايات والخرافات والأضاحيك والمزعجات، والأشياء التي تبكي والأشياء التي تضحك، وروايات مملة مخلة والجدوى من وراءها ضعيفة, ويقصون تجارباً للبشر، وكل هذه لا تكاد تثبت في القلوب كما يثبت قول الله وكما يثبت حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قالت أم المؤمنين عائشة: (لم يكن صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم, إنما كان يتكلم كلاماً لو عدَّه العاد لأحصاه) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن قصر خطبة الرجل وطول الصلاة مئنة من فقهه) يعني: متوقفة على فقه الرجل.
فيجدر بإخواننا -الذي هم دعاة وخطباء في المساجد- أن يركزوا في خطبهم على المادة العلمية الصحيحة من كتاب الله ومن سنة رسول الله, فسر للناس آية من كتاب الله أو حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو اشرح لهم مسألة من مسائل الفقه، وكيف يجمع بين هذه الآية وهذا الحديث؟ كيف يزال الاضطراب الذي قد يتوهمه شخص بين هذه الآية وبين تلك الآية؟ حتى يخرج الناس وقد تعلموا شيئاً من كتاب ربهم ومن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، أما أن تحكي لهم تجاربك الشخصية ومغامراتك وقصصك وخيالاتك، فكل هذا لا نفع فيه, إنما النفع بالدرجة الأولى في كتاب الله وفي سنة رسول الله، وأنت إذا بلغت عن الله آية تثاب على تبليغها, وإذا بلغت عن رسول الله حديثاً تثاب على تبليغه، قال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها) ، لكن إذا حكيت للناس قصة فقد تخطئ في تلك القصة وقد تصيب, وقد تعطي الغرض منها من جانب، وتضر من جانب آخر, فلزاماً أن نكرس جهودنا في تبليغ كتاب الله عز وجل، وفي تبليغ حديث رسول الله! {وَهُوَ الْعَزِيزُ الغَفُور} [الملك:2] العزيز: منيع الجناب عظيم السلطان لا يغلبه أحد, فهو لا يغالب ولا يمانع مما أراد, وإذا أراد الله شيئاً فلا راد لقضائه وإرادته, فالعزيز هو: منيع الجناب، عظيم السلطان، لا يغالب ولا يقهر سبحانه وتعالى.
(الْغَفُورُ) يدل هذا الاسم على سعة مغفرة الله سبحانه وتعالى, وعلى كثرة مغفرته سبحانه وتعالى, إذا علمت أن الله غفور دفع عنك اليأس من رحمة الله, فإن اليأس من رحمة الله كبيرة من الكبائر, ففي هذه الآية قال: (غفور) ، وفي الآية الأخرى قال: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] , وفي الآية الثالثة: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيماً} [النساء:110] وأضيفت إلى الغفور صفة الرحمة (يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) ، وفي الآية الرابعة: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] .
فدلّت هذه ا(68/3)
تفسير قوله تعالى: (الذي خلق سبع سماوات طباقاً)
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك:3] الطابق معروف لديكم, والأطباق: الأدوار، ومن العلماء من فسر قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر:44] على أن الأبواب هي الأطباق في النار، وفسر بعض العلماء قوله تعالى: {لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} بفتح الباء أي: سماء بعد سماء أي: لتركبَنّ يا محمد! صلى الله عليه وسلم فيعرج بك سماء بعد سماء، وقد تقدم أن أشهر الأقوال في هذه الآية: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] حالاً بعد حال.
لكن هنا: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك:3] أي: سماء فوق سماء، ثم سماء فوق سماء، إلى آخره، أو كل ما علا يطلق عليه: سما, يقال: سما فلان، أي: علا فلان, فالسماوات أطلق عليهن سماوات لعلوها وارتفاع مكانها.
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3] أي: لا ترى خللاً ولا ترى ثقباً في هذه السماوات كما قال تعالى: {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] , فلا ثقب فيها، ولا تشقق فيها، ولا تصدع فيها.
قال تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3] وأصل الفطور التشقق، (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تفطّرت قدماه) أي: تشققت قدماه، (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) أي: هل ترى من شقوق؟! {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4] أي: مرتين أخريين بعد المرة الأولى, أي: انظر إلى السماء مرتين أخريين، وركز البصر هل تكتشف فيها ثقوباً أو لا؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ} [الملك:4] أي: يرجع, ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] أي: رجعوا, ومنه قول صفية بنت حيي: (قام معي النبي صلى الله عليه وسلم ليقلبني إلى بيتي) ، أي: يرجعني إلى بيتي، {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4] الخاسئ: المطرود المبعد, {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] أي: مطرودين مبعدين, ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ ابن صياد: (اخسأ! فلن تعدو قدرك) , فالخاسئ هو: المطرود.
(يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا) مبعداً طريداً (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي: كليل, فالحسير: المتعب الكليل، (يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) يعني: إذا فكرت أن تكتشف في السماء ثقباً أو خللاً أو عيباً في بنائها فانظر وركز النظر, ثم أعد النظر مرتين, ففي كل مرة من هذه النظرات سينقلب إليك البصر فاشلاً في الاكتشاف، وسيرجع ذليلاً مطروداً خاسئاً كما قال تعالى: (يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) ففي الآية حث على التفكر في مخلوقات الله, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم (يقوم من الليل فينظر إلى السماء ويقرأ هذه الآيات، وهي خواتيم آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران:190-191]-أي: ما خلقت هذا أبداً عبثاً ولا لهواً- {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] إلى آخر الآيات العشر) .
فيجدر بالعبد أن يتفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وهذا علم ضيعه الأكثرون, علم التفكر في مخلوقات الله, والنظر في آثار المتقدمين والمتأخرين والاعتبار بهم, والاعتبار بمخلوقات الله كما قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17-20] كل هذا نوع من أنواع العلوم شغل الناس عنه ببهرج وزخارف الحياة الدنيا.(68/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح)
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] السماء الدنيا أي: السماء القريبة, فالأدنى هو الأقرب, والدنيا قيل لها: دنيا؛ لسرعة زوالها وقرب انتهائها، فالسماء الدنيا هي السماء القريبة، والمصابيح هي: النجوم، {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] قال قتادة رحمه الله تعالى: خلق الله النجوم لثلاثة أشياء من تجاوزها فقد تعدى وظلم: زينة للسماء الدنيا, ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر -لقوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]- ورجوماً للشياطين.
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) أي: جعلنا هذه النجوم رجوماً للشياطين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومسترق السمع هكذا بعضهم فوق بعض, يتسمعون الملأ الأعلى, فيسمعون إلى الملائكة وهم يتكلمون في العنان, فيخطف أحدهم -أي: الجني- الكلمة خطفاً, فيتبعه شهاب ثاقب) وكما قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:6-9] .
فالجن كانت تتنصت في السماء، وتستمع إلى الملائكة التي تتحدث فيها, وتختطف الأخبار وتنزل بها على الكهنة, فبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم شددت الحراسة على السماء كما قالت الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} [الجن:9] أي: من السماء, {مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن:9] أي: للتجسس والتصنت {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9] , بعد بعثة الرسول شددت الحراسة على السماء وأصبح أي جني يستمع يأتيه شهاب يحرقه إما قبل أن يلقي الكلمة على فم الكاهن، وإما بعد أن يلقيها على فم الكاهن (فيكذب الكاهن معها مائة كذبة) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
الشاهد: أن الله قال: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) فالنجوم من فوائدها: أنها زينة للسماء الدنيا, (وَجَعَلْنَاهَا) أي: جعلنا هذه المصابيح أيضاً رجوماً للشياطين, وهل قوله: (وَجَعَلْنَاهَا) من باب: أكلت رغيفاً ونصفه, ومن باب: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] أو من باب آخر؟ ومعنى قولهم: أكلت رغيفاً ونصفه، أي: أكلت رغيفاً ونصف رغيف آخر, ومعنى قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر:11] أي: من عمر معمر آخر، فكذلك هنا هل يقال: من النجوم نجوم زينة للحياة الدنيا, ونجوم أخر لرجم الشياطين, أم أن الكواكب التي هي زينة هي نفسها التي ترجم الشياطين؟ للعلماء في ذلك قولان، ولعل هذا واضح.(68/5)
تفسير قوله تعالى: (وأعتدنا لهم عذاب السعير)
{وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} [الملك:5] أي: للشياطين {عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] وفي قوله سبحانه: (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ) ما يدل على ما سلف التأكيد عليه مراراً أن النار مخلوقة, فأعتدنا معناها: أعددنا, وأعددنا فعل ماضٍ, وقد جاء في السنة ما يؤكد هذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف, فأشد ما تجدون في الشتاء من من زمهريرها, وأشد ما تجدون في الصيف من حرها) فدل ذلك على أنها مخلوقة, وفي هذا الباب ما يقارب عشرين دليلاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
(وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) من أهل العلم من قال: إن السعير إحدى دركات النار, وقد سلف أن منهم من قال: هناك الحطمة, وجهنم, والسعير, ولظى, إلى غير ذلك.
{وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [الملك:5-6] للشياطين عذاب السعير, وللذين كفروا من الآدميين {عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الملك:6] , ولا يمنع أن يدخل الجن جهنم أيضاً، ويدخل الإنس السعير أيضاً بدليل قوله تعالى مخبراً عن قول الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:14-15] فمن الجن من يدخل جهنم, وهذا على القول بأن جهنم دركة، والسعير دركة أخرى، أما إذا قيل: إن جهنم والسعير ولظى والحطمة كلها مسمى لشيء واحد وهو النار على اختلاف دركاتها؛ فلا إشكال، وهو قول تبناه عدد من أهل العلم.
(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الذي يصيرون إليه.
{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} [الملك:7] فيه دليل على أن النار لها شهيق, ولها أيضاً زفير كما قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12] فإن قال قائل: لماذا عبر في هذه الآية الكريمة بلفظ: الشهيق، وفي الآية الأخرى بلفظ الزفير؟ الشهيق -كما هو معلوم لديكم- إدخال الهواء بشدة إلى الجوف, فكأن جهنم عندما يلقى فيها الكفار تشهق شهقة تأخذهم وتسحبهم إلى جوفها من الداخل، أما (إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) فكأنها كانت تكتم شيئاً في صدرها، فأخرجت النفس ارتياحاً لأنها رأت بغيتها! فلما رأتهم من مكان بعيد أخرجت الهواء الذي بداخلها ثم لما ألقوا فيها سحبتهم بشهيق زائد حتى أدخلتهم في جوفها حتى يتمكنوا فيها من الداخل, والله أعلم.
قال تعالى: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ) تفور: تغلي, فالنار لها شهيق، ولها زفير، وهي تتكلم, وهي أيضاً تتغيظ كما قال تعالى: (إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) وكل هذه صفات للنار على وجه الإجمال، وهي تتكلم كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يخرج عنق من النار فيقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد, وبمن جعل مع الله إلهاً آخر, وبالمصورين) .
{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:8] يعني: تكاد أن تتقطع قطعاً من شدة تغيظها على الكفار, وذكر بعض علماء الحيوان أن من الحيات حيات شديدة التغيظ على بني آدم، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الحيات على وجه الإجمال: (والله ما سالمناهن منذ حاربناهن) فبين الحيات وبين بني آدم عداوات منذ أن بدأت بينهما الحرب, ومتى بدأت هذه الحرب بينهما؟ الله أعلم بالتحديد, لكن في بعض الروايات الإسرائيلية وبعض آثار السلف أن هذا بدأ منذ إخراج آدم من الجنة عليه السلام، الشاهد: أنهم يذكرون أن من أنواع الحيات حيات شديدة التغيظ جداً على بني آدم, كلها غيظ عليك, إذا رأتك من مكان بعيد دفعت برأسها وطارت إليك! ويسمع لها دوي هائل وهي في الطريق إليك, فإذا صادفتك خرقت جسمك ودخلت من ناحية وخرجت من ناحية أخرى!! وذكروا مخرجاً من هذه الحيات فقالوا: إذا سمعت صوتها في الهواء، وهي متجهة إليك، فانبطح على الأرض على بطنك, فإذا نزلت بجوارك ولم تصب مرادها منك، تقطعت قطعاً من شدة غيظها، وتتفتت أمامك!! فالغيظ يفتتها قطعاً! فجهنم يقول الله عنها: (تَكَادُ تَمَيَّزُ) والتميز: التقطع والانفصال, ومنه قوله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59] أي: انفصلوا اليوم أيها المجرمون، فـ (تكاد تميز من الغيظ) أي: تكاد تتقطع النار من شدة غيظها على الكفار, انظر إذا كنت متغيظاً على شخص ثم تمكنت منه كيف تكاد تتقطع منه؟!(68/6)
تفسير قوله تعالى: (كلما ألقي فيها فوج)
{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} [الملك:8] فيه دليل على أن دخول الكفار النار يكون على مراحل, فئة تدخل، ثم تدخل فئة، ثم تدخل فئة, وكذلك دخول المؤمنين الجنة يكون على مراحل: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73] أي: جماعات جماعات، (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ) أي: جماعة {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك:8] والخزنة -على الإجمال- تسعة عشر ملكاً, كما قال تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] وكبيرهم هو: مالك عليه السلام, قال النبي: (هذا مالك) ، وقال الرجلان كما في قصة رؤيا النبي التي رواها سمرة بن جندب وأخرجها البخاري ومسلم، وفيها أنه (رأى رجلاً لا يضحك فسأل من هذا؟! فقال الملكان-: هذا مالك خازن النار لم يضحك منذ خلقه الله) ، فكبيرهم مالك بنص الكتاب: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ، ونص السنة: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (هذا مالك خازن النار) .
أما ما جاء أن رضوان خازن الجنة فلا أعلم فيه خبراً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الزمر:71] فالخزنة تسعة عشر لقوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] ولماذا تسعة عشر؟ لماذا هذا العدد بالذات؟ جعل الله هذا العدد فتنة: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} [المدثر:31] أي: عددهم {إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:31] ، لكن هل الخزنة هؤلاء لهم أتباع أو ليس لهم أتباع؟ وكذلك ملك الموت هل هو ملك واحد أم هم عدة ملائكة كبيرهم واحد وهو يأمرهم بالأمر وهم ينفذونه؟ من العلماء من قال: إن ملك الموت الكبير واحد, وله أتباع لقوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] ومن العلماء من قال: هو واحد بلا أتباع لقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11] ، فهل يقال أيضاً في خزنة النار: إن الكبار هم التسعة عشر، ولهم أتباع أو نمسك عن ذلك إلى أن تأتينا نصوص أخر؟ هناك دليل قد يشهد للقول بأن لهم أتباعاً، وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه -وإن كان فيه نوع انتقاد- قال: (يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام, مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) في تفسير قوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23] .
قال سبحانه: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا) الخزنة أي: القائمين عليها, ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الخازن الأمين إذا أعطى ما أمره به سيده فهو أحد المتصدقين) الخازن الأمين يكون -مثلاً- خازناً لرجل ثري, أو لرجل له تجارات, فيكون قائماً على المخزن فيقول له: اعط فلاناً كذا, فقد يكون الخازن بخيلاً لا يريد أن يعطيه أصلاً، ومنهم من يكون سهلاً يقول له: خذ تفضل، فهذا أحد المتصدقين.
يقول الله سبحانه: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:8-9] صار الكلام الآن على لسان الملائكة, فالملائكة ترد عليهم وتقول: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:9] , وهذا واضح، فقد يكون الخطاب على وتيرة واحدة ثم يتحول من شخص إلى شخص آخر, كما في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:51-52] القائل: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) هم الكفار, {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] كثير من المفسرين يقولون: إن القائلين: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) هم الملائكة، فالكفار يقولون: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) فتقول الملائكة: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) , ومنهم من يقول: هي أيضاً من قول الكفار، فهنا قوله تعالى: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) فترد الملائكة عليهم: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) .
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] نادوا على أنفسهم بالغباء وبالجهل, نادوا على أنفسهم على رءوس الأشهاد بأنهم كانوا في الدنيا أغبياء جهلة.
{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا} [الملك:11] أي: بعداً وهلاكاً {لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11] .
استدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] على مسألة العذر بالجهل, وأورد الشنقيطي في أضواء البيان هذه الآية في جملة الآيات التي يستدل بها على مسألة العذر بالجهل, والآيات الأخرى التي على شاكلتها هي قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] , وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] , وقول الحواريين لعيسى: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة:112] فالشك في قدرة الله كفر, لكنهم ما كفروا بسبب جهلهم، وقول بني إسرائيل لموسى: {يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] , وقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) , وقول ذلك الرجل كما في الحديث: (لئن قدر عليّ ربي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين) وسجود بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرد النهي، في جملة استدلالات استدلوا بها على مسألة العذر بالجهل, والحاصل: أن من فعل شركاً وهو جاهل لا يؤاخذ بهذا الشرك مادام يشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد أن محمداً رسول الله, والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.(68/7)
الأسئلة(68/8)
حكم التورك في الصلاة إذا كان المسجد مزدحماً
السؤال
كنت في الصلاة وبجواري طالب علم، وكان الزحام شديداً جداً، وتورك في تشهد الصلاة مما أدى إلى إيذائي جداً, وتحامل على ساقي جداً, وبعد الصلاة قلت له: إذا كان الزحام شديداً بالمسجد فلا تتورك حتى لا تؤذي غيرك، ولك الأجر بالنية، وأنا رجلي توجعني, فقال: أعطل سنة من أجل رجلك التعبانة!! فما رأيكم في هذا؟
الجواب
مع احترامنا له هو جاهل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا تدافعت الأمور اختار الأيسر منها, مثلاً: خطأان لازم أن تقع في واحد منهما فاختر الخطأ الأقل, والحاصل هنا أن أحد الخطأين هو أن أؤذي جاري وأضر بالمسلم الذي بجواري وأؤلمه طول الصلاة والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن إيذاء الجار، والخطأ الثاني أن أترك سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وهي لا تخل بصحة الصلاة ولا تؤثر على سلامتها, الصواب أن أختار أخف الضررين فإن الرسول (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً) ، والنبي يقول: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) يعني: صل على الحال التي تستطيع, إذا ما استطعت أن تصلي قائماً صل جالساً, وإذا ما استطعت أن تصلي جالساً صل مضطجعاً, وإذا ما استطعت أن تصلي مضطجعاً أومئ إيماءً بعينك, وإذا ما استطعت أن تومئ بعينك مرر أركان الصلاة على قلبك، لكن أن تؤذي عبداً من عباد الله بجوارك وتزعم أنك مطبق للسنة!! هذا ضرب من ضروب الجهل يا إخوة! لأنه حصر السنة في التورك فقط, وغفل أن من سنة الرسول أنه بالمؤمنين رءوف رحيم صلى الله عليه وسلم.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى, والسلام عليكم ورحمة الله.(68/9)
من أحدث حدثاً أصغر أثناء غسله من الجنابة
السؤال
إذا أحدث المرء حدثاً أصغر قبل تمام غسله من الحدث الأكبر, هل يجب عليه إعادة الغسل أم لا؟
الجواب
الوضوء قبل الحدث الأكبر لا يجب, ويجزئ أن تغسل كل جسمك مرة واحدة ولو بالدش مرة واحدة, لكن إذا أحدثت حدثاً أصغر في نصف الاغتسال فأقول لك من باب الاحتياط: ابدأ غسلك من جديد, والله أعلم.(68/10)
دراسة البنت خارج محافظتها لمدة عام
السؤال
هل يجوز أن تلتحق ابنتي بكلية خارج المحافظة لمدة عام ثم تعود؟
الجواب
يجوز إذا لم تكن ستسافر بلا محرم، وكان لها مكان آمن تستقر فيه هنالك, إذا وصلتها أنت إلى مكان آمن، مثلاً: كلية داخلها جمعية للبنات, وأنت توصلها إلى هناك، وإذا أرادت أن ترجع أرجعتها بنفسك, والمكان آمن، كله بنات مع بعضهن البعض، فهذا يجوز مع أن الأولى ترك ذلك, والله أعلم.(68/11)
من اغتسل من الجنابة ثم خرج من فرجه شيء كالمني
السؤال
اغتسلت من الجنابة، وبعد لبس الملابس خرج من الفرج شيء يشبه المني, ولا أعلم هل هو مني أم لا؟ وهو سائل شفاف أبيض، فقمت بالاغتسال مرة أخرى! وعند لبس الملابس حدث أن خرج نفس الشيء مرة ثانية!! فقمت في هذه المرة بغسل الفرج فقط وتوضأت، فهل هذا صحيح؟
الجواب
نعم هذا صحيح, والعلماء يذكرون هذا خاصة في النساء إذا جامع الرجل زوجته وبعد أن جامعها قامت سريعاً فاغتسلت, وبعد أن اغتسلت خرج منها مني الرجل, فيقولون: يلزمها الوضوء فقط.
وكذلك الرجل إذا قضى حاجته وبعدما استنجى خرج منه السائل الأبيض, فيتوضأ ويغسل ذكره, وهذا ودي لأن من صفات المني الذي يوجب الاغتسال: أن يخرج بشهوة وبدفق ويتبعه فتور, كما قال العلماء في وصفه: يخرج بشهوة وبدفق ويتبعه فتور, والذي حدث عند السائل -أظنه والله أعلم- من باب الودي، وليس منياً، والله أعلم.(68/12)
حكم عزم الرجل على الطلاق وعدم تنفيذه
السؤال
أخ ملتزم حلف على زوجته الملتزمة ألا تذهب إلى عرس أختها، والذي سترتكب فيه محرمات، وإلا سيكون ذلك طلاقاً لها، وهو يصر على هذا، فهل عليه إثم؛ لأنه عقد العزم على طلاقها؟
الجواب
يا إخوان! الأخ الملتزم والأخت الملتزمة اصطلاحات جديدة لم تكن دارجة بين أصحاب الرسول, الملتزم والملتزمة هذه الألفاظ ابتعدوا عنها، قولوا كما قال الله: {إنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] تلك اصطلاحات دخلت في أوساطنا، واستعلمها حتى بعض المشايخ!! هذا كتاب الله ليس فيه كلمة ملتزم, وكذلك سنة الرسول، قولوا: الصالحات والطيبات بالاصطلاحات التي في كتاب ربنا وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] , قولوا: عبد الله، رجل صالح, هذه الألفاظ نريد أن نعيدها بدل الأخ الملتزم والأخت الملتزمة, حتى في اصطلاحات البيوت يأتيك فيها جديد، يقول لك: عم فلان! والصواب عمك فلان، الآن يقول الأب لابنه إذا جاءهم شخص غريب: هذا عم فلان!! لم لا يقول: هذا عمك فلان، ويقول: خالة فلانة! لم لا يقول: خالتك فلانة؟ هذه تعديلات حصلت على الاصطلاحات التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والناس ينساقون وراءها ولا يفكرون, كلٌ يأخذ من فم الآخر ويطبق, فيجب أن تأخذ الذي صدر من في الرسول عليه الصلاة والسلام وتطبقه.
أما فيما يتعلق بالإجابة على السؤال فلأقول: ليس عليه إثم, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل) .(68/13)
نصيحة للعمال بشأن الصلاة
السؤال
يقول الأخ: نرجو أن تذكروا إدارة المسجد بشأن العمال القائمين على أعمال الخرسانة الذين يعملون وقت الصلاة دون أن يحثهم أحد على ترك أعمالهم لأداء الصلاة, وإن قيل: إن عملهم سيفسد بتركه للصلاة فهل هم لا يتناولون الطعام؟!
الجواب
صحيح هذا باب يجب أن ينبه عليه, حتى لا يكون هؤلاء أشقياء في الدنيا وأشقياء في الآخرة, فجدير بنا أن نذكرهم ونعينهم على أنفسهم, وقت الصلاة لابد من إيقافهم وإدخالهم المسجد، وينبغي للعمال أن يرتبوا أنفسهم من بداية الخلطة على أن الخلطة تنتهي عند وقت الصلاة.(68/14)
الصدق في الدعوى
السؤال
يقول الأخ: فقدت دراجتي منذ أسبوعين وعملت محضراً وقلت فيه: أنا لا أتهم أحداً بالسرقة, ثم بعثوا إليّ بأنهم وجدوا الدراجة, ولما ذهبت وجدت اسمي على دراجة أخرى أفضل من دراجتي, ولما جادلت أمين الشرطة قال لي زميل له: لو لم تأخذها غيرك سيأخذها, ثم عمل محضراً بعدما أبديت الموافقة وجاء فيه: هل تتهم فلاناً وفلاناً بسرقة الدراجة؟ فأجاب الأمين على نفسه: نعم أتهم, والأمين هو الذي أجاب بلسان صاحب الدراجة، ثم وقعت على ذلك! فما الحكم؟
الجواب
أنت الآن آثم وظالم, أولاً: أخذت غير دراجتك.
ثانياً: اتهمت أناساً بناء على اتهام أمين الشرطة, ووقعت على ذلك, فإذا أخذت شيئاً ليس لك فأنت كالسارق، وقد ظلمت عباداً لله سبحانه وتعالى.
السائل: ثم قال لي: بعد يومين ستستلم الدراجة, ثم بعثت إلي النيابة لأحضر للتحقيق أمامها, فذهبت وأنكرت اتهامي للمتهمين! الشيخ: أحسنت.
السائل: ثم أبديت موافقة على أن هذه الدراجة التي رأيتها في المحضر ملكي, ثم وقعت على ذلك؟ الشيخ: ماذا تريد؟ أنت -أولاً وأخيراً- مسرف على نفسك، كان الواجب عليك إذا سُئلت: الدراجة لك؟ تقول: لا، ليست لي، ليست حقي.
وإن سئلت: هل تتهم فلاناً؟ تقول: لا أتهم فلاناً, وانتهى الأمر.
أما كونك ترتكب جرائم في حق الناس وتريد أن نحلها لك!! عليك الآن أن تستغفر الله, وإن استطعت أن تبرئ من اتهمتهم أبرأته، وعليك أن ترد ما ليس لك باختصار, لا تأخذ شيئاً ليس لك, ولا تتهم إنساناً بريئاً.
فإن صدر منك شيء، فاجتهد أن تتحلل من كل شيء ارتكبته في حق الناس.(68/15)
تفسير سورة الملك [2]
اشتملت سورة الملك على معان عظيمة، ومما اشتملت عليه: فضل الذين يخشون ربهم بالغيب، وفيها ذكر نعم الله على عباده، وحثهم على طلب الرزق، وألا ينشغلوا به عن تذكر الآخرة، وفيها ذكر بطش الله بمن عصاه، وفيها ذكر حال الكافرين الذين ضلوا عن سواء السبيل في الدنيا، ثم ذكر حالهم في الآخرة، وغير ذلك من المعاني التي تزيد الإيمان، وتزكي النفوس، وتطهر القلوب.(69/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] الخشية هي: أشد الخوف، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] أي: إن العلماء يخافون ربهم خوفاً شديداً، فالخشية هي: شدة الخوف.
وفي قوله تعالى: (بِالْغَيْبِ) قولان للعلماء: القول الأول: أي: يخشون ربهم وهم لا يرونه، ويشهد لهذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في القوم الذين يجلسون مجلساً فتحفهم الملائكة حتى يسدوا ما بينهم وبين سماء الدنيا: (فيسأل الله ملائكته: ماذا يقول هؤلاء؟ فيقولون: يعظمونك ويحمدونك ويكبرونك ويهللونك، فيقول: هل رأوني؟ قالوا: لا ما رأوك يا رب! قال: كيف لو رأوني؟) .
فمن العلماء من قال: إن معنى: (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي: يخشون ربهم وهم لا يرونه سبحانه وتعالى.
والقول الثاني: أي: يخشون ربهم وهم غيب عن أعين الناس، وهم في الخلوات والفلوات منفردون بعيدون عن الناس، فيراقبون الله في السر ويراقبون الله في العلن، فلا يراءون الناس ويظهرون أمامهم الأعمال الصالحة، إنما سرهم وعلانيتهم سواء.
وعلى هذا فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} فيه قولان: القول الأول: أي: يخشون ربهم وهم لا يرونه.
القول الثاني: أي: في حالة غيابهم وبعدهم عن الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) .
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أفادت هذه الآية أن الإيمان والخشية سبب في مغفرة الذنوب، وسبب أيضاً في إثبات الأجور.
هناك أعمال يكفر الله بها الذنوب؛ فالصلوات الخمس مكفرات، والعمرة مكفرة، والجمع مكفرات، والحج مكفر للذنوب، كذلك حسن الخلق يكفر الذنوب، ومن المكفرات أيضاً الإيمان والخشية، فالإيمان بالله والخوف الشديد من الله سبحانه وتعالى سبب في تكفير الذنب، وسبب في تفريج الكرب، ألا ترى إلى أحد الثلاثة الذين آواهم المطر إلى كهف وسدت عليهم فتحته بصخرة، فتوسل أحدهم إلى الله بخشيته لله لما قعد بين رجلي ابنة عمه، فقالت له: اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام عنها، وفرج الله عنهم بذلك، فالخشية سبب في مغفرة الذنوب، وسبب في إثبات الأجر الكبير: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} .(69/2)
تفسير قوله تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به)
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك:13] فالسر والعلن عند الله سواء، أي: سواء أسررتم القول أو جهرتم به فالسر والعلن عند الله سواء، كما قال تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود:5] ، وقال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] ، {يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69] ، فالسر والعلن عند الله سواء، لكن ما يظنه بعض أهل النفاق أن الله يعلم الجهر ولا يعلم السر، فهذا ضرب من ضروب الجهل، وهذا من الظن السيئ بالله سبحانه، في صحيح مسلم أن ثلاثة نفر: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، جلسوا فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أسررنا، فقال الثالث: إن كان يسمع إن جهرنا فهو يسمع إن أسررنا، أو إن كان يسمع إن أسررنا فهو يسمع إن جهرنا، فنزل فيهم قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:22-23] .
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} فهذا وذاك يستويان عند الله، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] ذات الصدور: هي: الأسرار التي يكنها الشخص في صدره، ولا يحدث بها أحداً أبداً حتى إنه لا يكاد يحدث بها نفسه، مثل ذنب أذنبه الشخص ولا يريد أن يتذكره، ولا يحدث به أحداً على الإطلاق، فهذا الذنب يقال له ولأمثاله: ذوات الصدور، يعني من الأسرار الشديدة التي التصقت بالصدور، فأصبحت كامنة في الصدور لا تفارقها أبداً بحال من الأحوال.
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] هو الذي خلقك، فهو يعلم سرك وعلانيتك، فأنت إذا صنعت شيئاً تعرف كيف تم الشيء، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] لطيف: يعلم دقائق الأمور وما لطف منها، وفي الأصل الشيء اللطيف: هو الدقيق الخفيف، فمعنى اللطيف: الذي يعلم الأشياء الدقيقة اللطيفة، ويصلح برفق وبتلطف.(69/3)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا} [الملك:15] أي: مذللة مسخرة كما قال عن الأنعام: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72] .
{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] من العلماء من قال: المناكب: الأرجاء، أي: النواحي، ومنهم من قال: المناكب هي: الجبال، أي: الأماكن المرتفعة، كما أن منكبك هو الكتف، وقد ورد أن بعض السلف الصالح -أظنه بشير بن كعب - قال لجارية له: إن أخبرتِني ما مناكبها؟ فأنت حرة لوجه الله! بمعنى: إن أخبرتني عن تفسير: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} فأنت حرة لوجه الله! فقالت له: مناكبها: جبالها، فقال: أنتِ حرة لوجه الله، ثم أراد أن يتزوجها، فسأل أبا الدرداء، فقال له أبو الدرداء رضي الله عنه: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
وما معنى هذا القول في هذا الموطن؟ معناه -والعلم عند الله- أنها قد تكون فسرت الآية تفسيراً فيه خطأ، فيكون عتقها لم يقع لأن تفسيرها خطأ، فإذا جئت تتزوجها فالمسألة مشكوك فيها؛ لأن عتقها فيه شك أصلاً، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
فمن أهل العلم من قال: المناكب: الجبال، ومنهم من قال: المناكب: الأرجاء والنواحي.
{وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي: إليه نشوركم أي: خروجكم من قبوركم يوم القيامة.(69/4)
طلب الآخرة مع طلب الرزق
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} امشوا وكلوا، ثم تذكر -يا عبد الله- الآخرة، يعني: امش في مناكبها، وكل من رزقه، ولا تنس أن هناك نشوراً، وهذا كالآية الأخرى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11]-يا داود! - {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] أي: اجعل المسمار على قدر الثقب، لا توسع المسمار فيكون غليظاً، ولا توسع الثقب فيحصل خلخلة، وبعد أن قال: (أن اعمل سابغات وقدر في السرد) قال: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [سبأ:11] فذكر بالعمل الصالح، وكما في قوله تعالى أيضاً: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة:197] أي: أيها المسافرون! تزودوا في أسفاركم، واحملوا معكم الزاد والطعام، وهذه الآية نزلت في أهل اليمن: كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا أتوا إلى مكة مدوا أيديهم للناس! فقال الله في شأنهم: {وَتَزَوَّدُوا} ثم أشار إلى الزاد الأهم فقال: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] أي: تزودوا للدنيا ولا تتركوا التزود للآخرة، وكما في الآية الأخرى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف:26] وهو اللباس الذي عليكم، {وَرِيشًا} [الأعراف:26] تتجملون به، ثم أشار إلى اللباس الأفضل حتى لا ينسى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26] ، وكما في الآية الأخرى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] أي: إذا فرغت من أعمال الدنيا فاجتهد في عبادة الله، فكل هذه أدلة تحثك على العمل للدنيا، والتزود أيضاً للآخرة، فهنا قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} ثم أشار إلى الآخرة وإلى العمل لها وإلى التذكير بها في قوله تعالى: (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) .(69/5)
الحث على كسب الرزق
وفي الآية حث على العمل والاكتساب لقوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَاوَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} وهذا أمر، لكن هل يقتضي الوجوب؟ في الحقيقة إن الأمر في هذا الموطن يقتضي الإباحة، فلا يجب عليك أن تمشي في المناكب -إن كان عندك سعة- فالأمر أمر إباحة، كما قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:10] هل يجب عليك أن تنتشر في الأرض إذا قضيت الصلاة، أو يجوز لك أن تمكث في المسجد لحديث: (الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه الذي صلى فيه تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث) ؟ فقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} فيه إباحة الانتشار، وليس وجوب الانتشار، كذلك قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] هل يجب أن يأتي الرجل امرأته إذا تطهرت أو هو أمر إباحة؟ هو أمر إباحة كما كان الأمر من قبل أن تحيض، والله سبحانه أعلم.
لكن على كلٍ فقوله سبحانه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} حث على البحث عن الأرزاق في الأرض، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحدٌ طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على نبي الله داود عليه الصلاة والسلام؛ لكونه كان يأكل من عمل يده، والعمل الذي كان يعمله داود عليه الصلاة والسلام هو كما قال تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11] يعني: اعمل الدروع، وهي: صنعة الحدادين، هي تقي من سهام العدو، وتقي من السيوف والضربات، {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي: دروعاً سابغات، تسبغ أي: تغطي، ومنه قولهم: هذا الثوب سابغ، يعني: يغطي ما تحته، ومنه قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] أي: غطاكم بنعمه الظاهرة والباطنة.
فنبي الله داود كان يأكل من عمل يده، وكان يعمل سابغات، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم (أن زكريا كان نجاراً) ونوح عليه الصلاة والسلام امتهن نفس المهنة فصنع الفلك كما قال الله له: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37] وهذا يقتضي أن يكون ملماً بأعمال النجارة، وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام: (ما بعث الله نبياً إلا وقد رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟! قال: نعم قد رعيتها على قراريط لأهل مكة) أي: مقابل قراريط -أي: دراهم- آخذها من أهل مكة، ونبي الله موسى صلى الله عليه وسلم جعل من نفسه أجيراً لعفة فرجه ثماني سنوات: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] ، وقد أسلفنا القول بأن سليمان كان يقف يراقب الجن وهي تحفر وتصنع التماثيل، والجفان، والقدور الراسيات: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ:14] .
فهذا سلوك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأكلون من عمل أيديهم، وقد قال الله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الكسب: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره يرعى الغنم، ثم عمل تاجراً، ثم جعل رزقه تحت ظل رمحه، فكل الأنبياء كانوا يعملون ويجتهدون عليهم الصلاة والسلام، وكذلك السلف الصالح، فأمير المؤمنين عمر يقول: (ألهاني الصفق بالأسواق) يعني بالتجارة، والله يقول أيضاً: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] فكانوا متعففين لا يمدون أيديهم للناس، بل يذهبون إلى العمل، وهكذا كان الصحابة، فهذا عبد الرحمن بن عوف قدم إلى المدينة، وجاء سعد بن الربيع يعرض عليه أن يتنازل له عن إحدى زوجتيه، وأن يشاطره ماله، قال: مالي أقسمه بيني وبينك نصفين، وانظر أي زوجتي شئت أطلقها فتزوجها!! قال: بارك الله لك في أهلك وفي مالك، ولكن دلوني على السوق؛ وهذا ينبغي أن يكون شعاراً محفوظاً: (دلوني على السوق) فدلوه على السوق، فما هي إلا أيام معدودة حتى أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، فقال: (ميهم يا عبد الرحمن؟! قال: تزوجت يا رسول الله! قال: كم سقت إليها؟ قال: وزن نواة من ذهب) ، وكان هذا مهراً كبيراً، حتى إنه جاء في بعض الروايات أن الرسول قال: (كأنما تغرفون من بطحان) أي: لكثرة المهور التي تعطونها للنساء، الشاهد: أنه تعفف عما في يد أخيه -مع أن أخاه عرض عليه المال- وأقبل على العمل.
وهذا أبو مسعود البدري يقول: لما نزلت آية الصدقة كنا نذهب إلى الأسواق فنحامل على ظهورنا، ونأتي بأموال كي نتصدق بها، وفي آخر حياته رضي الله عنه أصبح من كبار الأثرياء، حتى إن عماراً وأبا موسى ذهبا إليه يوماً، ودارت مناقشة بين الجميع فقال أبو موسى لـ عمار: يا عمار! والله ما نقمت عليك شيئاً منذ أسلمت إلا تسرعك في هذا الأمر، أي: في الاشتراك في القتال مع علي، والاشتراك في القتال بصفة عامة، فقال عمار لهما: والله يا أبا موسى ويا أبا مسعود! ما أنقم عليكما شيئاً منذ أسلمتما إلا تخلفكما عن قتال الفئة الباغية، ثم إن أبا مسعود أمر لكل منهما بحلة، والحلة كانت باهضة غالية الثمن في ذلك الزمن، وقال: انطلقا بها إلى الجمعة.
وأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها لم تكن في حاجة إلى المال، فرسول الله يكفيها بإذن الله، ولكنها كانت تعمل فتأتي بجلد وتدبغه في بيتها، ثم تبيعه وتأخذ ثمن الجلود تتصدق بها، ولذلك قال الرسول في شأنها: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً) أي: بالصدقة.
الشاهد: أن إخواننا الذين يظنون أن ديننا مبني على مد اليد وعلى التكاسل وعلى البلادة ظنهم خاطئ، فاليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا يد المعطي واليد السفلى يد الآخذ، فالعمل ليس بعيب أبداً، امتهن أي مهنة، حتى لو يأخذ أحدكم أحبله فيحتطب، خير له من أن يأتي هذا فيسأله، ويأتي هذا فيسأله، فكن عفيفاً يا عبد الله! فهذا كلام الله وسنة رسول الله فيهما الحث على طلب الرزق، وقد سمعت بعض سير أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد استدل بعض العلماء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) فقال هذا المستدل: إن النبي قال: (لرزقكم كما يرزق الطير) نعم، الطير يرزقها الله، لكن ليس وهي في أوكارها، والله قادر أن يرزقها إذا شاء على أي وضع، لكن الطير لا تجلس بليدة كسولة وتقول: إن رزقي يأتيني في وكري، إنما تغدو أي: تخرج تبحث عن الرزق، وترجع أي: تروح، فاستدل به على أن الأخذ بالأسباب مشروع مع التوكل.
أما الحكايات والقصص والخرافات التي تحكيها بعض الجماعات وتتبناها، فلا أصل لها.
فاعملوا بالأدلة التي سمعتموها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعال سلف الأمة رحمهم الله.(69/6)
تفسير قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء.)
ثم قال سبحانه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] استدل بها على أن الله في السماء، والأدلة على هذا لا حصر لها، منها: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ، عرج برسول الله إلى بعد السماء السابعة {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:14-15] وفرضت عليه هنالك الصلوات، (يتنزل ربنا إلى سماء الدنيا إذا كان الثلث الأخير من الليل) ، (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) ، {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59] ، إلى غير ذلك من الأدلة قال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (فتمور) أي: تتحرك وتضطرب اضطراباً شديداً.
{أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:17] أي: حصى وتراباً كثيراً، {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي: كيف إنذاري لكم.
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الملك:18] أي: كيف أنكرت عليهم أفعالهم، وأحللت بهم العذاب، وأنزلت بهم البلاء؟!(69/7)
تفسير قوله تعالى: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات.)
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك:19] أي: صافات الأجنحة، فهي أيضاً تسعى للأرزاق كما أنكم تسعون وتنتشرون في الأرض للأرزاق، وهناك دواب وأمم غيركم، أشير إلى بعضها في هذه الآيات، وذكر الآخر منها في آيات أخرى، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38] وهذا في شأن الدواب، وفي شأن الأشجار والثمار قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل:49] ، وقال سبحانه في الآية الأخرى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18] الآيات.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} أي: صافات الأجنحة، {وَيَقْبِضْنَ} [الملك:19] أي: يقبضن الأجنحة، يعني: الطير تطير في السماء صافة الأجنحة وقابضتها {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك:19] أي: بكم وبأعمالكم وبالطيور وبأعمالها بكل شيء بصير، وعلى كل شيء مطلع، وراء لكل شيء ومبصر له سبحانه وتعالى، فالله مطلع على أعمالكم وأنتم تسيرون وتعملون الأعمال، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} والله مطلع عليكم وعلى أعمالكم، فأعمالكم تعرض على الله كما في الآية الأخرى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] يعني: أعمالك التي تعملها سيراها الله بنص الآية الكريمة: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) ، ورسوله أيضاً سيراها صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون أيضاً سيرونها، وأيضاً سيراها الملائكة كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:19-21] فالمقربون يشهدون أعمالك، فإذا كان ذلك الأمر كذلك، فأعمالك التي تعمل من سيراها؟ يراها ربك، ثم يراها نبيك صلى الله عليه وسلم، ويراها أهل الإيمان، ويراها الملائكة المقربون، فإذا علمت ذلك واشتد يقينك به أحسنت العمل، وأتقنت العمل؛ لأن الذي سيراه هو الله، والذي سيطلع عليه هو الله، وأيضاً غيره ممن ذكرنا.(69/8)
تفسير قوله تعالى: (أمن هذا الذي هو جند لكم.)
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك:20] (أمن هذا) : على سبيل التحدي، من هو الشخص الذي يستطيع أن ينصركم من دون الرحمن؟ ويحمل معنى التهكم والسخرية والازدراء وبيان ضعف المخاطب، من هو هذا الذي ينصرك؟ {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك:20] غرهم الشيطان.
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا} [الملك:21] أي: تمادوا واستمروا، {فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك:21] أي: في استكبار وعناد، والنفور: هو الابتعاد عن الحق.(69/9)
تفسير قوله تعالى: (أفمن يمشي مكباً على وجهه.)
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] شبه الكافر في مشيه ومسيره في الحياة الدنيا بأنه يمشي مكباً على وجهه، وهو أيضاً سيمشي مكباً على وجهه في الآخرة كذلك، كما قال سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: (كيف يمشي الكافر على وجهه يوم القيامة يا رسول الله؟! قال: إن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه في الآخرة) ، فالآية فيها مقابلة بين المسلم والكافر: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، ومن الآيات التي على شاكلتها: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:19-21] ، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9] .(69/10)
تفسير قوله تعالى: (قل هو الذي أنشأكم)
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23] من العلماء من يقول: إن السمع أفضل من البصر لتقديمه في هذه الآية، وإن قال قائل: لماذا أفرد السمع وجمع البصر في هذه الآية: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ) ؟ من العلماء من قال: لأن السمع أفضل من البصر، والأفضل يفرد والمفضول يجمع، كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} [الأحزاب:50] فأفرد العم وجمعت العمات: {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50] فأفرد الخال وجمعت الخالات، وكما في قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] فأفرد النور وجمعت الظلمات، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل:48] أفرد اليمين وجمعت الشمائل، وهذا قول لبعض العلماء، ومن إخواننا الأطباء من يقول: يتصل بالأبصار وتران، بينما يتصل بالسمع وتر واحد، فإذا قطع الذي يصل إلى السمع صمت الأذنان معاً، أما إذا قطع الذي يصل إلى البصر فقد ترى بعين ولا ترى بالأخرى، والله أعلم.
(قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) أي: شكركم قليل.
{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الملك:24] .(69/11)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)
{وَيَقُولُونَ} [الملك:25] أي: على سبيل التحدي والجدل {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الملك:25] أي: متى يوم القيامة؟ فهو استعجال منهم للبعث، وكما في قيلهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] {وَيَقُولُونَ
الجواب
=6005265>مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: الوعد بالبعث والوعد بالقيامة والوعد بالجزاء والحساب.
{قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} فيها رد على من يحدد يوم القيامة بيوم محدد: (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) وهذا من البدهيات والمسلمات، لم يقل: سنة ألفين، ولا سنة ألفين وأربعة، ولا بعد هرمجدون، ولا هذه التخاريف، كما قال الله سبحانه هنا: (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) علمها عند ربي في كتاب لا يجليها لوقتها إلا هو، في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
{وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} هذه مهمتي، وأنا أعرف قدري فلا أتجاوزه، وهذه الآية أصل في أن الشخص يعرف قدره، ويقف عند العلم الذي علمه الله إياه، ولا يتعالم ولا يدخل برأسه في كل شيء، فالرسول سئل عن مسائل لم يعلمه الله إياها فأمسك، فقد سئل عن الروح فقال الله له: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] .
وسئل عن الساعة فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) فكان صلى الله عليه وسلم يقف عند ما لا يعلمه.
أما أن تدعي أنك تعرف في كل شيء، فهذا من الجهل والغباء، ولذلك قال عدد كثير من السلف وليس واحداً أو اثنين: ينبغي للعالم أن يعلم جلساءه شيئاً هاماً ألا وهو: (الله أعلم) ، يمسكهم بهذا الشعار، كلما سئلوا عن شيء لا يعرفونه فليصدروا الإجابة به: (الله أعلم) .
وقد قيل للقاسم بن محمد أو لابنه: إنه يعد عيباً على من هو في مثلك من الفضل أن تسأل عن شيء ولا نجد عندك فيه علماً! فقال: وأشد منه عاراً أن يقول الشخص عن الله أو عن رسوله بغير علم.
فينبغي أن يرفع الشخص شعار: (الله أعلم) ، فالرسول هنا سئل: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} فليس هذا من علمه، بل هو أمر خارج عن طاقته، وخارج عن حدود معرفته، {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: عملي الإنذار والتذكير.
{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} [الملك:27] أي: قريباً، فالزلفى: القربة: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ، وقيل لمزدلفة: مزدلفة -كما قال بعض العلماء- لأنه ازدلف فيها آدم من حوى أي: تقاربا، والله أعلم بهذا، والظاهر أنه من الإسرائيليات، لكن الزلفى: القربة، ويتزلف فلان إلى فلان أي: يتقرب فلان إلى فلان.
{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} أي: لما رأوا هذا اليوم والعذاب قريباً {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك:27] أي: جاءها ما يسوءها {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك:27] بمعنى: تدعون وتسألون، فإنكم كنتم كما تقولون: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] ، وكنتم تقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] ، فمن العلماء من قال: (تدّعون) بمعنى: تدعون، ومنهم من قال: (تدّعون) هنا بمعنى: تكذبون، {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي: تكذبون.(69/12)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي.)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الملك:28] إن أهلكني الله أو رحمني، وإن مت أو حييت، فهذا بيني وبين ربي، لكن أنتم من يجيركم -يا كافرون- من عذاب أليم، فالكل ميت ومغادر لهذه الحياة الدنيا كما قال الله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] ، وهنا قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} إن رحمنا أو عذبنا، إن أحيانا أو أماتنا، سلوا أنتم عن أنفسكم ولا تشتغلوا بغيركم، فمن يجيركم أنتم من عذاب أليم؟ والآية فيها دلالة على أن الشخص عليه أن ينشغل كثيراً بنفسه لتهذيبها وإصلاحها، فأنا إن مت يا أيها الكافر! وأنا إن مت -يا مسلم- أو حييت أو عذبت أو رحمت، فهذا شأني مع ربي، وانشغل أنت بشأنك واسأل نفسك: بماذا ستقابل ربك سبحانه وتعالى؟ وكما قال القائل: يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه!! {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} [الملك:29] الشيوعي يفتخر بشيوعيته، النصراني يفتخر بنصرانيته، الفاجر يفتخر بعشيقته وصديقته، فأنت يا مسلم! افتخر بدينك وأعلنها صريحة فأنت أولى بذلك: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} ، {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136] ، فعار على المسلم أن ينتكس ويبتعد عن سنة رسول الله، أو يستخفي عند التمسك بالسنة!! {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] أي: خاب من أخفى نفسه عن الخير، عار عليك أن تخفي تمسكك بسنة الرسول، والنصراني أمامك يعلق الصليب في رقبته شاهراً نصرانيته وشاهراً باطله على صدره، وأنت -يا مسلم- تتخفى وتدس نفسك وتخفيها عن الخير، ولا تعلن أنك من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم!! {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} وإن كذبتم بالرحمن، وإن أشركتم مع الرحمن آلهة أخرى، {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الملك:29] أي: بعدٌ بعيد عن سواء الصراط، والضلال: التيه والبعد والضياع.
لو قيل: لماذا كرر اسم الرحمن كثيراً في كتاب الله؟ الظاهر -والله أعلم- لأن أهل الشرك كانوا ينكرون اسم الرحمن، في صلح الحديبية قال صلى الله عليه وسلم لـ علي: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) فقام سهيل بن عمرو واعترض وقال: لا تكتب الرحمن!! فإنا لا نعرف الرحمن، ولكن اكتب: باسمك اللهم، وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك:30] أي: إن أصبح ماء الآبار عندكم غائراً في الأرض فلا تنالونه، ولا تدركه الدلاء، {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] أي: من يأتيكم بماء عذب؟ الله سبحانه وتعالى رفع عنكم العذاب، ورفع عنكم البلاء وأكرمكم بهذه الكرامات، فجدير بمن صنع بكم هذا أن تشكروه وأن توحدوه وأن تكثروا من حمده وشكره، والله أعلم.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(69/13)
الأسئلة(69/14)
حديث: (إذا فتحت عليكم الشام فاتخذوا منها جنداً)
السؤال
(إذا فتحت عليكم الشام فاتخذوا منها جنداً فإنهم خير أجناد الأرض) ؟
الجواب
الذي يحضرني أن هذا الحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله.(69/15)
القول في كتاب: عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم
السؤال
كتاب: عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ما رأيكم فيه؟
الجواب
الكتاب فيه بعض الملاحظات، وهو في أصله ومسماه خرافة، عمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يعلمها إلا رب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت الدليل على ذلك، وفي ثناياه بعض الأحاديث الثابتة فهمها أخونا المؤلف على غير وجهها، ووجَّهها على غير توجيهها الصحيح.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله.(69/16)
البدوي وأحمد الرفاعي
السؤال
هناك من يقول: إن السيد البدوي وأحمد الرفاعي من نسل الحسن بن علي، ويقولون: إنهما كانا متبعين للسنة، وأن المنسوب إليهما افتراء محض، وإنهما ليسا بأهل بدعة؟
الجواب
على كلٍ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] لكن الذي يحدث الآن عند قبريهما شرك، دعنا من صلاح السيد البدوي ومن صلاح أحمد الرفاعي أو من فسادهما فهم قد أفضوا إلى ما قدموا، لكن الذي يحدث الآن شرك بالله، وهذا الذي يعنينا، ليس لنا ولا لأي شخص ولا لأي عالم أن يقطع لشخص بجنة أو نار إلا الذي جاء ذكره في كتاب الله وسنة رسول الله، وهذا من أصول اعتقاد أهل السنة، حتى إذا مات كافر أمامك ليس لك أن تقطع بأنه دخل النار، فعلم ذلك عند الله سبحانه وتعالى، سواء دخل الجنة أو دخل النار، وسواء كان يتقلب في النعيم أو يتقلب في الجحيم، أمره بينه وبين الله، لكن الذي يحدث الآن في مولده شرك بالله، والله أعلم.
ولازم أن تعتقد أنه ميت لا ينفع ولا يضر، شأنه شأن أي ميت، سواء أكان من نسل رسول الله أو من غير نسل رسول الله، (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) ، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لما قال الله له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124] أي: اجعل من ذريتي أئمة يا رب: {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] يعني حتى إذا كان من ذريتك وهو ظالم ليس بإمام، وقال تعالى في شأن إبراهيم وإسحاق: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113] .(69/17)
حكم سؤر الحمير والبغال والسباع
السؤال
ما حكم سؤر الحمير والبغال والسباع؟
الجواب
الأحاديث التي تفيد طهارتها ضعيفة، وهي ما زالت عندي محل بحث فنظرة إلى ميسرة حتى نبحث عن الدليل.(69/18)
حكم التصوير بالفيديو
السؤال
ما حكم التصوير بالفيديو في الأفراح وفي خطب الجمع؟
الجواب
أما خطب الجمع فهي مشغلة وفتنة للخطيب وللمستمعين، لا يقال: هو عمل خفيف، لا، جو الخطبة سيخرج عن موضعه الذي وضع له، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] فجدير بالمساجد أن تنقى من هذه المهرجانات، وعلى الناس أن يفهموا دينهم فهماً جيداً فالمساجد ليست مسارح وليست ملاهٍ إنما قال الله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36-37] .
أما الأفراح بعيداً عن المساجد فالمسألة محل اجتهاد بين العلماء، هل تستعمل الفيديوهات في الأفراح؟ إذا كانت ليست وراءها فتنة تتعلق بتصوير نساء، أما إذا كنت تصور العروسة والعريس، ثم يراها الرجال ويراها النساء فهذا فتنة ولا يجوز، فحينئذ هو حرام، فلينظر إلى ما سيصور، ومن ثم يأتي الحكم على فرض التسليم بأن الفيديو لا يدخل في باب التصوير، وهي مسألة نزاع بين العلماء.(69/19)
هل النوم مبطل للوضوء
السؤال
هل النوم مبطل للوضوء مطلقاً؟
الجواب
الجمهور يقولون: إن النوم لا يبطل الوضوء إلا نوم المستغرق على غير هيئة المتمكن، فإذا كنت غير متمكن ونمت واستغرقت في النوم نقض الوضوء، ومن العلماء من يقول: النوم ينقض الوضوء مطلقاً لحديث: (العين وكاء السه، فمن نام فليتوضأ) والحديث مفهوم معناه، لكن استدل على أن النوم على هيئة المتمكن لا ينقض الوضوء بانتظار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء وهم جلوس، وكانت رءوسهم تخفق حتى يسمع لبعضهم غطيط، ثم قاموا وصلوا ولم يتوضئوا.(69/20)
حكم التسمية في الوضوء
السؤال
هل تصير التسمية واجبة إن صح الحديث؟
الجواب
من العلماء من قال -على فرض صحته-: هو نفي للكمال لا نفي للصحة، أي: لا وضوء كامل (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) فيه نفي الكمال لا نفي الصحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنه توضأ وما ورد أنه سمى، فوصف عثمان وضوء الرسول وما ذكر التسمية، ووصف أسامة وعبد الله بن عباس وضوء النبي فما ذكرا التسمية، ووصف عبد الله بن زيد وضوء النبي فلم يذكر التسمية، ومما يعكر على الوجوب ما نقله الشافعي أن الإجماع انعقد على أن من نسي وصلى، وهو لم يسمِّ على الوضوء أن صلاته صحيحة.(69/21)
حديث: (الأذنان من الرأس)
السؤال
حديث: (الأذنان من الرأس) ما صحته؟
الجواب
الحديث ضعيف، وقد نص على ضعفه عدد من أهل العلم كـ ابن الصلاح رحمه الله تعالى.(69/22)
حديث: (لا صلاة لمن لا وضوء له)
السؤال
ما مدى صحة حديث: (لا صلاة لمن لا وضوء له) ؟
الجواب
هذا القدر صحيح.(69/23)
حديث: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)
السؤال
(لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ما حاله؟
الجواب
محل نزاع بين أهل العلم؛ لأن له طرقاً كلها ضعيفة إلا أن بعض العلماء يجبر ضعفها بمجموعها، والبعض يبقي ولا يجبرها ببعض، وقد ألفت فيه رسالتان، رسالة في تصحيحه ورسالة في تضعيفه، وكل طرقه فيها مقال، من العلماء من يقول: تصلح للاستدلال بمجموعها، ومنهم من يقول: لا تصلح والله أعلم، فالأمر قريب وسهل.(69/24)
حكم الأضحية
السؤال
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما ضحى: (هذا لي، وهذا لمن لم يضح من أمتي) فما حكم الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؟
الجواب
الأضحية سنة وليست بواجبة لهذا الحديث، ولم يثبت حديث صريح في الأمر بالأضحية أمر إيجاب، فالأضحية مستحبة وليست بواجبة.(69/25)
هل يجوز للمرأة أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها؟
السؤال
تنازلت زوجتي عن مبلغ ثلاثين ألف جنيه من ميراثها من وليها لشقيقها الوحيد الذي لم يتزوج بحجة أنه لم يتزوج، ولكنه ثري وعنده ما يكفيه، وبعد ذلك تركت له أرضها التي تؤجر بمبلغ ستة آلاف جنيه سنوياً، ويستولي أخوها على المبلغ كله دون أن يعطيها منه شيئاً، وحينما حدثتها في ذلك ثارت وقالت لي: ليس من حقك التدخل في أموالي، وعندما حدثت شقيقها في عدم أحقيته في أخذ المبلغ قال لي: ليس هذا من شأنك، وقد قرأت في فتاوي الشيخ فلان أنه لا يحق للمرأة التصرف في مالها بدون إذن زوجها، فما المطلوب مني تجاه هذا الموضوع، خصوصاً أنني غير مستريح نفسياً من زوجتي؟
الجواب
في الحقيقة أن هذا الباب وردت فيه جملة أدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدل بها بعض العلماء على منع المرأة من التصرف في مالها إلا إذا أذن لها زوجها، كحديث: (لا يحل للمرأة عطية من مالها إلا بإذن زوجها) هذا الدليل المانع، لكن -والله سبحانه أعلم- الجمهور على أن هذا الحديث على الاستحباب وليس على الإيجاب، حتى تدوم العشرة بين الزوجين على ما يرضي، والأصل أن المرأة أحق بالتصرف في مالها، إذ هو مالها، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم (لما انتهى من خطبة العيد ذهب إلى النساء يذكرهن ومعه بلال، وبلال باسط ثوبه، فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها -أي: العقد والحلق- في حجر بلال) ، ولم يرد أن النساء ذهبن واستأذن من الأزواج حينئذٍ، فلو كان استئذان المرأة لزوجها في إنفاق مالها واجباً لأمرهن النبي أن يستأذن أزواجهن، فلما لم يأمرهن النبي صلى الله عليه وسلم باستئذان الأزواج دل ذلك على عدم الوجوب.
بيد أن حديث (نهي المرأة عن التصدق بمالها إلا بإذن زوجها) فيه كلام من الناحية الحديثية ومن الناحية الفقهية أيضاً، فمن العلماء من حمل: (من مالها إلا بإذن زوجها) أي: من مالها الذي أعطاها إياه الزوج، وهذا وجه آخر للتوجيه، أما القطع بأن إنفاق المرأة مالها بغير إذن زوجها حرام فهو قول لا وجه له، إذ الأدلة تدفعه، والله أعلم.
لكن فقط من باب تطييب الخواطر، ودوام المودة والمحبة بين الزوجين يستحب لها ذلك، حتى تدوم معيشتها مع الزوج، وتطيب خاطره ولو بالكلمة الطيبة، أما أنه يتسلط عليها ويفرض عليها أن تفعل أو لا تفعل فليس هذا من حقه إذ قد يطلقها من الغد، فإذا قلنا: له أن يمنعها أو يجب عليها أن تستأذن منه، سيتسلط ويقول لها: أنفقي في موطن كذا، ولي هذا، وكأنه من حقه!! فالصداق الذي هو لها من الزوج يقول الله فيه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] إن طابت نفسها لزوجها بجزء من المال، فليس لأخيها أن يأتي ويقول لها: لا تعطي الزوج، ليس لأخيها ذلك.
ولكن نقول: ينبغي للمرأة أن تكون عاقلة ورشيدة في التصرف، فإذا نظرنا إلى قوله تعالى في شأن المهور: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ} [النساء:4] ولم يقل: طبن لكم عن كل الصداق، إنما قال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} ، فيستحب للمرأة أن تبقي في يديها بعض الأموال لتتصدق بها وتحسن بها إلى الفقراء، وخاصة إذا كان أخوها من الأثرياء، فالصدقة على الذي هو أشد احتياجاً تبلغ مبلغاً أعظم في الأجر، فالمرأة إذا أرادت الثواب العظيم والأجر الجزيل من الله سبحانه عليها أن تعمد إلى أهل الاستحقاق فتنفق عليهم، أما الزوج فما عليه إلا النصح، والله أعلم.(69/26)
تفسير سورة القلم [1]
سورة القلم من جملة السور والآيات التي دافع الله سبحانه وتعالى فيها عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وأوضح فيها عظيم جنابه عليه الصلاة والسلام، فأقسم سبحانه في صدر هذه السورة بالقلم على نفي دعوى المشركين بأن النبي مجنون، وفيها بيان أجره العظيم، وخلقه العظيم، وأن الأيام ستكشف له ولهم من هو المفتون المجنون، ثم حذر نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم من مداهنتهم أو مجاملتهم.(70/1)
تفسير قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: يقول الله سبحانه في كتابه الكريم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] (ن) للعلماء في تفسيرها أقوال: أحد هذه الأقوال: أن (ن) حرف من الأحرف التي بُدئت بها السور كـ (ص) و (طه) و (ألم) و (ق) و (يس) إلى غير ذلك.
القول الثاني: أن (ن) المراد به الحوت، وكما في السورة نفسها، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48] ، وصاحب الحوت ذكره الله في سورة الأنبياء، فقال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] ، فالقول الثاني من الأقوال: أن (ن) المراد به الحوت، ومما أيد ذلك ذكر صاحب الحوت في هذه السورة، وصاحب الحوت هو ذو النون كما في السورة الأخرى.
والقول الثالث: أن المراد بـ (ن) الدواة، فأقسم الله بالقلم، وبالدواة التي يغمس فيها القلم، لتمده بالحبر والمداد.
القول الرابع: أن المراد بـ (ن) اللوح الذي يكتب فيه بالقلم.
فهذه أشهر الأقوال في تفسير قوله: (ن) .
أيضاً للعلماء في الحوت أقوال لا ينبني أي شيء منها على حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من قال: هو حوت يحمل الأرض، ومنهم من قال: هو الحوت الذي التقم يونس، إلى غير ذلك من الأقوال.
{ن وَالْقَلَمِ} الواو في قوله سبحانه: (وَالْقَلَمِ) واو القسم، وكما أسلفنا مراراً أن أحرف القسم ثلاثة: الواو والباء والتاء، فالواو هنا واو القسم على رأي كثير من العلماء، فأقسم الله بالقلم.
وما المراد بالقلم؟ من أهل العلم من قال: المراد بالقلم قلم مخصوص وهو أول قلم خلقه الله، وهو أول الخلق على الإطلاق، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يصح بمجموع طرقه: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) ، فمن العلماء من قال: إن المراد بالقلم: القلم الذي خلقه الله أول ما خلق، وكتب به مقادير كل شيء، والحامل لهم على هذا الاختيار أنه درج في كتاب الله على أن الله سبحانه وتعالى يقسم بعظيم المخلوقات، {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:5-7] ، {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1] ، {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1] ، فيقسم الله بعظيم المخلوقات، ولا يقسم بأشياء يسيرة من خلقه، مع أن كل خلقه عظيم، لكن ما تجد ربنا أقسم بالنملة مثلاً، ولا بالبعوضة، ولا بالخنافس، ولا بالصراصير، مع أنها كلها مخلوقات لله، لكن ربنا يقسم بعظيم المخلوقات، فهذا حمل بعض العلماء على أن يقول: إن القلم هنا قلم مخصوص، وهو أول قلم خلق، وهو الذي كتبت به مقادير الخلائق.
ومن العلماء من قال: هو عموم الأقلام، وليس المقسم به قطعة خشب، وإنما المراد أهمية هذا القلم، وما ينبني عليه، فالقلم النوع الثاني من أنواع البيان، فرب العزة سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3-4] ، فالبيان بيانان: بيان بالقلم، وبيان باللسان، وقال الله سبحانه وتعالى في أول سورة نزلت على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1-4] ، فالقلم نعمة امتن الله بها على العباد.
فقد يطرح
السؤال
لماذا وهو نعمة امتن الله بها على العباد لم يعلمها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومع أن العلم محمود، والجهل مذموم، فلماذا حرم النبي صلى الله عليه وسلم هذه النعمة؟ أليس تعلمها داخلاً في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ، ويتوصل بالقراءة والكتابة إلى الاطلاع على العلوم الشرعية؟! فالإجابة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع هذه النعمة لعلة أعظم، ذكرها الله في كتابه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] ، فلدفع الارتياب والشكوك عن الناس جعل الله الرسول صلى الله عليه وسلم أمياً.
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] أي: وما يسطِّرون أي: وما يكتبون، فأقسم الله بالآلة، أي: بالقلم وبما كتبته الآلة: القلم وبما كتبه القلم، وعلامَ كان القسم؟! {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] فالله يقسم على أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون، كما وصفه الواصفون، فقد وصفه القرشيون المشركون بالجنون ورموه به، كما قال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] فأنت عندما ترى الناس كلهم يقذفونك ويصفونك بالجنون، قد يتسرب إلى نفسك شك أن بك شيئاً من كثرة ما تسمع؛ لأن كل هؤلاء يصفونك بالجنون وتتساءل: هل أنا على خطأ أو على صواب؟! فرسولنا وصفه الكفار بهذا الوصف، كما وصف إخوانه من المرسلين، فقد وصف بذلك نوح صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {كَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] .
وهكذا عموم الأنبياء، فربنا سبحانه وتعالى هو الذي دافع عن نبيه محمد عليه الصلاة والسلام بنفسه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] ما أنت بمجنون من فضل الله عليك، {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [القلم:2] أي: من نعمة الله عليك، أنك لست بمجنون، أي: بحمد الله لست بمجنون {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] أي: ما أنت بمجنون، وجاءت كلمة {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [القلم:2] اعتراضية، فيكون المعنى: ما أنت بمجنون، لكن عززت بقوله {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} ، ويصبح المعنى: ما أنت بفضل الله عليك بمجنون.(70/2)
تفسير قوله تعالى: (وإن لك لأجراً غير ممنون، وإنك لعلى خلق عظيم)
{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:3] فالآية فيها دفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها تصديق لقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:2-3] أي: غير مقطوع، يعني: أجرك ثابت، ومتواصل لا ينقطع، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، عليه الصلاة والسلام، إذاً: القسم على ثلاثة أشياء: الشيء الأول: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] نفي الجنون.
والشيء الثاني: أن للنبي أجراً لا ينقطع.
والشيء الثالث: أنه عليه الصلاة والسلام على خلق عظيم، صلى الله عليه وسلم.
وما معنى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ؟ من العلماء من فسر الخلق هنا: بالدين، قال: وإنك على دين عظيم، إذ الإسلام خير الأديان ومنهم من فسرها بعموم الأخلاق، وعلى كلٍ فما زالت الآية مجملة، فما هو هذا الخلق العظيم، إذا قيل: إن المراد به عموم الأخلاق؟ تفسيرها في آيات أخر، كما قال الله تعالى في شأنه عليه الصلاة والسلام: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] فخلقه مع أصحابه لين، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فهذا من خلقه عليه الصلاة والسلام، فهذه الآية {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] مجملة فسرتها آيات، وفسرتها أحاديث، أوضحت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوامره كلها تحمل أخلاقاً حميدة، لما سأل هرقل أبا سفيان، بم يأمركم محمد: قال: يأمرنا بالعفاف، والصلة والصلاة والزكاة وهجر الأوثان، إلى غير ذلك.
ومن خلقه أنه حريص على أمته وليس حسوداً لها، بل هو حريص على المؤمنين {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] هذه أخلاقه على وجه الإجمال، وقد سئلت أم المؤمنين عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت للسائل: (ألست تقرأ القرآن؟ قال: نعم، يا أماه! قالت: كان خلقه القرآن، ثم تلت: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ) وأبو ذر لما أرسل أخاه يتفقد أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء أخوه وقال: إني وجدت رجلاً يأمر بمكارم الأخلاق، فكانت أخلاقه حسنة في كل شيء، إذ خلقه القرآن في العبادات، وفي المعاملات، وفي سائر شئونه عليه الصلاة والسلام.
في العبادات إذا أنفق لا يتبع الإنفاق بالمن والأذى، {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] .
إذا أعطى يعطي لوجه الله، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9] .
إذا علم يعلم لله إذا صبر يصبر لله إذا تصدق كان رءوفاً بالمتصدق عليه، هذا في أبواب الإنفاق.
وفي أبواب الصلاة إذا قام يصلي قام خاشعاً لله حتى تورمت قدماه صلى الله عليه وسلم.
في أبوب الصيام يقول: (من لم يدع قول الزور، والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) في أبوب الحج، {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] إذا حج لا يُطرد الناس عنه طرداً ويضربون ضرباً كما يحدث الآن، إنما كما قال الصحابي الكريم: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك) صلى الله عليه وسلم.
في الاجتماع يأتي كذلك يعلم المؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] .
ينزل الناس منازلهم فيعرف للكبير حقه، جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حويصة ومحيصة، فذهب أحدهما يتكلم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كبر، كبر) وقال عليه الصلاة والسلام: (أراني أتسوك، فأتاني رجلان فدفعت السواك للأصغر منهما، فقيل لي: كبر كبر) قال عليه الصلاة والسلام في حالة التساوي في حفظ القرآن والسنة: (وليؤمكم أكبركم) هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعطى للكبير حقه، وأنزل الناس منازلهم، وعرف لصاحب المنصب منصبه، ولصاحب الجاه جاهه، وعرف للفقير حاله؛ فرفق به ورحمه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح: (من دخل المسجد فهو آمن) قال ذلك للمشركين الخائفين من القتل لما فتح مكة: (من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن) ثم الشاهد (ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فأنزل أبا سفيان منزلته باعتباره شيخاً لقريش، وأنزل أبا بكر منزلته، لما جاء أبو قحافة مع أبي بكر الصديق ورأسه مشتعلة بياضاً كالثغامة -أي: القطن- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو جلس في بيته يا - أبا بكر - لأتيناه؛ تكرمة لـ أبي بكر) ولما ذهب سعد بن معاذ رضي الله عنه يحكم في بني قريظة فرآه الرسول وهو مقبل -وكان سيد الأوس، والأوس من الأنصار- فقال عليه الصلاة والسلام للأنصار: (قوموا إلى سيدكم) ولما استأذن عليه عثمان والرسول حاسر عن بعض فخذه عليه الصلاة والسلام، فلما سمعه يستأذن غطى فخذيه، في رواية أنه قال: (ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة) وفي الرواية الأخرى أنه قال: (إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إذا رآني على هذه الحال ألا يبلغ إليّ في حاجته) يعني: يستحيي أن يتكلم معي ويشكو إليّ حاجته، ويسألني مسألته إذا رآني على هذه الحال.
ومن باب رده صلى الله عليه وسلم للجميل وحفظه للمعروف -إذ ليس بجاحد للمعروف ولا منكر للجميل- كان عليه الصلاة والسلام إبَّان مرجعه إلى الطائف وقد طرد وأخرج من مكة إلى الطائف، فلما رجع إلى مكة نزل في جوار المطعم بن عدي، والمطعم كان كافراً، فلما نزل الرسول في جواره، حمل المطعم بن عدي سلاحه هو وقبيلته، وقال: يا معشر قريش! إني قد أجرت محمداً فمن مسه بسوء كانت الفيصل بيني وبينه، فحفظ الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم لما مات المطعم، وجاءت غزوة بدرٍ الكبرى، وأسر من المشركين سبعون؛ جاء النبي صلى الله عليه وسلم ونظر إليهم وقال: (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء لتركتهم له) فكان يحفظ الجميل صلى الله عليه وسلم، ولا يضيع عنده المعروف عليه الصلاة والسلام.
وكان حسن العهد بمن مات، فيخلفه في ذراريه وفي أقاربه بخير، قال عليه الصلاة والسلام: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد موته) فإذا كان أبوك يزور شخصاً، أو يزور امرأة من أقاربك، أو من الفقيرات، فلا تقطع الود، ولا تقطع الصلة بموت الأب، ولا تُشعر من كان أبوك يحسن إليهم بالانقطاع، فزرهم وصلهم كما كان أبوك يفعل؛ قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد موته) هكذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.
وأيضاً كانت هالة بنت خويلد كلما جاءت واستأذنت على رسول الله -وهي أخت خديجة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم- عرف من نبرات صوتها نبرات صوت أختها خديجة، تلكم المرأة الصالحة التي كانت تعينه على نوائب الحق، وتؤازره بحنانها وعطفها وما رزقها الله من مال، فلما ماتت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت هالة، لما فيه من مشابهة لصوت خديجة ارتاع لذلك، وقال: (اللهم! هالة) حتى غارت عائشة رضي الله عنها لكثرة ما كان النبي يكثر من ذكر خديجة رضي الله عنها، فكان حافظاً للعهد عليه الصلاة والسلام، ولا ينكر المعروف أبداً.
كان قوي الملاحظة عليه الصلاة والسلام فليس كل الناس يستطيعون التعبير عما في أنفسهم باللسان، بل منهم من يظهر ما في قلبه على وجه، ومنهم من يعبر عما في نفسه إشارة، ومنهم من فاض الذي في قلبه حتى خرج على لسانه فيلزمك أن تكون كرسولك محمد صلى الله عليه وسلم قوي الملاحظة فهّامة تفهم من حولك، وتفهم مدلولات الألفاظ.
من الناس من امتلأ قلبه لك حباً، فإذا رآك لا تسمع منه إلا كل خير، وكل كلم طيب معبرٍ عما في النفس، ولا ترى منه إلا البشاشات، ولا ترى منه إلا الترحيبات، ومن الناس من ملئ قلبه حنقاً، وغيظاً عليك، فكما قال الله في أضرابه من أهل النفاق: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] إن كنتم تفهمون، وقال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30] فكان الرسول قوي الملاحظة كما كان أصحابه، وكما علم أصحابه رضي الله عنهم، يقول لأم المؤمنين عائشة: ((70/3)
تفسير قوله تعالى: (فستبصر ويبصرون، بأيكم المفتون)
قال تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} [القلم:5] أي: فستعلم ويعلمون، {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم:6] أي: أيّكم هو المفتون، من العلماء من قال: إن الباء زائدة كما في قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون:20] والباء؛ قال فريق من العلماء: الباء زائدة، فقوله تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} [القلم:5] فستعلم يا محمد! وسيعلم هؤلاء الكفار المفترون -الذين يدعون أنك مجنون، وأنك مفتون- من المفتون! {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم:6] و (المفتون) من العلماء من قال: معناه: المجنون، لأنها جاءت في عقب الآية التي هي {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] فلما نفى الجنون عنه قال: ستعلمون من المجنون، ومن هو المفتون والمصروف عن الحق، فالفتنة تطلق على الصرف أحياناً، ومنه قول الشاعر: لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم وألقى مصابيح القراءة واشترى وصال الغواني بالكتاب المتيم فقوله: (لإن فتنتني) أي: لئن صرفتني عما أنا عليه من الخير، فهي بالأمس أفتنت سعيداً، (فأصبح قد قلى كل مسلم) ، (وألقى مصابيح القراءة واشترى) أي: أنصرف عن الخير، (وألقى مصابيح القراءة واشترى) (وصال الغواني بالكتاب المتيم) .
فمفتون: إما أنه المصروف عن الحق إلى الباطل، وإما أنه المجنون.(70/4)
تفسير قوله تعالى: (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله.)
قال تعالى: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القلم:6-7] هو يعلم هل أنت الضال، أم هم الضلال، هو يعلم سبحانه وتعالى لكن -يا محمد- {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم:8] وكما في الآية الأخرى {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10] وليس لهؤلاء طاعة، (إنما الطاعة في المعروف) لمن لهم علينا حق الطاعة.(70/5)
تفسير قوله تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنون)
{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا} [القلم:8-9] أي: طمعوا , وأحبّوا {لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] ، أي: تميل إلى دينهم وإلى آلهتهم فيمالئونك على ما أنت عليه شيئاً ما، (تدهن) : تميل، وقالوا: إن الدهن إذا وضع على شيء يلينه، أي: تلين فيلينون، أي: تلين فيسكتون عنك، (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) أي: تميل إليهم في معتقدك، ولم يلن لهم رسول الله في شيء من معتقده أبداً، إنما إذا كان هناك شيء من إظهار الموافقة بالأعمال ليس في العقائد، فقد يقر الشرع لك أن تتلفظ بكلمة الكفر والقلب مطمئن بالإيمان، أما الإيمان القلبي فلا مساومة فيه أبداً، {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] ولو ركنت إليهم شيئاً قليلاً {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:75] .
الممالآت باللسان إن احتيج إليها فتقدر بقدرها، يعني: إن احتجت في المعاملات العامة إلى أن تستعمل شيئاً من التقية أو المداراة، فلك أن تصرح فيها بالقدر الذي يحتاج إليه وتنصرف، لكن المعتقد القلبي لابد أن يكون مطمئناً بالإيمان.
أما المعاملات بالجوارح فلك إن أكرهت على شيء أن تتلفظ حتى بكلمة الكفر، وقد أباح الرسول صلى الله عليه وسلم الكذب في بعض المواطن، لكن يحب أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان، {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28] الأصل أن الطاعة على أنواع: فلا يطاع أحد في العقائد، إلا إذا أكرهت على التلفظ بكلمة الكفر، فيجوز لك أن تمضيها بقدرها، وإذا أكرهت على عمل من الأعمال فأيضاً بحسب نوع هذا العمل، وهذه المسألة فقهية واسعة تحتاج إلى محاضرة أو محاضرتين لبيان الجائز منها من المحظور.
وفقنا الله إلى كل ما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(70/6)
الأسئلة(70/7)
حكم لمس الخاطب لمخطوبته والخروج معها
السؤال
شخص قرأ الفاتحة على امرأة -أي: خطوبة- وخرج معها وهو متوضئ، ولمس يدها، هل يجوز أن يخرج معها؟! وما حكم مصافحة النساء؟
الجواب
قراءة الفاتحة هذه التي فعلها لا تُحل له أي شيء، فلا يجوز له أن يمس يدها؛ لأن النبي قال: (لئن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) .
أما هل هذا المس ينقض الوضوء أو لا ينقض الوضوء؟! فقولان لأهل العلم، والأصح منهما -كما يظهر والله أعلم- اختيار عبد الله بن عباس أن المس الذي هو دون الجماع لا يوجب وضوءاً؛ لأن عائشة مست رجل الرسول وهو ساجد، ولم يخرج الرسول عليه الصلاة والسلام من صلاته، وحمل قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] على أن المراد هو الجماع، أما إذا شعر بأنه أمذى وخاصة إذا كان في مثل هذه الحالة من الفتوة -وهي كذلك- فإذا تأكد أنه أمذى وجب عليه الوضوء.(70/8)
التعارض في التصحيح والتضعيف في الأحاديث
السؤال
ماذا نفعل إذا وجدنا تعارضاً في التصحيح والتضعيف لبعض الأحاديث؛ وخاصة أنه اشتهر في هذه الأيام؟!!
الجواب
هذا ليس مشهوراً هذه الأيام، وإنما من عهد الأئمة الكبار كالإمام الشافعي رحمة الله عليه، كان في كثير من المسائل الفقهية يعلق الحكم فيها على صحة حديث ما، إذا توقف في الحكم عليه صحة أو ضعفاً، ويقول: إن صح الحديث فأنا أقول به، ويكون قولي هو كذا وكذا، ويتوقف على الحكم، فهذا الذي ذكرته يحملك على أن توسع أفقك شيئاً ما لاستقبال المسائل التي فيها وجهان للعلماء.(70/9)
تفسير سورة القلم [2]
نهى الله نبيه عن المداهنة والطاعة لمن حاد عن نهج الحق وكفر بالله، واتسم بصفات الذم والمهانة، وضرب الله لهم مثلاً بأصحاب الجنة الذين تواطئوا على منع الفقراء وذوي الحاجة حقهم، وتقاسموا بالله على ذلك، فأهلك الله جنتهم، وصاروا عبرة وآية لمن بعدهم.
ثم خاطب الجبار جل وعلا كفرة قريش فقال: ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) فلا يستوي الطائعون والعصاة أبداً، فكل له طريقه وسبيله ومصيره.(71/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا تطع كل حلاف مهين)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:10-15] .
قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ} [القلم:10] الحلاف: هو كثير الحلف، فهل يستفاد من الآية أن كثرة الحلف مذموم، أو لا يستفاد ذلك منها؟ من العلماء من قال: إن كثرة الحلف مذموم لهذه الآية الكريمة: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ} [القلم:10] ولقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يكثر من الأيمان، ولأن من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه، فإذا أكثر الشخص من الحلف أوشك أن يقع في الحلف على الحرام، أو الحلف المحرم، أو الحلف كاذباً، أو الوقوع فيما حلف عليه وينسى -لكثرة أيمانه- فلا يكفِّر وأيضاً: لأن الله سبحانه وتعالى وصف أهل النفاق أنهم يكثرون من الأيمان كي يصرفوا الناس عنهم، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة:16] أي: وقاية يتقون بها أقوال الناس فيهم وأحكام الناس فيهم، فهذه حجج من قالوا بكراهة ذلك بأن كثرة الحلف مذموم.
ومن أهل العلم من قال: إن كثرة الحلف لا بأس به إذا كان الشخص يحلف بحق، ويحلف على حق؛ وذلك لأن الحلف بالله فيه ذكر لله سبحانه، فالذي يقسم بالله يذكر الله أثناء القسم، قالوا: وقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] .
قالوا: وأيضاً قد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم جملة أيمان دون أن يطلب منه القسم، ففي قصة العسيف -أي: الأجير- الذي كان مستأجراً عند رجل فزنى بامرأته: أتى أبوه وأتى زوج المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يقضي بينهم، قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لأقضينّ بينكما بكتاب الله عز وجل) ، دون أن يطلب منه هذا القسم.
وأيضاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه أسامة بن زيد يستشفع في المرأة المخزومية التي سرقت، قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) ، دون أن يطلب منه أيضاً القسم.
فهذه حجج من قالوا بعدم الكراهية إذا كان الشخص محقاً في قسمه، وحجج الذين قالوا بكراهية الإكثار من القسم لغير حاجة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
لكن الاستدلال بقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10] على ذم الإكثار من الحلف لا يتم؛ لأنها لم تنفرد بالحكم، وإنما أردفت بصفات أخرى.
(مَهِين) المهين: هو الحقير، والكذَّاب أيضاً، فالحلاف المذموم في هذه الآية هو الحلاف المهين.(71/2)
تفسير قوله تعالى: (هماز مشاء بنميم)
قوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11] ، أما الهماز فهو الذي يهمز الناس، أي: هو الذي يعيب الناس بأقواله كما يعيب الناس بأفعاله.
والعيب بالقول فمعلوم، أما العيب بالفعل فهو أن يتهكم بفعله كأن يمشي شخص وهو يعرج، فيأتي ساخر يمشي ويعرج خلفه ويحاكي مشيته كي يضحك الناس منه، أو شخص في لسانه شيء، فيتعمد ليَّ لسانه سخرية من أخيه.
فالهمز قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، وقد يأتي بمعنىً أوسع، فإذا جاء مقترناً باللمز، كما في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] ، فالهمز بالقول واللمز بالفعل، ومن العلماء من عكس، لكن إذا جاء مستقلاً غير مصحوب باللمز فقد دخل فيه أيضاً معنى اللمز.
(مَشَّاءٍ) من المشي، (بِنَمِيمٍ) ، يمشي بين الناس بالنميمة للإفساد بينهم، وينقل الحديث من شخص إلى شخص آخر على سبيل الوشاية والإفساد بينهما، والمشي بالنميمة من الكبائر على رأي جمهور العلماء؛ وذلك لحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما مرّ بالقبرين (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) ثم قال: (بلى -أي: لا يعذبان في كبيرٍ في أنظاركم، ولكنه كبير عند الله- أما أحدهما فكان يمشي بين الناس بالنميمة) ومن الأدلة على كون النميمة من الكبائر أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم إضافة إلى هذه الآية الكريمة {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11] حدت هذه الأدلة ببعض أهل العلم إلى أن يحكموا على النمام بأنه مرتكب لكبيرة.
ومن العلماء من فصل في الذي ينُمُّ كمسألة الاغتياب، فهل الاغتياب كبيرة أو أن الاغتياب صغيرة من الصغائر؟ من العلماء من قال: إن الغيبة من الكبائر، ومنهم من قال: إنها من الصغائر، ومنهم من فصل.
فمنهم من فصل بناء على حجم المغتاب، وقدر المغتاب، ومنهم من فصل بناء على الشيء المنقول، فمثلاً: إذا كنت تغتاب رجلاً من أهل الصلاح، ليس كما لو كنت تغتاب الفسّاق، فإذا اغتبت رجلاً صالحا الحكم يختلف عما إذا اغتبت رجلا فاجراً، والأدلة تشهد لذلك كحديث: (بئس أخو العشيرة) الذي قاله الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذا كنت تغتاب شخصاً كريماً لا كمن يغتاب شخصاً بخيلاً.
إذا كنت تغتاب على سبيل الشكوى ليس كمن يغتاب على سبيل الحاجة، فإن هنداً قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، ولم ينكر عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إذا كنت تغتاب الجاهل، فلست كمن يغتاب العالم، فإن النبي قال كما في البخاري: (ما أظن أن فلاناً وفلاناً يعرفان عن ديننا شيئاً) .
فكذلك الحكم في النميمة؛ يختلف من منقول إلى منقول آخر، ومن شخص إلى شخص آخر، ومن ثَم يقرر الحكم هل هي من الكبائر أو هي من الصغائر؟ هذا تفصيل جنح إليه عدد كبير من أهل العلم والله أعلم.
{هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11] (مشاء) : أي: ماشٍ (بنميم) أي بالنميمة، فـ (لا يدخل الجنة نمام) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا في النميمة التي تفسد بين الأحبة، وتقطع المودة بين الأرحام، وأيضاً تسبب ضرراً للمسلمين، وتسبب عذاباً على مسلم وأذى لبعض أهل الإيمان.(71/3)
تفسير قوله تعالى: (مناع للخير معتد أثيم)
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} [القلم:12] كما أسلفنا أن كثيراً من العلماء قال -وأطلق بعضهم ذلك-: إذا ذكر الخير في كتاب الله، فالمراد به دوماً المال، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] أي: لحب المال لشديد، فمن العلماء من أطلق وقال: كل خير في كتاب الله يراد به المال، لكن وإن سلم لهم هذا القول كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:180] أي: إن ترك مالاً، إن سلمنا بذلك في مواطن، فلا نسلم به في مواطن أخرى، كقوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114] (خير) هنا لها معنىً أخر تماماً.
فالحاصل أن الأولى أن يقال: إن أكثر ورود الخير في كتاب الله بمعنى المال، لكن لا يتمنع أن يأتي الخير بمعنىً آخر.
قال الله سبحانه وتعالى {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} [القلم:12] هل المراد بها مناع للمال، أو المراد بها نوع مخصوص من المال؟ فمن العلماء من قال: إن المراد بالخير هنا: الزكوات المفروضة.
ومنهم من قال: إن المناع للخير هنا مناع لأوجه الخير بعمومها.
وقيل: نزلت هذه الآيات -وليس لدينا شيء عن رسول الله ثابت الإسناد- في الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد رضي الله عن خالد، فكان أبوه ينفق المال الكثير، وينحر مئات من الإبل في الحج، ويرسل مناديه ينادي: من كان يريد اللحم فليأت إلى الوليد بن المغيرة فيأمر الناس بإطفاء النيران أيام منى، وإذا طلب منه شيء لله منع؛ لأنه كان لا يفعل ذلك إلا على سبيل الرياء والمباهاة، وإذا طلب منه شيء للفقراء وذوي الحاجة والمسكنة لله منع، {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ} [القلم:12] أي: على غيره {أَثِيمٍ} [القلم:12] أي: أثيم في نفسه، يعني: بينه وبين الله آثم ومرتكب للذنوب في حق نفسه وفي حق ربه، وعلى الخلق معتدٍ أيضاً، فمعتدٍ أثيم جمعت المعنيين؛ فهو في نفسه آثم، ولخلق الله ظالم، كما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فجمع بين الإثم في النفس، والظلم للغير.(71/4)
تفسير قوله تعالى: (عتل بعد ذلك زنيم)
{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:13] (بَعْدَ) بمعنى: مع، وهذه لغة عدة بلاد، يقولون عن شخص: هو كذا وكذا وبعد هو كذا، ومعنى ذلك: ومع هذه الصفات هو كذا، فقوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} أي: مع هذه الصفات المذكورة كلها هو معها عتل، ومع ذلك كله هو زنيم، والعتل: هو الجلف الجافي الغليظ واسع البطن كما قال فريق من العلماء أي: كأنه في مطعمه ومشربه رحيب الجوف، أكول شروب ومع ذلك فهو جلف جافٍ غليظ، فتخيل شخصاً بهذه الصورة أكولاً شروباً منوعاً جموعاً للمال، ومع ذلك هو جلف في طباعه غليظ في أقواله وأفعاله، هذا تأويل العتل عند كثير من أهل العلم، (بَعْدَ ذَلِكَ) أي: مع ذلك كله هو (زَنِيمٍ) وفيها أقوال: أحد الأقوال في تفسير الزنيم أنه الدعي أي: ولد الزنا الذي نسب إلى غير آبائه، وقد قيل هذا في الوليد بن المغيرة، والله أعلم فأحد الأقوال بمعنى أن (زَنِيمٍ) بمعنى: دعي إلى غير أبيه.
والقول الآخر: أن الزنيم من له زنمة وهو الشيء البارز في الرقبة كزنمة الشاة، فجمع بين الوصف السيئ في الخلق وأيضاً في الخلق فهو ذميم، فوصف بما يقتضي الذم سواء في خلقه أو في أن الله سبحانه وتعالى جعل فيه هذه الصفات الذميمة من الخلق لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى.(71/5)
تفسير قوله تعالى: (أن كان ذا مال وبنين.)
{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:13-15] هل (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) مرتبطة بما بعدها، أو مرتبطة بما قبلها؟ إن قلت: إنها مرتبطة بما قبلها، فالمعنى: فلا تطع كل حلاف مهين وإن كان ذا مال وبنين يعني: وإن كان ثرياً، وإن كان له أولاد، وإن كان من أهل الجاه فلا تطعه أيضاً، فلا تطع كل حلاف مهين وإن كان هذا الحلاف من أهل الثراء ومن أصحاب المناصب والجاهات، وممن رزقهم الله الأولاد، فلا تطعه أيضاً، وإذا كان مرتبطاً بما بعده فالمعنى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:14-15] أي: أن ماله وبنيه الذين رزقه الله إياهم حملوه على أن يكفر بالله ويكذب بآياته فقال: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:15] فالذي حمله على الكفر والتكذيب هو الرزق بالمال والرزق بالبنين، كما قال تعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم:14] أي: أئن كان ذا مال وبنين {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:15] هل هكذا تشكر النعم؟ والآية معناها ثابت في جملة آيات {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء:83] ، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27] والآيات على هذا المنوال كثيرة، فالمعنى: أئن كان ذا مال وبنين يقابل هذه النعم {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:15] .(71/6)
تفسير قوله تعالى: (سنسمه على الخرطوم)
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] الوسم: هو العلامة، ومنه قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] أي: علامات الصلاة وآثار الخشوع في وجوههم من أثر السجود، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30] فالسيما هي العلامة، (سَنَسِمُهُ) أي سنعلمه بعلامة (عَلَى الْخُرْطُومِ) أي: على الأنف، الذي هو رمز للأنفة والكبر، فالمتكبر يرفع أنفه متعالياًَ، فهذا الأنف المرتفع سيعلَّم بعلامة سوداء، وهذا يوم القيامة، إذ في ذلك اليوم يأتي الناس بعلامات تميزهم، والمستكبر علامته أنه يأتي يوم القيامة وعلى أنفه سواد والعياذ بالله.
وأهل الغدر -كما أسلفنا- يأتون ولهم ألوية عند أستاههم كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه يقال: هذه غدرة فلان بن فلان) والمتكبرون يحشرون أمثال الذر، ومانعوا الزكاة يأتون والحيات تطوّق رقابهم، هذه أوصاف ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضها في كتاب الله {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:180] فهذا المتكبر علامته يوم القيامة أنه يأتي موسوماً أي معلماً على أنفه بعلامة.
ومن العلماء من قال: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] وإن حملت معنى العلامة على الأنف؛ لكن المراد بها تسويد الوجه كله، وتسويد الوجه كله مأخوذ من آيات أخر {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] لكن مع كون وجهه يكون أسود فمع هذا السواد يعلم بعلامة أيضاً على الأنف {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] .(71/7)
تفسير قوله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة.)
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:17] هذه القصة والآيات التي تحملها تبين شيئاً، بينته كثير من آيات الكتاب العزيز، حاصله أن الشخص كما يثاب على عمله الصالح، فإنه يثاب أيضاً على نيته الصالحة، وكما يعاقب على عمله السيئ يعاقب أيضاً على نيته السيئة.
وبهذا تكون قد تفتحت أمام العبد أبواب من أبواب الخير، فمن لم يجد مالاً ينفقه في سبيل الله، ومن لم تسعفه صحته للصيام وللقيام فليصلح النية فإن النبي قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من الأجر ما كان يعمل صحيحاً مقيماً) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شركوكم في الأجر حبسهم العذر) ولما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) نزلت هكذا، وابن أم مكتوم بجوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشكا ضرره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فنزل والرسول جالس {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95] فدعا الرسول زيد فأملى عليه {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} والأدلة في هذا الباب لا تكاد تحصى، فإذا خرج العبد يريد الجماعة فوجد الناس قد صلوا كتب له أجر الجماعة، فباب الخير مفتوح لمن لم يسعفه ماله للصدقة، ولمن لم يسعفه جهده للصدقة، ولمن لم يسعفه جهده للصيام ولا للقيام، فيكفيه أن يصلح نيته وينوي نية حسنة، وكذلك النيات الخبيثة.
قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم:17] أي: اختبرناهم، اختبرنا من؟ اختبرنا القرشيين، (كَمَا بَلَوْنَا) ، أي: كما اختبرنا (أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) ، فهذا الابتلاء كان بالسراء أو بالضراء؟ فيه الوجهان، فإن قيل: إنه اختبار بالسراء، فالله قد ابتلى أصحاب الجنة بجنة -بحديقة أو بستان- وهذه نعمة وابتلى القرشيين بنعمة مثلها، وهي بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فهذه نعمة.
وإن كان بالعقوبة، فكما أن أصحاب الجنة كفروا النعمة فحلت بهم العقوبة، فكذلك أهل مكة كفروا بالنعمة، وهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلت أيضاً بهم النقمة، كما قال سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل:112] وهي مكة بالإجماع، {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] .
فسواء قلنا: إن الابتلاء كان بالسراء أو بالضراء فلكل وجه.
فإن قال قائل: هل في كتاب الله ما يشهد للقول بأن الابتلاء قد يكون بالسراء؟ فالإجابة: نعم؛ قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] ولما رأى سليمان عليه السلام عرش ملكة سبأ مستقراً عنده {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] .
فالابتلاء قد يكون بالسراء وقد يكون بالضراء.
قد يكون الابتلاء بالصحة والعافية وقد يكون الابتلاء بالمرض وبالسقم.
قد يكون الابتلاء بالجمال الزائد، وقد يكون الابتلاء بالدمامة الزائدة.
قد يكون الابتلاء بارتفاعك في المنصب وقد يكون الابتلاء بانخفاضك في المنصب، كل هذه ابتلاءات، إذ الحياة الدنيا كلها ابتلاءات، والله هو {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] .
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:17] لم يرد شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت صحيح في تحديد من هم أصحاب الجنة، ولا ما هي بلادهم، ولكن الجنة بصفة عامة هي الحديقة والبستان الذي تكاثرت فيه الأشجار وتشابكت حتى جَنَّت من بداخلها، أي: حتى غطت على من بداخلها، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:76] ومنه إطلاق الجِنّة على الجن لاستتارهم، ومنه إطلاق الجنون على المجنون لأنه جُنّ، أي: غطي على عقله.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:17] أسلفنا أنه لم يأت نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح من هم هؤلاء القوم، ولكن العبرة حاصلةً على أية حال، ولو كان في تحديدهم وذكر أسمائهم وبلادهم نفع لذكروا في كتاب الله {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] ، ولما أكثر المفسرون في تحديد هؤلاء الأشخاص، لم يكن إكثارهم من التوفيق بمكان إلا محبتهم للأثر الوارد عن السلف فقط، وإلا فالأولى أن تستبعد لكن محبة الآثار الواردة عن السلف حدت ببعض المفسرين أن يورد أقوالاً في هذه التحديدات هل هم بمصر؟ أو باليمن؟ أو بنجران؟ أو أماكن أخر؟ أقوال عدة، والأكثرون على أنها باليمن، والله أعلم.
فالتفاسير التي حشيت بمثل هذه الأقوال كتحديد اسم أصحاب الكهف وقبائلهم، واسم كلبهم، وتحديد مكان العزير وتسمية حمار العزير، وتحديد البلاد التي نزل بها ذو القرنين إلى غير ذلك من هذه التحديدات التي أطال فيها المفسرون، الأولى عدم ذكرها، لكنها فقط من باب محبة الأثر، وهي التي حدت ببعض المفسرين وحملتهم على ذلك.
قال جمهور المفسرين: هم قوم باليمن، كان أبوهم رجلاً صالحاً، وكان يعمل في أمواله في حياته بما يرضي الله، فيعطي المساكين حقوقهم، بل ويتصدق فوق الواجب أيضاً، فلما مات هذا الرجل الصالح، اجتمع بنوه وقالوا: قد كان أبونا يفعل ذلك والمال كثير، أما الآن فقد تقسم المال على الورثة، فقلت الأنصبة وأبناؤنا أحق من هؤلاء الفقراء، وبعضهم طعن في أبيه وفي تصرفاته الشعواء في ظنه، واتفقوا وبيتوا النية الخبيثة على عدم إعطاء الفقراء شيئاً من الحقوق، وأقسموا بالله، وتعاقدوا في فيما بينهم، وتعاهدوا على أن يجنوا ثمارهم في الصباح قبل أن يراهم الفقراء وقالوا فيما بينهم: قد مضى هذا العهد الذي كان الفقراء يتوافدون فيه علينا من كل مكان، وقد مات أبونا ولا حاجة لنا في هؤلاء الفقراء وأقسموا فيما بينهم وتعاقدوا على هذا.
{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم:17] أي: ليقطعن ثمارها في الصباح الباكر، {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:18] في تفسير قوله تعالى: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:18] قولان: أحدهما -وهو الذي عليه الجمهور-: (لا يَسْتَثْنُونَ) أي: لا يقولون إن شاء الله، فقالوا: نقسم بالله أن نجز الثمار صباحاً ولا نعطي الفقراء أي شيء، ولم يقولوا: إن شاء الله، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن سليمان: (أما إنه لو قال: (إن شاء الله) لم يحنث) وذلك لما قال سليمان: لأطوفنَّ الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة منهن ولداً يجاهد في سبيل الله، قيل له: قل: (إن شاء الله) فلم يقل، فما ولدت منهن إلا امرأة واحدة ولدت نصف إنسان، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما إنه إن قال: (إن شاء الله) لم يحنث، وكان أرجى لحاجته) ولذلك ذهب جمهور العلماء إلى أن من قال: أقسم بالله ألا أذهب إلى القاهرة، وأتبعها بكلمة (إن شاء الله) على التوالي ليس على التراخي؛ فذهب لم يحنث، ولا يكون عليه كفارة، فلذلك يكون مخرجاً للأم التي تهدد ولدها الذي لا يفهم، وتقول له -إن اضطرت إلى القسم-: أقسم بالله لأضربنك إن شاء الله، فإن قالت: (إن شاء الله) ارتفع عنها التكفير، ولأي شخص أن يتبع اليمين بقوله: (إن شاء الله) .
فالقول الأول قول الجمهور في تفسير: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي: لا يقولون: (إن شاء الله) .
والقول الثاني: أن المراد بقوله: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي: لا يقتطعون حق الفقراء ويجنبونه على جانب كما كان أبوهم يفعل.
{فَطَافَ عَلَيْهَا} [القلم:19] تآمروا هذه المؤامرة، واتفقوا هذا الاتفاق، وهذا درس يؤخذ منه عبرة لكل شخص ينوي شراً، فالموسع عليه إذا أراد عمل الخير فليحذر من تثبيط الشيطان، فهم فكروا هذا التفكير السيئ، وتعاقدوا هذا العقد الخبيث، ولا يدرون ما الذي يدبره الله لهم، {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19] ما هو هذا الطائف؟ من العلماء من قال: هي آفة تسلطت على الأرض فأبادتها، ومنهم من قال: ريح صرصر شديدة أحرقت الأشجار جميعها.
والشاهد أن الأرض أبيدت ودمرت واحترقت {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم:19] العقوبة من الله، هو الذي يسخر السحب، وهو الذي يأتي بالبرد، وهو الذي يأتي بالحر، وهو الذي يسلط الآفات، الشاهد: أنه طائف ليس من أحد من البشر بل هو {طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19] .
{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:20] والصريم: هو الشيء الذي صرم، أي أصبحت كأنها قطعت وحصدت، ومنهم من قال: إن الصريم الأسود البهيم شديد السواد أي: أصبحت كالليل المظلم، فأصبحت كالصريم، هذا الذي فعله الله بهم وهم نائمون.
{فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ} [القلم:21] تأمل في الآية، وتخيل منظرهم أمام عينيك، كلٌ ذهب ينادي الآخر من بيته، (فتنادوا مصبحين) ، قم يا فلان! قم يا فلان! قبل أن يستيقظ الفقراء، الفقير الفلاني بجوارنا قم وامش رويداً رويداً حتى لا يسمع، فتنادوا مصبحين، {أَنِ اغْدُوا} [القلم:22] أي: انطلقوا في الغداة {عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ} [القلم:22] إن كنتم ستصرمونها بسرعة فقوموا،(71/8)
تفسير قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين.)
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ} [القلم:35-36] ! ما هذه العقول التي فكرت هذا التفكير السيئ؟! وهذا الظن السيئ بالله؟! هل ربك سبحانه ظالم حتى يجعل المسلم كالمجرم؟! هل المصلي الصائم الطائع لله كالفاجر الفاسق المفتري الكذاب؟! هل الذي يأكل أموال اليتامى ظلماً كالذي يمسح على رءوس الأيتام ويقتطع لهم من ماله ويعطيهم؟! هل يستوي هذا وذاك؟! هل يستوي المجاهد في سبيل الله مع المحارب لدين الله ولسنة رسول الله؟! أبداً لا يستويان مثلاً.
هل يستوي من قام من الليل يتهجد وتذرف عيناه دمعاً خوفاً من لقاء الله وخوفاً من ظلمات القبر كرجل سهر طول الليل أمام الراقصات والفاسدات والأغاني؟! {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] ؟! {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18] ؟! {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] ،؟! {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] ؟! {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8] هل يستوي هو ورجل قائم خائف وجل من الله سبحانه وتعالى؟!.
أصول الشرع كلها تنفي هذه المساواة، فلا تظن بالله ظناً سيئاً، فمن ظن أن الله يسوي بين المسلم والفاجر، ظن بالله ظن السوء، وظن أن الله حكم غير عدل، فالحكم في هذه الأمور -يا إخوان- ليست بالارتجال، فرجل قام آناء الليل حتى تورمت قدماه ليس كرجل جرى في ملعب طول النهار حتى تكسرت قدماه، هذا له شأن وهذا له شأن آخر.
من كظم غيظه وعفا عن الناس ليس كمن سبَّ الناس وآذاهم، وأطلق لنفسه العنان، أبداً لا يستويان، من كظم الغيظ وعفا عن المسلمين، ليس كمن انهال على المسلمين بالسباب والشتائم والضرب واللعن.
وهذه أصول لابد أن تفهم حتى لا تظن بالله ظن السوء وأنت لا تشعر.
قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] أيعقل؟! (مَا لَكُمْ) ما الذي حدث للعقول، {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:36] .(71/9)
تفسير قوله تعالى: (أم لكم كتاب فيه تدرسون.)
{أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم:37] هل لكم كتاب نزل من عند الله درستم فيه أن الله يقول: المسلم كالكافر، والظالم كالعادل المنصف، هل نزل عليكم كتاب من الله فيه هذا الكلام، {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} [القلم:37-38] من العلماء من قال: (إنَّ) هنا بمعنى أنَّ وأرجعها إلى الآية التي قبلها فقال: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم:38] أن لكم فيه لما تخيرون أي: هل نزل عليكم كتاب من الله درستم فيه يفيدكم أن لكم الشيء الذي تريدونه تريدون الدنيا متعتم بها تريدون الأمن في الآخرة تمتعون به، {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} [القلم:38] .(71/10)
تفسير قوله تعالى: (أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة)
{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} [القلم:39] هل أقسمنا لكم أيماناً وعقدّناها وهذا فيه جواز تعقيد اليمين وتكرير اليمين، وقد قال الإمام مالك رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91] قال التوكيد تكرير اليمين، {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا} يعني: هل أقسمنا لكم أيماناً بالغة إلى يوم القيامة أنكم ستعيشون آمنين مطمئنين إلى يوم القيامة، أو ستأتون آمنين مطمئنين يوم القيامة.(71/11)
تفسير قوله تعالى: (سلهم أيهم بذلك زعيم)
(سَلْهُم) أي: يا محمد! سل هؤلاء القرشيين المشركين، (أَيُّهُمْ) ، من منهم (بِذَلِكَ زَعِيمٌ) ، أي: من منهم الكفيل أو الضامن الذي يضمن لهم أنهم يعيشون آمنين في حياتهم، فكما سلبنا النعمة عن أصحاب الجنة الذين قصدنا لك ذكرهم، فنحن قادرون على سلب النعمة من هؤلاء الذين أمددناهم بأموال وبنين فاستغلوا الأموال والبنين فكذبوا بآياتنا وقالوا عنها أساطير الأولين.
كيف فعلنا بأصحاب الجنة، الذين تعاقدوا على منع المساكين، وحرمان المساكين، وسقنا لك قصتهم مثالاً، فأخبرهم به، وسلهم أيهم ضامن وزعيم أنهم يعيشون ممتعين إلى الممات، ويأتون آمنين يوم القيامة بعد البعث والنشور، {سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم:40] أي: ضامن وكفيل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء، ولو كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن حسن خلقه) الحديث إلى آخره، فزعيم معناه: ضامن وكفيل.(71/12)
تفسير قوله تعالى: (أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم.)
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:41-42] من أهل العلم من قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} متعلقة بما قبلها، فليأتوا بشركائهم في هذا اليوم الذي يكشف فيه عن ساق.
ما المراد بقوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ؟ من أهل العلم من قال: إن المراد بقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أي: يوم يشتدّ الأمر، كما يقال: كشفت الحرب عن ساقيها، أي اشتدت واشتعلت، وأبى هذا كثير من أهل السنة والجماعة بل جمهورهم، وقالوا: إن هذا يفسر بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي أخرجه البخاري وغيره، وإذا جاء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلت معه سائر الأقوال، فلا قول فوق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دعوا كل قول غير قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر فجاء الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في تفسير هذه الآية، فيما أخرجه البخاري وغيره، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً طويلاً وفيه: (ينادي منادٍ: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، فتبقى هذه الأمة فيها مؤمنوها ومنافقوها، فيأتيهم ربهم سبحانه وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: لست بربنا، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فيقول: وبم تعرفونه؟ فيقولون: بالساق، فيكشف رب العزة عن ساقه، فيخر من كان يسجد له في الدنيا ساجداً، ويأتي من كان يسجد رياء وسمعة كي يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً فيخر لظهره) فهذا هو الراجح في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم:42-43] أي: ذليلة، {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] أي: في الدنيا.(71/13)
تفسير قوله تعالى: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث.)
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} ، آية تحمل كل معاني التهديد، فالذي يقول: {ذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} ، هو الله، والمعنى: اتركني مع هذا المكذب، كما في قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] هنا يقول سبحانه: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي -أي: يؤخر- للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم تلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:102-103] وفي الحديث الذي نوزع في تصحيحه: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه؛ فإنما ذلك منه استدراج) {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} ، أي: سنرفعهم درجة درجة إلى الخير في ظنهم وفي زعمهم {مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ} [القلم:44-45] أي: أؤخر لهم {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] وفقنا الله لما يحب ويرضى، والسلام عليكم(71/14)
الأسئلة(71/15)
تحديد المدة بين القسم والتعليق بالمشيئة
السؤال
نريد تحديد التراخي الذي يكون بين المشيئة والقسم؟
الجواب
ليس هناك حد للتراخي إلا الإتباع المباشر، فمثلاً إذا قال الشخص: اقسم بالله العظيم ألا آكل، وسكت هنيئة ثم قال: إن شاء الله، فالوقت بين القسم وبين مقولة (إن شاء الله) ليس هناك دليل على تحديده، وإنما مرده إلى العرف السائد، ولا نستطيع أن نقول: خمس دقائق، أو خمس ثوان، وإنما مرده عرفي.(71/16)
حكم الزواج بغير إذن الولي
السؤال
ما حكم زواج شاب بفتاة وهي لم تبلغ إلا ثمانية عشر سنة دون إذن وليها، وذلك عندما رفض أبوها تزويجه إياها، ولكن بعد ذلك وافق استسلاماً للأمر؟
الجواب
الزواج الأول باطل لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي) ولحديثه عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة نكحت من غير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل) فالعقد يفسخ.(71/17)
حكم من سلم بعد التشهد الأوسط في الصلاة ذات التشهدين
السؤال
صليت صلاة رباعية فسلمت بعد الركعة الثانية، وبعد ذلك قمت لإكمال الصلاة فهل أكبر جالساً أم أقف ثم أكبر للصلاة؟
الجواب
إذا انتهيتَ من التشهد وسلمت قم مباشرة مكبراًَ وائت بالركعتين الباقيتين ثم اسجد للسهو.(71/18)
مسألة: متى يكون على الرجل عدة
السؤال
هل على الرجل عدة ينبغي أن يلزمها كما أن للمرأة عدة؟
الجواب
السؤال من الأسئلة التي تنقل بمثابة (الفوازير) لكن في الحقيقة أنها لا تسمى عدة، لكن إن شئت أن تسميها عدة من باب المجاز فذاك، للرجل أن يتربص ولا يتزوج، حتى تنقضي العدة إذا كان متزوجاً بأربع ثم طلق الرابعة، ولم تنته عدتها؛ فلا يتزوج الخامسة إلا إذا بت طلاق الرابعة، أو انتهت عدتها.
أو كان متزوجاً بامرأة وطلقها ويريد الزواج بأختها؛ فلا يتزوج بالأخرى إلا إذا انتهت عدة الأولى، أو بت طلاق الأولى، وكذلك في عمتها وخالتها.(71/19)
تفسير سورة القلم [3] وسورة الحاقة [1]
تضمنت سورتا القلم والحاقة أخباراً لبعض الأمم الماضية، وذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وعبرة وعظة لأمته.
واشتملت سورة الحاقة على قاعدة عظيمة ومعادلة كونية لا تتغير ولا تتبدل، وهي أن المعصية تجلب العقوبة والدمار والانتقام، والطاعة تجلب الرحمة والرضوان وشواهد هذه السنة الكونية كثيرة.(72/1)
تفسير قوله تعالى: (وأملي لهم إن كيدي متين.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] ، الإملاء: هو التأخير، فقوله تعالى: (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي: أؤخرهم وأنظرهم وأمد لهم في أعمارهم، فالإملاء: هو التأخير، ومنه قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178] ، (نملي لهم) أي: نؤخرهم.
(وَأُمْلِي لَهُمْ) أي: أؤخرهم، (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) إن تدبيري محكم، وأخذي شديد، والمعنى يحتمل كل هذا.
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} [القلم:46] أي: على دعوتك لهم، {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ} [القلم:46] ، المغرم: هو الدين، {مُثْقَلُونَ} [القلم:46] أي: متعبون مرهقون.
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [القلم:47] .(72/2)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر لحكم ربك.)
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48] ، (فاصبر لحكم ربك) أي: اصبر لقضاء ربك يا محمد! ولا تضجر.
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) ، وصاحب الحوت هو يونس بن متى عليه الصلاة والسلام، نهى الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن التشبه بيونس صلى الله عليه وسلم في جزئية، لكن سائر سيرة يونس عليه الصلاة والسلام يتأسى به فيها، كما أن ربنا سبحانه وتعالى نهانا عن التشبه بالخليل إبراهيم في جزئية، لكن سائر سيرة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نتأسى به فيها، فإن الله ذكر إبراهيم في طائفة من الأنبياء عليهم السلام، وقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] ، فأمرنا الله أن نقتدي بإبراهيم صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، لكن ثمّ جزئيات لا يقتدى بهم فيها نُص عليها في كتاب الله، كما في قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] ، قوله لأبيه المشرك: (لأستغفرن لك) ، والاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي: لا يكن لكم أسوة في إبراهيم في قوله لأبيه المشرك: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [الممتحنة:4] .
لكن بُيّن السبب في آية أخرى، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114] .
الشاهد: أن الله قال لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} ، فظاهر الآية الكريمة غير مراد؛ لأنه ليس المعنى: لا تكن كصاحب الحوت وهو ينادي ربه: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] ، فقد حثنا نبينا صلى الله عليه وسلم إذا وقعنا في كرب أن نقول: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) ، وهي من الدعوات التي ذكر بعض أهل العلم أنها من الدعوات المستجابات، فما المراد -إذاً- بقوله: (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) ، ونبينا يعلمنا نداء ذي النون ويحثنا على أن ندعو بندائه عليه الصلاة والسلام؟ قال كثير من أهل العلم: إن معنى (ولا تكن كصاحب الحوت) : أنه خرج من بلده عن غير إذن ربه، فلا تكن مثله في هذا التصرف الذي ألجأه أن ينادي في الظلمات بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] أي: لا تفعل الفعل الذي آل بيونس إلى أن دعا بهذا الدعاء، لكن إذا وقعت في كرب، فلا مانع أن تقول كما قال يونس، بل هو من الخير أن تقول كما قال يونس صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43] ، لا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضباً فخرج من بلدته بغير إذن ربه، فآل به هذا الخروج إلى أن ركب في السفينة وساهم، وكان من المدحضين، والتقمه الحوت وهو مليم، فلا تتشبه بيونس في هذا كله، ولكن إذا وقعت في كربٍ فنادِ كما نادى يونس صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا فالآية فيها مقدرٌ محذوف، وهو: لا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضباً وخرج من البلدة بغير إذن ربه، يعني: اصبر يا محمد! على دعوتك لقومك، ولا تضجر من دعوتهم وتفعل كما فعل يونس صلى الله عليه وسلم: بل اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن الرسل بينهم تفاوت في الصبر في الدعوة كذلك، فنوح صلى الله عليه وسلم لبث في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً عليه الصلاة والسلام، وقصة يونس عليه السلام فيها دلالة على شيء ذي أهمية وهو أن الهداية ليست بيد أحد؛ لا بيد نبي، ولا بيد شيخ، ولا بيد عالم ولا بيد أي شخص.
فعلى ذلك: علينا أن نعلق آمالنا بالله سبحانه وتعالى، لا بشيخ ولا بعالم، بل ولا بأي شخصٍ كائناً من كان، فيونس لما كذبه أهل بلدته وامتنعوا من الإيمان، خرج بغير إذن ربه فآمن أهل القرية كلهم أجمعون، قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] ، فهذا المعنى لابد أن يستقر في الأذهان أن الهادي هو الله، وأن الآمال معلقة بالله سبحانه وتعالى، ولذلك فهم هذا خيرُ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهو أبو بكر الصديق، لما قال عمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت، إنما هذه مقولات أهل نفاق يقولونها وسيرجع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو بكر: على رسلك، ثم قال: (يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً؛ فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإن الله حيٌ لا يموت) ، ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] .
فلابد أن تتعلق الآمال بالله سبحانه لكشف الضر عن المسلمين جميعاً، أما أن تتعلق الآمال بشخص كائناً من كان، فالشخص مآله إلى زوالٍ، والله أعلم.
قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي: مكروب ممتلئ غماً وحزناً لمعصيته لربه وللبلاء الذي حلّ به صلى الله عليه وسلم.(72/3)
تفسير قوله تعالى: (لولا أن تداركه نعمة من ربه.)
{لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [القلم:49] ، لولا أن الله رحمهُ {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم:49] ، فإن قال قائل: كيف يقال: {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} ؟ أليس يونس قد نبذ بالعراء؟ الإجابة: بلى قد نبذ يونس صلى الله عليه وسلم بالعراء؛ لأن الله قال: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات:145] ، فإذاً: كيف يجاب على هذا الإشكال؟ {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} ، فالإجابة: أنه نبذ بالعراء، لكنه نبذ بالعراء وهو غير مذموم، فقد تاب الله عليه، فحينئذٍ يندفع الإشكال، فيونس صلى الله عليه وسلم نبذ بالعراء وهو سقيم أي: مريض، لكن وإن كان مريضاً في بدنه فقد غفر الله سبحانه وتعالى له ذنبه، كما قال تعالى: في كتابه الكريم: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87-88] ، فهو قد نبذ بالعراء، لكن نبذ بعد أن تاب الله عز وجل عليه، ولم ينبذ وهو مذموم، ولولا رحمة الله لنبذ بالعراء وتبعه مع هذا النبذ المقت والذم، والله أعلم.(72/4)
تفسير قوله تعالى: (فاجتباه ربه فجعله من الصالحين)
{فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:50] ، أي: اختاره ربه سبحانه وتعالى فجعله من الصالحين، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى) ، وهل الضمير في قوله: (أنا خيرٌ من يونس) يرجع إلى العبد؟ أي: لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا -نفسي- خيرٌ من يونس؛ لأن يونس ما صبر وأنا قد صبرت، أم أن الضمير يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ سيكون المعنى: لا ينبغي لعبد أن يقول: إن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم خيرٌ من يونس بن متى؟ فلكل قولٍ وجه: فالقول الأول: لا ينبغي لعبد أن يقول عن نفسه: أنا خيرٌ من نبي الله يونس؛ لأن الأنبياء هم أفضل الخلق، وأعقل الخلق وأكمل الخلق عليهم الصلاة والسلام، وقد يتأيد هذا المعنى بالوارد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ، فقوله: (أنا سيد ولد آدم) يجعل المفسر يقول: لا ينبغي لعبد أن يقول عن نفسه: أنا خيرٌ من يونس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلا شك خيرٌ من يونس بن متى، إلا أن بعض العلماء يقول: إن هذا من باب النهي عن التخيير بين الأنبياء على السبيل التي تجلب الشحناء؛ مثال ذلك: لما قال أحد الصحابة: والذي اصطفى محمداً على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فقام المسلم إلى اليهودي فصفعه على وجهه، فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكى إليه المسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذاً بقوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم أُخذ بصعقة الطور؟!) ، فالشاهد أن لقائل أن يقول: إن قوله (أنا) يرجع إلى العبد، فلا ينبغي للعبد أن يقول عن نفسه: أنا خيرٌ من يونس، وإذا نزلناها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي لعبد أن يقول: إن النبي محمد عليه الصلاة والسلام خيرٌ من يونس، فهذا يحمل على أنه عليه الصلاة والسلام قاله على سبيل التواضع، أو قاله قبل أن يعلم: أنه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
وإلا فأصل تفضيل بعض الأنبياء على بعض وارد في كتاب الله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] ، وقال ربنا سبحانه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] فمن الرسل من هو من أولي العزم، ومنهم من ليس من أولي العزم، والله أعلم، {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115] .
وفي قصة يونس صلى الله عليه وسلم فوائد منها -وقد تكرر ذكرها مراراً-: أن السيئة -أو حتى الكبيرة- إذا ارتكبها العبد لا تطيش بكل محاسن عمله، بل توضع أيضاً محاسنه في الاعتبار، وقد قدمنا أن موسى صلى الله عليه وسلم قتل نفساً لم يؤمر بقتلها، وألقى الألواح وكسرها، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، فمع هذا كله، لم يخرجه ذلك عن حيز الوجاهة، فإن الله وصفه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69] عليه الصلاة والسلام، وقال الله في شأن أهل الإيمان: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر:35] ، وفيه دليل على أنهم عملوا أعمالاً سيئة، فالشخص لا يؤاخذ بالذنب، فيغطى بهذا الذنب على كل المحاسن: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] .
قال الله سبحانه: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
والناظر إلى سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجد أن كثيراً منهم قد اجتباه ربه بعد معصيته، أو أن بعض الأنبياء اجتباه ربه بعد معصية، فكيف هذا؟ الإجابة: أن المعاصي أحياناً تكسر صاحبها وترده رداً جميلاً إلى الله، فيجتهد في الاستغفار ويجتهد في التوبة، ويجتهد في الإنابة، فالمعصية تحدث له نوعاً من الرجوع إلى الله، ومن حسن العبادة والطاعة، ورب طاعة يأتي بها العبد، وتكون سبباً في إدخاله النار -والعياذ بالله! - إذا أورثته عجباً وفخراً، والله أعلم.
آدم صلى الله عليه وسلم أخرج من الجنة كما لا يخفى عليكم، وقال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] ، بعد المعصية قال تعالى في شأن آدم: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] ، وها هو يونس: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، وموسى صلى الله عليه وسلم قتل النفس وشاء الله سبحانه وتعالى له أن يكون رسولاً بعدها بسنوات، (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ) أي: اختاره واصطفاه، (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) .(72/5)
تفسير قوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم.)
{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51] ، هذه الآية تصوّر موقف أهل الكفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تلوت القرآن -يا محمد- ورآك أهل الكفر، نظروا إليك نظرات قاتلة بأبصارهم، وأوشكوا بهذه النظرات أن يسقطوك من على منبرك وأنت تقرأ القرآن، أو يسقطوك من مقامك وأنت تقرأ القرآن: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) ، فالآية أثبتت العين، واتفقت كلمة أهل السنة والجماعة على إثبات أن العين تدخل الرجل القبر وتولج الجمل القدر، فالعين حقٌ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (العين حق، ولو كان شيءٌ سابقاً القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا) ، وفي صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رأى على جارية لـ أم سلمة سفعة أي: تغيراً وسواداً في وجهها، فسأل ما هذا يا أم سلمة؟ قالت: يا رسول الله! إن بها النظرة، قال: فاسترقوا لها) .
وثبت بإسناد صحيح -وتقدم مراراً- (أن النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب إلى أسماء بنت عميس بعد مقتل زوجها جعفر بثلاثة أيام، فرأى أولاد جعفر قد خفتوا وأصبحوا مثل الأفراخ فقال لها: ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ قالت: تسرع إليهم العين يا رسول الله! قال: فاسترقي لهم) .
ولا يخفى عليكم قصة سهل بن حنيف لما اغتسل وكان رجلاً أبيض، فمر به عامر بن ربيعة فقال: والله! ما رأيت جلد عذراء كاليوم، فسقط سهل في الحال فقال: أصحابه يا رسول الله! أدرك سهلاً! قال: (من تتهمون؟ قالوا نتهم عامر بن ربيعة، فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: علامَ يحسد أحدكم أخاه! إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدعو له بالبركة، ثم أمر عامر بن ربيعة بأن يتوضأ ويغسل ركبتيه وداخلة إزاره، ثم أخذ الماء فصبه على سهل بن حنيف، فقام: كأنما نشط من عقال) أي: كأنه كان مربوطاً بحبل وفك منه رضي الله تعالى عنه.
فكل نصوص الكتاب -ومنها قوله تعالى: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) - ونصوص السنة -ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (العين حق) - تثبت أن العين لها تأثير، وأن تأثيرها لا يكون إلا بإذن الله، شأنها في ذلك شأن أي سببٍ مادي، فأنت إذا رماك شخصٌ برصاصة لا تقتل إلا بإذن الله، وإذا حاول شخص أن يسرقك لم يسرقك إلا بإذن الله، وكذلك إذا نظر إليك شخص لم يستطع أن يصيبك بشيء إلا بإذن الله، شأنها شأن سائر الأشياء المادية، وكون ذلك وكيفيته وطريقته يعلمه الله سبحانه وتعالى.
وقد ذكر العرب -بل والمفسرون- في هذا الباب أقوالاً وقصصاً في غاية الطول، لكن فيما ذُكر من كتاب الله وفيما ذُكر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم غنى عما سواه، ومما ذكر العرب أن رجلاً من العائنين الذين يصيبون بأعينهم كانت تمر به ناقة فيقول لغلامه: يا بني! اذهب فاشترِ لنا من هذه الناقة، فما هي إلا خطوات حتى تسقط وتنحر ويشتري منها اللحم ويأتي به! فذكروا قصصاً واسعة في هذا الباب لكن ينبغي أن يكون مستندنا دائماً قول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن -كما أسلفنا- ذكروا عدة قصص للتوسع في ذلك، والله أعلم.
(وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) ، والذكر: هو القرآن، والدليل على ذلك، قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، وليس من الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] ؛ لأن قوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي: شرفٌ لك ولقومك، كما قاله.
(لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) ، ليس ضرباً من الجنون ولا من الأساطير.(72/6)
تفسير قوله تعالى: (وما هو إلا ذكر للعالمين)
{وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم:52] ، (والعالمين) تقدم تفسيرها.
فمن العلماء من يقول: إن (العالمين) : الإنس والجن لقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] ، والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الثقلين: الإنس والجن، ومنهم من قال: ما بين السماوات والأرض، لقوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:23-24] .
ومنهم من يقول: إن (العالمين) الرجال والنساء، أي: الإنس فقط، لقول لوط عليه الصلاة والسلام: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] ، ولكن مراده هنا والله أعلم على ما فسرته عمومات السنة وعمومات الكتاب أن المراد بالعالمين: الإنس والجن، والله سبحانه وتعالى أعلم، {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} .(72/7)
تفسير قوله تعالى: (الحاقة، ما الحاقة.)
ثم قال تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1-2] .
الحاقة: هي الساعة، ومن العلماء من قال: أطلق على الساعة الحاقة؛ لأنها متحققة الوقوع، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والجنة حق، والنار حق، والساعة حق) ؛ فمن العلماء من قال الحاقة: هي الساعة، أطلق عليها الحاقة: لتحقق وقوعها، الساعة: هي يوم القيامة.
ثم قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:3] ، (وما) هنا: للتعظيم، وما أعلمك ما الحاقة؟ وذلك لتعظيم شأنها، وقد قال فريقٌ من أهل العلم: إن كل ما كان فيه: (وما أدراك) قد أعلمه الله به، ولكن كل ما كان فيه (وما يدريك) لم يُعلمه الله سبحانه وتعالى به، فالله قال لنبيه: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63] ، فالله لم يُعلم نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ لكن في الحاقة قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} ، قد بين له الأهوال التي تحدث في هذه الحاقة، كقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين:8] ، بين لهم ما هي (سجين) والله أعلم.
(الْحَاقَّةُ) ، اسم من أسماء القيامة أيضاً، (مَا الْحَاقَّةُ) ، لتعظيم شأنها، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} .(72/8)
تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود وعاد بالقارعة.)
قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة:4] ، كذبت ثمود، وهي قبيلة نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم، وعادٌ وهي قبيلة نبي الله هود صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:5] ، ما هي هذه الطاغية؟ الطاغية: قال بعض أهل العلم: هي صيحة شديدة، والطاغي: هو الزائد عن الحد، والرجل الطاغي أو الطاغية هو الذي تجاوز الحد في الظلم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] ، والطاغوت: هو متجاوز الحد في الظلم.
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] ، أي: تجاوز الحد في الظلم.
قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:4-5] ، ما هي هذه الطاغية؟ قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر:23] ، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:31] ، فالطاغية: هي الصيحة.
قال بعض العلماء: طغت على الخُزَّان، فقالوا: إن كل شيءٍ يأتي من عند الله سبحانه وتعالى بقدر، قطرة الماء التي تنزل من السماء تنزيل بقدر، الرياح التي تسير، تسير بقدر، لكن الريح التي سلطت على قوم عاد، أو الصحية التي سلطت على قوم ثمود، والطوفان الذي سلط على قوم نوح طغى وعتى على الخزان، الريح التي أرسلت على عاد عاتية، عتت على خزانها، يعني: لم يستطع الخزان التحكم فيها ولا تقدير مقدارها، إنما عتت عليهم فلم يستطيعوا حصرها ولا ضبطها، وكذلك ما فعل بقوم نوح صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} ، أي: الصيحة الشديدة، التي طغت وزادت عن الحد.
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة:6] ، (بريح صرصر) والصرصر من العلماء من قال: هي الريح شديدة الصوت، ومنهم من قال: شديدة البرد، ومنهم من جمع وقال: شديدة الصوت شديدة البرد.
(بريح صرصر) قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها: (نصرت بالصبا -أي: بريح الصبا يوم الخندق- وأهلكت عادٌ بالدبور) ، أي: الريح التي سلطت على عاد، وصفت هذه الريح في آيات أخر بأنها ريح عقيم، فالريح منها: ريح مبشرات، ومنها لواقح كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] ، أي: تلقح وينتفع بها، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا هاجت الريح يقول: رب أسألك خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، فالريح قد يكون فيها نوع خير، وقد يكون فيها نوع شر.
أما الريح التي سلطت على عاد، فلم يكن فيها أي نوع من أنواع الخير، بل وصفها الله بأنها ريح عقيم لا تلد أي: لا تلد أي خير، ولا يتولد منها أي خير، بل كل المتولد منها شرٌ محض والعياذ بالله.
قال تعالى: (وَأَمَّا عَادٌ) ، وهي تلك القبيلة التي أمدها الله بطول في الأجسام وسلامةً في الأبدان ونعمة في الأوطان، حتى تباهوا على سائر الخلق وقالوا: (من أشد منا قوة) ! وكانوا طوالاً كأمثال النخيل، كما قال جمهور المفسرين، فسلطت عليهم الريح العقيم، قال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} [الحاقة:5-6] ، شديدة الصوت شديدة البرد، (عَاتِيَةٍ) ، أي: عتت على خُزَّانها، ولم يستطع الخزان من الملائكة ضبطها ولا التحكم فيها، بل زادت عليهم.
{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7] .
(سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ) ، هذه الآية مستند لمن قال بالتفريق بين اليوم والليلة، وقال: إن اليوم يبدأ من الفجر إلى المغرب، والليلة تبدأ من المغرب إلى الفجر، وفي الحقيقة إن هذه من المسائل التي قد يتناول فيها اللفظ معنى لفظ آخر، وللسيوطي كتاب سماه (الشماريخ في معرفة الأيام والتواريخ) ونقل أنه أحياناً تأتي كلمة (اليوم) ويراد بها النهار فقط من الفجر إلى غروب الشمس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تستطيع أن تصوم ستين يوماً؟) ، وبلا شك أن المراد بـ (اليوم) هنا النهار فقط.
وأحياناً تأتي كلمة (اليوم) ويدخل في ضمنها الليلة، مثلاً: إذا قلت: مُرّ عليَّ بعد عشرة أيام، فالليلة تدخل مع هذه الأيام.
{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} ، و (الحسوم) من العلماء من قال: إنها المتتابعة، فالريح عادة تهب وتسكن، لكن الريح التي سلّطت على قوم عاد ريح متصلة متتابعة حسمت مادتهم، كما تقول: فلان حسم الأمر أي: قطع الأمر وأنهاه، فهذه الريح حسمت أمرهم واستأصلتهم بكاملهم وأبادتهم عن آخرهم فانتهى أمرهم، فـ (حسوماً) على رأي كثير من العلماء معناها متتابعة.
ومنهم من قال: إنها من الحسم، ومنه: حسم يد السارق التي قطعت في الزيت، وذلك أنها إذا قطعت يد السارق يحسم باقي الذراع في الزيت المغلي حتى يقف الدم، فالحسم يطلق على القطع، فالريح كانت متتابعة، وكانت أيضاً حسوماً، أي: متصلة لا تفتر ولا تسكن لحظة واحدة.
{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى} [الحاقة:7] ، أي: هلكى، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} [الحاقة:7] ، أي: أصول نخل، {خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] ، أي: فارغة.
يعني: من شدة الريح قطعتهم فأصبحوا كأعجاز النخل المقطوع أعلاها وبقي أسفلها مفرغاً من الداخل، إذ أن الريح أتت وفرغتهم من الداخل فأصبحوا كأعجاز النخل -لطولهم- خاوية فارغة من الداخل.
فانظر إلى هذا المنظر من الإبادة، ريح تستأصل وتدخل على ما بداخل الأبدان فتقتلعه اقتلاعاً حتى أصبحت أبدانهم كأعجاز النخل الخاوية.
{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8] ، فهل ترى لهم الآن -يا محمد- من باقية؟(72/9)
تفسير قوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة)
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ} [الحاقة:9] ، جاء فرعون بعد هؤلاء، {وَمَنْ قَبْلَهُ} [الحاقة:9] ، أي: من جاءوا قبله، {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} [الحاقة:9] ، وهي مدائن قوم لوط، فالمراد أصحاب المؤتفكات، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] ، فالمؤتفكات: هي مدائن قوم لوط، فقال الله سبحانه: ((وَجَاءَ)) ، أي: بعد عاد وثمود، (فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ) ، كل هؤلاء جاءوا بالخاطئة، وما هي الخاطئة؟ من العلماء من قال: هي الذنب العظيم وهو الشرك.
ومنهم من قال: إن الخاطئة راجعة إلى فعل المؤتفكات وهي كبيرة فعل قوم لوط.
جاء فرعون ومن قبله بالذنوب الكبار والعظائم (والمؤتفكات) أتت بالخاطئة، وهي الذنب القبيح الذي هو اللواط.(72/10)
تفسير قوله تعالى: (فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية)
{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} ، من هو رسول ربهم؟ كلٌ عصى رسول ربه الذي أرسل إليه، فالمؤتفكات عصت لوطاً عليه السلام، وفرعون عصى موسى صلى الله عليه وسلم، فكل قوم عصوا نبيهم.
{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} ، لماذا لم يقل: (فعصوا رسل ربهم) ؟ من أهل العلم من قال: إن عصيان الرسول الواحد عصيانٌ لكل الرسل، كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] ، وهم إنما كذبوا هوداً فقط، فمن كذب هوداً فقد كذب كل المرسلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتى) ، يعني: أبونا واحد وهو أصل التوحيد، وأمهاتنا أي: شرائعنا متعددة متنوعة، فمن كذب رسولاً في دعوته إلى التوحيد فقد كذب كل من دعا إلى التوحيد، فكل الرسل قالوا: (لا إله إلا الله) ، فإذا جاء نبيٌ وقال: لا إله إلا الله وكذبه قومه، فهم بذلك يكونون قد كذبوا كل المرسلين.
قال الله سبحانه وتعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة:10] ، والرابي: هو الشديد.
فقوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} ، الرابية الشديدة الزائدة، وذلك من قوله: ربا الشيء إذا زاد، ومنه الربا: الذي هو الزيادة، ومنه حديث أبي بكر في قصة الأضياف: فما أكلنا لقمة إلا وربى أسفلها أكثر منها.
{فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} ، أي: أخذة شديدة زائدة عن الحد.
في قوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ} ، معادلة ثابتة تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:16] ، {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ} ، {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل:112] ، {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق:8] ، وهذه سنن كونية ومعادلات وثوابت لا تتغير أبداً، وهي أن العصيان يجلب الانتقام، والطاعة تجلب الرحمة والرضوان، معادلات لا تتبدل أبداً وإن تأخر تحقق وقوع هذه المعادلات فهي واقعة بلا شك وبلا ريب، وعليك أن تمعن النظر فيها وتعرف أنها سنن لله في الخلق لا تتبدل، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] ، هذه أصول ثابتة في كتاب الله، فلا تخدع من قبل إبليس، وتظن أنك ستفعل السيئات، وتجازى بالحسنات، فإن الله سبحانه ذكر قوماً على هذا المنوال فقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:169-170] .
فاعلم تمام العلم، وأيقن تمام اليقين أن الطاعات تجلب رحمة الله وتجلب مغفرة الذنوب، وتجلب سعةً في الأرزاق وهدوءاً في البال وعافية في البدن، وأن المعاصي على العكس تماماً، تزيل النعم وتدمر البدن، وتوجد كل القلاقل والهموم والاضطرابات، لأن سنة الله سبحانه وتعالى لا تتخلف ولا تتبدل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] .(72/11)
تفسير قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية)
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] .
أي: ازداد الماء، وذلك في الطوفان الذي أرسل على قوم نوح، (حملناكم) أي: حملنا آباءكم، فبحملنا لآبائكم جئتم أنتم، وإلا لو كان الآباء قد أهلكوا لم تأتوا أنتم من الأصل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} [الأعراف:11] ، أي: صورنا أباكم آدم، وكما قال تعالى لبني إسرائيل: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [الأعراف:141] ، والخطاب لبني إسرائيل من سكان المدينة النبوية، وهم لم يروا فرعون من الأصل، لكن قوله تعالى: (أنجيناكم) أي: أنجينا آباءكم، ففي إنجاء الآباء إنجاء للأبناء، فالله يمتن على الناس بقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ، الله سبحانه وتعالى في أوائل السورة ذكر ثمود وما حل بهم صراحة، ثم ذكر عاداً وما حل بهم صراحة، ثم فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة (فعصوا فأخذهم أخذة رابية) صراحةً، لكن عرج على قوم نوح وعلى هلاك قوم نوح ببيان فضله عليكم: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ، أي: وأهلكنا أيضاً أعداءكم وأعداء آبائكم، فهو نوع امتنان مع ما فيه من إشارة إلى إهلاك الأعداء، ففي هذا النظم القرآني الكريم -أولاً- بيان نعمة الله سبحانه وتعالى من وجهين: الوجه الأول: إنجاء هؤلاء الموجودين، وذلك تم بإنجائنا لآبائهم.
والوجه الثاني: إغراق العدو، ألم يقل الله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف:133] ؟ ! إلى غير ذلك، لكنه أتى بهذا السياق لتضمنه المعنيين، تضمن إهلاكاً وإنعاماً، فلذلك عرج إلى هذا السياق والله أعلم.
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ، أنجيناكم وأهلكنا أعداءكم.(72/12)
تفسير قوله تعالى: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية)
{لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا} [الحاقة:12] ، أي: تحفظها {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة:12] ، وقد ورد في إسناد ضعيف من طريق الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد مرسل من مراسيل الحسن -إذا سلم السند حتى إلى الحسن - ومراسيل الحسن من أضعف المراسيل: (أن النبي تلا هذه الآية الكريمة: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ، قال: هي أذنك يا علي) .
فصحيح أن أذن علي رضي الله عنه أذن واعية، وعلي من الذين يفهمون وهو أقضى الصحابة -أي: أعلم الصحابة بالقضاء- قاله عمر كما في البخاري: (أقضانا علي) .
ولكن حصر الأذن الواعية على علي فقط بهذا السند الضعيف التالف، فالسند ضعيفٌ وتالف وأظنه من وضع الشيعة، فالشيعة أكثروا من وضع الأحاديث في فضل علي، وفي فضل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كحديث: (أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى) إلى غير ذلك.
قال تعالى: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم.(72/13)
الأسئلة(72/14)
الكلام على حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن زان اعترف لأنه تاب
السؤال
حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كاد أن يقيم الحد على رجل بريء، ثم اعترف المذنب، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً حسناً، ولم يقم عليه الحد، وأقامه على ماعز رغم أن النبي قد بين توبته، فكيف يجمع بين الحديثين؟!
الجواب
من طريق علقمة بن وائل عن أبيه قال: (خرجت امرأةٌ إلى الصلاة فلقيها رجل فتجللها بثيابه فقضى حاجته منها وذهب، وانتهى إليها رجل فقالت له: إن الرجل فعل بي كذا وكذا، فذهب الرجل في طلبه، فانتهى إليها قوم من الأنصار، فقالت لهم: إن رجلاً فعل بي كذا وكذا فذهبوا في طلبه، فجاءوا بالرجل الذي ذهب في طلب الرجل الذي وقع عليها فجاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: هو هذا، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمه قال الذي وقع عليها: يا رسول الله! أنا هو، فقال للمرأة: اذهبي فقد غفر الله لك، وقال للرجل قولاً حسنا، فقيل: يا نبي الله! ألا ترجمه؟ فقال: لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم) ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم: أقام الحد على ماعز.
الحديث الأول الذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق الأول وبرأه، وقال له قولاً حسناً، وقال للثاني: لقد تاب توبةً لو تابها أهل المدينة لقبل منهم.
فكيف يترك الرسول صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على رجلٍ قد اعترف، مع أنه أقام الحد على ماعز؟ أما وجه إقامة الحد على ماعز فلا إشكال فيه؛ لأن ماعزاً اعترف فأقيم عليه الحد، لكن الإشكال الوارد في قصة هذا الرجل الذي وقع على المرأة.
فمن العلماء من تكلم في هذا الحديث من ناحية معناه.
ومنهم من يتساهل مفترضاً ثبوته.
فالذين يتكلمون فيه من ناحية معناه يقولون: إن الحد لا يقام إلا بأحد ثلاثة أشياء، إما بالاعتراف وإما الشهود، وفي حق المرأة يزيد: الحبل، كما قال أمير المؤمنين عمر: فإن الرجم حق في كتاب الله، إذا كان الحبل أو الاعتراف أو الشهود.
فالرجل ليس الحبل في حقه، فبقي في حقه شيئان فقط: إما الاعتراف وإما الشهود، فالرجل ليس في الحديث: أنه اعترف، وليس هناك شهود رأوه؛ لأن الرؤية لابد أن تكون صريحة وبضوابط، أما لو قال شخص: رأيت رجلاً وامرأة في غرفة مغلقاً عليهما، أو لقيت رجلاً وامرأة نائمين في لحاف وهما عريانيين، كل هذه ليست قرينة ولا تعتبر شهادة في إثبات الزنا، فالشهود لم يروا شيئاً من هذا، فهذا وجه الخلل أو الاستدراك على متن هذا الحديث من ناحيتين: أولاً: لم يثبت أن الرجل اعترف.
ثانياً: لم يثبت من طريق الشهود أنه زنى، فهذان وجهان.
الوجه الثالث: أيضاً تبرئة الرسول له، وترك الرسول إقامة الحد عليه، فمن العلماء من تكلم فيه من هذا الوجه، لكن على فرض ثبوت الحديث سنداً ومتناً كيف يجاب على الإشكال؟ فيجاب بأن هذا صورة مستثناة، استثناها النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إماماً للمسلمين لقرينة بدت منه، فيكون هذا من الصور المستثناة التي لا تعمم بها الأحكام، والله أعلم، لكن في المتن وجه إشكال هذه صورته، وأيضاً نعرف أن من أهل العلم المعاصرين من حسن هذا الحديث، لكن لنا معه إن شاء الله وقفات ووقفات في مرةً قادمة بمشيئة الله.(72/15)
حكم إفطار الصائم قضاء قبل الغروب
السؤال
نويت الصيام قضاءً عن يوم أفطرته في رمضان، وفي أثناء صيام القضاء أفطرت في منتصف اليوم بدون عذر شرعي، فهل عليّ شيء مع أنني نويت صيامه في يوم آخر؟
الجواب
لا شيء عليك، حرمة رمضان ليست كحرمة غيره، وما عليك إلا أن تقضي صيام اليوم الذي أفطرته من رمضان في يوم آخر.(72/16)
حكم مخالفة الكفار
السؤال
هل مخالفة الكفار واجبة؟
الجواب
مخالفة الكفار في دينهم واجبة، أما في دنياهم فالكفار لهم في دنياهم أمور سبقوا المسلمين فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بعض أسلحة الكفار، وعمل ببعض المشورات الدفاعية وإن كانت من فعل الكفار، وقد ذكر فريق من العلماء: إن أصل حفر الخندق كخطة حربية لم يؤخذ من المسلمين، وإنما كانت من فعل الفرس، حتى إن المشركين لما أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق قالوا: هذا شيءٌ لم تعرفه العرب، فالمراد بمخالفة الكفار مخالفتهم فيما كان من أمور الدين، والله أعلم.(72/17)
حكم زواج رجل بامرأة وقد زنى بأمها
السؤال
رجل زنى بأم زوجته قبل أن يبني بها فما الحكم؟
الجواب
هذه المسألة من المسائل المختلف فيها بين العلماء وإجمالاً من العلماء من يقول: إن الحرام لا يحرم الحلال، فالزواج صحيح، لكنه يمنع من باب آخر وهو أن زواجه بالبنت سيؤدي إلى تسهيل الزنا بالأم، فحينئذٍ يفتي كثير من أهل العلم بالطلاق سداً للذريعة الموصلة إلى الفاحشة مرة ثانية، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله.(72/18)
يأتي لفظ (الريح) للشر، و (الرياح) للخير لكن لا يطرد
السؤال الأول: هل هناك دليل على أن الريح تطلق على الشر، وأن الرياح تطلق على الخير؟
الجواب
هناك من الآيات ما يمكن أن يستنبط ذلك منها: قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24] ، وقوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات:41] .
أما الرياح فقد قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم:46] ، وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] ، أما كون هذا لا يطرد، فلقول النبي صلى الله عليه وسلم في الريح: (رب أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها ومن شر ما فيها ومن شر ما أرسلت به) .(72/19)
حال حديث (إذا رأى أحدكم من أهله أو ماله شيئاً يعجبه فليقل.)
السؤال
حديث: (إذا رأى أحدكم من أخيه شيئاً فأعجبه فليدع له بالبركة) ، (إذا رأى أحدكم من أهله أو ماله شيئاً فأعجبه فليقل ما شاء الله لا قوة إلا بالله) ؟
الجواب
الأخير في إسناده ضعف.(72/20)
حقوق المرأة على الرجل إذا طلقها
السؤال
ما هي حقوق المرأة المطلقة على زوجها؟
الجواب
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] ، وفي الآية الأخرى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] .
فالمطلقة فيها تفصيل: إن كانت مطلقة قبل الدخول، أي: قبل أن يبني بها الزوج فلها نصف صداق، وإن كانت مطلقة بعد البناء بها، فلها الصداق كاملاً، ولها نفقة العدة ولها أن تسكن في بيت الزوجية، {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] .
أما إذا كانت هي التطليقة الثالثة، فالمطلقة ثلاثاً على رأي الجمهور: لا نفقة لها ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس في صحيح مسلم.(72/21)
تفسير سورة الحاقة [2]
إن المتأمل لآيات القرآن الكريم يجد أنها تدور على ثلاثة أمور: عقائد، وأحكام، وقصص وأخبار، والقصص والأخبار فيها العظة والعبرة، والترغيب والترهيب، وفي سورة الحاقة يقص الله سبحانه وتعالى علينا قصة فرعون ومن قبله من المؤتفكات، وقصة قوم نوح عليه السلام وغيرهم من الأمم الغابرة؛ لنعتبر ونرتدع عما كانوا يعملون، حتى لا يكون مصيرنا كمصيرهم.(73/1)
تفسير قوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة:9-10] .
قوله تعالى: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) أي: وجاء (فرعون) وجاء من قبله، وفرعون علم لكل من حكم مصر من الجبابرة، فكل من حكم مصر من الجبابرة يقال له: فرعون، كما أن كل من حكم الروم يسمى: (قيصر) ، وكل من حكم الفرس يسمى: (كسرى) ، وكل من حكم الهند يسمى: (بطليموس) ، وكل من حكم اليمن يسمى: (تبع) ، وكل من حكم الحبشة يسمى: (النجاشي) ، والنجاشي الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه: أصحمة.
فقوله تعالى: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ) ، المراد به هنا: (فرعون موسى، أي: فرعون الذي أرسل إليه نبي الله موسى) صلى الله عليه وسلم.
جاء فرعون وجاء أيضاً من قبله، وجاء فرعون وجاءت أيضاً المؤتفكات.
والمؤتفكات: هي مدائن قوم لوط، وقد قال الله في شأنها: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] ، فجاء فرعون وجاء جبابرة آخرون قبله، وجاءت أيضاً المؤتفكات بالخاطئة.
ما هي الخاطئة؟ هي الفعلة الخاطئة.
وما هي الفعلة الخاطئة؟ قال فريق من أهل العلم: إنها الشرك.
وفريق منهم: أرجعها إلى قوم لوط وهي الكبيرة التي كانوا يأتونها، وهي: إتيان الرجال، كما قال تعالى في كتابه الكريم: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] .
والخاطئة أعم من أن يقال: إنها الشرك، فتشمل الصغيرة والكبيرة، وتشمل كل ذنب، لكن المراد بالخاطئة هنا: الشرك، أو الكبيرة المذكورة بالنسبة لقوم لوط.(73/2)
تفسير قوله تعالى: (فعصوا رسول ربهم.)
{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} [الحاقة:10] إن من عصى رسولاً فقد عصى الرسل جميعاً، ففرعون لما عصى موسى عليه الصلاة والسلام فيما يدعوه إليه من توحيد الله سبحانه، كان قد عصى المرسلين جميعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا معشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى) (ديننا واحد) وهو التوحيد، (وأمهاتنا) أي: شرئعنا، (شتى) أي: شرائعنا متعددة ومتنوعة، كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146] ، وكما قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران:93] ، وكما قال تعالى في شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أمته: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، فالشرائع متعددة، لكن أصل الدين واحد وهو التوحيد، فمن كذب رسولاً في أصل الدين فقد كذب المرسلين جميعاً.
ومن هنا قال الله سبحانه: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] ، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141] ، {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176] وهكذا.
فقوله تعالى: (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) ، تنزل على كل فئة من الفئات المذكورة التي عصت رسول ربها، فيكون للإفراد وجهٌ حينئذٍ، أو يقال: إن من عصى رسولاً فقد عصى الرسل جميعاً، ولا إشكال حينئذٍ من الأفراد.
{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} ، أي: عالية شديدة.
والرابي: هو العالي، قال تعالى: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [الرعد:17] ، وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ} [الروم:39] ، أي: ليزداد {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم:39] ، (إذا أنفق أحدكم صدقة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه فيربيها) ، أي: يزيدها.(73/3)
تفسير قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية)
{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة:11] ، أي: ازداد الماء، وهذا الطغيان من الماء في زمن نوح صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى في كتابه الكريم في شأن قوم نوح: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف:133] ، والطوفان ذُكر في سورة هود وفي غيرها من السور.
قال الله سبحانه وتعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11-12] .
فقوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ} ، أي: حملنا آباءكم، فحمل الآباء، والإنعام على الآباء يعد إنعاماً على الأبناء، ومنها قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11] ، (خلقناكم) أي: خلقنا آدم، (ثم صورناكم) صورنا آدم أيضاً (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) ، وقال تعالى لبني إسرائيل من سكان مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [الأعراف:141] ، وهم من وراء فرعون، والله إنما أنجى أجدادهم، فإنجاء الآباء وإنجاء الأجداد يعتبر إنجاء للأبناء.(73/4)
تفسير قوله تعالى: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية)
{لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة:12-13] ، وهي المذكورة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته وانتظر متى يؤمر) وفي رواية (متى يؤذن له) .
((فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) ، قد ورد أولاً: قول الجمهور أن المراد بالصور: قرنٌ ينفخ فيه، وقد ورد هذا المعنى في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهو أن الصور: قرنٌ ينفخ فيه.
ومن العلماء من قال (الصور) : هم بنو آدم، وهذا القول مأثور عن قتادة، يعني: نفخت أرواح بني آدم في بني آدم فأحيا الله الخلق.
قال قتادة رحمه الله: (الصور) الخلق، هذا قول، لكن القول الذي عليه الأكثرون، أن المراد بالصور: قرنٌ ينفخ فيه.
قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} ، فأمر الله يتم كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50] ، ليس هناك تكرار: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] ، {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء:69] ، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود:44] ، كلمات واحدة تتم بها أقدار الله سبحانه وتعالى، وقضاء الله يتم بالكلمة الواحدة، {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50] .(73/5)
تفسير قوله تعالى: (وحملت الأرض والجبال فدكتا.)
قال تعالى: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:14] ، من الذي حملها؟ قال كثيرٌ من أهل العلم، الذين حملوها: هم الملائكة.
وقال البعض: نجري الآية على ظاهرها، وهو البناء للمجهول، (حُملت) فالله أعلم من الذي يحملها، هل ربنا سبحانه هو الذي يحملها، أو هل الملائكة هم الذين يحملونها؟ الله سبحانه أعلم.
{وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة:14-15] ، وكما قال في الآية الأخرى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] ، وقد ورد في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أن حبراً من أحبار اليهود أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! -أو يا أبا القاسم! -: أما بلغك أن الله يضع السماوات على إصبع، والأراضين على إصبع، والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم -قال ابن مسعود: تصديقاً لخبر الحبر-) .
فقوله تعالى: (وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ) ، أي: كأنها ارتفعت عن أماكنه:، (فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) .(73/6)
تفسير قوله تعالى: (وانشقت السماء فهي يومئذ واهية)
{وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:16] ، أي ضعيفة، فهي الآن محكمة محبوكة قوية، كما قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] ، والشيء المحبوك: هو المشدود بعضه إلى بعض بقوة، كما تقول مثلاً في أمور الدنيا، لمن يخيط النعل: احبك الخياطة، أو احبك الثوب، فالحبك: الشدة، ومنه قول القائل للآخر: أنت (محبّكها) يعني: متشدد فيها، لا تريد أن تترك متنفساً ما.
أما يوم القيامة فالله سبحانه وتعالى يقول في شأن السماء: {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} ، ضعيفة متفتتة.
قال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة:17] ، السماء تشققت وتساقطت، والملائكة الذين كانوا فوقها، أصبحوا على أرجائها، والأرجاء: هي القطع والنواحي، فالملائكة الذين كانوا فوقها، لما تشققت نزلوا ووقفوا على قطع السماء المتشققة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صححه بعض أهل العلم: (أطتّ السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع شبر إلا وعليه ملكٌ قائم أو راكع أو ساجد) ، أين يذهب هؤلاء الملائكة بعد أن تشقق السماء؟ يقفون على قطع السماء المتفرقة، (والملك) المراد بهم الملائكة، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر:22] ، أي: الملائكة، {صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] ، دليل قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] ، فهي تفسير لقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] ، أي: صفوفاً صفوفاً.(73/7)
تفسير قوله تعالى: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية)
قال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، ثمانية ماذا؟ هل هم ثمانية من الملائكة أو ثمانية صفوف من الملائكة؟ قولان للعلماء: كثير من العلماء يقول في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} أن المراد بالثمانية: ثمانية من الملائكة، وليس ثمانية صفوف، قال: وهم في الحياة الدنيا أربعة، وهذا قول الجمهور، وأيدوا قولهم هذا بشعر عزوه إلى أمية بن أبي الصلت وقد جاء في بعض الأسانيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره بقوله: (صدق) ، لكن نحتاج إلى مزيد من النظر فيه، ألا وهو: رَجُلٌ وثورٌ تحت رِجْلِ يَمِينه والنَّسْرُ للأُخرى وليثٌ مُرْصَدُ فقول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الأبيات: (صدق أمية) ، قالوا: إن أربعة من الملائكة هم حملة العرش، أحدهم وجهه وجه أسد، والآخر وجهه وجه ثور، والثالث وجهه وجه رجل، والرابع وجهه وجه نسر، والله تعالى أعلم بصحة ذلك، وهذا متوقف على صحة هذا الخبر، فلم يسعنا الوقت للتحقيق ألا وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق) ، لـ أمية بن أبي الصلت لما قال هذا البيت أمام النبي صلى الله عليه وسلم ضمن أبيات أخر.
فقال فريقٌ من العلماء: إن حملة العرش الآن أربعة ويتضاعف عددهم يوم القيامة إلى ثمانية، هذا أحد أشهر الأقوال في تفسير هذه الآيات، قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش قد ضربت رجلاه في الأرض.
أو ما بين منكبيه -كما في معنى الحديث- مسيرة خمسمائة عام) ، وهذا الحديث حسنه بعض أهل العلم، والله تعالى أعلم.
قال الله سبحانه وتعالى أعلم: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ، وما المراد بالعرش؟ من العلماء من قال: إن المراد بالعرش سرير الملك، وهذا وارد في تفسير قوله تعالى: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:41] .(73/8)
تفسير قوله تعالى: (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية)
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] ، تعرضون أيها الخلق أجمعون، أنتم ومن سبق ومن سيأتي، فكلكم ستعرضون.
هل المراد بقوله: {لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} ، أي: لا تخفى منكم نفسٌ فكل الأنفس تحضر ولا مهرب ولا ملجأ من الله إلا إليه؟ أم أن المراد: (لا تخفى منكم خافية) أي: لا يخفى من أعمالكم عمل؟ قال بعض أهل العلم: والقول بالجمع ممكن، فيقال: إن كل الخلق يحضرون في هذا الموقف، هم وأعمالهم، ولا يخفى من ذلك كله شيءٌ على الله سبحانه وتعالى.(73/9)
تفسير قوله تعالى: (فأما من أوتي كتابه.)
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] ، ينادي في الناس فرحاً مسروراً، بقوله: (هاؤم) أي: تعالوا اقرءوا كتابي، فهي لحظة فوز ونجاح، ولا نجاح أكبر منه، فينادي على الناس قائلاً: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} .
وفي الآية الأخرى: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:9] ، {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] ، (ظننت) أي: أيقنت، فالظن هنا بمعنى اليقين، والظن يأتي بمعنى اليقين في جملة مواطن، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ} [البقرة:249] ، فـ (يظنون) هنا: أي يتيقنون أنهم ملاقو الله.
فلو كان الظن على الشك لكفروا؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال عن قوم: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] .
إذاً: الظن يأتي بمعنى اليقين، ويأتي بمعنى الشك، ويأتي بمعنى الكذب، والله تعالى أعلم.
لكن يستفاد ويؤخذ المعنى من القرائن المحيطة بالآية أو بالحديث، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} ، فيه فضل اليد اليمنى، وهل لليد اليمنى فضل؟ ومن ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يمس ذكره بيمينه، ونهاه أن يستنجي بيمينه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ باليمين ويعطي باليمين ويقول: (لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها) ، فمن شعائر المسلمين: الأخذ باليمين، والإعطاء باليمين، والأكل باليمين، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في تنعله، وترجله، وفي طهوره، وفي شأنه كله، فلليمين فضل، ومن ثم جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لما خلق الخلق قبض قبضتين، وقال: يا آدم! اختر أيتهما شئت، فقال: قد اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة) ، فاليمين فيها فضل، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أصحاب اليمين المتلقفين كتبهم بأيمانهم.
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ} ، أي: يناديهم.
(هاؤم) تعالوا (اقرءوا كتابيه) وهذا هو الفرح، وليس كفرح الدنيا، تعال انظر إلى شهادتي كم درجتي في مادة الإنجليزي والكيمياء، فهذا يوم القيامة لا قيمة له على الإطلاق، فقد تجد رجلاً كادحاً فلاحاً تقياً يرتفع إلى أعلى عليين، وملكاً من الملوك ينزل في أسفل سافلين، وهذه أمورٌ يدبرها الله، وكما وصف القيامة بأنها (خافضة رافعة) .
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ} [الحاقة:19-20] ، أي: تأكدت وأيقنت، لم أكن أعمل الأعمال هكذا فقط، بل كنت أعمل العمل وأنا موقن أن الله سبحانه وتعالى سيجازيني به: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] ، علمت وأيقنت أن هناك بعثاً، وأن هناك جزاء وثواباً، وأن هناك عقاباً.(73/10)
تفسير قوله تعالى: (فهو في عيشة راضية)
{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] ، من العلماء من قال: راضية بمعنى: مرضية، أي: قد رضيها صاحبها، كما قال تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] ، فدافق بمعنى: مدفوق، وراضية: بمعنى مرضية، كما قال بعض المفسرين.
{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} ، رضي عن عيشته التي رزقه الله إياها، ولم يتسخطها، ولم يملها ولم يتضجرها، ثم جاء تفسير هذه العيشة الراضية بقوله: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة:22] ، (عالية المنازل) ، فهي عالية في نفسها، ثم بين أهلها تفاوتات في الدرجات، فمنها درجات علا، ومنها دون ذلك.
أما كونها عالية فهي حتى في الحياة الدنيا في السماء السابعة وبعد السماء السابعة، كما في حديث المعراج: (أنه بعد منتهاه إلى السماء السابعة وجد سدرة المنتهى) ، والله يقول: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:14-15] ، فالجنان في السماء السابعة، والنيران في أسفل سافلين: (بينما رجلٌ يمشي قد أعجبته نفسه إذ خسف به إلى سبع أراضين) .
وفي الحديث: (يتجلجل في نار جهنم) ، أما الدليل على وجود تفاوتات بين درجاتها، فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء لتفاضل ما بينهم، قيل: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها أحدٌ غيرهم؟ قال: كلا والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدقوا المرسلين) .
قال الله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} ، عالية المكان، وعالية المقام.
{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:22-23] ، أي: متدلية قريبة من المحتاج إليها، تدنو القطوف والثمار ممن يريد تناولها، كما قال كثيرٌ من أهل التفسير: إذا رأيت شيئاً أو إذا اشتهيت شيئاً تدلى لك هذا الشيء، وتدلى ثمره أمامك، فلا تتكلف في قطفه، بل تجده أمامك.
{قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} ، أي: قريبة متدلية.(73/11)
تفسير قوله تعالى: (كلوا واشربوا.)
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ} [الحاقة:24] ، أي: عملتم، {فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] ، أي: الأيام الماضية، فالخالية: هي الماضية أي: في الحياة الدنيا، ومن تفسير (الخالية) بالماضية: قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] ، ومنه قول الرجل المكذب العاق لوالديه: {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف:17] ، فالخالية: الماضية والسالفة والسابقة، والمراد بها: الحياة الدنيا: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] .(73/12)
تفسير قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه بشماله.)
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة:25] ، وفي الآية الأخرى: {وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق:10] ، والجمع ممكن بأن يقال: يؤتاه بالشمال من وراء الظهر، يعني: يأخذ الكتاب باليد اليسرى من وراء الظهر -عياذاً بالله- فهو منظرٌ مخز مزر حينما يتناول الكتاب بالشمال من وراء الظهر، وفي الحقيقة أن هذا موقف من المواقف الحرجة أيما حرج في الآخرة، ومن مواقف الآخرة؛ الوقوف على الصراط وقت المرور عليه، وعند وزن الأعمال، وعند أخذ الكتاب، فكلها مواقف يحل بالعبد فيها من البلاء والكرب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
قال الله جل ذكره في كتابه الكريم: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ} ، متحسراً متأسفاً متندماً ولات مندم، {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25-27] ، يا ليت الموتة الأولى التي متها كانت هي النهاية: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] ، هكذا يقول، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] ، وتخيل في الحياة الدنيا شاباً في الثانوية، يظن أنه ذاكر جيداً وأجاب صواباً، وذهب ليأخذ النتيجة فوجد نفسه قد رسب رسوباً مخزياً، فيأتي وعلى وجهه الخزي والعار، فما بالك بالخسران المبين الذي لا يستدرك والعياذ بالله تعالى، قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:25-28] ، لا مال، ولا ولد، ولا منصب، ولا جاه، ولا رئاسة، ولا وزارة، ولا غير ذلك: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28-29] ، ذهب منصبي وجاهي، ذهبت عني الرياسات واضمحلت.
ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالسلطان هنا: (الحجة) أي: ذهبت حجتي، فلا أستطيع أن أدلي بأي حجة، ولا أن أدلي بأي اعتذار.(73/13)
تفسير قوله تعالى: (خذوه فغلوه.)
قال تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] ، أي: اجعلوه في الغل، والغل كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر:71] والأغلال تكون في الأعناق حلق في الرقاب، {وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:71] ، منظرٌ مخز، في رقبته أطواق الحديد وسلسلة يسحب بها، وهو مطرح على وجهه ويسحب بسلسلة الحديد، وليست مربوطة في يديه بل مربوطة في رقبته، فهو مقمح أيضاً كما وصفه الله سبحانه وتعالى في سورة يس، فالأيدي في الأعناق، وارتفعت الأعناق عن الأيدي، وضمت إلى الرقاب بحلق، فلما ضمت إلى الرقاب، وصل الغل الذي في العنق إلى الذقن، قال تعالى: {إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8] ، فالطوق الذي في الرقبة طوقٌ كبير، بحيث أنه بلغ إلى الذقن، فإذا جاء ينزل ذقنه إلى أسفل يجد الحديد يمنعه، فيشخص ببصره دائماً إلى أعلى، وقد قيدت اليدان إلى الرقبة، ومع ذلك هناك سلاسل يسحب بها الشخص وهو على هذا الوضع المزري المخزي: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} .
كيف يساق وإلى أين يساق؟ ويا ليته في هذا الحال فحسب، بل يساق إلى السجن، إلى جهنم -والعياذ بالله- على هذا الوضع المخزي المزري.
قال تعالى: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:31] أي: اشووه على النار، واجعلوه يصلى حر الجحيم، يقلب على النار، وأذيقوه من عذاب الجحيم.(73/14)
تفسير قوله تعالى: (في سلسلة ذرعها.)
قال تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32] ، قال كثير من أهل العلم: السلسلة طولها سبعون ذراعاً.
فهل هو بذراع الدنيا أم هو مقياس آخر في الآخرة، قال كثير من العلماء: إنها ثلاثة أذرع أخرى غير أذرعة الدنيا وأطول؛ لأن ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وضرسه كجبل أحد.
قال كثيرٌ من أهل التفسير: تدخل هذه السلسة من أنفه وتخرج من دبره.
جنازير حديدة من نار، تدخل من الأنف وتخرج من الدبر، فضلاً عن الذي وقع في الأعناق -على ما قد تقدم- فتخيل كيف يكون هذا السجن، سلسلة تدخل من الأنف فتتخلل الأمعاء وتخرج من الدبر، ويسحب منها، ويسحب أيضاً من تلكم السلاسل التي في الأعناق: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30-32] .
لم هذا الجزاء القاسي؟ قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:33] ، كان يستهزئ بالله وبآياته، ويشرك معه غيره: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة:33-34] ، كان قاسياً على العباد، فهو كافر وفي قلبه قسوة، {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} .
قال ابن يحيى: إنه ينبغي لك يا مؤمن أن تطعم المساكين، وأن تحض الناس وتحثهم على إطعام المساكين.
{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} [الحاقة:35] ، أي: صاحب، كما قال في الآيات الأخرى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100-101] ، فليس له صديق يغضب من أجله، ولا يزأر من أجله ولا يحتر من أجله، ويطلق لفظ (الحميم) على الصديق شديد الصداقة، فهو صديق حميم لكثرة تأثره بما يحدث لك.
{وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:36] ، الغسلين: هو صديد أهل النار كما قال فريق من أهل التفسير.
قال تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:37] ، ما المراد بالخاطئين؟ (الخاطئون) لفظٌ عام، ولكنه أحياناً يأتي ويراد به بعض أفراد الخصوص كمثل (المسيئون) ، فهو لفظ عام وأحياناً يأتي ويراد به شيء أخص، وكاصطلاح السيئة اصطلاحاً خاصاً، فالسيئة كما أسلفنا تطلق على الشرك: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81] ، فالسيئة هنا أوجبت الخلود، فهي الشرك، والسيئة بمعنى الكبيرة في شأن قوم لوط: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:78] أي: من الكبائر، والسيئة تأتي بمعنى: الصغيرة: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] ، أي: إذا اجتنبتم الكبائر كفرنا عنكم الصغائر، وكذلك الخاطئة أو الخطيئة تأتي أحياناً بمعنى الصغيرة، وتأتي أحياناً بمعنى الكبيرة، وتأتي أحياناً بمعنى الشرك، قال تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ} ، أي: بالكفر وبالكبائر.
قوله تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} ، (الخاطئون) : هل يراد بهم الكفار، أو يراد بهم المسرفون على أنفسهم من أمة محمد الذين لم يغفر لهم؟ في المسألة وجهان: فمن العلماء من قال: (الخاطئون) : المشركون.
ومنهم من قال: (الخاطئون) : المذنبون.
أي: المذنبون الذين لم يغفر لهم أو الذين قد غلبت سيئاتهم حسناتهم، كما في حديث المفلس وغيره من الأحاديث.(73/15)
تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بما تبصرون.)
{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} [الحاقة:38-39] .
(فلا) من أهل العلم من قال: إن (لا) هنا صلة، والمعنى: (أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون) ، ومن العلماء من قال: إنها زائدة، كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12] أي: (ما منعك أن لا تسجد) ، فالمعنى: ما منعك أن تسجد، وكقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد:29] ، لئلا يعلم، أي: ليعلم، {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] ، أي: أنهم يرجعون.
فالرجوع إلى الحياة الدنيا محرم عليهم.
ومن العلماء من قال: (إن) : (لا) هنا زائدة، وبعدها: أقسم على ذلك بما ترونه وما لا ترونه، يعني: أقسم بأشياء تعلمونها وأشياء لا تعلمونها.
ومن العلماء من قال: إن (لا) نفي لشيء قد تقدم.
أي: فلا تظنوا أنكم تتركون سدى، وأقسم على ذلك بما تبصرون وما لا تبصرون.
قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] يقسم الله سبحانه أن هذا القرآن الذي بين أيدينا، قول رسولٍ كريم، {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:40-41] أي: كما تفترون وتدعون {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:42] ، أي: تتعظون وتعتبرون، {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:43] .
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة:44] ، لو فرض أن محمداً عليه الصلاة والسلام على فرض افترى علينا كلمة واحدة أو قولاً من الأقوال، ونحن لم نقله له، {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45] .
ومن العلماء من قال: (باليمين) أي: الجارحة، ومنهم من قال: اليمين: القوة، وقوله اليمين؛ لكون اليمين عند العرب أقوى من اليسار، وإن كانت كلتا يدي ربي يمين مباركة، لكن لتقريب المعنى للناس، إذا قلت -ولله المثل الأعلى-: فلان يضربك باليمين، فالضرب باليمين غير الضرب باليسار، فالضرب باليسار ضربٌ ضعيف، بينما الضرب باليمين ضربٌ قوي، {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} ، فهذه الآية فيها التحذير الشديد من الزيادة أو النقصان في كتابه العزيز، وفيها بيان حفظ الله لهذا الكتاب.
والآية الأخرى نحوها: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} [الإسراء:73-75] ، ضعف العذاب في الحياة، {وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:75] ، فالآيات في غاية القوة والتهديد، وبيان حفظ هذا الكتاب العزيز، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} ، لن نتركه أبداً يتقول ويفتري علينا، من الذي تقول على الله وافترى على الله وكانت عاقبته إلى خير؟ أبداً، ما تقول أحدٌ على الله إلا وكانت عاقبته سيئة، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] أي: أهلكناه.
قال كثيرٌ من أهل العلم: (الوتين) : هو عرق متصل بالقلب بقطعه يموت الإنسان.
{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47] ، لن يستطيع أحدٌ منكم أن يحجز ذلك ولا يدفعه، ولكن حاشاه صلى الله عليه وسلم، والكلام على الافتراض، وليس معنى الفرض أنه سيحدث، وهي كقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] ، أي: أول العابدين لهذا الولد إن كان هناك ولدٌ للرحمن، ولكن هذا فرض لا يقع، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] ، وهو لن يشرك عليه الصلاة والسلام، {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ، على سبيل الافتراض.
على فرض أنه (تقول علينا بعض الأقاويل) وإلا قد وعدنا بحفظ كتابنا، وتوعدنا بإنزال العقوبة بمن افترى علينا: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} ، بقوة من غير رفق، {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:46-47] .(73/16)
تفسير قوله تعالى: (وإنه لتذكرة للمتقين)
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة:48] ، أي: لا ينتفع بهذه التذكرة إلا المتقون، الذين يخشون ربهم ويتقون عذابه.
قال تعالى: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} [الحاقة:49] أي: لا يخفى علينا أمركم ولا حالكم.
{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الحاقة:50] ، حسرةٌ من مَن؟ جاء في الآية الكريمة في سورة (يس) : {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30] ، من الذي يتحسر على العباد؟ وهنا يقول تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، من الذي يتحسر على الكفار؟ من العلماء من قدّر أشياء في الآية وقال: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30] ، أي: يا حسرة المتحسرين! تعالي وحلي على هؤلاء الكفار، ويا من تتحسرون! تعالوا وتحسروا على هؤلاء، فليست ثم حسرة أكبر من الحسرة على الكافرين.
يا أيها النادمون! تعالوا إن كان هناك مجالٌ للندم، فلا تندموا على شيء فاتكم في حياتكم، بل اندموا على أمر أخراكم، تحسروا على الكافرين، ألا ها هنا يصب الندم وهاهنا تتنزل الحسرات، وهاهنا تقتطع الأنامل من الغيظ.
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة:51] ، قد سبق بيان: إن العلم على ثلاث مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، ومثلنا ذلك: بأنك إذا سمعت عن الكعبة، فعندك علم يقين بأن هناك بمكة كعبة، لكن إذا جئت ورأيت الكعبة بعينيك أصبح هذا العلم عين اليقين.
فإذا جئت ودخلت الكعبة ولمست أحجارها أصبح العلم بها حق اليقين، كما قال تعالى في شأن الجحيم: {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:7] ، فكلنا -أهل الإيمان- نعلم أن هناك ناراً، فهذا علم يقين بالنسبة للمؤمنين.
فإذا جاء شخص ورآها: {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:7] ، رؤيا حقيقة، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71-72] وعند المرور على الصراط يراها الناس.
والجنان أيضاً إذا أردت أن تراها، كما قال تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:55-56] ، لكن إذا دخلها الشخص الكافر أصبح الدخول حق اليقين، قال تعالى: (وَإِنَّهُ) ، أي: القرآن.
ليس علماً يقيناً فحسب، وليس عين اليقين فحسب، بل هو حق اليقين، باشرته ولمسته قلوب المؤمنين، فحل في قلوب أهل الإيمان، فلم يصبح عند أهل الإيمان علم يقين ولا عين يقين، بل أصبح حق اليقين: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الحاقة:51-52] .
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال: (اجعلوها في ركوعكم) ، وهل وجودها في الركوع على السنية أم على الاستحباب أم على الإيجاب؟ الأكثرون أنها مستحبة، ومن العلماء من يرى الوجوب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وسلم.(73/17)
الأسئلة(73/18)
قول ابن حجر في فتح الباري: (لا يسأل عن الله بأين)
السؤال
ورد في الجزء الأول من فتح الباري، قول الحافظ ابن حجر: لا يسأل عن الله بأين، كيف يوجه هذا الكلام مع حديث الجارية؟
الجواب
هذه من المسائل التي زلت فيها قدم الحافظ ابن حجر رحمه الله في طائفة من مسائل الصفات، فإن ثبت عنه النقل وأنا لا يحضرني الآن هل النقل ثابت عنه أو غير ثابت، لكن على فرض أنه ثابت وليس بمستبعد على الحافظ أن يقول مثل هذا المقال فمنهجه ومنهج الإمام النووي رحمهما الله وعفا الله عنهما في الصفات فيه شيء من التأويل، والثابت عن رسول الله أنه سأل الجارية: (أين الله؟) ، كما في صحيح مسلم، فلا معنى إذاً لقول من قال: لا يسأل هذا السؤال.(73/19)
الأخذ برأي الجمهور عند التنازع والاختلاف
السؤال
إذا كانت هناك مسألةٌ فيها نزاع، والجمهور له رأي فهل هناك ترجيح لرأي الجمهور؟
الجواب
في الغالب أن الجمهور أصحاب دليل، وينبغي أن تسأل أنت عن الدليل، فكم من مسألة للجمهور فيها رأي، ولغير الجمهور فيها رأي أسد وأقرب، وثم مسائل لا تكاد تجد فيها أدلة صحيحة صريحة، كمسألة رفع اليدين مع تكبيرات الجنازة، هل ترفع اليدين أم لا أرفع؟ إذا جئت تبحث عن الأدلة الخاصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة رفع اليدين في الجنازة، لا تجد أي حديث ثابت في هذا الباب، ولكن الجمهور قالوا: لما لم نجد حديثاً عن رسول الله، أخذنا بالقياس على الصلوات المعتادة، فمع كل تكبيرة ترفع يديك، وأخذنا بأثر ابن عمر: أنه كان يرفع يديه مع تكبيرات الجنازة، أما حديث: (كان يرفع يديه مع التكبيرة الأولى ثم لا يعود) ، فهو حديث ضعيف.(73/20)
صحة أثر زواج عمر من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما
السؤال
ورد أن عمر طلب أن يتزوج ابنة علي، فقال له علي: هي زوجتك إن رضيت، فذهب إليها وكشف عن ساقها -الأثر- نريد الشرح؟
الجواب
الأثر على ما يحضرني بأن في إسناده ضعف؛ لأنه من طريق محمد بن الحنفية، والحنفية هذه امرأة من بني حنيفة أخذها علي من سبايا بني حنيفة في حروب الردة في زمن أبي بكر، فكون أبي بكر كانت خلافته عامين رضي الله تعالى عنه، وتكون مثلاً -على فرض أنها- حملت منذ أن دخل بها علي، تكون وضعت ابنها في بداية خلافة عمر، فكونه يحكي قصة لم يشهدها فهذا عند أهل العلم مرسل أو منقطع، لكن بعض العلماء يقول: كونه أخاً لهذه البنت يقوي هذا الحديث، فلعله سمعه فيها، ومن أهل الحديث من يقول: لا يعتبر مثل هذا الكلام، والله تعالى أعلم.
الشاهد: أن بعض العلماء يقول في حال ثبوت الخبر أو عدم ثبوته بالتفريق أو بالتفصيل في مسألة النظر إلى من تريد خطبتها، فهل لك أن تفعل مثل هذا الفعل وتكشف عن ساقيها؟! أو هل لك أن ترى الوجه والكفين فقط؟ والله تعالى أعلم.(73/21)
حكم إتيان المرأة في الدبر
السؤال
ما حكم إتيان المرأة في الدبر؟
الجواب
إتيان المرأة في الدبر لا يجوز؛ لأن الأحاديث قد وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعن من أتى امرأة في دبرها، وإن كان في الأحاديث مقال؛ إلا أنها بمجموع الطرق تصلح للاحتجاج بها مع ضمينة أخرى، وهي قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] : (وهل الحرث إلا موضع الزرع) والدبر لا يكون موضعاً للزرع، فالفرج: هو موضع الحرث، أي: الإيلاج، وهذا هو الراجح.
أما الآثار الواردة عن بعض الصحابة بالإباحة، فالعبرة بالمرفوع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذا قلنا مثلاً: إنه قد ورد عن صحابي من الصحابة شيء من إباحة إتيان المرأة في دبرها فلا نتعلق بهذا الأثر ونترك المرفوع عن رسول الله من ناحية، ونترك رأي جمهور الصحابة من ناحية أخرى، فمن تتبع مثل هذه التتبعات أوشك أن يتزندق، وقد قدمنا مراراً أن أبا طلحة رضي الله عنه كان يرى أن البرد -أي: الثلج- الذي ينزل من السماء لا يفطر الصائم، يقول: إنه ليس بطعام ولا بشراب! ويقول: إذا وجد هذا البرد وهو صائم: حي على الطعام المبارك، وعمر كان يمنع عن التمتع في الحج، وابن مسعود كان يرى التطبيق، يعني: يضم يديه بين ركبتيه وهو راكع، وأبو هريرة كان يرى أن الوضوء إلى الآباط مستحب، وابن عباس في بعض الروايات كان يرى نكاح المتعة وجوازه، فإذا أخذت كل هذه الأشياء خرجت بمذهب تكون فيه زنديقاً من الزنادقة؛ لأنك ستنقض عرى الدين عروة عروة، أما هؤلاء فعلماء أفاضل اجتهدوا فغفرت لهم زلاتهم في بحر فضائلهم.
فمثلاً: ابن عمر أفتى في ألف مسألة، وأخطأ في مسألة أو مسألتين فلا تذكر، وكذلك غيره، كما قال القائل: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع فلا تتتبع سقطات أهل العلم التي نوزعوا فيها وخالفوا الدليل، ونحن عندما نحكي الخلاف في المسألة نحكيه من باب الأمانة العلمية، أما إذا كنت تفتي القوم، فقل لهم مباشرة: غير جائز لك أن تأتي المرأة في الدبر، وتعطيهم الحاصل، لكن لو أنك تفتي طالباً يريد أن يتعلم ويعلم الناس، وحتى إذا وردت عليه شبهة يستطيع أن يدفعها.
وهناك مسألة أحرجتنا غاية الحرج، لكن ما دام أن الإخوة كلهم طلبة علم فنقصها: اتصل بي رجل فلاح طاعن في السن هاتفياً، وقال لي: يا شيخ! السلام عليكم.
فقلت: وعليكم والسلام ورحمة الله، ما تريد؟ فقال: واحد عمل الفاحشة مع البهيمة -والعياذ بالله- فذهبت وسألت في الجامع، فقال: تذبح الجاموسة وترميها، وأنا خائف من ربنا.
يعني: ماذا يصنع في اللحم؟ هل يرمي اللحم أو لا؟ لأن الجاموسة عزيزة عنده.
وإذا فصلت له، فهو لا يفهم الكلام، لكن بالنسبة لكم -طلبة العلم- في الباب حديث: (من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول، ومن رأيتموه وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة) ، هذا حديث عن رسول الله في إسناده راو يقال له: عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، وفيه نزاع بين تحسين حديثه وتضعيفه، ولكن إذا قررنا أن حديثه حسن بصفة عامة، فجل العلماء الذين ترجموا له ذكروا هذا الحديث في ترجمته، يعني: عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب مشهور بحديث البهيمة، مع أنه روى أحاديث أخرى كثيرة جداً، لكنه اشتهر بهذا الحديث؛ لأنه حديث أحكام.
فالراوي إذا كان مكثراً وأتى المترجمون بحديث في ترجمته فيحمل إتيانهم بهذا الحديث على أنه من المستنكر عليه، كمثل: علاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، فـ العلاء أخرج له مسلم عدة أحاديث، لكن إذا جئت تقرأ ترجمته تجد العلماء أتوا في ترجمته بحديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، والإمام أحمد يحكم على هذا الحديث بالنكارة.
الشاهد: أن من العلماء من حسن الحديث تبعاً للقاعدة الكلية أو للرأي الكلي أن عمرو بن أبي عمرو حسن الحديث، ومنهم من ضعف الحديث وقال: هو مستنكر على عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، وإذا كان الراوي مقل جداً وجاءوا في ترجمته بحديث، فقد يكون أتي بالحديث لأنه هو صاحب هذا الحديث فقط.
إذاً: في المسألة رأيان؛ لأن الرأي مبني على صحة الحديث أو تضعيفه، وأنا الآن مقتنع أن الحديث ضعيف، وإن كان لي رأي قبل ذلك فأنا مقتنع بعد مراجعة الحديث أن حديث (فاقتلوه واقتلوا البهيمة) لا يثبت عن رسول الله بلفظ لهذا الرجل بهذا التفصيل فلن يفهم، وسيقول لي: يا شيخ! ماذا أعمل؟ فقلت له: اتركها، ولا تذبحها أبداً.
فقال السائل: يعني الشيخ الذي سألته في الجامع كذاب؟ سأذهب وأقول له كذا وكذا، وأسبه وأعمل فيه! فكيف أصنع؟ قلت له: الشيخ ليس كذاباً، لكن هناك مذاهب، شافعي وحنبلي ومالكي، فهو أخذ معك بالمذهب الشديد، لكن نتساهل ولا تذبحها.
فهناك فرق بين أنك تخاطب واحداً من العوام أو تخاطب طالباً من طلاب العلم، فيفهم المسألة بطريقة أخرى، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(73/22)
صحة حديث: (لن تسعني أرض.)
السؤال
الحديث القدسي: (لن تسعني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن) ؟
الجواب
الحديث لا يثبت.(73/23)
صحة حديث: (من آمن بي بعد مماتي.)
السؤال (من آمن بي بعد مماتي فكأنه معي في حياتي) ؟
الجواب
الحديث لا يثبت.(73/24)
صحة حديث: (اخرج يا عدو الله)
السؤال
ما صحة حديث عثمان بن أبي العاص لما اشتكى إلى الرسول فقال الرسول: (اخرج يا عدو الله) ؟
الجواب
الحديث ثابت.(73/25)
أسماء أبواب النار
السؤال
من المعروف أن النار سبع دركات لها سبعة أبواب، فما اسم هذه الأبواب أو الدركات؟
الجواب
الله أعلم، ونقول تنبيهاً من العلماء من قال: إنها الحطمة، ولظى، والسعير، والجحيم، إلى غير ذلك، فالله أعلم هل هذه مسمى لشيء واحد أو هي دركات، والله أعلم.(73/26)
العزل
السؤال
هل العزل مقيد بسنتين للرضاع؟
الجواب
العزل غير مقيد، وإذا وجدت العلة منه وجد، وإذا احتيج إليه فعل، فقد ورد العزل على عهد الرسول من الصحابة، حين أصابوا سبياً وكرهوا أن تحمل هذه السبايا، فاستأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في العزل.
فإذا احتيج فله ضوابطه الشرعية.(73/27)
الإسبال في الأكمام
السؤال
هل الإسبال في الأكمام أيضاً؟
الجواب
نعم الإسبال في الأكمام أيضاً، وذلك لحديث في سنن أبي داود: (الإسبال في ثلاثة: الكم والقميص والعمامة) .(73/28)
الكفر دركات
السؤال
هل الكافر الذي يحض على طعام المسكين، يكون عذابه أقل من الكافر الذي لا يحض على طعام المسكين؟
الجواب
القواعد تشير إلى الإفادة بنعم، فإن الكفار دركات: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88] ، فللكفر عذاب، وللصد عن سبيل الله عذاب فوق العذاب، وأيضاً: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:12-13] .(73/29)
اشتراط الإسلام في الشاهد على الزواج
السؤال
هل يجوز في الشهادة على الزواج أن يكون الشاهد غير مسلم؟
الجواب
لا يجوز في شهادة الزواج أن يكون الشاهد غير مسلم، وذلك لشيئين: أولهما: القياس على الطلاق؛ فإن الله قال في الطلاق وهو قسيم النكاح: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] .
والثاني: لزيادة في حديث فيه ضعف ألا وهو: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) ، والزيادة فيها ضعف.(73/30)
وقت أذكار الصباح
السؤال
متى يبدأ وقت أذكار الصباح ومتى ينتهي؟
الجواب
يبدأ من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ووقت أذكار المساء، من العلماء من قال: تبدأ من بعد صلاة العصر، ومنهم من قال: إنها تبدأ من بعد صلاة الظهر، وكأن الأول أقرب، والله أعلم.(73/31)
حكم كف الثياب في الصلاة
السؤال
ما حكم كف الثياب في الصلاة؟
الجواب
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فمن العلماء من يحمل هذا النهي على الاستحباب، ومنهم من يحمله على التحريم، وكأني بالأكثرين من أهل العلم على أن النهي محمول على الكراهة وليس على التحريم، والله أعلم.(73/32)
تفسير سورة المعارج
تصف سورة المعارج حال الإنسان في عرصات القيامة، فذكرت أن المجرم يفتدي من عذاب الله بأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، ولكن أنى له ذلك، فالعذاب في حقه واقع، ليس له من الله دافع، أما المتقون فهم في أمن من الفزع الأكبر، وذلك لأنهم كانوا في الدنيا يحافظون على الصلاة ويؤدون الزكاة، ويحفظون فروجهم من الحرام، ويؤدون الأمانات، ويقومون بالشهادات، ويخافون من عذاب ربهم، فجزاؤهم أنهم في جنات مكرمون، جزاءً بما كانوا يعملون.(74/1)
وقوع العذاب على الكافرين
قال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1] من هو السائل الذي سأل؟ صح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إن السائل هو الحارث بن النضر) .
ومن العلماء من قال: إن السائل هو أبو جهل.
وللعلماء ثلاثة أقوال في تفسير قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1] : فمن العلماء من قال: سأل متى هذا العذاب؟ أي: سأل عن وقت هذا العذاب؟ وقوله: (بِعَذَابٍ) قيل: إن الباء بمعنى: عن، كما قال الشاعر: إن تسألوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيب فقوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} [المعارج:1] أي: سأل سائل عن عذاب، وكما قال تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] أي: اسأل عنه خبيراً.
فمن أهل العلم من قال: إن المعنى سَأَلَ سَائِلٌ مستعجلاً هذا العذاب، كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] .
فهذا هو الوجه الأول: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} [المعارج:1] أي: سأل سائل عن العذاب متى هو؟ على سبيل الاستنكار.
والوجه الثاني: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} [المعارج:1] أي: دعا داعٍ بنزول العذاب، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] ، والسؤال أحياناً يطلق على الدعاء.
من السيلان، سائل: وهو صديد أهل النار، وهذا يوم القيامة، لكن هذا القول استضعفه أكثر المفسرين، وهو منقول عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، الذي يقال فيه في أكثر الأحيان: قال ابن زيد كذا، وهو مفسر مشهور غاية في الشهرة، فإذا فسر آية فتفسيره له وجه، لكنه عند المحدثين ضعيف في الحديث، وهو الذي يذكره العلماء دائماً إذا ذكروا الضعفاء في الحديث قالوا: اذهب إلى عبد الرحمن يحدثك عن سفينة نوح؛ لأنه روى حديثاً في شأن سفينة نوح أنها طافت بالبيت سبعاً، وصلت خلف المقام ركعتين، وهذا من الأحاديث المكذوبة على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
الشاهد أن الوجه الأخير منبوذ وضعيف في هذا الباب.
فالوجهان المشهوران في قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1] : الوجه الأول: (سَأَلَ سَائِلٌ) مستعجلاً هذا العذاب، كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] .
والوجه الثاني: (سَأَلَ سَائِلٌ) أي: دعا داعٍ بالعذاب، كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] ، وكما قال: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] .
فقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} [المعارج:1] أي: عن العذاب، أو دعا داعٍ بالعذاب، والله وصف هذا العذاب بأنه (وَاقِعٍ) لا محالة، أي: والعذاب واقع، فكل آت فهو قريب.
قال تعالى: {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:2] أي: أنه واقع للكافرين ليس له دافع.
وهل يستفاد منه أنه في غير الكافرين له دافع؟ أي: لا يستطيع أحد أن يدفع هذا العذاب عن الكافرين، ولن يدفع أحد هذا العذاب عن الكافرين، لكن غير الكافرين هل هناك من يدفع هذا العذاب المسلمين؟ نعم بإذن الله، فإن هناك شفاعات من رسول الله ومن سائر المرسلين، بل ومن المؤمنين والشهداء والعلماء والآباء والأبناء والأمهات والقرآن والصيام كلها شفاعات تدفع العذاب عن أهل الإيمان بإذن الله.
أما الكافرون فكما قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] ، إذاً الربط: {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:2] لكنه مع المسلمين قد يكون له دافع بإذن الله تعالى.
فقوله: {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:2] أي: صارف.(74/2)
خروج الملائكة يوم القيامة
قال تعالى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج:3] من العلماء من قال: المعارج هي الدرجات، والفواضل، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في تلبيته يقول: (لبيك ذي المعارج، لبيك ذي الفواضل) فالمعارج تطلق على الدرجات، وهي مستفادة من قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] أي: تصعد، وقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر:14] أي: يصعدون، وأيضاً عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، أي: صعد به إلى السماوات السبع.
قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [المعارج:4] أي: تصعد، والملائكة معروفون، أما الروح فللعلماء فيها أقوال، أحدها قول جمهور من المفسرين: أن المراد بالروح هو جبريل عليه السلام، وشاهده: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] ، فإن قال قائل: إن جبريل دخل ضمناً في الملائكة فما فائدة الإعادة: (تعرج الملائكة وجبريل) ؟
الجواب
أن هذا من باب عطف الخاص على العام، لبيان فضل هذا الخاص المعطوف، فذكر جبريل مرة ثانية لبيان فضله.
فإن قال قائل: وهل من أمثلة في كتاب الله تظهر أن الخاص يعطف على العام، كهذا المثال؟ فالإجابة: نعم، فإن الله يقول: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [النساء:163] فإبراهيم وإسماعيل من النبيين الذين جاءوا من بعد نوح، ونحوه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] فنوح من النبيين، ونحوه قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] النخل والرمان من الفاكهة.
فذكر جبريل عليه السلام الذي هو الروح بعد ذكر الملائكة؛ لبيان فضل جبريل عليه السلام، فهو سيد الملائكة، وهذا قول الجمهور.
القول الثاني في تفسير الروح: وهو أن الروح هي أرواح بني آدم التي تخرج منهم عند موتهم، كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الطويل: (إن العبد إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا أتته الملائكة، فيأخذون روحه، فيأتي ملائكة آخرون يجلسون منه مد البصر فلا يدعونها في أيديهم طرفة عين، فيأخذونها ويعرجون بها إلى السماء، فلا يمرون بها على ملأ إلا قالوا: ما هذه الروح؟) الحديث.
القول الثالث: أن المراد بالروح خلق لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] هذه الآية من الآيات المشكلة في تفسيرها؛ لورود آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] فكيف التوفيق بين الآيتين؟ أولاً: بين يدي هذا التوفيق يقال: ما المراد باليوم في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ؟ المسلك الأول: من أهل العلم من أضرب عن التفسير وأضرب عن الجمع بين اليومين، وقال: هما يومان ذكرهما الله سبحانه وتعالى في كتابه هو أعلم بهما ونكل أمرهما إلى الله، فهو أعلم بقوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] وأعلم بقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] .
وقال: نسكت عن هذين اليومين مع إيماننا أن هذا وذاك، كل من عند الله سبحانه وتعالى.
والمسلك الثاني: هو الجنوح إلى الجمع بين الآيات، وندفع الافتراض الذي قد يأتي إلى العوام، وأصحاب هذا المسلك التمسوا تفسيرات وتوجيهات، فمنهم من قال: إن اليوم المراد في قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] هو عمر الحياة الدنيا، منذ خلق آدم إلى النفخ في الصور ومدته خمسون ألف سنة.
ومنهم من قال: إنها المسافة ما بين السماء السابعة إلى الأرض السابعة، أنتم تقطعونها في خمسين ألف سنة، أما الملائكة فتصعد فيها وتنزل في يوم واحد من أيامكم، كما في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون في صلاة الفجر والعصر، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم: كيف وجدتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) .
فقال قائل هذا القول: إن الملائكة تعرج ما بين الفجر إلى العصر، وهذا العروج منها لو قطعتموه لكانت المدة الزمنية خمسين ألف سنة.
ومنهم من قال: إن المراد بقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] : إنه يوم القيامة، وهذا أظهر الأقوال وأشهرها، وهو الذي تدل عليه أدلة السنة، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته صفحت له صفائح من نار يكوى بها وجهه وجبينه وجلده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم ينظر بعد ذلك مقعده من الجنة أو مقعده من النار) ونحوه: (من آتاه الله إبلاً فلم يؤد زكاتها إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر، تمر عليه أولاها تنطحه بقرونها وبأظفارها، كلما مرت عليه أولاها عادت أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم ينظر بعد ذلك مقعده من الجنة أو مقعده من النار) .
فإذا تقرر أن المراد باليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة هو يوم القيامة وهو الراجح لدلالة الآية عليه وهي قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6-7] فإذاً: كيف يجمع بين الآيتين؟ من العلماء من قال: إن يوم القيامة يخفف على أهل الإيمان ويطول على أهل الكفر والعصيان كل بحسبه، فيكون عسيراً وطويلاً على أهل الكفر، أما على أهل الإيمان فيكون خفيفاً، فيختلف في الطول وفي القصر حسب حال العبد يوم القيامة، فأهل الجنة لا يأتي عليهم وقت القيلولة إلا وهم يقيلون في الجنة ما شاء الله، ولا يمر عليهم اليوم كله بطوله، فإن الله قال: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] أي: قيلولة.
فيوم القيامة يخفف على أقوام، ويطول ويكون عسيراً على أقوام آخرين.
والشاهد لذلك قوله تعالى: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:10] وهذا قول له وجاهته، وتبناه كثير من أهل التفسير.
وقد ورد في الباب حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل فقراء المهاجرين قبل الأغنياء بنصف يوم بخمسمائة عام) والله تعالى أعلم.
قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6-7] لأن كل ما هو آت فهو قريب، وتقديراتنا ليست كتقديرات رب العالمين سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج:8] أي: كالزيت المغلي، أو النحاس المنصهر.
قال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:9] أي: كالصوف، وفي الآية الأخرى: {كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5] أي: الصوف المتفتت الملون.
قال تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:10] الحميم هو الصديق شديد الصداقة، الذي يغلى من أجلك، ومنه قيل له: حميم؛ لأنه يحتر حرارة شديدة إذا أصبت بأي مكروه، أو نيل منك بأي سوء تراه، فكأنه يصاب بالحميم ويُغلى إذا ذكرت بسوء.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج:10-11] أي: الحميم يرى حميمه، والصديق يرى صديقه، والقريب يرى قريبه، وهذا مضمن في قوله تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج:11] أي: يرونهم.
فكل يرى صاحبه لكن لا يستطيع الكلام ولا السؤال عنه ولا عن أحواله، فكل مشغول بالهم الذي هو فيه.
كيف يجمع بين الآية الكريمة: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:10] ، وبين قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50] ؟ فهذه آيات تكون ظواهرها متعارضة لكن ليس في كتاب الله تعارض، فهو من عند الله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] .
وعلى نمطها، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] ، وفي المقابل: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108] .
وعلى نمطها أيضاً: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] ، {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] فقد كتموا الشرك وكذبوا، فكيف يجمع بين هذه الآيات؟ نقول: كما هو معلوم أن يوم القيامة طويل تتعدد فيه المواقف، فأحياناً يسكت الكل، وأحياناً يؤذن للبعض بالكلام، وأحياناً يعتذر المعتذرون، وأحياناً لا تقبل منهم العتبى، وهي: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24] ، أحياناً يجادلون بالباطل، وأحياناً يرون أن الجدال لا ينبغي إلا أن يكون بالحق، فلطول اليوم تتعدد مواقفه وتندفع كل الإشكالات التي وردت في هذا المعنى.
ومن مثل هذا يجاب على جل الآيات(74/3)
حال المجرمين في عرصات القيامة
قال تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج:11] أي: مع رؤيتهم لهم، لكن كل واحد منشغل بنفسه، كما قالت عائشة لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] ، قالت: الرجال والنساء عراة ينظر بعضهم إلى بعض يا رسول الله؟ قال: يا عائشة! الأمر أشد من ذلك) فالرجل عارٍ والمرأة عارية، لكن ليس في ذهن الشخص أن ينظر إلى العورات.
قال تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11] المجرم هنا كما قال كثير من المفسرين: إنه المشرك.
ومن العلماء من قال: هو أعم من المشرك، فتارك الصلاة مجرم بنص كتاب الله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:38-43] ، أول شيء تكلموا به ترك الصلاة.
فتارك الصلاة مجرم، وليس المجرم الذي تسميه الأمم المتحدة مجرم حرب بل هو مجرم حق، المجرم شرعاً الكافر، والمجرم شرعاً تارك الصلاة، فتارك الصلاة مجرم، كما قال تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11] فيقول خذوا أبنائي واتركوني، {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:12] يقول: خذوا زوجتي وأخي وأولادي كلهم واتركوني، {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ} [المعارج:13] أي: قبيلته وعشيرته التي تلتف حوله في الدنيا في وقت المصائب، أنت في الدنيا إذا أصبت بمصيبة تريد أن تجد أخاك يجري هاهنا، وأباك يجري هاهنا، وأمك تجري هاهنا، ويستشفع لك بهذا ولتشفع لك بذاك، يوم القيامة تود لو تفتدي من عذاب يومئذٍ بكل هؤلاء.
قال تعالى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المعارج:13-14] ليس فقط الأم والأب والأخت والأخ والولد والزوجة، بل: {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:14] أي: ثم ينجيه الفداء من هذا العذاب، أو ثم ينجيه الله من هذا العذاب.(74/4)
طبيعة الإنسان في الدنيا
قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج:19] وتفسير الهلوع هو قوله تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج:20] * {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج:21] أي: إذا أصيب بأي شر يظن أنه فرج بعد هذا الشر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (شر ما في الرجل شح هالع، أو جبن خالع) أي: أن الجبن والشح من أقبح العيوب التي توجد في الرجال.
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج:19-21] من العلماء من فسر الخير هنا بالمال، أي: إذا رزقناه المال منع حقوق الله فيه.(74/5)
وصف النار التي أعدها الله للمجرمين
قال تعالى: (كَلَّا) أي: لن يقبل هذا الفداء، فـ (كلا) كلمة تحمل معنى الردع والزجر والنفي، أي: لن يقبل هذا العرض، ولن تقبل هذه الفدية التي تفتدي بها أيها المجرم، {إِنَّهَا لَظَى} [المعارج:15] وصف للنار، {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:16] من العلماء من قال: إن الشوى هنا مكارم الوجه ولحم الوجه، وأكرم شيء في العبد تنزعه هذه النار نزعاً، فجلد الوجه ينزع عياذاً بالله نزعاً، وجلد الأطراف كذلك، أطراف أصابع اليدين وأصابع الرجلين، وجلد الجبهة أيضاً كل ذلك تنزعه النار.
قال تعالى: {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج:17] تناديه باسمه في وسط المحشر، كما قال فريق من أهل العلم: إن النار تنادي أصحابها: تعال يا فلان! تعال فأنت صاحبي، أنا لك وأنت لي، فالنار تنادي على أصحابها؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعطاها ملكة في الكلام، كما في الآية الأخرى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] ، وكما في الحديث: (أن النار تقول: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين) فللنار ملكة كلام، وملكة تغيظ، وملكة زفير: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12] .
قال تعالى في هذه الآية الكريمة: {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج:17] أدبر عن الإيمان وتولى عن الحق، أدبر عن الإسلام وتولى عن القرآن، تدعوه النار من المحشر: تعال أيها المجرم! فأنت من أصحابي وأنا من أصحابك، تعال فإنك من أصحاب النار.
قال تعالى: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:18] أي: جمع المال وأحصاه وادخره، ولم ينفقه في طاعة الله، بل بخل بالزكوات المفروضة، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على عدم التعديد أثناء الإنفاق، قالت أسماء: (يا رسول الله! ليس لي مال إلا ما أدر عليّ الزبير؟ قال: يا أسماء! تصدقي ولا توعي فيوعى عليك) .
وفي الرواية الأخرى: (تصدقي ولا تحصي فيحصى عليك) .(74/6)
صفات المتقين(74/7)
حفظ الفروج من الحرام
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج:29] أي: حافظون للفروج من كل ما منع الله منه، حافظون للفروج من الزنا، فإن الله قال: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68] .
والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الزناة تحرق فروجهم ويوضعون عراة في مثل التنور، كما رأى ذلك عليه الصلاة والسلام في الرؤيا، فهم حافظون للفروج من الزنا، وحافظون للفروج من الاستمناء، وبهذه الآية الكريمة استدل الإمام الشافعي على تحريم الاستمناء؛ لأن الله قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:29-31] قال: والاستمناء من ما وراء ذلك.
وأيضاً: حافظون لفروجهم من أن يراها أحد، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) .
قال تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] قوله: (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) يفيد أنه ليس عليهم لوم إذا أتوا نساءهم أو أتوا إماءهم، لكن نفي اللوم يفيد أكثر من ذلك، وهو أن إتيان النساء مستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي بضع أحدكم صدقة) وفي الحديث المعروف: (يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر يا رسول الله؟ قال: نعم، أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قال: نعم، قال: كذلك لو وضعها في الحلال كان له أجر) .
فأحياناً الحكم لا يؤخذ من آية واحدة فقط، أو من حديث واحد فقط، فمثلاً: الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] فلو أخذت حكم الطواف بين الصفا والمروة من الآية فقط، لكان حاصل ما في الآية: أنه لا إثم عليك إذا طفت، لكن من النصوص الأخرى استفدت وجوب السعي بين الصفا والمروة، بل من العلماء من قال بفرضية السعي بين الصفا والمروة.
فالحكم لا يؤخذ من آية واحدة فقط، كذلك في قصر الصلاة: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] إن أخذت الحكم من الآية فغاية ما أفادته الآية أنه لا إثم عليك إذا قصرت، ومنهم من قال بوجوب القصر، والجمهور على الاستحباب، لحديث: (فرضت الصلاة مثنى مثنى، فزيد في صلاة الحضر وأقرت في صلاة السفر) .
فالأحكام لا تؤخذ من آية واحدة ولا من حديث واحد فقط.
قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:31] فعلى ذلك ينصح الشاب الذي تعتريه الشهوة والفتوة بما نصح به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) هذه نصيحة رسول الله.
وقال الله سبحانه: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ومن يستعف يعفه الله) ، وفي الرواية الأخرى: (ومن يستعفف يعفه الله) .
فهذه إرشادات للشباب، ألا يتبعوا النفس وهواها ولا يسيروا وراءها، ولا أن يكون كل ما احتاجت النفس إلى شيء فعله، بل كن كما علمك الرسول عليه الصلاة والسلام، عليك بالصيام وعليك بالاستعفاف، وعليك بغض البصر، وعليك باتخاذ التدابير الواردة في شرعنا للوقاية من الجنس.(74/8)
حفظ الأمانة وأداؤها
قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32] الأمانات عامة، ويدخل فيها بالدرجة الأولى المعاملات المالية بين الناس، ويدخل فيها التكاليف الشرعية كذلك.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:32-35] .(74/9)
الإيمان بيوم البعث والخوف منه
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:26] أي: يوقنون بأن البعث آت والساعة آتية لا ريب فيها.
{وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المعارج:27] أي: خائفون وجلون، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:28] لا يأمنه أحد، فأهل الإيمان يخافون العذاب، وأهل الكفر يأمنون العذاب ولا يبالون به، أهل الإيمان يخافون: {يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] أي: يصلون ويصومون ويزكون ويحجون وهم مع ذلك خائفون.
أما أهل الكفر فلا يفعلون شيئاً من الخيرات، وهم في دنياهم أيضاً في مأمن، وأهل الإيمان يعملون الصالحات مع خشية لله ووجل منه سبحانه، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:63-64] ومع هذه البيتوتة لربهم سجداً وقياماً يقولون: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] ، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] .
قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المعارج:27] هذا حال أهل الإيمان، وكلما عظم ذلك عندك فاعلم أنك على خير، أعني أن تعمل الصالحات ترجو الجنة وتخشى على نفسك العذاب أكثر وأكثر، فهذا دليل من أدلة الإيمان.
فهذا عمر مع ما له من فضائل، لكنه يقول في مرض الموت: (يا ليتني خرجت منها لا لي ولا عليّ) .
كذلك تقول عائشة: (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً) ، مع أن براءتها نزلت من السماء.
وكذلك المقولات عن أبي بكر وغيره من أهل العلم وأهل الفضل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.(74/10)
المحافظة على الصلاة
قال تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:22] لكن المصلين أهل الإيمان ليسوا هكذا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في المؤمن: (إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) .
قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23] أي: محافظون، كما في الآيات الأخر، ومن العلماء من قال: دائمون عليها حتى الموت، ومن العلماء من قال: إنهم المطمئنون فيها.(74/11)
أداء الزكاة
قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] والحق المعلوم هو الزكوات المفروضة، ولا شيء عليك بعد الزكوات المفروضة على الصحيح، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل عن الصلاة والزكاة، قال: (هل عليّ غيرها يا رسول الله؟ قال: لا، إلا أن تطوّع، قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق) .
فاستنبط كثير من أهل العلم من هذا الحديث أن المال المفروض على العبد إنما هو مال الزكاة فقط.
قال تعالى: {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:25] أما السائل فهو الذي يسأل الناس، فله حق من الزكوات.
والمحروم لأهل العلم جملة أقوال في تفسيره: القول الأول: أنه الشخص الذي له دخل، لكن الدخل لا يكفيه.
القول الثاني: الذي لا يجد شيئاً أصلاً.
وكلا القولين له وجه، فالذي يعمل عملاً يأتيه منه دخل لا يكفيه يعد من المحرومين، والذي لا شيء عنده أيضاً يعد من المحرومين، فالمحروم له حق.(74/12)
إعراض الكافرين عن طاعة الرسول
قال تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} [المعارج:36] (مهطعين) للعلماء فيها أقوال: أحدها: مسرعين، ويؤيد هذا القول قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] أي: مسرعين إلى الداعي.
ثانيها: قال بعض أهل العلم: (مهطعين) أي: ناظرين إليك.
ثالثها: أنها بمعنى عامدين.
قال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} [المعارج:37] أي: متفرقين، وفي صحيح مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج ووجد أصحابه يصلون متفرقين، فقال: (ما لي أراكم عزين؟) أي: متفرقين.
قال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} [المعارج:37] أي: متفرقين عنك يميناً ويساراً، كما قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:49-50] أي: حمير مستنفرة، {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:51] أي: من الأسد.
قال الله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ} [المعارج:36] أي: نحوك {مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} [المعارج:36-38] مع كفره ومنعه وتكذيبه ليوم الدين (كَلَّا) أي: ليس الأمر كما يظنون {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:39] أي: من المني المعلوم كما قال تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:6-7] ، وقال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة:37] .
وقد تفل النبي صلى الله عليه وسلم على يده، وقال: (يقول الله تعالى: ابن آدم! أنى تعجزني، لقد خلقتك من مثل هذه) .(74/13)
إمهال الله للعصاة والكافرين
قال الله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ} [المعارج:40] ، (لا) ، من العلماء من يقول: إنها نفي لشيء متقدم، ثم بدأ إنشاءً جديداً فأقسم على ما ذكره برب المشارق والمغارب.
ومن أهل العلم من قال: إن (لا) هنا لنفي شيء متقدم وهو ظن الكفار أن يدخلوا جنة نعيم.
ومنهم من يقول: إنها زائدة مثل: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} [الحديد:29] أي: ليعلم، {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] أي: يرجعون، {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12] أي: ما منعك أن تسجد، من العلماء من يقول: إنها زائدة، ومنهم من يقول: إنها لتقوية الكلام.
قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج:40] ورد في كتاب الله (رب المشارق والمغارب) ، وورد (رب المشرقين ورب المغربين) ، وورد (رب المشرق والمغرب) ، فمن العلماء من يقول: كلها بمعنى واحد.
ومنهم من يفصل، فيقول: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء:28] مشرق الشمس ومغربها، و {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17] مشرق الشمس ومشرق القمر، ومغرب الشمس ومغرب القمر، و (رب المشارق ورب المغارب) رب مشارق النجوم ومغارب النجوم.
وقول آخر: أن المشارق هي التي تشرق منها الشمس كل يوم، فكل يوم تشرق من مكان غير اليوم الذي قبله، وتغرب في مكان أيضاً، وثم أقوال أخرى في هذا الباب.
قال تعالى: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج:41] (عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ) فيها للعلماء قولان: قيل: في الحياة الدنيا، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] ، وكما قال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] ومن أهل العلم من قال: إن ذلك يوم القيامة، يبدل الله أقواماً خيراً من هؤلاء الأقوام.
قال تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [المعارج:42] أمر مضمن بالتهديد.
{حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} [المعارج:42-43] أي: القبور {سِرَاعًا} [المعارج:43] أي: مسرعين {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43] النصب: الذي يعبد أو يستذبح عنده الذبائح (يوفضون) : يسرعون.
قال تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج:44] أي: ذلت أبصارهم، كما قال: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه:108] أي: سكنت الأصوات للرحمن، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2] أي: ذليلة ساكنة.
قال: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [المعارج:44] أي: ذليلة أبصارهم، {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج:44] تعلوها الذلة، {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:44] أجارنا الله وإياكم من عذابه.(74/14)
الأسئلة(74/15)
إثم مشاهدة التلفاز
السؤال
أخي يضع في عيادته تلفازاً، فهل كل من يرتكب إثماً بسبب التلفاز يكتب على أخي مثله؟
الجواب
إن كان يضع التلفاز على قنوات تبث الفساد وتبث الشر، فمن سنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ثم هو متعاون على الإثم والعدوان.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(74/16)
آيات وجوب النقاب
السؤال
ما هي الآيات القرآنية التي تحث على وجوب النقاب؟
الجواب
هناك آيتان، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] والإدناء أصح ما ورد فيه على الإطلاق: أنه تغطية الجسم كله والوجه وإبراز العين اليسرى.
أما أثر مجاهد الذي ورد في هذه الآية الكريمة فهو منقطع كما قاله كثير من أهل العلم.(74/17)
كفارة من جامع زوجته وهي حائض
السؤال
ما كفارة من جامع زوجته وهي حائض؟
الجواب
ورد في كفارة من يجامع الزوجة وهي حائض أحاديث، وأهل العلم يحكمون عليها بالاضطراب، منها: أنه يخرج ربع دينار، والثاني: نصف دينار، ومن العلماء من يقول: إذا جامعها وهي حائض في مستهل الحيضة يعطي ربع دينار، وإذا جامعها في وسط الحيضة يعطي نصف دينار.
والأدلة في ذلك مضطربة، ولكنه على كل حال قد ارتكب ذنباً، وعليه أن يعمل من الصالحات ما يوازي هذا الذنب، فيخرج صدقات، أو يصلي لله ركعات، أو يحدث استغفاراً وإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.(74/18)
زكاة عروض التجارة
السؤال
هل تجب الزكاة في عروض التجارة؟
الجواب
رأي جماهير العلماء أن زكاة عروض التجارة واجبة، وهو قول الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله وغيرهم من العلماء.
وفريق من أهل الحديث يرى عدم الوجوب، لكن حجج القائلين بالإخراج قوية منها أن عروض التجارة هي أموال، وبالتالي فأموال التجارة تزكى كسائر الأموال، وأيضاً استدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (إن خالداً والعباس وابن جميل قد منعوا الزكاة، قال: أما خالد فإنكم تظلمون خالداً، إن خالداً احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله) قال النووي: أي: أنه لولم يحتبس الأدرع والعتاد في سبيل الله لأخرج منها الزكاة، قال النووي: وهذا من أصرح ما ورد في زكاة عروض التجارة، وهناك أصرح منه لكنه ضعيف، وهو: (كنا نخرج الزكاة مما نعده للبيع) أخرجه أبو داود بإسناد ضعيف.
لكن في فهم حديث: (إن خالداً احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله) قالوا: إنه لم يعد عنده مال، وليس المقصود أن خالداً إذا لم يحتبسها أخرج منها، فهكذا قال الجمهور إن الزكاة في عروض التجارة واجبة.
أما المانعون فغاية ما استدلوا به، قالوا: لم تكن تخرج زكوات على عروض التجارة على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام.
فنقول: إن عروض التجارة لم تكن متفشية هذا التفشي الذي عليه الآن.
فمثلاً: رجل اشترى قطعة أرض للتجارة فيها، قطعة الأرض لم تبع هذا العام، ولم تبع العام القادم، والأرض مرتفعة ومنخفضة في الأسعار، فماذا يصنع؟ فمن العلماء من سار على الوتيرة الأولى، وقال: تخرج عليها زكاة كل عام، ومنهم من قال: لا تخرج عليها زكاة إلا إذا بيعت، فتخرج عنها بعد البيع زكاة سنة واحدة والله أعلم.
وهناك رسالة إن شاء الله تطبع الآن في هذا الباب.(74/19)
حكم عمل المسلمين عند النصارى
السؤال
هل يجوز عمل المسلمين عند النصارى؟
الجواب
نعم يجوز عمل المسلم عند النصراني مادام العمل لا يؤثر على دينك، إذا كان النصراني لا يمنعك فرائضك ولا يهينك في دينك فلا بأس بالعمل عند النصراني أو عند اليهودي أو عند الكافر، وذلك لأن خباب بن الأرت قال: (كنت قيماً في الجاهلية فعملت للعاص بن وائل ثم جئت أتقاضاه، قال: لن أعطيك حتى تكفر بمحمد) الشاهد: أن البخاري بوب هذا الباب: باب هل يؤاجر المسلم نفسه من مشرك في أرض الحرب، وأتى بالحديث تحت الترجمة؛ لأنه كان يصنع سلاحاً.
وفي الشرح جنح الحافظ ابن حجر إلى هذا القول.
إذا كان العمل لا يؤثر على دينك ولا على عادتك فلا بأس أن تستأجر يهوداً يعملون عندك أو تعمل أنت عند يهود، والرسول عليه الصلاة والسلام أعطى أراضي خيبر لليهود يزرعونها ولهم نصف ما يخرج منها، ويوسف قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] وكان الملك كافراً كما هو معلوم.
السائل: هل هذا نوع موالاة؟ الشيخ: لا.
ليست موالاة، وتأخذ أجرك وإذا خشيت على قلبك أن يتغير فاترك.(74/20)
حكم تكفير الديوث وتخليده في النار
السؤال
من المعلوم أن عصاة الموحدين من أهل الكبائر لا يخلدون في النار، وهو مذهب أهل السنة لما ورد من أحاديث عن رسول الله في ذلك، وقد اختلفت مع أحد الفضلاء الذين قالوا بتكفير الديوث الذي يرضى بالفاحشة في أهله، وتخليده في النار، وقد استند إلى حديث: (لا يدخل الجنة ديوث) علماً بأن هذا الديوث يشهد شهادة الحق؟
الجواب
بالنسبة للديوث والزاني والقاتل والسارق والخمار كل هؤلاء داخلون في أهل الإسلام وفي عداد المسلمين، ومع اقترافهم الكبائر فأمرهم موكول إلى الله، إن شاء ربنا عذبهم وإن شاء غفر لهم.
أما الأدلة على ذلك، فمنها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] .
ومنها: قول عبادة بن الصامت الذي أخرجه البخاري ومسلم: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نقتل ولا نزني ولا نسرق ولا نأتي ببهتان بين أيدينا وأرجلنا) الحديث، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) .
وأيضاً عند أهل السنة أنه لا يلزم حتى يغفر لك أن تستغفر، فقد يغفر الله لك مع قولك: أستغفر الله، وقد يغفر الله لك أيضاً بدون قولك: أستغفر الله، ومن الأدلة على ذلك قصة المرأة الإسرائيلية التي كانت تبغي وتزني، فانطلقت ذات يوم خارجة لزناها، فوجدت كلباً يلهث من العطش، فنزعت موقها فسقته فغفر الله لها، ولم يرد أنها قالت: أستغفر الله.
والديوث أو الزاني أو القاتل كل هؤلاء وغير هؤلاء من أصحاب الكبائر أمرهم موكول إلى الله، ولكن أيضاً فإن النصوص من الكتاب والسنة على أنهم وإن دخلوا النار وإن لم يستغفروا، فمآلهم إلى الخروج من النار، لحديث: (أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن ذرة) ، وفي حديث: (أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله فيخرج قوم لم يعملوا خيراً قط) .
فالشواهد تدل على أن أصول أهل السنة والجماعة ثابتة لا تترنح ولا تتزحزح، وهي أن صاحب الكبيرة قد يغفر له ابتداءً حتى بدون كلمة: أستغفر الله، إن قدر ودخل النار فمآله إلى الخروج منها، هذا هو منهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب، والله سبحانه وتعالى أعلم.(74/21)
عدد ركعات صلاة التراويح
السؤال
هل صلاة التراويح إحدى عشرة ركعة، والقول بالعشرين ضعيف جداً؟
الجواب
لا، القول بالعشرين ليس بضعيف جداً لحديث عمر رضي الله عنه، وغايته أن هناك روايات ثابتة عن عمر أنه جمع الناس على أبي بن كعب على إحدى عشرة ركعة، وروايات أيضاً ثابتة عن عمر أنه جمع الناس على أبي على إحدى وعشرين ركعة، فأيهما ترجح؟ فمن العلماء من قال بترجيح رواية الإحدى عشرة ركعة على الإحدى والعشرين ركعة، لكن الأخرى ليست ضعيفة بل هي صحيحة، لكن هناك شيء صحيح وشيء أصح.
فلذلك ذهب بعض العلماء إلى القول بالجمع بين الروايتين، قال: يحمل على أن عمر أمرهم أن يجتمعوا على أبي بن كعب أحياناً بإحدى عشرة، وأحياناً بثلاث وعشرين أو بإحدى وعشرين، وأذكر أن من الذين جنحوا إلى هذا ابن عبد البر رحمه الله تعالى، فقد جنح إلى الجمع بين الروايتين، لكن القول بأن الإسناد ضعيف جداً قول غير صحيح.
فالغاية أن يقال: إن رواية الإحدى عشرة أصح من رواية الإحدى والعشرين، ورواية الإحدى والعشرين صحيحة قولاً واحداً، والله تعالى أعلم.
لكن ثمة استدلالات أخر، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة) ، فهذا يشجع على الصلاة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (أحب القيام إلى الله قيام نبي الله داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه) أي: يقوم ثلث الليل، أربع ساعات أو ثلاث ساعات تقريباً.
إذا جئت أنا وأنت نصلي بالناس أئمة ونريد أن نوافق قيام داود عليه السلام الذي هو أحب القيام إلى الله، إذا قلت: أصلي إحدى عشرة ركعة فقط وتستغرق الإحدى عشرة ركعة أربع ساعات فسوف أشق على المصلين غاية المشقة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أنت إمامهم واقتد بأضعفهم) وإن كان هذا في الفرد، لكن أيضاً من أراد ألا يحرم فضل حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) علي أن أعاونه لنيل هذا الفضل.
فالشاهد: إذا قمت أصلي إحدى عشرة ركعة كما ورد في السنة أن عائشة قالت: (ما زاد على إحدى عشرة ركعة) جاز كما في حديث ابن عباس فصلى ثلاثة عشر ركعة، فإذا جئت أصلي الإحدى عشرة ركعة في أربع ساعات لم أطق ولن يطيق المصلون بعدي، فكما قال الحافظ ابن حجر وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما من العلماء: إذا قللت في القراءة فزد في عدد الركعات، وإذا أطلت القراءة فخفف على الركعات.
وليس هناك أي نهي عن الصلاة زيادة عن الإحدى عشرة ركعة، بل الأمر مفتوح؛ لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (صلاة الليل مثنى مثنى) ولهذا كان عمل الأئمة والسلف، وإن شئت أن تقرأ تراجم العلماء كـ الشافعي وأحمد وغيرهما من العلماء؛ فانظر كيف كانوا يصلون؟ انظر كيف كان السلف يصلون؟ بعضهم يصلي في الليل ستاً وثلاثين، ويقول فريق من المالكية: إن هذا هو المستحب عندنا، فما كانوا يريدون أن يستحوذوا على فضيلة حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (أحب القيام إلى الله قيام داود) ولا يشقون أيضاً على الناس، فمن شاء أن ينصرف انصرف، ومن شاء أن يبقى بقي.
يضاف إلى ذلك أن نصوص الكتاب والسنة التي وردت في قيام الليل وردت مقيدة بالزمن وليس بعدد الركعات، منها: (أحب القيام إلى الله قيام داود) ولم يقل: كان يقوم إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، أو عشرين ركعة، بل قدر بالزمن: (كان يقوم ثلث الليل) ونحوه في آية المزمل: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} [المزمل:2-3] فبني أيضاً على الزمن، ونحوه قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران:113] أي: ساعات الليل.
فالوارد جاء بتقديرات زمنية وليس بعدد ركعات، صحيح أن عليكم هدياً قاصداً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أيضاً النظر في مصلحة المصلين من هدي رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.(74/22)
تفسير سورة نوح
من تربية القرآن الكريم للدعاة أن عرض لهم صوراً لحياة الأنبياء في دعوتهم لقومهم، ومن هؤلاء الأنبياء نبي الله نوح عليه السلام، فقد دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، لا يفتر عن دعوتهم ليلاً ولا نهاراً، ولا سراً ولا علانية، ولا جماعات ولا أفراداً، كل ذلك بصبر تزول معه الجبال ولا يزول، ومع ذلك لم يلق منهم إلا العناد والمكابرة والإصرار على كفرهم، فأهلكهم الله تعالى وأنجاه ومن اتبعه، وفي ذلك سلوة لكل داعية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(75/1)
بين يدي السورة
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فقد سميت هذه السورة الكريمة باسم نبي من أنبياء الله تعالى، ورسول من رسله صلوات الله تعالى عليهم، وهو نوح صلى الله عليه وسلم، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، ففي حديث الشفاعة الطويل أن آدم عليه السلام يقول: (اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض) .
ونوح صلى الله عليه وسلم قد عمر عمراً طويلاً، فقد قال الله تعالى في كتابه عن دعوته لقومه فحسب: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14] .
وهو من أولي العزم من الرسل صلوات الله تعالى عليهم، وأولو العزم من الرسل جاء ذكرهم في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7] ، فهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين.(75/2)
تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه.)
قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : كان قوم نوح قد وقعوا في الشرك بالله تعالى؛ بسبب تعظيم أهل الصلاح والغلو فيهم.
قوله تعالى: {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح:1] ، العذاب كل شيء يؤلم العبد، من الضرب بالسياط أو الحرق بالنيران ونحو ذلك، وأصل العذاب: الحبس، كما روي عن علي رضي الله تعالى عنه قوله: (عذبوا أنفسكم عن ذكر النساء في الغزو) أي: أمسكوا عن ذكر النساء، واحبسوا أنفسكم عن ذكر النساء في الغزو.
والأليم: المؤلم الموجع.
قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:2-3] .
قوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ) أي: افعلوا ما أمركم الله تعالى به، وأطيعوه فيما أمركم به، وقوله: (وَاتَّقُوهُ) أي: اجتنبوا محارمه، وانتهوا عما نهاكم عنه.
ويوضح هذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ، فقوله عليه الصلاة والسلام: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) بمعنى: (وَاتَّقُوهُ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وما أمرتكم به) بمعنى: (اعبدوا الله) ، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.(75/3)
تفسير قوله تعالى: (يغفر لكم من ذنوبكم)
قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح:4] من العلماء من قال: إن (مِن) هنا زائدة، فالمعنى: يغفر لكم ذنوبكم، كما جاء في آيات أُخر.
ومن العلماء من قال: إن (مِن) هنا للتبعيض، أي: يغفر لكم بعض ذنوبكم.
ومن العلماء من قال: إن (مِن) هنا بمعنى: (عن) ، وأوَّل الغفران بمعنى الصفح، أي: يصفح لكم عن ذنوبكم، فهي ثلاثة أقوال أو أكثر، لكن الأشهر منها هذه الأقوال الثلاثة.
ففي هذه الآية أن عبادة الله تعالى وتقواه وطاعة رسله مكفرات للذنوب، والكفارات لا تنحصر كلها في قول الشخص: أستغفر الله فحسب، بل الصلوات الخمس مكفرات، والصيام مكفر، والجمعة إلى الجمعة مكفرة، والوضوء يذهب بخطايا بني آدم، فهناك أعمال مكفرة إضافة إلى قول المرء: أستغفر الله.(75/4)
الاستغفار لسعة الرزق وجلب الخير
قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح:10-11] ، هذا أصلٌ قد أثبت في عدة آيات، وهو أن الاستغفار سبب في سعة الرزق، كما قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3] ، وقال تعالى حكاية عن هود عليه السلام أنه قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52] .
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] ، فمن أراد سعة الرزق فعليه بالإكثار من الاستغفار، ولذلك يشرع عند الاستسقاء الإكثار من الاستغفار.
وقوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:12] ، كل هذا بسبب الاستغفار.(75/5)
على الداعية البلاغ والهداية على الله
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح:5-6] .
الآية الكريمة أفادت أصلاً مقرراً دلت عليه كثير من الأدلة، وهو أن المهدي من هداه الله، وليست الهداية بذكاء الداعي ولا بحكمته، وإنما الذكاء والحكمة سبب قد ينجح وقد لا ينجح؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أعقل الخلق، وأعلم الخلق بالله، وأورع الخلق، وأذكى الخلق، ومع ذلك يقول نوح عليه السلام: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) ، في ألف سنة إلا خمسين عاماً {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} فدعاهم ليلاً ونهاراً.
فكون الهداية بيد الله تعالى أصل لابد أن يفهم تمام الفهم، فدعوة نوح عليه السلام لقومه لم تفلح، ودعوته لابنه وامرأته لم تفلح، ودعوة إبراهيم لأبيه لم تفلح، ودعوة لوط لزوجته لم تفلح، ودعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لعمه لم تلفح.
فمرد الهداية إلى الله تعالى لا إلى ذكاء الشخص، ولا إلى كفاءة الشيخ ولا العالم، وإنما هي أسباب علينا أن نأخذ بها، فنأخذ بالحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، ونأخذ باللين وبكل السبل التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع اعتقادنا تمام الاعتقاد أن الهداية مردها إلى الله تعالى، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100] .
فنوح عليه السلام يخبر أن دعوته قومه لم تنفع فيهم شيئاً، بل ازدادوا بعداً بسبب دعائه، وهكذا الآيات حين تنزل على الرسل فيزداد بها المؤمنون إيماناً، ويزداد بها الكافرون كفراً، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124-125] .
وإنما نوع لهم الدعوة في الليل والنهار والسر والعلن حتى لا يملوا، فإن خافوا من الفضيحة في دعوة العلن فقد دعاهم أيضاً في السر، ودعاهم في الليل، ودعاهم في النهار، ودعاهم فرادى، ودعاهم جماعات.
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7] ، أي: ليؤمنوا فتغفر لهم، وقوله تعالى: (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ) ، فيه تصوير مدى البعد الذي كان فيه قوم نوح، ومعنى قوله تعالى: (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) ، أي: تغطوا بثيابهم، (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) .
وقد حكى الله تعالى عنهم قولهم: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32] .
ثم قال تعالى عن نوح عليه السلام: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:8-9] ، وفيه بيان كل الطرق التي سلكها نوح صلى الله عليه وسلم معهم، ولكن الهادي هو الله سبحانه.(75/6)
الخلاف في زيادة العمر بأعمال البر
قوله تعالى: (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) يرد عند هذه الآية مسألة وهي: هل عبادة الله تعالى وتقواه سبب في طول العمر؟ وهل يزيد العمر عن الحد الذي حده الله سبحانه وتعالى بشيء من الأسباب؟ إن مسألة الزيادة في العمر قد ورد فيها نصوص مختلفة، فقد وردت نصوص تفيد أن العمر قد يطول ببعض الأعمال، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه -أي: يوسع له في رزقه- وينسأ له في أثره -أي: يؤخر له في عمره- فليصل رحمه) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمران الديار ويزيدان في الأعمار) .
ووردت أدلة أخرى في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرها يفيد معنىً آخر، فقد قال الله سبحانه: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] ، وقال الله سبحانه: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49] ، وفي الصحيح أن أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله تعالى عنها قالت: (اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد سألتِ الله آجالاً مضروبة، وأرزاقاً مقسومة، لن يقدم شيء منها ولن يؤخر) ، أو بنحوه.
وفي حديث التخلق قال صلى الله عليه وسلم: (ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد) .
فاختلف العلماء في الجمع بين هذه النصوص على أقوال: القول الأول: أن لكل أجل كتاباً، ولكل شخص عمراً قدر له، ولكن إذا عمل الشخص الأعمال الواردة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم زيد له في عمره، فالجمع بين النصوص أن معنى قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} [يونس:49] أي: إذا جاء أجلهم الذي قدر لهم لو لم يصلوا الرحم، فإذا وصلوها زيد في أعمارهم؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وأشار إلى هذا المعنى الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى، ولم يطل في هذا المقام.
فهذا قول مبنيٌ على ظاهر الأدلة، وهو أن الشخص له عمر مكتوب، لكن إذا وصل الرحم زيد له في عمره.
القول الثاني: أن المراد بطول العمر هو البركة في العمر، فيذكر بخير بعد مماته.
القول الثالث: أن الأجل أجلان: أجل أعلمه الله تعالى لملائكته أن إذا عمل عبدي كذا وكذا فاكتبوا له من العمر كذا وكذا، وإذا عمل كذا وكذا فاكتبوا له من العمر كذا وكذا، والله تعالى يعلم بالذي سيختاره العبد، وأثبت في اللوح المحفوظ ما سيختاره العبد، وهذا المثبت في اللوح المحفوظ هو الأجل الذي عند الله تعالى في أم الكتاب، والمحو والإثبات يكون في الكتاب الذي بين أيدي الملائكة.
ومن هذا ما ورد في شأن موسى عليه السلام حين جاءه ملك الموت فلطمه ففقأعينه -كما في صحيح البخاري رحمه الله- فرجع إلى الله تعالى، ثم بعد ذلك قبض روح موسى صلى الله عليه وسلم.
فالله يعلم بالذي دار كله، وأثبت عنده منتهى الأمر الذي سيصدر من موسى، والوقت الذي ستقبض فيه روح موسى، فأثبت هذا في أم الكتاب، وأما الذي تغير فهو الذي بيد الملك.
وإلى هذا أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بعض اختياراته، وثم أقوال أُخر.
وهذه المسألة وصفها العلماء بأنها من المسائل الشائكة التي ينبغي أن تجرى على ظاهرها كسائر الأمور مثلها؛ فهي كمسألة الرزق، إذ الأجل والرزق مكتوبان، فمكتوب لك وأنت في بطن أمك كم سترزق، فإذا سعيت والتمست الأسباب الصحيحة لطلب الرزق في الظاهر فإنك سترزق، وإذا نمت وتركت العمل، فلن يأتيك رزق ذلك اليوم، فإن آمنت بأن الرزق مقدر ومع ذلك تسعى في الأخذ بالأسباب، فكذلك تؤمن بأن الأجل مكتوب، وعليك أن تسعى بما يزيد في أجلك كما تسعى بما يزيد في رزقك.
فالإيمان قائم أن الأجل مقدر، وعلمه عند الله تعالى، مع التدين بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في عمره فليصل رحمه) ، فعليك أن تصل الرحم، كما أن عليك أن تخرج لطلب الرزق، ومع ذلك تترك الباقي إلى المولى سبحانه وتعالى، كسائر المسائل المتعلقة بالقدر.
والله أعلم.
ومن العلماء من قال: إن قوله تعالى: ((يؤخركم إلى أجل مسمى)) المراد بها: يدفع عنكم العذاب فلا تعذبون في الحياة الدنيا، وهذا كالأول، فإن العذاب مقدر، فإن أطعت الله رفع عنك العذاب، كما إذا وُصِلَتِ الرحمُ طالت الأعمار.(75/7)
دلائل قدرة الله الداعية إلى الإيمان به
قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] ، قال بعض العلماء: إن معنى (لا تَرْجُونَ) أي: لا تخافون، كقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} [النبأ:27] أي: لا يخافون، فالمعنى: لا تخافون من بأس الله تعالى وانتقام الله تعالى، ولا تخافون من عظمة الله سبحانه.
قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14] ، فيه أقوال لأهل العلم: فمنهم من قال: معناه قوله تعالى: {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6] .
ومنهم من قال: معناه قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54] .
ومنهم من قال: خلقكم متفاضلين في الأخلاق والأفهام والأذواق، ونحو ذلك، فمنكم الذكي ومنكم الغبي، ومنكم الطويل ومنكم القصير، ومنكم طيب الخُلُق ومنكم البذيء، ومنكم الوفي ومنكم الغادر، ومنكم المحسن ومنكم المسيء، ومنكم المتصدق ومنكم اللص، ومنكم الذي يأكل أموال اليتامى ظلماً ومنكم الذي يكفل الأيتام.
فعند هؤلاء يكون المراد بالأطوار: الأصناف والأشكال.
وعلى كل حال فالأطوار تحتمل كل هذه المعاني.
وبناءً على ذلك فقد تستدل إذا حصل من شخص أنه لم يفهم كلامك أو لم تفهم كلامه بهذه الآية الكريمة، فتقرأ قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} ، أي: أشكالاً وأصنافاً وأزواجاً، فكلٌ على فهم، وكلٌ بعقل، وكلٌ بتفسير، وكلٌ بسجيته وطبيعته.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح:15] ، {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح:16] ، هذا مما كان يقوله نوح عليه السلام لقومه، وهذا النور الذي في القمر يختلف في كل يوم عن اليوم الذي قبله، فنور القمر اليوم أكثر من نوره أمس، ونوره غداً أكثر من نوره اليوم، كما قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] .
وقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح:17] فيه قولان لأهل العلم: الأول: أن معنى: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} أنبت آدم عليه السلام الذي هو أبوكم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف:11] ، أي: صورنا آدم عليه السلام؛ لأن آدم عليه السلام خلق من الأرض، ففي الحديث: (إن الله قبض قبضة من جميع الأرض فخلق منها آدم، فجاءوا على قدر ذلك منهم الأبيض والأسود ودون ذلك، ومنهم الأحمر والأصفر ومنهم دون ذلك) أو بنحوه عنه عليه الصلاة والسلام.
الثاني: أن معنى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} أي: أنبت لكم من الأرض نباتاً.
لكن القول الأول أرجح للآية التي تليها، وهي قوله تعالى: (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) ، أي: يوم القيامة.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح:19] ، أي: مبسوطة ممهدة كفراش الطفل.
وقوله تعالى: ((لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا)) ، الفجاج: هي الطرق، وفي الحديث: (وكل فجاج مكة طريق ومنحر) ، أو: (كل فجاج منى طريق ومنحر) .(75/8)
عصيان قوم نوح وما حدث لهم
ثم قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} : العصيان هنا عصيان يئول إلى الشرك، أو هو الشرك نفسه.
وقوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) ؛ من العلماء من قال: هم قوم كفار من أكابر المجرمين الذين استغنوا عن الإيمان على عهد نوح عليه السلام بأموالهم وأولادهم.
وقوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح:22] أي: مكراً كبيراً عظيماً.(75/9)
إغراق قوم نوح بسبب معاصيهم
قال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح:25] .
(مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ) أي: من خطاياهم، أي: بسبب خطاياهم، وقوله تعالى: (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا) ، فيه أن العذاب ينزل من أجل المعاصي، وقد اُستدل به على إثبات عذاب القبر، كما استدل بقوله تعالى: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام:93] ، وكما قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] .(75/10)
تواصي قوم نوح بالتمسك بالأصنام
قال تعالى: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) .
قوله تعالى: (لا تَذَرُنَّ) أي: لا تتركن، وقد ورد في صحيح الإمام البخاري من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ذكر أن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانوا رجالاً من أهل الصلاح، فلما ماتوا أتى الشيطان إلى أقوامهم وقال لهم: لو صورتموهم تصاوير حتى تذكروهم بها، ثم لما طال عليهم الأمد صنعوا لهم أصناماً، ثم طال عليهم الأمد فعبدوا هذه الأصنام وهذه الأحجار.
وعطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فهذه علة هذا الأثر، وقد حاول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في مقدمة الفتح أن يدافع عنه، ومما ذكره من أوجه الدفاع: أنه يحتمل أن يكون عطاء هذا رواه عن ابن عباس، ولكن لكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومع ذلك فجمهور المفسرين على أن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانوا رجالاً صالحين، وحصل بهم الذي ذكر في أثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
فقوله تعالى عنهم: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) ، أي: لا تتركوا عبادة هذه الآلهة، فهو تواصٍ ونصح من بعض الكفار لبعض، كما تواصى الكفار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حكى الله تعالى عنهم: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] ، أي: اصبروا على عبادة آلهتكم.
وقوله تعالى حكاية عنهم: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} هؤلاء كانوا رجالاً أهل صلاح قبل نوح عليه السلام، فماتوا فعبدهم أقوامهم، بعد أن أوحى إليهم الشيطان أن صوروهم، ثم صنعوا لهم تماثيل، ثم آل بهم الأمر إلى عبادة هؤلاء، وكان فعل الشيطان لتحميس الناس على الدعاء، ولتهييج الناس على الاقتداء بالصالحين، فلما طال الأمد عبدوا هؤلاء الصالحين.
ولهذا فمن العلماء من يذكر من العلل التي يعلل بها حكم تحريم التصاوير أنها تفضي إلى عبادة هؤلاء المصورين، وإلى المغالاة فيهم.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وقد آلت هذه الأصنام إلى قبائل العرب، فذكر أن وداً أصبح لقبيلة، وسواعاً لقبيلة، وكل قبيلة أخذت صنماً من هذه الأصنام وعبدته.
وقوله تعالى: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} : الظاهر أنها الأصنام أضلت كثيراً من الناس، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35-36] ، أي: الأصنام، وهنا قال تعالى: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا} [نوح:24] .(75/11)
حكم الدعاء على الظالم
قال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] ، الديار: هو الذي يسكن الديار، ومنه قول الشاعر بعد وفاة بعض العلماء: يا قاصدين بلاد العلم لا تفدوا فما بتلك الحمى والدار ديار ثم قال تعالى عن نوح عليه السلام: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] ، فعلل نوح عليه الصلاة والسلام طلبه بهذا.
وقد اختلف أهل العلم في الدعاء على الظالم: هل الأفضل فعله أم تركه؟ فمن أهل العلم من يقول: إن ترك الدعاء أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حديث الشفاعة الطويل، وفيه: (فيأتون إلى آدم فيقول: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح عليه الصلاة والسلام فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول رسول بعثك الله إلى أهل الأرض وسماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح: نفسي نفسي.
اذهبوا إلى غيري، إنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي) الحديث.
فقالوا: إنه عليه الصلاة والسلام اعتذر عن الشفاعة لكونه دعا على قومه فاستجيبت دعوته في حياته الدنيا، فهذا أنقص من أجره في الآخرة، فلولا هذه الدعوة لشفع نوح صلى الله عليه وسلم.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ، فقالوا: لو دعاها الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا ما نال هذه الدعوة في الآخرة.
فإذا ظلمك شخص فإنه يجوز لك أن تدعو عليه، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39] ، وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] ، وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] ، إلا أن العفو أفضل، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90] وهو العفو، وقال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ، وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186] ، فكل هذه الآيات ترشد إلى أن العفو أفضل.
ومن أهل العلم من يقول: إن الحال بحسبه، فإن كان الشخص يؤذيك أذىً مستمراً بما لا تطيقه ولا تتحمله فجائز لك أن تدعو الله تعالى عليه، أو إذا كان يفسد وكان شره مستطيراً في الأرض فجائز لك أن تدعو عليه، واستدل بدعاء نوح عليه السلام، ودعاء موسى عليه السلام على فرعون، كما قال تعالى حكاية عنه: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88] .
ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على عصية ورعل وذكوان، وقوله: (اللهم عليك بالملأ من قريش، اللهم عليك بالملأ من قريش، اللهم عليك بـ أبي جهل، اللهم عليك بـ عتبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ شيبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ أمية بن خلف) ، إلى غير ذلك من الأدعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا) ، أي: سيضلون عبادك الذين آمنوا، وقوله تعالى: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] ، أي: شديد الكفر.(75/12)
الاستغفار مسك ختام الأعمال
ثم ختم نوح عليه السلام الخطاب بقوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} .
فيشرع الإكثار من الاستغفار في ختام الأعمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم في ختام المجلس كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) ، وفي آخر حياته كان يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) .
وفي نهاية الصلاة يعلم أبا بكر فيقول له: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) ، وهنا نوح يدعو بالمغفرة بعد الخطاب الطويل فيختم قائلاً: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28] .(75/13)
الأسئلة(75/14)
حكم النصيحة إذا عادت بمشكلة على الناصح
السؤال
سمعت شاباً يسب الدين، فقلت له: اتقِ الله تعالى! وحاولت نصحه، فوجدته يغضب غضباً شديداً، وكاد أن يتشاجر معي، فحاولت إقناعه بالمعروف وتركته وذهبت، ثم سمعته يكرر السب، فماذا عليّ؟
الجواب
دعه وأمره إلى الله تعالى.(75/15)
العمرة عن الميت لرؤيته يأمر بها في المنام
السؤال
رجل يرى أمه في النوم بعد وفاتها تؤكد عليه أن يعتمر عنها لحاجتها لذلك، فما الحكم؟
الجواب
يعتمر عنها إن كان بوسعه ذلك، فالعمرة من أفعال الخير، وذلك إن كان قد اعتمر لنفسه، فأما إذا لم يكن قد اعتمر لنفسه فليعتمر لنفسه أولاً، ففي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يلبي ويقول: لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخٌ لي، أو: قريبٌ لي يا رسول الله، قال: هل حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) ، فإن كنت اعتمرت عن نفسك فاعتمر عن أمك إن كان بوسعك.(75/16)
أكل لحوم الحمير
السؤال
ما حكم أكل لحوم الحمير؟
الجواب
لحوم الحمير محرمة إلى الأبد، أي: الحُمر الإنسية؛ إذ الحمار الوحشي لحمه حلال، وأما الحُمر الإنسية التي هي الأهلية فقد حرمها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، فقد قال علي رضي الله تعالى عنه -كما في الصحيح-: (حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر) .(75/17)
سفر المرأة إلى الخارج لطلب العلم
السؤال
هل يجوز سفر المرأة للخارج من أجل طلب العلم؟
الجواب
ينظر ما هو الخارج، وهل معها محرم أم لا؟ وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى والسلام عليكم ورحمة الله تعالى(75/18)
السلام على أهل الفسق ومصلحة فعله وتركه
السؤال
كثيراً ما أمر في طريقي إلى المسجد على قوم في لهو وضلال يشربون الإثم ولا يلبون النداء، أفيجوز إلقاء السلام عليهم؟ وهل هذا السلام من باب الموالاة، علماً بأن بعض الناس يلومونني على هذا السلوك على اعتبار أن مصلحة الدعوة تقتضي تحبيب الناس في أهل السنة، كما أن هناك اعتبارات عديدة تمنعني من دعوتهم، منها: فارق السن، وعدم وجود صلة أو علاقة؟
الجواب
إن الأصل بين المسلمين أن يفشوَ السلام بينهم، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست، وذكر منها: وإذا لقيه فليسلم عليه) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألقِ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم، أفشوا السلام بينكم) .
وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم إذا تماشوا ففرقتهم شجرة، أو فرقهم حجر ثم التقوا، سلم بعضهم على بعض، وقال البراء بن عازب: (أُمرنا بسبع وذكر منها إفشاء السلام) .
فالأصل بين المسلمين أن يفشوَ السلام بينهم، إلا أنه قد يمنع إلقاء السلام لفائدة شرعية، كما لو كان الشخص على معصية، وترك السلام عليه يحمله على التفكير في معصيته، فليمتنع عن إلقاء السلام عليه حتى يفيء ويرجع إلى الحق ويترك المعصية التي هو عليها، فيكون الامتناع عن إلقاء السلام لعارض، ولعلة وهي أن يفيء إلى الخير.
والشواهد على ذلك كثيرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام امتنع عن رد السلام -فضلاً عن الإلقاء- على كعب بن مالك خمسين ليلة.
وعمار بن ياسر قال: (أتيت وقد تشققت يداي بزعفران، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فلم يرد عليَّ السلام، وقال: أرجع فغير هذا) .
فإذا كنت تطمع من عدم رد السلام، أو من عدم إلقاء السلام فيئاً ورجوعاً إلى الخير فامتنع، ونحن نوقن أنهم -إن شاء الله تعالى- سيتأثرون بإلقائك؛ لأن الرسول قال: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) .
وهم وإن كانوا من أهل المعاصي فهم مسلمون، ولن يلتفتوا إلى كونك تترك السلام عليهم؛ لأنهم عصاة، وسيقولون في أنفسهم هذا من التكفير والإجرام؛ إذ هذا تفكيرهم، بخلاف ما لو مررت بواحدٍ من إخوانك الجالسين في المسجد ولم تلقِ عليه السلام، ففهم أنك لم تلقِ عليه السلام لأنه واقف مع امرأة يصافحها أو نحو ذلك، فيفهم جيداً أنك امتنعت عن إلقاء السلام لمصلحته، فهذا الظن فيه أنه يفيء.
فإن قال قائل: كيف أترك السلام على إخواني وأسلم على العصاة؟ قلنا: صدر من رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام مثل هذا، فلم يسلم على عمار بن ياسر وكعب بن مالك رضي الله تعالى عنهما، وهما من خيار الصحابة خاصة عمار، فقد بُشِّر بالجنة بنص خاص.
بينما يجيء إليه صلى الله عليه وسلم رجل سيء الأخلاق، وسيء الملكة، ويصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (بئس أخو العشير) فلما قدم هش له وبش في وجهه.
وفارق السن ليس مانعاً من إلقاء السلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بالصبيان سلم عليهم، بل كان إذا مر بالنساء سلم عليهن كلاماً لا مصافحة، إذا أمنت الفتنة.
فالأصل أن يفشى السلام، وإنما يمتنع عن إلقائه لعلة، فإذا لم تكن موجودة أو لم يحصل النفع الذي تظنه، رجعت إلى أصلٍ وهو إلقاء السلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) .(75/19)
الصلاة على العضو البائن من المسلم
السؤال
إذا بترت ساق المسلم، فهل تغسل ويصلى عليها؟
الجواب
لم يرد أن المسلمين على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم صلوا على الأعضاء، فلم يرد أنهم صلوا على رِجل، ولا على ضرس، ولا على يد، وإنما يصلى على النفس المسلمة.(75/20)
القطيعة بين الأقارب، وحق المتوفاة على ابنتها
السؤال
لي خالة وهي الأخت الوحيدة لأمي، وللأسف فإنها وأمي على خلاف مستمر، وكلما حاولنا أن نصل خالتي حاولت قطع الصلة، وقد كانت جدتي عند خالتي، فماتت جدتي ولم تعلم أمي بخبر وفاتها، ودفنت خالتي أمها ولم تخبر أختها، إلا أن أختها علمت بعد مدة، فهل على أمي ذنب تجاه أمها؟
الجواب
على الأم أن تستغفر لأمها كثيراً، فهذا الذي تجنيه الأم من وراء ابنتها الحية، فالأم يصلها من ابنتها أن تتصدق عنها، وأن تدعو الله تعالى لها، وأن تستغفر الله تعالى لها، وأن تصل ابنتها التي رحمها مقطوعة، فعلى الأم أن تصل أختها التي هجرتها وإن رفضتها أختها، ففي الحديث أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحلم عنهم ويجهلون علي! قال: لا يزال معك من الله عليهم ظهير مادمت على ذلك) ، أو بنحوه.(75/21)
تكرير أذكار الصباح والمساء
السؤال
هل في أذكار الصباح والمساء يُكَرَّرُ الدعاء ثلاث مرات أم يُكْتَفى بمرة واحدة؟
الجواب
الوارد أنه يكرر ثلاثاً فيكرر (سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) ثلاثاً، ويكرر (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ثلاثاً، ويذكر سيد الاستغفار مرةً.
فما ورد أنه يفعل مرة يفعل مرةً، وما ورد أنه مرات يفعل مرات، والوارد أنه ثلاث مرات يفعل ثلاث مرات.(75/22)
الالتفات بالبصر أثناء الصلاة
السؤال
بعض الناس يلتفت بالبصر أثناء الصلاة، فينظر عن يمينه وشماله وإلى السقف، فهل يجوز هذا في الصلاة؟
الجواب
أما الالتفات عن اليمين والشمال فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات فقال: (اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم) ، فهو ينقص الأجر، وأما رفع البصر إلى السماء في الصلاة فنهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (لينتهين أقوامٌ عن رفع أبصارهم في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم ثم لا ترجع إليهم) .(75/23)
تفسير سورة الجن
الجن مكلفون كالإنس، وقد ذكر الله في سورة الجن خبراً عجيباً عمّن أسلم منهم عند سماعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، وفي الآيات ذكر بعض أخبارهم وأحوالهم الغريبة العجيبة.
ثم ختم الله السورة بذكر خلاصة دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، ألا وهي التوحيد، ومنه توحيد الله في أسمائه وصفاته.(76/1)
حقيقة الجن
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: مم خلق الجن؟ قال عليه الصلاة والسلام: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) .
إذاً الجن مخلوقة من نار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:14-15] .
والجن يتشكلون في صور، فأحياناً يتشكلون في صورة الإنس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (يا أبا هريرة! أتدري من تخاطب منذ ثلاث؟) وكان أبو هريرة قد كُلِّف بحفظ زكاة الفطر، فأتاه شيطان فجعل يحثو من التمر، فقبض عليه أبو هريرة الحديث.
وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم (يا أبا هريرة! أتدري من تخاطب منذ ثلاث؟ ذاك شيطان) .
الحديث.
ويتشكلون في صورة حيات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من حيات المدينة جن قد أسلموا) ، ومن العلماء من قال: إنهم يتشكلون أيضاً في صورة كلاب، لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان) .
الجن أصناف، فمنهم العالم، ومنهم الجاهل، ومنهم المبتدع، ومنهم المحسن، ومنهم المسيء.
إلى غير ذلك من الأصناف، كما سيأتي -إن شاء الله- في تفسير السورة.
ولهم أماكن يكثر فيها تواجدهم، لا سيما على الماء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عرش إبليس على الماء، وإنه يرسل سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة) الحديث.
ويتواجدون أيضاً في: الأماكن المستقذرة كالخلاء ونحوه؛ ولذلك (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم! إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) أي: من ذكران الشياطين وإناثه، وسيأتي ما يتعلق بهم في ثنايا تفسير السورة إن شاء الله.(76/2)
تفسير قوله تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن.)
سورة الجن سورة مكية، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة.
قال الله سبحانه وتعالى فيها: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] .
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قل) يا محمد لأصحابك (أوحي إلي) بشيء ألا وهو (أنه استمع نفر من الجن) استمعوا لقراءتي وأنا أقرأ، (فَقَالُوا) أي: لبعضهم (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) ، وهل علم الرسول صلى الله عليه وسلم بتواجدهم أثناء قراءته أم لم يعلم؟ روي عن عبد الله بن عباس أنه نفى أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم وهو يقرأ عليهم، إنما نزلت الآية الكريمة فأخبرت رسول الله أنهم استمعوا، أما ابن مسعود فرأى أن النبي كان يعلم أن الجن يستمعون إليه وقال: (آذنته بهم نخلة) أي: أعلمته نخلة بأن الجن يستمعون لقراءته، وفي رواية: (آذنته بهم شجرة) أي: شجرة أخبرت رسول الله أن هنا جناً يستمعون إلى قراءتك يا محمد! وجمع فريق من العلماء بين الأثرين: أثر عبد الله بن عباس وأثر عبد الله بن مسعود، بأن قالوا: هذا يحمل على التعدد، فيحتمل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ مرة القرآن واستمعت إليه الجن وهو لا يدري، ثم بعد مدة قرأ الرسول القرآن على الجن وهو يعلم أنهم يستمعون إليه، وهذا وجه جيد، وقد قال عبد الله بن مسعود: (خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فافتقدناه ذات ليلة، فبتنا بشر ليلة، فقلنا: اغتيل، استطير، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرنا بقراءته على الجن، وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم) ، وهذا الجمع جمع حسن، فيقال: إن كل صحابي تكلم بالذي بلغه.
وقد ثبت ما حاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث كثرت الشهب في السماء، وكانت الجن تتسمع وتتنصت على الملأ الأعلى، فلما رأت هذه الشهب المتكاثرة التي تأتيها من كل فج وتحرقها، قالت: ما نرى أنه قد حيل بيننا وبين خبر السماء إلا لشيء قد حدث في الأرض، فقالوا: اضربوا مشارق الأرض ومغاربها للبحث عن هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فاتجهت كل طائفة من الجن اتجاهاً تبحث عن السبب الذي من أجله حيل بين الجن وبين خبر السماء، وسلطت عليهم الشهب، فاتجهت طائفة منهم إلى ناحية تهامة، فاستمعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، وأنصتوا إليه، فلما استمعوه قالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، كما قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:29-31] وهذا ثابت بلا شك ولا يمنع أن يكون بعد ذلك ترددت الجن على رسول الله، وطلبت منه أن يقرأ القرآن عليها إذ هو عليه الصلاة والسلام مبعوث للثقلين للإنس والجن، قال الله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] .
قال الله سبحانه: (قُلْ أُوحِيَ) قل لأصحابك يا محمد! (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) والجن -كما تعلمون- قال الله فيهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] ولفتة سريعة في شأن الجن استفيدت من بعض الكتب: هناك علم كان يبث في صفحات الجرائد فيما يتعلق بالشيء الذي أسموه الأطباق الطائرة، وكانت تفرد له صفحات كاملة من الجرائد، وذكروا أن شخصاً على شاطئ المحيط الأطلنطي قال: إنني قد رأيت أناساً طوال الأجسام صفتهم كذا وكذا، ومعهم كذا وكذا، ثم انطلقوا، وخصصت الولايات المتحدة الأمريكية أربعين مليون دولار لمسألة الأطباق الطائرة، وملاحقة الأطباق الطائرة، وكانوا يرسلون طائرات في غاية السرعة وراء هذه الأجسام ولا يجدون شيئاً، وبعضهم يفتري ويقول: هم خلق آخر يعيشون في كواكب أخر، وأهل الكواكب الأخر أرسلوا إلى الأرض من يستكشف أهل الأرض، وينظر كيف حال أهل الأرض، ويتجسس على أهل الأرض، كل ذلك قيل ونشر وأفردت له كتب، وصنفت فيه تصانيف، وفي الحقيقة أن تأويلات أهل السنة لمثل هذا أنهم جن يتشكلون، ويرهق هذا أهل الكفر كما أرهق المشركين قول رسول الله عليه الصلاة والسلام، لأنهم لا يؤمنون بالجن ولا بشيء من هذا، وكل شيء عندهم مبني على التأويل المادي المحسوس، وليس من وراء أفعالهم إلا الكفران كما هو واضح.(76/3)
تفسير قوله تعالى: (يهدي إلى الرشد فآمنا به)
قال الله سبحانه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:1-2] أعلنا إيماننا بهذا القرآن؛ لهدايته إلى الرشد، فحق إنه يهدي إلى الرشد، كما قال الله تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] في كل شيء، يكفي أن هذا القرآن يأمرك بصلة الأرحام، ويحفظ لك مالك، فيمنع الناس من سرقة أموالك، ويحفظ لك عرضك، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه، ويحرم على الناس أن ينظروا إلى زوجتك، أو أن يؤذوك، أو يؤذوا بناتك، أو يختلسوا أموالك، أو يغتابوك، فيحفظ لك نفسك، وعرضك، ومالك، وعقلك، فحرم الخمر من أجل حفظ العقل، كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] ، القرآن يحفظ لك كل شيء، فهو يهدي للتي هي أقوم حقاً، فمن ثَم آمنت به الجن مباشرةً، وفي الحديث: (جاء الأعرابي إلى رسول الله، فقال: يا محمد! من أنت؟ قال: أنا نبي، قال: وما نبي؟ -هو أعرابي، يسأل ما معنى نبي؟ - قال: أرسلني الله، قال: بم أرسلك؟ قال: أرسلني لكسر الأوثان، وصلة الأرحام، وذكر له الرسول بعض الأمور التي جاء بها، فرأى الرجل هذا ديناً طيباً، فقال: آمنت بما جئت به، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) ، فالجن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1-2] و (لَنْ) تفيد التأبيد، ولها ضوابط تأتي في محلها إن شاء الله.
{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن:3] ما معنى جد ربنا؟ من العلماء من قال: الجد هنا: العظمة.
أي: أنه تعالت عظمة ربنا عن أن يكون له شريك، ومن العلماء من قال: إن المعنى: وأنه تعالى ربنا عن اتخاذ الشريك والولد.
(وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) تعالت عظمة ربنا، وتعالى جلال ربنا أن يكون له ولد، وعن أن يكون له شريك، وعن أن يكون له صاحبة.
هؤلاء الجن فارقوا طوائف أهل الشرك فقالوا: (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) وأيضاً: نفوا الولد والزوجة عن الله سبحانه وتعالى.(76/4)
تفسير قوله: (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا)
قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} [الجن:4] من العلماء من قال: إن المراد بالسفيه: الشيطان الكبير، والقول الآخر أن المراد بالسفيه: عموم السفهاء، كما قال تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون:20] أي: شجر يخرج من طور سيناء، فالمراد بالشجرة: شجر، وقد فسر بعض العلماء قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62] فقال: إنها شجر، لكن سياق الآيات يدفعه، وهذه الآية وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا محمولة على أحد شيئين: إما أن المراد بالسفيه: الشيطان، وهو داخل بلا شك في الآية، أو المراد: عموم السفهاء المفترين.
{شَطَطًا} [الجن:4] الشطط: التخريف والبعد عن الصواب، والجور {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} [ص:22] .
أي: لا تبتعد عن الصواب ولا تحيد عنه.(76/5)
تفسير قوله تعالى: (وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن)
قال تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن:5] هؤلاء الجن الذين آمنوا لما استمعوا كتاب الله من رسول الله، وقد غرر بهم من قبل سادتهم وكبرائهم، وأقنعوهم أن لله شريكاً، وأن لله صاحبة وولداً، كما غرر كبراء الإنس بالإنس فأشركوا بالله, وجعلوا له الصاحبة والولد، فالكبراء عموا على عامتهم، وأخفوا الحقائق عن عامة الجن والإنس، فالكبراء -دائماً- أهل الظلم، يخفون الحقائق عن الناس، ويزورون الحقائق، فالجن الذين استمعوا قراءة رسول الله قالوا: (وَأَنَّا ظَنَنَّا) لم نكن نتوقع (أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) لم نكن نتوقع أبداً أن هناك شخصاً يفتري على الله سبحانه وتعالى، ويكذب على الله سبحانه وتعالى، ولم نكن نصدق أبداً ولا نتخيل أن يأتي عفريت يكذب على الله، أو يأتي بشر يكذب على الله، (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) ، لكن شاء الله أن يكون في الإنس أهل كذب، وأن يكون في الجن كذلك.
وتستمر الجن أيضاً في الحكايات فتقول: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:6] جاء في تفسيرها بعض الآثار التي تفيد أن أهل الشرك من العرب كانوا إذا سافروا ونزلوا وادياً من الأودية، قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي أن نصاب بسوء، يستجيرون بسيد الوادي -وهو من الجن- أن يحفظهم من سائر الجن، وكانت الجن تخشاهم، فلما رأت الجن أن الإنس يخشوهم زادتهم رهقاً، قال البعض: كانت تسرق عليهم بعض المتاع، فيستغيثون بسيد الوادي كي يرد المتاع إليهم، وهكذا أرهقتهم الجن والعياذ بالله.
(فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) أي: زادتهم الجن رهقاً.
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن:7] كان منهم قوم كفار، ظنوا كظن الإنس أن لن يبعث الله أحداً.(76/6)
تفسير قوله تعالى: (وأنا لمسنا السماء.)
تحكي الجن وتقول {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن:8] لمسناها.
أي: جلسنا بجوارها نتجسس، فالمراد باللمس هنا: التجسس والتنصت على أخبار السماء.
{فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8] .
قال تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن:9] أي: من قبل كنا نجلس نتنصت على السماء، ونسمع الأخبار التي تدور بين الملأ الأعلى، كما تقدم في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف استماع الجن {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ} [الجن:9] بعد بعثة الرسول {يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9] بالمرصاد، كما قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات:6-8] .
قال تعالى: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10] حتى سلطت علينا هذه الشهب {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] .
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن:11] قال كثير من العلماء: منهم: الكفار، والفسقة والمرجئة والقدرية، والخوارج، والروافض، وكل الملل في الجن كما هي في الإنس، (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) أي: فرقاً شتى.
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ} [الجن:12] الظن هنا بمعنى: اليقين.
أي: اعتقدنا الآن أننا لن نعجز الله في الأرض.
أي: لن نفوت من ربنا سبحانه وتعالى {وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن:12] أي: ولن نستطيع أن نهرب منه سبحانه.
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} [الجن:13] (البخس) (النقص) (الرهق) الإثم والخطيئة، ومنه: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85] أي: لا تنقصوا الناس أشياءهم.(76/7)
تفسير قوله تعالى: (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون)
قال الله: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14] أي: الجائرون الظالمون، {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:14-15] ، القاسطون غير المقسطين، فالمقسطون على منابر من نور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا) ، أما القاسطون فهم: الجائرون الظالمون.(76/8)
خلاف العلماء في دخول المؤمنين من الجن الجنة
هذه الآية الكريمة سببت لبعض العلماء إشكالاً شهيراً، ألا وهو: هل الصالحون من الجن يدخلون الجنة أم ينجيهم الله من النار فقط؟ طُرِح هذا السؤال في بعض كتب التفاسير، فمن العلماء من قال: إنما ينجيهم الله من النار فقط؛ لأن الجن قالت: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ولم يذكروا ثواباً، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا فذكروا عقاباً، وهذه وجهة ضعيفة في التفسير، والحكم لا يؤخذ من هذه الآية فقط، بل يؤخذ من عموم الآيات والأحاديث.
قال الله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] ، وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] وهي آية عامة، وكذلك كل ما كان على شاكلتها من قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يدخل فيها الجن.(76/9)
تفسير قوله تعالى: (وألوا استقاموا على الطريقة.)
قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16] ما المراد بالطريقة؟ للعلماء في تفسير الطريقة قولان مشهوران: القول الأول: أن المراد بالطريقة: طريقة الاستقامة، فلو استقام عليها الخلق لأسقاهم الله سبحانه وتعالى ماء غدقاً، كما قال سبحانه {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] ، وكما قال الله سبحانه {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة:66] ، وكما قال نوح فيما حكى الله عنه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح:10-11] .
القول الثاني: أن المراد بالطريقة: طريقة الغواية والضلال، فالمعنى: لو استمروا في غيهم، وفي ضلالهم؛ لأسقيناهم ماء غدقاً لنفتهم في هذا الماء، ولنفتنهم في هذا الرزق، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44] ، واستظهر لهذا التأويل بقوله تعالى في الآية التي تليها: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:17] ، فالقولان مشهوران وواردان في تفسير الآية الكريمة، وكل قول له وجه ودليل يشهد له من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم في الرزق الذي رزقناهم إياه، والرزق الذي رزق الله العبد إنما هو فتنة وابتلاء، وسيُسئل عنه العبد، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام (وأصحاب الجد محبوسون) أي: للتحقيق معهم، فيسئلون: من أين اكتسبوا هذه الأموال؟ وفيم أنفقوها؟ ولذلك كره بعض العلماء كثرة المال لأنفسهم، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه) ، بينما ذهب آخرون إلى أن الحال والمقام يختلف من شخص لآخر، فإذا كان الشخص قوياً في دينه، رشيداً في فهمه، ومسدداً في فعله، فكما قال الرسول: (نعم المال الصالح للعبد الصالح) وقال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه عل هلكته في الحق) ، واستدل في هذا الباب بحديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور) إلى آخر الحديث، وفيه: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ، فالمقام يختلف من شخص إلى شخص آخر.
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي: لنختبرهم فيما رزقناهم، كما قال الله: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:48] ، وكما قال سليمان عليه السلام لما رأى العرش مستقراً عنده: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] ، وكما أسلفنا فليست كثرة المال دليلاً على الخير، وعلى رضا الله على عبده، وليست هي المقياس في الدنيا، فـ قارون قد علمتم حاله، ونبينا محمد لم يؤت من الدنيا إلا القليل، وهو أرفع درجة من سليمان الذي سخرت له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب.(76/10)
تفسير قوله تعالى: (ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً)
قال تعالى: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن:17] ما المراد بالذكر؟ هل المراد بالذكر: القرآن كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] أم المراد به الذكر الأعم؟ القول بالتعميم في مثل هذا أولى.
وما المراد بالعذاب الصَعَد؟ أي: عذاب يصعد فيه في جهنم، كما قال تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17] ، الذي يصعد سلالم ودرج في الدنيا يتعب ويرهق، ففي النار يصعد صعوداً طويلاً، وهذا الصعود فضلاً عما هو في الجحيم، فيرهقه الصعود ويؤذيه.(76/11)
تفسير قوله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا)
قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] .
هذه الآية يقذف بها في وجوه المشركين والمتصوفة والزنادقة الذين يدعون المقبورين في القبور.
ما المراد بالمساجد هنا؟ من العلماء من أول المساجد بأنها المساجد العادية المعروفة لدينا ذات الأبنية، ومنهم من قال: إن المساجد هي مواطن السجود، ومواضع السجود، فلا يسجد إلا لله سبحانه وتعالى.
(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) يرد
السؤال
كل شيء لله كما لا يخفى، البيوت لله، والأراضي لله، والأسواق لله، وكل شيء على وجه الأرض لله، فلماذا خصت المساجد بالذكر في قوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) ؟ من العلماء من قال: إن الإضافة إضافة تشريف للمساجد، كما أضيفت ناقة صالح لله، قال: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف:73] ، مع أن كل النوق لله، لكن أضيفت ناقة صالح عليه السلام لله إضافة تشريف، ومنه وصف عيسى عليه السلام بأنه روح الله تشريفاً لعيسى صلى الله عليه وسلم.(76/12)
تفسير قوله تعالى: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه.)
قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] عبد الله هو: رسول الله عليه الصلاة والسلام، (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) يدعو ربه، يدعو الله.
{كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] الشيء الملبد هو: الملتف المجتمع، ومنه: تلبيد الشعر.
أي: جمع بعض الشعر إلى بعض، كما في الحديث: (إني لبدت شعري وقلدت هديي) فالتلبيد: جمع الشعر بعضه إلى بعض بالصمغ، (كَادُوا) أي: كاد الجن (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) التفوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطبقوا عليه، وهذه الآية للعلماء فيها قولان: القول الأول: أن الجن والإنس الكفار لما سمعوا مقالة رسول الله، وتلاوته اجتمعوا على رسول الله، وتلبدوا حول رسول الله كي يطفئوا نور الله، ولكن الله أظهره.
القول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ القرآن، اجتمعت الجن وتلبدت حوله، وركب بعضهم فوق بعض حتى يستمعون لهذا القرآن.
فإما أن يكون تفسير: (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) أي: لحجبه وإطفاء نور الله، ولكن الله أظهره، أو يكون تفسيرها: للاستماع والإنصات لهذا القرآن العجب.
قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} [الجن:19-21] هذا قول رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن:22] أي: مهرباً أهرب فيه.
{إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23] العصيان هنا محمول على الكفر، لأنه أوجب الخلود، لكن مجرد العصيان لأمر من الأوامر أو لنهي من النواهي، لا يوجب الخلود، فالعصيان الموجب للخلود هو الكفر.
{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:24] خبر يحمل معنى التهديد.(76/13)
تفسير قوله تعالى: (قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا)
قال تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} [الجن:25] (إن) بمعنى (ما) أي: ما أدري أقريب ما توعدون، {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ} [الجن:25-26] أي: فلا يطلع {عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26-27] وفي هذه الآية إشكال يلزم أن نقف عندها وقفة حتى يتبين لنا المعنى ويرتفع الإشكال.
قال الله: (فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) أي: فإنه يطلعه على بعض العلم، فالله سبحانه يطلع بعض رسله على بعض الأمور الغيبية، كما قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2-3] ، وكما أخبر الرسول عن يأجوج ومأجوج، وقد جاء ذكرهم الله في كتابه، وكأشراط الساعة الكبرى والصغرى، فكلها أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل: خروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، فكل هذه أمور لم تحدث إلى الآن، وستحدث كما أخبرنا بها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ففي الآية دليل على أن الله يطلع أنبياءه على بعض الأمور الغيبية وليس كلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الساعة، قال الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات:42-43] ليس لك بها علم، {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} [النازعات:44] .
ما معنى (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) ؟ الرصد هم من الملائكة.
أي: إن الله سبحانه وتعالى يحيط هذا النبي الذي يطلعه على بعض الأشياء الغيبية بالملائكة من أمامه ومن خلفه، حرساً حتى يوحى إليه بهذا الأمر الغيبي، فلا تأخذه الشياطين من رسول الله.
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) أي: يحيطه بملائكة من أمامه ومن خلفه حتى لا تستطيع الشياطين إدخال شيء في هذه الغيبيات الذي يخبر بها الرسول، وكذلك حتى لا يستطيعون أخذ شيء من هذه الغيبيات التي يخبر بها الرسول عليه الصلاة والسلام، كما في الآية الأخرى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} [فصلت:41-42]-أي: الشيطان على رأي بعض المفسرين- {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] فمعنى الآية والله أعلم: أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الأمور الغيبية، عززهم بملائكة تحرسهم عن اليمين والشمال، ومن الأمام ومن الخلف، ومن كل اتجاه، ثم يوحى إليه بهذا الأمر الغيبي فلا يستطيع الشيطان أن يدخل معه أمراً آخر، أو يأخذ منه خبراً وينشره بين الناس.
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) ، أي: رصداً من الملائكة، {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:28] من هو الذي يعلم؟ فيها أقول لأهل العلم: قيل: ليعلم هذا النبي أن إخوانه من الأنبياء قد أبلغوا رسالات ربهم.
وقيل: (لِيَعْلَمَ) .
أي: ربنا سبحانه وتعالى، وليس هذا منافياً لعلمه، إنما المراد بالعلم: علم ينبني عليه الثواب، والعقاب، كقوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] ، فهو علم يترتب عليه الثواب والعقاب، وإلا فهو سبحانه يعلم كل شيء، وثم أقوال أخر.
{وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الجن:28] أي: عندهم، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28] .(76/14)
الأسئلة(76/15)
حكم الذبائح التي تذبح في الموالد
السؤال
هل الذبائح التي تذبح في الموالد مما ذبح على النصب؟
الجواب
لا نقول: إنها ذبحت على النصب، لأن النصب أشياء تنصب ويعبد عندها غير الله سبحانه وتعالى، فيأتي الناس يذبحون عند هذه الأشياء، لكن لا تأكل مما ذبح في الموالد؛ لأن نوايا الناس تختلف في هذه المواطن، فمنهم أو الغالب يذبحها تقرباً إلى الميت، إلى السيد البدوي أو غيره، فلا تأكل مما يذبح في الموالد.
وصلى الله على نبينا محمد وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(76/16)
تأخير صلاة الفجر ساعة كاملة
السؤال
ما حكم تأخير صلاة الفجر ساعة كاملة عمداً كل يوم؟
الجواب
الظاهر -والله أعلم- أنه خلاف السنة، ولا شك في ذلك؛ لأن الصحابيات كنّ ينصرفن من صلاة الفجر متلفعات بمروطهن لا يعرفن من الغلس، وأنت الآن إذا أخرت صلاة الفجر ساعة ورمت موافقة السنة في القراءة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم (كان يقرأ في الفجر من الستين إلى المائة) خرجت من الصلاة والشمس طالعة! فتأخير صلاة الفجر ساعة كاملة بعد أذانه خلاف السنة، والله أعلم.
أما حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أسفروا بالصبح فإنه أعظم للأجر) فقد حمله فريق من العلماء على التأكد من دخول وقت الصبح، لكن الأحناف يفهمون غير ذلك، ويؤخرون الفجر حوالي ساعة كما يحدث الآن في الهند وباكستان فيخرجون من الصلاة والشمس طالعة!!(76/17)
حديث: (ثلاثة لا يهولهم الفزع)
السؤال
ما صحة حديث: (ثلاثة لا يهولهم الفزع، ولا ينالهم الحساب-أي: شدته- وهم: من قرأ القرآن ابتغاء رضوان الله، وأمّ قوماً وهم عنه راضون، والمؤذن ابتغاء وجه الله) ؟
الجواب
لا يثبت هذا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.(76/18)
حديث: (صلاة على إثر سواك أفضل من خمس وسبعين صلاة)
السؤال
القول في حديث: (صلاة على إثر سواك أفضل من خمس وسبعين صلاة على غير سواك) ؟
الجواب
هذا باطل.(76/19)
حديث: (لو يعلم الناس ما في السواك لبات مع الرجل في لحافه)
السؤال
حديث: (لو يعلم الناس ما في السواك لبات مع الرجل في لحافه) ؟
الجواب
هذا لا يثبت.(76/20)
حديث: (أفواهكم طرق القرآن، فنظفوها)
السؤال
(أفواهكم طرق لكلام ربكم فنظفوها) .
الجواب
إسناده ضعيف.(76/21)
الوضوء مع الغسل
السؤال
هل يجوز الوضوء مع الغسل؟
الجواب
نعم يجوز الوضوء مع الغسل، بل السنة أن تتوضأ ثم تغتسل، ولا يتنافى مع الترتيب.(76/22)
حكم تأخير الصلاة عن وقتها لعذر
السؤال
نحن مزارعون، نعمل من الساعة (8) صباحاً إلى (1) مساءً، ويكون في العمل ثلاثون عاملاً وعاملة، وعند أذان الظهر يبقى ساعة من العمل، لأن الدوام خمس ساعات، فماذا نفعل؟ وكيف نصلي الظهر في وقته؟ علماً أن صاحب العمل إذا ترك العمال فإنهم لا يعملون؟!
الجواب
انتظر حتى تنتهي الساعة، وصل جماعة مع العمال ما دامت هناك أعذار مانعة، والله أعلم.(76/23)
حكم العمل الزراعي مع مشاركة النساء
السؤال
معظم العمل الزراعي يكون بعاملات بنات ونساء، وطبيعة العمل يكون أكثرهن أمام أعين الرجال، فما الحكم؟
الجواب
اتق الله ما استطعت، وغض بصرك كما قال الحسن البصري وقد سئل عن نساء الأعاجم: يكشفن شعورهن وأرجلهن، فقال: اصرف بصرك.(76/24)
حكم العمل وقت صلاة الجمعة
السؤال
يوم الجمعة عندنا في الزراعة عمل، وإذا أوقفنا العمل غضب العمال، فهم يريدون أن يعملوا يوم الجمعة لأجل الاستكثار من الأجرة، فما الحكم؟
الجواب
على صاحب العمل أن يوقف العمل لصلاة الجمعة، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، وهذا إذا كان العمل من الأعمال التي يصلح فيها التأخير، لكن إذا كانت أعمالاً لا يصلح أن تؤخر ولا أن تهمل مثال ذلك: حارس إذا ذهب يصلي سرق المحل، أو شخص واقف على مكينة إذا غفل عنها ساعة أو نصف ساعة أحدثت حريقاً، فالضرورات تقدر بقدرها، وكما يحدث مثلاً في الحرم المكي أو المدني فيقف عسكر أمام الأبواب، إن صلوا مع الناس وتركوا المسجد مفتوحاً؛ فقد يدخل شيعة روافض بأي سلاح، ويعبثوا بالحرم، فالضرورة تقدر بقدرها، والله أعلم.(76/25)
تقبيل يد وقدم العالم أو الصالح
السؤال
ما حكم تقبيل يد أو قدم الرجل الصالح أو العالم أو الفقيه؟
الجواب
إن فعل ذلك أحياناً فلا بأس، فهناك أدلة تشعر بجواز ذلك، لكن لا تتخذ عادة، فإن الصحابة رضوان الله عليهم ما ورد عنهم أنهم كانوا يتخذون ذلك عادة، وقد ورد في بعض الروايات مجيء صحابي إلى الرسول وتقبيله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بعض الصحابة مع بعضهم، لكن لا تتخذ عادة، والله أعلم، والقول بتحريمها لا يصار إليه.(76/26)
الطمأنينة ورجاء رحمة الله
السؤال
كبر سني، وأنظر إلى شبابي وما حدث فيه، فأستعيذ بالله مما كان فيه، وأستغفر الله، وأسمع عن أي عذاب في القبر أو جهنم فيرتعد بدني، وأنا الآن أقوم بأداء الفرائض، ولا أكثر من النوافل، وأحب الاستمتاع بزوجتي كثيراً، فهل من سبيل للاطمئنان على النهاية؟
الجواب
ليس هناك سبيل إلى الاطمئنان على النهاية إلا رجاء رحمة الله سبحانه، فلا أحد يستطيع أن يطمئن على نهايته إلا من الله سبحانه، فاطلب من الله الثبات حتى الممات، فرسولك محمد صلى الله عليه وسلم كان يكثر في اليمين من قول: (لا، ومقلب القلوب!) وكان يكثر في الدعاء: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب! صرف قلبي على طاعتك) ، وأهل الإيمان يقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8] ، وإبراهيم الخليل يقول للمشركين: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام:80] أي: أنا لا أخاف من الأصنام (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) أي: إذا شاء الله لي شيئاً آخر، خفت من هذه الأصنام، فعليك دائماً أن تكون خائفاً وجلاً من الله سبحانه، وتسأله الثبات حتى الممات، وأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى.(76/27)
زواج الإنس بالجن
السؤال
ما حكم زواج الإنس بالجن؟
الجواب
لم يرد أن عفريتاً تزوج امرأة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا صحابياً تزوج عفريتة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فالبحث فيها فضول وليس له معنى، ولولا أن بعض العلماء كـ السيوطي وغيره أثاروها ما تعرضنا لها أصلاً، واستدل بعضهم بقوله تعالى: {لمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] على أن الجان يمكن أن يطمث، وإن كان الجن يمكن أن يطمث، لكن ليس في الآية جواز الزواج، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128] والآية تفسرها سيرة رسول الله وسيرة أصحابه رضوان الله عليهم، فليس المراد بالاستماع الزواج والمعاشرة، إنما يراد الاستمتاع بالشرك والكفر والعياذ بالله.(76/28)
تفسير قوله تعالى: (لن تراني)
السؤال
إذا كانت (لن) تفيد التأبيد فكيف نفسر قوله تعالى لموسى {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ؟
الجواب
من العلماء من قال: تفيد التأبيد في الدنيا، (لَنْ تَرَانِي) أي: في هذه الدنيا، أما الآخرة فلها حكم آخر.(76/29)
حكم السفر بدون إذن الأب
السؤال
يقول: أنا أب لأربعة أولاد، وليس لي دخل إلا مائة وعشرين جنيهاً من وظيفتي، فأردت السفر إلى خارج مصر لتحسين وضعي المادي، ولكن والدي غضب من ذلك، فحاولت أن أنتقل إلى جهة في البلدة أحسن حالاً، لكنني لم أوفق، فهل إذا سافرت مع غضبه يكون ذلك عقوقاً؟ ولو أخذت أهلي معي، ووصيت بأبي أخي الذي يكبرني، ويسكن معي في نفس البيت، علماً بأن والدي يبلغ من العمر سبعين سنة، ويتقاضى معاشاً يكفيه، فهل يجوز ذلك؟
الجواب
إذا كنت تستطيع البقاء مع والدك، ولو كان في المعيشة كفافاً، فلتبق مع والدك، فأنت لست مأموراً ولا مطالباً شرعاً أن تكثر من دخلك، فما دام أن الدخل يكفيك فهو الكفاف، أما إذا كان دخلك لا يكفيك، والأولاد يجوعون، والدخل لا يكفيك أصلاً، فهل تمد يديك للناس؟ لا.
و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، ولا يلزمك الشرع بأن تستدين، بل قال تعالى: {وامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] ، لكن طيب خاطر الأب، وأقنعه بالوضع الذي أنت فيه، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.(76/30)
تفسير سورة المزمل [1]
سورة المزمل من أوائل ما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام، لذا نجد التربية الإيمانية تتجلى بوضوح في آياتها، من ذكر قيام الليل والحث عليه، ثم تعرض صورة من صور يوم القيامة وما أعده الله عز وجل للمكذبين من العذاب والجحيم.(77/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها المزمل.)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] إن من عادة العرب: أنهم كانوا إذا أحبوا أن يلاطفوا شخصاً دعوه بصفة من الصفات التي هو متلبس بها، فمن ذلك: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت بينه وبين فاطمة رضي الله عنهما شيء، فخرج علي من البيت ونام في المسجد، فأتاه الرسول في المسجد وقد علاه التراب، فقال له: (قم يا أبا التراب!) ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصحابي: (قم يا نومان!) .
فإذا أحبوا أن يتلطفوا مع الشخص ينادونه بصفة هو متلبس بها.
وعلى هذا فالآية فيها ملاطفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ناداه ربه بصفة تلبس بها وهي التزمل، والتزمل: التلفف، وكان هذا بعد نزول الوحي عليه لأول مرة، فقد اعتراه الخوف الشديد واعتراه البرد، ورجع إلى أهله فقال: (زملوني زملوني) ، وقال: (دثروني دثروني) ، (زملوني) أي: غطوني، فمعنى (المزمل) : النائم المتلفف بالثوب.
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1-2] ، أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، أي: قم الليل كي تصلي، لكن حذفت (كي تصلي) ؛ لأن العرب يفهمون ما المراد بقيام الليل، وقد قدمنا نماذج: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] ، ما هي التي توارت؟ العرب يفهمون أن التي تتوارى بالحجاب هي الشمس.
(يا أيها المزمل) * (قم الليل إلا قليلاً) أي: قم صل في الليل أو صل الليل إلا قليلاً منه، وقد صح أن سعد بن هشام أتى إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يسألها عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا أم المؤمنين! أخبريني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت له: ألست تقرأ: (يا أيها المزمل) ، (قم الليل إلا قليلاً) ؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية قام من الليل هو وأصحابه حتى ورمت أقدامهم، قاموا حولاً اثني عشر شهراً حتى تورمت أقدامهم، ثم نزل قوله تعالى.
في آخر السورة: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] ، فنسخت هذه الآية الآية التي قبلها.
فمن العلماء من يرى أن قيام الليل كان واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، ويستدل هذا القائل بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، فـ (نافلة لك) على رأي بعض العلماء أي: زيادة لك على أمتك، فأمتك ليست مكلفة بقيام الليل، أما قيام الليل فهو نافلة لك، أي: أنت مكلف به زيادة على أمتك على رأي بعض المفسرين.(77/2)
حكم تعلم علم التجويد
السؤال
ما حكم التجويد الذي يتضمن الإخفاء، والإقلاب، والغنة، والمد ست حركات، أو أربع حركات أو أكثر أو أقل؟ علماء القراءات يقولون بوجوب تعلم علم التجويد، ويستدلون بقول القائل: والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم لكن التحرير من ناحية فقهية أنه مستحب؛ وذلك لأنه يدخل ضمناً في قوله تعالى: (ورتل القرآن ترتيلاً) أي: بينه تبييناً، ويدخل في تحسين الصوت بالقراءة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به) ، يعني: ما استمع الله لشيء كما استمع إلى نبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به.
وقد ورد حديث في البخاري: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ، ومن العلماء من قال: هذا الحديث منتقد على الإمام البخاري بهذا اللفظ، انتقده عدد من أهل العلم كـ الدارقطني وغيره، وقالوا: إن الصواب فيه هو حديث: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به) ، فرواه راو بالمعنى بلفظ: (ليس منا من يتغنى بالقرآن) ، وبين اللفظين خلاف، وقد ورد في الباب حديث: (زينوا القرآن بأصواتكم) ، وورد حديث: (الذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) ، فليس بآثم من يتعتع في قراءة القرآن، (والماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة) ، والله أعلم.(77/3)
جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في قيام الليل
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة) .
وورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) .
وورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ما حاصله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى من الليل ثلاث عشرة ركعة) ، فهذه ثلاثة أدلة تعد أصول في هذا الباب.
حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة) ، في هذا النص إباحة الصلاة لمن شاء، لكن صفتها أن تكون: مثنى مثنى، ثم جاء حديث أم المؤمنين عائشة: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) .
فقد يقول القائل: إن هذا النص المفسر يفسر المجمل في قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، لكن جاء حديث ابن عباس فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ثلاث عشرة ركعة من الليل) ، فلزم التوفيق بين هذه الأدلة مجتمعة.
وورد أيضاً في الباب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب القيام إلى الله قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه) ، وهذا دليل رابع يدخل في الاعتبار عند مناقشة هذه المسألة، فبعض أهل العلم أخذ دليلاً من هذه الأدلة، وبنى عليه قوله، وأهمل الأدلة الأخرى؛ فنشأ فقه عجيب! فجاء أحدهم إلى حديث عائشة: (ما زاد رسول الله على إحدى عشرة ركعة) ، وقال: الأصل أن تصلي إحدى عشرة، وليس لك أن تزيد، لحديث عائشة: (ما زاد رسول الله على إحدى عشرة ركعة) ، وهذا القول قول عجيب! بل بالغ بعضهم فقال: إذا زدت فأنت مبتدع! وهذا من عجيب القول ومن القول المستنكر الذي لم يسبق إليه قائله! ولكن لزاماً -كما أسلفنا- أن تجمع الأدلة التي وردت في الباب.
وقال فريق من أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قيام الليل في كتابه الكريم لم يحدده بعدد ركعات، إنما ذكره مقيداً بأزمنة، {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:2-4] ، فكلها مدد زمنية.
كذلك قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ} [آل عمران:113] ، أي: ساعات، فهي أيضاً مدة زمنية، وأيضاً قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] ، فهي أيضاً مدة زمنية، وأيضاً حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (أحب القيام إلى الله قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه) ، فهي أيضاً مدة زمنية.
فكل الآيات التي وردت في كتاب الله فيها مدة زمنية، إضافة إليها حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي هو: (أحب القيام إلى الله قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه) ، فهو أيضاً مدة زمنية، ثم إن المعنى أيضاً معتبر، فليس من قام إحدى عشرة ركعة في عشر دقائق خير ممن صلى ركعتين تلا فيهما جزءاً من القرآن، يعني: إذا قام شخص وصلى إحدى عشرة ركعة في ربع ساعة أو في نصف ساعة وانتهى ونام، هل هو خير من رجل صلى أربع ركعات كصلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام التي وصفتها عائشة فقالت: (لا تسأل عن حسنهن وطولهن) ؟ هل الذي صلى إحدى عشرة ركعة في ثلث ساعة أو في نصف ساعة خير أم رجل صلى أربع ركعات كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أيهما خير شخص صلى أربع ركعات في ساعة أم شخص صلى إحدى عشرة ركعة في نصف ساعة أو في ثلث ساعة؟! فمن ناحية المفهوم أيضاً يفهم أن الذي وافق صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من الذي لم يوافق صفة صلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه لا بد وأن يعتبر أيضاً في الباب إضافة إلى عدد الركعات صفة الركعات، فإذا أراد شخص إصابة السنة فعليه أن يوافقها في الصفة وفي العدد، لكن كونه يأتي يتحجر أمام النص، ما زاد الرسول على إحدى عشرة ركعة، ويصلي في كل ركعة بفاتحة الكتاب مثلاً وسورة قصيرة كالعصر، ثم يدعي أنه أفضل من رجل صلى أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة قدراً كبيراً من القرآن ويسجد لله ويخشع، حتى مضى عليه ما يقارب الساعة، فلابد من النظر في الصفة وفي العدد، فإذا أردت موافقة السنة فلتوافقها في العدد وفي الصفة، لكن إذا جئنا نطبق هذا ونقول: يا مسلمون! نريد أن نوافق سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في العدد والصفة فهو خير الهدي، فنقول: إن ابن عباس أثبت أنه زاد عن إحدى عشرة ركعة، فكيف نفعل إذا جئنا نوافق الرسول عليه الصلاة والسلام في صفة صلاته، ولم يتحمل الناس ذلك؟ كيف والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم) .
ولكن قد يقول قائل: هذا في الفريضة، لكن قال الرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) ، فشخص يقول: يا ناس! أنا أريد أن أصلي معكم حتى يكتب لي قيام ليلة، ولكن صلاتكم طويلة جداً، قد تأتيني الحاجة في الصلاة من بول أو غائط أو عطش أو نحو ذلك، فتشق عليّ الصلاة معكم، ونحن نريد أن نراعي المصلحة العامة للمسلمين، فماذا نصنع؟ فإذا وافقنا صلاة الرسول عليه الصلاة والسلام في الصفة وفي العدد شق هذا على المسلمين، وإذا قصرنا في الصفة حتى نوافق في العدد ابتعدنا عن قول الرسول: (أحب القيام قيام داود، كان يقوم ثلث الليل ... ) ، فماذا نصنع؟ قال كثير من أهل العلم: إن المعول عليه الوقت -كما سمعتم- فإذا قللنا في الصفة نزيد في العدد، إذا قللنا في القراءة نزيد في عدد الركعات، وإذا أطلنا القراءة نقصر عدد الركعات حتى يتسنى لنا موافقة نبي الله داود، وحتى يتسنى لأصحاب الأعذار أن يقضوا الحاجات، وقالوا: إن الأصل أن أكثر صلاة رسول الله إحدى عشر ركعة لكن أيضاً ثبت أنه زاد على إحدى عشرة ركعة كما في حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة) ، وأيضاً فتح لنا الباب في قوله: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، وعلى هذا جاءت سيرة الصحابة والتابعين، ورد عن عمر رضي الله عنه أنه جمع الناس على إحدى عشرة ركعة، جمعهم على أبي بن كعب وفي رواية أخرى: على إحدى وعشرين ركعة على أبي أيضاً.
فمن العلماء من يصحح إحداهما ويضعف الأخرى والتحرير: أن كلا الروايتين صحيح، ويحمل على التعدد، فأحياناً جمعهم على إحدى وعشرين، وأحياناً جمعهم على إحدى عشرة ركعة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أننا إذا أطلنا القراءة نقصر الركعات وإذا قصرنا القراءة نطيل في عدد الركعات، وهو اختيار الحافظ ابن حجر، واختيار طائفة كبيرة من العلماء، ولذلك إذا تتبعت سيرة السلف الصالح رأيت منهم -كالإمام مالك - من يستحب ستاً وثلاثين ركعة، وترى أن منهم من كان يقوم بأكثر، ومنهم كان يقوم بأقل، والله أعلم، والباب مفتوح، وهو باب تطوع، والحمد لله.
فقصدنا بذلك أننا إذا صلينا وراء إمام يصلي إحدى وعشرين لا نفارقه وننصرف، ونحدث مشاكل بين الناس ونستدل بحديث عائشة، إذا استدللت بحديث أم المؤمنين عائشة فلتستدل أيضاً بالأدلة الأخر، فإن الفقه يؤخذ من مجموع الأدلة كما سمعتم.
قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:1-4] ، (رتل القرآن ترتيلاً) أي: بينه تبييناً ووضحه إيضاحا، فلا تتداخل الكلمات في بعضها، ولا تتداخل الحروف في بعضها.(77/4)
فضل قيام الليل من الكتاب والسنة
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ} [المزمل:1-3] أي: نصف الليل، {أَوِ انْقُصْ) [المزمل:3] أي: انقص من هذا النصف {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:3-4] .
قيام الليل دأب الصالحين، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] ، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9] ، وقال سبحانه في شأن عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64] ، وقال تعالى في شأن أهل الكتاب أيضاً: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] ، فجاءت الأدلة متواترة ومترادفة تحث على قيام الليل، فقد جاء في خبر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إنه دأب الصالحين من قبلكم) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه: (من يوقظ صواحب الحجرات كي يصلين؟ يا رُب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً قام من الليل يصلي فأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي، فأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قيام الليل ويطيل القراءة لنفسه غاية الإطالة، فقد قام عليه الصلاة والسلام مرة من الليل يصلي، ودخل ابن مسعود معه، فافتتح الرسول عليه الصلاة والسلام القراءة بالبقرة -بعد الفاتحة- ثم بالنساء ثم بآل عمرآن، ثلاث سور طوال قرأها النبي صلى الله عليه وسلم في ركعة واحدة! (وكان يسجد قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية عليه الصلاة والسلام) ولا بد من معرفة صفة وعدد ركعات قيام الليل، ومن المعلوم أن من الأصول التي ينبغي الرجوع إليها دائماً أن الأحكام لا تؤخذ من حديث واحد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما تؤخذ الأحكام من مجموع الأدلة الواردة في المسألة الواحدة، وتؤخذ أيضاً من عمومات شرعية تتعلق بالمسألة.(77/5)
تفسير قوله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولاً.)
قال الله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] ، القول الثقيل هو: القرآن، وثقله ليس في لفظه، فرب العزة يقول في عدة آيات: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] .
فما المقصود بثقل القرآن؟ قال العلماء: ثقله يتمثل في: أحكامه وتكاليفه من الأمر والنهي، كالأمر بالصلاة والأمر بالصيام، كالأمر بغض البصر، وفيه أوامر بترك الشبهات، وأوامر بترك المحرمات كالخمر، وأوامر بتحريم بعض الأطعمة، فكل هذه تكاليف وأوامر ونواهٍ وأحكام، فثقل القرآن يتمثل في تكاليفه التي فيه، إذ هي في البداية ثقيلة على من كُلف بها.(77/6)
تفسير قوله تعالى: (إن ناشئة الليل.)
قال الله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل:6] ، ما معنى الناشئة؟ من العلماء من قال: ناشئة الليل: هي ساعات الليل التي تبدأ من بعد العشاء إلى الفجر، منذ أن ينشأ الليل، يعني: منذ أن يبدأ الليل، (إن ناشئة الليل) أي: ساعات الليل {أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل:6] ، أي: من ساعات النهار، وسيأتي تفسير الوقت، ومن العلماء من قال: الناشئة معناها: القيام، مثل قولهم: أنشأ فلان يقول، يعني: قام فلان يقول.
فمن العلماء من قال: نشأ بمعنى: قام بالحبشية، ومنهم من قال: إن الناشئة هي: ساعات الليل التي تبدأ من بعد صلاة العشاء وتنتهي إلى الفجر، يعني: (إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً) أي: القيام في ساعات الليل، (أشد وطئاً) كما سيأتي بيانه، فهما قولان في ناشئة: أحدهما: نشأ بمعنى: قام، والثاني: ناشئة: ساعات الليل.
وقوله: (إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً) الوطء: له معان، فمن معانيه: الشدة والثقل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! اشدد وطأتك على مضر، اللهم! اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) ، والقول الآخر في الوطء: من المواطأة وهي: الموافقة، تواطأ فلان وفلان، أي: توافق فلان وفلان على فعل شيء معين، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت) ، يعني: قد اتفقت على أنها في العشر الأواخر، فمن العلماء من قال: إذا تواطأت فهي حق، وقد تواطأت رؤيا الأذان، أي: رآها عمر ورآها عبد الله بن زيد فرآها أكثر من واحد، فتواطأت أي: اتفقت، فقوله على هذا التأويل: إن ناشئة الليل -أي: إن قيام الليل- أشد وطئاً، أي: أشد موافقة للفهم والتدبر من ساعات النهار، يعني: إن ساعات الليل أقرب لفهم كتاب الله وأوفق في الأفهام من ساعات النهار؛ لما يعتري ساعات النهار من التشويش والضوضاء وغير ذلك.
فالمعنى: إن ساعات الليل أشد موافقة لتفهم القرآن وتدبر معانيه والوقوف عند آياته من ساعات النهار، و {وَأَقْوَمُ} [المزمل:6] أي: وأحسن تلاوة، كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] ، أي: للتي هي أحسن، والمعنى: أن تلاوة الليل تختلف عن تلاوة النهار.(77/7)
تفسير قوله تعالى: (إن لك في النهار سبحاً.)
وقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7] قال بعض العلماء: إن المراد بالسبح: السبح في الدنيا للعمل وقضاء الحوائج، يعني اسبح في النهار كما تريد أن تسبح، اعمل في النهار ما تريد أن تعمل، لك في النهار أن تتجول لقضاء حوائجك، أن تسعى لكسب رزقك، أن تنام لتستريح في الظهر وفي وقت القيلولة، فتتفرغ لقضاء حوائجك في النهار.(77/8)
تفسير قوله تعالى: (واذكر اسم ربك.)
وقوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8] ، الذكر: حث عليه ربنا في جملة مواطن: في الليل، وفي النهار، وفي القيام، وفي القعود، وعند النوم، بل في كل المواطن.
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8] ، وقد أسلفنا أن الكلمة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تتعدد معانيها، ويؤخذ المعنى من السياق الذي وردت فيه هذه الكلمة، فمثلاً كلمة: (تبتل إليه تبتيلاً) أمر الله سبحانه وتعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بالتبتل، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، قال الصحابة ولو أذن له لاختصينا، فكيف يقال: (وتبتل إليه تبتيلاً) ؟ وكيف نجمع بين هذه الآية الكريمة التي فيها الأمر بالتبتل وبين قول الصحابي: رد النبي عليه الصلاة والسلام على عثمان بن مظعون التبتل؟ هناك تبتل مأمور به، وتبتل منهي عنه.
فالتبتل المأمور به لا بد أن يكون له معنى غير التبتل المنهي عنه، وأصل التبتل: الانقطاع كما قيل لمريم: البتول، أما رد النبي عليه الصلاة والسلام على عثمان بن مظعون التبتل، فالتبتل هنا بمعنى الانقطاع للعبادة وترك النساء؛ لأنه كان يريد الانقطاع كلية عن الزواج، ولا يتزوج أبداً، كان يريد الانقطاع كلية عن الزواج ولا يتزوج، فالرسول رد عليه هذا ومنعه، لكن الآية: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8] أي: في الساعات التي تقوم فيها من الليل تصلي، انقطع فيها إلى الله انقطاعاً، ولا تشغلها بغير عبادة الله عز وجل، وليس المراد: انقطع عن كل أعمالك للصلاة، ولكن إذا قمت إلى الصلاة فرغ قلبك وفرغ ذهنك وفرغ عقلك لتدبر الآيات وللصلاة في هذه الأوقات التي خصصتها لقيام الليل، وهذا القول الأول في تفسير قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} .
القول الثاني في تفسير قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} أن يقال: (تبتل إليه) أي: اعبده وانقطع لعبادته، ولا تعبد غيره معه.
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9] أي: اجعله وكيلاً عنك في كل شئونك، فإذا أردت قضاء حاجة من الحاجات فاجعله سبحانه وكيلاً لك لقضائها، تريد التوسط في شيء اجعله وكيلاً لك في قضاء هذا الشيء، مع الأخذ بالأسباب.(77/9)
تفسير قوله تعالى: (واصبر على ما يقولون.)
قال الله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10] ، وهو الهجر أو الهجران الذي لا عتاب معه، (اهجرهم هجراً جميلاً) أي: اهجرهم هجراً لا عتاب معه، وهو كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية:14] ، لكن هل المراد بالهجر الجميل: الصبر على الأذى وعدم مواجهته بأذى مشابه؟ من العلماء من قال: إن هذا في بعض أنواع الأذى، لكن بعض العلماء يقولون: إن الآية منسوخة بآية السيف؛ لأن الله قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:29] ، وقال: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] ، وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9] ، وقال سبحانه مثنياً على الذين ينتصرون إذا أصابهم البغي: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39] ، فليس كل من أصابه البغي يحمد عفوه إن عفا، قد يكون في العفو أحياناً تقوية للظالم وتجريء للظالم على ظلمه، فالمسألة تحتاج إلى فقه واسع، أحياناً تعفو، وأحياناً تؤاخذ، وأحياناً تصبر، وأحياناً تنتقم، وأحياناً تشتد، وأحياناً تلين، وكل جزئية من هذه الجزئيات عليها دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا الرسول لأقوام ودعا على أقوام، عفا الرسول عن أقوام وانتقم من أقوام، منَّ الرسول على أقوام وقتل أقواماً، كل جزئية من هذه الجزئيات عليها دليل من السنة، ولكن الفقيه هو الذي يأخذ من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام ما يوافق الواقعة، مثلاً: شخص ضربك، هل أنزل عليه {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39] أو أنزل عليه: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ؟ أو أداريه أو أعاقبه؟ الحكمة هي ضالة المؤمن، والرسول يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، فقد يكون شخص حامل لكل النصوص التي سمعتموها، يحمل نصوصاً انتقم فيها الرسول، ونصوصاً عفا فيها الرسول، ونصوصاً ألان فيها الرسول، ونصوصاً شدد فيها الرسول، لكن لا يعرف هل هذا الموقف يستلزم الشدة أو يستلزم الرفق؟ فيخلط في الأمر، فلا بد لحمل النصوص من فقه في الدين وفي واقع المسلمين.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10] ، الهجر الجميل: الذي لا عتاب معه، وهناك صبر جميل وهو الذي لا شكوى معه.(77/10)
تفسير قوله تعالى: (وذرني والمكذبين.)
قال الله: {وَذَرْنِي} [المزمل:11] أي: اتركني، وهو على سبيل التهديد للمشركين، {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل:11] ، الواو هنا بمعنى: مع، أي: ذرني مع المكذبين أي: اتركني مع هؤلاء المكذبين لأنتقم منهم، كما في قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] ، {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44] ، قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل:11] أي: المنعمون المترفون، فهم أعداء الرسل في الغالب، أهل الترف في الغالب -إلا من رحم الله- يطغيهم ترفهم، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27] ، فالأغنياء والأثرياء والمنعمون في الغالب هم أهل الشر والفساد، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16] ، {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} [الأعراف:60] ، والملأ: هم المستكبرون، فرب العزة يقول: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل:11] ، المنعمون في دنياهم، {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل:11] : اصبر عليهم قليلاً {إِنَّ لَدَيْنَا} [المزمل:12] أي: عندنا {أَنكَالًا} [المزمل:12] أي: قيوداً، {وَجَحِيمًا} [المزمل:12] ، أي: ناراً.
{وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} [المزمل:13] ، ذا غصة: يقف في الحلق لا ينزل، كالضريع والزقوم، يقف في الحلق ولا يصل إلى الجوف، فلا يستطيع بلعه، ولا يستطيع إخراجه.
{وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:13] أي: مؤلماً موجعاً.(77/11)
تفسير قوله تعالى: (يوم ترجف.)
قال الله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل:14] يتحقق هذا العذاب يوم ترجف الأرض والجبال أي: الزلزلة، {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا} [المزمل:14] ، والكثيب: الرمل المجتمع، المهيل: السائل المنهال.
ثم قال سبحانه {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل:15] ، فالرسول صلى الله عليه وسلم، بعث مبشراً ونذيراً وشاهداً، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45] ، فهو شاهد على أمته صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41-42] ، فالرسول شاهد على أمته صلى الله عليه وسلم، {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل:15] ، وهو موسى صلى الله عليه وسلم، {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:16] ، والوبيل: هو الشديد، ومنه قوله تعالى: {أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة:265] ، فالوابل: المطر الشديد، {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة:265] : هو المطر الخفيف أو الرذاذ، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(77/12)
الأسئلة(77/13)
هل ورد في فضل صيام شهر رجب شيء؟
السؤال
ما هو فضل الصيام في شهر رجب؟
الجواب
لا أعلم في الصيام في شهر رجب نصاً صريحاً عن رسول الله، اللهم إلا عموم القول بأن شهر رجب من الأشهر الحرم، قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الأشهر الحرم: (ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، وشهر الله المحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) ، ولماذا نسب رجب إلى قبيلة مضر؟ لأنها كانت تحافظ على شهر رجب لا تقدمه ولا تؤخره، أما أهل الجهل والغباء من أهل الجاهلية، فكانوا إذا دبت بينهم حروب ودخل عليهم الشهر الحرام ويفترض أنهم يتوقفون عن الحرب، لكن كانوا في رجب يقولون: لا بأس في هذه السنة أن نلغي رجب من أجل الاستمرار في الحروب، أو يقولون: نؤخر رجب ونجعله مكان شعبان، من أجل أن يستمروا في الحروب، فقال الله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ} [التوبة:37] أي: إنما التأخير {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:37] الآية.
أما شهر شعبان فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر من الصيام فيه.(77/14)
ما المحرم من الخنزير؟
السؤال
هل المحرم من الخنزير لحم الخنزير أم الخنزير كله حرام؟
الجواب
الخنزير كله حرام.(77/15)
ما حال حديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات) ؟
السؤال
حديث: (الجنة تحت أقدام الأمهات) ما صحته؟
الجواب
لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(77/16)
حكم تكرار السورة القصيرة في الركعة الواحدة
السؤال
هل يجوز تكرار السورة القصيرة في الصلاة في الركعة الواحدة؟
الجواب
لا مانع من ذلك، وقد ورد حديث في إسناده ضعف: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قام بالآية الأخيرة من سورة المائدة {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] ، ليلة) ، لكن في إسناد الحديث ضعف والله أعلم، وقد ورد قراءة الصحابي بسورة "قل هو الله أحد" يرددها.(77/17)
ما المراد باليوم في قوله: (اليوم أكملت لكم) ؟
السؤال
ما المراد باليوم في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ؟
الجواب
هو يوم عرفة من حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة، ومات الرسول بعدها بقرابة تسعين يوماً، لكن الإشكال الذي قد يرد هو أن النبي بعد هذه الآية حث على أمور في مرض موته، يعني: في مرض الموت قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) ، (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان) ، وقال في مرض الموت: (ألا لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) ، وكل هذا بعد (اليوم أكملت لكم دينكم) ، فكيف يجمع بين (أكملت لكم دينكم) وبين هذه النصوص التي أتت لاحقة؟ فالعلماء لهم إجابات على هذه الإشكالات، أحد هذه الأجوبة: أن المراد بالدين في قوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) : الحج، أي: أكملت لكم حجكم، هذا قول، والقول الثاني: أن المراد بـ (اليوم أكملت لكم دينكم) : أصول دينكم، والقول الثالث: أن المناهي التي نهى عنها الرسول عليه الصلاة والسلام في مرض موته بعد هذه الآية، كان قد نهى عنها من قبل، ولكنه أكد النهي عنها مرة ثانية، كما ذكر أنه في مرض الموت كان يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم) ، مع أنه حث على الصلاة منذ أن كان بمكة، وحث على الرفق بملك اليمين منذ أن كان بمكة عليه الصلاة والسلام، فهذه بعض الوجوه التي جمع بها في هذا الباب.(77/18)
حديث: (يأتي امرؤ القيس يوم القيامة يحمل لواء الشعراء إلى النار) ؟
السؤال
ورد حديث: (يأتي امرؤ القيس يوم القيامة يحمل لواء الشعراء إلى النار) ما صحة هذا الحديث؟
الجواب
إسناده ضعيف.(77/19)
حكم الغناء للأطفال بدون آلات موسيقية
السؤال
هل يجوز الغناء للأطفال بدون استعمال آلات موسيقية؟
الجواب
في هذه الحالة يبقى النظر في كلمات الغناء التي تغنى، فإذا كان الشرع يقرها وليس فيها مخالفة شرعية، فلا بأس إن كان بقدر، وإن كان الشرع لا يقرها فيمنع.(77/20)
الحور العين للرجال في الجنة، فما يكون للنساء؟
السؤال
أخبر الله في كتابه الكريم أن من ثواب المؤمنين في الجنة: الحور العين {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] ، فما هو المقابل بالنسبة للنساء؟
الجواب
قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] .(77/21)
حديث: (شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) ؟
السؤال
(شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) ما صحة هذا الحديث؟
الجواب
ليس بحديث عن رسول الله فيما أعلم.(77/22)
حكم التوفير البريدي
السؤال
ما الحكم في دفتر التوفير كوسيلة للادخار وليس للربح؟
الجواب
ادخار الأموال جائز، لكن إذا أخذت عليها فائدة فالفائدة حرام.(77/23)
ما معنى قولهم: (ولو أذن له لاختصينا) ؟
السؤال
ما معنى هذه المقولة: (ولو أذن له لاختصينا) ؟
الجواب
الاختصاء: معروف، تدق عروق الخصيتين حتى تذهب الشهوة.(77/24)
معنى قوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السموات) الآية
السؤال
ما معنى قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] ؟
الجواب
قد شاء الله أن يكونوا خالدين أبداً، هذه الآية كما أسلفنا من الآيات التي وقع بسببها بعض أهل العلم في بعض ما يخالف منهج أهل السنة والجماعة، فمنهج أهل السنة في الجنة والنار: أن الجنة تبقى دائماً أبداً، والنار كذلك، فمن العلماء من قال: إن النار ستفنى لهذه الآية: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] ، فقال: إن النار ستفنى، واستدل أيضاً بقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] ، وقد أجيب على مثل هذا التوهم بما فيه الكفاية، وحاصله أن قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] قد شاء الله ألا يخرجوا منها كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] ، فالمشيئة هنا بينتها آيات أخرى تبين عدم خروجهم من النار، وأن الله شاء ألا يخرجوا، كقوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56] ، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ، هذا قول، والقول الآخر: أنها في عصاة المؤمنين الذين كانوا من الأشقياء في الدنيا لكنهم أهل توحيد ولم يغفر لهم، فيبقون في النار إلى أن يشاء الله ثم يخرجوا منها.
أما قوله: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] ، فلا دليل فيه على فناء النار؛ لأن الله قال: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} [النبأ:23-24] أي: هم لا يأكلون في الأحقاب، فلا يذوقون البرد ولا الشراب {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:25] ، وماذا بعد الأحقاب؟ بعدها: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30] .(77/25)
حكم الجلالة
السؤال
إذا أكل الطائر الدم هل يحرم أكله؟
الجواب
إذا كانت الطيور التي في بيتك تأكل الدم ولم تذبح إلا بعد ثلاثة أيام فلا بأس بتركها تأكل من الدم، فالدم ليس بحرام على الجلالة، والجلالة: هي التي تأكل الجلة والعذرة، الجلة: المعروفة عند الفلاحين، لكنها لغة عربية، فالجلالة التي تأكل الجلة والعذرة، لكن هل هي من كل الدواب أو من دواب مخصوصة؟ فمن العلماء مثل ابن حزم الظاهري قال: الجلالة: من ذوات الأربع: كناقة مثلاً تأكل هذه القاذورات أو كبقرة مثلاً تأكل هذه القاذورات، أو كشاة، أو كجدي، أو أي شيء من ذوات الأربع.
وقال غيره من العلماء: إن الجلالة كل ما يأكل الجلة أو العذرة سواء كان من ذوات الأربع أو من ذوات الرجلين، وقد ورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن لحوم الجلالة وعن ألبانها) ، وفي بعض الروايات: (وعن ركوبها) ، إلا إذا حبست ثلاثة أيام، فالزيادة التي فيها: (وعن ركوبها) ، إن ثبتت فتدل على أن الجلالة من ذوات الأربع، لكن هل يفيد هذا الحديث الحصر؟ لا يفيد الحصر فذوات الأربع منها جلالة وأيضاً الطيور منها جلالة، فالراجح -والله أعلم- في الجلالة: أنها كل ما يأكل الجلة والعذرة سواء كان من ذوات الأربع أو من ذوات الرجلين، ولماذا نهى الرسول عن ركوب الجلالة؟ مثلاً: ناقة تأكل العذرة وتأكل الجلة، لماذا نهى الرسول عنها؟ قال بعض العلماء: إنها إذا كانت تأكل العذرة وتأكل الجلة، أحياناً إذا كنت تركب الدابة -الحمار أو الفرس أو الناقة- تأتي تلحسك بلسانها، فلما تلحسك بلسانها تنجس، ثيابك وتنجسك؛ لأن لسانها ملوث بأكل العذرة، وإذا ذبحتها وجئت تأكلها طعامها لا يهضم، فأنت تشعر بالعذرة التي أكلت، وأنت مثلاً إذا ذبحت الآن دجاجة أو ذبحت بطة أكلت فول أو ذرة، بمجرد الذبح تجد الفول والذرة ما زال في بطنها لم يهضم، فيستقذر أكل الجلالة لأن آثار تلك العذرة لا تزال فيها، والرائحة أيضاً تجدها حتى في لحمها بعد ذبحها، فكيف العمل؟ العمل ألا تذبح الجلالة التي أكلت الجيفة الآن وتأكلها، والنفس تعاف هذا وتستقذره، لكن النهي عنها ليس من باب التحريم المطلق الدائم؛ لأن الله يقول: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام:145] ، ولم تذكر الجلالة هنا، فالنهي عن أكل الجلالة مؤقت بوقت، فإن حبست ثلاثة أيام، وعلفت بطعام نظيف؛ فتعود حلالاً طيباً.(77/26)
تفسير سورة المزمل [2] وسورة المدثر [1]
يظهر في سورة المزمل جلياً أنها سورة مكية؛ حيث يظهر فيها الاهتمام بتعميق الإيمان باليوم الآخر، من خلال التذكير بما يكون في ذلك اليوم من أهوال تشيب لها مفارق الولدان، وما ينفع العبد في ذلك اليوم من عمل، ويتركز الاهتمام على قيام الليل؛ لما له من أثر في صياغة الشخصية المؤمنة التي يريدها الله.
أما سورة المدثر فإنها من أوائل ما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام، لذا جاء فيها إعلام من الله لنبيه أن وقت النوم قد مضى، وساعة إنذار العباد قد حانت، ولذا يجب الاستعداد لتحمل تبعات الدعوة، بتعظيم الرب، وطهارة الظاهر والجنان، والاعتماد على المنان، والصبر على المكاره في سبيل الرحمن، استعداداً ليوم العرض على الديان.(78/1)
تفسير قوله تعالى: (فكيف تتقون إن كفرتم.)
الحمد لله، والصلاة والسلام على ررسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول الله: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل:17] ، فكيف تدفعون وتتقون -إن كفرتم- يوماً يجعل الولدان شيباً لما فيه من الأهوال؟! أخرج البخاري ومسلم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله سبحانه وتعالى لآدم يوم القيامة: يا آدم! أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ يشيب الصغير، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] ، فشق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! وأينا ذلك الواحد؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد، أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده! إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة) .(78/2)
تفسير قوله تعالى: (السماء منفطر به.)
قال سبحانه: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل:18] أي: السماء مع قوتها وشدتها وتماسكها الآن -كما وصفها الله بقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] أي: التي حبكت وشد بعضها إلى بعض شداً قوياً- تتفطر يوم القيامة من شدة الأهوال! فإن قال قائل: لِم لم يقل: السماء منفطرة به، على التأنيث؟ قال بعض العلماء: إن هذا جرى على النسب، فالمعنى: والسماء ذات انفطار به، كما يقال في المرأة: المرأة حائض، ولا يقال: المرأة حائضة، وكما يقال: امرأة مرضع، ولا يقال: امرأة مرضعة.
وقال بعضهم: إن معناها: والسماء ذات انفطار بهذا اليوم، أي: أنها تنفطر أي: تتشقق، كما في الحديث: (قام النبي عليه الصلاة والسلام حتى تفطرت قدماه) أي: تشققت قدماه، فمن شدة أهوال يوم القيامة تكون الجبال كثيباً مهيلاً، فتتحول الجبال مع شدتها وتماسكها إلى الكثيب المنهال، أي: الرمل المهال، والسماء كذلك مع شدتها وشدة حبكها تتقطع من شدة الأهوال، {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل:18] كان وعد الله كائناً.
قال الله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:19] أي: طريقاً يقربه من الله سبحانه وتعالى.(78/3)
تفسير قوله تعالى: (إن ربك يعلم أنك.)
قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل:20] أي: أن أمرك لا يخفى على الله سبحانه وتعالى، هو يعلم حالك ويعلم قيامك كما قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] ، وكما قال سبحانه وتعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] ، وينبغي أن تثار في مثل هذا الموطن الآيات والأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب المراقبة، وتعتقد يقيناً أن الله يراك عندما تعمل أي عمل، وهذه منزلة الإحسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، وفي هذا الباب يقول سبحانه ما سمعتموه: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] ، ويقول سبحانه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] .
ومن هذا الباب قول أبي بكر، للنبي صلى الله عليه وسلم وهما في الغار: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا! قال له: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما) ، فيجب أن يستحضر العبد هذا دائماً، تعلم في كل وقت وحين أن الله يراك، ومطلع عليك، وعالم بأحوالك، وبأقوالك، وبنياتك، وبما يصلحك، وبما يكون سبباً لفسادك، قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27] .
قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل:20] أي: طائفة من الذين آمنوا بك يقومون معك هذا القيام، أو يقومون مثل قيامك في بيوتهم، {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل:20] ، يعلم مقادير الليل ويعلم مقادير النهار، والتقدير أحياناً يطلق على الحساب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الدجال: (إن يوماً من أيامه كسنه، وإن يوماً من أيامه كشهر، وإن يوماً من أيامه كجمعة) الحديث، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا اليوم -يا رسول الله- الذي هو كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم واحد؟ قال: لا، اقدروا له قدره) ، فالتقدير يطلق أحياناً على الحساب، وله معان أخر.
{وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل:20] أي: يعلم مقادير الليل ومقادير النهار، وأوقات الليل وأوقات النهار.(78/4)
تفسير القرض الحسن
من أهل العلم من قال: إن القرض الحسن راجع إلى الزكاة، ومنهم من قال: إن القرض الحسن هو: الصدقة التي هي نفل وتطوع.
والله أعلم.
{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل:20] ، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا تصدق أحدكم بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله سبحانه وتعالى يأخذها بيمينه، فيربيها له كما يربي أحدكم مهره أو فلوه، حتى تكون التمرة كالجبل العظيم) ، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [المزمل:20] ، أي: أكثروا من الاستغفار، فإن الاستغفار سبب في محو الخطايا ورفع الدرجات وسبب في استجلاب الأرزاق، {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود:52] ، وسبب في دفع المصائب عن العبد، {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل:20] .(78/5)
معنى الضرب في الأرض
وقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] ، من العلماء من قال -كـ السيوطي رحمه الله تعالى-: إن هذه الآية أصل في التجارات، ألا وهي قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] ، فالسفر والضرب في الأرض وطلب الرزق ليس بطاعن في دين العبد، بل هو شيء مستحب، وقد تقدمت جملة أدلة في ذلك، منها قول الله تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20] ، وقال عمر: ألهاني الصفق في الأسواق، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يلهيهم الصفق في الأسواق، وكنت أصحب النبي صلى الله عليه وسلم على شبع بطني، أو كما قال.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] ، ففيها بيان مشروعية التجارة والاكتساب والسفر طلباً للرزق الحلال.
وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل:20] ، أي: كل في تخصصه: التاجر في تجارته، والمجاهد في جهاده، والمصلي في صلاته، والقارئ في قراءته، {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] ، (اقرءوا ما تيسر منه) أي: من القرآن في صلاة الليل أو بصفة عامة، فعلى هذا أصبحت هذه الآية ناسخة لقوله تعالى -على رأي الجمهور-: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1-2] ، وقد قدمنا أن قيام الليل كان واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، ثم نسخ بهذه الآية: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [المزمل:19-20] أي: حافظوا على أدائها وركوعها وسجودها {وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المزمل:20] .(78/6)
حكم قراءة الفاتحة في الصلاة
وقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] ^، أخذت منه جملة مسائل فقهية يهمنا منها مسألة حكم قراءة الفاتحة في الصلاة، وقد وقع الخلاف في ذلك بين العلماء، فمن أهل العلم من قال: إن قراءة الفاتحة واجبة في كل صلاة فرضاً كانت هذه الصلاة أو نفلاً، وسواءً كان المصلي منفرداً أو مع جماعة، إماماً كان أو مأموماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، قال: والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، فتجب الفاتحة على هذا الرأي في كل صلاة يصليها العبد منفرداً كان أو وفي جماعة، مأموماً كان أو إماماً، في فرض كان أو في نفل، فعلى هذا الرأي إذا أدركت الإمام راكعاً وركعت معه؛ لا تحسب لك هذه الركعة، ويلزمك أن تأتي بركعة جديدة، وهذا رأي الإمام البخاري رحمه الله تعالى وطائفة من أهل العلم، واستدلوا بحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، أما الجمهور فقالوا: إن قراءة الفاتحة لا تجب في الصلاة الجهرية، واستدلوا بأحاديث منها حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) ، وكل طرق هذا الحديث ضعيفة.
ومنها أحاديث استنبط منها الحكم استنباطاً كما في قصة إدراك أبي بكرة للركوع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما جاء متأخراً ودخل في الصلاة والنبي راكع، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام -بعد أن انصرف من الصلاة- (زادك الله حرصاً! ولا تعد) ، قالوا: لم يأمره النبي بالإتيان بركعة جديدة فعلى ذلك يكتفي المؤتم بقراءة الإمام، وإذا أدرك الإمام وهو راكع كتبت له ركعة، وهذا رأي الجمهور، ومن العلماء من قال: إن قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] ^ يفيد: التخيير، وقد ذهب طائفة من الأحناف إلى أنه: إذا قرأ العبد أي شيء من القرآن في صلاته جازت الصلاة وصحت الصلاة لعموم قوله تعالى: (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) ، ولما ورد في بعض طرق حديث: المسيء صلاته: (فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، وفي بعض طرق هذا الحديث: (اقرأ بفاتحة الكتاب ثم بما تيسر) ، وفي طرق أخر: (فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) .(78/7)
معنى قوله تعالى: (علم أن لن تحصوه)
قال الله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] ، لأهل العلم جملة أقوال في قوله تعالى: (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم) أي: علم أنكم لن تستطيعوا تقدير أوقات الليل وتقدير أوقات النهار، فتاب عليكم من هذا التحديد بقيام أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وهذا خوطب به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعترض عليه بما اكتشف الآن من وسائل لضبط الأوقات، فالخطاب كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا التأويل {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] أي: علم أنكم لن تستطيعوا ضبط أوقات الليل وضبط أوقات النهار، وضبط منتصف الليل، وضبط ثلث أو ثلثي الليل {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] ، (تاب عليكم) أي: رجع عليكم بالتخفيف.
فالتوبة من معانيها: الرجوع، تاب فلان من ذنبه أي: رجع فلان من ذنبه، تاب الله عليك: عاد عليك بالرحمة بعد أن حجبت عليك الرحمة بسبب الذنب.
{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] أي: رجع عليكم بالتخفيف وإزالة هذا التكليف الذي كلفكم، به فتاب عليكم وعفا عنكم، كما في قوله تعالى في خواتيم سورة البقرة: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة:286] ، هناك معنى للعفو، ومعنى للمغفرة، ومعنى للرحمة، العفو: المحو والإزالة، والمغفرة: التغطية وستر الذنب، وقولهم في الجاهلية: (إذا برئ الدبر، وعفا الأثر -أي: محي أثر البعير- ودخل صفر، حلت العمرة لمن اعتمر) أما المغفرة من: المغفر الذي يغطي الرأس، فقد يكون الشيء موجوداً لكنه غطي عليه، لكن العفو محوه وإزالته، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا} [المزمل:20] .(78/8)
تفسير قوله تعالى: (ياأيها المدثر)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:1-3] .(78/9)
أقوال العلماء في أول الآيات نزولاً
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: إن هذه هي أول سورة نزلت من كتاب الله، وخالفه الجمهور في ذلك فقالوا: إن أول سورة نزلت هي سورة العلق، وذلك عندما جاء الملك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ! فكرر عليه: اقرأ، فرد عليه: ما أنا بقارئ! حتى قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1-2] .
فالجمهور على أن أول سورة نزلت من كتاب الله هي العلق، ومن العلماء من قال: إن أول سورة نزلت من كتاب الله هي: سورة المدثر، ومنهم جابر بن عبد الله الصحابي، وجمع فريق من العلماء بين القولين بأن قال: إن أول ما نزل على رسول الله هي سورة العلق، ثم فتر الوحي، فبعد مدة نزل على رسول الله سورة المدثر، فالصحابي الذي قال: إن أول ما نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام هي سورة المدثر، قال ذلك باعتبار النزول الثاني، أي: أول ما نزل على رسول الله بعد الانقطاع سورة المدثر، أو قال ذلك بحسب علمه، والله أعلم.
الخلاصة: إما أن يقال: إن الصحابي أراد بقوله: إن أول ما نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام سورة المدثر: أي بعد انقطاع وفتور الوحي مدة، أو يقال: إن الصحابي قال هذا بحسب علمه رضي الله تعالى عنه.
أما المدثر فمعناها أيضاً: المزمل، فالمدثر: هو الذي تدثر بثيابه، أي: التف في ثيابه، وكما أسلفنا أن العرب كانوا إذا أرادوا أن يتلطفوا مع شخص في الخطاب ينادونه بصفة هي ملابسة له، كأن يقولون: (قم يا نومان!) ، أو (قم يا أبا التراب) ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، أما الأول فقاله لـ حذيفة بن اليمان يوم الخندق: (قم يا نومان!) ، والثاني قاله لـ علي لما كان مغاضباً لـ فاطمة رضي الله عنهما.
قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] أي: يا أيها الذي تدثر بثيابه وتلفف فيها وتغطى، قم من نومك واترك غطاءك وفراشك، (قُمْ فَأَنذِرْ) .(78/10)
سبب الاقتصار على الإنذار في قوله تعالى: (قم فأنذر)
وفي قوله تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2] من العلماء من أثار هنا تساؤلاً فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل مبشراً ونذيراً، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45] ، فلماذا اقتصر هنا على قوله: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2] ولم يقل: قم فبشر؟ فأجاب هذا القائل على هذا التساؤل بقوله: إن المقام مقام إنذار؛ لأنه لم يكن هناك أحد آمن حتى يبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالكل كفار، والبشرى تكون للمؤمنين، ولم يكن أحدهم قد آمن، ولذلك قال الله له: قم فأنذر، أي: أنذر هؤلاء الذين يندفعون إلى النار.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:1-3] أي: عظم ربك سبحانه وتعالى، ولا تخش إلا هو سبحانه وتعالى، ومن العلماء من قال: قل: الله أكبر، على ظاهر الآية، ومنهم من قال: إن معنى قوله: (وربك فكبر) أي: وربك فعظم، وربك فمجد.(78/11)
تفسير قوله تعالى: (وثيابك فطهر)
قال الله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] ما المراد بتطهير الثياب هنا؟ من أهل العلم من حملها على ظاهرها وقال: هذا أمر بطهارة الثياب.
وقيل: المقام مقام حثٍ على الدعوة، فلابد في مستهلها من طهارة القلب من الشرك، وطهارة النفس من الخبث، وكانت العرب تقول على الرجل الوفي في تعاملاته: نظيف الثياب، كما قال الشاعر: فإني بحمد الله لا ثوب غازل لبست ولا من غبرة أتقنع فمراده بقوله: فإني بحمد الله لا ثوب غازل لبست؛ أي: لا ثوب فاجر لبست، ولا من غبرة أتقنع، أي: أنه نظيف لم يغدر بأحد ولم يفجر.
فطهارة الثياب فسرت هنا بمعنيين: بمعنى طهارة الثياب حقيقة، وبمعنى تزكية النفس وطهارتها والبعد عن الرذائل.
وهنا مسألة: هل يشترط لصحة الصلاة طهارة الثوب؟ طهارة الثوب على التحقيق واجب مستقل من الواجبات، فإذا صلى شخص بثوب عليه نجاسة، هل الصلاة صحيحة أم ليست بصحيحة؟ فالتحقيق في المسألة -والله أعلم-: أن الصلاة صحيحة ويأثم على عدم تطهير الثوب إن كان لم يطهره عمداً، وإن كان لم يطهره سهواً فلا شيء عليه، والصلاة أيضاً صحيحة، ومما يدل على ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه، فخلع نعليه في الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم، فلما انقضت الصلاة، سألهم النبي: لم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما أذىً) ، ولم يعد الرسول التكبيرة التي كبرها والركعات التي ركعها وهو مرتدياً لذلك النعل الذي فيه أذى، فدل ذلك على صحة التكبيرة، ولو كانت الصلاة باطلة لخرج النبي وكبر للصلاة من جديد، فلما لم يفعل ذلك دل على أن من دخل في الصلاة وعلى ثوبه نجاسة وهو لا يشعر، وصلى أن الصلاة صحيحة ولا تعاد، أما من دخل الصلاة وفي ثوبه نجاسة وهو يعلم، فهذا آثم بمخالفته لقول الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] ، لكن الصلاة صحيحة، وإثم المخالفة مستقل، والله سبحانه وتعالى أعلم، وهذه مسائل لا تخلو من نزاع، كمسائل الأرض المغصوبة وغيرها من المسائل ومسألة الأرض المغصوبة هي: مثلاً شخص اغتصب أرضاً، فجاء قوم وصلوا في هذه الأرض وهم يعلمون أنها مغصوبة، هل الصلاة باطلة أم صحيحة؟ فيها نزاع قائم بين العلماء، والذي يظهر -والله أعلم- أن الصلاة صحيحة، وإثم اغتصاب الأرض والمساعدة على الإثم والعدوان فيها إثم قائم مستقل، والله أعلم.(78/12)
تفسير قوله تعالى: (والرجز فاهجر)
وقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] الرجز: المراد به الأصنام، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] ، واهجر بمعنى: اجتنب واعتزل.
وقوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] ، ما المراد بالمن هنا؟ فيه أقوال: القول الأول: إن المراد بالمن هنا: الإعطاء، فقوله سبحانه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أي: لا تعط أحداً عطية وتطلب أكثر من هذه العطية، كالذي يفعل مع الأمراء، كشخص يأخذ هدية مثلاً بألف جنية ويهديها للمحافظ أو للرئيس من أجل أن يعطيه المحافظ أو الرئيس قطعة أرض بمائة ألف مثلاً.
فالمعنى على هذا يكون: لا تعط عطية كي تحصل على أكثر منها، ففسر المن بالإعطاء كما تقول: شخص من علي بكذا، أي: أعطاني كذا، وتقول: أمنن علي مَنَّ الله عليك! أي: أعطني أعطاك الله! وكما قال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تمنن تمنن على شاكر، يعني: إن تعط تعط رجلاً شاكراً، وكما قال الله في آية أخرى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] .
القول الثاني: لا تستكثر بأعمالك، فإن أهل الكرم يفعلون كبير الفعال الخيرة ولا يلتفتون إليها ولا يستكثرونها، بل يفعلون كبار الأفعال وعظائم الأفعال النبيلة وهم يرون أنهم لم يصنعوا شيئاً، هذا فعل أهل الفضل، وأهل الخير يقدمون ما قدموه ويرون أنهم ما صنعوا شيئاً، كما قال القائل: وتصغر في عين العظيم العظائم، يعني: يفعل الشيء العظيم ولا يبالي به كأنه صغير، وغيره يفعل الفعلة الصغيرة ويعظمها تعظيماً زائداً.
فمعنى قوله: (ولا تمنن تستكثر) أي: لا تعط العطية وتتباهى بها، بل أهمل ما صنعت من معروف، ولا تذكره أمام الناس.
القول الثالث: أي: لا تعط العطية وتمن بها على الناس، وتكثر من منّك على الناس.
وقوله تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] من العلماء من قال: (ولربك) أي: ولعبادة ربك فاصبر كما قال: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65] ، فالمعنى: لطاعة ربك ولعبادة ربك فاصبر.
ومنهم من قال: إن معنى قوله: (ولربك فاصبر) أي: تحمل في سبيل الله سبحانه وتعالى من أجل إعلاء كلمته المشاق والصعاب، واصبر من أجل نصرة دين الله.(78/13)
تفسير قوله تعالى: (فإذا نقر في الناقور.)
قال الله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر:8] أي: نفخ في الصور، والنافخ هو: إسرافيل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وانتظر متى يؤمر) ؟ {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8-10] .
هل ذلك اليوم يسير على المؤمنين؟ وهل ينال المؤمن يوم القيامة من الكرب والهم والبلاء شيء أو أن يوم القيامة لا أثر فيه على المؤمن؟ هذه المسألة للعلماء فيها شيء من النزاع، فمنهم من يقول: إن المؤمن لا يناله شيء من الخوف ولا من الفزع، ودليل هذا القول قوله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] ، إلى غير ذلك من الآيات.
ومنهم من قال: إن أهل الإيمان ينالهم شيء من الفزع وشيء من الخوف وشيء من الهم والكرب، لكن مآلهم إلى الخير وهذا القول الأخير، تدل عليه جملة أدلة: منها حديث الشفاعة الطويل وفيه أن: (آدم يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري إني عصيت ربي وأكلت من الشجرة، ونوح يقول: نفسي نفسي، قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، وإبراهيم يقول: نفسي نفسي، إني كذبت ثلاث كذبات، وموسى يقول: نفسي نفسي، إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها) ، فالخلق كلهم يبلغ بهم من الهم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ودعوى المرسلين على جنباته -أي الصراط-: ربي! سلم سلم) ، وفي الحديث: (تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة) ، فكل هذه أهوال، والوقوف على الميزان: وقت من أوقات الأهوال، والمرور على الصراط: وقت من أوقات الأهوال، ودنو الشمس من الخلائق: وقت من أوقات الأهوال، وتناول الكتب بالشمال أو باليمين: وقت من أوقات الأهوال، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34-35] ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً، قالت: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض، قال: الأمر أشد من ذلك يا عائشة!) ، فكلها أدلة تدل على أن هناك نوعاً من الهول والفزع يعتري عموم الخلق، لكن مآل أهل الإيمان إلى خير إن شاء الله.(78/14)
تفسير قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً)
قال الله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] ، ذرني معناها: اتركني ومن خلقت وحيداً، وهذا للتهديد، من العلماء من قال: هو الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد خلق وحيداً، ومن العلماء من قال: كان فقيراً لا مال له ولا ولد، ومنهم من قال أقوال أخر.
وقوله: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر:12] الممدود: الواسع.(78/15)
الأسئلة(78/16)
حكم إزالة الشعر أثناء الدورة الشهرية
السؤال
ما حكم إزالة الشعر في أثناء الدورة الشهرية؟
الجواب
لا بأس به، ولا دليل يمنع من إزالة الشعر في أثناء الدورة الشهرية، ولا من قص الأظفار، ولا من نتف الإبط.(78/17)
حكم إلقاء الشعر المزال في دورة المياه أو سلة المهملات
السؤال
هل يحرم إلقاء ما نزع من الشعر في دورة المياه أو في سلة المهملات أم لا بد أن يدفن في التراب؟
الجواب
لا يلزم أن يدفن في التراب، وليس في هذا فيما علمت سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما يوضع في مكان لا أذية فيه على أحد من المسلمين.(78/18)
حكم مصافحة أم الزوجة وخالتها
السؤال
هل تجوز مصافحة أم الزوجة وخالتها؟ الجواز: بالنسبة لأم الزوجة تجوز، فأم الزوجة محرمة تحريماً مؤبداً، دخل الزوج بالزوجة أم لم يدخل، فإن الله قال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23] ، قال العلماء: هي مبهمة، يعني لم تقيد بالدخول من عدمه، فبمجرد العقد على الزوجة حرمت أمها عليك على التأبيد، فإذا عقدت على البنت حرمت الأم عليك على التأبيد، لكن إذا عقدت على الأم لم تحرم عليك البنت إلا بعد الدخول.
أما بالنسبة لخالة الزوجة فتحريمها مؤقت، فتحرم خالة الزوجة تحريماً مؤقتاً، فلا يجوز لك الزواج بها إلا إذا حصلت الفرقة بينك وبين زوجتك.(78/19)
حديث: الشريد الثقفي: (استنشدني النبي عليه الصلاة والسلام شعر أمية بن أبي الصلت ... ) ؟
السؤال
ما صحة حديث الشريد الثقفي أنه قال: (استنشدني النبي شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته، فأخذ يقول: هيه هيه، حتى أنشدته مائة بيت) ؟
الجواب
الحديث في صحيح مسلم.(78/20)
هل عدم محبة الأنصار ينفي الإيمان
السؤال
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (حب الأنصار من الإيمان وبغض الأنصار من النفاق) ، فهل عدم حبهم ينفي الإيمان؟
الجواب
المراد بالحب والبغض: الحب الشرعي والبغض الشرعي، فالذي يبغض الأنصار لكونهم ناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو منافق، والذي يحب الأنصار لكونهم ناصروا رسول الله فهو مؤمن، أما إذا دبت بينك وبين أنصاري مشكلة، فكرهت الأنصاري من أجل هذه المشكلة المادية فلا شيء عليك، فإن الزبير قد اختلف مع أنصاري في شراج الحرة، ونزل قوله تعالى في الأنصاري: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] ، والزبير مؤمن من العشرة المبشرين بالجنة.(78/21)
حكم الصلاة في الثوب الواحد
السؤال
ما حكم الصلاة في الثوب الواحد؟
الجواب
أولاً: لعل الأخ السائل فهم أن الثوب الذي كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام مثل الثوب الذي في زماننا، لا، ليس كذلك، إنما كانوا على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام يعنون بالثوب الواحد القطعة الواحدة، مثل الإحرام، فكان الشخص يرتديه، فيلف جزءاً منه على فخذه وعورته والجزء الآخر على كتفه.
فالرسول نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، لأنه ممكن ينزل أثناء الركوع فتنكشف العورة، ولذا لابد أن يكون الثوب الواحد على العاتق منه شيء، ويكون وساتراً للعورة، وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال: (أوكلكم له ثوبان؟) ، فيختلف الحكم بحسب الثوب، فما المراد بالثوب الواحد؟ هل هو القطعة التي يأتزر بها الشخص، ويأخذ شيئاً منها ويضعه على الكتف أو المراد بالثوب الواحد: القميص الذي نلبسه الآن (الجلبية) ؟ يختلف الحكم، وهل الجلبية شفافة أو غير شفافة؟ لم تدخل في الحكم.(78/22)
حكم مصافحة النساء من غير المحارم
السؤال
ما حكم مصافحة النساء المحرمات حرمة مؤقتة؟
الجواب
المحرمة حرمة مؤقتة لا تصافح ولا يسافر معها، مثل أخت الزوجة، فهي محرمة حرمة مؤقتة، فعندما تصافحها وتجلس معها قد يقع في قلبك حبها فتطلق أختها وتتزوجها، فمن كانت محرمة حرمة مؤقتة، لا يسافر معها، ولا تجوز مصافحتها، ولا الخلوة بها.(78/23)
حكم زواج الرجل من ابنة امرأة زنى بأمها
السؤال
هل يجوز نكاح رجل من ابنة امرأة زنى بها؟
الجواب
السؤال يحتاج إلى شيء من التوضيح، رجل زنا بامرأة، والمرأة لها بنت، فهل هذه البنت هي بنته من الزنا أو هي بنت المرأة من رجل آخر؟ فإن كانت بنتاً للمرأة من زوج آخر، فيجوز له الزواج بها، لأن الحرام -كما يقولون- لا يحرم الحلال، لكن منع من ذلك بعض العلماء حتى لا يصل إلى أمها بالفاحشة.
أما بنت الزنا: أي: البنت التي خلقت من مائه نفسه، فالجمهور على أنه لا يجوز له أبداً أن يتزوجها، وهذه من المسائل التي أخذت على الإمام الشافعي رحمه الله، حتى أنشد الشاعر البيت القائل: وإن شافعياً قلت قالوا بأنني أبيح نكاح البنت والبنت تحرم فقد نقل عن الإمام الشافعي: أنه يبيح نكاح المخلوقة من ماء الزاني، ويقول: إنها ليست بنتاً شرعية، فكما أنها لا ترث يجوز لك أن تتزوجها، وتعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأتى بإيرادات حسنة على من قال بهذا القول بصفة عامة، وقال: إن كنتم تعتبرون المقياس هو الإرث، فأختي من الرضاع حرام علي وهي لا ترثني ولا أرثها، ومع ذلك هي محرمة علي.(78/24)
حكم قراءة القرآن بدون مراعاة أحكام التجويد
السؤال
هل قراءة القرآن بدون أحكام التجويد جائزة؛ لأن ذلك سيساعد على الحفظ بسرعة مع العلم أنني أعلم أحكام التجويد، وأعرف كيف أقرأ بها؟
الجواب
إذا كان للتعلم ولسرعة الحفظ فالظاهر أن هذا جائز، والله أعلم.(78/25)
حكم قراءة القرآن بدون وضوء
السؤال
أحياناً وأنا في السيارة اقرأ القرآن بدون وضوء، فهل هذا جائز؟
الجواب
قراءة القرآن بدون وضوء جائز مع الكراهة، فالأفضل أن يتوضأ الشخص لقراءة القرآن، لكن إن قرأ بدون وضوء فالقراءة جائزة، لحديث عائشة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) .
أما بالنسبة لمسألة: هل يجوز للمحدث حدثاً أكبر أو أصغر أن يمس المصحف؟ الجواب: مسألة مس المصحف لغير المتوضئ مسألة خلافية، لكن العبرة بالدليل، فلا أعلم دليلاً صحيحاً صريحاً يمنع غير المتوضئ من مس المصحف، أما الآية الكريمة: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] ، فالجمهور على أن الضمير يعود على الملائكة.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يمس القرآن إلا طاهر) ، فالصواب أنه ضعيف، فعلى ذلك فرغ الباب من دليل يمنع من مس المصحف، والعبرة بالدليل، أما أقوال العلماء فهي كثيرة، ولا دليل صحيح صريح يمنع من مس المصحف للمحدث حدثاً أصغر أو أكبر.(78/26)
حكم الاجتماع للتعزية في بيت الميت
السؤال
هل الاجتماع عند أهل الميت للتعزية بدعة أم لا؟ وإن كانت بدعة فكيف أعزي أهل الميت؟
الجواب
هذه المسألة جاء فيها قول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (كنا نعد الاجتماع وصنعة الطعام لأهل الميت من النياحة) ، كنا نعد الاجتماع وصنعة الطعام لأهل الميت أو عند أهل الميت أو الأكل عند أهل الميت من النياحة، فهذا الحديث عليه مأخذ حديثي ومأخذ فقهي.
أما بالنسبة للناحية الحديثية فهذا الحديث مروي من طريق: هشيم بن بشير عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير، أخرجه ابن ماجة في سننه، وأيضاً أخرجه الإمام أحمد من طريق راوٍ يقال له: نصر بن باب عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير، فـ نصر بن باب اتهم بالكذب قال البخاري: يرمونه بالكذب، وهذا من مشايخ الإمام أحمد القلائل جداً الذين تكلم فيهم بالضعف بل بالكذب، مشايخ الإمام أحمد الذين رموا بالكذب قلة جداً، ومنهم هذا الشيخ، فمتابعة نصر بن باب لـ هشيم لا تعويل عليها من الأصل فاطرحها جانباً، فلا تعويل على رواية نصر بن باب.
بقيت رواية هشيم بن بشير عن إسماعيل عن قيس عن جرير، هشيم مدلس، وتدليسه في الحقيقة مؤثر، وخاصة إذا تفرد بإخراج الحديث ابن ماجة في سننه من بين أصحاب الكتب الستة، فتفرد ابن ماجة بإخراج الحديث بهذا السند مشعر بشيء من الضعف، لكن التعويل في التضعيف على أنه معنعن الإسناد، والحديث أورده الدارقطني في كتاب العلل الجزء المخطوط، وقال: رواه شريج بن يونس والحسن بن عرفة عن هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد، ورواه خالد المدائني فذكر إسناداً لـ خالد، لكن خالداً -أصلاً- متروك وكذاب، ثم قال الدارقطني في خواتيم مقالته: وخرجوه عن هشيم عن شريك عن إسماعيل، فكأن هناك واسطة بين هشيم وبين إسماعيل، ومن الذين خرجوه؟ الله أعلم، لكن الآن الإسناد الموجود أمامنا: هشيم عن إسماعيل وهشيم عنعن، وعنعنته مؤثرة مضرة، فتدليسه من النوع الشديد، فالحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حسنه بعض العلماء الأفاضل المعاصرين، لكن الذي تطمئن إليه النفس أن الحديث لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن حسنه يلزم بأن يأتينا بتصريح لـ هشيم بالسماع؛ لأن هشيم مدلس، هذا شيء.
الناحية الفقهية للحديث: الحديث في حالة ثبوته حمل فقرتين، كانوا يعدون الاجتماع وصنعة الطعام لأهل الميت، كما يفعل في بعض القرى عندما يموت ميت، يأتي المعزون للتعزية ويصنعون لهم طعاماً أشبه ما يكون بالوليمة، فالحديث اجتمع فيه فقرتان، فهل الواو في قوله: (كانوا يعدون الاجتماع وصنعة الطعام) ، للتشريك، أي: كانوا يعدون الاجتماع مع الأكل أو الواو بمعنى: أو؟ الظاهر الأول، والله أعلم، وعلى هذا درج الفقهاء، لكن إسناد الحديث -أصلاً- فيه نظر، وأقوال الفقهاء ينصب كثير منها على الاقتران بين الجلوس وبين الأكل، أما إذا مات ميت فتعزية من مات له ميت مشروعة، فالرسول عليه الصلاة والسلام عزى أصحابه، وأرسلت له ابنة من بناته تقول: إن ابنها نفسه تقعقع، وتطلب منه أن يأتي إليها، فأرسل التعزية، (وأخبرها أن لله ما أخذ، وأن له ما أعطى.
الحديث) ، فأقمست عليه أن يأتيها، فأتاها مع طائفة من أصحابه، فأتاها للتعزية مع طائفة من أصحابه فوجد الولد نفسه تقعقع.
الشاهد: أن الرسول أتاها للتعزية، وجلس ورُفع إليه الطفل، وذرفت عيناه بالدمع، فسأله سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟! قال: (هذه رحمة جعلها الله في قلوب عبادة) ، فالرسول جلس وجلس معه سعد بن عبادة، وجلس معه على ما يحضرني أبي بن كعب، أو طائفة من أصحابه، فهم جلسوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام.
أيضاً ذهب الرسول عليه الصلاة والسلام للتعزية عندما استشهد جعفر رضي الله عنه، فبعد ثلاثة أيام ذهب إلى بيت جعفر، فعزى آل جعفر على موت جعفر، وأتي له بأولاده فدعا لهم عليه الصلاة والسلام.
أيضاً في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها كان إذا مات لها الميت، وانصرف الناس وبقي أهل الميت، أمرت بالتلبينة فصنعت وقالت: إنها مذهبة للحزن، مجمة لفؤاد المريض، فكانت تأمر لهم بنوع من الطعام ليأكلوه، فالشاهد: أن أصل التعزية مشروع، والتعزية في حقيقتها نوع من أنواع المواساة وجبر الخاطر التي أتى بها ديننا.
فالظاهر -والله أعلم- أن أصل التعزية مشروع، فإن جاء المعزي إلى البيت وجلس خمس دقائق أو عشر دقائق فهذا جائز، لكن التكاليف التي تحدث في السرادقات والإحداثات والبدع هي المذمومة، لما فيها من تباهي، ولما فيها من أخذ أموال من تركة الميت، وفيها حق للأيتام، وتعطي للمقرئين المبتدعين وغير ذلك.
أما حديث: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) ، فلنا فيه نظر، وفي صحته نزاع، لكن على أن الأكثرية من العلماء صححوه، وهو بلفظ: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، إنه قد أتاهم ما يشغلهم) ، فيصير الحكم على سنية صنع الطعام لأهل الميت، وحديث عائشة في الصحيحين: (أنها كانت إذا مات لها الميت أمرت بالتلبينة فصنعت، فأكلت هي وأهل الميت، وقالت: إن التلبينة مذهبة لبعض الحزن، مجمة لفؤاد المريض) ، والمسألة مسألة فقهية.
ثم إن حديث الرسول: (اصنعوا لأهل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم) ، العلة أنه قد أتاهم ما يشغلهم، وهذا يفيد أنهم إذا كانوا غير مشغولين عن الطعام؛ فلا يشرع صنع الطعام لهم، فيختلف الحكم باختلاف التعليل الوارد في الحديث.
فالخلاصة: إذا كان يشق على أهل الميت صنع الطعام ترفع عنهم هذه المشقة، لحديث جعفر عند من صححوه، ونحن نحترم من صححه، وقد قال بمقتضاه الجمهور، والله أعلم.
أما حديث: (لا عزاء بعد ثلاث) ، فضعيف، وحديث جعفر: (أمهل الرسول ثلاثاً ثم ذهب إلى آل جعفر) ، صحيح، فتخصيص التعزية بثلاثة أيام لا أعلم عليه دليلاً.(78/27)
حكم المظاهرات؟
السؤال
ما الحكم في المظاهرات التي تحدث في الجامعات، مع العلم أن البعض يستدل على ذلك بخروج سيدنا عمر في أول إسلامه في صف من المسلمين أمام الكفار، وأن هذه المظاهرات هي كلمة حق عند سلطان جائر؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فالظاهر لي -والله أعلم- أن المظاهرات وسيلة محدثة، ما درج عليها سلفنا الصالح -من الصحابة- في القرون المفضلة، بل حتى بعد القرون المفضلة، فلم نعهد الإمام الشافعي قام بمظاهرة ولا الإمام مالك ولا الصحابة ولا التابعون، أما القصة المشار إليها ألا وهي قصة خروج حمزة على صف وعمر على صف، فالذي يحضرني الآن أن إسنادها ضعيف، ثم هي لا تصلح أن تكون دليلاً على التظاهرات المزعومة، والله أعلم.(78/28)
تفسير سورة المدثر [2]
يعرض الله سبحانه في سورة المدثر صوراً شتى، منها: صورة لحال المتردد المتشكك في هذا القرآن، الذي حار جنانه في وصف ونعت هذا الكلام، ثم بيان ما أعده الله له ولأمثاله من العذاب والنكال، والصورة الثانية: لحال المؤمن والكافر بآيات القرآن، وكيف يقف كل منهما أمام آياته، والصورة الثالثة: لموقف الكفار من دعوة الإسلام، واقتراحاتهم التعنتية التي تدل على مدى تكبرهم وطغيانهم وكفرهم.(79/1)
تفسير قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً)
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:11-15] .
قوله تعالى: (ذرني) أي: اتركني، ومن خلقته وحيداً، في قوله تعالى: (وحيداً) معنيان للعلماء: المعنى الأول: ذرني ومن خلقته فرداً وحيداً في بطن أمه.
والمعنى الثاني: ذرني ومن خلقت وحيداً يوم القيامة، يوم يأتي لا ناصر له ينصره مني، ولا مغيث يغيثه مني.
أي: اتركني مع هذا الرجل، يوم يأتي لا ناصر ينصره ولا شفيع يشفع فيه، ويأتي وحيداً يوم القيامة.
(ومن) بمعنى: الذي، أي: ذرني والذي خلقت وحيداً.
ومن المعني بقوله تعالى: (ومن خلقت وحيداً) ؟ أكثر المفسرين أنه الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد، وكل ما جاء بعد هذه الآية صفة له.
ومن العلماء من قال: هي عامة في كل كافر.
قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] ، هذا المراد منه التهديد، كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44] ، وكما قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل:11] ، فكل هذه المراد منها التهديد.
{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر:12] ، (ممدوداً) أي: كثيراً واسعاً، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:75] ، فالمراد بالمد هنا: الزيادة، أي: من كان في الضلالة فزاده الله ضلالاً إلى ضلاله.
قال تعالى: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر:12] أي: كثيراً واسعاً، {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر:14] أي: مهدت له في هذه الحياة تمهيداً، {وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر:13] ، والبنين الشهود: الشهود بمعنى: الحضور، ويراد بالشهود في بعض الأحيان: الشهود على الجرائم وعلى الأحداث، لكن المراد بالشهود هنا الحضور، وهذا المعنى قد تقدم عند قوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3] ، هل شاهد ومشهود معناها: راءٍ ومرئي أو معناها: حاضر ومحضور؟ تقدم التفصيل في ذلك.
قال تعالى: {وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر:13] ، فمن نعم الله عليه أن الله سبحانه وتعالى رزقه بأولاد ذكور، وجعلهم شهوداً بجواره، ليسوا في حاجة إلى السفر بعيداً عنه؛ لأن كل ما يحتاجه هو وأولاده متوافر عنده.
فمن نعم الله على هذا الرجل: أن الله رزقه بأموال كثيرة جعلت أولاده لا يحتاجون إلى سفر، فالسفر قال عنه عليه الصلاة والسلام: (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته فليرجع إلى أهله) .
فهذا الرجل امتن الله عليه بأولاد ذكور ليسوا في حاجة إلى سفر، لا للتجارات ولا للسعي على المعاش ولا لغير ذلك، فهم موجودون حوله يأكلون ويشربون ويتزوجون وينعمون، وليسوا في حاجة إلى الأسفار، فعينه تقر برؤية أبنائه بجواره.
فأفادت الآية الكريمة أن الذين يسافرون يتركون أثراً على قلوب آبائهم وعلى قلوب أمهاتهم، فمن نعم الله على هذا الرجل أنه لم يجعله في حاجة إلى أن يبتعد عنه أولاده.
{وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر:13-14] أي: وسعت له توسعة، {ثُمَّ} [المدثر:15] بعد هذه النعم {يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا} [المدثر:15-16] أي: لن نزيده، {إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:16-17] ، الإرهاق: التعب، (سأرهقه) : سأحل به التعب، تعب الصعود، وقد تقدم في تفسير سورة الجن، أن الله قال: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن:17] ، وهنا قال تعالى: (سأرهقه صعوداً) ، فمن العلماء من قال: إن الصعود: جبل في جهنم يعذب الشخص بصعوده عليه والنزول منه، فدلت هذه الآية على أن الصعود نفسه نوع من أنواع العذاب، وهذا ملاحظ كما قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] ، وأنت إذا صعدت إلى الطابق الخامس أو الطابق السادس تكون متعباً ومرهقاً، وكلما ارتفعت في الطوبق ازددت إرهاقاً، وأنت مستعد أن تمشي خمسة كيلو مترات ولا تصعد إلى الطابق العشرين مثلاً، فالصعود في نفسه نوع من أنواع التعذيب.(79/2)
تفسير قوله تعالى: (إنه فكر وقدر.)
قال الله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر:18] متى فكر وقدر؟ قال جمهور المفسرين: إنه فكر وقدر يوم أن استمع إلى حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأعجب بهذا القرآن غاية الإعجاب، وأثنى عليه ثناءً حسناً، ثم رجع إلى المشركين، فقالوا له: ما تقول في الذي سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم؟ هل هو شاعر؟ قال: أنا من أعلمكم بالشعر ما هو بقول شاعر، ولئن قلتم: إنه شاعر، فضحتكم العرب، قالوا: هو قول كاهن، قال: ليس بقول كاهن، أنا أعرف قول الكهنة، ليس هذا من أقوال الكهنة، قالوا: فماذا تقول؟ فحينئذ فكر وحاول يرتب ماذا يقول: {فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:18-19] ، أي: لعن، وقُتِلَ في القرآن في أغلب المواطن معناها: لعن.
{فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:19-20] أي: ثم لعن مرة ثانية لهذا التقدير الخاطئ.
{ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ} [المدثر:21-22] أي: كلح بوجهه {وَبَسَرَ} [المدثر:22] : ظهر الضيق على وجهه وجبينه، {فَقَالَ} [المدثر:24] : اختار هذه المقولة، {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24] ، اختار من اختياراته وأقواله الباطلة هذا القول: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24] أي: يؤثر عن الأوائل، أي: سحر مأثور ومأخوذ عن المتقدمين، {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، أي: ما هذا إلا قول البشر، قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، وسقر: النار، ومن العلماء من قال: إنها بعض دركات النار.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر:27] ، لتعظيم وتهويل شأنها، وتفخيم أمرها، وبيان شدة هولها.
{لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:28] ، لا تترك أحداً.
{لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:28-30] المراد بهم: الخزنة، أي: خزنتها وحراسها تسعة عشر ملكاً.(79/3)
تفسير قوله تعالى: (وما جعلنا أصحاب النار.)
قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} [المدثر:31] أي: ما جعلنا خزنة النار إلا ملائكة، ولم نجعلهم بشراً، إنما جعلناهم ملائكة، كما قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6] فخزنتها ملائكة.
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} [المدثر:31] أي: عددهم، {إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:31] ، فوقف الكفار يتساءلون فيما بينهم: لماذا هذا العدد بالذات تسعة عشر؟ لماذا هم تسعة عشر؟ هذا عدد غريب ليس كالواحد وليس كالثلاثة وليس كالاثنين وليس كالسبعة وليس كالعشرة، ليس كهذه الأعداد الشهيرة المتداولة بين الناس، حتى من نواحي الحساب لا يقبل القسمة إلا على نفسه، تسعة عشر رقم غريب على العرب، فقالوا: لماذا هذا العدد الغريب؟ ومن العلماء من نقل عن بعض كفار قريش أنه قال: تسعة عشر عدد يسير، فنحن قادرون على قتلهم وتحطيمهم واحتلال الجنة بالقوة! فكل مائة منا يوكل إليهم أمر ملكٍ من الملائكة يقتلونه ونحتل الجنة بالقوة! فجعل العدد فتنة للكفار، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} [المدثر:31] أي: عددهم {إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:31] وكما أسلفنا أن الآية كانت تنزل من كتاب الله يفتن بها أهل الكفر والنفاق، ويزداد أهل الإيمان إيماناً بهذه الآية، كما قال تعالى في شجرة الزقوم: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64] فقالوا: كيف تخرج الشجرة في وسط النار؟ النار تأكل الأشجار، فهذا وجه افتتان الكفار بالشجرة، أما أهل الإيمان فأجابوا: (إن الله على كل شيء قدير) .
كذلك في الإسراء: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60] فتن بها الناس، فتنوا بإسراء ومعراج الرسول عليه الصلاة والسلام، أما أهل الإيمان فيقولون: (إن الله على كل شيء قدير) .
قال الله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً} [المدثر:31] اختباراً وابتلاءً، والفتنة أيضاً تطلق على الصرف والتحويل، فتنته أي: صرفته عن الشيء، وفتنته أي: ابتليته بالنار، ومن المعنى الأول قول الشاعر: لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم وألقى مصابيح القراءة واشترى وصال الغواني بالكتاب المتيم قال الله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً} [المدثر:31] أي: اختباراً وابتلاء، وأيضاً صرفاً للكفار عن الإيمان كما قال تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:161-162] أي: بصارفين {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:163] .
قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المدثر:31] ، ليستيقن أي: ليزدادوا يقيناً، وكيف يستيقن الذين أوتوا الكتاب إذا سمعوا أن خزنة النار تسعة عشر؟ يستيقنون ويعلمون أن هذا القرآن حق من عند الله؛ لأن في كتبهم ما يفيد أن الخزنة تسعة عشر، إذا كان الكتابي اليهودي أو النصراني يقرأ في التوراة وفي الإنجيل أن خزنة النار تسعة عشر، ويرى أن هذا القرآن الكريم أتى يؤكد هذا، ويفيد أن خزنة النار تسعة عشر ازداد يقينهم أن هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى، فهذا هو المراد بقوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المدثر:31] أي: ليزدادوا يقيناً إذا علموا أن هذا القرآن {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام:92] أي: مصدق للكتب التي أتت من قبله.
{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] وأهل الإيمان أيضاً إذا علموا أن الذي جاء به الرسول محمد عليه الصلاة والسلام يوافق الذي جاءت به الكتب وأخبرت به الرسل من قبله، ازداد إيمانهم وتصديقهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآية أفادت معنىً ألا وهو أن طمأنينة القلب وزيادة الإيمان تحدث بتواتر الأدلة، وقد بوب لهذا بعض العلماء في باب طمأنينة القلب بتواتر الأدلة، واستدلوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة:260] أي: قد آمنت، {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ، فلا يطعن فيمن طلب مثل هذا الطلب، أي: رجل مؤمن يطلب مثلاً رفع شبهة عن شيء، أو الاستفسار عن شيء كي يزداد إيمانه؛ لا يطعن -أصلاً- في إيمانه، فإبراهيم قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] قال الله له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] الآيات، ولا يقولن قائل: إن هذا خاص بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو شرع لمن قبلنا وليس شرعاً لنا؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذا قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ)) قال ذلك ضمن حديث وفيه: (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي) ، ومطلع الحديث: (نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي)) .
وقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] فيه دليل لعقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزداد، وخالف في ذلك بعض أهل البدع، وقالوا: إن الإيمان لا يزداد، والآية نص صريح في زيادة الإيمان: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] ، وقال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ} [آل عمران:173] ، أي: سماعهم هذا القول زادهم {إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] ، ففي الآيات بيان لزيادة الإيمان، وكذلك نقصان الإيمان من عقيدة أهل السنة لحديث: (أخرجوا من النار من قال: "لا إله إلا الله" وفي قبله من الخير ما يزن ذرة) ، (ومن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقبله، وذلك أضعف الإيمان) ، وهذا مرئي مشاهد، قد يقوى إيمانك الآن فتقدم على فعل خير كثير، وقد يقل إيمانك غداً فتتراجع عن خير كثير.
قال تعالى: {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} [المدثر:31] أي: لا يتطرق إليهم شك في صدق هذا الرسول، (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ} [المدثر:31] هذا تفريق بين الذي في قلبه مرض وبين الكافر، فالذي في قلبه مرض: هو رجل شهد أن "لا إله الله وأن محمد رسول الله" بقلبه وبلسانه، أما قلبه فما زال مريضاً ومرتاباً، وكم من قائل: "لا إله إلا الله محمداً رسول الله" وفي قلبه مرض.
ومن ثم قال رب العزة سبحانه: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] ، بعضهم في قلبه مرض من ناحية النساء مثلاً، إذا كلم امرأة أي كلمة، وأجابته بأي إجابة فيها نوع من الرفق؛ فيحملها محملاً سيئاً، فيقول في نفسه: ما كلمتني بهذه الطريقة إلا لأنها تحبني وتطمع في، ويجد إليه الشيطان سبيلاً من هذا الطريق.
فهناك قوم شهدوا أن لا إله إلا الله بألسنتهم ومع ذلك في قلوبهم مرض، وذكرهم الله في آية أخرى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:60] .
وقال تعالى: { (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المدثر:31] اللام هنا: هل هي لام العاقبة؟ أي: تكون عاقبة الأمر وعاقبة نزول هذه الآيات أن يقول الذين في قلوبهم مرض: كذا وكذا، كما في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] هم في الحقيقة ما التقطوه -أبداً- كي يكون لهم عدواً وحزناً، إنما التقطوه فكانت عاقبة التقاطه أنه كان لهم عدواً وحزناً، فتسمى اللام التي في قوله: (فالتقطه آل فرعون ليكون) لام العاقبة أي: كان عاقبة الأمر أن كان لهم عدواً وحزناً.
{وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدثر:31] ما هذا المثل الذي يريده الله بهذا العدد؟ هم في شك وارتياب من هذا العدد وهذا المثل، أما أهل الإيمان فيعلمون كما أسلفنا (أن الله على كل شيء قدير) وأن الملك الواحد قادر -بإذن الله- على أن يدمر الأرض ومن عليها.
قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر:31] فيه أن الإضلال أيضاً من الله، وخالفت طائفة من أهل البدع في هذا، وقالوا: ليس الإضلال من الله سبحانه، ولكن تضافرت الأدلة على إثبات أن الإضلال أيضاً من الله، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] ، وقال النبي صلى الله عليه وس(79/4)
تفسير قوله تعالى: (كلا والقمر.)
{كَلَّا} [المدثر:32] ارتدعوا وانزجروا فليس الأمر كما تظنون أيها الكفرة والمنافقون، {وَالْقَمَرِ} [المدثر:32] ، الواو: واو القسم أقسم الله بالقمر، {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر:33] أدبر أي: ذهب وولى وانصرف، {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:34] أي: أضاء، أسفرت عن وجهها، أي: كشفت عن وجهها وأبانت عن وجهها، {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:34] أي: ظهر واستبان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أسفروا بالصبح فإنه أعظم للأجر) ، قال الله جل ذكره: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:34] .
{إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر:35] جمهور من العلماء قالوا: (إنها) أي: النار، (لإحدى الكبر) أي: الدواهي الكبيرة، {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} [المدثر:36] ، ومنهم من قال: إن تكذيبات المشركين بالبعث إحدى الكبائر العظيمة التي توردهم النار.
{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] يتقدم: بالطاعة إلى الله، ويتأخر: بالمعصية.(79/5)
تفسير قوله تعالى: (كل نفس بما كسبت.)
قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: سجينة ومحبوسة مرتهنة بعملها، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الغلام مرتهن بعقيقته) ، وكما قال سبحانه في الآية الأخرى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام:70] ، فقوله تعالى: (أن تبسل نفس بما كسبت) تبسل أي: تحبس في النار.
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر:38-39] لكن أصحاب اليمن {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ} [المدثر:40-41] .
لكن هل قوله تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر:39] يفيد أن أصحاب اليمين لا يرتهنون بأعمالهم؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: من العلماء من يحمل محامل ويؤول تأويلات ويقدر تقديرات فيقول: (إلا أصحاب اليمين) فإنا قد غفرنا لهم ما ارتكبوه من سيئات، وعفونا لهم ما اقترفوه من آثام، فهم إذاً في جنات يتساءلون بعد أن كفرنا عنهم السيئات.
القول الثاني: هي محمولة على أهل الشرك، أما أهل الإيمان فلم يقترفوا شركاً، فما ارتهنوا إذاً بشرك اقترفوه، والله أعلم.
{إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر:39] وهم أهل الجنة الذين أوتوا كتبهم باليمين {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] .
{فِي جَنَّاتٍ} [المدثر:40] أي: آل بهم المقام إلى جنات، فمقامهم ومستقرهم في جنات، {يَتَسَاءَلُونَ} [المدثر:40] ، أي: فيما بينهم، أو يسألون أهل الإجرام: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] أي: ما هو السبب الذي أوردكم هذا المورد وأنزلكم سقر؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:43-46] فسبب دخولهم سقر أربعة أشياء ذكروها: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:43-47] أي: حتى متنا على هذه الحال، فاليقين هو: الموت لقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ، اليقين هنا هو: الموت، وإن كان له معان أخر، ومن هذا الباب قول الرسول صلى الله عليه وسلم لامرأة قالت في شأن عثمان بن مظعون قولاً حسناً، فقال لها الرسول: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه) ، لما قالت: رحمت الله عليك! ظني أن الله سبحانه وتعالى قد رحمك، أو كما قالت، فقال لها الرسول: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه) فقولهم: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:47] يعني: حتى متنا على هذه الحال من ترك الصلاة ومنع المساكين، ومن الخوض مع الخائضين، ومن التكذيب بيوم الدين.(79/6)
هل الآية تدل على كفر تارك الصلاة؟
هل هذه الآية الكريمة تصلح للاستدلال على كفر تارك الصلاة؟ البعض يوردها في أدلة تكفير تارك الصلاة، وهي ليست صريحة في ليست صريحة في كفر تارك الصلاة؛ لأن دخول الناس سقر بأربعة أشياء، فهل الواو تقتضي التشريك؟ هذا الأظهر لقولهم: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:46] فهذا كفر اتفاقاً، فالذي يكذب بيوم الدين كافر اتفاقاً، لكن مثلاً الخوض مع الخائضين لا يُكفر فعله جملة؛ لأنه بحسب الخوض، فإن كان الخوض مع الخائضين في الشرك يكفر، أما إذا كان الخوض مع الخائضين فيما دون الشرك فلا يكفر فاعله، كذلك عدم إطعام المسكين في قولهم: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44] ، هل عدم إطعام المسكين كفيل بالحكم على الشخص بالكفر بمفرده؟ لا، ليس كفيلاً بالحكم على الشخص بالكفر بمفرده، وقد قدمنا شيئاً في هذا مفاده أن دلالة الاقتران لا تفيد التساوي في الأحكام، فمثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الزكاة ويؤتوا الصلاة الحديث) فترك الشهادتين كفر بالاتفاق، ترك الصلاة كفر على خلاف إلا إذا كان جاحداً لها، وترك الزكاة الجمهور على أنه لا يكفر تارك الزكاة إذا لم يكن جاحداً لها، فاقترنت هذه الأشياء في سياق واحد، وكل له حكم مستقل، فكما أسلفنا أن دلالة الاقتران لا تفيد التساوي في الأحكام في كل الأوقات، فشهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، تركها له حكم، وترك الصلاة له حكم، وترك الزكاة له حكم، فعلى ذلك يخدش في قول من قال: إن الخمر ليست نجسة نجاسة عينيه لاقترانها بالأنصاب والأزلام في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] فرجس معناها: نجس، قال بعضهم: لما اقترنت الخمر بالأنصاب والأزلام، والأنصاب ليست نجسة، فإذا لمستها لا تؤمر بغسل يديك، فلما اقترنت بها أصبحت النجاسة نجاسة معنوية، كذا قال، لكن هذا الاستدلال استدلال ضعيف؛ لأن الخمر مائع من المائعات ينتقل، أما الأنصاب جامد لا ينتقل، فلا يقاس المائع على الجامد، والله أعلم.
قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:38-43] ، تارك الصلاة مجرم من المجرمين.
{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:44-47] أي: الموت.(79/7)
تفسير قوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين.)
قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] فالآية في الكفار؛ لأن الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين؟ وهل كل الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين نعم لقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] إلا أبا طالب فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعل شفاعتي تنفعه، فهو في ضحضاح من نار يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) .
قال سبحانه: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر:48-49] أي: عن هذه المواعظ معرضين منصرفين، {كَأَنَّهُمْ} [المدثر:50] ، يصفهم الله، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:50] ، فكأن هؤلاء الكفار حمير نفروا وفروا، {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:51] القسورة: الأسد، فيصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء الكفار في فرارهم من رسول الله بالحمير التي فرت لما رأت الأسد، فالحمير إذا رأت أسداً تفر وتمعن في الفرار، وكذلك هؤلاء الكفار إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فروا وتولوا عن سماعه غاية التولي، وأعرضوا عن سماعه غاية الإعراض، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:50] فالله سبحانه وتعالى شبه الكفار هنا بالحمير، وفي موطن آخر شبه بعضهم بالكلب، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175] إلى قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] .
وشبهوا بالحمير كذلك في آية أخرى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] .
وشبهوا بالأنعام: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] .(79/8)
تفسير قوله تعالى: (بل يريد كل امرئ منهم)
قال تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:52] ، فكل واحد منهم يريد أن يوحى إليه، وتنزل عليه الرسالة، ويكون نبياً كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام نبي! كما قال الله عنهم: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124] فأجابهم الله بقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] ، وكما ذكر الله سبحانه وتعالى عنهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء:90] إلى قولهم: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:93] فكل واحد منهم يريد أن ينزل عليه كتاب، قال تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:52] ، فالآية تفيد أنه لا ينبغي أبداً أن يكون هناك تحاسد، فالتحاسد حملهم على الكفر، فلما سألوا هذا السؤال وأرادوا هذا الطلب قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] فليس لك إلا أن تقنع بما آتاك الله عز وجل.
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً * كَلَّا بَلْ} [المدثر:52-53] كلا أي: لن يؤتى أحد منهم هذه الصحف المنشرة {بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر:53-55] فمن شاء اتعظ ومن شاء لم يتعظ.
{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ} [المدثر:54-56] أي: وما يتعظون وما يعتبرون، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر:56] ، يعني: اتعاظهم واعتبارهم بإرادة الله، {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} [المدثر:56] أي: أهل لأن يتقى، وأهل لأن يخاف، وأهل لأن يخشى، {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56] أي: أهل لمغفرة الذنوب، فالآية مع أنها أفادت تجريم هؤلاء الكفار، لكن أيضاً فتحت باب التوبة لمن أراد أن يتوب ويرجع إلى الله، قال تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56] أي: استغفروه فهو سبحانه سيغفر لكم، فانظر إلى السورة، ذكرت طائفة من المجرمين والذم الوارد في حقهم، والعقاب الوارد في حقهم، ثم فتحت لهم باب التوبة لقوله: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56] ، كما ختمت السورة التي قبلها سورة المزمل بقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] ، وهذا مطرد في كتاب الله، تأتي التهديدات ويأتي الوعيد لمقترفي الكبائر ومرتكبي الذنوب، ثم يفتح لهم باب التوبة، وقدمنا لذلك جملة من النصوص كقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:59-60] .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68-70] .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:4-5] أي: أبواب التوبة مفتوحة.
وقال لقطاع الطرق: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:34] ، إلى غير ذلك من الآيات.
فختمت السورة بختام طيب مرغب للتائبين في التوبة، وكاسر للمقنطين الذين يقنطون الناس من رحمة الله، {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} [المدثر:56] أي: أهل لأن يتقى، أهل لأن يخشى، وهو أيضاً أهل للمغفرة، فمن استغفر ربه غفر له، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110] .
وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(79/9)
الأسئلة(79/10)
حكم من أتى زوجته في دبرها
السؤال
ما حكم من أتى زوجته في دبرها؟ وكيف يتوب؟
الجواب
مرتكب كبيرة عند جمهور أهل العلم، وعليه أن يستغفر الله سبحانه وتعالى، ويعمل عملاً صالحاً يوازي هذا الأمر، كأن يتصدق بمبلغ طيب أو يصلي صلاة كثيرة، أو يصوم صياماً كثيراً، أو يعتمر؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات.(79/11)
حكم الجمع بين أكثر من نية في صلاة النافلة
السؤال
هل يجوز الجمع بين أكثر من نية في الصلاة الواحدة؟
الجواب
الجمع بين أكثر من نية في الصلاة الواحدة يختلف من صلاة إلى صلاة، فيجوز الجمع بين نية صلاة الاستخارة مع تحية المسجد، أو صلاة الاستخارة مع ركعتي الظهر، أو مع ركعتي الفجر النافلة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليركع ركعتين من غير الفريضة) ، ويجوز كذلك تحية المسجد مع سنة الوضوء، لكن مثلاً: فاتتك سنة الفجر وفاتتك سنة الظهر، لا يجوز أبداً أن تجمع بين سنة الظهر وسنة الفجر ركعتين، فهناك مواطن يجوز فيها الجمع ويسوغ، ومواطن لا يجوز فيها الجمع بين النيات ولا يسوغ.(79/12)
حكم قراءة القرآن على القبور
السؤال
ما حكم قراءة القرآن على القبور؟
الجواب
لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء.(79/13)
ما حال حديث: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) ؟
السؤال
ما درجة حديث: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) ؟
الجواب
لعلماء الحديث فيه قولان من ناحية التصحيح، والحديث وإن كان عندي ضعيف في الإسناد، لكن معناه له شواهد ثابتة صحيحة، بل آيات يقول الله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] ، وحديث: (من غشنا فليس منا) ، إلى غير ذلك.(79/14)
ما حال حديث: (إن الله كره لكم قيل وقال ... ) ؟
السؤال
هل يثبت حديث: (إن الله كره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) ؟
الجواب
الحديث في الصحيحين، من حديث المغيرة بن شعبة، كتب به إلى معاوية: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) .(79/15)
ما المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (كثرة السؤال) ؟
السؤال
وما المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: بـ (كثرة السؤال) ؟
الجواب
المراد بكثرة السؤال: الأسئلة التي تحمل التنطع، وإذا أراد السائل المزيد، فهناك بحث واسع في "فتح الباري" في كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" في الجزء الثالث عشر من الفتح فليرجع إليه.(79/16)
حكم بيع الاسترتشات وبناطيل النساء
السؤال
ما الحكم في رجل يريد أن يفتح محلاً لبيع الاسترتشات والبناطيل للنساء؟
الجواب
بالنسبة للاسترتشات أغلب النساء تستعملها في التبرج، فنادراً تأخذ امرأة استرتش لتلبسه في البيت أمام الزوج، فإذا كان ذلك كذلك فليترك هذه المهنة، ولا يساعد على الإثم والعدوان، وكم الفرق بين من يبيع هذه الأشياء وبين من يبيع الخمارات، فالثاني فنفسه مطمئنة، ولا يساوره أي قلق أو شك، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: (الإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، فكيف وهذا الإثم ظاهر عياناً لكل الناس؟! إلى هنا وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(79/17)
هل يجوز لي أخذ مبلغ من المال مقابل خروجي من الشقة التي أنا فيها؟
السؤال
هل يجوز لي أخذ مبلغ من المال مقابل خروجي من الشقة التي أنا فيها؟
الجواب
إذا كنت ستأخذ مالاً من أجل خروجك من الشقة فلا، إلا إذا كنت دفعت الإيجار مقدماً، وتريد الخروج قبل انتهاء المدة، فيخصم منك مبلغاً نظير المدة التي قضيتها، وتسترجع الباقي، أما أن تأخذ شيئاً من المال مقابل خروجك من الشقة فلا، إلا شيئاً تكون قد دفعته مستقلاً عن الإيجار، والله أعلم.(79/18)
حكم امرأة تحتال من أجل استمرار معاش زوجها الميت لها
السؤال
امرأة مات زوجها، وترك لها معاشاً، ولها منه ولد، ثم تزوجت من رجل آخر، ولم تبلغ عن الزواج، وما زال المعاش يصرف لها، وخوفاً من قطعه تريد من زوجها أن يطلقها، ثم يتزوجها مرة أخرى بعقد عرفي حتى لا ينقطع عنها المعاش، فما الحكم؟
الجواب
لا تطاع، وهي آثمة ومزورة وآكلة ما ليس لها، أما المعاش فيأخذه الولد، أما هذه الحيلة التي تريدها هذه المرأة فلا يجوز لها ذلك، ثم إن زوجها مطالب بالإنفاق عليها كما هو معلوم.(79/19)
حال: (اقرءوا يس على موتاكم)
السؤال
(اقرءوا يس على موتاكم) ما حال هذا الحديث؟
الجواب
لا يثبت، لا يثبت في فضل سورة يس أي حديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا أي موطن تقال فيه سورة يس، إنما شأنها شأن سائر سور القرآن.(79/20)
حكم فتاة دخلت الجامعة بغير رضا أخيها
السؤال
فتاة انتهت من الثانوية الأزهرية، ورفضت دخول كلية الدراسات الإسلامية بجامعة المنصورة، رغم عدم الاختلاط فيها، وفضلت الجلوس في البيت، وساعدها على ذلك أخوها الملتزم، ولكن بعد مدة ندمت على هذا القرار، وتقدمت إلى الجامعة رغم عدم رضا أخيها؟
الجواب
النظر في المسألة من جهة: هل هي تسافر إلى الكلية بلا محرم أو لا تسافر؟ فإن كانت لا تسافر فالأمر قريب في هذه المسألة؛ لأنها كلية ليس فيها اختلاط من ناحية، وعلومها إلى حد ما لا بأس بها، وإن كانت ليست على الدرجة العليا من العلوم، لكن علومها لا بأس بها.(79/21)
سبب عدم ذكر البسملة في سورة براءة
السؤال
لماذا لم تبدأ سورة براءة بالبسملة؟
الجواب
البسملة ليست آية من سوءة براءة على رأي جماهير المفسرين، وعلل بعضهم ذلك بأنها كانت هي والأنفال سورة واحدة، فلذلك عثمان رضي الله عنه فكر كيف يصنع؟ هل يجعلها سورة واحدة أم يفصلها؟ والرسول أرسل أبا بكر يؤذن في الناس ببراءة، والشاهد: أنه أستقر رأيه على أن تثبت بلا بسملة، فيكون هذا الإثبات بلا بسملة قد جمع به بين القولين إلى حد قريب، ومنهم من قال: إنها لم تذكر فيها البسملة لكونها تسمى الفاضحة، وجاءت الآيات على هذا المنوال كلها تفضح أهل النفاق، والله أعلم.(79/22)
قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ... ) هل يسري هذا الحكم على الفراعنة؟
السؤال
قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين.
الحديث) ، هل هذا الحكم يدخل فيه الأقوام الذين ماتوا على الكفر، ولكن لم يخسف الله بهم مثل الفراعنة؟
الجواب
فيها قولان لأهل العلم، قيل: لا ندخل على المعذبين إلا إذا كنا باكين، لعموم وقوله: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين) ، فلما أشار إلى المعذبين دخل فيه كل معذب، وقول آخر: إنه خاص بقوم ثمود، لقوله: (هؤلاء) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.(79/23)
حكم نبش قبور المشركين لبناء مسجد مكانها
السؤال
هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مسجداً؟
الجواب
ورد في بعض الطرق أن مسجد الرسول كان فيه قبور وخرب، نبشت وسويت، فعلى هذا يجوز، والله سبحانه وتعالى أعلم.(79/24)
حكم من حج قارناً ولم يستطع ذبح الهدي ولا صيام ثلاثة أيام في الحج
السؤال
ما حكم من حج قارناً ولم تساعده الظروف كي يذبح الهدي، ولم يصم ثلاثة أيام في الحج لظروف صحية أخرى؟
الجواب
إذا كان الأمر قد انتهى، فـ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، وليصم عشرة أيام حيث كان، وأمره إلى الله؛ لقول الله عز وجل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] ، وهذا في المتمتع، والقارن يلحق به، والله أعلم.(79/25)
حكم الاستعاذة قبل القراءة
السؤال: هل نأخذ من قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] ، أن الاستعاذة واجبة؟
الجواب
الاستعاذة ليست على الوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ آيات من القرآن ولم يقدم بين يدي قراءتها استعاذة، فكان يخطب مثلاً ويقول: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ) ، ولم يرد أنه استعاذ بالله بين يدي الآية، ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين مقبلين في ثوبين أحمرين يتعثران، قال: (صدق الله إذ يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] ) ، ولم يقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فهذه الأفعال صارفة لقوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] من الوجوب إلى الاستحباب.(79/26)
تفسير سورة القيامة
في سورة القيامة تصوير بديع لمعاني هذا اليوم العظيم وأحداثه، يبدأ من الدنيا مروراً بالحياة فيها منذ الصغر إلى أن تأتي لحظة الفراق لكل شيء على ظهرها، ثم تذكر أن ما خلق أول مرة فإن الله قادر على أن يعيد خلقه مرة أخرى؛ ليحيا حياة النعيم والإكرام أو حياة الإهانة والإذلال.
وهذه السورة أيضاً قد ذكرت مسألة كبيرة يختلف فيها أهل السنة مع المعتزلة، وهي مسألة رؤية الله يوم القيامة، وقد ذكر الشيخ أدلة أهل السنة ورد على المخالفين.(80/1)
ضرورة تذكر اليوم الآخر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقد جاء اسم يوم القيامة بأسماء متعددة في سور كثيرة، كالقارعة والواقعة إلى غير ذلك، وجاء اسم القيامة صريحاً في هذه السورة، وكما أسلفنا أنه ما من سورة من كتاب الله إلا وأومأ فيها إلى ذكر البعث والحساب والنشور تصريحاً أو تلميحاً، وهذا أمر يجعل كل مسلم يتذكر الآخرة؛ ولذا اختص الله سبحانه أنبياءه عليهم الصلاة والسلام بهذه الخاصية، التي قال فيها: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [ص:45-46] أي: ميزناهم بميزة وخصصناهم بخاصية، فما هي هذه الميزة، وما هي هذه الخاصية؟ هي قوله تعالى: {ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] أي: تذكر الدار الآخرة.
فإذا تذكر العبد الدار الآخرة واعتقد حدوثها وكينونتها اعتقاداً يقينياً؛ حمله هذا الاعتقاد على إحسان العمل وإصلاحه، ثم سلامة العمل الذي هو فرع عن سلامة الاعتقاد، فلذلك يجدر الإكثار من التنبيه على الآخرة وأحداثها وأهوالها، وعلى الجنة والنار.
والناظر والتالي لكتاب الله يرى هذا المعنى مكرراً في عدة سور، بل والناظر إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يراها مليئة بإيراد هذا المعنى: إيراد الجنة والنار والمواقف والحساب، ومن ثم لا يلام أبداً من ذكَّر بالجنة وبالنار، كما يفعل أهل الغباء مع بعض إخواننا من العلماء الأفاضل الذين يكثرون من التذكير بالجنة والنار والتذكير بالموت.
يقول أهل الجهل وأهل الغباء: ما عندهم إلا التذكير بالجنة، وما عندهم إلا التذكير بالنار، وما عندهم إلا التذكير بالقبر! وفي الحقيقة أن هذا من أصول ديننا، نركز عليه في عموم سور القرآن، اللهم إلا يسير اليسير من السور التي لا يأتي له ذكر فيها صراحة.
فعلى ذلك ينبغي ويلزم الواعظ أو العالم أن يكثر في ثنايا وعظه وفي ثنايا تعليمه للناس من التذكير بالجنة والنار، فإنك إذا أيقنت بها هانت عليك الدنيا، وسهلت عليك المصائب، وسهل عليك الفقر، ولم تغتر بالغنى، إلى غير ذلك من مستلزمات الإيمان بالآخرة.(80/2)
تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بيوم القيامة.)
سورة القيامة يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] .
(لا) : لنفي شيء قد تقدم، فهو أقسم بيوم القيامة، فهذا كقوله: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] ، مع أن الله أقسم بالبلد.
وقد تقدمت مباحث ذلك باتساع في تفسير جزء عم.
فـ (لا) هنا نفي لشيء مستتر أو لشيء قد تقدم، فيقول الله سبحانه: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} وقد أقسم به في موطن آخر فقال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج:1-2] ، فأقسم الله باليوم الموعود وهو يوم القيامة فالله عز وجل يقسم بعظيم مخلوقاته، فلا يقسم بالنمل، ولا بالصراصير، ولا بالنحل مع أنها كلها من مخلوقات الله.
قال تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] ، ويوم القيامة كما وصفه تعالى في قوله: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل:17-18] .
{وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2] ، فما المراد بالنفس اللوامة؟ لأهل العلم في تفسير النفس اللوامة أقوال: قال فريقٌ منهم: ما من نفس إلا وهي تلوم صاحبها، إن فعل خيراً تلومه يوم القيامة: لِمَ لَمْ تزدد من فعل هذا الخير؟ لم لَم تكثر من فعل هذا الخير؟ وإن عمل شراً لامته نفسه: لم عملت هذا الشر؟ فحملوا (اللوّامة) على أن وقت اللوم يكون يوم القيامة.
ومنهم من قال: إن اللوم هذا يكون في الدنيا، فما من نفس إلا وهي تلوم صاحبها، فنفس المؤمن تلومه إن فعل المعاصي: لم فعلت هذه المعصية؟ ونفس الكافر، تلومه: لِمَ لم تكثر من فعل المعاصي؟ فكل نفسٍ تلوم صاحبها على هذا المعنى.
والنفس لها درجات وأعمال ومراتب، ولها أقسام: كنفوس خيرة ونفوس شريرة، وقد قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:7-9] ، فهناك أنفس فيها فجور وأنفس فيها تقوى، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] .(80/3)
حفظ الله لكتابه في صدر نبيه
{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16] .
الخطاب لرسول صلى الله صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء في البخاري من حديث ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك لسانه بالقرآن وجبريل يقرئه، فكان يقرأ القرآن مع جبريل أثناء قراءة جبريل، خشية أن يتفلت منه هذا القرآن، فيجتهد في حفظ القرآن مع جبريل، ويسرع بلسانه ويحركه حتى يأخذ ما ألقاه عليه جبريل.
قال ابن عباس: (فأنا أحركها كما كان رسول الله يحركها) ، قال سعيد بن جبير: (فأنا أحركها كما رأيت ابن عباس يحركها) ، وهذا الحديث يسميه العلماء: حديثاً مسلسلاً.
والحديث المسلسل: هو الحديث الذي يصحب القول فيه فعلٌ، مثل أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فيضحك، فيأتي الصحابي يذكر الشيء نفسه عن رسول الله فيضحك كما ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، فيأتي التابعي يروي الحديث عن الصحابي فيضحك كما ضحك الصحابي، فيكون الضحك قد تسلسل مع الكلام المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمثلاً لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من أهل الجنة يشتهي الزرع، فيطلب من الله سبحانه وتعالى أن يزرع) .
فالشاهد فيه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الحديث، فقال رجل من الأعراب: يا رسول الله هذا الرجل الذي يشتهي الزرع ليس منا، إنما هو أنصاري أو مهاجري، أما نحن فلسنا أهل زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فروى الصحابي الحديث فضحك، وهكذا.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه بالقرآن، فقال الله له: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16] .
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} [القيامة:17] لك في صدرك، {وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17] ، أي: قراءته، فالمعنى: علينا نحن أن نجمعه لك في صدرك، وعلينا أيضاً أن نعينك على قراءته.
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] ، أي: إظهاره.
{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة:20] ، والعاجلة هي الدنيا.
{وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:21] أي: تتركون العمل للآخرة.(80/4)
توبيخ الله للإنسان الفاجر
قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ} [القيامة:3] .
أي: أيظن هذا الإنسان الكافر الملحد: {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3] ؟ {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] ، البنان: هي أطراف الأصابع كما هو معروف، كما قال الله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] .
ما معنى قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} ؟ من العلماء من قال: إن معناها بلى قادرين على أن نجعل الأصابع كلها ملتصقة ببعضها، كخف البعير وحافر الفرس، فلا تستفيد منها حينئذٍ تلك الاستفادة التي تستفيدها بتفرق الأصابع.
ومنهم من قال: إن المراد التسوية في الطول، أي: نحن قادرون على أن نجعلها كلها مقاساً واحداً.
ومن العلماء من قال -وهو أيضاً قول لبعض الأوائل- تسويتها في البصمات ونحو ذلك.
{بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة:5] .
أي: يتمادى في المعاصي ويستمر فيها، والمعنى أنه يريد في أيامه القادمة أن يتمادى في معاصيه وفي غيه.
قوله: (يسأل) أي: يسأل مستهزئاً قائلاً: {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة:6] .
فيقول الله سبحانه: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة:8] أي: ذهب ضوؤه.
{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ} [القيامة:11] ، أي: لا ملتجأ، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13] .
من العلماء من حمل قوله تعالى: (ما قدم) أي: ما قدم من حسنات، (وأخر) أي: ما فعل من السيئات، كما في قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ} [المدثر:37] ، أي: بالحسنات، {أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] ، أي: بالسيئات.
قال تعالى: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14-15] .
من العلماء من قال: إن المعاذير: هي الستور، أي: ولو أسدل على نفسه الستور بالاعتذارات فهو يعرف تماماً ما صنع، كما قال الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] .
فمعنى الآية: إن الإنسان وإن جادل بالباطل، واعتذر عن نفسه باعتذارات؛ فهو يعرف تماماً ما صنع، وما ارتكب، وما اقترف، فهو في نفسه يعلم ذلك جيداً ولو حاول أن يستر نفسه أمام الناس، أو يلقي الاعتذارات.(80/5)
رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، في هذه الآية قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة، وهي: رؤية الرب عز وجل يوم القيامة، فمن الأصول عند أهل السنة: أن أهل الإيمان يرون ربهم يوم القيامة، وهذا أصلٌ تخالف فيه عدة فرق من فرق الزيغ.
أما الأدلة على هذا الأصل: فمن كتاب الله هذه الآية الكريمة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} ، أي: بهيجة حسنة علتها النضرة، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
فقوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
من المفسرين من حاول أن يفسر الناظرة بمعنى: المنتظرة، حتى ينفي مسألة الرؤية يوم القيامة، وقال: إن ناظرة هنا معناها: منتظرة بدليل قوله تعالى في سورة النمل حكاية عن ملكة سبأ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35] ، فقالوا: إن قولها: (فناظرة) أي: منتظرة، قالوا: فكذلك هنا قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، ويرد عليهم أولاً: أن أهل اللغة فرقوا فقالوا: إن هناك فرقاً بين قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وبين قولها: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35] .
وخيرٌ من هذا أن يقال: إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فسرت ما أجمل من الكتاب، فقد ثبت في الصحيحين من عدة طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم عياناً) .
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً صريحاً: (هل نرى ربنا يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هل تضارون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله) ، أي: هل يقع عليكم ضرر في رؤية القمر إذا كانت الليلة صحوة وليس هناك سحاب، قالوا: لا يا رسول الله، حتى وإن كان هناك زحام فإنك تنظر إلى الأعلى فترى القمر، قال: (هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترون ربكم كذلك سبحانه وتعالى) .
ومن الكتاب العزيز أيضاً: قال الله سبحانه وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه من طريق حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون ما الزيادة؟ إنها النظر إلى وجه الله تعالى) .
وهذا الحديث الذي فيه تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله قد انتقده بعض أهل العلم على الإمام مسلم كـ الدارقطني رحمه الله، فقال ما حاصله: إن الصواب فيه أنه من كلام عبد الرحمن بن أبي ليلى، ولم يتعد به إلى صهيب ولا إلى رسول الله، والواصل هو حماد بن سلمة -على ما يحضرني- والذي أوقفه هو حماد بن زيد على ما أذكر، والله أعلم.
إلا أن جمهور المفسرين في تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ، على أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى.
واستدل أيضاً على هذه الرؤيا، بالمفهوم المخالف في قوله تعالى في شأن الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، قالوا: فأهل الإيمان ليسوا بمحجوبين عن ربهم سبحانه وتعالى.
فهذه أصول استدلالات أهل السنة في هذا الباب.
أما المعترض على الرؤية فيقول: إن الله سبحانه وتعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام: (لن تراني) وذلك لما سأله رؤيته فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، فقالوا: إن (لن) تفيد التأبيد، فما دامت تفيد التأبيد إذاً لم تحدث الرؤيا ولن تحدث.
فأجيب عليهم: إن سلمنا أنها تفيد التأبيد، فهذا التأبيد في الدنيا، فلم ير أحد ربه فيها، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يحذر أمته من الدجال: (اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) ، فإذا قال شخص: هل نرى الرب؟ نقول له: نحن لا نرى الرب حتى نموت، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
واحتج النافون بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ، قالوا: فمن ثم لن يرى؟ فأجاب أهل السنة على ذلك بما حاصله: إن الإدراك شيءٌ أخص من الرؤيا، فقد أراك من بعيد لكن لا أدركك، قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء:61] ، أثبتت الرؤية، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا} [الشعراء:62] ، فحصلت الرؤية ولم يحصل الإدراك، فهناك فرقٌ بين الإدراك والرؤية.
وقد دارت نادرة بين سني ومعتزلي في اليمن، لما قال: السني: نحن سنرى ربنا يوم القيامة، فقال المعتزلي: لم نر ربنا يوم القيامة؟ وطالت الإيرادات وطال الجدل بينهما، فقال: السني: نأتي إلى كلمةٍ سواءٍ فيما بيننا: نحنُ نرى ربنا وأنتم لا ترون ربكم! ونحل الإشكال على هذا.
قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، ترى ما الذي جعلها ناضرة؟ إنه إيمانها بالله، وتلاوتها لكتاب الله، وحملها أيضاً لسنة رسول الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها) ، ونضرها أيضاً للوضوء كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل: (كيف تعرف أمتك من بين الأمم يا رسول الله يوم القيامة؟ فقال: إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء) .
قال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة:24] .
أي: كالحة مسودة، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:22] ، أي: قطب جبينه، وبسر، وكلح بوجهه.
قوله: {تَظُنُّ} [القيامة:25] أي: توقن، فالظن هنا: بمعنى اليقين، وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] ، {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] ، أي: أيقنت.
فمعنى قوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} ، أي: كالحة سوداء، مقطبة الجبين، {تَظُنُّ} ، أي: توقن: {أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:25] ، أي: أيقنت هذه الوجوه أنها فاقرةً، والفاقرة هي: المصيبة الكبرى التي تكاد تكسر فقار الظهر، فيظن أصحاب هذه الوجوه ويوقنون أن مصيبة من هذه المصائب ستحل بهم في هذا اليوم، أي: يوم القيامة.(80/6)
تفسير قوله تعالى: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ)
قال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] ، ما هي التي بلغت؟ قدمنا أن العرب تحذف كلمات من السياق لدلالة السياق عليها، فهنا: (إِذَا بَلَغَتِ) ، أي: الروح، كما في قوله: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] ، والتي بلغت الحلقوم هي الروح أيضاً، وقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] ، أي الشمس، {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] ، أي: النار.
فالعرب تحذف شيئاً من السياق إذا كان السياق يدلُ عليه وكان المخاطب يفهم هذا المحذوف، فيقول الله سبحانه: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] ، والتراقي: هي عظام الترقوة.
قوله تعالى: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} ، للعلماء فيه قولان: القول الأول: هل من شخصٍ يرقي هذا المريض، أو طبيب يداويه؟ وهذا معنى تقلده فريقٌ من المفسرين.(80/7)
حكم التداوي من المرض
وهل التطبيب يلحق بذلك؟ أعني: هل طلب العلاج من طبيب يأخذ حكم الرقية؟ لأن الرقية نوعٌ من أنواع العلاج، فهل أيضاً طلبُ العلاج والذهاب عند الأطباء يلحق بحكم الرقية؟ أي: هل يجوز لي أن أعالج غيري أو أطلب لغيري العلاج، لكن أنا في نفسي أتركه.
من العلماء من يقول: إن الأولى إذا كان الشخص يتحمل المرض ولا يؤثر عليه في حقوقه مع ربه ولا حقوقه مع الخلق، فالأولى له أن يترك، واستدلوا بحديث المرأة التي كانت تصرع، وأتت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إني أصرع فادع الله لي قال: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، قالت: أصبر ولي الجنة، ولكن ادع الله أن لا أتكشف، فدعا الله لها أن لا تتكشف) .
وكذلك حديث الرجل الأعمى الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إني رجل أعمى قد شق عليّ ذهاب بصري، فادع الله أن يرد عليّ بصري يا رسول الله؟ قال: إن شئت دعوت الله لك فشفاك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، قال: بل ادعه يا رسول الله، فقال له الرسول: توضأ وصل، وقل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة) الحديث إلى آخره.
فمن العلماء من بنى على هذين الحديثين: أن الشخص إذا كان يتحمل المرض ولا يؤثر هذا المرض على حقوق الآخرين من البشر، ولا يعوقه على الكسب لأولاده وزوجته، ولا عن سائر تعلقاته بالبشر، ولا يؤثر على صلاته ولا صيامه؛ فتحمله أولى، هكذا ذكر عددٌ من أهل العلم رحمهم الله تعالى.
ولا تعارض حينئذٍ بين هذا التقعيد، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله؛ فإن الله ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواء) .
وقالوا أيضاً: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما مرض وأتى الصحابة أو أهل بيته كي يلدّوه، أي: يضعوا الدواء في فمه رغماً عنه، أشار إليهم أن لا تفعلوا، فلما فعلوا رغماً عنه بعد أن عوفي قال: (لا يبقين أحدٌ في البيت إلا لدّ وأنا أنظر؛ إلا العباس فإنه لم يشهده) .
وهذا تحرير المسألة فيما علمت، والله أعلم.
ثم إن رمي الأحمال دائماً على الأطباء، والاعتقاد أنهم هم الذين يشفون؛ يورث الشخص قلةً في التوكل على الله، فكلما أصابك صداعٌ أو شيء ذهبت إلى الطبيب مباشرةً، هذا يفقدك الثقة بالله، ويريك دائماً التطلع على أن الشفاء من عند الأطباء، والله أعلم.
هذا قول، وهناك قول آخر لكن الأدلة عليه ضعيفة: وهو أن الملائكة تتأذى من الصعود مع هذا الكافر، إلى أن يكلف ملك الموت ملكاً، فمن نتن ريحه ومن قذارته يتمنع الكل إلى أن يقول: اصعد معه يا فلان.
وهذا قول لبعض المفسرين، لكن الأدلة الواردة عن رسول الله معناها يرفضه، والله تعالى أعلم.
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] ، أي: أيقن هذا الميت أنه الفراق، ولكنه في الحقيقة فراقٌ للأهل، لا لقاء بعده أبداً مع هذا الكافر إذا كان أهله مؤمنين، فلا يلتقيان أبداً إلا لقاءً يسمع فيه التوبيخ والتأنيب: {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:50] ، إلى غير ذلك من أوجه التأنيب والتعيير والتوبيخ.(80/8)
توضيح ما ورد في كراهية الرقية
وهذه نصوص كلها تدل على مشروعية الرقية، لكن ما هو توجيه الوارد من كراهيةٍ في شأن الرقية؟ الوارد من النهي في شأن الرقية، هو أن تطلب أنت لنفسك شخصاً يرقيك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من اكتوى) ، وإن كان للكي أيضاً حكم فيه تفصيل (أو استرقى) ، أي: طلب الرقية لنفسه: (من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل) ، أخرجه أحمد بإسناد حسن.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (هم الذين لا يسترقون) ، وورد هذا الحديث بلفظ في إحدى روايات مسلم من طريق سعيد بن منصور: (هم الذين لا يرقون) ، وقد حكم الحفاظ على هذه اللفظة في صحيح مسلم بأنها شاذة إسناداً؛ لأن جمهور الرواة رووا الحديث بلفظ: (لا يسترقون) ، وشاذة أيضاً معنىً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام رقى غيره.
فلفظة: (لا يرقون) ، وهمٌ من سعيد بن منصور، وعلى هذا جمعٌ من العلماء كالحافظ ابن حجر رحمه الله، وكشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعدد من أهل العلم رحمهم الله تعالى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (هم الذين لا يسترقون) ، أي: لا يطلبون الرقية.
ونحمل هذا الطلب على الرقية لأنفسهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم سلمة: (استرقي لها) ، أي: الجارية، وقال لـ أسماء بنت عميس: (استرقي لهم) أي: للأطفال، فالحاصل: أن طلب الرقية للنفس مكروه، لحديثين الأول: (من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل) .
والثاني: في قصة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب منها: أنهم (لا يسترقون) .(80/9)
جواز الرقية إذا كانت شرعية
وعند هذا المعنى تثار قضية الرقية؛ لأن الآية الكريمة ذكرت الرقية ولم تأمر بالرقية ولم تنه عنها، ولكن غاية ما أفادته الآية: أن الرقية عند الموت لا تنفع، فما هو حكم الرقية إذاً؟ حكم الرقية لا يؤخذ من حديث واحد، فالرقية منها رقية مشروعة وغير مشروعة، وتلحق بغير المشروعة أنواع الشعوذات والدجل الذي يفعله السحرة والكهان.
وثم رقى مشروعة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) ، أي: ما لم يكن فيه شرك جمعاً بين الروايتين، لكن هناك فرقٌ بين رقية الشخص لنفسه، ورقية الشخص للآخرين، وطلب الشخص من الناس أن يرقوه.
فإذا أتى شخصٌ يرقيك بلا طلبٍ منك فلا تمنعه، فقد جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا محمد اشتكيت، باسم الله أرقيك من كل شيءٍ يؤذيك، ومن شر كل عين ومس حاسدٍ الله يشفيك) ، فهنا جبريل رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى مريضاً قال: (أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم ارقاه جبريل وهو أيضاً قد رقى، وأيضاً حث على طلب الرقية لكن لغيرك، فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فرأى عندها جارية ورأى في وجهها سفعة، والسفعة: التغير والسواد في الوجه: (فسأل: ما هذا؟ قالوا: إن بها النظرة يا رسول الله؟ قال: فاسترقوا لها) ، أي: اطلبوا لها من يرقيها، والحديث في البخاري.
وأيضاً ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت جعفر بعد مقتل جعفر، ورأى أولاده كالأفراخ من شدة الضعف، فسأل أمهم أسماء: (ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ قالت: تسرع إليهم العين يا رسول الله، قال: استرقي لهم) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة ممن يرقين من النساء: (ارقيها وعلميها حفصة كما علمتيها الكتابة) .
وأيضاً في الصحيح أن صحابياً رقى رجلاً على قطيع من الغنم، ولما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، وكان قد رقاه بفاتحة الكتاب.
فيؤخذ من هذه الأخيرة: جواز رقية الكفار.(80/10)
تفسير قوله تعالى: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ.)
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] .
أهل العلم لهم أقوال في تفسير قوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] : القول الأول: أن الآية على ظاهرها، وأن ساق الميت اليمنى تلتف بساقه اليسرى عند الموت، وأنها أيضاً تجمع إلى ساقه اليسرى عند التكفين، فإنه تضم هذه إلى تلك.
هذا المعنى جار على تفسير الآية على ظاهرها، وقد قال به فئةٌ من السلف.
القول الثاني: (والْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) التقت الأهوال بالأهوال، فهو في هولٍ خروج الروح منه، وهول آخر وهو استقبال الملائكة السيئ الذي يستقبل به الكافر: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93] .
فالقول الأول مبني على الظاهر، أي: ساق الميت اليمنى التفت على ساقه اليسرى عند الاحتضار، وكذلك ضمت إليها عند التكفين.
والقول الثاني: أن الشدة التقت بالشدة، سواء كانت شدة خروج الروح وشدة الاستقبال المزعج من الملائكة الذين يستقبلون الكافر، أو أي شدائد أخر.
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30] ، أي: المسير إلى الله سبحانه وتعالى في هذه اللحظات.
قال تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة:31] ، أي: لم نعهد منه صدقات ولا تصديقاً أيضاً، بمعنى: لا الإيمان ولا الصلاة، {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:32] ، أي: كذب بالقرآن وأعرض عن الإيمان.
{ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [القيامة:33] ، أي: يختال ويفتخر.
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:34-35] .
من العلماء من قال: (أولى) هنا بمعنى ويلٌ؛ أي: ويلٌ لك، فالويل لك، ثم الويل لك، فالويل لك.
ومنهم من قال معنى قوله: (أُوْلَى لَكَ) ، أي: وليك العذاب، ثم أنت أولى به، ثم إن وليك العذاب، ثم أنت أولى به.
فعلى كلٍ هي نوع من أنواع التهديد الشديد.
{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] ، أي: هملاً بلا حساب، فمعنى (أيحسب) : أيظن الإنسان أنه خلق هكذا عبثاً كما في قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] ، فالله ينفي عن نفسه هذا العبث، فيقول في آية أخرى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:16-17] .
فالله يقول: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ} [القيامة:36] أي: أيظن الإنسان الكافر، {أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] ، أي: هملاً بلا حساب.
قال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة:37] ، أي: يراق ويسال، والمني هو المعروف، و (يمنى) أي: يراق.
قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة:38] ، {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:39-40] .
إذا تليت هذه الآية ماذا نقول؟ هل نقول: بلى، وربي قادر.
الجواب
الأسانيد الواردة في هذا الباب أننا نقول: (بلى وربي قادر) .
كلها لا يثبت منها شيءٌ عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي كل أسانيدها ضعف، لكن على العمل بها عند جمهور المفسرين، ولعل من أحسنها ما ورد عند تفسير قوله تعالى في سورة التين: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] ، أن يقال: (بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين) .
وقد نقل محمد عطية سالم حفظه الله في تتمته لأضواء البيان إجماع المفسرين على أننا نقول: (بلى وأنا على ذلك من الشاهدين) ، وإن كان الإسناد فيه رجلٌ يقال له: أبو مدينة، ومن الممكن أن يحسن حديثه، فهذا في سورة التين، ويجري أيضاً في سورة القيامة.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(80/11)
الأسئلة(80/12)
حكم صعق الذبيحة بالكهرباء
السؤال
ما حكم الذبائح التي يحصل عليها الجزارون من المسلخ الآن؟
الجواب
لا أعرف طبيعتها، لكن إذا كانت مذبوحة فسمِّ الله وكل، وهي فيها شبهة، والسائل يريد أن يقول: ماذا في شأنها؟ وهي جائزة إذا كانت مذبوحة، ولا أعرف أنها تصعق بالكهرباء.(80/13)
حكم حديث: (لم يجعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها)
السؤال
ما صحة حديث: (لم يجعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها) ؟
الجواب
الذي يحضرني الآن أنه موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه.(80/14)
حكم من قال لزوجته: أنت طالق إن ذهبت إلى كذا
السؤال
رجلٌ قال لزوجته: عليّ الطلاق ما أنت ذاهبه إلى المكان الفلاني، فهل يقع طلاقه؟
الجواب
مسائل الطلاق على صاحبها أن يسأل على انفراد؛ لأن لها تبعات، ويستفصل فيها المفتي والسائل.
أما هذه الحالة فهي محل نزاع، والنفس تطمئن إلى أنه لا يقع، وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى.(80/15)
تأخير التوبة عن المتخاصمين حتى يصطلحا
السؤال
أمي ذاهبة هذا العام إلى عمرة في رمضان، وهي على خلاف مع أحد الأقارب، فأنصحها بالصلح معه لكي يكون لها أجر حج، فهل هذا صحيح؟
الجواب
يذكرها بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تفتح أبواب الجنة في يوم الإثنين والخميس، فيغفر لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا) .
وفي رواية: (حتى يفيئا) ، فتؤخر التوبة عن الذين بينهم خصومة، وخاصةً إذا كانت خصومات في الدنيا، وأما إذا كانت الخصومات في الدين -وقليل من الناس من يخاصم بالله الآن- فلها شأنٌ آخر، فتنصح الوالدة التي هي على سفر إلى بيت الله الحرام أن تخفض جناحها للمؤمنين، والله يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] .(80/16)
صحة حديث: (نور أنى أراه)
السؤال
ما صحة حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنّى أراه) ؟
الجواب
حديث صحيح.(80/17)
المقصود بالتمرات التي يتقى بها السحر
السؤال
ما صحة حديث: (من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يصبه سمٌ ولا سحر) ، وما المقصود: بسبع تمرات عجوة؟
الجواب
العجوة في الحديث مقيدة (بعجوة العالية) أي: عجوة المدينة، وتمرات العجوة ليس كالعجوة التي في بلادنا العجوة المكبوسة، فهناك تمر اسمه العجوة، فعندنا مثلا بلح كباي وبلح معرش، وهناك بلح أيضاً اسمه العجوة، وهو بلح صغير أسود ويباع في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.(80/18)
صحة حديث: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي)
السؤال
ما صحة حديث: (استأذنت ربي أن استغفر لأمي فلم يأذن لي) ؟
الجواب
الحديث في صحيح مسلم.(80/19)
حديث: (حبب إلي من دنياكم.)
السؤال
ما صحة حديث: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) ؟.
الجواب
هذا الحديث ورد بلفظ: (حبب إليّ من دنياكم ثلاث) ، وهو بلفظ: (ثلاث) ، ضعيف، لكن بلفظ: (حبب إليّ من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) ، إسناده صحيح، لكن لبعض أهل العلم كلام في إعلاله، ولا يحضرني تفصيل هذا الكلام الآن، وقد أثبته في كتاب جامع إحكام النساء لمن شاء أن يراجعه، وهو موجود في بعض كتب العلماء.(80/20)
ضعف حديث: (صلوا وراء كل بر وفاجر)
السؤال
ما صحة حديث: (صلوا وراء كل برٍ وفاجر) ؟
الجواب
ضعيف، لا يثبت عن رسول الله، لكن في الباب حديث في شأن الأئمة الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها: (صلوا، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) ، وهو صحيح.(80/21)
حكم من يسبق الإمام سهواً
السؤال
ماذا يفعل المصلي الذي سبق الإمام في ركوعٍ مثلا أو سجود بدون قصد؟
الجواب
إذا كان دون قصد، بأن كان خطأ، فإن الله وضع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان، ولما قال المؤمنون: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] ، قال الله: (قد فعلت) .(80/22)
صحة ما يذاع من نكاح الجني للمرأة الإنسية
السؤال
كثر في الجرائد والمجلات مسألة الجن التي تجامع النساء والبنات، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هل بالفعل الجن تجامع النساء؟ في الحقيقة ما رأيت جنياً أو سمعت عن هذا في عهد الرسول، والذي يثبت لنا ذلك يأتينا بأي دليل يثبت أن الجن كانوا يجامعون النساء.
وقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] يفهم في ضوء أفعال الصحابة وفي ضوء الأحداث التي جرت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وغاية ما أفادته الآية أن الحوريات في الجنة، (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) ، لكن هل الجني ممكن أن يطمث؟ في حديث في إسناده -على ما يحضرني- عبد الله بن محمد بن عقيل وهو عندنا ضعيف الحديث، يقول النبي في شأن من الصحابة: (هذه ركضة من ركضات الشيطان) ، لكن في إسناده ضعف، ولا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن الواقع الذي حدث على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا توجد امرأة من الصحابيات جامعها جني أبداً! وأما أن نتوسع في هذا الباب، والجرائد تأخذه موضوعاً تشنع به على الإسلام وتشنع به على المسلمين، ويثأر العلمانيون بسببه من أهل الإسلام، وهو مادة خصبة لهم بالطبع، لكن السؤال المطلوب، هل ورد عن امرأة من الصحابيات أنها حصل لها شيء من هذا؟ لا أعلم شيئاً في هذا.
وأما حديث: (أن الرجل إذا جامع امرأته ولم يسم جامع معه الشيطان) فهو غير ثابت، بل هو ضعيف تالف، ولا يصح إلا حديث: (اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) ، لكن لا يفيد أن الشيطان يزني معه، والله أعلم.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والله أعلم.(80/23)
تفسير سورة الإنسان
سورة الإنسان من السور التي يعرض فيها الله حقيقة هذا الإنسان، وأين كان قبل أن يكون بشراً سوياً، ويعرض صورة مما أعده الله للمؤمنين في الجنة، من النعيم الدائم السرمدي، وما أعده الله للكافرين في النار من صور العذاب الأليم، وفيها تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام، وعرض لأساليب مجابهة الكفار التي تتمثل في الصبر وكثرة الذكر وقيام الليل.(81/1)
تفسير قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الإنسان في الركعة الثانية من فجر يوم الجمعة، وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ في الركعة الأولى من فجر الجمعة بـ (الم تنزيل) .
قوله تعالى: (هَلْ أَتَى) قال كثير من المفسرين: (هل) هنا بمعنى قد، فالمعنى: قد {أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] .
أما المراد بالإنسان: فمن العلماء من قال: إن المراد بالإنسان هنا آدم صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي قال إن المراد بالإنسان هو آدم صلى الله عليه وسلم، فسر الحين المذكور في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان:1] بأنه ما بين خلق آدم إلى أن نفخت فيه الروح.
ومن العلماء من قال: إن المراد بالإنسان هنا: بنو آدم، وهذا القائل فسر الحين من الدهر أنه الفترة التي كان فيها الإنسان نطفة إلى أن صُوِّر وشكل في بطن أمه.
فهذان قولان مشهوران في تفسير هذه الآية.
أحدهما: أن الإنسان هو آدم، والحين هو منذ خلق آدم إلى أن نفخت فيه الروح.
والثاني: أن الإنسان عام، والحين هو ما بين كونه نطفة في رحم أمه إلى نفخت فيه الروح كذلك.
{لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] أي: كان شيئاً مهملاً لا يذكر ولا يعرف.(81/2)
تفسير قوله تعالى: (إنا خلقنا الإنسان.)
{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} والإنسان هنا في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} هم بنو آدم يقيناً؛ لأن آدم صلى الله عليه وسلم لم يخلق من نطفة، إنما خلق آدم عليه السلام من تراب.
فقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} الإنسان هنا هم بنو آدم؛ لأن آدم ما خلق من نطفة، وهذا يجرنا إلى أن الكلمة تتعدد معانيها في كتاب الله سبحانه، فأحياناً يتسع معناها وأحياناً يضيق معناها، فكلمة الإنسان أحياناً تكون عامة يدخل فيها آدم وبنو آدم، وأحياناً تكون خاصة فيراد بها آدم وحده، أو بنوه فقط.
فقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} كما أسلفنا من العلماء من قال: هو آدم، وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} هم بنو آدم.
{مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} الأمشاج: هي الأخلاط، والمشيج: هو الخليط، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أي: أخلاط، وما المراد بالأخلاط؟(81/3)
تفسير قوله تعالى: (إنا هديناه السبيل.)
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان:3] : الهداية هنا هداية الدلالة، وليست هداية التوفيق، فالهداية هدايتان: هداية دلالة ومنها: (هذا هادٍ يهديني السبيل) أي: يدلني على الطريق، ولكن قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] أي: لا توفق من أحببت، فالهداية هدايتان: هداية دلالة يملكها البشر بإذن الله، وهداية التوفيق لا يملكها إلا الله سبحانه.
إذا علمت ذلك اندفعت عنك الإشكالات الواردة في الجمع بين الآيات كقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، فقوله: (إِنَّكَ لَتَهْدِي) أي: لتدل، و (إِنَّكَ لا تَهْدِي) أي: لا توفق.
قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي: بينا له الطريق، وأوضحنا له طريق الخير وطريق الشر كذلك، كما قال سبحانه في آية أخرى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: بينا له طريق الخير، وبينا له طريق الشر، فكان حال الناس لما بينا لهم الطريق، أن منهم شاكراً ومنهم كافراً، {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] فالمعنى: إنا بينا للإنسان الطريقين: طريق الخير وطريق الشر، فآل أمر الناس إلى قسمين: منهم الشاكر، ومنهم الكافر، أي: منهم من سلك طريق الخير شاكراً لنعمة الله عليه في البيان، ومنهم من سلك طريق الشر كافراً بنعمة الله عليه في هذا البيان.(81/4)
تفسير قوله تعالى: (إنا أعتدنا للكافرين.)
{إِنَّا أَعْتَدْنَا} [الإنسان:4] أي: أعددنا، {لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا} أي: سلاسل توضع في الرقاب، ويسحبون بها في النار على وجوههم، {سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان:4] وتقدم الكلام على ذلك.
فقوله سبحانه: (إِنَّا أَعْتَدْنَا) يفيد أن النار مخلوقة الآن، لأن الله قال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا) ، وهذا من معتقدات أهل السنة والجماعة أن النار مخلوقة الآن، وأشد ما تجدون من حرها في الصيف، وأشد ما تجدون من بردها وزمهريرها في الشتاء، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن النار اشتكت إلى ربها فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف) الحديث.
(ولما خلق الله النار قال لجبريل: اذهب فانظر إليها) .
الحديث.
(وبينما رجل يمشي في حلة قد أعجبته نفسه إذ خسف به في نار جهنم فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) فقوله (إِنَّا أَعْتَدْنَا) فيه دليل على أن النار مخلوقة وموجودة الآن، وكذلك في حديث عذاب القبر، (افتحوا له باباً إلى النار، وأفرشوه له النار، فيأتيه من حرها وسمومها) أي: الميت الكافر.(81/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الأبرار يشربون.)
{إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:5] والأبرار تأتي أحياناً بمعنى عام متسع، وأحياناً تأتي بمعنى خاص: فأحيانا تكون عامة فيدخل فيها أهل الجنة كلهم، سواء المقربون منهم، أو أصحاب اليمين, ومنه قول أهل الإيمان، {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193] فهي عامة.
وأحياناً تأتي الأبرار ويراد بها صنف من أصناف الجنة، فنحن نعلم أن الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، والسابقون السابقون أولئك المقربون، ففي الآخرة مقربون، وأصحاب يمين، وهذان الصنفان من أهل الجنة، وصنف ثالث وهم أصحاب المشأمة.
فمن أهل العلم من يقول: إن المراد بالأبرار في هذه الآية التي بين أيدينا أصحاب اليمين، أي: إن أصحاب اليمين {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا} أي: خليطها كافورا.
{إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} هذه الكأس ليست من مشروب صافٍ، إنما هي من شراب مخلوط بالكافور، وهذا الكافور {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا} أي: يشرب منها (عِبَادُ اللَّهِ) أي: المقربون، فالمراد بعباد الله هنا: المقربون، {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] وقد تقدم في سورة المطففين {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:22-24] * ((يُسْقَوْنَ)) أي: الأبرار {مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين:25] على قول من قال: إن المختوم هو الممزوج {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:26-28] .
وهنا كذلك {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} هذه الكأس التي يشرب منها الأبرار كان مزاجها، أي: خليطها، كافورا، فهي مخلوطة بالكافور، والكافور {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} الذين هم المقربون، يشربون من الكافور صرفاً، صافياً خالصاً -غير مخلوط بغيره-.
أما أصحاب اليمين فيشربون الكافور الممزوج بغيره، فكما قال قائل السلف: يشرب منها المقربون صرفاً أي: صافية وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً، أي: تخلط لأصحاب اليمين خلطاً، وكمثال تقريبي من حياتنا الدنيا: شاي على لبن، أصحاب اليمين يشربون شاياً مخلوط بلبن، اللبن شراب يشرب منه عباد الله -المقربون- يشربون من اللبن صرفاً، أي: خالصاً صافياً، وأصحاب اليمين يشربون الشاي المخلوط باللبن.
وهنا كذلك: ((إِنَّ الأَبْرَارَ)) الذين هم أصحاب اليمين {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:5] أي: خليطها كافور، والكافور: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} أي: يشرب منها، فـ (بها) بمعنى منها، وحروف الجر تتناوب.
{يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] ، أي: ينتقلون بها إلى حيث شاءوا وتصحبهم إلى حيث أرادوا، أي: إذا انتقلوا إلى مكان في الجنة، وأراد أحدهم أن يفجر هذه العين، فإنها تفجر له هذه العين، فهي ليست مثبتة في مكان، بل هي متنقلة معه إلى حيث أراد، {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] أي: في أي مكان شاءوا أن تنبع لهم هذه العين نبعت لهم.(81/6)
تفسير قوله تعالى: (يوفون بالنذر.)
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] من صفات هؤلاء الأبرار أنهم يوفون بالنذر، والنذر هنا عام، لكن أريد به الخصوص، فالمراد بالنذر الذي يوفى به: نذر الطاعة والتبرر لا نذر المعصية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) فلفظة النذر جاءت عامة، لكن أريد بها الخصوص.
أقسام النذر: والنذر على خمسة أقسام: نذر الطاعة ويطلق على نذر الطاعة نذر التبرر، وينقسم إلى قسمين: القسم الأول: نذر عوض أو مقابلة.
القسم الثاني: نذر الابتداء.
فنذر الابتداء: أن تقول: لله عليّ أن أحج، لله عليّ أن أصوم لله علي أن أعتمر، فهذا نذر ابتداء، ليس مقيداً بشيء.
ونذر المقابلة أو العوض أو المجازاة، أن تقول: لله عليّ إن شفا الله ولدي أن أحج، فجعلت الحج هنا مرتباً على شفاء الولد، فهذا الأخير نهى عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومن العلماء من يرى أن النهي من رسول الله عليه الصلاة والسلام عام، فإن الرسول نهى عن النذر وقال: (إن النذر لا يقدم شيئاً، ولا يؤخر شيئاً، إنما يستخرج به من البخيل) أي: يخرج به منه ما لا يريد إخراجه.
ومن العلماء من حمل الحديث على نذر المقابلة أو نذر العوض.
ومنهم من أطلق وقال: الأفضل ألا تنذر مطلقاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما نذر شيئاً، لكن إن نذرت نذر طاعة بأحد قسميه لزمك الوفاء بهذا النذر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر القرون المفضلة، ثم قال: (ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن) وأثنى الله على الذين يوفون بالنذر في هذه الآية: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} ، وفي قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة:270] .
فهذا نذر العوض أو المقابلة ونذر الابتداء، وكلاهما يدخل تحت الطاعة.
الثاني: نذر المعصية، كأن يقول القائل: لله عليّ أن أسرق، أو لله عليّ أن أفعل كذا وكذا من المحرمات، فهذا نذر معصية لا يوفى به.
النوع الثالث: الذي يتنزل منزلة اليمين، كأن تقول: لله عليّ لأفعلنَّ كذا وكذا، وتنزل هذا النذر منزلة اليمين فهذا كفارته كفارة يمين إذا لم توف به؛ لأنه خرج مخرج اليمين.
النوع الرابع: النذر المباح، كأن يقول الشخص: لله علي أن أطبخ كذا، أو آكل لحماً، أو أشرب شاياً، أو أي شيء من أمور النذر المباح، طبعاً الأحكام التفصيلة واسعة، تحتاج إلى محاضرة مختصرة.
الشاهد: أن أهل الإيمان إذا نذروا نذر طاعة يوفون به، {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] والمستطير هنا العام، ومنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام، (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، ولا هذا الفجر المستطير) فالفجر المستطير هو المستعرض بعرض السماء، وهو الذي يلمع، فالشر المستطير هو الشر العام، والفجر المستطير الفجر المنتشر عموما في السماء من ناحية الشروق.
واستدل بهذه الآية على أن الشر يغطي الجميع يوم القيامة، ثم بعد ذلك ينجّي الله الذين اتقوا.
قال الله سبحانه وتعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا} هو يوم القيامة {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] .(81/7)
تفسير قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه.)
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8] .
من أهل العلم من قال: (على) بمعنى مع، أي: مع حبهم للطعام فإنهم يبذلونه لوجه الله، واستدل هذا القائل بقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177] أي: مع حبه، وبقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] .
وقد اختلف العلماء في الضمير في قوله: (على حبه) إلى ماذا يرجع؟ القول الأول: أنه يعود على الطعام، أي: مع حبهم للطعام.
القول الثاني: أنه يعود على الله أي: على حبهم لله تعالى.
والقول الأول أظهر، ولذلك كان كثير من السلف يعمدون إلى الأطعمة التي يحبونها، ويتصدقون بجزءٍ منها، وإلى الأمتعة التي يحبونها فيتصدقون بجزءٍ منها، وورد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كان يكثر من التصدق بالسكر، فقيل له: لماذا تكثر من التصدق بالسكر، قال: إني أحبه، والله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] .
ولما سمع علي بن الحسين الملقب بـ زين العابدين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق عبداً، أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار) عمد إلى أفضل عبد عنده فأعتقه وقال: أنت حر لوجه الله، كذلك فعل أبو طلحة لما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] فعمد إلى أفضل ماله وهي بيرحاء -حديقة أو بستان- فتصدق بها لله سبحانه وتعالى.
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ، وهنا الآية الكريمة، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا} وهي عامة في المساكين، والذي يقيدها بالمسكين المسلم في باب الإطعام فعليه الدليل، ويشهد للتعميم، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في كل كبد رطبة أجر) والكبد الرطبة تشمل كبد الكافر وكبد والمسلم.
فعليه: إذا كان في باب إطعام وليس في باب الأموال، فيجوز أن تطعم منه الكافر.
أما حديث (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقيٌ) فالراجح عندي ضعفه، ثم إن هناك نصوصاً أخر أفادت أن الرسول عليه الصلاة والسلام أطعم الكفار في جملة مواطن، ثم هو إن صح فهو على التنزيه ليس على التحريم، ثم له صور معينة، كأن يكون من باب الموالاة ونحو ذلك، والله أعلم.
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] فحتى الأسير الكافر يدخل في الآية، كما روي عن ابن عباس أنه قال: ما كان هناك أسرى في عهد الرسول إلا كفار، والرسول وأصحابه هم الذين خوطبوا بالآية: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] وأوردوا بعض الآثار -وإن كان في إسنادها كلام- أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإكرام أسارى بدر في ناحية الإطعام، ولا شك أن الرسول وأصحابه كانوا يطعمون ثمامة بن أثال، عندما كان مربوطاً في المسجد أسيراً ثلاثة أيام، فإطعام الأسير محمود وإن كان الأسير من الكفار.
ويدخل في هذا المساجين الذين هم في حجوزات الشرطة إذا جئت تتصدق عليهم، أو في أي مكان من الأماكن، فهم بمثابة الأسرى المقيدين.
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] أي: لا نطعمكم رجاء لفائدة ولا لمصلحة تعود علينا منكم في الدنيا، وإنما الإطعام لوجه الله، كما قال تعالى في آية سورة الليل: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:18-19] لا ينتظر ثواب أحد، {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:20-21] ، وكما قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] .(81/8)
تفسير قوله تعالى: (إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً)
قال الله سبحانه: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا} [الإنسان:10] أي: إطعامنا لكم مخافة من ربنا، فنحن نريد وجه الله بالإطعام خوفاً من الله.
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيِراً} ، قال بعض العلماء: العبوس هو الضيّق الشديد، والقمطرير: هو الطويل.
ومن أهل العلم من قال: العبوس الذي تعبس فيه الوجوه، حتى توشك أن تتقطع ويتساقط منها صديد من شدّة عبوسها، والقمطرير: هو الذي تظهر فيه البثور على الوجوه من شدة العبوس، وثم أقوال أخر.
فأهل الإيمان يخافون شدة هذا اليوم، {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10] وتخيل نفسك وأنت متضايق وعابس الوجه، ومقطب الجبين، كيف يكون حالك؟!(81/9)
تفسير قوله تعالى: (فوقاهم الله شر ذلك اليوم.)
{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ} [الإنسان:11] عبر بالماضي عنه وكأنه قد وقع، لأن كل ما هو آت قريب، ووعد الله لا يخلف.
{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} أي: في وجوههم، {وَسُرُورًا} [الإنسان:11] أيضاً على الجباه، مقابل العبوس القمطرير.
وهناك وجوه عابسة، ووجوه نضرة، ووجوه مسرورة، ووجوه عليها القمطرير، ولهذا استنبط بعض أهل العلم تفسير العبوس القمطرير من المقابل وهو النضرة والسرور، فقال: النضرة قابلت العبوس، والسرور قابل القمطرير.
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان:12] : الصبر على الأوامر، والصبر أيضاً على النواهي، وعلى التكاليف، فقوله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} أي: بصبرهم، ففيه فضل صبرهم، فالذي لا يصبر على طاعة الله ولا يصبر عن معاصيه يحرم هذا النعيم.
{جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان:12] ، فالجنة كما قال البعض: لما صبروا على الطاعات نالوا الجنان، وصبروا عن المحرمات أيضاً فنالوا الحرير، فالحرير محرم عليهم في الدنيا، فألبسهم الله إياه وتوجهم به يوم القيامة، فالحرير حرام على الرجال، فمن امتنع عنه في الدنيا لبسه في الآخرة، {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} الباء سببية، أي: بسبب صبرهم: {جَنَّةً وَحَرِيرًا} .(81/10)
تفسير قوله تعالى: (متكئين فيها على الأرائك.)
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا} [الإنسان:13] الاتكاء: الميل بأحد الشقين {عَلَى الأَرَائِكِ} [الإنسان:13] ، وهي الأسرة في الحجال، السرير في غرفة وعليه أشبه ما يكون بالناموسية {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا} أي: ليس فيها شمس، (وَلا زَمْهَرِيرًا) أي: برداً ولا قمراً كذلك، فليس في الآخرة شمس ولا قمر، إنما الشمس والقمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (الشمس والقمر مكوران يوم القيامة) ، قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] ، وفي رواية خارج الصحيح: (الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة) .
فقوله: {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا} أي: ولا ما يتبعها من الحرارة (وَلا زَمْهَرِيرًا) أي: لا برداً ولا قمراً، إنما هي مضيئة من نفسها ومنيرة من بذاتها من عند الله سبحانه وتعالى.
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} [الإنسان:14] أي: قريبة الظلال منهم، {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} ذللت القطوف أي: تدنو منهم من الثمار إذا أرادوها، فتأتيهم ذليلة إلى أيديهم حتى يقطفوها، فلا يتكلفون القيام لقطف الثمار، ولا يتكلفون تسلق الأشجار لقطف الثمار، بل: {دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:14] .
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:15-16] ، ما المراد بقوله تعالى: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} ؟ من أهل العلم من قال: يوضع الماء أو الشراب في القارورة على قدر حاجة الشارب فقط، لا يزيد ولا ينقص، يعني: قدر الشراب على قدر حاجة الشارب فلا يتبقى في الكوب شيء، ولا يحتاج بعد شربه إلى شيء.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} [الإنسان:17-18] الكلام أيضاً على الأبرار أنهم يشربون من كأس كان خليطها زنجبيلاً، {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} .(81/11)
تفسير قوله تعالى: (ويطوف عليهم والدان مخلدون.)
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الإنسان:19] ، المخلدون: الذين لا يشيبون ولا يكبرون، بل أعمارهم ثابتة لا تزيد ولا تنقص، وأجساهم ثابتة لا يعتريها التغيّر إلى الأسوأ، وإن كان ثمّ تغير فهو إلى الأفضل والأحسن والأكمل، فهم {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ} من حسنهم، {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا} [الإنسان:19] فمن كثرتهم كأنهم لؤلؤ منثور، أي: لؤلؤ منتشر كثير.
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} [الإنسان:20] إذا رأيت ثمّ، أي: إذا رأيت هناك وأمعنت النظر ورميت ببصرك إلى بعيد، {رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:20] أي: رأيت ممالك عظيمة، فإذا نظرت ببصرك إلى هنا وهناك رأيت العظمة ورأيت الملك، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من يقال له: تمن، فيتمنى، ثم يقال له: تمن، فيتمنى، حتى إذا انقطعت به الأماني، فيذكره ربه أيضاً: تمن كذا، حتى يتمنى مثل مُلك مَلِكٍ من ملوك الدنيا الحديث، وفي آخره يقول الله له: لك مثل ذلك وعشرة أمثاله) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فهذا أدنى أهل الجنة منزلة.
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} [الإنسان:21] في الآية فضل الثياب الخضر، فالثياب منها ثياب محبوبة في ألوانها، ومنها ثياب أيضاً تكاد تذم في بعض المواطن ولبعض الأشخاص، فهناك مثلاً قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] وهنا {ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} .
وأيضاً، في هذا الباب كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البياض، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (البسوها وكفنوا فيها موتاكم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
أما بالنسبة للنساء فالثوب الأسود لهن أفضل؛ لأن نساء الصحابة كن يخرجن إلى صلاة الفجر، أو لما نزلت آية الحجاب خرجن وكأن على رءوسهن الغربان من السواد، لكن لو لبست المرأة ثوباً آخر ليس فيه فتنة، فلا بأس به؛ قد ثبت أن أم المؤمنين عائشة طافت بثوب مورد، أي: بثوب وردي، وليس المعنى أن الثوب فاتن، إنما الشاهد أنه ليس بأسود، ما لم يكن الثوب ثوب شهرة والله تعالى أعلم.
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} إذ هم أصحاب اليمين، أما المقربون {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] .
{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان:22] أي: على أعمالكم في الدنيا، {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:22] أي: شَكَرَه ورضيه لكم سبحانه وتعالى.(81/12)
تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن.)
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} [الحجر:9] ، أي على فترات وعلى مراحل وليس دفعة واحدة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32] أي: شيئاً فشيئاً.
قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان:24] أي: لقضاء ربك، {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} فالآية نهت رسول الله عن طاعة الآثمين وطاعة الكفار، وهي كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] وقال الله سبحانه وتعالى أيضاً: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] ، فالآية أيضاً نص في أن الذي يدعو إلى معصية الله لا يطاع.
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان:25] أي: صباحاً ومساءً، والمعنى: أكثر من الذكر {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} ، فكأن ذكر الرب سبحانه مقوي على ما ينالك من بلاء بسبب عدم طاعتهم.
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:26-27] العاجلة: الدنيا، واليوم الثقيل: يوم القيامة.
{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان:28] أي: قوينا خلقهم، {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} [الإنسان:28] {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} [الإنسان:29] أي: موعظة {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان:29] أي: طريقاً يقربه من الله، ولكن، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فالهادي هو الله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:30-31] .(81/13)
الأسئلة(81/14)
حكم صلاة الجماعة للمسافر المقيم
السؤال
هل تسقط صلاة الجماعة على المسافر المقيم؟
الجواب
لأهل العلم فيها قولان: الراجح منهما والله أعلم أنها تسقط عن المسافر المقيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره أو في منىً لم يرد أنه جمّع، وكان مقيماً في أيام منى في الحج عليه الصلاة والسلام.(81/15)
إلى كم يقصر المسافر؟
السؤال
كم مدة الإقامة للمسافر؟
الجواب
في مدة الإقامة نزاع، فمن أهل العلم من قال: إن مدة الإقامة ثلاثة أيام بلياليها وهم جمهور العلماء، وبعضهم أوصلها إلى أربعة أيام، ومنهم من فتح الباب وقال: ما دمت مسافراً وإن طالت المدة فإنك تأخذ حكم المسافر، وكأن الأخير أقرب للصواب، والله تعالى أعلم وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة.(81/16)
حكم تحديد الآيات في صلاة التراويح
السؤال
هل يعتبر تحديد كماً معيناً من القرآن في صلاة التراويح نوعاً من البدع؟
الجواب
ليس من البدع، لأن الله قال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] .(81/17)
هل حديث: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) صحيح؟
السؤال
حديث: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) ما صحة هذا الحديث.
الجواب
كل طرقه متكلم فيها، والذي يظهر أن النفس لا تطمئن إلى تحسينه، لأن كل الطرق فيها مقال، ومن نشط من العلماء وحسنه حسنه بمجموع الطرق ونفسه وجلة من تحسينه.(81/18)
حكم ادخار جزء من مال الزوج دون علمه
السؤال
إذا ادخرت المرأة جزءاً من بعض الأموال التي يعطيها لها زوجها -كمصروف في يدها- لتساعد بها إخوتها ووالديها في معيشتهم، دون علم زوجها خوفاً أن يعيرها بذلك، فما هو حكم ذلك؟
الجواب
إذا كان يعطيها هذه المصاريف كمصاريف شخصية خاصة بها، فلها أن تفعل ما ذكرت، وإن كان يعطيها هذه المصاريف لمصلحة وخدمة بيته، فلا يجوز لها أن تنقل شيئاً إلى بيت أهلها إلا بعد الإذن الصريح أو العرفي أو التلميح، لكن قد يجوز بالقدر الذي يتعارف عليه بين الناس، كامرأة مثلاً تذهب إلى بيت أبيها، تأخذ كالمعتاد مثلا: ً كيلو من الفاكهة أو اثنين كيلو من الحلوى، ونحو ذلك، فالمتعارف عليه بين الناس أنه ليس في ذلك شيء، والله أعلم.(81/19)
حكم الصلاة في مسجد به قبر
السؤال
ما حكم الصلاة في المسجد الذي به ضريح، علماً أن وقت الصلاة سينتهي إذا لم يصل في هذا المسجد؟
الجواب
كأن السائل خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) و (جعلت لي الأرض مسجداً وتربتها طهور) فصل في الشارع.(81/20)
حكم قضاء صوم النافلة
السؤال
كنت صائمة يوماً صيام نافلة، فجاءت الحيضة، هل أقضي هذا اليوم؟
الجواب
ليس هناك دليل يلزم بالقضاء.(81/21)
حكم الحركات والصرع التي يفعلها البعض في الصلاة عند سماع القرآن
السؤال
ما مدى صحة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: حينما سمع رجلاً شهق شهقة شديدة وهو يصلي بالناس، فقال: (من هذا الذي جاء يلبس علينا في ديننا، إن كان صادقاً شهر نفسه، وإن كان كاذباً محقه الله) ؟
الجواب
لا يثبت، لكن ذكر القرطبي رحمه الله كلاماً طيباً في هذا الباب؛ لأنه يوجد في بعض المساجد حتى مساجد أهل السنة بعض الإخوة المخرفين، يتنطط أثناء الصلاة، ويقوم ويرتفع وينخفض، ويضرب أحياناً برجليه في الأرض، وأحياناً بعضهم يكاد يصرع.
فأورد القرطبي مقولات -على ما يحضرني- عند تفسير قوله تعالى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] أورد مقولات وشجب هذه الأفعال، وحاصل الشجب ينبني على أن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم هم خير الناس وخير القرون، ولم تتفش فيهم هذه الأشياء، فلم يصرع أحد منهم عند الآية، أو يغش عليه، أو مثلاً يرتفع إلى السماء وينخفض ويضرب برجليه الأرض.
أصحاب الرسول ما حصلت فيهم هذه الأشياء بأسانيد ثابتة صحيحة، فقد كانوا أورع الناس وما صدرت منهم هذه الخزعبلات، وأورد أثراً، قالوا إنه من طريق عمر بن عبد العزيز عن ابن سيرين، وقد ذكر له رجل يغشى عليه عند تلاوة القرآن، قال: دعوه على سطح منزل، واتلوا عليه كتاب الله، فإن سقط فهو صادق.
ومن المستحيل أن يسقط! وأيضاً: أورد عن ابن عمر آثاراً فيها: كنا أخشع الناس -أو كلمة بمعناها- وكان القرآن يتلى علينا ونحن أصحاب رسول الله، فما نصرع.
رضي الله تعالى عنه.
وما شاع هذه الأيام إنما يلبس به على أهل الجهل، لأن خير الناس هو رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن بعده أصحابه، إذا تليت عليهم آيات القرآن كانوا {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:109] ، أما الخرافات التي تنشأ والأشياء التي تنسج في هذا الباب، كأحدهم يقوم في أثناء الصلاة يقفز إلى أعلى وينزل إلى أسفل، ويضرب برأسه من حوله، فهذا نوع من أنواع التخاريف والخداع والغش للناس، وأسوتنا هم أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالذي وسعهم يسعنا، كانوا يبكون عند استماع القرآن، ولا يحدث لهم شيء من هذه الخرافات.
أما فقدان الوعي الكامل، فمن من الصحابة فقد عقله عند تلاوة القرآن، أو هذى وخرف عند استماع القرآن، فليراجع من شاء المقولة القصيرة التي ذكرها القرطبي في تفسير سورة الزمر، والله تعالى أعلم.(81/22)
حكم إزالة أو تسريح الشعر وقص الأظافر لمن كانت جنباً أو حائضاً
السؤال
ما حكم إزالة الشعر أو تسريح الشعر وقص الأظافر أثناء الجنابة أو الحيض بالنسبة للمرأة؟
الجواب
ليس هناك مانع مما ذكر، والذي يمنع فعليه بالدليل، أما الأقيسة التي تقول: إذا حلقت الشعر وأنت جنب، فالشعر يكون في جنابة، كل هذه وساوس، ولم تنقل عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والحكم لا يكون إلا بالدليل.(81/23)
كيفية التعامل مع غير المسلمين
السؤال
كيف يكون التعامل مع غير المسلمين؟
الجواب
يراجع كتاب أحكام أهل الذمة لـ ابن قيم الجوزية رحمه الله.(81/24)
رفع اليدين عند الدعاء
السؤال
ما هي مواطن رفع اليدين في الدعاء؟
الجواب
مواطن رفع اليدين في الدعاء متعددة لا تكاد تحصى، والأصل أن رفع اليدين في الدعاء مشروع، وأنه من المتواتر تواتراً معنوياً، فقد ورد ما يزيد على خمسين نصاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام تثبت مشروعية رفع اليدين في الدعاء، وبعضها أو كم كبير منها صحيح.(81/25)
حكم لبس الثوب الأخضر
السؤال
هل يجوز للرجل أن يلبس اللباس الأخضر؟
الجواب
يجوز إن لم يكن ثوب شهرة، يعني: إذا لبست ثوباً أخضر أمام الناس وأشاروا إليك، هذا من؟! هذا كذا، فحينئذ دخلت في ثياب الشهرة، فيمنع إذا كان ثوب شهرة، والله تعالى أعلم.(81/26)
حكم إخراج قيمة الطعام في كفارة اليمين
السؤال
هل يصح إخراج قيمة الطعام في كفارة اليمين؟
الجواب
القيمة في كفارة اليمين لا تجزئ عند الجمهور أما الأحناف فأجازوها.
ثم الجمهور من العلماء قالوا: القيمة لا تجزئ لأن الله يقول: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] فالقيمة عندهم لا تجزئ، فلا بد من إطعام عشرة مساكين على رأي الجماهير.(81/27)
حال حديث: (إذا بلغت السادسة عشرة فزوجوها)
السؤال
حديث: (وإذا بلغت السادسة عشرة فزوجوها) ما مدى صحته؟
الجواب
لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(81/28)
الخلوة بالمخطوبة هل يوجب المهر؟
السؤال
هل صحيح أن اختلاء الخطيب بخطيبته يوجب النكاح، وإن حصل فسخ للخطبة فعلى الرجل دفع المهر أو نصفه؟
الجواب
هذا نوع من أنواع التخريف أن كل من خلا بمخطوبته يجب عليه المهر، لعل الناقل نقل خطأ، إذ هو في المعقود عليها إذا خلا بها زوجها، فمن الفقهاء من يرى أن الخلوة وهي إرخاء الستور، وإغلاق الأبواب ملزم بدفع الصداق كاملاً، وهو قول منقول عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ مصيراً منه إلى أنه لم يكن يستطاع ضبط هل بنى بها أو لم يبن بها، لكن صريح الآيات يسعه، {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236] فالكلام المذكور في الخِطبة لا يثبت ولا يصح بحال.(81/29)
حكم من به سلس ريح
السؤال
من أصيب بسلس ريح كيف يصلي؟
الجواب
باختصار إذا كنت تستطيع الوضوء لكل صلاة فتوضأ لكل صلاة، وإذا كان الريح مستمراً دائماً والشخص مصاب بسلس ريح، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فيصلي على الحالة.(81/30)
حكم عدم طاعة الزوج في مسألة الإنجاب
السؤال
امرأة تريد أن تنجب وزوجها يمنعها من ذلك، فهل عليها شيء إذا عصت زوجها؟
الجواب
ليس عليها شيء إذا عصت الزوج في هذا، فلها أن تخالفه إذا أجبرها على استعمال اللولب، وليس من الواجب عليها طاعته في مثل هذا الأمر، إذ من حقها إنجاب الولد كما أن ذلك من حقه، وهي حرة ليست بأمة، وإن شاء هو أن يعزل عزل، والخلاف بين العلماء كائن في مسألة هل العزل عن الحرة بإذنها أو بغير إذنها؛ لكنها لا يجب عليها طاعته في مثل هذا الباب، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(81/31)
تفسير سورة المرسلات
سورة المرسلات من السور المكية التي تتحدث عن يوم القيامة، وما يكون فيه من أحداث عظيمة، وعن مآل المؤمنين فيه، وما أعده الله لهم من نعيم مقيم، وعن مآل الكافرين الضالين وما أعده الله لهم في النار من عذاب عظيم.(82/1)
تفسير قوله تعالى: (والمرسلات عرفاً.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1] .
سورة المرسلات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار في منىً، (كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في غار في منىً فنزلت عليه سورة المرسلات، فهو يتلوها رطبة ويتلاقها الصحابة من فيه، فوثبت عليهم حية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتلوها.
فابتدروها ليقتلوها فهربت منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقيت شركم كما وقيتكم شرها) ، فهذا دليل على أنها نزلت على رسول الله عليه الصلاة والسلام بمنىً، ومنى كما هو معلوم بجوار مكة، وتعد من الحرم.
يقول تعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات:1-4] .
من أهل العلم من أجرى تأويلها على أنها كلها تنصب على شيء واحد، وما هو هذا الشيء الواحد؟ القول الأول: إنها الرياح، فحمل هذا القائل المرسلات على أنها الرياح، والعاصفات على أنها الرياح، والناشرات على أنها الرياح، والفارقات على أنها الرياح، لكن كل فقرة فيها وصف للريح غير الذي في الفقرة الأخرى.
القول الثاني: إن هذه الأشياء وصف لشيء واحد لكنها الملائكة، ففسر المرسلات بأنها الملائكة، وفسر العاصفات بأنها الملائكة، وفسر الناشرات بأنها الملائكة، وفسر الفارقات بأنها أيضاً الملائكة.
القول الثالث: ومن العلماء من أدخل شيئاً من التأويل الأول في التأويل الثاني، أو شيئاً من التأويل الثاني في التأويل الأول، ففسر مثلاً بعض فقرات هذه الآيات بالرياح، وفقرات أخرى منها بالملائكة أو العكس.
والجمهور من أهل التفسير يفسرون هذه الأشياء المذكورة بالرياح ما عدا قوله: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} [المرسلات:5] ، وكذلك قوله: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات:4] .
قال: والشاهد على تأويل المرسلات بأنها الرياح قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف:57] ، فقوله: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) يدل على أن المرسلات هي الرياح.
{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1] ، العرف هنا معناه: المتتابعة، كعرف الفرس، أي: الشعر الذي خلف رأسه تجده شعرة بعد شعرة، فقال: إن معنى عرفاً، أي: متتابعة، تأتي ريح بعدها ريح بلطف وهدوء.
{فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات:2] رياح لكنها رياح شديدة تعصف.
فقوله: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1] الواو واو القسم، أقسم الله بالرياح التي تأتي هادئة ومتتابعة، موجة من الريح تتلوها موجة أخرى، كالشعر الذي في مقدمة الفرس، فأقسم الله سبحانه وتعالى بالرياح المتتابعة الهادئة، ثم أتبعها بالعاصفات، وهي الرياح الشديدة، {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات:2] أي: شديدة الهبوب العاتية، التي تعصف بالأشياء.
{فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات:2] * {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} [المرسلات:3] فالرياح تنشر الأمطار، وتوزعها على الأماكن التي أمرت بإنزال المطر فيها.
{فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات:4] قال بعض العلماء إنها الرياح، وحمل قوله تعالى: (الْفَارِقَاتِ فَرْقًا) على أنها بعد هبوبها تفرق بين المسلم وغير المسلم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم -لما كان مع أصحابه- على إثر سماء بالحديبية (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: إن الله سبحانه وتعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فهذا مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا ونوء كذا، فهذا كافر بي ومؤمن بالكوكب) .
فالشاهد أن الرياح لما أسقطت الأمطار تسببت في التفريق بين الناس، فظهر منهم المؤمن وظهر منهم الكافر، هذا على هذا التأويل الأول الذي حمل كل المذكورات على أنها الرياح.
أما التأويل الثاني: ألا وهو تأويل المرسلات بأنها الملائكة قالوا: إن المرسلات هي الملائكة أرسلت بالمعروف.
{فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات:2] قالوا: الملائكة تعصف بأرواح الكفار.
{وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} [المرسلات:3] الملائكة تنشر العلم وتنشر الحكمة وتنشر الخير بين العباد.
{فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات:4] الملائكة تنزل بالوحي الذي يفرق به بين أهل الحق وبين أهل الباطل، وتنزل بالوحي الذي يفرق بين الحق والباطل، هذا على تأويل من قال: إنها الملائكة.
والجمهور من المفسرين على أن المرسلات الرياح، فالعاصفات الرياح، والفارقات الملائكة والناشرات الرياح.
وثم تأويل آخر أن المرسلات الرسل، لكنه تأويل يكاد يكون شاذاً ومنبوذاً، ومن العلماء من يقول بالتعميم في مثل هذه المواطن، كما قال فريق منهم بالتعميم في قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات:1-2] .
فقال فريق: لم يرد دليل من الكتاب ولا من السنة يحسم لنا المراد بالمرسلات فالقول بالتعميم أولى من القول بالقصر على بعض الأشياء وبعض المعاني دون بعض.
والقول بالتعميم قد يكون له من الوجاهة وجه قوي، لكن المعكر عليه بأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، فإذا كانت لغة العرب تتحمل وجهاً من الوجوه في موطن من المواطن، فلا يعدل عن هذا الموطن إلى شيء آخر، ونسير مع لغة العرب، فإذا قالت العرب مثلاً: العاصفات هي الريح التي تعصف فقولهم أولي، وصحيح أن الملائكة تعصف بأرواح الكفار، لكن هذا المعنى غير وارد بكثرة على أفهام العرب، فإذا خوطبوا بشيء عاصف، عرفوا معنى العاصف ونسبوا العصف إلى الريح إذ هي التي تعصف، ومن خصائصها الكبرى العصف، {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء:81] .
وأيضاً القول بالتخصيص ينبني على المشهور الدارج في لغة العرب، وهذا أيضاً وجه في غاية القوة.
قال الله سبحانه وتعالى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} [المرسلات:5] والجماهير على أن الملقيات ذكراً هي الملائكة تلقي الذكر على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتنزل بالوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والذكر هو القرآن {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] .
وفي الآية دليل على أن الإلقاء يطلق ويراد به أحياناً الإنزال.(82/2)
تفسير قوله تعالى: (عذراً أو نذراً)
{عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات:6] العذر: إعذار من الله لخلقه، والإعذار في حق الناس يتضح معناه من سورة الأعراف؛ إذ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] أي: نقدم اعتذارنا إلى ربنا سبحانه بأننا قد أدينا الذي علينا، لكن في حق الله سبحانه وتعالى له شأن، وتجري الآية في ظاهرها في حق الله سبحانه وتعالى، فإذا قلنا -مثلاً- أعذر فلان فلاناً، أي: قدم له الأشياء حتى لا يعتذر إليه مرة ثانية.
ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ بلغه الستين من عمره) أي إذا عشت ستين سنة وجاءك فيها الشيب، وجاءك فيها النذير، ورأيت أباك قد مات، ورأيت أخاك قد مات، وأمك ماتت أمام عينيك وتكررت عليك الابتلاءات، وتكررت عليك المحن والفتن، ورأيت عاقبة الظلم ورأيت عاقبة الظالمين، كيف تعتذر بعد ذلك؟ فهذا معنى الإعذار، فإلقاء الذكر من الله لئلا يعتذر الخلق كما في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:19] .
{عُذْرًا} [المرسلات:6] أي: أن الملائكة تلقي الوحي وتلقي الذكر على الأنبياء {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات:6] إما لبيان الاعتذار حتى لا تعتذر، أو إنذاراً لك حتى لا تقع في المحذور وتخويف لك كذلك.
فالذكر يكون إما عذراً أو نذراً، وهذا في الغالب.
وقد يقول قائل: إن هذه الآية أفادت أن الملائكة تلقي الذكر إما إعذاراً وإما إنذاراً، إما على سبيل الإعذار وإما على سبيل الإنذار.
وقد يقول قائل: فقصص القرآن هل هي من الإعذار أم من الإنذار؟ وأقرب ما يقال فيها إنها من باب الإعذار.(82/3)
تفسير قوله تعالى: (إنما توعدون لواقع.)
قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات:7] جواب القسم الذي مطلعه (والمرسلات) فإذا قيل: على أي شيء يقسم ربنا سبحانه وتعالى؟ فالإجابة إن ربنا سبحانه وتعالى يقسم أن ماتوا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ.
والمقصود بهذه الآية يوم القيامة وما فيه من البعث والحساب والثواب والعقاب، فكل ما وعدت به في كتاب الله عز وجل، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقع، ويقسم الله سبحانه وتعالى على ذلك، وقد أقسم الله على ذلك في عدة مواطن.
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات:7] فيه تقرير البعث.
ثم يبين الله سبحانه وتعالى ما يكون ويحدث في ذلك اليوم: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات:8] طمست أي: ذهب ضوؤها ومحيت معالمها، فالطمس الحو؛ لأن النجوم في ذلك اليوم تتساقط وتتناثر كما في قوله تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} [الانفطار:2] وقوله: {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:2] {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات:8] فالنجوم التي هي بهية المنظر ومزينة للسماء الدنيا، يمحى ضوؤها ويزال أثرها.
{وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات:9] أي: السماء المحبوكة المشدود بعضها إلى بعض، كما قال سبحانه: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] والحبك هو شد الشيء بعضه إلى بعض، فالحبك الشد والتلاحم والتلاصق، هذه السماء المحبوكة التي لا ترى فيها خطوطاً كما قال تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3] وكقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] فليس فيها فتحات وشقوق، أما في يوم القيامة فتحدث بها الشقوق والثقوب، بل ومن شدة هول هذا اليوم تنصهر السماء وتتساقط كما قال الله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج:8] يعني: تنساب السماء وتصبح كالزيت المغلي من هول ذلك اليوم ومن شدة ذلك اليوم.
وهذه الأمور تكون في ذلك اليوم مع غيرها من الأمور، وهي أهوال مستطيرة وشديدة، كما قال أهل الإيمان: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10] {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] فالشر عام لكل الخلائق فأين تفر؟ السماء تكون كعكر الزيت تتساقط من فوق، النجوم يرمى بها وتأتي على الأرض -كما نسمع في الأخبار أن الكوكب الفلاني أوشك أن يصطدم بالأرض، والشمس تكور وتلف ويرمى بها هي الأخرى، والقمر كذلك يخسف القمر ويذهب ضوؤه كما قال الله: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة:7-8] ، والبحار تفجر، قال بعض أهل العلم: أي يختلط عذبها بمالحها، وقال بعض العلماء: إنها تشتعل ناراً كما قال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] أي: الذي يتأجج ناراً، ومنه: سجرت التنور، أي: أحميته.
فكل هذه الأهوال والشدائد تحدث في ذلك اليوم، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات:8-9] أي: فتح فيها فتحات، وبعد فتح الفتحات تنزل الملائكة كما قال الله سبحانه وتعالى في آيات أخر {وَالْمَلَكُ} [الحاقة:17] أي: الملائكة {عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة:17] أي: على قطعها المتساقطة، فالملائكة كانوا يقفون فوق السماء، أما بعد تقطع وتمزق السماء فإنهم ينزلون ويقفون على قطع السماء التي سقطت.
{وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:10] أي: أزيلت عن أماكنها، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105-107] .(82/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا الرسل أقتت.)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات:11] قال بعض أهل العلم: أجلت للاجتماع، وقال بعضهم: جمعت في يوم اللقاء، فيجمع المرسلون عليهم الصلاة والسلام في هذا اليوم.
للعلماء في (أقتت) قولان: أحدهما: أجلت للاجتماع في يوم الجمع.
والآخر: أن معنى أقتت أي: جمعت.
ولماذا يُجمع المرسلون؟ يجمع المرسلون لأمور متعددة، منها الشهادة على أممهم، كما قال الله سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] فالرسل يجمعون للشهادة على أممهم يوم القيامة.
كل رسول يأتي ويشهد على قومه، ويسأل أحياناً أسئلة لتبكيت قومه، كما الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] تخيل هذا الموقف وهذا السؤال الموجه من الله سبحانه إلى عيسى عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف الذي هذه صورته، وهذه أحواله ومقدماته، يقول الله: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] والله يعلم أن عيسى ما قال ذلك، ولكن لتبكيت ولتسفيه ولتوبيخ عابديه، {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] فحينئذٍ يظهر عيسى عليه السلام غاية البراءة فيقول: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116] أي: ليس لي أن أدعي هذه الدعوى، {إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116] * {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117] .
وكذلك الملائكة: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ} [سبأ:40-41] تنزهت {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] .
قال الله سبحانه: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ} [المرسلات:11-13] الذي يُفصل فيه بين العباد، فيفصل فيه بين أهل الكفر وأهل الإسلام، ويقضى فيه بين المؤمنين أنفسهم في المظالم التي ارتكبها بعضهم في حق بعض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) فالشاة التي نطحت بقرنها شاة أخرى ليس لها قرن يقتص منها لتلك الشاة الضعيفة التي لا قرن لها.
والأحاديث في هذا الباب لا تخفى، وقد قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30-31] قال الزبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الآية: (يا رسول الله أوتكرر علينا الخصومات يوم القيامة؟ قال: نعم حتى يؤدى لكل ذي حق حقه، قال: إن الأمر إذاً لشديد يا رسول الله) ، إن الأمر إذاً لعسير.(82/5)
تفسير قوله تعالى: (ليوم الفصل.)
قال تعالى: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [المرسلات:13-14] .
الاستفهام للتعظيم والتهويل لما سيحدث في ذلك اليوم من أهوال، ولو أيقن شخص بهذه الأوصاف التي ذكرها الله في كتابه في شأن يوم الفصل وما يحدث فيه، ولو تخيلها وتدبرها وأمعن النظر فيها مع اليقين، والله ما طابت له لقمة العيش على الإطلاق، ولا ابتسم على الإطلاق، لو تخيلها شخص وتدبرها وأمعن النظر فيها ما طابت له حياة، ولقال كما روي عن عمر لما تلا قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] قال: يا ليتها تمت.
يا ليت هذا المدة المذكورة التي لم نكن فيها شيئاً نذكر تمت ولم نخلق أصلاً.
وكذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عند موتها: يا ليتني مت قبل هذا فكنت نسياً منسياً.
مع أن آيات الرجاء كثيرة لكن على المسلم أن يذكر هذا اليوم وما فيه من الشدائد.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [المرسلات:14] ما الذي أخبرك وما الذي أعلمك بيوم الفصل هذا؟ وكيف تكون الأحوال فيه؟ إنه لو شب حريق في منزل مجاور فإنك تجري وتبتعد غاية الابتعاد، وما حصل في منى هذا العام عندما شب الحريق في الخيام، فاشتعلت وصار الكل يجري ويفر غاية الفرار، والناس يتجهون إلى حرم الله حتى ازدحموا وسقط بعضهم ومات فراراً من النار، لكن في عرصات يوم الدين أين المفر، النار من الأمام، إذا فررت إلى اليمين أو اليسار فالنار من اليمين ومن اليسار، وإذا فررت إلى الأسفل أو إلى الأعلى فالنار من الأسفل ومن الأعلى، كواكب تتساقط على الأرض، سماء تكون كالمهل جبال تكون كالعهن، أرض لا تختفي فيها كما سيأتي.(82/6)
تفسير قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين.)
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:15] الويل فيه قولان للعلماء مشهوران: القول الأول: أن الويل بمعنى العذاب الشديد، فهو توعد بالعذاب الشديد.
القول الثاني: أن الويل واد في جهنم تستغيث منه جهنم.
وهناك قول ثالث وهو: أن الويل واد في جهنم ينتهي إليه صديد أهل النار.
{أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ} [المرسلات:16] أي: الأمم المتقدمة والقرون المتقدمة كقوم نوح وعاد وثمود.
{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ} [المرسلات:17] من أهل العلم من قال: إن المراد بالآخرين من جاء بعد قوم نوح وعاد وثمود من الأمم التي سبقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني أهلكنا قوم نوح وعاداً وثمود، وبعد هؤلاء أهلكنا أيضاً الآخرين، كقوم لوط الذين جاء هلاكهم في قوله تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر:74] .
{كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [المرسلات:18] فكل مجرم سينال هذه العاقبة الوخيمة، أهلكنا عاداً وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً، أهلكنا قوم لوط، وكذلك كل مجرم يفعل به هكذا، {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:34] ، كما قال سبحانه في شأن قوم لوط والحجارة التي أرسلت عليهم: {وَمَا هِيَ} [هود:83] أي: هذه الحجارة {مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] أي هي قريبة يمكن أن تنزل على أي ظالم في أي لحظة.(82/7)
تفسير قوله تعالى: (ألم نخلقكم من ماء مهين)
{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات:20] أي: حقير ضعيف.
{فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات:21] وهو رحم المرأة.
{إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} [المرسلات:22] أي: إلى وقت معلوم يحدده الله وحده، فشاء الله سبحانه وتعالى لبعض الأجنة في بطون الأمهات أن تمكث التسعة الأشهر ثم تولد سالمة آمنة وييسر لها سبيل الخروج، وشاء الله سبحانه وتعالى لنطف أخرى أن تسقط، ولنطف أخرى أن تستقر في الرحم شهراً أو شهرين أو يوماً أو يومين، وشاء أحياناً أن تزيد مدة الحمل وأحياناً أن تنقص، فالذي قدر هذا كله هو الله سبحانه وتعالى.
{فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ} [المرسلات:21-22] أي: إلى وقت {مَعْلُومٍ} [المرسلات:22] أي: محدد، فالمرأة التي يحدث لها سقط سقطها مقدر وهو بإذن الله، فلم يشأ الله لهذا المني أن يمكث في الرحم إلا هذه المدة، ثم حدث السقط بإذن الله، وإذا طالت المدة فبإذن الله، وإذا قصرت المدة فبإذن الله، وإن جاء المولود ذكراً فبإذن الله، وإن جاء أنثى فبإذن الله.
{فَقَدَرْنَا} [المرسلات:23] أي: فحددنا هذا الوقت.
{فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23] نعم من حدد هذا الوقت، إذاً كل تقدير هو من الله وهو سبحانه وتعالى وهو نعم القادر، {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23] .(82/8)
تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتا)
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:24-25] والكفات مأخوذة من كفت الثوب، وقد نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن كفت الثوب والشعر في الصلاة، والكفت أو الكف ثني الثوب بطناً لظهر أو ظهراً لبطن.
فقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:25] أي: ضامة وآوية لكم في حياتكم وبعد مماتكم فإذا متم دفنتم في الأرض، وإذا حييتم عشتم على ظهرها، فهي كافية لكم، وآوية لكم، وضامة لكم، وحاضنة لكم في حياتكم وبعد مماتكم، فمعنى الكفت الضم، فنحن بعد الموت ندفن في الأرض وفي حياتنا نمشي عليها.
{أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:26] ، لكن يوم القيامة ليس الأمر كذلك، فالأرض كما قال تعالى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق:3] فبعد أن كانت ضامة لك فإنها تفرد وترميك على ظهرها، {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:4] تخلت عن المسئولية أمام الله سبحانه، وتبعثر كل ما في باطنها ولا تقبل شيئاً في باطنها، ففي زمن الحياة الدنيا كانت كفاتاً، وأما في يوم القيامة فلن تكون كذلك، فلا تؤوي أحداً، فإذا أراد أحد أن يفتح فيها فتحة ويدخل فيها لم تقبله.
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً} [المرسلات:25-26] في حياتكم {وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:26] أي: بعد مماتكم.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} [المرسلات:27] أي: جبال شاهقات.
{وَأَسْقَيْنَاكُمْ} [المرسلات:27] أي: منها {مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات:27] أي: عذباً زلالا.
{وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:28] أي: لمن يكذبون بهذه النعم وهذه الحقائق.(82/9)
تفسير قوله تعالى: (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون)
{انطَلِقُوا} [المرسلات:29] أيها المكذبون {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات:29] ما هو الذي كانوا به يكذبون؟ كانوا يكذبون بالعذاب، فيقال لهم: اذهبوا إلى الشيء الذي كنتم به تكذبون {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات:29] .
{انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات:30] دخان يتصاعد وهو عنيف شديد له ثلاث شعب أي: له ثلاثة اتجاهات.
{لا ظَلِيلٍ} [المرسلات:31] ظاهره أنه ظل، فيتوهمون أنه سيظلهم لكنه لا يظلهم بل يزيد عذابهم، وهذا في معناه أيضاً السراب، {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] .
{انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات:30] أيضاً مشابه لها حديث السراب الذي فيه: (الله سبحانه وتعالى يقول للنصارى: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله.
فيقال: كذبتم فلم يتخذ الله صاحبة ولا ولداً فماذا تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا.
فيقال: انطلقوا إلى هذا.
فينطلقون إلى السراب ويؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب، فيتساقطون فيها) .
{إِنَّهَا} [المرسلات:32] أي: جهنم {تَرْمِي} [المرسلات:32] أي: تقذف {بِشَرَرٍ} [المرسلات:32] شرر النار كالقصر، فالشرر الذي يخرج من جهنم كالعمارة الضخمة والقصر الكبير الضخم، الشرارة الصغيرة التي تراها من النيران، حجمها من نار جهنم يوم القيامة كالقصر من قصور الدنيا التي نعرفها، فهذا شرر جهنم فكيف بلهبها -عياذاً بالله-.
{كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ} [المرسلات:33] وجِمَالَة وجمال جمع جمل، كرجالات ورجال جمع رجل، وقال بعض العلماء، {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات:33] أي: قطع من النحاس ونحو ذلك، لكن الجمهور قالوا: {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات:33] كأن هذا الشرر في كبره وفي اتساعه كالقصر العظيم، ولونه كالجمل الأصفر أيضاً.(82/10)
تفسير قوله تعالى: (هذا يوم لا ينطقون.)
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} [المرسلات:34-35] إن قال قائل: كيف لا ينطقون؟ وقد جاء في آيات أخرى أنهم يتكلمون كقوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] وقوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111] وقوله: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10] إلى غير ذلك؟ فالإجابة كما تقدم مراراً أن يوم القيامة مواقف، فأحياناً يسكتون كما في هذه الآية، وأحياناً يتكلمون كما في غيرها.
{هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ} [المرسلات:35-38] فالواو هنا كما قال البعض بمعنى مع، فالمعنى هذا يوم الفصل جمعناكم مع الأولين، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:40] .(82/11)
تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في ظلال وعيون)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41] قال بعض العلماء: إن القرآن أطلق عليه مثاني لأنه لا يذكر أهل الجنة إلا وثنى بذكر أهل النار والعكس، ومنهم من قال: مثاني؛ لأنه يثنى أي يكرر المعنى الواحد بأساليب متنوعة، مثلاً الحديث عن البعث يرد ذكره في سورة البقرة وفي سورة آل عمران وفي سورة النساء وفي سورة الحج بأساليب متنوعة.
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41] والظلال متنوعة في يوم القيامة، فمن ذلك الظلال الذي في حديث (السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب ... ) ولكن هل هذا الظل هو ظل عرش الرحمن أم غيره، وقد ورد في رواية (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه ... ) لكنها ضعيفة.
ومن هذه الظلال ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها) قال أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30] وقد جاء أيضاً (أن من أنظر معسراً أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وغير ذلك.
{وَعُيُونٍ} [المرسلات:41] والعيون: جمع عين وهي التي تتفجر من الأرض، والعيون تتنقل معهم حيث شاءوا كما ورد في تفسير قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] أي: يفجرونها في أي مكان حلوا وفي أي موطن ارتحلوا إليه.
{وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ} [المرسلات:42-44] وأهل الإحسان هم أعلى مرتبة على الإجمال من أهل الإيمان، ولكن أحياناً يدخل عموم المؤمنين مع المحسنين، لكن التقعيد أن الإحسان أعلى مرتبة من الإيمان كما في حديث جبريل: أخبرني عن الإيمان ثم قال: أخبرني عن الإحسان.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90] دليل على أن الإحسان أعلى وأرفع من مرتبة العدل، والعدل القصاص، والإحسان: العفو، فالله يأمر بالعدل ويأمر أيضاً بالإحسان، لكن الأمر بالعدل وجوباً والأمر بالإحسان أمر ندب واستحباب، والله يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] أي: الذين عفوا عن الناس ولم يثأروا لأنفسهم ممن ظلمهم.(82/12)
تفسير قوله تعالى: (كلوا وتمتعوا.)
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} [المرسلات:45-46] أي: في حياتكم الدنيا فهي بالنسبة للآخرة مدتها قليلة بل كما جاء في الأثر: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع له) وقال تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8] .
{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} [المرسلات:46] أي: في هذه الحياة الدنيا {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:46-47] .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] العلماء لهم قولان في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} [المرسلات:48] .
القول الأول: إن معناها إذا قيل لهم صلوا لا يصلون أصلاً، فهم تاركون للصلاة، وعلى هذا فترك الصلاة جريمة لقوله قبلها: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] فهذا نص يثبت أن تارك الصلاة مجرم من المجرمين، وإن كان له وظيفة عالية، وإن كان أستاذاً في جامعة، وإن كان وزيراً وإن كان ملكاً وإن كان رئيساً، فهو في نظر الشرع مجرم.
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:38-42] فصدروها بقولهم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] فتارك الصلاة مجرم بنص كتاب الله في موطنين: الموطن الأول: في سورة المدثر.
والموطن الثاني: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:34] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] وهو وإن كان حسن الأخلاق مع الناس، لكنه في نظر الشرع مجرم من المجرمين.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] القول الأول في تفسيرها: إذا قيل لهم صلوا لا يصلون.
القول الثاني: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] أي: إذا قيل اخضعوا واسمعوا وأطيعوا الله، فإنهم لا يخضعون ولا يسمعون ولا يطيعون لله.
والتفسير الأول أقرب إلى الظاهر، وكان البعض يأبى أن يركع ويأبى أن يسجد، وقد تقدم أن علياً رضي الله عنه كان يضحك كثيراً من أبيه، ومن بعض تصرفاته عندما كان يقول له: يا أبي أسلم واسجد لله، يقول: يا بني لا تعلوني استي أبداً، فيضحك علي من هذا الجهل وهذا الغباء الذي يصدر من أبيه، بل من هذا الكبر الغريب.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} [المرسلات:48-50] أي: بعد هذا القرآن {يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] .
فقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] ينبغي أن يلتفت إليه وألا يصار إلى التذكير إلا بكتاب الله وسنة رسول الله، وإن ذكرنا بغير الكتاب والسنة من القصص والحكايات التي تؤثر تأثيرات وقتية، فليكن على سبيل الشيء العارض ولا تأخذ أكبر من حجمها مثل أصل التذكير بكتاب الله وبسنة رسول الله، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] .
فلا بد من تغليب التذكير بكتاب الله والتذكير بسنة رسول الله على التذكير بالخزعبلات التي سرعان ما تزول من ذهنك، ولا يبقى معك في وقت الشدائد آية من كتاب الله وتفسيرها، أو حديث لرسول الله ومعناه، ففي وقت الشدائد هل أحتج بقصة حصلت؟ لا.
بل أتعلق في وقت الشدائد بقال الله قال رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقد سمعتم من قبل القصة التي تعد مسلية في مجال التذكير بالدليل، والقصة التي حدثت للقرطبي والقرافي تقدمت على ما سمعتم مراراً، فـ القرطبي رحمه الله كان في عصره من علماء النقل -الكتاب والسنة- والقراسي كان في عصره من علماء العقل -الرأي- يعني هذا يبني على النقل وهذا يبني على العقل، فاجتمعا معاً وذهبا إلى مدينة في مصر وهي مدينة الفيوم واستأجرا بيتاً من رجل، وكان بين صاحب البيت وبين أطفال ذلك الشارع خلاف، فكلما لعبوا أمام البيت يطردهم، فسمعوا أن البيت أُجر فقالوا: لنفسدن على الرجل الإجارة.
وذهب الأطفال إلى القرطبي والقرافي فقالوا لهما: إنكما استأجرتما البيت وهو مسكون -فيه جن وعفاريت- فلم يلتفت القرطبي والقرافي إلى هذه المقالة وقالا: نعتصم بالأذكار.
وذهبا إلى صلاة العشاء ورجعا وتهيآ للنوم وأطفآ السراج عملاً بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن هذه النار عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم) فإذا بصوت في البيت، فتذكر الشيخان مقالة الأطفال أن هناك جناً في البيت، فخاف القرافي خوفاً شديداً، أما القرطبي فماذا معه، معه أحاديث من رسول الله عليه الصلاة والسلام تنفع عند الشدائد والكرب، فبدأ يعتصم بالله ثم بالأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكثر من الذكر (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ، (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ، (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم) (حسبنا الله ونعم الوكيل) والقرافي لأنه يعتمد في علمه على العقل ولا يحفظ كثيراً من كتاب الله ولا من سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ماذا يصنع العقل؟ حينئذٍ يفشل، فازداد الصوت ارتفاعاً فازداد القرطبي ذكراً وازداد القرافي خوفاً وهلعاً.
ظهر رأس كبش عند باب الغرفة فسقط القرافي على الأرض من شدة الخوف، ووثب عليه القرطبي ركبه وأمسك بقرونه قائلاً: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59] فدخل صاحب البيت وقال: يا أيها الشيخ! كبش أكرمتكما به تفعل بها هكذا.
شاهِدُنا من القصة أنه عند الشدائد تزول الحكايات ويبقى الاعتصام بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] .
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله.(82/13)
الأسئلة(82/14)
جهر المتنفل إذا صلى إماماً لمأموم في جهرية
السؤال
ما الدليل على جواز جهر المتنفل بالقراءة إن أتى خلفه من يريد أن يصلي الفريضة، وذلك في صلاة المغرب والفجر أو العشاء؟
الجواب
بالنسبة لصلاة الفجر والمغرب والعشاء فالأصل فيها أنها جهرية، الفجر جهرية والمغرب جهرية في الركعتين الأوليين وكذلك العشاء، فيكون على الأصل أنه يجهر في الجهرية، ويسر في السرية فإن انتقل من الأصل الذي هو الجهر إلى الإسرار لعارض كأن يكون منفرداً، فإنه يرجع إلى الأصل إن صلى بجماعة إماماً.(82/15)
حكم صلاة المفترض خلف المتنفل
السؤال
هل تجوز صلاة المفترض وراء المتنفل؟
الجواب
نعم تجوز لحديث معاذ في الصحيحين (أنه كان يصلي مع رسول الله الفريضة ثم يذهب إلى قومه يصلي معهم العشاء) ، فتكون لهم فريضة وله نافلة.(82/16)
كيفية النصيحة لوالد لا يصلي
السؤال
والدي مرض بمرض مزمن ويستطيع التحرك والأكل والكلام وأمور الحياة بصفة عامة، ولكن كلما طلبت منه أن يصلي يرد قائلاً: الله أعلم بي وهو غفور رحيم، ولا يصلي، فماذا أفعل، مع العلم بأنه حافظ للقرآن؟
الجواب
الصلاة لا تسقط عنه بحال من الأحوال ما دام عقله صحيحاً، فيصلي إن استطاع قائماً وإلا فقاعداً وإلا فمضطجعاً، فالصلاة لا تسقط عنه ما دام في عقله.
والله تعالى أعلم.
فأكثر من التذكير وأكثر من الدعاء لوالدك لعل الله أن يتقبل منك.(82/17)
معنى قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)
السؤال
ما معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ؟
الجواب
معناها: أن العلماء هم الذين يخشون الله.(82/18)
ما الذي خلق أولاً الأرض أم السماء
السؤال
أيهما خلق أولاً الأرض أم السماء؟
الجواب
هذا مبحث واسع، من أراد التفصيل فيه فليراجع كلام الحافظ ابن كثير في تفسير سورة البقرة.(82/19)
حكم الصور الفوتوغرافية
السؤال
ما هو حكم الصور الفوتوغرافية لغير الضرورة وللاحتفاظ بها فقط، مع الدليل من الكتاب والسنة؟
الجواب
الصور الفوتوغرافية لغير الضرورة لا تجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدع صورة إلا طمستها) فلغير الضرورة لا تجوز، ولو كانت جائزة لصور لنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم صوراً وأتي بها إلينا، أما ما يفعله النصارى من الإتيان بصورة مريم، فهو كذب وافتراء وزور فلم تكن مريم عليها السلام متبرجة هذا التبرج المزري، يأتون بصورة مريم ويزعمون أنها التي سار شعرها بين ثدييها، كل هذا افتراء على مريم الصديقة، فهي صديقة وهي عفيفة محصنة عليها السلام، فهي صورة باطلة مكذوبة مفتراة على مريم عليها السلام.(82/20)
حكم قراءة ومس القرآن من الحائض
السؤال
هل يحل للمرأة الحائض قراءة القرآن ومسه؟
الجواب
الحديث الوارد في منع الحائض من قراءة القرآن حديث ضعيف، فحديث: (إني لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض) حديث ضعيف من رواية جسرة بنت دجاجة وهي مجهولة، أيضاً في الباب حديث علي رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأنا القرآن لا يحجبه شيء إلا الجنابة) وهو حديث أيضاً ضعيف، إذاً ما هو المانع من أن تقرأ الحائض القرآن، لم يسلم مانع -إلى الآن- من الكلام فيه، فكيف إذا عارض ما صح من قول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) .
وتقدم أن غير المتوضأ يقرأ القرآن أيضاً من حديث ابن عباس في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الليل يصلي فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ) ففي الحديث أنه قرأ عشر آيات قبل أن يتوضأ صلى الله عليه وسلم، فلا يسلم دليل لمنع الحائض من قراءة القرآن.
لكن قد ورد حديث: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة) ويجمع بينه وبين حديث عائشة: (كان رسول الله يذكر الله على كل أحيانه) وبين حديث ابن عباس: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ عشر آيات قبل أن يتوضأ) ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] (وعند الجماع يقول: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ويجامع أهله) فهل يكره للحائض أن تقرأ القرآن قياساً للحائض على الجنب، فالجنب كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة) يكره له قراءة القرآن، أقول: إن قياس الحائض على الجنب قياس لا يصح؛ لأن كراهية ذكر الله لغير الطاهر -المحدث حدثاً أصغر أو أكبر- نحمله على المبادرة إلى الاغتسال، وهذا مطلب ومقصد شرعي، لكن ماذا عسانا أن نجني من منع الحائض من القراءة؟ بل لم يقدم منعنا لها موعد الطهر، ولم يؤخر موعد الطهر إذاً نبقى على الأصل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] والقرآن ذكر.
بقيت مسألة المس: والمعول عليه في المسألة كتاب ربنا وما صح من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن المسألة لم ينعقد عليها إجماع، فمادام لم ينعقد على المسألة إجماع، إذاً أتخير القول الذي وافق الدليل الصحيح، فنقول: ما هو المانع من مس المصحف للمرأة الحائض؟ يستدل المستدل بقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] فالإجابة على هذا أن عليك أيها القارئ أن تقرأ الآيات السابقة واللاحقة حتى تفهم المراد وتعرف إلى من يعود الضمير في قوله: (لا يَمَسُّهُ) : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77-78] الكتاب المكنون المحفوظ {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] وجمهور المفسرين على أن المقصود بالمطهرين في الآية الملائكة، وأن المقصود بالكتاب المكنون أي: المحفوظ عند الله سبحانه وتعالى.
وأما حديث (لا يمس القرآن إلا طاهر) فكل طرقة تالفه ضعيفة لا يستدل به، من تتبعي أستطيع الآن أن أقول إن جمهور أهل الحديث على تضعيفه.
ثم إن من العلماء من حسنه وحمله في حالة تحسينه على أن المراد بالطاهر المؤمن لحديث: (إن المؤمن لا ينجس) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار.
إذاً ما هو المانع للحائض من مس وقراءة المصحف.
ومن المعلوم أن الفقهاء لا يدققون في مسألة ثبوت الحديث وصحته، بل يبنون الحكم بدون التدقيق على هذه الجزئية، وقد يأتي الحكم بسبب ذلك مخالفاً للحق.
مثلاً قد يبنى على جزئية ما الحكم بشيء، وهي جزئية صغيرة تكون في الحديث، لكن ينبني عليها حكم بإثبات أو نفي، بل حتى أهل الحديث قليل منهم الذي يركز على هذه الجزئيات الصغيرة، وكمثال في حديث جلسة الاستراحة الذي هو من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، في وصفه لصلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد جاء من طريق عبد الله بن نمير في البخاري يقول: (إذا قمت إلى الصلاة فقم حتى تطمئن قائماً ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم اعتدل حتى تطمئن قائماً ثم اسجد حتى) .
الشاهد: أن الحديث فيه بعد القيام من الركوع: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم قم حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) بعد السجدة الأخيرة جاء الخلاف بين الرواة فراوٍ قال: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً ثم قم) هذه الزيادة مروية من طريق عبد الله بن نمير عن عبيد الله، وفي رواية أبي أسامة حماد بن أسامة لم يذكر زيادة الجلوس الأخيرة (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) بل قال: (ثم قم) .
البخاري أخرج الحديث من طريق عبد الله بن نمير في موطن وفي موطن آخر أخرجه وبعد أن أخرجه نبه على كلام أبي أسامة وقال: لم يذكر حماد بن أسامة (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) ، فالحافظ ابن حجر يقول: إن البخاري يومئ إلى تضعيف هذه الزيادة الأخيرة (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) التي هي من رواية عبد الله بن نمير، ومن المعلوم أن شيخ ابن نمير وأبي أسامة واحد وهو عبيد الله فالحديث من طريق واحد وجاء يحيى بن سعيد القطان ورواه أيضاً عن عبيد الله ليس فيه هذه الجلسة، وجاء أيضاً -على ما يحضرني- أنس بن عياض أبو ضمرة وغيره ورووا الحديث ولم يذكروا هذه الجلسة.
فالفقيه لا يدقق في هذه الزيادات، بل قليل من أهل الحديث من يدقق فيها.
فالدقائق الصغيرة مثل هذه التي ينبني عليها حكم تحتاج إلى بحث دقيق جداً، لأنها سيرتب على صحتها أو عدم صحتها الحكم الشرعي بالنسبة لجلسة الاستراحة، وإن كان هناك أدلة أخر في الباب، لكن أصل الاستدلال على جلسة الاستراحة هو حديث أبي حميد الساعدي.
مداخلة: بالنسبة لمس وقراءة القرآن للحائض هل ورد عن نساء النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك شيء؟ الشيخ: بالنسبة للفعل قد يكون ورد عن بعض أزواج النبي عليه الصلاة والسلام أو عن بعض أمهات المؤمنين أنهن قرأن بلا حرج.
الخلاصة أنه لم يحدث في المسألة كما أسلفنا إجماع، ولم يرد شيء يمنع المرأة الحائض من مس وقراءة القرآن من كتاب الله أو صحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمسألة اجتهادية، واجتهادنا الذي نراه حقاً أنه لا بأس للمرأة الحائض أن تقرأ القرآن أو تمس المصحف، والجنب فقط هو الذي يكره له قراءة القرآن، لحديث: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة) .(82/21)
القول الفصل في جلسة الاستراحة
السؤال
ما هو القول الفصل في جلسة الاستراحة؟
الجواب
عمدة القائلين بمشروعية جلسة الاستراحة أربعة أدلة: الدليل الأول: وهو أقواها ما أخرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه في وصفه لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وكان يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان يجلس قبل أن ينهض للثانية والرابعة) .
الدليل الثاني: حديث أبي حميد الساعدي على الخلاف في إثبات زيادة جلسة الاستراحة فيه.
الدليل الثالث: حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته، والخلاف فيه بنفس الطريقة التي سمعتها في حديث أبي حميد الساعدي، فقد روى عنه عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو بن عطاء فذكر الحديث وأثبت فيه هذه الجلسة، عند الترمذي، وغير عبد الحميد بن جعفر روى الحديث عن محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي هريرة ليس فيه ذكر الجلسة، فالخلاف هنا كالخلاف في قصة أبي حميد الساعدي.
الدليل الرابع الذي استدلوا به: من قال بصحة حديث صلاة التسابيح استأنس منه أنه ذكرت فيه هذه الجلسة.
هذه هي حجج القائلين بالجواز.
أما حجج القائلين بعدم المشروعية أو بأنها لا تفعل إلا عند الحاجة: أولاً القائلين بالاستحباب الشافعية كما نقله عنهم النووي وغيره.
أما الثلاثة الآخرون أحمد وأبو حنيفة ومالك رحمهم الله فيقولون: تفعل عند الحاجة، وأجابوا عن حديث مالك بن الحويرث بأن مالك بن الحويرث أسلم متأخراً، وأتى الرسول عليه الصلاة والسلام متأخراً، فكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد ناهز الستين أو تجاوزها عليه الصلاة والسلام.
ووردت رواية أن الرسول علل هذه الجلسة بقوله: (إني قد بدنت) أي: سمنت، فإن ثبتت هذه الرواية أو لم تثبت قالوا: إن مجيء مالك بن الحويرث إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كان في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، فكان يفعلها الرسول للحاجة، بدليل أن الروايات الثابتة الصحيحة -باستثناء ما ذكرنا- هي الغالبة في وصف صلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام ولم تثبت جلسة الاستراحة.
ففرق بين وصف شخص لازم الرسول عليه الصلاة والسلام طيلة الدعوة، ووصف شخص متأخر مكث عند الرسول عشرين يوماً، (قال مالك: أتينا رسول الله ونحن شببة متقاربون) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) استدل به الشافعية فقالوا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا الصلاة ولم يستثن جلسة الاستراحة فقال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وما دام أنه جلس فنجلس.
والآخرون قالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) خبر مجمل أي: صلوا في عموم الذي رأيتموني أصلي به، لكن ليس على التفصيل، وقالوا: إن مالك بن الحويرث أسلم متأخراً والرسول فعلها عند كبر سنه، لأن الروايات الأخر ليس فيها إثبات جلسة الاستراحة، قالوا: ومما يدل على عدم مشروعيتها أنه ليس فيها ذكر، فنحن في الركوع نقول: سبحان ربي العظيم، وفي السجود نقول: سبحان ربي الأعلى، وبين السجدتين ربي اغفر لي ربي اغفر لي، والجلسة الأخيرة نقرأ التشهد، وليس في جلسة الاستراحة ذكر.
والمسألة الأمر فيها على السعة، فإن أحب أحدنا أن يجلس للاستراحة جلس، وإن رأى عدم الجلوس فلا يجلس.
لكن إذا كان الإمام يجلس جلسة الاستراحة، فهل يبقى الأمر على السعة أقول: هنا الخلاف شر، بل افعل ما يفعله إمامك، إلا إذا احتجت أنت إليها لدلالتك ونحو ذلك، فالمسألة فيها الرأيان للعلماء.
وهكذا صار السلف فيها على القولين.
فـ ابن حزم رحمه الله انتصر لإثباتها انتصاراً شديداً، استدلالاً بحديث مالك بن الحويرث رحمه الله تعالى ورضي الله عنه.(82/22)
تفسير سورة النبأ
ذكر الله تعالى في هذه السورة العظيمة أدلة البعث الأربعة، ثم ذكر حال الكافرين في جهنم، وذكر حال المؤمنين في الجنة، ورغب في الإنابة إلى الله تعالى، وختمها بالإخبار أن كل امرئ سيرى ما قدمت يداه في هذه الدنيا، وعند ذلك يتحسر الكافر على ما فرط أشد التحسر حتى إنه يتمنى أنه كان تراباً، فما أعظم ما اشتملت عليه هذه السورة من المعاني الجليلة، والأصول الكبيرة، والمواعظ البليغة.(83/1)
تفسير قوله تعالى: (عم يتساءلون، عن النبأ العظيم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد: فبمشيئة الله تعالى نبدأ من ليلتنا هذه بتناول جزء عم بالتأويل والتفسير، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نبدأ بتفسير سورة النبأ وهي سورة عمَّ، فمن أطلق عليها سورة النبأ فلذكر النبأ فيها، ومن أطلق عليها عمَّ فلابتدائها بكلمة (عمَّ) .
قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] ، (عمَّ) أصلها: عن ما، أي: عن ماذا، فهي مركبة من كلمتين: عن وما، فأدمجت النون في الميم وقيل: عمَّ، كقولهم: مما، فهي كلمتان: من ما، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} أي: عن أي شيء يتساءلون؟ و {يَتَسَاءَلُونَ} معناها: يسأل بعضهم بعضاً، ومن هم الذين يتساءلون؟ كثيرٌ من أهل العلم يقولون: إن الذين يتساءلون هم المشركون، فالمشركون هم الذين يتساءلون.
ويتساءلون عن ماذا؟ أجيب على هذا السؤال في الآية التي تليها، إن سألت -يا محمد- عن أي شيء يتساءلون، فاعلم أنهم يتساءلون {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:2] ، فهذا تأويل هذه الآية.
وقد قيل: إن المراد بالنبأ العظيم هو البعث بعد الموت، وهذا رأي جمهور المفسرين.
وقال فريق آخر من أهل العلم: إن النبأ العظيم هو القرآن، واستدل لهذا القول الثاني بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص:67-68] ، ومن العلماء من قال: إن النبأ العظيم هو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وإرساله إليهم.
فهذه ثلاثة أقوال مشهورة في تفسير النبأ العظيم، وكل قول منها قال به بعض العلماء، والذي عليه الجمهور: أن النبأ العظيم هو: البعث بعد الموت، والمراد بالنبأ الخبر، فعلى هذا يكون تأويل الآيات، عن ماذا يسأل بعضهم بعضاً؟ إن سألت عن ذلك -يا محمد- فاعلم أنهم يتساءلون {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ:2-3] .
إن قال قائل: ذكرتم أن الذين يتساءلون -كما هو رأي أكثر العلماء- هم المشركون، فهل المشركون مختلفون في النبأ العظيم لأن الله تعالى قال: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} ؟ فهل المشركون يختلفون في البعث؟ والمعهود أن المشركين ينكرون البعث! فلماذا اختلفوا؟ وما هو وجه اختلافهم هنا؟ فالإجابة: أن المشركين لم يكونوا جميعاً مطبقين على أن البعث غير آت، بل كان منهم من يقر بالبعث، ومنهم من كان يتشكك في أمره، ومنهم من كان ينفيه بالكلية، فطوائف النصارى يقرون بالبعث، لكن البعث عندهم له صفات أخر، وأحداث أخر غير البعث الذي يعتقده أهل الإسلام، وكذلك طوائف من اليهود، فإنهم يقولون: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] ، وهذا يفيد أنهم يقرون بالبعث، لكن له صفة معينة عندهم.
أما الذين يتشككون في أمر البعث، فكما حكى الله مقالتهم في قوله: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50] ، وقال حاكياً عن بعضهم: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36] ، أي: على فرض أن هناك بعثاً، فهذا الكافر يقول: لئن رددت إلى ربي فإنه قد أكرمني في الدنيا، فسيكرمني بكرامة أكبر منها في الآخرة.
وقال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] ، فكانت هناك طوائف تثبت البعث، لكن على صفات أخر، وطوائف تتشكك في أمر البعث، وطوائف تنفي البعث مطلقاً، كما قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78-79] ، وقال الله سبحانه وتعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:2-3] ، فكانت طائفة منهم تنكر البعث، فهذه أوجه اختلافهم في النبأ العظيم على تفسير النبأ العظيم بأنه البعث بعد الموت.
أما على تأويل النبأ العظيم بأنه القرآن، فأوجه خلافهم فيه على النحو التالي: منهم من يقول: إنه {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] ، أي: هو قصص من قصص اليهود كتبها أو اكتتبها وكتبها له شخص آخر، (تملى عليه بكرة وأصيلاً) كما هو مسطر في كتب اليهود، فاليهود يقولون: إن هذا القرآن من تعليم عبد الله بن سلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن عمى بصائرهم أن ابن سلام لم يسلم إلا في المدينة، وكثير جداً من آيات الكتاب العزيز نزلت على رسول الله بمكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختلف إلى رجل من الموالي بمكة، فطعن الكافرون في القرآن وقالوا: إن هذا الرجل هو الذي يلقن الرسول عليه الصلاة والسلام القرآن، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} [النحل:103] أي: الرجل الذي يميلون إلى أنه علم الرسول، {أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] .
فهذا وجه من أوجه اختلافهم في النبأ العظيم على تأويل النبأ العظيم بأنه القرآن، فطائفة منهم تقول: هو {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] ، ومنهم من قال: إنه قول ساحر، ومنهم من قال: إنه قول كاهن، إلى غير ذلك من الأقوال.(83/2)
أدلة البعث في القرآن
والذي يرجح أن النبأ العظيم هو البعث بعد الموت أن أدلة البعث الأربعة ذكرت في هذه السورة؛ لأن أدلة البعث التي يستدل بها الله في كتابه على البعث تدور على أربعة أشياء، وتتكرر في سور القرآن بأساليب متنوعة، ويصرفها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بسياقات متعددة، وبراهين البعث الأربعة وأدلة البعث الأربعة تدور على الآتي: الدليل الأول من أدلة البعث: خلق السماوات والأرض، فيستدل بخلق السماوات والأرض على البعث، ووجه هذا الاستدلال: أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] ، فالذي خلق الأكبر قادر على خلق الأصغر، إذا كان الله خلق السماوات والأرض فهو قادر على أن يخلق من هو أدنى وأقل من السماوات والأرض، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] .
وهذا الدليل يتصرف بعدة أساليب، والمعنى ثابت، فيأتي هذا المعنى في سياقات متنوعة ومتعددة، في خلال قصص، وفي خلال آيات التذكير، وكله ينصب على هذا المعنى: السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فالذي خلقها قادر على أن يخلق الناس، والأدلة على هذا في كتاب الله متعددة: كقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78-79] ، إلى قوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81] ، وكذلك في مطلع سورة (ق) قال الله حاكياً عن المشركين: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] ، يقول تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق:4-7] ، فلما أنكروا البعث -كما في سورة ق- استدل على البعث بخلق السماوات والأرض قال تعالى حاكياً مقالتهم: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] ، فيقول تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [ق:4-7] الآيات.
ونحو هذا في سورة الغاشية: {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:18-20] ، فكلها آيات تدور على هذا الشيء، فهذا أول استدلال على البعث ألا وهو الاستدلال بخلق السماوات وخلق الأرض.
والدليل الثاني على البعث: يكون بالاستدلال على إحياء بعض الأنفس بعد موتها، كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيما حكى الله عنه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260] ، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] ، وقال تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73] ، وقال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة:259] .
وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، وفي سورة عمَّ شيء مشابه لهذا، ألا وهو: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:9] ، فالنوم موت كما قال الله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) فهذا وجه الدليل الثاني على البعث.
الدليل الثالث على البعث هو: إحياء الأرض بعد موتها، ويذكره الله في كتابه بعدة أساليب، كقوله: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:5-6] ، فالذي أحيا الأرض بعد موتها سيحيي الموتى أيضاً، فهذا الاستدلال الثالث على البعث وهو: إحياء الأرض بعد موتها.
الدليل الرابع على البعث: الخلق الأول، وهو الاستدلال على البعث بأن الذي خلقك أول مرة قادر على أن يعيد خلقك، فالذي صنع شيئاً أول مرة قادر على إعادة صنع هذا الشيء مرة أخرى، كما قال تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15] ، أي: أفأتعبنا وأرهقنا الخلق الأول حتى يتشككوا في البعث؟! فهذه أربعة أدلة على البعث ومضامينها مذكورة في سورة عمَّ، وهذا هو الذي رجح أن المراد بالنبأ العظيم البعث بعد الموت، وسيأتي الكلام عليها واحداً واحداً إن شاء الله.(83/3)
تفسير قوله تعالى: (كلا سيعلمون.)
{كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:4] ، (كلا) كلمة: ردع وزجر ونفي لمعنىً متقدم، فمثلاً: قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا} [عبس:1-11] ، فكلا هنا معناها: وليس الأمر كما تصرفت يا محمد! ليس التصرف الصحيح هو الذي تصرفته في هذا المقام.
فكلا نفي للتصرف الذي تقدم، وللظن الذي تقدم، فكلا أحياناً تتضمن معنى الردع والزجر، فهنا قال تعالى: (كَلَّا) ، أي: ليس الأمر كما ظننتم أنه ليس هناك بعث، وليس الأمر كما توهمتم أن محمداً ساحر، وليس الأمر كما توهمتم أنها: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] ، فهذا الظن ظن خاطئ، {سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:4] أن ظنهم خاطئ، وأن قولهم في غير محله.
{ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:5] ، لماذا كررت {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} ؟ قال فريق من أهل العلم: إنها كررت للتأكيد، أي: إن الأمر ليس كما تظنون، ثم إن الأمر ليس كما تظنون، بل هذا القرآن من عند الله منزل، والبعث آت لا شك فيه.
ومن أهل العلم من قال: إن كلا الأولى التي هي {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} خاصة بالكفار، وقوله: {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} خاصة بأهل الإيمان، وليس هناك دليل يدل على هذا القول.
ومن أهل العلم من قال: هذه الآيات {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} تعم المؤمنين والكفار، فمن المؤمنين من كان يسأل: متى الساعة يا رسول الله؟! أو أن المؤمنين يتبنون القول بأنها قائمة، والكفار يتبنون القول بأنها ليست قائمة، وهذا وجه آخر في التأويل.(83/4)
تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهاداً.)
ثم بدأ الله في ذكر الأدلة على البعث، وهذا هو الذي رجح أن النبأ العظيم هو البعث، فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ:6] ، أي: ألم نخلق الأرض ونمهدها كمهاد الطفل تفترشونها كما يفترش الطفل فراشه ويلتحف بلحافه؟! ألم نمهد الأرض فنجعلها ممهدة تمهيداً؟! {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:7] الوتد هو: الشيء الذي يدق في الأرض، وتربط به الخيمة، وهو معلوم، فالجبال للأرض كالأوتاد، تثبت الأرض بها بإذن الله، قال الله: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:31] ، أي: لئلا تميد بكم، فالجبال تثبت الأرض كما أن الأوتاد تثبت الأشياء.
فالله يستدل على البعث بقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ، والمراد بالأزواج هنا الأصناف، أي: خلقناكم أصنافاً، فمنكم الطويل ومنكم القصير، ومنكم الذكي ومنكم الغبي، ومنكم الصالح ومنكم الطالح، ومنكم الغني ومنكم الفقير، ومنكم الجميل ومنكم الدميم.
ومن العلماء من قال: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ، أي: ذكراً وأنثى، كما قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] ، ومن المفسرين من فسر قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3] ، بقوله: (الشفع) : الخلق، فكل شيء زوجان من الخلق، (والوتر) هو: الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، وهو وتر يحب الوتر) ، فقوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ، لأهل العلم فيها تأويلان: التأويل الأول: أن المراد بالأزواج الأصناف.
التأويل الثاني: أن المراد بالأزواج الذكور والإناث.
ويشهد للمعنى الأول قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131] ، وأما قوله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12] فيشهد للمعنيين معاً، ففي قوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ، قولان: الأول: (أزواجاً) أي: أصنافاً.
والثاني: (أزواجاً) أي: ذكراً وأنثى.
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:9] السبات هو: السكون والراحة، أي: وجعلنا نومكم راحة وسكوناً لأبدانكم، وهي مأخوذة من السبت، وأصل معنى السبت الراحة، فيوم السبت كان عند اليهود يوم الراحة، قال الله: {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] .
الآيات.
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:10] شُبه الليل باللباس؛ لأنه يغطي الأشياء ويسترها كما يستر اللباس الأشياء، فالليل يسترك كما أن الثوب الذي تلبسه يسترك، والليل المظلم يسترك، فالظلام يستتر فيه الناس.
{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:11] تتعايشون فيه، كما قال الله سبحانه وتعالى، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [القصص:71-73] ، أي: في الليل، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:73] ، أي: في النهار.
فالأصل في الليل أنه للسكون والراحة، ومن ثم (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره السمر بعد العشاء) وكان يدعو لأمته أن يبارك الله لها في البكور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها) وهذا شيء ملموس، فإذا صليت الفجر في جماعة، وقلت أذكار الصباح بعد أذكار الصلاة، ثم بدأت عملك، بارك الله لك في يومك، أما أن تنام إلى ما قبل الظهر، فتذهب عليك البركة التي في الصباح، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان ينام بعد العشاء في الغالب إلا للضرورة.
قال الله جل ذكره: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ:12] السبع الشداد هي السبع السماوات، ووصفت بأنها شداد لإحكامها، فهي محكمة إحكاماً شديداً كما قال سبحانه في الآيات الأُخر: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] أي: السماء التي شد بعضها إلى بعض وحبكت، كما يقول القائل للذي يصلح النعال مثلاً: اُحْبُكِ الخيط، أي: شده بقوة، أو يقول لك قائل إذا رآك متشدداً مثلاً: لماذا أنت محبكها يا عم؟ فالسماء ذات الحبك أي: التي حبك بعضها إلى بعض، وشد بعضها إلى بعض، فأصبحت شديدة.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ:13] ، السراج الوهاج هو المضيء، والمراد بالسراج الوهاج: الشمس.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} [النبأ:14] المعصرات هي: السحب التي امتلأت بالماء وأوشك أن ينزل منها المطر، كما يقولون في المرأة التي أشرفت على الحيض: أعصرت أو قدم إعصارها، يعني: اقترب وقت نزول الحيض منها، فالمعصرات: السحب التي امتلأت ماءً وأوشك أن ينزل منها الماء.
ومن أهل العلم من قال: إن المعصرات هي الرياح، لكن الجمهور على أن المعصرات هي السحب الممتلئة بالماء التي أوشكت أن ينزل منها الماء.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:14] ، والثجاج هو المتتابع المتدفق، أي: ماء بعد ماء متتالٍ متتابع ينزل بشدة وبغزارة، كما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أفضل الحج: العج، والثج) وما هو العج، وما هو الثج؟ العج: الإكثار من التلبية، والثج: الإكثار من الذبح، بأن تذبح بقرة، وتذبح جملاً، وتذبح شاة، تكثر الذبح فهذا أفضل الحج، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام (نحر في حجته مائة بدنة من الإبل) ، فمعنى الثج هو التتابع.
وفي حديث المرأة التي جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام -وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل وهو متكلم فيه- تسأله عن دم الاستحاضة، فقال لها: (أنعت لكِ الكرسف) -يعني: أصف لكِ القطن- أي: سدي الفرج بالقطن ليقف الدم، قالت: إنما أثج ثجّاً يا رسول الله! أي: القطن لا يستطيع أن يمسك هذا الدم، فإنه ينزل بغزارة تدفع القطن، وهذا معنى الثج.
قال الله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} [النبأ:15] وهذا من أدلة البعث، وسبق من أدلة البعث: خلق السماوات والأرض، وجعل النوم سباتاً.
وقوله: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} ، هو: ما يقتات منه الناس كالبر مثلاً، وهي الغلة التي نسميها في بلادنا القمح، والذرة والرز وغير ذلك، والنبات هو ما يأكله الحيوان، وقد يأكل الناس بعضه أيضاً.
{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ:16] ، الجنات هي: الحدائق والبساتين التي كثرت فيها الأشجار وتشابكت حتى غطت من بداخلها لكثرة الأشجار فيها، فهذا التفسير اللغوي للجنة، وهو مأخوذ من تغطية الأشجار، وأي شيء يغطي يسمى جنة، قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76] ، وجُنَّ فلان، أي: غطي على عقله.
فالجنة يطلق عليها جنة لكثرة أشجارها حتى تغطي الناس الذين فيها من كثرة ما فيها من خيرات، {أَلْفَافًا} ، أي: بساتين وحدائق أشجارها ملتفة.(83/5)
تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل كان ميقاتاً.)
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17] ، كل هذه الأشياء ذكرت لإثبات البعث.
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} ، أي: وقتاً مؤقتاً للفصل بين العباد، وسيرون فيه عاقبة التكذيب الذي كذبوه.
{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} [النبأ:18] الصور: قرن ينفخ فيه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الصور: قرن ينفخ فيه) ، أما قتادة فيرى أن الصور: الخلق.
والتأويل على قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} ، أي: تنفخ الأرواح في الأجساد، وهذا المعنى دارج في عدة آيات من كتاب الله، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:27-29] ، أي: ادخلي -أيتها الأرواح- في أجساد عبادي، وهذا تأويل عبد الله بن عباس، واختاره ابن جرير الطبري ولم يحك غيره، قال الطبري في تأويل قوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} ، أي: ادخلي أيتها الأرواح التي خرجتِ من عبادي في الدنيا بعد أن ماتوا، وصعدتِ إلى السماء؛ ادخلي مرة ثانية في عبادي وذلك يوم البعث، واستدل لها بقراءة وردت في الآية: (فادخلي في عبدي) أي: ادخلي في جسد عبدي.
وكثير من العلماء قالوا: إن قوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} ، أي: ادخلي -يا أيتها النفس- في زمرة عبادي الصالحين، وانتظمي في سلك عبادي الصالحين، وتنعمي معهم حيث يتنعمون، والله أعلم.
شاهدنا: أن قتادة قال: (الصور) : الخلق، والمراد بالنفخ في الصور عند قتادة: أن تنفخ الأرواح في الأجساد، لكن التأويل الأصح هنا -وهو الذي عليه الأكثرون- أن المراد بالنفخ في الصور: هو نفخ إسرافيل في الصور، قال عليه الصلاة والسلام: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته وانتظر متى يؤمر؟!) .
{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:18] ، الأفواج: الجماعات، جمع فوج.
وأفادت هذه الآية الكريمة أن الناس يأتون يوم القيامة أفواجاً، ونحوها قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73] ، ونحوها أيضاً قوله تعالى في شأن قوم فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] ، فكيف يجمع بين هذا الذي حاصله أن بني آدم يأتون يوم القيامة أفواجاً، وبين قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95] ؟ تقدم مراراً أن دفع مثل هذا الإشكال يكون بما حاصله: أن يوم القيامة تتعدد فيه المواقف، فمقدار ألف سنة مما تعدون، ففي بعض الساعات يحصل فيها كذا، وبعض الساعات يحصل فيها شيء آخر، فعند العتاب: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95] ، (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) الحديث.(83/6)
تفسير قوله تعالى: (وفتحت السماء فكانت أبواباً.)
قال تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ:19] ، فهذه السماء التي قال الله عز وجل عنها: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3] يعني: انظر إلى السماء بدقة وركز بصرك إلى السماء هل ترى فيها ثقباً واحداً؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} .
فهذه السماء التي هي السبع الشداد خلقت على ما خلقت عليه الآن وليس فيها فروج كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] ، فيوم القيامة تفتح وتشقق، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25] ، وينزل الملائكة الذين كانوا فيها وفوقها {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25] ، وكما قال تعالى: {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:16] ، فتتقطع السماء، وتتفتح السماء، وينزل من أبوابها الملائكة.
قال تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} : قال فريق من العلماء أي: أبواباً لنزول الملائكة، ودليله قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} .
{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} [النبأ:20] أي: أزيحت وأزيلت عن أماكنها، {فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ:20] أي: كالسراب، والسراب هو: الشيء الذي يراه الناظر من بعيد فيظن أنه ماء وليس بماء، فالمسافر في الصحاري في وقت الظهيرة من شدة العطش ينظر إلى الأرض من بعيد فيظنها بحراً من الماء، فيأتي إليها وليس ثم ماء، فهذا هو السراب.
قال تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} ، فالجبال تعتريها أمور، قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47] ، وقال تعالى: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:14] ، فتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105] ، وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] .
فمن العلماء من قال: إن الجبال تسير عن أماكنها وتدك وتنسف، كما قال تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:5-6] ، وبعدها تتطاير في الهواء، وتنسف نسفاً، والآيات التي ذكرت وصف الجبال يوم القيامة هي مراحل مرتبة، وليس عندنا دليل على كيفية الترتيب، هل ستكون هباءً منبثاً أولاً؟ أو تكون كالعهن المنفوش أولاً؟ أو تدك أولاً؟ لكن الظاهر أن الدك أولاً؛ لأن الدك يصحبه تفتت، وبعد التفتت تكون كما ذكر الله سبحانه وتعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:9] ، أي: كالصوف، وبعدها كالعهن المنفوش، أي: الصوف المتطاير، إلى غير ذلك.
قال تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} أي: عن أماكنها، فإذا نظرت إلى أماكنها تظن أن هناك جبالاً، ولكنها سراب لم يعد لها أثر.(83/7)
صفة جهنم وما أعد فيها للكافرين
ثم قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ:21] ، ترصد أهلها، قال فريق من العلماء: إذا مروا عليها ترصدهم، ومن هذا أن ناساً يمرون على الصراط من أهل النار فجهنم تعرفهم، ليس كالكمين الذي على مداخل البلاد إذا مر شخص التقطه، فجهنم ترصد أهلها بدقة، وقد وصفها الله أنها ذات رصد.
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} ، فمن العلماء من قال: ترصد أهلها إذا مروا عليها، فتأخذهم بكلابيب وحسك على الصراط كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المرور على الصراط.
ومنهم من قال: {كَانَتْ مِرْصَادًا} ، أي: كانت مرتقبة، يعني: منتظرة أهلها الآن.
{لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} [النبأ:22] جهنم ترصد الطغاة، وتنتظر موتهم، وتنتظر بعثهم، {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} ، لمن؟ قال تعالى: {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} ، وهل هي للطاغين فقط أم يدخلها أيضاً طغاة من المسلمين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ يقيناً أنه يدخلها أيضاً طغاة من المسلمين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لحديث المفلس، ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:130-131] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15-16] ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة متوافرة.
{لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} (مآباً) معناها: مرجعاً.(83/8)
الرد على من قال بفناء النار
{لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] أي: ماكثين، وقد يتوهم متوهم من هذه الآية الكريمة أن النار لها أمد معدود ومعلوم، وستنتهي بعد هذا الأمد المعدود والمعلوم لقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} ، وقد وقع في هذا الخلل عدد من العلماء، فزعموا أن النار ستفنى مستدلين بقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} ، قالوا: وبعد الأحقاب فناء.
واستدلوا أيضاً في هذا الباب بقول الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:106-107] ، لكن أجاب عليهم جمهور أهل السنة من وجوه حاصلها: أنهم لو أمعنوا النظر في هذه الآية نفسها والآية التي بعدها لعلموا أن الصواب خلاف ما ذهبوا إليه، فالله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} [النبأ:23-24] ، أي: في هذه الأحقاب، {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:25] ، أي: طعامهم في هذه الأحقاب الحميم والغساق، {جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:26-30] ، فوقت الأحقاب طعامهم الحميم والغساق، وبعد الأحقاب هل هناك تخفيف؟ الآية نفت ذلك فقال تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} .
وأجاب أهل السنة على قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] ، فقالوا: إن الله شاء ألا يخرجوا منها، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ، وقال تعالى: {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74] ، وقال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الموت يذبح على قنطرة بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل النار! خلود فلا موت، ويا أهل الجنة! خلود فلا موت) .
والآيات في هذا الباب ترد على قائل هذا القول رداً شديداً، فالنار لا فناء لها، قال تعالى: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74] ، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56] ، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] ، {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] .(83/9)
طعام أهل النار في الأحقاب المذكورة في الآية
قال تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} في هذه الأحقاب ما هو طعامهم وما هو شرابهم؟ {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} ، والبرد هو البرد المعهود الذي يبرد على القلوب والأبدان، وهذا قول الجمهور، ومن أهل العلم من قال: إن البرد هو النوم، واستدل ببيت من الشعر: بردت مراشفها عليَّ فصدني عنها وعن قبلاتها البرد أي: النوم، إلا أن ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى قال: وكتاب الله إنما يفسر على المعهود المشهور من كلام العرب، ولا يفسر على اللغات القليلة، وإن كان البرد من معانيه النوم، لكن يُفسَّر على الغالب الدارج في لغة العرب، فالبرد هو البرد المعهود.
{إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:25] ، والحميم هو: الماء الحار الذي بلغ النهاية في الحرارة، والغساق هو: البارد الذي بلغ النهاية في البرودة، فيشرب الكافر شيئاً ساخناً في غاية السخونة، قد بلغ أعلى درجات الحرارة، ثم يعقب بشيء بارد في غاية البرودة، عياذاً بالله.
قد يقول قائل: هنا قال تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} ، وفي الآية الأخرى قال: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] ، وفي الآية الثالثة قال: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:36-37] ، فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ فالإجابة: أنهم في أزمان معينة وفي أحقاب معينة لا يذوقون البرد والشراب، وفي أحقاب أخرى لا يذوقون إلا الغسلين الذي هو صديد أهل النار، وفي أوقات أخرى {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} ، وهو نبات ذو شوك، وهو أخبث أنواع النبات، ويكون يوم القيامة في جهنم، فهذه الأطعمة تتنوع أوقاتها، فوجبة لهم فيها غسلين، ووجبة لهم فيها طعام من ضريع، ووجبة {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} .
وقوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} {إِلَّا} هي هنا بمعنى: لكن، عند بعض العلماء، أي: لكن يذوقون الحميم والغساق، فالحميم والغساق ليس من البرد والشراب، فهو استثناء منقطع، من غير جنس المستثنى منه، فهذا الذي يسميه العلماء: استثناء منقطع، وهو الذي يصلح أن تدخل عليه أن، فيقال: لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا أنهم يذوقون الحميم والغساق، فإذا صلح أن يدخل عليه (أن) عند بعض اللغويين فهو استثناء منقطع.
والاستثناء المنقطع له أمثلة، كقول الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس (وحضر القوم إلا حماراً) فالحمار ليس من جنس القوم، فهذه أمثلة للاستثناء المنقطع.
{جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] ،أي: جزاءً موافقاً لأعمالهم السيئة التي عملوها، فالجزاء من جنس العمل.
{إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} [النبأ:27] .
(لا يرجون) : من العلماء من قال في معناها: لا يخافون، واستدل بقوله تعالى حاكياً قول نوح لقومه: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] ، أي: لا تخافون الله عز وجل، فمنهم من قال: إن المراد بالرجاء هنا الخوف، أي: لا يخافون حساباً على أعمالهم.
ومنهم من قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} ، أي: لا يرجون ثواب الأعمال التي يعملونها، والقول الأول عليه الأكثر.
{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ:28] ، أي: تكذيباً شديداً، {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ:29] أي: كل شيء عملوه أحصي عليهم في كتاب، والآيات تؤيد هذا المعنى بكثرة، قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] ، وقال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] ، وقال تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13-14] ، وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} ، أي: عددناه وكتبناه كتاباً، {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30] .
وقيل: إن قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} ، خاص بأهل القبلة، وهذا التأويل وإن كان في معناه صحيح، فإن من أهل القبلة من يمكث في النار أحقاباً ثم يخرج، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله) إلا أن لفظ: الطغاة هنا يتنزل على الكافرين لقوله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} ، وهذا حال الكفار.(83/10)
تفسير قوله تعالى: (إن للمتقين مفازاً)
أما حال أهل الإيمان فقال الله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ:31] ، والمفاز من الفوز، وهو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، وما هي صورة الفوز التي فازوا بها؟ قال تعالى: {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} [النبأ:32] ، فهذا هو الطعام، {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ:33] ، والكاعب من النساء هي: المرأة التي لم يتدل ثديها، والمرأة إذا تزوجت وحملت ووضعت أصبح ثديها متدلياً كما هو معلوم، لكن إذا كانت بكراً فيكون ثديها متماسكاً، فالكواعب من الأبكار، والبكر هي التي لم يتدل ثديها، (أتراباً) أي: أعمارهن واحدة.
{وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ:34] ، قال بعض العلماء: الدهاق هي الكأس الممتلئة، وقال آخرون: هي الكأس التي فيها شراب صافٍ.
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} [النبأ:35] .
من العلماء من قال: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} ، أي: في الجنة {لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} فليس هناك كلام لا فائدة فيه، وليس هناك تكذيب من شخص لشخص آخر في الجنة.
ومن العلماء من قال: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} ، أي: أثناء شربهم للكأس من الخمر كما هو حال أهل الدنيا، فإذا شرب رجل في الدنيا كأساً من الخمر فإنه يلغو ويسب ويكذب الناس ويكذبونه، كما حدث ذلك على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، كما هو معلوم في قصة حمزة عندما شرب الخمر حتى ثمل وذلك قبل تحريم الخمر، فقال له الرسول: (لماذا صنعت هكذا؟) فنظر إلى الرسول من أعلى إلى أسفل وقال: وهل أنتم إلا عبيد لآبائي!! فأهل الجنة لا يسمعون لغواً عند شربهم لكأس الخمر، فلا تذهب عقولهم، ولا يتقولون بكلام فيه لغو ولا تكذيب.
فهذان تأويلان لأهل العلم في هذه الآية، وهذه الآية كقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25-26] .
{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابَاً} [النبأ:36] ، أي: على أعمالهم الصالحة.
{يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ:40] ، أي: ينظر المرء ما عمل، ومن المراد بالمرء هنا؟ من العلماء من قال: إن المراد به المسلم، ودل على هذا التعقيب بالكافر.
ومنهم من قال: المرء عام، فكل امرئ ينظر ما قدمت يداه، والكافر لما يرى السوء الذي قدمته يداه يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} .
{وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] ، من العلماء من قال: إن الكافر يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} عندما يرى البهائم قد تحولت إلى تراب، ولم يرد بهذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما علمت، لكن البهائم تحشر لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) كما في صحيح مسلم، لكن من العلماء من قال: تحشر ويقتص لبعضها من بعض ثم يقال لها: كوني تراباً، فحينئذٍ يقول الكافر {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} ، وهذا القول الأخير هو قول جمهور المفسرين، لكن لم نقف في ذلك على خبر ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وسلم.(83/11)
الأسئلة(83/12)
حكم وضع سجادة للإمام
السؤال
هل وضع سجادة خاصة بالإمام في الصلاة بدعة؟
الجواب
وضع السجادة الخاصة بالإمام خلاف الأولى، لكن الوصول بها إلى حد التبديع لا ينبغي؛ لأن النبي قال لـ عائشة رضي الله عنها: (ناوليني الخُمرة -أي: ناوليني السجادة- قالت: إني حائض، قال: إن حيضتكِ ليست في يدك) ، ففي قوله: (ناوليني الخُمرة) دليل على أنه كانت له خمرة في المسجد، لكن هل كانت خاصة بالرسول يصلي بها حيث شاء في أي وقت، أو أنها خمرة في المسجد يُصلَّى عليها؟ فهذا يهون من الخطب، ولا يجعلنا نحكم بالتبديع لمن وضع هذه السجادة، صحيح أننا لا نضعها، لكن الحكم بالتبديع لا ينبغي أن يتسرع فيه.(83/13)
حكم تحديد الوقت بين الأذان والإقامة
السؤال
هل تحديد المواقيت بين الأذان والإقامة بدعة؟
الجواب
إن تثبيت وقت بين الأذان والإقامة لم يكن على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول كان في صلاة العشاء إذا اجتمع الناس أقام الصلاة، وإذا تأخر الناس أخر الإقامة، وفي صلاة الظهر إذا كان الجو حاراً أخر الصلاة حتى يحصل الإبراد، وإن كان الجو لطيفاً صلى عليه الصلاة والسلام الظهر في أول وقتها، فوقت الإقامة تختلف باختلاف الأحوال.
لكن إن جاء شخص وقال: نحن في بلدة معينة أو في مصنع من المصانع مثلاً، ومن الناس من يتلاعب في الدوام على أن الإقامة تؤخر أو تقدم وتحدث مشاكل، ولهذا حددوا الإقامة، فنقول: الأولى اتباع هدي رسول الله، لكن إذا فعلها شخص فالوصول إلى التبديع أو الحكم بالتبديع يعكر عليه قول من قال: إنها من المصالح المرسلة، فالحكم بالتبديع لا ينبغي أن يتسرع فيه.(83/14)
التعامل مع من يتعامل بالربا
السؤال
ما حكم عمل اشتراك في (الباص) إذ إن النقود التي ندفعها للاشتراك يتم استثمارها، وبالطبع فإنه استثمار ربوي؟
الجواب
أنت تدفع أجرة مقابل ركوب، وكون صاحب القطار يأخذها ويضعها في بنك، أو يضعها في النار، أو يضعها في جيبه، ليس لك دخل في هذا، والواجب عليك أن تبرئ ساحتك أمام الله، أنت تدفع أموالاً مقابل الركوب، وبعد ذلك ليس لك أن تفتش أين يضعها، وتسأله هل وضعها في البنك؟ وهل البنك ربوي.(83/15)
التكفير بدون علم
السؤال
بعض الناس يقول: لا يجوز أن تكفر من وقع في كفر، ولكن احكم على فعله بأنه كفر، وليس هو بكافر؟
الجواب
إذا كنت من عوام الناس فلا تبادر بالتكفير، ودع التكفير لأهل العلم الذين يعلمون العلم الشرعي، ويعلمون حال الشخص الذي سيحكم عليه، لا تفتح باب التكفير وأنت جاهل لضوابط التكفير وبالأعذار التي تبيح للشخص أن يتكلم بكلمة الكفر، فتأثم، وتحدث لك مشاكل.(83/16)
حكم تلاوة القرآن بغير وضوء
السؤال
ما حكم قراءة القرآن بغير وضوء؟
الجواب
جائزة مع الكراهة، أما الجواز فلحديث عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله) ، أما الكراهة فلحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إني كرهت أن أذكر الله على غير وضوء) ، وإن كان في نفسك شيء من ذلك، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك.(83/17)
حديث: (زر غباً تزدد حباً)
السؤال
حديث (زر غباً تزدد حباً) ؟
الجواب
الراجح عندي أنه ضعيف، والله تعالى أعلم، ومن العلماء من حسنه، لكن الراجح -والله أعلم- أنه ضعيف.(83/18)
حكم البيع والشراء في المسجد
السؤال
ما حكم البيع والشراء في المسجد؟
الجواب
لا يجوز البيع والشراء في المسجد، ومن وجدته يبيع ويشتري في المسجد فقل له: لا أربح الله تجارتك!(83/19)
هل يقال: إن الله بين السماء والأرض؟!
السؤال
بعض الناس يؤولون هذه الآية: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} [النبأ:37] ، على أن الله بين السماء والأرض؟
الجواب
المعنى: رب السماوات ورب الأرض ورب ما بين السماوات والأرض، هذا هو التأويل الصحيح، أما أن تقول: الرحمن بين السماء والأرض، فهذا كلام غير صحيح أبداً.(83/20)
مساعدة المرأة للمرأة في بيتها مع التحفظ عن رؤية الأجانب لها
السؤال
هل إذا ذهبت إلى جارة لي غير صالحة وعندها صبيان لمساعدتها في عمل بيتها، وهي تحافظ عليَّ ولا يراني أحد، فهل هذا جائز؟
الجواب
إذا كانت هناك محافظة عليكِ فجائز.(83/21)
تفسير سورة عبس
ورد في سورة عبس الكثير من الآيات التي تحتوي على الكثير من المعاني العظيمة، منها: ما جاء فيها من عتاب الله تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم في شأن الأعمى، ومنها تذكير الإنسان بنعم الله تعالى التي قد يقف الإنسان تجاهها موقف الكفران، ثم ختم الله السورة بذكر موقف القيامة وما فيه من الأهوال وانقسام الناس فيه بحسب أعمالهم.(84/1)
تفسير قوله تعالى: (عبس وتولى.)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد: فبمشيئة الله تعالى نتناول تفسير سورة عبس، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1-3] .
من الذي عبس وتولى؟ وما معنى عبس؟ ولماذا عبس؟ الذي عبس وتولى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لماذا عبس ولماذا تولى؟ قال الله سبحانه وتعالى: {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:2] يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم عبس وتولى لمجيء الأعمى، ومعنى (عبس) قطب وجهه وجبينه تكرهاً، أي: تكرهاً لمجيء الأعمى إليه.
للآية سبب نزول بمجموع الطرق، ولسياق آيات الكتاب العزيز يصح ألا وهو: أن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو قوماً إلى الإسلام منهم كبراء قريش، وكان صلى الله عليه وسلم منشغلاً في دعوتهم إلى الإسلام راغباً في هدايتهم إليه، فأقبل ابن أم مكتوم وهو يقول: أرشدني يا رسول الله! والنبي صلى الله عليه وسلم مقبل على الحديث مع أئمة الكفر يدعوهم إلى الإسلام، وابن أم مكتوم يكرر: أرشدني يا رسول الله! والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إليه، ثم التفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم متضايقاً قاطباً وجهه، كارهاً لمقالته ولمجيئه، وقال ابن أم مكتوم: أترى بما أقول بأساً يا رسول الله؟! فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1-2] أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبس وتولى لمجيء الأعمى.
ثم قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ} [عبس:3] أي: وما يعلمك يا محمد، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] أي: لعل هذا الأعمى يزكى، يعني: يتطهر من ذنوبه، فالتزكية تطلق على التطهير من الذنوب، ومنه قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، ومنه قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10] .
قال سبحانه: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] ، من العلماء من فرق بين قوله: (وَمَا يُدْرِيكَ) ، وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} [الحاقة:3] ، فقالوا: إن قوله: (وَمَا يُدْرِيكَ) فلم يدره الله عز وجل، أما: (وَمَا أَدْرَاكَ) فإن الله أدراه، كما قال تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1-3] ، فأخبره الله بالحاقة وتفاصيل ما في الحاقة.
أما (وَمَا يُدْرِيكَ) كما في قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:17] ، فلم يدره بوقتها سبحانه وتعالى.(84/2)
تفسير قوله تعالى: (أو يذكر فتنفعه الذكرى.)
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ} [عبس:3-4] والتذكرة: الاتعاظ والاعتبار، {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:4] .
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:5] أي: من استغنى عن الدخول في الإسلام بأمواله وأولاده وجاهه وسلطانه وثرائه، أما من استغنى بهذه الأشياء عن الدخول في الإسلام، {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:6] أي: تتعرض له رجاء أن يسلم.
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:5-7] يعني: ليس عليك إثم إذا تولى وأعرض، {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:7] يعني: ما عليك ضرر من عدم تزكيته لنفسه، إنما عليك فقط البلاغ كما قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] ، وكما قال سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية:21-33] الآيات.
فيقول سبحانه: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:7-10] .
(أما من جاءك يسعى) : يجتهد في المجيء إليك وفي مقابلتك، وهو خائف وجل من الله سبحانه: {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:10] أي: تنشغل عنه.
{كَلَّا} [عبس:11] ليس التصرف كما تصرفت يا رسول الله! ليس هذا هو التصرف، فكلمة: (كلا) تحمل معنى النفي لما تقدم مع الردع والزجر، هذا في حق البشر، كلمة: (كلا) تنفي الكلام المتقدم أو المعاني المتقدمة أو التصرفات المتقدمة مع تضمنها للزجر والردع.
فليس الأمر كما تصرفت يا محمد! لكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للمعاني شأن آخر.
أرشدت الآيات إلى أنه ينبغي الإقبال على المقبلين على الله وإن كانوا فقراء، وفي هذا نزل قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:52-54] .
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: فيّ نزلت هذه الآيات: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] : أنا وابن مسعود وبلال ورجلين من قريش لم يسمهما، نزلت هذه الآيات: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52] في ستة: جاء المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا محمد! اطرد هؤلاء عنك، لا يجترئون علينا، فكيف نجلس نحن وهؤلاء أمامك؟ فإننا إذا جلسنا أمامك تجرئوا علينا، فاطردهم لعلنا نفكر في الدخول في الإسلام، فنزل قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52] ، وقوله تعالى أيضاً: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] .
ففي هذه الآيات تأديب للدعاة إلى الله، صحيح أننا أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، لكن مع إنزال الناس منازلهم لا نضيع حق الفقراء وحق الضعفاء أمام المناصب الزائلة، والوجاهات التي ستزول وتفنى، فكل له حق يؤدى إليه.
في صحيح مسلم أن أبا سفيان مر على ملأ فيهم بلال وصهيب وعمار وسلمان، فلما رأوه -وكان ذلك عام الفتح- يمشي في الناس، وكان قبل ذلك يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، ما زال هذا الرجل يمشي على وجه الأرض؟ فقال أبو بكر: أتقولون هذا لسيد قريش؟ ثم انطلق أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بالذي كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أغضبتهم يا أبا بكر؟ إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك عز وجل، فرجع أبو بكر وقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: غفر الله لك يا أبا بكر) .
فلا ينبغي أبداً أن تبتعد عن الفقراء المقبلين على الله، فإن الله سبحانه وتعالى عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك.
قوله تعالى: {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:2] أي: بمجيء الأعمى، إن قال قائل: كيف قال الله سبحانه وتعالى: {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:2] ووصفه بالعمى، وهو سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11] ؟ فالإجابة على هذا من وجهين: الوجه الأول: أن الله سبحانه وتعالى ذكره بالأعمى لبيان عذره في مقاطعته للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي أنه صحيح أنه جاء وقاطعك يا محمد! وأنت تدعو القوم إلى الإسلام، ولكن معه عذره، فهو أعمى، وكما قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] فليس على الأعمى حرج فيما لا يدرك إلا بالبصر، هذا وجه.
والوجه الثاني: أن الشخص إذا عرف بصفة من الصفات، واشتهر بها في الناس ولم يكن يتضايق من ذكره بها فلا بأس أن يدعى بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الظهر ركعتين وانصرف بعد الركعتين قال رجل في يديه طول: (يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لا هذا ولا ذاك، قال: بل قد حدث شيء من ذلك يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: أحقاً ما يقول ذو اليدين؟!) فلقبه النبي عليه الصلاة والسلام بـ ذي اليدين لطول في يديه.
وقد درج على ذلك السلف، فمن اشتهر بلقب يكره عند عموم الناس، ولم يتبرم من دعوته به، نادوه به، وكلكم يعرف الأعمش؛ فـ الأعمش هو سليمان بن مهران وكان في عينيه عمش، وكان دميم الخلقة، وكان يقول: لو كنت بقالاً ما اشترى مني أحد، ومع ذلك لم يكن يتبرم من هذه الصفة، فكان الناس ينادونه بـ الأعمش دوماً.
كذلك الأعرج، وكذلك المقبري؛ لأن بيته كان قريباً من المقابر، وكذلك ابن دقيق العيد لقب بـ ابن دقيق العيد لشدة بياضه، وكذلك الدراوردي كان من بلاد إذا طرق أحدهم طارق يقول: اندر، يعني: ادخل، فلما ذهب إلى المدينة وأقام بها كانوا إذا جاءوا عليه قال لهم: اندروا اندروا، يعني: ادخلوا ادخلوا، فلقب بـ الاندراوردي ثم حذفت النون تخفيفاً فقيل: الدراوردي إلى غير ذلك.
فالشخص إذا اشتهر بلقب إن كان هذا اللقب مكروهاً في الناس لكن تعارفوا عليه به، وهو لم يتضايق منه جاز لهم أن يدعوه به، وهذا هو الوجه الثاني، والله أعلم.
من العلماء كـ القرطبي وقبله الرازي ونقلوه عن بعض علمائهم أنهم خطئوا ابن أم مكتوم في ذهابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما كان ينبغي أن يذهب إلى الرسول وهو منشغل بدعوة القوم إلى الإسلام، فإن هذا لا يليق، ومنهم من تحامل عليه تحاملاً شديداً، ولكن رب العزة سبحانه وتعالى وصفه بأنه جاء يسعى وهو يخشى، فلا معنى لكلام شخص فيه، بل كل ما قيل فيه مردود، والله سبحانه وتعالى يعلم المسلمين في صورة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.(84/3)
تفسير قوله تعالى: (فمن شاء ذكره.)
قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:8-9] تتشاغل {كَلَّا} [عبس:11] ليس الأمر كما ذكرت {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس:11-12] ذكر ماذا؟ من العلماء من قال: ذكر القرآن، أو انتفع بالتذكرة {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس:13-15] .
(صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) من العلماء من قال: هي اللوح المحفوظ: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:13-14] ما هو وجه الربط بين قوله: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى} [عبس:8-9] و {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:5-6] ، وبين قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} [عبس:11-13] ؟ وجه الربط كما قال بعض العلماء: فيه.
للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: إذا أعرض هؤلاء المشركون يا محمد! عن القرآن وعن ما جئت به فهذا القرآن موجود بأيدي خلق كرام، وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم سفرة كرام بررة، يعني: إن تولى هؤلاء الكفار عن القرآن فاعلم أن القرآن في اللوح المحفوظ مع ملائكة كرام مهطعين لله سبحانه وتعالى، يعني بمعنى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] يعني: لا يحزنك إعراضهم وتوليهم عن هذا القرآن فإنه موجود بأيدي خلق هم أكرم منهم وهم السفرة الكرام البررة، هذا وجه الربط، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:12-14] مطهرة من كل عيب ومن كل نقص ورذيلة، مطهرة من كل ما لا يليق بها، مطهرة من عبث الشيطان كما قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] على رأي من فسر الباطل بأنه الشيطان.
{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس:13-15] والسفرة: الملائكة، ومن العلماء من قال: إن السفرة هم ملائكة مخصوصون؛ وهم القراء للقرآن، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة) الحديث.
ومنهم من قال: إن السفرة هم الملائكة السفراء بين الله وبين خلقه، الذين يسفرون بين الله عز وجل وبين الأنبياء وبين سائر الخلائق، كما قال القائل: وما أدع السفارة بين قوم وما أمشي بغش إن مشيت (ما أدع السفارة بين قوم) السفارة: التنقل بين القوم للإصلاح، ومنه التسفير الذي يسفر الآن في الدول.
وما أدع السفارة بين قوم وما أمشي بغش إن مشيت فقال العلماء: إن السفرة هم الملائكة الذين يسفرون بين الله سبحانه وبين الرسل.
فالقرآن بأيدي هؤلاء السفرة: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:15-16] والبررة: هم المؤمنون، فالبر هو المطيع، وللأبرار معان أخرى تأتي في محلها إن شاء الله.(84/4)
تفسير قوله تعالى: (قتل الإنسان ما أكفره.)
{كِرَامٍ بَرَرَةٍ * قُتِلَ الإِنْسَانُ} [عبس:16-17] ما معنى قتل؟ قتل في أغلب آيات الكتاب العزيز معناها: لعن.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] أي: لعن الخراصون، {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] أي: لعن أصحاب الأخدود، فالله يقول: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] ما المراد بالإنسان؟ هل المراد بالإنسان الإنسان عموماً أو الإنسان الكافر؟ الظاهر أن المراد: الإنسان الكافر، فعليه: قتل أو لعن كل إنسان كافر؛ مشركاً كان أو يهودياً أو نصرانياً وسواء كان أمريكياً أو إنجليزياً أو فرنسياً أو روسياً كلهم قال الله سبحانه وتعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ} [عبس:17] لعن هذا الإنسان، {مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] .
في قوله تعالى: {مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] ثلاثة أقوال للعلماء: القول الأول: أن (ما) تعجبية (مَا أَكْفَرَهُ) .
القول الثاني: (ما) استفهامية أي: ما الذي حمله على الكفر؟!.
الثالث: ما أشد كفره! هذه الأقوال الثلاثة في: (مَا أَكْفَرَهُ) .
ثم يقول سبحانه: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18] ما هو الربط بين الآيتين: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] وقوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18] ؟ كما يقول لك القائل ولله المثل الأعلى: لماذا تستكبر أنت ابن من؟ أبوك من؟ وأمك من؟! لماذا هذا الكبر وهذا الغرور وهذه الغطرسة؟ أنت أبوك فلان وأمك فلانة، يعرفهم الناس جميعاً، كما قال الشاعر: كيف يزهو من رجيعه أبد الدهر ضجيعه وهو منه وإليه وأخوه وربيعه يعني: كيف تفتخر وأنت ليل نهار والوسخ والبراز في جسمك، فبأي شيء تفتخر؟ فقوله سبحانه: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:17-19] كما يقول الله في الحديث القدسي، عندما بصق النبي صلى الله عليه وسلم على كفه بصقة -تفل تفلة- وقال: (يقول الله: يا ابن آدم! أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه -وأشار إلى البصاق-؟!) عليه الصلاة والسلام.
{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18] كما قال القائل: خلق من ماء خلقة نكرة، ثم بعد ذلك يكون جيفة قذرة، الإنسان بعد أن يموت يكون في القبر جيفة قذرة، ورائحته كريهة، وهو بين ذلك يحمل العذرة.
{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:18-19] هذا أبيض وهذا أسود وهذا أحمر، هذا أعور وهذا سليم العينين، هو سبحانه الذي يتصرف كيف يشاء، تخرج من بطن أمك ليس لك اختيار، لا تستطيع أن تتحكم لا في قدرك ولا في جمالك ولا في دمامتك، ولا كونك سوياً أو غير سوي، ولا في كونك غبياً أو ذكياً، أو قوي الذاكرة أو ضعيف الذاكرة، لا تستطيع أبداً أن تتحكم في نفسك على الإطلاق، ولا في نفس ولدك، فالذي يصور في الأرحام كيف يشاء هو الله سبحانه وتعالى.
{مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:19] وقدر له الأرزاق، وقدر له الشقاوة والسعادة {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:19-20] ما المراد بالسبيل هنا؟ للعلماء في السبيل قولان: أحدهما: أن المراد بالسبيل طريق الخير أو طريق الشر، كما قال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] ، وقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] .
وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، فهذا فيه أن سلوك طريق الخير مقدر، وسلوك طريق الشر مقدر.
والقول الثاني: اختاره ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى أن المراد بالسبيل هنا سبيل الخروج من بطن أمك بعد أن خلقك، ولو شاء لأوقفك في فرجها وماتت أمك، لكن سبحانه وتعالى يسر لك سبيل الخروج.
{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:20-21] قال ابن جرير الطبري: سياق الآيات في مراحل خلق الإنسان أي: قوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:20] أي: سبيل الخروج من بطن أمه، فذكر الله سبحانه أنه خلقك من نطفة، ثم قدرك، ثم أخرجك من بطن أمك، ثم أماتك فأقبرك، ثم يوم القيامة يحييك، سياق الآيات في هذا الباب، هذا اختيار ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى.
{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:20-21] أي: صيره إلى قبره، فالأشياء تموت ولا تدفن، أما ابن آدم فحين يموت يدفن، ويكرم بأن يغطى حتى ولو كان كافراً، فابن آدم يموت فيقبر، كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25-26] فأنت إذا مت دفنت في الأرض وغطيت، ويوم القيامة يتلاشى هذا، {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:4-5] .
فقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] امتنان من الله سبحانه وتعالى على الإنسان أنه صيره إلى قبر يقبر فيه.
{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:22] يعني: بعثه، والنشور يطلق على البعث والخروج: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) .
{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا} [عبس:22-23] ليس الأمر كما يظن الإنسان أنه قام بالتكاليف التي أمره الله بها، لا تتوهم ذلك أبداً أيها الإنسان، فإنك مقصر.
{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس:23] أي: ما قام ابن آدم بالتكاليف التي كلف بها، فالآية تمنع من الاغترار، قد تظن أنك أديت ما عليك، فالآية تقول: لا تظن هذا الظن، فإنك لم تقم بالتكاليف التي كلفت بها والأوامر التي أمرت بها، ولم تنته عن النواهي التي نهيت عنها.(84/5)
تفسير قوله تعالى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه.)
{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس:23-27] هناك ربط قوي بين قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:24] ، وبين قوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:18-19] ، فربط واضح غاية الوضوح، شق فرج المرأة فخرج منه الطفل، {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:21-22] .
وقال سبحانه: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس:24-25] نزل الماء من السماء صباً على الأرض، كما أن المني دخل من الرجل على فرج المرأة.
{ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس:26] كما انشقت الأرض وأنبتت النبات، ففرج المرأة فتح وخرج منه الطفل.
{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:27-31] أشكال وأصناف من النباتات، كذلك خرجت من الفروج أشكال وأصناف من البشر؛ القوي والضعيف، والدميم والجميل، والذكي والغبي، والأحمر والأبيض والأسود، وذو العين الزرقاء، وذو العين الخضراء، وذو العين السمراء، أشكال وألوان لا يعلمها إلا الله، كما خرجت من الأرض هذه الأصناف من النباتات.
{ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس:26-27] والحب: الحنطة والشعير ونحوه {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس:27-28] القضب هو: البرسيم.
{وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس:30] والأغلب هو: غليظ الرقبة، فالشجرة الغلباء هي الشجرة غليظة الجذع، ومنه قول الفرزدق يهجو جريراً.
عوى فأثار أغلب ضيضمياً فويل ابن المراغة ما استثارا فالأغلب هو الغليظ، {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس:30] أي: حدائق ذات أشكال غليظة، وأطلق على الحديقة حديقة لإحداقها بمن فيها، فلا يكاد يرى، أحدقت بهم الأشجار، أو أحدق الناس بالعدو أي: حاصروه والتفوا حوله {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس:30] .
{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] الأب توقف بعض العلماء في تفسيره وبيان المراد به، فكان عمر ينقش بعصاه في وسط أصحابه على الأرض، وقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] فقال: (أما الفاكهة فقد عرفناها، أما الأب فما هو؟ ثم انطلق وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر، ولم يفسرها رضي الله تعالى عنه) .
{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] من العلماء من قال: إن الأب هو ما يأكله الحيوان لاقترانه بالفاكهة، ولقوله تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:32] .
ونرجع قليلاً إلى الآية الكريمة: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] فكذلك النبات، تخرج كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24] ، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد:20] .(84/6)
تفسير قوله تعالى: (فإذا جاءت الصاخة.)
يقول تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} [عبس:33] والصاخة: اسم من أسماء القيامة، وهي التي تصخ أسماع الناس، أي: تصيبهم بالصمم ولكن لا يصموا؛ لأن الله أراد لهم أن يسمعوا، فصوتها يصم أهل الدنيا لو كانوا يسمعون، لكن تأتيتهم الصاخة فيسمعون الصوت، والآذان كما هي تستمع أيضاً أشد وأشد.
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس:34] وقد أسلفنا في محاضرات سابقة لماذا يفر المرء من أخيه؟ لثلاثة أمور: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] ، ولعدم مطالبته له بحقوقه: يا رب لي حق عند هذا، وخوف الفضيحة فقد كان مستوراً أمام إخوانه في الدنيا، وفضح في الآخرة فيخشى أن يرى، هذا قول والله أعلم.
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34-37] قالت أم المؤمنين عائشة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: عندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حديث: (إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده، ألا إن أول الخلائق يؤتى هو إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ألا إنه يؤتى برجال من أمتي -أو بأقوام من أمتي- فيؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال إلى أن قالت: عائشة -: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا عائشة! الأمر أشد من ذلك) الله سبحانه وتعالى يقول: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] .
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عبس:38] أسفر الصبح إذا طلع.
{ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:39] وجوه أهل الإيمان كوجوه قد أشرقت وأضاءت وابيضت كما قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ} [آل عمران:106] ابيضت من آثار الوضوء، وقبل ذلك ابيضت بإيمانها بالله سبحانه وتعالى لم يرهقها قتر ولا ذلة كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:26] .
فمن أراد أن يبيض وجهه ويزداد بياضاً يوم القيامة فعليه بأمور بعد الإيمان بالله والوضوء، من هذه الأمور: الإكثار من حمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتبليغها الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها) فالذي يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم حفظاً متقناً ويؤديه للناس فيبلغه للناس تحل عليه بركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: أن حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم سبب في بياض الوجوه.
قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38-39] هؤلاء الذين كانوا خائفين في الدنيا، وكانوا وجلين في الدنيا من لقاء الله سبحانه، ومن القبر وظلماته، ومن هول المطلع يوم القيامة، لم يجمع الله عز وجل عليهم خوفين، بل كما قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] بعد أن كانوا في الدنيا يؤذون، ويسخر بهم ويسخر منهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] ، {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] فأهل الإيمان يضحكون يوم القيامة.
قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس:38-40] أي: علاها الغبار والتراب، هي أصلها سوداء يوم القيامة، ومع ذلك تعلوها الغبرة، كما قال تعالى: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم:43] ومع أنها يعلوها الذل يعلوها أيضاً الغبار.
يقول الله سبحانه: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا} [عبس:40-41] أي: تعلوها {قَتَرَةٌ} [عبس:41] أي: ذلة {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:42] والعياذ بالله.
بهذا ينتهي تفسير سورة عبس، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما فيها، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(84/7)
الأسئلة(84/8)
حكم رد المرأة لمن به عيب خلقي
السؤال
هل يجوز لأخت أن ترفض أخاً نحسبه على خير من أجل أن فيه عيباً خلقياً؟
الجواب
نعم، يجوز لها ذلك، فالمرأة تريد من الرجل كما يريد الرجل من المرأة، وتحب من الرجل كما يحب الرجل من المرأة، فإذا لم تكن نفسها منشرحة للرجل ستقصر في أداء الحقوق إليه، ومن ثم يلحقها الإثم.
وعلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! ما أعيب على ثابت في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام ... ) وردت في بعض الأسانيد التي فيها كلام أنها كانت تبغضه بغضاً شديداً لهيئته، حتى إنه جاء في بعض الروايات وإن كان في إسنادها بعض الكلام أنها قالت: لولا مخافة الله إذا دخل عليّ لبصقت في وجهه.
فعندما جاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال لها: (أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ... ) .
أما من ناحية الجواز فجائز.
وفي هذا المقام نذكر أن حديث: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) هو حديث منازع في صحته، وكل أسانيده التي وقفت عليها ضعيفة، خاصة الزيادة الملحقة: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) من العلماء من حسنه أو صححه لكن كل طرقه واهية.
ويشهد لوهاء المعنى وضعف المعنى أن فاطمة بنت قيس جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن معاوية وأبا الجهم خطباني يا رسول الله) ، فاختار لها الرسول شخصاً ثالثاً غيرهما وهو أسامة بن زيد، مع أن أسامة لم يكن قد خطبها في من خطب، وورد عند النسائي بسند رجاله ثقات -إلا أن في إسناده- علي بن الحسين بن واقد يقول الإمام أحمد: في أحاديثه بعض الزيادات لا أدري أيش هي، لكن أحمد وثقه-: (أن أبا بكر تقدم لـ فاطمة فقال النبي: إنها صغيرة، ثم تقدم لها عمر فقال النبي: إنها صغيرة، ثم تقدم لها علي فزوجها إياه) رضي الله عنهم أجمعين.
فإن قال قائل: إن رسول الله تزوج عائشة، فنقول له: للرسول وضع خاص صلى الله عليه وسلم.
فالشاهد: يجوز للمرأة أن ترد الرجل لعيب خلقي فيه، إذ لا دليل يوجب عليها أن تقبل كل من تقدم لها.(84/9)
ضوابط الهجر لأهل المعاصي
السؤال
لنا إخوة يشربون الدخان، وأحدثوا فتنة بين الناس، هل يجوز لنا هجرهم في الله؟
الجواب
من ناحية الجواز يجوز أن تهجرهم في الله، لكن الأمر في شأنهم مبني على مسألة المفسدة والمصلحة، إذا كنت تطمع أنك إذا امتنعت من إلقاء السلام عليهم رجعوا إلى الحق وفكروا فيما هم عليه، فاترك السلام عليهم، وإذا كنت ترى أن امتناعك من إلقاء السلام عليهم سيسبب مفسدة أعظم وأنهم بدل أن يشربوا الدخان سيشربون الخمر، فالله لا يحب الفساد، فاجعل بينك وبينهم خيوطاً لعل الله أن يهديهم، فالأمر مبني على المفسدة والمصلحة.(84/10)
حكم الدم الذي يكون بعد النفاس
السؤال
بعد انقضاء مدة النفاس أربعين يوماً وتطهري من ذلك يوجد بعض النقاط من الدماء بين الحين والآخر، فهل يعتبر ذلك استحاضة، وماذا أفعل لكي أقوم بالصلاة والواجبات الشرعية المكلفة بها؟
الجواب
الجمهور يقولون: بعد انقضاء الأربعين يوماً الدم الناتج بعد ذلك تغتسل منه وتصلي، ومن أهل العلم من يقول: ينظر إلى الدم إذا كانت المرأة متأكدة غاية التأكد أنه دم نفاس استمرت حتى تطهر منه.
لكن الذي يحدث أن بعض النساء موسوسات، فتقوم وتدخل إصبعها في الفرج وتعبث بنفسها حتى تخرج لها قطرة دم فيشوش عليها الشيطان وتترك الصلاة، وهذا يمكن أن يحدث بعد انقضاء الأربعين بأسبوع، وإذا كانت ممن يميزن جيداً دم النفاس عن دم الاستحاضة، فعليها أن تبني على تمييزها، أما إذا كان الدم دم نفاس فلا تصلي ولا تصوم إلا إذا انتهى الدم، وإذا كان غير ذلك فلتأخذ برأي الجمهور القائلين: بأن أقصى مدة للنفاس أربعين يوماً، والله أعلم.(84/11)
حكم استماع النساء لشرائط العرس التي تكون بالدف وبأصوات الرجال
السؤال
ما حكم تشغيل شرائط العرس التي بالدف للرجال في عرس النساء؟
الجواب
إذا لم يكن هناك من الأخوات من تغني لها، لكن إذا كانت أصوات الرجال فتنة بالنسبة للنساء فلا يشرع ذلك، أما إذا كانت خالية من الفتنة فحينئذٍ يتنزل حديث عائشة: (ماذا كان معكم من اللهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو) ويستأنس للفتية بقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري في صحيحه: (ويحك يا أنجشة، رفقاً بالقوارير) فـ أنجشة كان يغني والنساء كن يسمعن صوت أنجشة، وكانت الإبل تسرع، فخشي النبي على النساء من السقوط، فيستأنس بهذا على الجواز مع حديث: (ماذا كان معكم من اللهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو) .
وأصلي وأسلم على نبينا محمد.(84/12)
تفسير سورة التكوير
من أراد أن يعلم بالحوادث التي تكون يوم القيامة فليقرأ سورة التكوير، ففي بداية هذه السورة ذكر للأهوال العظيمة التي تصيب المخلوقات في ذلك اليوم العظيم، وفي ختامها إثبات لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ووصف جبريل عليه السلام بالقوة والأمانة، ووصف القرآن بأنه ذكر لمن شاء الهداية والاستقامة، ومشيئة العباد تحت مشيئة الله.(85/1)
تفسير قوله تعالى: (إذا الشمس كورت.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] ، المعنى: تذكر يا محمد! واذكر هذا اليوم الذي فيه تكور الشمس، ومعنى (كُوِّرَتْ) لُفَّ بعضها على بعض، ومنه قولهم: كورت العمامة، أي: لفت العمامة، ومن العلماء من قال: {كُوِّرَتْ} : رُمي بها، ومنهم من قال: (كُوِّرَتْ) أي: ذهب ضوءها.
والحقيقة أن هذه المعاني كلها يرجع بعضها إلى بعض، فإنها إذا كُوِّرَت ولُفَّت ذهب ضوءها، ثم يُرمى بها بعد ذلك.
فمن العلماء من فسر {كُوِّرَتْ) بالحادث الأول من أحوالها يوم القيامة وهو: اللف، ومنهم من فسره بالحادث الثاني، وهو: ذهاب الضوء، ومنهم من فسره بالحادث الثالث وهو: الرمي بها، لكن المعنى متآلف متناسق، فمعنى قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} أي: لُفَّ بعضها على بعض، فإذا لُفَّ بعضها على بعض فقد ذهب الضوء، ثم بعد ذلك رمي بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في البخاري -: (الشمس والقمر مكوَّران يوم القيامة) ، وفي رواية غير البخاري زيادة (ثوران) في هذا الحديث، هكذا: (الشمس والقمر ثوران -مثنى الثور- مكوران في النار يوم القيامة) .
فإن قال قائل: لماذا تكون الشمس والقمر ثورين مكورين في النار يوم القيامة على ثبوت هذه اللفظة؟ فالإجابة: حتى يُعَذَّب بهما أتباعهما وعُبَّادهما، ففي الصحيحين: من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي منادٍ يوم القيامة: لتَتْبع كلُّ أمة ما كانت تعبد، فيَتْبع أهلُ الصليب الصليبَ، ويَتْبع أهلُ الأوثان الأوثانَ، ويَتْبع كلُّ قوم آلهتَهم التي كانوا يعبدونها) ، وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي منادٍ يوم القيامة: لتَتْبع كلُّ أمة ما كانت تعبد، فيَتْبع مَن كان يعبد الشمس الشمسَ، ويَتْبع مَن كان يعبد القمر القمرَ، ويَتْبع مَن كان يعبد الطواغيت الطواغيتَ) ، إذاً: فتكون الشمس في النار حتى يُعَذَّب بها عُبَّادها كما قال سبحانه في الآية الأخرى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22-23] ، وكما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] ، هذا قول.
وورد عن أبي بن كعب رضي الله عنه بإسناد موقوف عليه، وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس! أي: اختفى ضوء الشمس فجأة- فبينما هم على ذلك إذ تناثرت النجوم! فبينما هم على ذلك إذ سقطت الجبال، وفزعت الجن إلى الإنس، وفزعت الإنس إلى الجن! وبينما هم على ذلك إذ خرجت الوحوش! وقالت الجن: نحن نأتيكم بالخبر، فذهبت الجن تلتمس الأخبار من البحر، فإذا البحر قد أُجِّج ناراً! -أي: اشتعل البحر ناراً- فبَيْنا هم على ذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السفلى ... ) والأثر طويل، وهو موقوف على أبي بن كعب رضي الله عنه، وإسناده إليه حسن.
{وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:2] أي: تساقطت، وقال فريق: تناثرت، وقال فريق: الانكدار: من الكدرة، أي: كدرة غطت على ضوئها حتى ذهب ضوءُها.
{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3] أي: أزيحت عن أماكنها.
وهذه كلها أحوال الساعة، الشمس يذهب ضوءُها ويُرمى بها، والنجوم تتساقط على الأرض، فقول بعض الفلكيين: كوكب كذا يريد أن يسقط على الأرض، فهذا من الخزعبلات، وإذا نزل الكوكب على الأرض فإن الأرض تكون قد انتهت، وقامت الساعة؛ لأن الله قال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41] ، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65] .(85/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا العشار عطلت.)
{وَإِذَا الْعِشَارُ} [التكوير:4] : العشار هي: النوق الحوامل في شهرها العاشر، وقد كانت العرب تحتفي بها وتهتم بها، وهذه الإبل من أنفس أموال العرب، ولذلك يضرب بها المثل كثيراً كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَأَن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النَّعم) ، وقوله: (لَأَن يجلس أحدكم في المسجد يقرأ آية، خير له من ناقة) ؛ فالإبل أو النوق كانت من أنفس الأموال عند العرب، فيُمَثَّل بها، يقول سبحانه: {وَإِذَا الْعِشَارُ} : الإبل الحوامل، {عُطِّلَتْ} يعني: أهملها أهلها، فلم يلتفتوا لها؛ وذلك لانشغالهم بما هو أدهى وما هو أمر، فانشغلوا بأحوال الساعة عن أنفس الأموال وأحب الأموال إليهم وهي العشار من الإبل.
{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] : (حشرت) : للعلماء فيها قولان مشهوران: القول الأول: أن (حُشرت) معناها: جُمعت، {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} أي: جُمعت الوحوش، فالحشر هو الجمع، ومنه أطلق على يوم القيامة: يوم الحشر.
القول الثاني: أن (حُشرت) معناها: ماتت.
والقول الأول تشهد له الأدلة، والقائلون بالقول الثاني قالوا: إن الوحوش لا حساب عليها، وإنما تموت ولا يبقى لها أثر، والدليل على صحة القول الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتؤدُّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) أي: الشاة التي ليس لها قرون تقتص من الشاة التي لها قرون!! وقال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38] أي: يُجمعون، وهذا هو القول المختار في (حُشرت) أي: جُمعت.(85/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذا البحار سجرت.)
{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] : للعلماء في تسجير البحار أقوال: القول الأول: ما تقدم عن أبي: أن {سُجِّرَتْ} : اشتعلت ناراً، فالبحار التي أمامكم تتحوَّل إلى نار، وقد ورد أثر عن علي أنه سأل يهودياً: (أين النار؟ فأشار إلى البحر وقال: هذا، فقال علي رضي الله عنه: ما أراه إلا صادقاً؛ لأن الله يقول: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] ) ، أي: الملتهب، ومنه ما في قصة كعب بن مالك لما أتته رسالة من أحد ملوك غسان قبل توبة الله عنه، قال: (فسجرتُها في التنور) ، سجرتُها أي: حرقتها في التنور، وألقيت بها كي تحترق في التنور، ومن العلماء من قال: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} باعتبار ما سيئول إليه أمر البحر، إذ هو الآن المصدر للماء، وبعد ذلك سيكون مصدراً للنيران، فيكون ناراً، وقد ورد في الباب أثر: (إن تحت البحر ناراً تتأجج) لكن يُنظر فيه.
القول الثاني: (سُجرت) أي: اختلط عذبها بمالحها، فالبحار الآن بينها وبين الماء العذب برزخ كما قال سبحانه: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19-20] ، فمن أشراط الساعة على هذا القول أن يختلط العذب بالمالح.
القول الثالث: (سُجرت) بمعنى: فُجرت، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] .
القول الرابع: بمعنى: فاضت.
وكل الأقوال السابقة محتمَلة.
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7] : تزويج النفوس معناه: اقتران النفوس، فكل نفس تقرن بأشكالها، يقرن أهل الكفر بعضهم ببعض على حسب طوائفهم، وقد ذكرنا أنه يتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، ويتبع من كان يعبد الصليب الصليب، ويتبع من كان يعبد وثناً الوثن الذي كان يعبده، فقوله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي: قرنت بأشكالها وأمثالها وأضرابها، كما قال سبحانه عن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98] ، فكل طائفة تقرن بأشكالها، وهذا هو المراد بالتزويج، ومن العلماء من قال: زوجت كل نفس بقرينها وشيطانها كما قال سبحانه: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان:13] ، من العلماء من قال: {مُقَرَّنِينَ} أي: كل شيطان مع قرينه من الإنس الذي كان في الدنيا قرينه، وهذا قولٌ ثانٍ، والله أعلم.(85/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا الموءودة سئلت)
{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8] : الموءودة هي: المدفونة حيةً في الصغر، وكان أهل الجاهلية يئدون البنات خشية العار على زعمهم، ويقولون: إنه لا نفع في البنت -عياذاً بالله من ذلك- روى البخاري في الأدب المفرد ما حاصله: أن رجلاً جاء إلى ابن عباس وقال: يا ابن عباس! إني أذنبت ذنباً عظيماً وجئت أستفتيك، قال: ما هو؟ قال: كانت لي امرأة فولدت لي جاريةً حسناء جميلة، فأردت أن أئدها عند مولدها، ثم تركتها حتى شبت شباباً حسناً، وهي جميلة فقلت لأمها ذات يوم: ألبسيها ثوباً جميلاً، فألبستها ثوباً جميلاً؛ لكنها رأت في وجهي الشر، فاستحلفتني ألَّا أفعل بها شيئاً مكروهاً، فوعدتها خيراً ثم أخذتها وانصرفت، فلما انصرفت وابتعدت عن عين أمها جئت إلى شفير بئر لأقذفها في البئر، فقالت: يا أبي! -وتعلقت بثيابي- ماذا تريد أن تفعل بي؟ فأخذتني الشفقة فتركتها، ثم تذكرت العار، فقمت لأقذفها، فتعلقت بي ثانيةً وقالت: يا أبتِ! ماذا تريد أن تصنع بي؟ فتركتها، ثم تحاملت على نفسي وقذفتها في البئر وأتبعتها الحجارة، فهل لي من توبة؟! إلخ الأثر، فكان أهل الجاهلية يئدون البنات، كما قال سبحانه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدَّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] أي: ممتلئاً غماً وحزناً وهماً {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:59] ، وكان أحدهم يعتزل امرأته الشهور إذا ولدت بنتاً، حتى قالت امرأة شعراً: ما لـ أبي حمزة لا يأتينا؟! حزينَ ألَّا نلد البنينا! وهل لنا من أمرنا ما شينا؟! إنما نحن وعاء لما أُعطينا فكان دأبهم هجران المرأة إذا ولدت بنتاً، وللأسف هذا موجود في أوساط المسلمين الآن، حتى بين بعض الملتحين، والله يقول: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} [النساء:11] ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين حتى تبلغا، كنت أنا وهو كهاتين، وفرَّج النبي صلى الله عليه وسلم بين إصبعيه) ، وأتت امرأة إلى عائشة ومعها ابنتان لها تسألها الصدقة، فلم تجد عائشة إلا تمرة، فأعطتها إياها، فقسمت المرأة التمرة بين ابنتيها، فأخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (إن الله قد أوجب لها بذلك الجنة!) .
فإن قال قائل: إذا كانوا يئدون البنات فمن أين كانوا يتزوجون؟ فالإجابة: منهم من كان لا يئد البنات، وكان في قلبه بعض الرحمة، كـ زيد بن عمرو بن نفيل وقد كان مسلماً، وبذلك افتخر الفرزدق على جرير فقال: وجدي الذي أحيا الويئدة ومنع الوئيد فلم يوأد فكان يذهب إلى الرجل الذي ولدت امرأته بنتاً فيقول له: أعطني البنت، فيأخذها ويربيها، فإذا كبرت جاء بها إلى أبيها وقال: إن شئت أن تأخذ ابنتك أخذتَها، وإن شئت أن تزوجها زوجتَها، فمثل هذا يُفتخر به.
كلنا يعلم أن فاطمة بنت رسول الله خيرٌ من ملء الأرض من مثل ابن نوح، وهي أنثى وهو ذكر، لكنه من الكافرين، وهي سيدة نساء أهل الجنة، وكم من ذكر أرهق أبويه طغياناً وكفراً! ولماذا تُسأل الموءودة؟ الموءودة تُسأل لتبكيت والدها، فتُسأل الموءودة: لماذا وُئدتِ يا موءودة؟! وليس المراد توجيه السؤال إلى الموءودة بالدرجة الأولى؛ ولكنها تُسأل لتبكيت من وأدها، فيتوجه اللوم والتعيير إليه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] وليس المراد بهذا السؤال عيسى بالدرجة الأولى، فالله يعلم أنه ما قال ذلك، {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116] ، ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40-41] ، ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} [الفرقان:17-18]-غمرتهم بالنعم حتى كفروا- {حتى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} [الفرقان:18] فيرجع الخطاب إلى الكفار: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان:19] يا أيها الكفرة! هذه آلهتكم التي عبدتموها كذبتكم {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً} [الفرقان:19]-أي: صرف العذاب- {وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان:19] .
فالموءودة تُسأل لتبكيت القاتل، ومن العلماء من قرأها: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سَألَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9] قراءة شاذة، وتفسيره مبني على هذه القراءة؛ لكنه وجه ضعيف، ويشهد له حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (يأتي المقتول يوم القيامة، وهو يحمل رأسه آخذاً بتلابيب قاتله فيقول: يا رب! سل هذا فيم قتلني؟) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.(85/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذا الصحف نشرت.)
{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:10] : تطايرت الصحف، والمراد بالصحف: صحف الأعمال، (نُشِرَتْ} أي: فُتحت، {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً} [الإسراء:13] أي: مفتوحاً، فصحيفة عملك -يا ابن آدم- مطوية الآن، تعمل العمل ولا يراك إلا الله، الصحف المطوية المستورة على ما فيها تتطاير يوم القيامة وتُفتح كما في حديث: (سيبعث الله رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ثم ينشر له تسعةً وتسعين سجلاً) ، فـ {نُشِرَتْ} أي: فُتحت، والمراد بـ {الصُّحُفُ} : صحف الأعمال، و {نُشِرَتْ} أي: فُتحت.
{وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:11] : من الكشط أي: المحو والإزالة، السماء تُزال وتُكشط، ومن العلماء من قال: جُذبت وأزيلت عن مكانها، كما قال تعالى: {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة:16-17] وقد أسلفنا أن الملائكة التي عليها تنزل وتقف على قطعها، فإن الأرجاء هي: القطع المتساقطة من السماء، {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] .
{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير:12] : أُوقد عليها حتى اشتعلت والتهبت.
{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير:13] أي: قُربت الجنة وأدنيت، ومنه: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ، ومنه قولك: فلان يتزلف إلى فلان، أي: يحاول أن يفعل الشيء الذي يتقرب به إليه.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14] : كل نفس تعلم الأعمال التي اكتسبتها واقترفتها في دنياها، كما قال سبحانه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] .(85/6)
تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالخنس.)
ثم قال الله سبحانه: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير:15] : الخنس هي: النجوم التي تخنس، ومنه قول أبي هريرة: (لقيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جنب فانخنست منه) أي: اختفيت منه، وتجنبته.
الحديث.
فأطلق على النجوم: (الخنس) لأنها تخنس، تختفي أو ترجع إلى أماكنها.
{الْجَوَارِ} [التكوير:16] هي: التي تجري.
{الْكُنَّسِ} [التكوير:16] أي: التي تغيب وتستتر في بيوتها.
{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17] : من العلماء من قال: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أي: أدبر وذهب، وهذا القائل وضع الآيتين مقابل آيتين أخريين من سورة المدثر: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:33-34] ، فهنا: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير:17-18] .
فـ {أَسْفَرَ} بمعنى: تنفس، إذاً: {أَدْبَرَ} بمعنى: {عَسْعَسَ} .
وهذا القول قول قوي، ومن العلماء من قال: {عَسْعَسَ} معناها: دخل وأقبل، واستدل أن الله أقسم بذلك فقال: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2] فأقسم بالنهار، وأقسم بالليل إذا غطى وأظلم، فهي محتملة للمعنيين.
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير:18] : فكلها آيات دالة على قدرة الله سبحانه وتعالى، وإذا حاججت ملحداً فلياحجج بمثل هذه الأدلة، كما حاجج إبراهيمُ الجبار فقال له: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} [البقرة:258] إن كنت تزعم أنك إله {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] .(85/7)
تفسير قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم.)
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19] : من هو هذا الرسول الكريم؟ جماهير المفسرين على أن المراد به: جبريل صلى الله عليه وسلم، وسياق الآيات يدل على ذلك، {ذِي قُوَّةٍ} [التكوير:20] : أي: جبريل قوي، {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20] : له مكانة عند الله سبحانه وتعالى.
فجبريل ذو قوة، قال الله سبحانه وتعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:6] ، فالمرة هي: القوة، كما في حديث: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) ، فهو ذو قوة وذو مرة، وجبريل صلى الله عليه وسلم له ستمائة جناح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت جبريل على صورته التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح) ، وتقدمت نماذج من قوة جبريل صلى الله عليه وسلم.
{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} : أي: له مكانة عند الله سبحانه وتعالى، والله يقول: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19-20] يعني: له مكانة عند الله، والدليل على أن لجبريل مكانةً عند الله سبحانه وتعالى: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوَّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * {مَنْ كَانَ عَدُوَّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:97-98] ثم نص على جبريل {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] .
ومن الأدلة على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين-: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريلَ: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريلُ: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه) وهذا يدل على مكانة جبريل صلى الله عليه وسلم عند الله عزَّ وجلَّ.
{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} قال الله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] ، فـ {مَكِينٍ} أي: ذو مكانة.
{مُطَاعٍ} : في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة.
{مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: مطاع هناك.
{ثَمَّ} أي: هناك.
(مُطَاعٍ ثَمَّ) أي: جبريل -عليه الصلاة والسلام- مطاع في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة، كما في الحديث أنه يقول: (إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فتحبه الملائكة) .
{أَمِينٍ} [التكوير:21] : أمين على الوحي، لا كما يقول الشيعة السفلة القذَرة: إن جبريل خان ونزل بالرسالة على محمد عليه الصلاة والسلام، وكان اللائق أن تنزل على علي، ويضربون خدودهم ويشقون جيوبهم قائلين: خان الأمين، خان الأمين، وإنه لعجبٌ أن يوصف الأمين بأنه خائن! كيف يلتئم هذا؟! فرب العزة يقول: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193-195] ، فمن خزعبلات الشيعة هذه المقولات الكاذبة التي لا تروج إلا على سفيه مثلهم.
واعلموا أن الشيعة يمارسون أعمالهم في أوساط ضالة، مثل جماعة التكفير والهجرة التي لا تقر بتراث السلف وتقول: الصحابة رجال ونحن رجال، فيعبثون بهم كما شاءوا، أو يبثون أفكارهم في اليساريين الذين يطعنون في الكتاب والسنة أصلاً، إذ هم أهل شك وزندقة مثلهم، وهذا الصنف الثاني يسمونهم الثوريين، والشيعة تحمل شعار الثورة، أو في الأوساط المتصوفة.
وهذه خطط أعمالهم، فيعملون في ثلاثة أوساط: الوسط الصوفي، تحت ستار محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الوسط البدعي الذي لا يقر بالتراث ولا يقر بـ البخاري ولا بـ مسلم، ويقول: نحن رجال والصحابة رجال، وينزل نفسه منزلة الصحابة، وهم أوساط التكفير والهجرة.
الوسط اليساري الشيوعي الذي تتبناه جريدة: روز اليوسف، ونحوها، فمثل هذه الأوساط يعبث فيها الشيعة.
قال سبحانه وتعالى: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين} [التكوير:20-21] وأمين على الوحي، كما قال الله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193-195] وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل:102] فالقرآن محفوظ، نزل به أمين -وهو جبريل- على أمين وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو لا يشبه الباطل، ولا يستطيع الشيطان المساس به، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} [فصلت:41-42] أي: الشيطان على قول، {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] .(85/8)
تفسير قوله تعالى: (وما صاحبكم بمجنون.)
ثم جاء الكلام على صاحبنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] : يا قرشيون! يا من اتهمتم نبيكم أنه مجنون! {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} بل قد نزل بالوحي أمين على نبي عاقل بل هو أعقل الخلق عليه الصلاة والسلام، {وَمَا صَاحِبُكُمْ} انتقل الخطاب إلى المشركين، وصاحبهم هو: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} كما ادعيتم.
{وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] من رأى مَن؟ النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه الصلاة والسلام.
وما معنى (الأفق) ؟ وما معنى (المبين) ؟ (الأفق) هو: الاتجاه المستعرض المرتفع نحو مشرق الشمس.
و (المبين) هو: المظهِر والموضح للأشياء، فالمكان المرتفع المستعرض اتجاه شروق الشمس هو: الأفق، فـ (الأفق المبين) أي: الأفق المظهِر والموضِّح للأشياء.
فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح، ورآه بالأفق في وقت تبين فيه الأشياء وتتضح فيه الأشياء؛ لأن هذا شأن أهل الخير، لا يأتيهم الخير في الظلام كأهل الشر والشياطين، نحو ما أورده بعض العلماء عن مسيلمة أنه سئل: كيف يأتيك الوحي -وهو وحي الشياطين-؟ قال: في ليلة ظلماء شديدة الظلمة؛ لأن الشياطين في الظلام تنتشر وتمارس كل ما تخفيه من تلبيس، ولهذا يستعيذ أهل الإسلام من شر الغاسق إذا وقب وهو: الليل إذا دخل أو القمر إذا دخل، والقمر من علامات دخول الليل؛ لأنه في الليل تبدأ الشياطين بأعمالها، ويبدأ شياطين الإنس وشياطين الجن في الانتشار ليلاً؛ ولذلك نادراً أن تجد أهل الشر والفساد يرتكبون حادثةً في الضحى؛ إنما الجرائم والسطو واللصوصية والاغتيالات والقتل أغلبه يكون في الليل، ففي الضحى الشياطين تكاد تبتعد؛ لأن عملها في الظلام، ورب العزة قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] والفلق المراد به: الصبح، {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:2-3] لأن وقت الغاسق إذا وقب تبدأ الشياطين بالانتشار كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ) ، ومن ثَمَّ لما قال فرعون لموسى: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوىً * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [طه:58-59] لأنه ستكون الأمور فيه واضحةً، ليس فيها تلبيسات ولا فيها شعوذة ولا فيها سحر ولا أي شيء، ولذلك أي ساحر وأي دجال يبدأ نشاطه في الليل، فتذهب -مثلاً- إلى المشعوذين الذين في كفر الأمير عبد الله بن سلام وهو مكان مظلم، ويأتون ببعض الخيالات والأوهام ليخدعوك بها، فيقول لك: انظر! فرس سيدنا علي يجري، وسيدنا علي راكب عليه! ويخدعون الناس السذج والعياذ بالله.
فرب العزة يقول: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} أي: رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه الصلاة والسلام بالأفق المظهِر للأشياء الموضِّح لها، فهو رأى رؤيا لا التباس فيها، ولا شك فيها، ولا يمكن لأحد أن يتشكل بصورته أو يقول: لعلك كنت في خيال، أو رأيت عفريتاً، أو كذا وكذا، لا أبداً، إنما {رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} ، رآه رؤية واضحة صلى الله عليه وسلم.(85/9)
تفسير قوله تعالى: (وما هو على الغيب بظنين.)
{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] : كثير من المفسرين قالوا: إنه محمد عليه الصلاة والسلام.
وما هو (الغيب) ؟ قالوا: الغيب كل ما غاب عنا مما أمرنا أن نؤمن به، كالإيمان بالملائكة، والجنة والنار، وكل ما غاب عنا يدخل في عداد الغيب.
فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس {عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} .
ويُستنبط من هذه الآية فائدة للدعاة إلى الله، فنبينا محمد ما هو {عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) ومن العلماء من قال: (الضنين) : البخيل، يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام ليس ببخيل في تبليغه العلم الذي أرسله الله سبحانه وتعالى به، وأنت -مثلاً- كداعي أمة يمكن أن تكون لك معلومة لا تريد أن تظهرها؛ لأنك إذا أظهرتها ستتساوى مع الناس في العلم بها، ولا يكون لك فضل عليهم، فتحب أن تسرها في نفسك ولا تتكلم بها إلا عند موقف تظهر فيه -عياذاً بالله- علمك لتري الناس أنك أفضلهم، أما الرسول فليس هكذا أبداً، فما هو على الغيب ببخيل، بل يخبر بكل ما جاءه عن الله سبحانه وتعالى، فجدير بكل حامل علم ألَّا يبخل بعلمه، ولا يضن بالعلم، فكما أنك تريد أن تصل إلى الجنة، فافتح لهم أبواب الخير التي توصلهم إلى الجنة.
فإذا سئلت: ما هو وجه الاستفادة الدعوية من قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} ؟ تقول: إنه ينبغي على الداعي إلى الله ألَّا يكون بخيلاً في تعليم الناس دينهم، وتعليم الناس ما ينفعهم، فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام كان بهذه المثابة، ليس بضنين على الغيب.
والقول الآخر في قوله: {بِضَنِينٍ} أي: بمتهم، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمتهم بتزوير أو تحريف ما ينقله عن الله سبحانه وتعالى.
القول الأول وجهه من قولك: ضن فلان بالشيء، أي: بخل به، وضن فلان أن يعطيني كذا أي: بخل أن يعطيني كذا وكذا.
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25] : تنقُّل من ضمير إلى ضمير إلى ضمير، فالله سبحانه وتعالى ذكر جبريل بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ، ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} ، ثم قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ} انتقل الخطاب إلى القرآن، وهذه الانتقالات من العلماء من يسميها التلوين في الخطاب، أي: التغيير فيه، وهي تجذب نظر القارئ ونظر المتعلم ونظر المتدبر لكتاب الله سبحانه وتعالى.
قال الله جل ذكره: {وَمَا هُوَ} أي: وما القرآن، {بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} .
{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير:26] : فكر يا مغفل! أنت يا جاهل! أين ذهب عقلك؟! {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} : بعقولكم؟! بعضهم يقول: ساحر، وبعضهم يقول: كاهن، وبعضهم يقول: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5] ، وبعضهم يقول: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان:4] ، وبعضهم يقول: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الإسراء:47] .
عقولهم ناشفة!! {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الإسراء:48] .
فرب العزة يقول: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} : أي: أين تذهب بكم عقولكم عن هذا الكتاب؟(85/10)
تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين.)
{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:27] أي: ما هذا القرآن إلا ذكر للعالمين.
{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] : لمن شاء أن يلتمس طريق الهداية.
ثم تُختم السورة بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] : وهذا الختام ختام قاسٍ ولاذع على القدرية الذين يقولون: لا قدر، والشخص يختار لنفسه طريق الهداية إن شاء أو الغواية إن شاء، وهذا قول مردود، فإن الله قال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] ، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس:100] ، وقال أهل الإيمان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] ، وقال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] ، وفي كل صلاة نصليها نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:5] ، فرب العزة يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(85/11)
الأسئلة(85/12)
كيفية إزالة النجاسة من الثوب إذا لم يمكن تحديد موضعها
السؤال
قد يتعرض الفراش الذي أنام عليه إلى بعض آثار الاحتلام ولا أستطيع أن أحدد مكان النجاسة، وكذلك ملبسي الداخلي ببعض آثار المذي ولا أستطيع تحديد مكان النجاسة، فكيف يكون التطهر؟
الجواب
إذا كان المَنِي يابساً فافركه، افرك المكان؛ لأنه يُرى، وإذا تأكدت أن هناك منياً لكن لا تستطيع تحديد مكانه فاغسله، والغالب أنه يُحدد لأنه يُرى أثره، لكن خذ بالاحتياط - {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]- فاغسله، والمَنِي عند عدد من أهل العلم طاهر؛ لقول عائشة: (كنت أفرك المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم) ، والله أعلم، أما المذي فيجب أن يُغسل؛ لأن المذي نجس، والله سبحانه أعلم.(85/13)
هل بول النبي نجس؟
السؤال
سمعت أحد الناس يقول: إن الدم نجس إلا دم الرسول صلى الله عليه وسلم وبوله وغائطه، وقال: وقد شربت امرأة بول الرسول صلى الله عليه وسلم! فما رأيكم؟
الجواب
نعم، شربت امرأة بول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكنها -على ما يظهر من سياق القصة- ما تعمدت شرب البول، وإنما وجدت تحت السرير إناءً كان يبول فيه الرسول، فشربت منه ظناً أنه ماء، وهذه المرأة هي: أم أيمن رضي الله عنها، لكن هل بول الرسول غير نجس؟ لا، بل بوله نجس، وكون امرأة شربت بول الرسول لا يدل على طهارة بول الرسول، فإن الله عزَّ وجلَّ يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] ، فالرسول بشر كسائر البشر إلا ما استُثني بالدليل، مثلاً: (تنام عيناي، ولا ينام قلبي) ، وقوله: (إني لست كهيئتكم، إني أواصل فيطعمني ربي ويسقيني) ، فهو بشر إلَّا ما استثني بالدليل، فنصير مع الدليل، أما الباقي فالرسول بشر صلوات الله وسلامه عليه.(85/14)
وصية حامل مفاتيح المسجد النبوي
السؤال
هذه الوصية التي من المدينة المنورة، من الشيخ أحمد حامل مفاتيح حرم الرسول! هل هي صحيحة؟
الجواب
كل سنة تطلع هذه الورقة! ويقول لك: لابد أن توزعها، والذي لا يوزعها بيته سيُخرب أو يصاب ببلية، نحن نقطعها أمام الأشهاد، والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] .(85/15)
تلقين الخطيب للمستمعين التوبة
السؤال
هل يجوز أن يقول الإمام في خطبة الجمعة: قولوا جميعاً: تبنا إلى الله، وعزمنا على ألَّا نعود إلى ارتكاب المعاصي والذنوب أبداً، وندمنا على ما فعلنا؟
الجواب
هذه اللهجة يكررها الناس في خطب الجُمع، وللأسف أن بعض الذين يقولونها أصحاب لحىً، فيظن الناس أن هذه سنة، وهي بعيدة عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم أن الرسول قالها قط، على الإطلاق، وديننا دين الإسلام فيه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] .
تفشى في أذهان بعض الناس أنه إذا أذنب أحد ذنباً يقول: أذهب إلى الشيخ يتوِّبني!! من الذي قال لك: الشيخ يتوِّبك؟! باب التوبة مفتوح بينك وبين الله سبحانه وتعالى، هذه الخرافات اتركها وراء ظهرك، واعلم أن ربك قريب سبحانه وتعالى كما قال عن نفسه ذلك، أما صيغ التتويب الجماعي: تبنا إلى الله تبنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا وندمنا على ما فعلنا، وبرئنا وبرئنا، كل هذه من البدع، الله يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] ، ومعنى: {الْمُعْتَدِينَ} هنا هم المعتدون في الدعاء.
والاعتداء له صور: فقد يكون الاعتداء بالتحليل والتحريم: قال الله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87] ، والمعتدون هنا هم المعتدون في التحليل والتحريم، فهناك: معتدون في التحليل والتحريم.
ومعتدون في الدعاء، {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، هم المعتدون في الدعاء.(85/16)
هل قنوت الفجر من الاعتداء في الدعاء؟
السؤال
هل قنوت الفجر من الاعتداء في الدعاء؟
الجواب
لا، وردت في ذلك نصوص مرفوعة، فالمسألة محل اجتهادات فقهية، فقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر، فمن الصحابة من رأى مشروعية الاستمرار عليه، ومنهم من رأى أن الشخص لا يستمر عليه، فهي مسألة اجتهادية، ولا يدخل ذلك في الاعتداء في الدعاء.(85/17)
حكم قنوت الفجر
السؤال
ما قولكم في القنوت في الفجر؟
الجواب
نحن فصلنا القول فيه مراراً، فإن العلماء لهم فيه ثلاثة أقوال، ومن النصائح لطالب العلم: احرص على أن تكون مستمعاً أكثر منك متكلماً، إذا كان المتكلم يعرف أكثر منك قليلاً، فالعلماء لهم ثلاثة أقوال أو أربعة أقوال في هذه المسألة: قولٌ بأن القنوت في صلاة الفجر مستحب، وهو قول الإمام الشافعي وأصحابه.
وبعضهم أوصله إلى الوجوب؛ لحديث البراء: (كان النبي يقنت في الفجر) .
وبعضهم قال: لا يجوز، والله أعلم.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(85/18)
تفسير سورة الانفطار
يصور الله سبحانه أهوال يوم القيامة في أول سورة الانفطار، وأن هذا الكون يتغير ويتحول إلى شيء آخر، وعند ذلك يعلم العبد مجيء يوم القيامة، وموعد الحساب على كل صغيرة وكبيرة، وما يئول إليه حال الناس من انقسامهم إلى فسطاطين: فسطاط نعيم وهم الأبرار، وفسطاط جحيم وهم الفجار من الكفرة والمنافقين، ثم يكون الأمر بيد الله سبحانه، فمن شاء رحمه، ومن شاء عذبه.(86/1)
تفسير قوله تعالى: (إذا السماء انفطرت.)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد: فنتناول سورة الانفطار والمطففين بالتفسير، والله المستعان: يقول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1] من العلماء من قدر محذوفاً وهو: واذكر أيها الإنسان إذا السماء انفطرت، أي: واذكر أيها الإنسان وقت انفطار السماء.
ومعنى انفطرت أي: تشققت، ومنه قول الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قام يصلي من الليل حتى تفطرت قدماه) أي: تشققت قدماه، وقوله تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل:18] أي: متشقق.
فالانفطار المراد به: التشقق، فـ {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} أي: إذا السماء تشققت، ولماذا تتشقق السماء؟ قال بعض أهل العلم: تتشقق السماء لنزول الملائكة، كما قال الله سبحانه: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25] فلا تتشقق حتى تنزل الملائكة منها، كما قال سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210] فهذا هو سبب انفطار السماء عند بعض العلماء.
وبعضهم قال: انفطارها لأمر الله، ومن علامات الساعة الكبرى.
{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} [الانفطار:2] انتثرت معناها: تساقطت، يعني: السماء تتشقق، والكواكب يرمى بها وتتساقط على الأرض.
فتخيل أن كوكباً مثلاً في حجم الأرض أو كما يقول المختصون بهذه الأمور الآن أضعاف أضعاف حجم الأرض كلها تنتثر! {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} [الانفطار:2] .
{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] من العلماء من قال: (فجرت) أي: ملئت وفاضت.
ومنهم من قال: إن معنى (فجرت) : اختلط عذبها بمالحها كما أسلفنا في سورة التكوير أن البحر بينه وبين العذب برزخ كما قال تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] فإذا كان يوم القيامة اختلط العذب بالمالح والمالح بالعذب.
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:4] أي: أثيرت وقلبت واستخرج من فيها.(86/2)
تفسير قوله تعالى: (علمت نفس ما قدمت وأخرت.)
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5] أي: إذا انفطرت السماء، وانتثرت الكواكب، وفجرت البحار، وبعثرت القبور، في هذه الأثناء كل نفس تعلم ما قدمته.
وما أخرته.
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ما هو الذي قدم؟ وما هو الذي أخر؟ من أهل العلم من قال: إن الذي قدم هو العمل الصالح، والذي أخر هو العمل السيئ.
ومنهم من قال: إن الذي قدم وأخر هو العمل الصالح؛ لكن العمل الصالح الذي قدم هو العمل الصالح الذي عمله العبد في دنياه، أما الذي أخر فهو العمل الصالح الذي يلحق العبد بعد موته من سنن حسنة سنها: من مساجد لله بناها، ومن أفعال بر يصله ثوابها بعد موته كعلم نافع، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له.
فهذان قولان مشهوران في تفسير قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5] : الأول: أن الذي قدم هو العمل الصالح، والذي أخر هو العمل السيئ.
والثاني: أن الذي قدم هو العمل الصالح الذي عمله الشخص في حياته، والذي أخر هو العمل الصالح الذي يلحق الشخص بعد مماته.
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] غرك معناها: خدعك ومناك وسول لك، فالمعنى: يا أيها الإنسان! من الذي خدعك وحملك على معصية الله سبحانه وتعالى؟! يا أيها الإنسان! ما هو الذي سول لك معصية الله عز وجل؟! {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] ما هو الذي غر الإنسان بربه الكريم؟ لأهل العلم ثلاثة أقوال في هذا: القول الأول: أن الذي غره بربه هو الشيطان كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5] وثم أقوال أخر: أن الذي غره هو الحياة الدنيا بما فيها من متاع وأماني وملاهٍ هذا قول.
القول الثاني: وهو المنقول عن الفضيل بن عياض وسئل: يا فضيل! لو وقفت بين يدي مولاك سبحانه وتعالى وسألك: عبدي ما غرك بي؟ ماذا كنت تقول؟ قال: أقول: غرتني ستورك المرخاة، أي: سترك علي غرني.
القول الثالث: أن الذي غرهم هو عفوه عنهم سبحانه وتعالى.
القول الرابع: أن الذي غرهم هو النعيم الذي غمرهم الله فيه، فغمروا في النعيم حتى نسوا لقاء الله سبحانه وتعالى كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:17-18] يعني: غمرتهم في النعيم حتى أنساهم هذا النعيم الذكر؛ فكانوا قوماً هلكى، لكن الذي عليه الأكثرون أن الذي غرهم هو الشيطان، والثاني: أن الذي غرهم هو عفوه سبحانه وتعالى، وثم قول ثالث: ما غرك بربك الكريم؟ فيقول القائل: غرني كرم الكريم.
ومن العلماء من قال: إن هذه الإجابة يقولها أهل الإيمان إذا سئلوا: ما غركم بالله؟ فيقولون: غرنا كرم الكريم.
هذه أوجه كلها مذكورة في تفسير قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] .
إن قال قائل: لماذا أُتي بلفظ (الكريم) في هذا الموضع والموقف موقف عتاب؟ فالإجابة: أن الشخص في الحياة الدنيا إذا كان هناك شخص يكثر من إعطائه وإكرامه، وإغداق المال عليه، وإغداق النعم عليه، فجدير بهذا المعطى إذا كان سليم الفطرة على الأقل أن يستحي من هذا الذي أعطاه ولا يعصي له أمراً، فأتي بصفة الكريم توبيخاً للعبد الذي غُر بربه سبحانه وتعالى، كيف اغتررت بربك وهو كريم قد أغدق عليك من كل أنواع النعم؟ صحة أنعم بها عليك! مال أنعم به عليك! إيمان أنعم به عليك! أولاد أنعم بهم عليك! نعمٌ لا يحصيها إلا هو! سمع وبصر وفؤاد وأرجل وأيد! نعم لا يحصيها إلا هو، فهذا الكريم الذي أنعم عليك بهذا جدير بأن يستحيا منه، فتحمل على نوع توبيخ للمغرور الذي غره الشيطان.
{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:7] أما عدلك؟ أي: جعلك معتدل القامة، فجل الدواب من حيوان وطيور وجهها في الأرض دائماً، بينما أنت سوي قائم، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] .
(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) جعلك سوياً سليم الأعضاء، لم يجعل لك يداً طويلة والأخرى قصيرة، ولو شاء لفعل ذلك، لم يجعل لك عيناً ناتئة وأخرى داخلة، لم يجعل لك أذناً طويلة وأخرى قصيرة، لم يجعل لك رجلاً طويلة وأخرى قصيرة، لم يجعل لك أصبعاً يفوق الأصابع الأخرى بمراحل، ولكنها بنان خلقها الله على حال واحدة نعمة منه وفضل، فقد سواك سبحانه وتعالى.
{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8] فلو شاء لركبك جميلاً وصورك جميلاً، ولو شاء لصورك دميماً لو شاء صورك قصيراً أو طويلاً أو نحيفاً أو سميناً لو شاء جعل شعر رأسك قططاً أو جعله سبطاً، هو الذي يصور سبحانه وتعالى كيف يشاء، لو شاء جعلك شبيهاً بأعمامك، ولو شاء جعلك شبيهاً بأخوالك، ولو شاء لنزعك عرق إلى جد بعيد، هو الذي يفعل ما يشاء لو شاء لجعلك ذكياً، أو غبياً لو شاء لجعلك عاقلاً أو مجنوناً، هو يختار سبحانه وتعالى.(86/3)
تفسير قوله تعالى: (كلا بل تكذبون بالدين.)
{كَلَّا} [الانفطار:9] أي: ليس الأمر كما تزعمون أنه لا بعث، بل هناك بعث ولكنكم تكذبون بالدين: {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الانفطار:9] أي: بالجزاء وبالثواب وبالعقاب، فالدين يطلق على الجزاء: (كما تدين تدان) يطلق على الحساب: (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) .
{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10] حفظة يحفظونكم بأمر الله كما قال الله سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] يحفظون عليك أعمالك ويحصونها عليك: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10-11] لماذا أتي بصفة الكرام للملائكة؟ لأن الكريم يستحيا منه، فمثلاً: كثير من الفجار إذا رأوا أهل الصلاح استحيوا أن يفعلوا أمامهم الموبقات، واستتروا نوعاً من التستر، أما إذا رأوا فاجراً مثلهم فلا يتورع الفاجر أن يفعل الموبقات أمام فاجر مثله، لا يتورع أن يسب الدين، أو أن يفعل أي شيء من المحرمات، لكن إذا أتى رجل صالح عليه علامات الوقار ويعرفه هذا الفاجر يستحيي من التلفظ بشيء خارم أمام هذا الشخص.
فالملائكة التي عليكم تراقبكم اعلموا أنهم كرام ويكتبون: {كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:11-12] أي: ويسجلونه.(86/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم.)
{إِنَّ الأَبْرَارَ} [الانفطار:13] أي: المطيعين {لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:13] ، وفي المقابل: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} [الانفطار:14-15] أي: يدخلونها مصليين بحرها، أي: متألمين بحرها.
{وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} [الانفطار:16] فيها قولان: أحدهما: أنهم إذا دخلوا النار لن يغيبوا عنها طرفة عين، بل سيلازمونها دائماً، وليس هناك راحة ولا إجازة ولا عطلة يتعطلون فيها عن النار، بل لن يغيبوا عنها أبداً: (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) يعني: إذا دخلوها لن يخرجوا منها، ولن تفتر ولن تخبو عليهم أبداً ولن يفارقوها.
قول آخر (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) أي: أنهم لابد وأنهم سيردون عليها.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار:17] لتهويل أمر يوم الدين وتعظيم شأنه جاءت (ما) الاستفهامية {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} .
{ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار:18] كرر الاستفهام لتعظيم شأن يوم الدين.
{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار:19] هل الآية على إطلاقها أو من الممكن أن نفساً تنفع نفساً بإذن الله؟ الظاهر الأخير؛ فإن الله قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقال يوم القيامة: أدخلوا هؤلاء الصغار الجنة، فيمتنع الصغار عن دخول الجنة، فيقول الله لهم: ما لي أراكم محبئنضين -أي: ممتنعين مترددين- فيقولون: لا ندخلها يا رب! حتى يدخلها آباؤنا وأمهاتنا، فيقول الله سبحانه: أدخلوا معهم آباءهم وأمهاتهم) فقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار:19] مقيد إلا أن يشاء الله، فإذا شاء الله نفعت نفس نفساً بإذن الله.
{وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19] لقائل أن يقول: لماذا اختُص يوم الدين بأن الأمر فيه لله، مع أن الأمر في الدنيا كذلك لله، وفي كل وقت وحين الأمر لله، فلماذا خص يوم القيامة بأن الأمر فيه لله؟ فالإجابة على ذلك: أن في الدنيا ملوكاً منهم من يدعي أنه هو المهيمن على الناس والمسيطر على الخلق، ومنهم من يدعي أنه الرب الأعلى، لكن يوم القيامة تضمحل هنالك الممالك، ويفنى كل من على وجه الأرض، ويقال: لمن الملك اليوم؟ فيجاب: لله الواحد القهار، فلا ملك ينازع، ولا مشاكس يشاكس، ولا معترض يعترض، بل الكل يسلم بأن الملك لله الواحد القهار.(86/5)
تفسير سورة المطففين
نهى الله تبارك وتعالى في هذه السورة عن تطفيف المكاييل، وفي ذلك رد على العلمانيين القائلين بأنه لا علاقة للدين بالحياة، ولا علاقة للدين بالاقتصاد، فالشرع نظم لنا أمور اقتصادنا ومنع من الغش في معاملاتنا.
وذكر الله في هذه السورة أحوال الفجار والأبرار، ومصير أرواحهم بحسب أعمالهم، وتنعمهم أو عذابهم بحسب ذلك، ثم ذكر الله استهزاء المجرمين بالمؤمنين وعاقبة ذلك.(87/1)
سبب نزول سورة المطففين
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: سورة المطففين قد ورد فيها سبب نزول في إسناده بعض الضعف، ألا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد أهلها يطففون المكاييل والموازين فنزلت {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] ، فانتهوا عن تطفيفهم للمكيال والميزان.(87/2)
تفسير قوله تعالى: (ويل للمطففين.)
قال سبحانه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] الويل للعلماء فيه قولان مشهوران: القول الأول في تفسير الويل: أنه وادٍ في جهنم يسيل إليه صديد أهل النار، وقد وردت في هذا الباب عدة أخبار عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكن في تفسير كل خبر منها ضعف بل ضعف شديد، فمن العلماء من قواها بمجموع طرقها، ومنهم من ضعف مفرداتها.
القول الثاني في تفسير الويل: أنه دعاء بالهلاك، كما قال الكافر: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28] ، فويل أي: هلاك وعذاب للمطففين.(87/3)
نهي الله عن تطفيف المكاييل فيه رد على العلمانيين
وأصل التطفيف: النقص والبخس، والمراد هنا: نقص الموازين والمكاييل وبخس الموازين والمكاييل.
هذه الآية فيها رد على العلمانيين القائلين: لا دخل للدين بالحياة ولا دخل للدين بالاقتصاد، فهذه الآية من أقوى الآيات التي ترد عليهم، فهي تنظم لنا أمور اقتصادنا وتمنع الغش فيما بيننا، وقد قال نحو مقالة هؤلاء العلمانيين الكفرة قوم شعيب لما أُرسل إليهم آمراً إياهم بعبادة الله وعدم تطفيف المكاييل والموازين: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87] يعني: نحن أحرار في أموالنا {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] يعنون السفيه الضال كما أسلفنا.
وشعيب صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة فيها الأمر بإقامة الوزن والمكيال بالقسط {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:85-86] ، وقال الله سبحانه: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء:181-183] ، وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:9] ، وقال سبحانه: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء:35] ، وقال: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] ، فلابد من الوفاء ولابد من العدل في المكاييل والموازين، وإلا فالتطفيف كبيرة من الكبائر بالاتفاق.
قال الله سبحانه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} [المطففين:1-2] أي: طلبوا من الناس أن يكيلوا لهم {يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:2] يأخذون حقهم مستوفى، يعني إذا اشترى من شخص يقول له: أرجح الكيل (إذا اكتالوا على الناس يستوفون) أي: يأخذون حقهم مستوفى.
استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن البائع هو الذي يكيل، أو هو الذي يعطي أجرة الكيل لمن يكيل، وقد ورد في الباب حديث في إسناده ضعف إلا أن الضعف فيه قليل: (إذا بعت فكل - أي أنت الذي تكيل- وإذا ابتعت فاكتل -أي اطلب من شخص أن يكيل لك-) فإذا بعت أنت الذي تكيل، وإذا اشتريت يكال لك، فهذه بعض تنظيمات البيوع.
فالفقهاء منهم من بوب باب: صاحب السلعة أحق بالسوم، يعني: صاحب الشيء هو الذي يقول: أنا حاجتي أبيعها بكذا، ويستدل لذلك بما أخرجه البخاري بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء عليه الصلاة والسلام يشتري من بني النجار حائطهم -أي بستانهم- كي ينشئ فيه المسجد النبوي قال: (يا بني النجار ساوموني بحائطكم) يعني قولوا كم تريدون ثمن حائطكم؟ فهذا رأي فريق من العلماء، ومنهم من رأى أن الأمر في هذا واسع.
الشاهد: أن البائع هو الذي يكيل ويزن، قال الله سبحانه: (الذين إذا اكتالوا) أي: طلبوا من الناس أن يكيلوا لهم (على الناس يستوفون) .
{وَإِذَا كَالُوهُمْ} [المطففين:3] أي: كالوا لهم {أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين:3] أي: وزنوا لهم {يُخْسِرُونَ} [المطففين:3] ، فهذا مثل أن يكون للرجل قدح كبير يشتري به وقدح صغير يبيع به، أو كيلو صنجته كبيرة وكيلو صنجته صغيرة يشتري بهذا ويبيع بهذا، فكل هذا يدخل في الوعيد (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون) (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) أي ينقصون.(87/4)
أثر الاعتقاد الصحيح والفاسد على عمل العبد
{أَلا يَظُنُّ} [المطففين:4] أي: ألا يعتقد ويوقن، فالظن هنا بمعنى اليقين، ومواطن إتيان الظن بمعنى اليقين متعددة منها: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] أي: أيقنت أني ملاقٍ حسابيه، {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة:46] أي: يوقنون أنهم ملاقو ربهم، وهنا يقول سبحانه: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ} [المطففين:4] أي: المطففون.
{أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:4-5] الآية تفيد: أن الاعتقاد الصحيح يولد عملاً صحيحاً، وبالمقابل فإن الاعتقاد الفاسد يولد عملاً فاسداً، فإذا كان اعتقادك صحيحاً وأنك تعتقد تماماً أنك مبعوث ليوم عظيم فهذا الاعتقاد الصحيح يحملك على عمل صحيح وهو عدم تطفيف الكيل وعدم تطفيف الميزان، لكن إذا كنت لا تعتقد أن هناك بعثاً ما هو المانع لك من الغش؟ ما هو المانع لك من السرقة؟ لا مانع إذاًَ من الغش ولا من السرقة -إذا كنت لا تعتقد أن هناك بعثاً- إلا سطوة البشر، لكن إذا خلوت وابتعدت من أعين البشر ليس هناك أي مانع من أن تختلس، ولذلك مقولة إخواننا الذين يقولون: إن الأوروبيين أكثر أماناً من المسلمين هذه مقولة ضالة خاطئة، فهم وإن راقبوا البشر فلا يراقبون الله، فإذا تمكنوا من السرقة والاختلاس اختلسوا بلا شك ولا حرج عندهم في ذلك.
فالشاهد: أن الاعتقاد الصحيح يحملك على عمل صحيح، لذلك إذا اعتقدت اعتقاداً صحيحاً في الملائكة وأنهم يراقبونك عملت عملاً صالحاً حتى لا يروك على معصية الله.
في المقابل الاعتقاد الفاسد يولد عملاً فاسداً، ولذلك لما اعتقد بنو إسرائيل اعتقادات فاسدة، كاعتقادهم أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات قالوا: أذنبنا أم لم نذنب، ارتكبنا الكبائر أم لم نرتكب، فإننا معذبون سبعة أيام، وهي السبعة التي عبدنا فيها العجل، فهذا الاعتقاد الرديء السيئ حملهم على ماذا؟ على قتل الأنبياء وقتل الذين يأمرون القسط من الناس، فذبحوا يحيى وذبحوا زكريا عليهما السلام، قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:21-22] إلى أن قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران:24] فلذلك يقول العلماء: إن سلطان العلم والخشية من الله أقوى تأثيراً على القلب من سلطان السيوف، فإن السيوف على البدن تستطيع أن تتقيها بأي شيء، لكن الذي في القلب ثابت لا يتغير ولا يؤثر فيه إلا العلم والخشية من الله سبحانه وتعالى.
قال الله جل ذكره: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:4-5] فلو علموا ذلك لضبطوا الموازين حق الضبط.(87/5)
كيفية قيام الناس يوم القيامة للحساب
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] كيف يقوم الناس لرب العالمين؟ صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوم يقوم الناس لرب العالمين يقوم أحدهم يغيب في رشحه) يعني: يغرق في عرقه، وفي الحديث الآخر: (تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة كمقدار ميل -لا يدري الراوي أهو ميل المكحلة أو ميل المسافة- فمن الناس من يبلغه العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغه العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً) أو كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(يوم يقوم الناس لرب العالمين) وقيام الناس ليوم القيامة للحساب وحشرهم ليوم المعاد على أشكال وأصناف، فمنهم من يحشر أعمى وأبكم وأصم كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97] ، ومنهم من يحشر مثل النملة في صورة الرجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الرجال يطؤهم الناس بأقدامهم) ، ومنهم من يحشر معقوداً عند استه لواء -وهو الغادر- مكتوب على هذا العلم واللواء: هذه غدرة فلان بن فلان أي: التي غدر فيها، ومنهم من يحشر وحية تطوق رقبته وهو مانع الزكاة، ومنهم من يحشر ملبياً قائلاً: لبيك اللهم لبيك وهم الذين ماتوا في الحج، ومنهم من يحشر أغر محجلاً أي: أبيض اليدين والجبهة من آثار الوضوء، ومنهم من يحشر وجروحه تنزف دماً لونها لون الدم وريحها ريح المسك وهم الشهداء.
إلى غير ذلك.(87/6)
مسألة: مشروعية القيام للقادم
(يوم يقوم الناس لرب العالمين) ترد هنا مسألة القيام للقادم، هل يشرع القيام للقادم أو يستحب أو يكره؟ لأهل العلم فيها أقوال: أحدها: أن القيام للقادم مكروه، والآخر: في مقابله أنه مستحب، والثالث الوسط: أن لاستحبابه أوقات ولكراهيته أوقات، أما أوقات استحبابه فإذا كانت هناك مناسبة تدعو إليه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب للأنصار لما قدم سعد بن معاذ رضي الله عنه كي يحكم في اليهود قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم) وردت رواية في إسنادها مقال وهي: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) ولكنها لا تثبت.
والرواية الثانية الدالة على الاستحباب في المناسبات أخرجها أبو داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم على فاطمة ابنته قامت إليه فقبلته وأجلسته، وإذا قدمت فاطمة عليه قام إليها فقبلها وأجلسها.
والدليل الثالث: هو ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه حينما ذكر قصته في التوبة عليه قال: (فانطلقت إلى المسجد فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول فصافحني وهنأني) .
فهذه دالة على القيام للناس عند المناسبات، وهناك عمومات تشهد لهذا المعنى كالعمومات الواردة في توقير الكبير وإنزال الناس منازلهم، أما ما سوى ذلك فيكره أن يقام للشخص كلما دخل، قال أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلى أصحابه، وكان إذا دخل عليهم لم يقوموا له لما يعلمون من كراهيته لذلك) ، وقد ورد في الباب حديث في حق القادم يحرم عليه أن يحب أن يقوم الناس له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يمثل له الرجال -وفي رواية أن يتمثل له الرجال- قياماً فليتبوأ مقعده من النار) وهذا الحاصل في مسألة القيام.(87/7)
تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار.)
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] وما المراد بكتاب الفجار؟ هو ذلكم الكتاب الذي كتبت فيه أعمال الفجار.
(كلا إن كتاب الفجار لفي سجين) أي: فهو كتاب مكتوب موضوع في سجين.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين:8] لتعظيم شأن سجين وتهويل أمرها.
{كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9] ليس معنى قوله (وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم) أن (كتاب مرقوم) تفسير لسجين، سجين شيء وكتاب مرقوم شيء آخر، إنما المعنى: كلا إن كتاب الفجار كتاب مرقوم أي: كتاب مكتوب موضوع في سجين وما أدراك ما سجين، هذا هو المعنى، فكتاب مرقوم ليست تفسيراً لسجين وهذا واضح، أما ما هي سجين؟ فهو سجن في الأرض السابعة السفلى، دل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما في قصة نزع روح المؤمن وروح الكافر (أن روح الكافر تصعد فلا تفتح لها أبواب السماء ويقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى) ، فهو سجن في الأرض السابعة السفلى، ومن العلماء من قال: هي النار.
{وَيْلٌ} [المطففين:10] سبق تفسير ويل {يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المطففين:10] .
{الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المطففين:11] المكذبون متعددون فمنهم: مكذب بالبعث، ومنهم مكذب بخبر تخبره إياه، لكن المكذبون الذين تُوعدوا بالعذاب الأليم هم المكذبون بيوم الدين.
{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [المطففين:12-13] أي: قصص وحكايات الأولين كتبوها لك يا محمد! وأنت تمليها على الناس، كما قالوا: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان:5] أي: طلب من شخص أن يكتبها له {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] .(87/8)
معنى الران
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:13-14] أي: ليس الأمر أيها الكذاب! كما زعمت أنها أساطير الأولين، ولكن أنت وضع الران على قلبك بما كنت تكسب، يعني الكلام الذي يتلوه محمد ليس أبداً أساطير الأولين، ولكن أنت أيها الكذاب! الذي وضع ران على قلبك بما كنت تكسب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية الحديث الذي تقدم على مسامعكم مراراً: (إذا أذنب العبد ذنباً نكتت على قلبه نكتة سوداء فإن تاب وأقلع محيت، وإن عاد وأصر نكتت نكتة أخرى سوداء حتى يغطى القلب كله، ثم قال: هذا هو الران الذي ذكر الله في كتابه (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)) .(87/9)
رؤية أهل الإيمان لربهم يوم القيامة
{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] أي: لن يروا ربهم يوم القيامة، فالمفهوم المخالف للآية الكريمة: أن أهل الإيمان يرون ربهم يوم القيامة، وهذا من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، خلافاً للمعتزلة ولسائر الطوائف، فمن أصول الاعتقاد: أن أهل الإيمان يرون ربهم سبحانه وتعالى يوم القيامة، قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ، وقد فسرت في حديث مسلم -وإن كان فيها نوع انتقاد- بأن الزيادة هي: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] على قول لبعض المفسرين في تفسيرها، وأصرح من هذا وذاك قول جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: (نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر) ، وفي رواية في الصحيحين: (إنكم سترون ربكم عياناً) ، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (هل نرى ربنا يوم القيامة يا رسول الله؟! فقال عليه الصلاة والسلام: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يارسول الله! قال: هل تضارون في رؤية القمر في ليلة صحو؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم سترون ربكم ... ) الحديث المطول وفيه: (فيأتيهم ربهم في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا ... ) الحديث.
وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة) ، ومن الطرائف التي ذكرت في هذا الباب: مناقشة جرت بين رجل سني بمدينة صنعاء باليمن وبين رجل معتزلي، فقال السني: إننا سنرى ربنا يوم القيامة وهذه الأدلة على ذلك، قال المعتزلي: لا يُرى الرب أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة، واستدل بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51] السني حمل هذه الأدلة على الدنيا؛ لأن الأدلة الواردة في الآخرة ثابتة، فاشتد الجدل بينهما فقال له العالم السني: نتفق على شيء، قال: وما هو؟ قال: نحن سنرى ربنا وأنتم لن تروا ربكم.
قال الله سبحانه وتعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا} [المطففين:15-16] أي: ذائقو {الْجَحِيمِ} [المطففين:16] ومصليون بها (لصالو الجحيم) .
{ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] هذا اليوم وهذا العذاب كنتم تكذبون به، كنتم تقولون: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [ص:16] أي: حظنا من العذاب {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] .(87/10)
تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الأبرار.)
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ} [المطففين:18] أي: كتاب الأعمال الذي كتبت فيه أعمال الأبرار وهم المطيعون {لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] أي: موضوع في عليين، فعليون في السماء السابعة بنص حديث البراء (اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة) ، كلا إن كتاب الأبرار كتاب مرقوم موضوع في عليين.
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:18-19] يعني: فرق بين كتاب الفجار الموضوع في سجين في الأرض السفلى، وكتاب الأبرار الموضوع في عليين في السماء السابعة.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:19-20] أيضاً ليس (كتاب مرقوم) تفسير للعليين.
{يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:21] وهنا لفتة طيبة ينبغي أن يقف عندها الشخص وهي: أن كتاب الأبرار الذي كتبت فيه أعمالهم موضوع في عليين في السماء السابعة ومن الذي ينظر إليه؟ المقربون الذين هم الملائكة، تخيل مثلاً لك ابن في الثانوية والولد نجح بتفوق أتى مائة بالمائة في الرياضيات وفي الإنجليزي خمسين من خمسين وفي الكيمياء خمسين من خمسين وفي اللغة العربية ستين من ستين وهكذا، أو لك بنت أتت تسعين في المائة أو خمسة وتسعين في المائة أو مائة في المائة ستأخذ شهادتها وأنت فرح مسرور وتتفرجها على الجرائد تعال انظر بنتي انظر ابني جاب كم وصدرك منشرح، والناس يرون الشهادة، بل وتعلقها على الجدار حتى ينظر إليها الداخلون.
فتخيل أين يوضع كتاب الأبرار؟ ليس في غرفة النوم يراه الداخل والخارج، إنما هو موضوع في عليين في السماء السابعة في الجنان، ومن الذي يراه؟ ومن الذي يُطلع عليه؟ الذي يطلع عليه هو الله سبحانه وتعالى، انظروا يا ملائكتي! كتاب عبدي، كتاب البر فلان بن فلان، انظروا ماذا كتب فيه؟ يبدأ المقربون يشهدون ما في الكتاب، يفتح صفحة صلوات مائة بالمائة، ذكر مائة بالمائة، كلام طيب مائة بالمائة، حج عمرة جهاد إنكار منكر شهود جنازات حفظ لسان صلة أرحام كلها درجات ممتازة.
فالمقربون هم الذين ينظرون إلى هذا الكتاب الحسن، وهم الذين يتداولونه فيما بينهم، ليس مقرب واحد ينظر إنما يباهي الله عز وجل بك الملائكة، انظروا إلى صلاة عبدي إلى صيام عبدي، هذا من ذرية الذي قلتم لي فيه: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] هذا عبد من عبادي، وليس القول قولكم حينما قلتم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] لكن هناك من يسبح بحمدي ويذكرني ويشكرني ويصبر على بلائي وينفس عن المكروبين من عبادي، صفحات حسنة في غاية الحسن، وبيضاء في غاية البياض، لو علمت أنت يا عبد الله! أن الملائكة تطلع على صحيفتك، وتسر بالعمل الصالح الذي تفعله، وتستاء من العمل السيئ الذي يظهر فيها وتقول: يا ليته لم يفعل في هذه الصفحة كذا وكذا، صفحة الصلاة بيضاء يا ليته لم يشبها بكذا وكذا، صفحة صلة الأرحام بيضاء يا ليته لم يقطع قريبه فلاناً فقد ترك نكتة هنا سوداء يا ليتها تمحى، فهكذا إذا اعتقد الشخص هذا الاعتقاد الصحيح ضبط مسيرته واستحيا من ربه واستحيا من ملائكة الله عز وجل.
{يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:21] طبعاً هم يستغفرون لك إذا وجدوا شيئاً مشيناً كما قال الله سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:7-9] هكذا الملائكة تدعو لك هذا الدعاء، أما إذا لم تكن من أولياء الله ولا من الأبرار بل كنت من الفجار فمن يدعو لك؟ تخيل من يدعو لك إذا كنت شقياً {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص:42] حتى صاحبك الفاجر لم يدع لك بل يدعو عليك {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] والعياذ بالله.(87/11)
جزاء المؤمنين في الآخرة
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين:22] اشتملت السورة على ثلاثة أصناف: فجار، وأبرار، ومقربون، كما اشتملت سورة الواقعة على الأقسام الثلاثة: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:7-11] وهنا في هذه السورة ثلاثة أصناف: الفجار والأبرار والمقربون.
والأبرار في كثير من الأحيان تأتي بمعنى المقربين، يعني إذا جاء ذكر الأبرار في سياق مستقل دخل فيه المقربون كما قال أهل الإيمان: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193] فالأبرار هنا شملت المقربين وشملت أصحاب اليمين، لكن إذا جاء ذكر الأبرار مقترناً بذكر المقربين يكون الأبرار أنزل درجة من المقربين، فالله سبحانه وتعالى يقول: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] إلى قوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين:22] .
{عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] الأرائك هي الأسرة، والأسرة جمع سرير، فمعناها الأسرة في الحجال، والحجل جمع حجلة، والحجلة تعني عند الناس في الدنيا الناموسية يعني: الأسرة عليها ناموسية أو عليها خيمة فتسمى الأسرة في الحجال، فهذه الأريكة.
{عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] ينظرون إلى ماذا؟ ينظرون إلى إخوانهم في الجنان، وأحياناً لتتميم النعمة يطلعهم الله سبحانه وتعالى على بعض قرناء السوء وهم في النار، يعني الرجل الذي في الجنة أحياناً يطلع على منظر في النار حتى يشكر نعمة الله عليه كما في الحديث: (هذا مقعدك لو مت على غير الإسلام) وفي الآية الكريمة {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات:50-51] من أهل الجنة اذكروا يا أصحابي {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] أي: كان لي صاحب ملحد في الدنيا، وهذا الصاحب الملحد كان يقول لي ماذا يا جماعة؟ {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52-53] أي: مجزيون ومحاسبون، كان لي في الدنيا صاحب ملحد قرين سوء يقول لي: لا تصدق أبداً هذا الكلام الذي يقولونه أنك ستحاسب، وبعد أن تكون تراباً وعظاماً تبعث! فيريه الله صاحبه هذا في النار قال الله سبحانه: {فَاطَّلَعَ} [الصافات:55] أي: فنظر {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] يعني في وسط الجحيم، السواء هنا: الوسط كما قال حسان: يا ويح أصحاب النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد فالسواء: الوسط {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ) [الصافات:55-56] أي: والله {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] يعني كنت ستوقعني في مصيبة وتهلكني {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] يعني كنت سأنال نفس الجزاء معك لولا أن الله عز وجل منَّ علي.
فقوله سبحانه: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] ينظرون إلى ما هم فيه من النعيم، وينظرون إلى إخوانهم المؤمنين، وينظرون أحياناً إلى من في النار حتى يزداد شكرهم وحمدهم لله سبحانه وتعالى.
{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] يعني أثر النعمة ظاهرة على الوجه، فقد تجد شخصاً أثر النعمة ظاهرة على وجهه، وآخر أثر الشقاوة ظاهرة على وجهه في الدنيا، فقد ترى أبناء الملوك أو المنعمين بادية عليهم أثر النعمة، والأشقياء كذلك، فأهل الجنة تعرف في وجوههم نضرة النعيم.
{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين:25] الرحيق: الخمر، والمختوم فيه أقوال: أحد الأقوال أن مختوم أي: مغلق بختم، يعني مغلق تماماً لم يقترب منه أحد (رحيق مختوم) .
{خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين:26] يعني: إذا شربته لم تشعر بعد شربه برائحة الخمر السيئة إنما يشم منك بعد شربه رائحة المسك، فإن قال قائل معترضاً على هذا القول: إن الله سبحانه وتعالى وصف شراب الجنة بأنه أنهار وليس في أكواب، ففي شراب الجنة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ} [محمد:15] فكيف تقول: إنها كئوساً مغلقة وهي أنهار مفتوحة؟ الإجابة: إنه لا يمتنع أبداً أن يكون هناك أنهار من الخمر وأيضاً كئوس مغلقة، الذي يريد أن يشرب من النهر شرب، والذي يريد أن يشرب من الكأس المغلق شرب، لا مانع أبداً من أن تتعدد صنوف النعم يوم القيامة، هذا القول الأول في تفسير المختوم، يعني: مغلق لم يقترب منه أحد، وبعد أن تشربه تشعر برائحة المسك.
ومن العلماء من قال: هو مغطى في الأصل بطبقة مسك، أي: الغطاء الذي غطي به مسك إذا جئت تفتحه وجدت ذلك.
ومنهم من قال: ختامه مسك أي: ممزوج، ففسر (مختوم) بـ (مخلوط) .
{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] أي: في مثل هذا النعيم ينبغي أن يكون التنافس كما قال تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] فلا يكون التكالب على الدنيا والتنافس في الترقية بل {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} .
{وَمِزَاجُهُ} [المطففين:27] أي: خليط الرحيق {مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين:27] يعني: هذا الخمر مخلوط بشيء آخر غير المسك، {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين:27] يعني: مخلوط بشراب من تسنيم، وما هي التسنيم؟ قال الله سبحانه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا} [المطففين:28] يعني: يشرب منها، فالباء مع من تتبادلان، وأحرف الجر تتناوب.
فهناك عين يقال لها تسنيم، هذه العين -التي هي التسنيم- هي شراب المقربين خاصة، لكن يؤخذ منها شيء ويصب على الرحيق ويعطى الرحيق لأصحاب اليمين، فكما قال ابن مسعود وغيره: يشرب بها المقربون صرفاً يعني خالصة، وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً، يعني الأبرار الذين هم أصحاب اليمين يسقون من رحيق مختوم مزاجه -أي: خليطه- من تسنيم، مثلاً تشرب في الدنيا الشاي على اللبن أو الشاي فقط، اللبن مثلاً للمقربين والشاي لمن دونهم، ونحو هذا المعنى ورد في سورة الإنسان {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا} [الإنسان:5] أي: خليطها {كَافُورًا} [الإنسان:5] ما هو الكافور؟ {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] يعني: المقربين، {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] .
قال الله سبحانه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا} [المطففين:28] أي: منها {الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:28] وهم أصحاب أعلى الدرجات في الجنان.(87/12)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين أجرموا ... )(87/13)
سخرية المجرمين من المؤمنين في الدنيا
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] أي: في الدنيا وهذا شيء مطرد، فأهل الإجرام دائمو السخرية من أهل الإيمان {كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] نوح صلى الله عليه وسلم سخر منه قومه، وابن آدم بمجرد أن تُقبل القربان من أخيه قال: لأقتلنك، ما له أي ذنب إلا أن القربان تقبل منه، ووصف الرسول بالسحر والجنون، وأوذي إبراهيم وموسى، وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فقال ورقة بن نوفل لرسول الله: (لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي) ، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا} [إبراهيم:13] ، وقال الله سبحانه أيضاً في سورة المؤمنون {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} [المؤمنون:110] يعني جلستم تسخرون من أهل الإيمان حتى أنستكم سخريتكم منهم كتابي وقرآني.
فالله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ} [المطففين:29-31] يرجع الكافر إلى زوجته يضحك معها ويسخر: السني عمل اليوم كذا، محمد بن عبد الله عمل كذا، وعلي بن أبي طالب وعمر.
يجلس يتفكه على رسول الله وعلى أصحاب رسول الله وعلى المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] مرحين.
{وَإِذَا رَأَوْهُمْ} [المطففين:32] قابلوهم في الطرق {قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:32] يقول أحدهم: انظر إلى هذا المجنون الذي يقول لك: إن هناك بعثاً! انظر التارك مناصب الدنيا بما فيها ويقول لك: أنا تركتها لوجه الله ويسخر! (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) (وإذا مروا بهم يتغامزون) (وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين) (وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون) .
فالله يقول: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:33] يعني دعوهم وشأنهم؟ هل أنت بعثت على عبادي رقيباً؟ هل هناك أحد طلب منك أن تقول رأيك فيهم أصلاً؟ (وما أرسلوا عليهم حافظين) وما أرسلوا عليهم رقباء، يعني: أنت يا مجرم! ما أحد قال لك: راقب عبادي واحسب عليهم أعمالهم، فخلوهم في شأنهم، إذا كنت لا تريد أن تعتنق هذا الطريق اترك عبادي فما أرسلت عليهم حفيظاً (وما أرسلوا عليهم حافظين) .(87/14)
سخرية المؤمنين من المجرمين في الآخرة
{فَالْيَوْمَ} [المطففين:34] لأن الجزاء من جنس العمل {الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] دائماً الجزاء من جنس العمل {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) ، إذا قمت تدعو لأخيك دعت لك الملائكة، وإذا كنت من المستكبرين في الدنيا حشرت يوم القيامة ذليلاً وأرهقت صعوداً والعياذ بالله، هكذا دوماً فالجزاء من جنس العمل.
{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ} [المطففين:34-35] وهي الأسرة في الحجال كما أسلفنا {يَنظُرُونَ} [المطففين:35] .
{هَلْ ثُوِّبَ} [المطففين:36] أي: هل جوزي {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36] يعني: إذا سأل سائل: هل جوزي الكفار بعد هذا البيان ما كانوا يفعلون؟ فالإجابة: نعم جوزي الكفار بما كانوا يفعلون.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى والسلام عليكم ورحمة الله.(87/15)
الأسئلة(87/16)
حكم وضع المال في البنك لغرض الربح
السؤال
رجل مريض منذ سنين، وحالة مرضه عجز شبه كلي ولا يعمل في أي عمل، وعنده مبلغ من المال أودعه في أحد البنوك ويسعى للربح الآن؟
الجواب
الربح ربا، فيعطيه من يشغله له، والله أعلم.(87/17)
حكم صلاة المنفرد خلف الصف
السؤال
ما هو حكم حديث: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) وما المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة) ؟
الجواب
الحديث ثابت صحيح، لكن المراد نفي الكمال لا نفي الصحة؛ لأن أبا بكرة لما ركع خلف الصف قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعد) ، فلو كانت الصلاة باطلة لأمره النبي بالإعادة.(87/18)
حكم جذب المصلي أحد المصلين من الصف ليصلي معه
السؤال
هل يجوز جذب أحد المصلين من الصف الذي أمامه كي يصلي معه حتى لا يصلي منفرداً؟
الجواب
نعم يجوز ذلك؛ لأن أبي بن كعب جذب شاباً من الصف وهو يصلي كما في سنن النسائي بسند صحيح، ولا يعترض علينا بحديث (من قطع صفاً قطعه الله) فإن هذا ليس المراد به القطع في هذه الحالة، فسرعان ما سيلتئم الصف.(87/19)
حكم أحاديث مساواة المهدي لأبي بكر وعمر في الفضل
السؤال
هل هناك أحاديث صحيحة تدل على أن المهدي المنتظر مثل أبي بكر وعمر في الفضل؟
الجواب
لا أعلم شيئاً في ذلك.(87/20)
حكم لبس النظارة الشمسية بدون حاجة
السؤال
نرجو إلقاء الضوء على حكم لبس النظارة الشمسية بدون داعٍ، هل فيه تشبه أو تغيير للخلق؟
الجواب
ليست تشبهاً وليست تغييراً للخلق، لكن إذا كنت تلبسها حتى تتابع بها النساء ولا يراك أحد فربك يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إذا كنت تلبسها لحاجة شر فهي شر، لكن الأصل أنها جائزة لا شيء فيها أبداً {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] .(87/21)
حكم قنوت الفجر
السؤال
هل القنوت في الفجر بدعة؟
الجواب
المسألة فيها تفصيل قد أسلفناه، القنوت في الفجر إنما هو مسألة من المسائل المختلف فيها بين أهل العلم، وقد فصلنا القول فيها، فمن اختار رأياً لا يحكم عليه بالبدعة فيه.(87/22)
حكم حديث أنس في وصف حال المدينة عند مقدم الرسول وعند وفاته
السؤال
حديث أنس: (ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا رسول الله، وما رأيت يوماً كان أظلم من اليوم الذي مات فيه الرسول صلى الله عليه وسلم) .
الجواب
الحديث الذي يحضرني أنه ثابت صحيح، هذا في نظر أنس رضي الله تعالى، وفي نظر عموم المسلمين.(87/23)
مقدار سترة المصلي
السؤال
هل يشترط في سترة المصلي ارتفاع معين؟
الجواب
تكون على أقل تقدير مثل مؤخرة الرحل، يعني الجمل تكون له خشبة في آخره تسمى بمؤخرة الرحل قدر شبر ونصف أو شبر تقريباً، أما حديث الخط فلا يثبت.(87/24)
حكم رفع اليدين بالدعاء بعد أذكار الصلاة
السؤال
هل رفع اليدين بعد أذكار الصلاة بالدعاء بدعة؟
الجواب
أظن تكلمنا على هذا بما فيه الكفاية وليس بدعة والله أعلم.(87/25)
حكم إلزام الزوج بنفقة الحج عن زوجته
السؤال
زوجتي لديها مال، فهل يكون حجها على نفقتها، أم أني ملزم بذلك من مالي الخاص؟
الجواب
الزوج لا يلزم بأن يدفع نفقة حج زوجته من ماله الخاص، لا بل الزوجة هي التي تحج من مالها لخاص، أما إذا ساعدها الزوج في هذا فجزاه الله خير الجزاء ويشكر، لكن أن يكون من باب الوجوب فلا، إذ لا يجب عليه أبداً أن يحجج زوجته.(87/26)
حكم من حج وتكاليف حجه هبة من غيره
السؤال
قمت بأداء فريضة الحج بدعوة من أخي الأكبر على نفقته، ثم حججت مرة أخرى على نفقة جهة العمل، فهل الحجتان صحيحتان؟ علماً بأن هناك من أفتى بأنه في الدولة الفقيرة لا يجوز عمل بعثات للحج؟
الجواب
نعم الحجتان صحيحتان، إذا أعطاك شخص مالاً تحج به عن نفسك، أو حججت من مالك الخاص، أو أهداك شخص تكاليف حجك؛ كل ذلك تكون قد أديت به الفريضة التي كتبها الله عليك.
أما بالنسبة لبعثات الحج فإن الفتوى فيها ليست إلينا.(87/27)
حكم التكافل الاجتماعي
السؤال
هل التكافل الاجتماعي حرام أم حلال؟
الجواب
إذا كنت تقصد التكافل الاجتماعي الذي أسسه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كتاب الله عز وجل، يعني (مثل المؤمنين في توادهم وتراحهمم كمثل الجسد) ، (المؤمن أخو المؤمن) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] (يرحم الله الأشعريين كانوا إذا أرملوا في الغزو جمعوا أزوادهم) كل واحد يحضر الأكل الذي معه ويأكلون جميعاً، فله أسس كثيرة جداً، لكن إذا كنت تقصد صورة معينة فاسأل عن الصورة المعينة.(87/28)
مشروعية التوسط عند اتخاذ السترة للصلاة
السؤال
هل عند اتخاذ سترة يراعى ألا أتوسط هذه السترة؟
الجواب
هناك حديث فيه النهي عن تعمد ذلك، يعني تقف أمام السترة مباشرة ولا تنحرف يميناً أو يساراً، لكن الحديث لا يثبت، فقف أمام السترة حيث تيسر لك.(87/29)
القول في كتاب: إحياء علوم الدين
السؤال
ما القول في كتاب إحياء علوم الدين؟
الجواب
كتاب إحياء علوم الدين القول المجمل فيه أن مؤلفه حاطب ليل؛ لأن الشخص الذي يجمع حطباً في الليل يمكن أن يجمع حطباً ويكون في الحطب حيات وثعابين، ففيه أحاديث باطلة وموضوعة وفيه أشياء صحيحة.(87/30)
حكم زواج المرأة واحتجابها من أخيها من الرضاعة
السؤال
أخ أراد الزواج مني وله صلة قرابة قوية، ولكن تبين أنه أخ لي من الرضاعة، فهل أحتجب منه؟
الجواب
إذا كان أخاً لك من الرضاعة فيحرم عليك الزواج به، ويجوز له أن يراك، لكن إذا خشيت منه الفتنة فحينئذ تمتنعي منه ليس تحريماً ولكن درءاً للمفاسد، فالله لا يحب الفساد.(87/31)
الأشياء التي يجوز أن يراها والد الزوج من زوجة ابنه
السؤال
ما الذي يجوز للمرأة أن تظهره لوالد الزوج من المرأة؟
الجواب
يجوز أن تظهر ما يرى غالباً من المرأة، يعني مثلاً إن رأى والد الزوج شعرها جاز له، إن رأى أماكن الوضوء منها فلا بأس بذلك، وهذا رأي كثير من أهل العلم ونقله البيهقي رحمه الله تعالى في سننه بصفة عامة في شأن المحارم.(87/32)
حكم دخول العاقد على زوجته قبل إعلان البناء
السؤال
ما الفرق بين الخاطب والعاقد قبل إعلان البناء أمام الناس؟ وهل للعاقد جميع الحقوق الشرعية وأن الزوجة يجب عليها أن تنفذ جميع ما يطلبه؟
الجواب
لا، ليس كذلك، صحيح أن العاقد زوج شرعي، لكن البناء له وقت أيضاً ووقت مضبوط شرعاً، الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] فكان هناك وقت واضح في البناء، والرسول عليه الصلاة والسلام جاءت امرأة إليه فقالت:: (يا رسول الله إن رجلاً تزوج ابنتي وإنه يستحثني -يستعجل عليها لكي يبني بها- أفأصل شعرها) فالشاهد أنه كان هناك وقت معلوم في البناء، لا بأس أن يكون البناء بعد العقد مباشرة ولا خلاف في ذلك، لكن محل السؤال لو أن عاقداً ذهب إلى من عقد عليها في بيت أبيها وطلب منها أن يجامعها في بيت أبيها، هل يجب عليها أن تطيعه؟ طبعاً لا يجب عليها أن تطيعه؛ لأن البناء له وقت يشهر فيه الزواج، وعلى هذا سار أصحاب رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، ثم إنه أدفع لشبهات قد ترد، وأدفع لمشاكل قد ترد، وقد مثلنا بنماذج متعددة: رجل دخل بامرأة وقال: أنا ما دخلت بها، إذا إرخيت الستور وجب الصداق كاملاً كما قضى به أمير المؤمنين عمر إذ هو مظنة البناء، فنقول لها: إذا كانت في بيت أبيها فلا يلزمها أن تستأذن الزوج كلما أرادت أن تخرج أو تدخل؛ لأن الرسول قال: (الرجل راعٍ في بيته ومسئول عن رعيته) فما دامت البنت عند أبيها لم يدخل بها الزوج فهي مسئولة من أبيها، كذلك -نحن لم نقل إنها ليست زوجة، هي زوجة لكن تحت مسئولية أبيها ما دامت لم يبن بها- الرسول ظل عاقداً على عائشة ثلاث سنوات، لم يرد أن عائشة إذا أرادت أن تخرج ذهبت إلى الرسول وقالت: أنا أريد أن أذهب إلى مكان كذا يا رسول الله! ولم يرد أن الرسول جامعها قبل البناء المشهر المعلوم لدى عموم المسلمين، لأن بعض الأخوات يفتين فتاوى خاطئة في هذا الباب وللأسف، ثم إنهن ندمن على هذه الفتوى، واحدة تدرس الأخوات وبعدها جاءتها واحدة وقالت لها: أنا معقود علي والزوج يأتي عندنا ويريد مني الجماع فهل أمكنه؟ قالت لها: طبعاً مكنيه؛ لأن الرسول قال: (أيما رجل دعا امرأته إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح) حملت الأخت في بيت أبيها، فلما حملت بدأت تستتر، لكن نفس الحديث إذا أمعنت النظر فيه: (أيما رجل دعا امرأته إلى فراشه) فراشه أين؟ في بيت الزوجية، والله سبحانه وتعالى أعلم.(87/33)
حكم من هجر قريبته لارتكابها نوعاً من أنواع الشرك
السؤال
لي خالة تؤمن بالجبت والطاغوت وتذهب إلى الكنيسة للعلاج من الجن، ووعظتها فلم تستجب، فنهرتها وتبرأت منها وهجرتها، والآن أخاف خوفاً شديداً من قطيعة الرحم؟
الجواب
إذا كان عملك لله فلا تندم، لكن صلها واستمر في النصح بأدب {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] ، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن آل فلان ليسوا بأوليائي لكن لهم رحم سأبلها ببلالها) فأنت استمر في النصح لها برفق ولين ولا تقطع الصلة.(87/34)
ما الحكم في رجل تقدم لخطبة امرأة ووالده يعمل مدير بنك
السؤال
تقدم شاب للزواج بي، إلا أن والده مدير بنك فما الحكم؟
الجواب
النظر هو إلى الشاب نفسه هل هو ذو دين وماله من حلال، إذا كان كذلك فليُقبل، وإذا كان ليس بذي دين وماله من حرام فيُرفض.
إلى هنا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(87/35)
تفسير سورة الانشقاق
أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة عن أحداث وأهوال عظام تحصل يوم القيامة، كانشقاق السماء واستماعها إلى ربها، وتمدد الأرض وإلقاء ما فيها.
وأخبر سبحانه أن الإنسان في هذه الحياة كادح ثم هو ملاق عمله، وأن من أشد الأهوال التي يمر بها الإنسان يوم القيامة عندما يدعى لأخذ كتابه، فهل سيأخذ كتابه بيمينه فيسعد سعادة ما بعدها شقاوة، أم سيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره فيصلى نار جهنم والعياذ بالله؟! ولهذا استنكر سبحانه وتعالى على المعرضين تكذيبهم وعدم إيمانهم، وأخبر أنه يعلم بما يعملون، وتوعدهم بالعذاب الأليم.(88/1)
تفسير قوله تعالى: (إذا السماء انشقت.
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:1-2] .
قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} {انشَقَّتْ} معناها: تصدعت وتشققت.
لماذا تتصدع وتتشقق؟ قد أسلفنا الإجابة على هذا: أنها تتشقق كي تنزل منها الملائكة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أي: عن الغمام، {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:25-26] ، فتتشقق السماء كي تنزل منها الملائكة.
{إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ} [الانشقاق:1-2] معنى (أذنت) : استمعت، أما الدليل على أن المراد بها استمعت فقوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61] أي: يقولون: هو سمّاع.
أي: أننا نشتمه وإذا جئنا واعتذرنا إليه بأي عذر قبله فهو رجل سمّاع لكل ما يقال له.
الشاهد: أن قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61] أي: سمّاع.
الشاهد الثاني: من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به) ، أي: ما استمع الله لشيء استماعه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به.
ومن لغة العرب قول القائل: صم إذا سمعوا خيراًَ ذكرت به فإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (أذنوا) أي: استمعوا.
فدلت هذه الأدلة من الكتاب والسنة ولغة العرب على أن المراد بالأذن في قوله تعالى: (أَذِنَتْ) أي: استمعت.
ما معنى استمعت؟! وهل السماء تفهم وتستمع؟! الإجابة: نعم.
فالسماء استمعت لأمر الله سبحانه وتعالى، ولها فهم، لكن كيفيته يعلمها الله، والدليل على ذلك: قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب:72] ، فالسماوات والأرض والجبال أبين أن يحملن الأمانة، فدل ذلك على أن لهن فهم يعلمه الله، فمن ثم رفض قبول الأمانة وحملها {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] .
ودليل آخر على أن للسماء فهم يعلمه الله: قوله سبحانه وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان:29] ، فدل ذلك على أن السماء لها بكاء.
أي: تبكي على أهل الصلاح الذين كانت ترفع أعمالهم الصالحة من أبواب السماء فإذا ماتوا انقطعت الأعمال الصالحة فبكت عليهم السماء، أما أهل الفجور والعصيان فلا تبكي عليهم السماء، كما قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} ، وكذلك الأرض في نفس المعنى.
يقول الله سبحانه وتعالى: ((وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا)) أي: استمعت السماء لقول ربها ولأمر.
((وَحُقَّتْ)) أي: حقق الله عليها الاستماع، حق عليها أن تستمع لله، وهناك قول آخر، أي: وجدير بها أن تستمع لأمر الله سبحانه وتعالى.
ومن العلماء من قال: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي: سمعت لربها وأطاعت.
{وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق:3] أي: بسطت وزيد في مساحتها وطولها، فبعد أن كان يعتريها الأمت والجبال فيوم القيامة تزول الجبال وتفرض الأرض فلا يصبح فيها أمت -أي: لا يصبح فيها عوج- كما قال تعالى: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:107] ، فتمد الأرض وتبسط فيزاد في مساحتها، وعلى رأي القائلين بأن الأرض كروية فإن معنى مدها: بسطها وفردها، قال سبحانه في الآية الأخرى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] ، فهي أرض أخرى أو هي نفس الأرض لكن يعتريها أشياء فتصبح كأنها أرض أخرى، والقولان لأهل العلم لكن الظاهر أنها أرض أخرى.(88/2)
تفسير قوله تعالى: وإذا الأرض مدت.)
قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} فإذا مدت -كما أسلفنا القول- أو فردت فما بداخلها وما بثناياها يطلع ويخرج على وجهها، كالشيء المنثني إذا فردته خرج ما بداخله ما بين الكسرات، وهكذا الأرض بداخلها أشياء أطبقت عليها فإذا فردت خرج ما بداخلها من أشياء.
ومن ثم قال تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:4] .
((وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا)) أي ما بداخلها.
وما هو الذي بداخلها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تقيء الأرض -تقيء من قاء يقيء- أفلاذ كبدها كأمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيأتي القاطع ويقول: -وهو ينظر إلى الذهب والفضة الذي ألقته الأرض على وجهها- في هذا قطعت رحمي، ويأتي القاتل ويقول: في هذا قتلت، ويأتي السارق ويقول: في هذا قطعت يدي) أي: في هذه الأشياء التي لا قيمة لها وأصبح لا وزن لها فالقاتل يستحقر نفسه كيف أنه قتل أخاه المسلم من أجل هذا الذهب الذي ألقته الأرض ولفظته، وهذا على قول من قال: إن قوله تعالى: ((وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا)) أي: ما بداخلها من كنوز ومن معادن من ذهب وفضة وعلى القول الآخر: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:4] أي: ألقت ما فيها من الأموات الذين كانوا بداخلها، كما قال الله سبحانه: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:44] ، وكما قال سبحانه: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:4] أي: أثيرت واستخرج ما بداخلها.
إذاً: القول الأول: أن (ألقت ما فيها) ، أي: ما بداخلها من كنوز، على ما ورد في حديث النبي عليه الصلاة والسلام، والقول الثاني: (ألقت ما فيها) أي: من الأموات، كما قال سبحانه: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} فبعد أن كانت لهم كفاتاً أحياءً يمشون عليها وأمواتاً يدخلون في بطنها، يوم القيامة تلفظ كل من في بطنها وتتخلى عن المسئولية.
(ألقت ما فيها وتخلت) أي: قائلة: يا رب! هذه المسئولية التي حملتني إياها فهؤلاء عبيدك الذين دفنوا في بطني هاهم بين يديك وهذه المعادن التي أودعتها فيّ هاهي بين يديك، وتفرغ تماماً وتتخلى عن كل مسئولية قد حملتها هذه الأرض.
{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:4-5] استمعت ما يملى عليها وتؤمر به من الله سبحانه وتعالى.(88/3)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح.)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ} [الانشقاق:6] والخطاب لعموم الإنسان المؤمن والكافر.
{إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} [الانشقاق:6] (كادحٌ) .
أي: عامل، و (كدحاً) عملاً، فالمعنى: يا أيها الإنسان المؤمن! يا أيها الإنسان الكافر! يا أيها الإنسان العاصي! فهو لفظ عام {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} [الانشقاق:6] أي: عاملٌ إلى ربك عملاً {فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] فملاقٍ عملك يوم القيامة وإنك ساعٍ إلى ربك سعياً فملاقٍ سعيك، وكل أعمالك التي تعملها الآن ستلقاها يوم القيامة.
وقد تواردت بذلك الآيات في كتاب الله والأحاديث في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] وكما قال عز وجل: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19] فإذا كان الشخص لابد أن يلقى عمله يوم القيامة فيجدر به أن يحسن العمل الذي سيقابله يوم القيامة.
(يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) : هل ملاقٍ كدحك أو ملاقٍ ربك؟ الأقرب في هذه الآية أنه ملاق لكدحه وإن كان سيلاقي ربه أيضاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم ملاقوا ربكم) والأحاديث ثابتة بذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.(88/4)
تفسير قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه بيمينه.)
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الانشقاق:7] * {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] في الآية فضل اليد اليمنى في الآخرة وتلقي الكتب بها، وأما فضلها في الدنيا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعطي أحدكم إلا بيمينه ولا يأخذ إلا بيمينه) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يمسّن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها) ، فاليد اليمنى مفضلة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأيمنون الأيمنون) فكل ما هو على اليمين له فضل، وقد شرب النبي صلى الله عليه وسلم ماءً ثم ناول فضله من عن يمينه، وكان يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله.
قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الانشقاق:7] المراد بالكتاب الكتاب الذي أثبتت فيه أعمال العبد.
{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب) أو (من حوسب عذب) ، وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! أوليس يقول الله سبحانه وتعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك العرض) أي: المراد بالحساب اليسير في هذه الآية العرض، وأما المراد بالعرض في هذا الحديث فمن العلماء من قال: عرض أعمال العبد على العبد نفسه، ومنهم من قال: عرض العبد على الله، والصواب من القول هو ما أيده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المراد بالعرض عرض أعمال العبد بين يديه أمام ربه سبحانه وتعالى، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل يدني المؤمن يوم القيامة ويضع عليه كنفه ويستره عن الناس ويقرره بذنوبه، عملت يوم كذا وكذا، وعملت كذا وكذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب! نعم يا رب! حتى يظن العبد أنه هلك، فيقول الله سبحانه وتعالى: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) ومن العلماء من جنح إلى تفسير العرض بالعرض على النار والمرور عليها والورود والله سبحانه أعلم.
إذاً: المراد بالحساب اليسير هنا على ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم: عرض أعمال العبد عليه بين يدي ربه سبحانه وتعالى.(88/5)
تفسير قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره.)
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق:10] إن قال قائل: في هذه الآية أن كتاب بعض الناس يؤتى من وراء الظهر وآيات أخرى فيها أن الكتاب يؤتى بالشمال فكيف يجمع بين الآيات التي فيها أن الكتاب يؤتى بالشمال كما قال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة:25] وغيرها من الآيات التي فيها أن الكتاب يؤتى من وراء الظهر كهذه الآية؟ أجاب عددٌ من العلماء: بأنه لا يمتنع أن يؤتى العبد كتابه بشماله وراء ظهره.
أي: يأخذه بيده اليسرى من خلف ظهره، قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} [الانشقاق:10] أي: كتاب أعماله ((وَرَاءَ ظَهْرِهِ)) أي: بشماله ويده الشمال موضوعة خلف ظهره ويتناول كتابه على هذا الوجه.
{فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق:11] (ثبوراً) .
هلاكاً فيدعو على نفسه بالهلاك، كما قال تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] وهذا الموقف من المواقف التي هي في غاية الحرج والرعب يوم القيامة، فمواقف يوم القيامة كلها أهوال إلا على من خفف الله عنه، ومن أشد هذه الأهوال: وقت تلقي الكتب وتطاير الصحف، وعرض الأعمال على الموازين، والمرور على الصراط، فدعوى المرسلين على جنبتي الصراط: (رب سلم سلم) فهذه كلها مواقف يواجهها العبد يوم القيامة فيأتي وقت استلام الكتاب والله أعلم هل يناول الكتاب باليد اليمنى ويمد يمينه لتلقي كتابه أو يتناوله باليد اليسرى من وراء الظهر؟ وهل يمر على الصراط كالبرق أو يتعثر على الصراط أو يسقط؟ هل ترجح كفة حسناته أم تطيش؟ كلها أهوال، والمعافى من عافاه الله، قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق:10-11] يدعو على نفسه بالهلاك؛ ولكن كما قال تعالى: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا} [الفرقان:14] أي: هلاكاً واحداً {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:14] أي: لا تقولوا: يا رب الهلاك مرة ولكن قولوها مرات.
{فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} أي: يقول: واثبوراه {وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:12] أي: يدخل السعير مصلياً بحرها {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:13] أي: كان في الدنيا مسروراً لا يخاف الآخرة ولا يرجو لها حساباً {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:14] (يحور) يرجع.
والمعنى: يرجع حياً بعد موته {بَلَى} [الانشقاق:15] بلى ليحور، أي: بلى ليرجعن {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق:15] .(88/6)
تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق.)
قال الله: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق:16] أي: فلا يظن هذا الظن السيئ: أنه لا بعث {فَلا} أكد هذا النفي قوله تعالى: {أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق:16] .
أي: أقسم أن البعث آتٍ بالشفق وأقسم على بطلان ظنه أنه لا بعث بالشفق، والمراد بالشفق شفقان شفق أحمر وشفق أبيض، والشفق هو الحمرة التي تكون في اتجاه غروب الشمس مستعرضة في السماء وهي التي بها يدخل وقت العشاء، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وقت العشاء ما لم يغب الشفق) فالمراد بالشفق هنا الشفق الأحمر، أما الشفق الأبيض فقد يمتد إلى منتصف الليل أو إلى قريب الفجر، فالشفق المعول عليه في الحديث في انتهاء وقت المغرب هو الإحمرار الذي يكون في اتجاه غروب الشمس وإذا اختفى هذا الإحمرار دخل وقت صلاة العشاء، فرب العزة يقسم بهذا الشفق فيقول سبحانه: ((فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ)) وقوله: {فَلا} نفيٌ للظن الذي تقدم ثم أكد هذا النفي بقوله تعالى: {أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق:16-17] .
((وَسَقَ)) معناها: جمع وحوى ولف وضم.
أي: والليل وما جمع.
والليل يجمع أشياء، فالليل فيه تنتشر الشياطين وفيه تنزل الثريا، وفيه تخرج السباع والهوام من أماكنها وتنتشر الحشرات، وينتشر أهل الشر والفساد يسطون على العباد، وتحاك المؤامرات في الليل، فلهذا أستعيذ بالله منه في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] إلى قوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] ، وهو الليل إذا دخل وهو القمر أيضاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} دل على أن الليل يجمع أشياء، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (فأوكئوا القرب واذكروا اسم الله، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، وخمروا الآنية واذكروا اسم الله، وأطفئوا المصابيح واذكروا اسم الله) .
{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي: وما جمع وحوى.
{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق:18] أي: اكتمل واستوى، وهذا حينما يكون مكتملاً وذلك ليلة الرابع عشر، فيكون القمر متسعاً ومتسقاً، فقوله: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي: إذا اكتمل، فإن للقمر منازل، كما قال سبحانه: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] فيتسق القمر في ليلة الرابع عشر والخامس عشر.
{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} من العلماء من قال: إن هذا القسم مردود على ما سبق ونفي الظن أنه لا بعث، ومنهم من قال: إنه قسم مبتدأ لما سيأتي {أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق:16-18] على ماذا هذه الأيمان؟ على الآتي ألا وهو {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] فالمعنى: أقسم بالشفق، وبالليل وما وسق، والقمر إذا اتسق {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أي: أنكم سوف تركبون طبقاً عن طبق.
وفي قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قراءتان: القراءة الأولى: ((لَتَرْكَََبَنَّ)) بالفتح، والقراءة الثانية: ((لَتَرْكَبُنَّ)) بالضم، وقول من قال: ((لَتَرْكَََبَنَّ)) قال فريق من العلماء: إن المخاطب بهذه الآية هو النبي عليه الصلاة والسلام، فالمعنى لتركبن يا محمد حالاً بعد حال، ولتتغيرن بك الأمور حالاً بعد حال، وللعلماء في هذه -الحال بعد الحال- جملة أقوال: القول الأول: لتركبن يا محمد سماءً بعد سماء -وهذا في المعراج- وتنتقل من سماء، إلى سماء واستدل لهذا القول بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح:15] فسماء بعد سماء.
يعني: طبقاً عن طبق.
القول الثاني: {لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] يا محمد! لتتغيرن أحوالك من حالٍ إلى حال فأنت في حالٍ مستضعف، وفي حالٍ قوي، في حال فقير، وفي حال غني، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6-8] فتغيرت أحوالك يا محمد.
والقول الثالث: {لَتَرْكَََبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:10] ، أي: لتعلون منزلة بعد منزلة وشرفاً بعد شرف وقربة إلى الله سبحانه وتعالى بعد قربة، هذا إذا كان المراد في قوله: ((لَتَرْكَبُنَّ)) محمداً عليه الصلاة والسلام، وهو قول تقلده كثيرٌ من المفسرين.
القول الثاني: أن المراد بقوله: (لَتَرْكَََبَنَّ) أي: السماء.
أي: لتتغيرن أحوال السماء حالاً بعد حال، فمرة تكون السماء كالمهل، ومرة تنشق، ومرة تنفطر، ومرة تصبح السماء وردة كالدهان، فتتغير أحوال السماء من حالٍ إلى حال، ومن لونٍ إلى لون آخر، هذا على تأويل: (لَتَرْكَََبَنَّ) لأن الكلام فيه يعود على السماء، وأنها تتغير أحوالها لما يعتريها من أمر ربها سبحانه وتعالى.
القراءة الثانية: (لَتَرْكَبُنَّ) بضم الباء والمراد بها: الناس أو الإنسان، والمراد بالأحوال أو بالأطباق التي يركبها الناس ((طبقاً عن طبق)) جملة أقوال أحد هذه الأقوال: أن طبقاً عن طبق: حالاً بعد حال، في بطن أمك نطفة، ثم بعد أن تكون نطفة تكون علقة، ثم تكون بعد ذلك مضغة، ثم بعد المضغة تخرج من بطن أمك، ثم تكون طفلاً، ثم تقوى، ثم بعد القوة يحصل لك الضعف والشيب، كما قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54] .
فقوله تعالى: ((طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)) أي: حالاً بعد حال، من النطفة، إلى العلقة، إلى المضغة، إلى الطفل، إلى الشباب، إلى الشيخوخة، إلى الموت.
القول الثاني: في {طَبَقاً عَنْ طَبَق} حالاً بعد حال؛ لكن المراد به: تعتريك أيها الإنسان أحوال، فيعتريك الموت، ثم بعد الموت البعث، والمرور على الصراط، والميزان، وتلقي الكتاب، والجنة أو النار، فكلها أحوالٌ تعتري الإنسان، وكلها أطباق تعتري الإنسان.
والقول الثالث: أن {لَتَرْكَََبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أيها الإنسان! إنك ستتغير أحوالك، من صحة إلى ضعف، ومن ضعف إلى مرض، أو من مرض إلى صحة، ومن صحة إلى مرض، ومن غنى إلى فقرٍ، ومن فقرٍ إلى غنى، ومن رفعة إلى ضعة وذلة، ومن ضعة وذلة إلى رفعة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] .
هذه بعض الأقوال في تفسير قوله تعالى: {لَتَرْكَََبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:10] .
والحاصل: أن أحوال الإنسان لا تثبت على شيء واحدٍ أبداً، فإنك الآن في حياة وسيأتيك الموت لا محالة، وبعد الموت البعث، وأنت الآن قوي وغداً ستضعف ولابد، وأنت الآن غني وقد تتقلب بك الأحوال، وهكذا فالشاهد أن قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أي: لتتغيرن أحوالكم أو أحوالك يا محمد حالاً بعد حال أياً كان هذا الحال.
إذاً: المعنى: أن حال الإنسان لا يثبت على وضع واحد، فجدير بالإنسان إذا كان هذا شأنه، أن يكون شاكراً في السراء، صابراً على البلاء في الضراء.(88/7)
تفسير قوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنون.)
قال الله: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق:20] أي: ما لهم لا يؤمنون وهذه أحوالهم؟! وهذا استفهام المراد منه التوبيخ لهؤلاء المعرضين عن طريق الله سبحانه وتعالى.
{فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} إذا كنت أيها الشاب لابد وأن تمر بك حالة تضعف فيها وتمرض فلم لا تؤمن {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي: لا يصدقون، {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:21] سجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية.
قال أبو رافع رضي الله عنه: (صليت خلف أبي هريرة رضي الله عنه صلاة العشاء فقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} فسجد فيها، فقلت له في ذلك، قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فجهر بها فسجد فيها فلم أزل أسجد حتى ألقاه عليه الصلاة والسلام) فسجود التلاوة مشروع عند هذه الآية، والأحاديث التي صحت في سجود النبي صلى الله عليه وسلم سجود التلاوة في أربعة مواقف: سجد النبي سجود التلاوة في النجم، وفي العلق، وفي الانشقاق، وفي (ص) .
قال سعيد بن جبير: (سألت ابن عباس عن سجدة (ص) فقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام:84] الآيات إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] فأمر نبيكم عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بهم، وممن أمر نبيكم أن يقتدي به داود صلى الله عليه وسلم فسجدها داود -أي: أن داود سجد في قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24]- فسجدها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وما سوى هذه السجدات ففيها آثار موقوفة وبعض دعاوى الإجماع، أما سجدة (الم تنزيل) فقد قال عنها أمير المؤمنين علي: إنها من عزائم السجود، وكذلك القول في سجدة فصلت، أما سجدات الحجر والنحل والرعد والأعراف وغير ذلك من السجدات، فالوارد فيها آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسجود التلاوة لا يشترط فيه الوضوء على الصحيح، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما قرأ آية النجم فسجد فيها سجد من معه من المسلمين والمشركين ويُبعد أن يكون كلهم على وضوء.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق:21-22] من العلماء من قال: (بل) بمعنى (لكن) فهذا عند بعض العلماء {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق:21-23] (يوعون) معناها: يكتمون ويسرون، وهي من الوعاء.
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق:24] فيه دليل على أن البشارة لا تكون في كل الأحوال بالخير، وقد تقدم الكلام على ذلك، فإن البشارة إذا أطلقت فهي بشارة بالخير وهذا إذا لم تكن مقيدة، لكن إذا قيدت قد تكون بالخير أو بالشر على حسب الوارد فيها، فقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17-18] بشرهم بالجنان، وقوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64] وبشرهم بالجنان أيضاً، أو كما قال الرسول: (هي الرؤيا الصالحة يراها العبد المؤمن أو ترى له) ، لكن قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قيدت البشارة بالعذاب الأليم، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وحيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار) .
قال الله سبحانه: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الانشقاق:24-25] (إلا) بمعنى: (لكن) .
{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:25] أي: غير مقطوع، والله أعلم.
وقد فاتنا في تفسير هذه السورة شيئين فلزم الرجوع إليهما: الشيء الأول: قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1] أين جوابه؟ أم {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1] ماذا سيحدث؟ من العلماء من قال: إن جوابه هو قوله: ((إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)) ، فالمعنى: يا عبد الله! إنك ستلاقي كدحك.
الوجه الثاني: أن الجواب محذوف، {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} هنالك تعلم كل نفس ما قدمت وما أخرت.
الشيء الثاني: قوله تعالى في شأن المؤمن: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:9] ، من المراد بالأهل الذين ينقلب إليهم -أي: يرجع إليهم- المؤمن يوم القيامة مسروراً؟ من أهل العلم من قال: إن المراد بالأهل هنا: الحور العين اللواتي أعدهن الله سبحانه وتعالى للمؤمن، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً للمؤمن فيها أهلون لا يراهم الآخرون) .
إذاً: من العلماء من قال إن قوله تعالى: ((وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ)) أي: من حور العين اللواتي أعدهن الله سبحانه وتعالى للمؤمن.
القول الثاني: أن قوله: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:9] ، أي: إلى ذويه من أهل الصلاح الذين سبقوه في الجنان، فأنتم تعرفون أن دخول الجنة على مراحل، فهناك قوم يسبقون إلى الجنان، وقوم يتأخرون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام) ، وكما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10-11] ، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة) ، فدل ذلك على أن دخول الجنان على مراحل.
فقوله: ((ويَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ)) أي: إلى أهله الذين سبقوه من أهل الصلاح إلى الجنان، وينقلب أيضاً إلى ذويه.
وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى.
والسلام عليكم ورحمة الله.(88/8)
الأسئلة(88/9)
المهدي بين الحقيقة والخيال
السؤال
هل المهدي حقيقة أم خيال؟
الجواب
المهدي توسع فيه المتوسعون، ونفاه أيضاً آخرون، والتوسط فيه: ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل الوارد فيه أحاديث محصورة محدودة جداً: منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يخرج رجلاً يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه يواطئ اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً) ، وهذا الحديث ليس فيه ذكر اسم المهدي.
والحديث الثاني في صحيح مسلم: (كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم) ففي الحديث أن إمامنا يأتي يقدم عيسى عليه الصلاة والسلام للصلاة بالناس فيقول عيسى: لا، بعضكم على بعض أئمة، كرامة من الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة.
وحديث ثالث في نفس المعنى.
فهذا الذي يحضرني في شأن المهدي.
وقد زاد ناس جملة أحاديث أخر في غاية الكثرة في شأن المهدي ولم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخرون نفوا كل الأحاديث متبعين الظن وتاركي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والصواب التوسط فيه والوقوف مع الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: جاءت أوصاف في شأن المهدي (أنه أقنى الأنف، وأجلى الجبهة) لكن هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر الأوصاف التي وردت فيه لا تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد حديث آخر: (إذا رأيتم الرايات السود مقبلة من قبل خراسان، فاعلموا أن فيها خليفة الله المهدي) الحديث من ناحية الإسناد، إسناده ثابت، لكن بعض أهل العلم يرى أن به بعض العلل، وقد نفاه بعض (الدكاترة) في الجامعات، وفي الحقيقة أن (دكاترة) الجامعات مشاربهم في أكثر أحوالها من المعتزلة، فهم يشربون من شراب المعتزلة الفكري والعقلي، ويتركون في أكثر أحوالهم وأحيانهم سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(88/10)
الإحرام من الميقات لمن نوى الحج أو العمرة
السؤال
شخص يذهب لأداء العمرة إن شاء الله؛ ولكنه سيبيت ليلة أو ليلتين في جدة فهل إحرامه يكون من جدة أو من رابغ؟
الجواب
إحرامه يكون من رابغ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في شأن المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة) فإذا خرجت تريد الحج أو العمرة فأحرم من الميقات الذي تمر به، أما إذا كنت خارجاً لشغل والعمرة أو الحج عرضاً في رحلتك فإذا نويت العمرة من أي مكان فأحرم، لكن لو كنت خارجاً بقصد العمرة، فأحرم من الميقات ولا بأس أن تبيت ليلة أو ليلتين في جدة في إحرامك.(88/11)
حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وحكم إعطاء الزوج منها
السؤال
أقوم بتحفيظ بعض الأولاد القرآن الكريم في بيتي.
فهل يجوز أن آخذ على ذلك أجراً؟ وهل لزوجي حق في هذا المال؟
الجواب
نعم يجوز أن تأخذ على ذلك أجراً، وهو رأي الجمهور لحديث: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) والأحاديث التي تقاومه إما ضعيفة، كحديث: (علمت رجلاً القرآن، فأهدى به قوساً) فالراجح أنه ضعيف.
إذاً: الأحاديث التي تقاوم حديث جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن إما ضعيفة وإما موجهة.
وإذا كانت السائلة امرأة فالأجرة لها، إلا إذا منعها الزوج من التدريس وبشرط عليها، فله ولها الشرط الذي اتفقا عليه.(88/12)
حكم تغسيل المرأة لزوجها والصلاة عليه
السؤال
هل للمرأة أن تصلي على زوجها بعد موته وتغسله؟
الجواب
نعم.
لها أن تصلي عليه بعد موته وأن تغسله، أما الصلاة عليه فلأن سعد بن أبي وقاص لما مات أرادت أم المؤمنين عائشة أن يصلى عليه في المسجد حتى تصلي عليه من غرفتها، فكأن الناس أنكروا ذلك، فقالت: سبحان الله!! ما أسرع ما نسي الناس، وهل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهل بن بيضاء إلا في المسجد) .
أما تغسيل زوجها فلقول أم المؤمنين عائشة: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) .(88/13)
حكم تأخير قضاء رمضان للحامل إلى بعد رمضان الثاني
السؤال
عليّ أيام من رمضان الماضي والآن حامل، وأجد مشقة في تحمل الجهد، فهل لي أن أرجئه إلى ما بعد الولادة؟
الجواب
نعم.
لكي أن ترجئي صيام الأيام إلى ما بعد الولادة، والصحيح أنه ليس عليكِ كفارة أيضاً.(88/14)
أفضلية ميامن الصفوف
السؤال
هل يمين الصف الأول في الصلاة أفضل من يسار الصف الأول؟
الجواب
بالنسبة لصفوف الصلاة، فقد ورد حديث يفضل اليمين على اليسار وهو حديث: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) لكن هذا اللفظ معلول، والصحيح عند العلماء بلفظ: (إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف) ولفظ (ميامن الصفوف) بعيد، فعلى ذلك يستوي الأمر في شأن الصلاة؛ لكن إذا كان الشخص فرداً واحداً فالرسول حوّل ابن عباس من على يساره فجعله عن يمينه، لكن إذا كانوا اثنين أو ثلاثة فالأمر واسع.(88/15)
صلاة الطفل يمين الإمام
السؤال
هل يصف الولد بجانب أمه إذا كان أبوه إماماً؟
الجواب
لا.
الولد يتقدم عن يمين أبيه والأم تتأخر، لحديث أنس: (صليت عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم والعجوز خلفنا) .(88/16)
المراد بالحمو
السؤال
هل أبو الرجل يكون حمواً؟
الجواب
من ناحية الاسم، أو التعريف اللغوي: الأحماء هم أقارب الزوج، لكن ليس هو الحمو المراد في حديث: (أرأيت الحمو؟) فإن الحمو في حديث: (أرأيت الحمو؟) هو أخو الزوج أو قريب الزوج الذي ليس محرماً لزوجة الابن.(88/17)
حكم الحج مع معارضة الوالد
السؤال
من حج أو أراد أن يحج مع معارضة أبيه؟
الجواب
ينظر إلى سبب معارضة أبيه، إن كان أبوه يعارضه على أصل الحج ويقول له: لا تحج أصلاً، فلا يطاع الأب، لكن إذا قال له الوالد: أنا لا أمنعك من الحج؛ لكن هذا العام صحتي لا تسمح أن أترك وحدي مثلاً فأخشى على نفسي الموت، أو أي سبب، فحينئذٍ يطاع الوالد إذا أخره عاماً لعلته -والله أعلم- وهذا مبني على الخلاف حول الحج على الفور أو على التراخي، أي: بمجرد ما تستطيع الحج: هل تحج فوراً أو يجوز لك أن تُؤخر الحج شيئاً ما؟! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(88/18)
تفسير سورة البروج
ذكر الله سبحانه قصة الذين حفروا للمؤمنين الأخاديد، وأضرموا فيها النيران، ثم ألقوا من يثبت على دينه فيها، مبيناً أن سبب النقمة من الكفار على المسلمين في كل عصر وحين هو إيمانهم بالله العزيز الحميد.(89/1)
تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات البروج.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الله.
وبعد: قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1] يقسم الله سبحانه وتعالى بالسماء ذات البروج.
أي: التي لها بروج، و (البروج) من العلماء من قال: إنها الكواكب والنجوم، وشاهد ذلك من التنزيل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر:16] ، فمن العلماء من قال: البروج: النجوم الكبار أو الكواكب.
ومنهم من قال: (البروج) : مطالع الشمس والقمر.
قال تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج:2] .
اليوم الموعود على رأي جمهور المفسرين هو يوم القيامة.(89/2)
بيان جواب القسم في قوله تعالى: (والسماء ذات البروج)
من العلماء من قال: جواب القسم هو قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] وكلمة (قُتِلَ) في كتاب الله في عموم الآيات إلا شيء مستثنى بدليل كلمة ((قُتِلَ)) معناها: لعن، {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] ، {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] ، {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] إلى غير ذلك، فمن العلماء من قال: إن جواب القسم في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، هو قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} أي: أن الله يقسم أن أصحاب الأخدود ملعونون.
ومن العلماء من قال: إن جواب القسم متأخر شيئاً ما، وهو {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] أي: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} ، وثم أقوال أخر.(89/3)
تفسير قوله تعالى: (وشاهد ومشهود)
قال تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3] ، أما (الشاهد) له معنيان: الأول: قد يطلق على الحاضر.
الثاني: يطلق على الناظر أو الرائي.
تقول مثلاً: شهدت موسم الحج، أي: حضرت موسم الحج.
فمن معاني الشهادة: الحضور، ومن معانيها: الرؤية، شهدت كذا وكذا، أي: رأيت كذا وكذا.
فمن العلماء من قال: المراد بـ (الشاهد) : الحاضر، فأقسم الله بالشاهد.
ما هو الشاهد على تأويل الشاهد بالحاضر؟ للعلماء في ذلك أقوال: أحدها: أن (الشاهد) : كل الخلائق، والمشهود: يوم القيامة، فالمعنى على هذا التأويل: أن الله يقسم بالناس أو بالخلائق التي ستشهد موقف الحساب، (فالشاهد) أي: الحاضر وهم الخلائق، و (المشهود) : هو يوم القيامة.
القول الثاني: أن (الشاهد) : هم الذين يصلون الجمع، يعني: هم الحضور الذين يحضرون صلاة الجمع، و (المشهود) : هو يوم الجمعة.
الثالث: أن (الشاهد) : هم الحجيج الذين يشهدون عرفات، فـ (المشهود) : هو عرفات.
الرابع: أن (الشاهد) : هم الحجيج، والمشهود: يوم النحر.
هذه بعض الأقوال في تفسير (الشاهد) بمعنى: الحاضر.
والقول الثاني في تفسير (الشاهد) : بمعنى: الرائي والناظر، أو بمعنى أوسع شيئاً ما: (الشاهد) : الذي تقوم به الشهادة، وتثبت به الدعاوى، فمن العلماء من قال: إن (الشاهد) أي: الشاهد على الخلائق والذي تقوم به الدعاوى، فـ (الشاهد) هو الله، و (المشهود) : هو التوحيد، واستدل لهذا القول بقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19] .
والقول الثاني: أن الشاهد: هو محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: الخلائق أيضاً مشهود عليهم، والذي يشهد للقول الثاني قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] .
الثالث: أن (الشاهد) : هم الأنبياء عموماً، والمشهود عليهم: أممهم.
الرابع: أن (الشاهد) : أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتشهد على سائر الأمم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في الأرض) ، أو (يدعى نوح يوم القيامة، فيقال: يا نوح! هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقول قومه: ما جاءنا من نذير، فيقال لنوح: من يشهد لك يا نوح؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته) .
هذه بعض الأقوال في تفسير (الشاهد) و (المشهود) ، واختار قوم من أهل العلم العموم، فقالوا: كل ما يصلح أن يطلق عليه شاهد فهو شاهد، وكل ما يصلح أن يطلق عليه مشهود فهو مشهود، وهذا اختيار ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، فعلى ذلك: يدخل في لفظ (الشاهد) الحجيج الذين يشهدون الحج، والمصلون الذين يشهدون الجمع، والمصلون الذين يشهدون الأعياد، ويدخل في لفظ (الشاهد) الشاهد الذي تثبت به الدعاوى، وعموم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا المسلك يسلكه ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في مواطن متعددة، فتجده دائماً يجنح إلى القول بالعموم، كما تقدم في تفسير قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1] ، فللعلماء في تفسير: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1] أقوال: منها: أنها الملائكة، ومنها: أنها البقر الوحشي، ومنها: أنها القسي التي تنزع منها السهام إلى غير ذلك من الأقوال، فكان ابن جرير الطبري دائماً يجنح إلى اختيار القول العام الذي تندرج تحته كل هذه الأقوال.
فقوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3] : أقسم الله سبحانه وتعالى بثلاثة أشياء: بالسماء ذات البروج، وباليوم الموعود، وبالشاهد والمشهود، وإذا أقسم الله سبحانه وتعالى بشيء دل هذا القسم على أهمية، المقسم به، فاليوم الموعود له أهمية وصلوات الجمعة والأعياد والحج لها أهمية، وكذلك كل ما ذكر تحت قول {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3] فله أهمية، فلا تجد في كتاب الله أن الله يقسم بشيء حقير، إنما يقسم بالسماء والطارق، ويقسم بالشمس وضحاها، ويقسم بالليل إذا يغشى، وبالضحى.
إلى غير ذلك.(89/4)
تفسير قوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود.)
قال الله سبحانه: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] (قُتِلَ) أي: لعن.
(أَصْحَابُ الأُخْدُودِ) : أطلق عليهم أصحاب الأخدود؛ لأنهم هم الذين حفروه، فهم القتلة الظلمة، وليس المقصود: المقتولين، فـ {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} ، لعن الذين خدوا الأخدود.
و (الأخدود) : شق في الأرض، فلعن الله سبحانه وتعالى من شق هذه الشقوق في الأرض، وأضرم فيها النيران، وألقى فيها المؤمنين.
قال تعالى: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:5] لماذا وصفت النار بأنها ذات الوقود؟ من العلماء بل جمهورهم من قال: وصفت النار بذات الوقود؛ لبيان عظمها وشدة هولها، فكانوا قد أججوا حطباً وأوقدوا نيراناً عظيمة، فوصفت بأنها ذات الوقود لهذا.
قال تعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج:6] يعني: الذين خدوا الأخاديد جلسوا بجوارها، فليس معنى (عَلَيْهَا) فوقها، وقد قدمنا أن حروف الجر في الكتاب العزيز تتناوب: (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا) ، أي: على جوانبها.
(قُعُودٌ) ، أي: حضور يشاهدون أهل الإيمان وهم يعذبون.
{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} ، فـ ((عَلَيْهَا)) : ليس معناها كما في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75] ، يعني: قائماً بالمطالبة.
قال تعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:7] أي: حضور يشاهدون.(89/5)
تفسير قوله تعالى: (وما نقموا منهم.)
قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] ، كانت الجريمة التي بسببها ألقي أهل الإيمان في النار أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد.
قد يقول قائل: إن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] فيكف تسلط أهل الكفر على هؤلاء المؤمنين وقذفوهم في النار؟ ف
الجواب
لأهل العلم أجوبة على ذلك: منها: أن المراد بالسبيل المنفي في قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] السبيل إلى القلوب بالحجج، فلا يستطيع الكافر أن يصل بحجته إلى قلب مؤمن أبداً، بل كما قال الله سبحانه وتعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى:16] أما السبيل على الأبدان فقد نيل من بعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام، بل قتل بعضهم، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21] فأفادت الآية أن هناك أنبياء قتلوا بغير حق، وأيد ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [النساء:155] فدلت الآيات على أن هناك أنبياء قتلوا، وأن هناك من يأمر بالقسط من الناس قتل وشرد وطرد وأخرج.
إذاً: السبيل المنفي هو: سبيل الوصول بالحجج إلى قلوب المؤمنين، فدائماً حجة الكفار داحضة واهية.
يقول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ) .
أي: سبب انتقام أهل الكفر من المؤمنين ليس لذنب صنعوه إنما هو الإيمان بالله العزيز الحميد.
(إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ، ورد في هذا الباب حديث أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى وهم مشابه لسياق الآيات في سورة البروج، لكن هل هو المراد بالآيات الكريمة أو هو فعل وحدث مستقل تم في ظروف أخر؟ الجواب: من العلماء من نزل الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث صهيب رضي الله عنه الذي فيه: (كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إن كبرت فابعث لي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه السحر، فكان هذا الغلام إذا ذهب إلى الساحر مر في طريقه براهب، فجلس يستمع إلى الراهب فأعجبه كلامه، فكان الغلام يتخلف عند الراهب كثيراً فيؤذيه أهله ويؤذيه الساحر، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا سألك أهلك: لمَ تأخرت؟ فقل: حبسني الساحر، وإذا سألك الساحر فقل: حبسني أهلي، فمضى على هذا الحال مدة، وذات يوم مرّ هذا الغلام على دابة عظيمة قد حبست الناس ومنعتهم من المرور، فقال: اليوم أعلم أأمر الساحر أحب إلى الله سبحانه وتعالى أم أمر الراهب، فأخذ حجراً وقال: اللهم إن كنت تعلم أن أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة واجعل الناس يمرون، فرمى الدابة فماتت، فمر الناس، فعلم أن أمر الراهب أحب إلى الله عز وجل من أمر الساحر، فازداد تعلقه بالراهب، وكان يداوي الأمراض، فيبرئ الأكمه والأبرص والأعمى بإذن الله، فسمع به جليس للملك كان قد كبر فعمي، فأرسل إليه فجاءه، فقال: إني سمعت أنك تبرئ الأسقام وها أنا قد عميت، فقال: إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله لك فشفاك، فآمن بالله، فدعا الله عز وجل فشفاه، فذهب هذا الرجل إلى الملك، وذهب الغلام إلى الراهب، فقال الراهب للغلام: أنت الآن أفضل مني وإنك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدل عليّ، فذهب جليس الملك إلى الملك، فإذا به قد رد إليه بصره، فقال الملك: من رد إليك بصرك؟ قال: الله.
قال: أو لك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فما زال يضربه ويقرره حتى اعترف له أن الذي فعل به هذا هو الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتشفي العمي، قال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله سبحانه وتعالى: قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فما زال يضربه ويؤذيه حتى دل على الراهب، فجيئ بالراهب، فقيل له: إما أن ترجع عن دينك وإلا قتلت، فثبت -أي: ثبته الله سبحانه وتعالى- فجيئ بالمنشار فوضع على مفرق رأسه ثم نشر فشق نصفين، ثم جيء بجليس الملك فقيل: إما أن ترجع عن دينك وإلا قتلت، فثبته الله، فنشر بالمنشار نصفين، ثم جيء إلى الغلام، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى أن يرجع عن دينه، فأمر به الملك أن يؤخذ ويرسل إلى أعلى قمة جبل ويلقى من فوقها، فذهبوا به، فاعتصم بالله وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فهلكوا جميعاً، وجاء الغلام يمشي إلى الملك، فقال: ماذا فعل بك؟ قال: أنجاني الله سبحانه وتعالى، فأرسله مع قوم آخرين، وقال: احملوه معكم في قرقور -أي: قارب صغير- وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فألقوه في البحر، ففعلوا فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فلعبت بهم الأمواج فأغرقتهم وأنجاه الله وجاء يمشي، وقال: قد كفانيهم الله بما شاء) الحديث، وفي الأخير: (أن الغلام قال للملك: إنك لست بقاتلي إلا أن تفعل ما آمرك به؛ فتجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع نخل، وتستخرج سهماً من كنانتي، وتقول: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلب الغلام، وأخرج سهماً من كنانته وقال: باسم الله رب الغلام، فجاء السهم في صدغه فمات، وآمن الناس كلهم أجمعون، قالوا: آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام، فقيل للملك: قد وقع ما كنت تحذر، فأمر بالأخاديد فخدت، فشقت الشقوق في الأرض، وأضرمت فيها النيران، وبدأ بقذف كل من آمن فيها، وكان من هؤلاء -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- المرأة التي كانت ترضع طفلاً صغيراً لها، فأشفقت على طفلها بعد أن نظرت إليه نظرة الوداع، فخشيت على طفلها فقال لها ولدها: يا أماه! لا تقاعسي فإنك على الحق، فتقدمت وألقيت في النار) هل هذا هو الوارد في سورة البروج، أم هذه واقعة أخرى؟ من العلماء من نزلها على سورة البروج، وهي بها لائقة.
ومنهم من قال: تعددت أحوال أهل الإجرام.
ومن العلماء من قال: إن أصحاب الأخدود في بلاد نجران التي على الحدود بين اليمن والسعودية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] أي: لعن هؤلاء الذين خدوا الأخاديد للناس أياً كانوا ومن كانوا.
{النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:5-8] فهذا ليس جرماً ينتقم من الشخص من أجله، كما قال القائل: لا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] ، فعلى ذلك: قد يبتلى شخص فيسجن ويقول: ليس عليَّ ذنب، فقل: وما ذنب أصحاب الأخدود؟ وما ذنب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما قال الكفار أو كما حكى الله مقالتهم، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ؟ ما ذنب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذا قال له قومه: {اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت:24] ؟ ما ذنب لوط وقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] ؟ فليس لهؤلاء جميعاً ذنب إلا الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] ، (العزيز) : منيع الجناب، عظيم السلطان الذي لا يغالب.
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:9] .(89/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين.)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] هنا يقف الحسن البصري قفة فيقول رحمه الله: (سبحانك ربنا ما أحلمك وما أرحمك! قوم بطشوا بعبادك المؤمنين، وخدوا لهم الأخاديد، وأضرموا فيها النيران وقذفوهم فيها، وتفتح لهم باب التوبة.
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} دليل على أنهم لو تابوا لقبلت توبتهم، فعلى ذلك: من زلت قدمه في مسألة، فلا ينبغي أن تهدر جميع حسناته بجانب هذه المسألة التي زلت فيها قدمه إن فتح له باب التوبة، فهؤلاء قتلوا الناس وحرقوهم وجلسوا على شفير النيران يتفرجون عليهم، ومع ذلك إن تابوا تاب الله عليهم، وفي عدة آيات من كتاب الله كلما ذكرت كبيرة من الكبائر أو جريمة من الجرائم أتبعت بفتح باب التوبة؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68-70] قتل، زنى، أشرك، لكن إذا تاب تاب الله سبحانه وتعالى عليه.
قل ذلك لمضيع الصلاة ومتبع الشهوات حتى يتوب، فإن تاب قبلت توبته، وهذه قاعدة أصيلة من قواعد ديننا الحنيف السمح، وهذا من رحمة الله ربنا بنا، كما قال الله سبحانه وتعالى: (يا عبادي! إنكم تخطئون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) ، وفي الحديث: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) ، وفي الحديث: (إن إبليس قال لربه سبحانه: وعزتك! لا أبرح أغوي العباد ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: وعزتي! لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني) .
وهكذا فكل من أذنب فليعلم أن باب التوبة مفتوح للتائبين، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فلا ينبغي أبداً أن يقنط أحد من رحمة الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، (فتنوا) .
أصل الفتنة: الاختبار بالنار، ثم أطلق لفظ الفتنة على كل ما يئول إلى مكروه وسوء، كما قال الشاعر: لئن فتنتي لهي بالأمس أفتنت سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم وألقى مصابيح القراءة واشترى وصال الغواني بالكتاب المتيم.
فالفتنة في الأصل: الاختبار بالنار، ثم أطلقت الفتنة على كل ما يئول إلى مكروه أو سوء.
وتطلق الفتنة على الشرك، وتطلق على الصرف والإضلال {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:161-162] أي: بمذلين، {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:163] .(89/7)
أقوال العلماء عند تكرار العذاب في الآية
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] ما هو وجه قوله (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) ، واتباعه بقوله: (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) ؟ من أهل العلم من قال: هما عذابان: عذاب جهنم للكفر، وعذاب إضافي وهو: عذاب الحريق مقابل تحريقهم لأهل الإيمان، كما قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل:88] فهم فعلوا شيئين: كفروا، وصدوا عن سبيل الله، {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88] ، فعذاب على الكفر، وعذاب للصد عن سبيل الله.
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:12-13] فأثقال للكفر، وأثقال مع أثقالهم للإغواء والإضلال.
فمن العلماء من قال: هما عذابان: عذاب جهنم للكفر، وعذاب الحريق نتيجة تحريق المؤمنين.
ومن أهل العلم من قال: إن المراد بعذاب جهنم الأولي في قوله تعالى: (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) : الزمهرير.
قال تعالى: (عَذَابُ الْحَرِيقِ) ، الذي هو التعذيب بالنار، فعليه هم يعذبون عذابا بالزمهرير الذي هو البرد الشديد، ثم يتبع الزمهرير بالحريق الذي هو النار، كما قال سبحانه: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص:57] .
(حميم) : انتهى حره وبلغ الدرجة العليا من الحر، و (غساق) : بلغ المنتهى في البرودة.
ومن أهل العلم من سلك مسلكاً آخر، فقال: لهم عذاب جهنم في الآخرة، ولهم عذاب الحريق في الدنيا، قال: فإن النار التي أضرموها وألقوا فيها أهل الإيمان تطاير عليهم شررها فأحرقهم.
فعلى هذا القول الأخير، يرد التعكير على قول من قال: من الكتاب أو المؤلفين أن كل قوم مجرمين ذكرت عقوبتهم الدنيوية في كتاب الله إلا أصحاب الأخدود فلم تذكر لهم عقوبة في الدنيا، وادخر لهم العذاب في الآخرة، فثم قول يثبت -وهو قول من أقوال العلماء وليس مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم- أن الذين خدوا الأخاديد للناس أحرقوا بشررها في الدنيا؛ لهذه الآية، والله سبحانه وتعالى أعلم.(89/8)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11] في كتاب الله كثيراً ما يؤتى بحال أهل الإيمان بعد حال الكفار، ولهذا -كما أسلفنا- سمي القرآن مثاني، فمن العلماء من قال: سمي القرآن مثاني؛ لأنه يأتي بحال ويأتي بالحال المقابلة لها، يأتي بحال أهل النيران ثم يأتي بحال أهل الجنان أو ينعكس الأمر، فيأتي بصور من العذاب وصور مقابلة لها، {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:57-58] ، فالله سبحانه وتعالى: قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] ثم قال في المقابل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وقد قدمنا أن التقييد بعمل الصالحات فيه رد على الصوفية من وجوه، منها: أن الصوفية يقولون: إن المجانين أعلى درجة من غير المجانين.
ولكن عند جمهور أهل السنة: أن المؤمن الذي يعمل الصالحات أعلى درجة من المجنون؛ لأن المجنون لم يعمل صالحات، فعلى ذلك الذين يتبركون بلعاب المجانين، ويقولون: إن فيه بركة، وأن الله يضع سره في أضعف خلقه -والله أعلم بهذا كله- كل هذا مناقض لقواعد أهل السنة.
فأهل السنة عندهم: أن المؤمن العامل الصالح أفضل من المجنون، فمن الأقوال فيه: أنه يختبر في عرصات يوم القيامة، فالله أعلم هل ينجح في الاختبار أو لا ينجح، وهو وإن دخل الجنان فهو في درجة الله أعلم بها، لكن قال الله رب العزة: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] .
وفي الآية أيضاً في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، رد على الصوفية ورد على المرجئة، فالمرجئة يقولون: لا يلزم مع الشهادتين عمل، ومن نطق بهما فهو على إيمان كإيمان جبرائيل وميكائيل، وهذا قول الغلاة منهم، والآية فيها رد عليهم؛ لأن فيها البشارة للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} .
يقول الله سبحانه: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] وهذه الآية في معناها جملة آيات وعدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكما هو معلوم أن الله سبحانه وتعالى واسع المغفرة كما قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] وكما قال عن نفسه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] في عدة آيات فكذلك وصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه شديد العقاب، ووصف بطشه بأنه شديد، فعلى ذلك: يلزم المؤمن أن يكون دائماً بين حالتي الخوف والرجاء، خوف من الله سبحانه وتعالى أن يصيبه ببعض ذنوبه، وطمع في رحمة الله سبحانه وتعالى، وفي هذا الباب حديث -وإن كان فيه بعض الكلام؛ لأن من العلماء من حسنه- وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد شاباً من الأنصار يحتضر، فقال له: (كيف أنت؟ قال: يا رسول الله! أرجو وأخاف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اجتمع مثل هذان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجوه وأمنه من الذي يخاف) فهاتان الحالتان ينبغي بل يلزم أن تصاحب المؤمن دائماً -أي: حالة الخوف، والرجاء- لأن ذلك هو حال الأنبياء عليهم الصلوات والسلام، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] .
قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد} من أهل العلم من قال: يبدئ العذاب ويعيده، أي: أنه سيبدئ العذاب على الكافرين ويعيده عليهم، واستدل قائل هذا القول بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري ومسلم: (ما من عبد يؤتيه الله عز وجل إبلاً فلا يؤد زكاتها؛ إلا فتح لها يوم القيامة بقاعٍ قرقر، فتمر عليه أثمن ما كانت وأعظم ما كانت، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها، كل ما مر عليه أخراها أعيد عليه أولاها) فقال: يبدئ ويعيد، يبدئ العذاب ويكرره عليهم.
ومنهم من قال: ((يُبْدِئُ)) أي: يبدئ الخلق، كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ} [الروم:27] أي: في الآية على هذا التأويل الأخير إثبات للبعث، واختار عدد من أهل العلم التعميم وأنه يبدئ العذاب ويعيده، حتى أن منهم من قال: يبدئ رحمته ويعيدها أيضاً، فيرجع بالتوبة على التائبين، وهكذا قال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14] ، أما (الْغَفُورُ) فمعروف، أما (الْوَدُودُ) فمن العلماء من قال: معناها: الحبيب.
قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] (ذُو الْعَرْشِ) ، هل المجيد صفة للعرش أم هي صفة لله سبحانه وتعالى؟ قولان لأهل العلم: أما (المجيد) التي في آخر السورة، (بل هو قرآن مجيد) ، فمن العلماء من فسر المجيد بالكريم لما ربط بين الآيتين {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77] وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج:21] ، فقال: (المجيد) هو: (الكريم) .
قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [البروج:17] ، من العلماء من قال: (هل) بمعنى: (قد) ، ومنهم من قال: هي استفهام، لكن المراد من هذا الاستفهام: لفت نظر النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد منه: التنبيه، هل أتاك حديث الجنود وما حل بهم؟ {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج:18] ، نعم.
قد جاءك هذا الحديث ولكن الذين كفروا في تكذيب مستمر، فالمعنى: أنه قد أتاك حديث الجنود يا محمد وما حل بهم، وقد بلغ قومك حديث الجنود وما حل بهم، ولكنهم في إباء وعناد، والله سبحانه وتعالى قال في آية أخرى: (وَإِنَّكُمْ) أي: يا معشر قريش {لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] يعني: أنتم تمرون بمدائن قوم لوط، وبمدائن ثمود، (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ مُصْبِحِينَ) في صباحكم وأنتم مسافرون، {وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} ، وكما قال سبحانه: (وَإِنَّهُمَا) أي: مدائن قوم لوط ومدائن قوم ثمود، ((وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ)) أي: لبطريق {مُبِينٍ} [الحجر:79] أي: واضح للمارة، فالله سبحانه وتعالى يقول: قد أتاك حديث الجنود وما حل بهم يا محمد، وبلغ قومك حديث الجنود والذي حل بفرعون وثمود، ولكن: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} [البروج:19] ، أي: دائماً في تكذيب وعناد.(89/9)
تفسير قوله تعالى: (والله من ورائهم محيط) وبيان منهج أهل السنة في الأسماء والصفات
قال تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] ، هل تمر كلمة (محيط) على ظاهرها لعدم الوقوع في شيء مما يخل بالأسماء والصفات، أو يلتمس لها بعض التأويل؟ منهج أهل السنة في الأسماء والصفات باختصار: أننا نثبت لله ما أثبته لنفسه، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه سبحانه وتعالى، ونثبت لله ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وننفي عنه ما نفاه عنه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا أثبتنا شيئاً لله تنفى المماثلة والمشابهة، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] هذا بإيجاز واختصار شديد كالمضمن في قولنا: لا إله إلا الله، فـ (لا إله) نفي الآلهة، (إلا الله) إثبات الألوهية لله سبحانه وتعالى.
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) نفي المماثلة {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] إثبات السمع والبصر لله سبحانه وتعالى.
أما قوله تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] من العلماء من التمس لها بعض التأويل، فقال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} أي: أن الله سبحانه وتعالى مهلكهم، واستدل قائل هذا القول بقول الله سبحانه تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف:42] أي: أهلك ثمره، {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف:42] ، واستدل أيضاً بقول الله سبحانه وتعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس:22] ، فمن العلماء من قال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] ، أي: أن الله سبحانه وتعالى مهلكهم، ومنهم من قال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} أي: محصٍ لأعمالهم ومجازيهم عليها.
قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج:21] أي: كريم.
قال تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] ، من أهل العلم من قال: أي: مثبت في اللوح المحفوظ عند الله سبحانه وتعالى.
ومنهم من قال قولاً لا أعلم عليه دليلاً ألا وهو: أنه مثبت في جبهة إسرافيل، ولا أعلم لهذا القول سنداً لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكلمة (مَحْفُوظٍ) من أهل العلم من قال: (مَحْفُوظٍ) أي: مثبت، ومنهم من قال: مَحْفُوظٍ من أن تمتد له أيدي العابثين، كما قال سبحانه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، فمن أهل العلم من فسر (الباطل) بالشيطان.(89/10)
الأسئلة(89/11)
حكم إقامة جماعة ثانية في مسجد له إمام راتب
السؤال
ما حكم إقامة جماعة الثانية في المسجد الذي له إمام راتب؟
الجواب
الجماعة الثانية في المسجد الذي له إمام راتب جائزة إذا لم يتعمد مقيمها التخلف لإحداث فتنة، أما إذا أتى رجل متأخراً عن الجماعة الأولى ومعه فئة أخرى من الناس، جاز لهم أن يصلوا صلاة في جماعة، وهذا أفضل وأحب.
أما الدليل على فضله واستحبابه فمنه: أولاً: عموم الأحاديث التي وردت في فضل صلاة الجماعة.
وثانيا: ً خصوص حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي جاء متخلفاً، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على هذا؟ من يتجر على هذا؟) .
أما حجة المانعين، فمن حججهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى يوماً إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا، فذهب وصلى بأهل بيته، وليس في هذا ما يمنع، فما الذي أدرانا أن هناك ناس في المسجد لم يكونوا قد صلوا، والنبي عليه الصلاة والسلام ترك الصلاة معهم، فليس فيه مانع.
وكذلك من حججهم: بعض أفعال الصحابة، والإجابة على هذا أن المرفوع يقدم على الموقوف، والله سبحانه وتعالى أعلم، فكفى بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يتصدق على هذا؟) .
أما الأشياء التي يثيرها البعض ويقولون: إن هذا كان مفترضاً وكان هذا متنفلاً، وإمامة المفترض للمتنفل جائزة إذ هو أفضل منه.
إلى غير هذه الأشياء، فإنها لم تكن هذه على عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نقلت مقولة عن الإمام الشافعي رحمه الله في معرض المنع وفهمت على غير وجهها، فكان السؤال الموجه للشافعي فيها عن قوم يتعمدون التأخر لإنشاء جماعة، فرأى الكراهية، فكانت الفتوى مقترنة بسؤال وجه الشافعي رحمه الله تعالى إلا إذا كان عموم المذهب الشافعي على شيء آخر فالله أعلم، لكن هذه الفتوى اطلعنا عليها في بعض كتب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فتعكر النقل عن الشافعي، فقد يقلل النقل المنقول عن الشافعي في الكراهية، وإنما هو مختصر بأقل من عموم الفتوى، والله أعلم.(89/12)
حكم صلاة المسافرين في جماعة ثانية بعد انتهاء الأولى
السؤال
هل يجوز للمسافرين إذا أتوا بعد فراغ الجماعة أن يصلوا في جماعة ثانية؟
الجواب
نعم جائز.(89/13)
حكم التلفظ بالنية
السؤال
هل التلفظ بالنية بدعة، وتبطل الصلاة؟
الجواب
أما بطلان الصلاة فلا أعلم دليلاً على بطلانها، أما التلفظ بالنية فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي للبدعة أقرب.(89/14)
عدم الالتفات إلى وساوس الشيطان أثناء العبادة
السؤال
إني أعمل العمل ويجئ الشيطان لي في وسط الطريق ويقول: افعلي كذا وكذا من أجل أن يقال عليك: كذا وكذا، وأنا كثير الاستعاذة، وهذا أمر يجعلني أتمنى الموت إن كان خيراً لي وأخاف أن أظل على هذه الحالة فيختم لي بسوء الخاتمة.
الجواب
لا تلتفتي للشيطان ما دمت قد بدأت العمل لله، فأكمليه لله، ولا تلتفتي إلى وساوس الشيطان.
فمثلاً: دخلت المسجد تصلي ركعتين وفي نيتك من الأصل أن تصلي ركعتين طويلتين تتأنى فيهما وتبتهل فيهما إلى ربك سبحانه وتعالى، فمضيت على هذه الحالة فدخل رجل، فشرح صدرك وسررت بدخول هذا ورؤيته لك على هذه الحال، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن) كما في صحيح مسلم.
يعني: من المبشرات.
أنك ترى هذا الذي دخل عليك أنت لم تنوِ الرياء ولم يتسرب إليك الرياء، إنما دخل عليك وأنت على هذه الحال فأتم عملك لله، وأنت مثاب ومأجور وهذه من المبشرات، فإذا عملت عملاً، وانتابك الشيطان ليفسد عليك العمل فتعوذ بالله فقط وامضِ في عملك ولا تلتفت إليه.(89/15)
حال حديث: (أنا بريء من كل مسلم يعيش بين أظهر المشركين)
السؤال
ما صحة حديث: (أنا بريء من كل مسلم يعيش بين أظهر المشركين) ؟
الجواب
حديث (أنا بريء من المسلم يعيش بين ظهراني المشركين) لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحديث مرسل، أرسله قيس بن أبي حازم، رجح المرسل الإمام البخاري، وأبو حاتم الرازي، والإمام الدارقطني، وغيرهما من الأئمة، فالصواب في حديث: (أنا بريء من مسلم يعيش بين ظهراني المشركين، لا تتراءى نارهما) أنه مرسل، والمرسل من قسم الضعيف.
أما معناه فمن العلماء من قال: هو في الديات، أي: لا أؤدي عنه دية إذا قتل، ومنهم من قال: هي براءة عامة مما يصيبك، فمثلاً: أنت تعيش في بلاد المشركين، وقد قال لك الرسول صلى الله عليه وسلم: هاجر إلى المدينة، وأنت اخترت البقاء في بلاد المشركين، فإذا أصابك شيء فلا يلزم الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء تجاهك.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] يعني: إذا كان هناك رجل يعيش في وسط المشركين واستنصرك وقال لك: تعال انصرني فأنا مظلوم فعليك النصر إلا على قوم بينك وبينهم ميثاق.(89/16)
تفسير سورة الطارق
كل نفس عليها حافظ من الله يحفظها ويحفظ أعمالها، وقد أقسم الله على هذه الحقيقة في سورة الطارق، وحث الإنسان على النظر في مبدأ خلقه، ليستدل به على قدرة الله على بعثه يوم الحساب، متوعداً الكافرين الذي يكيدون بالمسلمين بأنه يكيد بهم، فلا يستعجل مستعجل لإهلاكهم، فقد جعل الله لإهلاكهم موعداً.(90/1)
تفسير قوله تعالى: (والسماء والطارق)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:1] .
أطلق على النجم أنه طارق؛ لأنه يطرق السماء ليلاً، وقد ورد في الباب حديث: (أعوذ بك من طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمان!) ، وقد يستدل مستدل بهذا الحديث على أن الطارق يطلق أيضاً على ما يطرق نهاراً، ولكن من العلماء من قال: إن إطلاق الطارق على الآتي نهاراً من باب المجاز، وفي قوله عليه الصلاة والسلام -عند من صحح الخبر-: (أعوذ بك من طوارق الليل والنهار) أطلق على طارق النهار اسم طارق من باب المجاز وهذا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) ، فالمراد بالأذانين الأذان والإقامة، فأطلق على الإقامة أذاناً من باب التغليب، وكما تقول العرب: جاء العمران، ويقصدون: أبا بكر وعمر رضي الله عنه، وكما يقولون: أرأيت الشمسين؟ ويقصدون: الشمس والقمر.
فالطارق: أصله الذي يطرق ليلاً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يطرق أهله ليلاً يتخونهم يلتمس عثراتهم) ووصف النجم بأنه طارق؛ لأنه يطرق السماء ليلاً.
{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} [الطارق:1-2] ، من العلماء من قال: إن كل آية فيها: (وما أدراك) فقد أدراه الله سبحانه وتعالى -أي: محمد عليه الصلاة والسلام- أما التي فيها: (وما يدريك) فلم يُعلمه الله سبحانه وتعالى به، فكل آية فيها: (وما أدراك) فقد أدراه، (وما يدريك) فلم يدره، واستدل القائلون بهذا القول بعدة أدلة في كتاب الله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:14-15] ، أما: وما يدريك، فاستدل بقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63] ، فلم يخبره الله بموعدها بالضبط، ومن العلماء من قال: إن هذا القول أغلبي، والله أعلم.
{النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق:3] أي: أن الطارق هو: النجم الثاقب، أي: المضيء؛ لأنه يثقب بضوئه ظلام الليل، إذاً: الطارق: الآتي ليلاً وهو: النجم.(90/2)
تفسير قوله تعالى: (إن كل نفس لما عليها حافظ)
{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4] ، (لما عليها) .
أي: إلا وعليها حافظ، وكل نفس عليها حافظ.
ما المراد بالحافظ؟ لأهل العلم قولان: أحدهما: أن الحافظ: هو الذي يحفظ الأعمال ويكتبها، فالمعنى: ما من نفس إلا وعليها حافظ، وهو ملك يكتب الأعمال والأقوال ويحصيها ويسجلها، فالحافظ بمعنى: الكاتب الذي يكتب الأقوال والأفعال.
والمعنى الثاني للحافظ: من الحفظ، كما قال سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] أي: بأمر الله.
إذاً: هناك قولان في تفسير الحافظ: حافظ: يكتب الأعمال ويحفظها ويسطرها.
وحافظ: يحفظ الشخص من الأشياء التي لم يقدرها الله سبحانه وتعالى عليه، أما إذا قُدر عليه شيء فيتنحى الحافظ حتى يصاب الشخص بأمر الله سبحانه وتعالى.
{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} أي: إلا وعليها حافظ، والحافظ له معنيان كلاهما له شواهده من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأول: بمعنى الكاتب: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .
الثاني: بمعنى الحفظ: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] .
فيقسم رب العزة سبحانه بالسماء، ويقسم بالطارق الذي في السماء وهو: النجم، وقد أقسم الله بالنجم في آيات أخر: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] ، يقسم الله بذلك على أن كل نفس عليها حافظ على الوجهين المتقدمين، فإذا اعتقدت هذا المعتقد استقامت سريرتك، وصلح حالك، وحفظت لسانك، إن علمت أن عليك حافظاً يسطر الأعمال والأقوال.(90/3)
تفسير قوله تعالى: (فلينظر الإنسان مم خلق)
قال سبحانه: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] تنبيه على أصل خلقة الإنسان حتى يتواضع ولا يغتر.
{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] .
الماء: هو المني، و (دافق) بمعنى: مدفوق، أي: خلق من ماء مدفوق، وكما قال العلماء في المني: إنه يخرج بشهوة، ودفق، ويتبعه فتور، فرب العزة يقول: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي: من ماء مدفوق، فهو تنبيه للإنسان على أصل خلقه الذي خلق منه حتى يتواضع لله ولا يستكبر، وإذا علم ما هو أصله، تواضع وخضع إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر.
{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ} [الطارق:7] ، الصلب: فقرات الظهر، {وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:7] المراد بالترائب عند جمهور المفسرين: موضع القلادة من صدر المرأة.
يعني: صدر المرأة بصفة عامة، أو بصورة أدق: المكان الذي يوضع عليه العقد الذي تلبسه المرأة، وهو المكان الذي بين الثديين، فالإنسان خلق من ماء دافق، {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} .
فعلى هذا هل الإنسان أصله من الرجل فقط، أم من الرجل والمرأة؟ هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من قال: خلق من الرجل فقط، لقوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة:37] {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] ، ومنهم من قال: من الاثنين معاً، لقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْب وَالتَّرَائِبِ} ، فالترائب: موضع القلادة من صدر المرأة، وهذا رأي جمهور المفسرين، بل نقل بعضهم الإجماع على هذا، وفي نقل الإجماع تحفظ.(90/4)
تفسير قوله تعالى: (إنه على رجعه لقادر)
قال تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:8] : {إِنَّهُ} [الطارق:8] أي: ربه، {عَلَى رَجْعِهِ} [الطارق:8] الهاء في قوله: (على رجعه) ترجع إلى ماذا؟ فيها أقوال للعلماء: أحد هذه الأقوال: أن الضمير في قوله: (إنه على رجعه) راجع إلى الإنسان، أي: أن الله قادر على إرجاع الإنسان حياً بعد موته وذلك يوم القيامة.
وقول ثان: أن الله قادر على إرجاع الإنسان من حال الشيخوخة إلى حال الشباب إلى حال الطفولة، وهذا القول الثاني استظهره بعض العلماء في تأويل قول زكريا صلى الله عليه وسلم: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} [آل عمران:40] فزكريا أولاً قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم:5] ، سأل ربه أن يرزقه الولد، ثم لما بشر بالولد قال: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} أنى يكون لي ولد؟ {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم:5] ، فلماذا هو سأل؟ ثم لماذا تعجب أن دعوته استجيبت؟ لأهل العلم التماسات للإجابة على هذا السؤال، فمنهم من يقول: إنه سأل وقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران:38] فلما أخبره الله سبحانه أنه بشر بالذرية الطيبة أراد أن يستثبت من الخبر وهو لا يكذب لكن يفرح أكثر إذا أعيد الخبر على مسامعه، كأن يأتيك شخص مباشرة بخبر سار غاية السرور، يقول لك: حصل كذا وكذا، فتفرح فرحاً شديداً، لكن تريد أن يعاد الخبر على مسامعك مرة ثانية ومرة ثالثة، وتحب أن يعاد الخبر على مسامعك مرات، فهذا الوجه الأول: أنه أراد أن يعاد الخبر على سمعه مرات؛ تشوقاً لسماع البشرى.
والوجه الثاني: أنه سأل فقال: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} [مريم:8] أي: يا رب! هل الغلام سيأتيني وأنا على هذه الحالة من الكبر أو سأرد صبياً مرة ثانية؟ وزوجتي هي الآن عجوز عقيم عاقر، فهل سترجع شابة وتحمل؟ وكل هذا ليس بعزيز على الله سبحانه وتعالى، وزكريا عليه السلام كان يستفسر هذه الاستفسارات على قول بعض العلماء.
الشاهد: أن قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} فيه أقوال: أحد الأقوال: أن الله سبحانه وتعالى قادر على إرجاع الإنسان حياً بعد موته للحساب يوم القيامة.
القول الثاني: أن الله قادر على إرجاعه من حال الشيخوخة إلى حال الشباب إلى حال الطفولة.
القول الثالث: أن قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} أي: قادر على إرجاع المني إلى الأحليل وإلى صلب الرجل وإلى ترائب المرأة، فالله قادر على أن يرجع المني الذي أخرج بدفق إلى الصُلب الذي خرج منه، وإلى ترائب المرأة التي خرج منها، وإن كان هذا مستحيل بطرقنا الخاصة، فمستحيل تماماً أن يفعل هذا البشر، لكن الله سبحانه قادر على ذلك.
فهذه جملة الأقوال في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} .(90/5)
تفسير قوله تعالى: (يوم تبلى السرائر)
قال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] .
قوله تعالى: (يوم تبلى السرائر) بعد قوله: (إنه على رجعه لقادر) جعل بعض العلماء يختار أن المراد بقوله: (إنه على رجعه لقادر) أي: على إرجاع الإنسان حياً بعد موته، قالوا: بدلالة قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} ، فإن الإعادة يوم القيامة، وآخرون قالوا: لا.
نحن سننظر إلى قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} على أنه جملة ابتدائية، فالمعنى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق:9-10] ، فيكون أنشأ معنىً جديداً متماسكاً فضلاً عن المعنى الذي سلف، ولا يلزم أن يكون بين كل الآيات ربط، فمن نظر إلى قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} على أن الفقرات انتهت وبدأت بفقرات جديدة، حمل الآيات على المحامل التي تقدمت، ومن ربط بين: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} و {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} ، قال: قادر على إحيائه يوم تبلى السرائر.
(يوم تبلى) أي: تختبر وتظهر، (السرائر) : الأمور التي كان الشخص يسرها في الدنيا، فالأمور التي كان الشخص يسرها ويكتمها عن الناس في الدنيا تظهر، كما قال تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] ، {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس:30] ، والآيات في هذا الباب كثيرة.
والابتلاء: يكون بمعنى الإظهار، وقد يكون بالخير وقد يكون بالشر، والابتلاء أيضاً يطلق على الفتنة والتعذيب الذي يظهر ما في دواخل الإنسان، كما في قول موسى عليه الصلاة والسلام: (إني بلوت بني إسرائيل بأقل من هذا فلم يصبروا) ، أو كما ورد في الحديث.
{فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ} [الطارق:10] أي: ما له من قوة يتقوى بها ولا ناصر ينصره.(90/6)
تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الرجع)
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} [الطارق:11] المراد بالرجع: الشيء الذي يأتي ويرجع مرة أخرى بعد مدة، ووصفت السماء بأنها ذات الرجع؛ لأنها ترجع بالمطر في المواسم على رأي أكثر المفسرين لهذه الآية، ففصل الشتاء تأتي فيه أمطار ثم ترجع السماء في فصل الشتاء القادم أيضاً وتأتي بالأمطار، وهكذا.
{وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق:12] ما هو الصدع؟ الصدع: التشقق، تقول: تصدع السقف: يعني: تشقق السقف، والناظر لهذه الآيات يجدها مترابطة، فالسماء وصفت بأنها (ذات الرجع) أي: تأتي بالمطر الذي ينزل كالمني، (والأرض ذات الصدع) أي: لها صدع وتشقق، فيها فتحات يدخل منها المطر فتنبت النبات، وكذلك المني المدفوق من الذكر ينزل في الفرج ويخرج الذرية بإذن الله تعالى، فبعض العلماء يربط بين الآيات مثل هذا الربط، وصفت السماء بأنها ذات الرجع كما وصف الإنسان بأنه يخرج منه ماء دافق، وهذا الماء يستقبله الفرج كما تستقبل الأرض ذات الصدع -ذات الشقوق- المطر فتنبت الأرض نباتاً، وتنبت النساء ذرية، وهذا النبات مآله إلى الزوال، وهذا الآدمي مآله إلى الموت، وهكذا الدنيا ضربت مثلاً، والله أعلم بكتابه وبتأويله.
{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق:13] (إنه) أي: هذا القرآن.
(لقول فصل) أي: حق {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:14] أي: وما هو باللعب والباطل.(90/7)
تفسير قوله تعالى: (إنهم يكيدون كيداً)
قال الله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} [الطارق:15] أي: يمكرون مكراً، والخطاب في (إنهم) عائد إلى الكفار.
(يكيدون كيداً) : يدبرون تدبيراً ويتآمرون مؤامرات، كما قال سبحانه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] فهم لهم مكر وتدبير للفتك بالإسلام والمسلمين، ولكن لربنا سبحانه وتعالى تدبير أيضاً، فيقول سبحانه: {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:16] أي: أنا أكيد كيداً، وقد قال بعض أهل العلم: إن من كيد الله سبحانه وتعالى: أنه يمدهم في طغيانهم، ويمدهم في النعيم، وينعم عليهم بالنعم، ويستدرجهم بهذه النعم حتى إذا أخذهم لم يفلتهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] يفتح لهم أبواب النعم ويقذف في قلوبهم الغرور، ثم يسقطون سقطة ينتقم الله فيها منهم سبحانه وتعالى.
{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:17] أي: أنظرهم وأخرهم.
(أمهلهم رويداً) أي: قليلاً، فستأتيهم عاقبة أعمالهم السيئة التي عملوها.
والحمد لله رب العالمين.(90/8)
تفسير سورة الأعلى
سورة الأعلى وما أدراك ما سورة الأعلى! سورة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها، ويكثر من قراءتها، وشرع لأمته قراءتها في كل ليلة في صلاة الوتر، وما هذا إلا لعظم ما اشتملت عليه من المعاني العظيمة، ففيها تمجيد لله سبحانه، وبيان بعض أسمائه وأفعاله، وفيها البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بحفظه للقرآن، وبشارة أخرى بيسر الأحكام، ثم ختمها بالترغيب في الزهد في هذه الحياة الدنيا، فما أعظمها من سورة!(91/1)
تفسير قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى)
قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] .
سبح: أي نزه ومجد وعظم.
سبح: أي: قل: سبحان الله، نزه الله، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:30-31] إلى قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ} [التوبة:31] أي: تنزه عما يوصف به من أعدائه، تنزه عن الولد، تنزه عن الزوجة، تنزه عن الشريك، تنزه عن الأب، تنزه عن الأم، وهكذا، (فسبح) معناها اللغوي والشرعي أيضاً: نزه، وتطلق كلمة (سبح) بمعنى: اذكر الله بقولك: سبحان الله، وتطلق كلمة (سبح) بمعنى: صل، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39] أي: صل صلاة الفجر وصلاة العصر على قول جمهور المفسرين.
إذاً سبح من معانيها: نزه، ومن معانيها: مجّد، ومن معانيها: عظم، ومن معانيها: قل: سبحان الله، ومن معانيها: صل لله، ومنه: قول ابن عمر: لو كنت مسبحاً لأتممت، أي: لو كنت مصلياً صلاة النافلة في السفر لأتممت صلاتي ولم أقصرها في السفر.
وهل المراد بـ (سبح اسم ربك الأعلى) : سبح ربك الأعلى، أو سبح الاسم نفسه يعني: نزه الاسم نفسه؟ فيها: قولان لأهل العلم: فمنهم من قال: إن كلمة: "اسم" هنا، تحصيل حاصل في هذا الباب، والمراد تسبيح الرب سبحانه، كما قال الشاعر: إلى الحول ثم اسم السلامِ عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر في قصيدة مطلعها: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر فقوما وقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجهاً الشاهد قوله: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما، والمعنى: اجلسوا إلى الحول، ابكوا علي أو صيحوا علي، واعملوا الذي تعملوه من ذلك لمدة سنة ثم اسم السلام عليكما، يعني: يكفي وسلمكما الله فقد أديتما ما عليكما، فمن العلماء من قال: ثم اسم السلام عليكما، أي: ثم سلام عليكما، لا تبكيا علي بعد هذه السنة، فقال: إن (اسم) زائدة هنا، والمراد: ثم السلام عليكما مباشرة، وفي هذه الآية من العلماء من قال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أي: نزه ربك، ومجد ربك، وعظم ربك، وصل لربك، وقل: سبحان ربي الأعلى، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال: سبحان ربي الأعلى، ومن العلماء من قال: نزه الاسم أيضاً، فلا يتسمى أحد باسم الله، ولا يوجد أحد يقول: اسمي الله، ولا يجوز لأحد أن يأخذ من أسماء الله التي لا يتسمى بها إلا هو فيسمي بها نفسه، فالكفار مثلاً سموا اللات بهذا، وأخذوه من لفظ الجلالة: (الله) وأضافوا إليه التاء، وأخذوا اسم: العزى: من العزيز، فنزه اسم ربك عن أن تسميه كما يسميه المشركون، وأن تصفه كما يصفه المشركون، فهذا القول الثاني.
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} تقدم أن ابن عمر كان إذا قرأها قال: سبحان ربي الأعلى، وصح من مجموع الطرق أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال: اجعلوها في سجودكم، ولما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قال: (اجعلوها في ركوعكم) .(91/2)
حكم التسبيح في الركوع والسجود
هل قوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوها في ركوعكم واجعلوها في سجودكم) على الوجوب أو على الاستحباب؟ أي: هل يجب على الشخص أن يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وأن يقول في سجوده: "سبحان ربي الأعلى"، أم أن هذا مستحب؟
الجواب
ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام لفظ آخر في الركوع وفي السجود غير اللفظ، فلو كان التسبيح بهذا اللفظ واجباً لما تركه وقال بدلاً عنه: (سبحانك الله ربنا وبحمدك، اللهم! اغفر لي) ، وكان النبي يقول في صلاة الليل: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) ، وكان يقول: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين) ، فلما تنوعت الأذكار أصبح الأمر في قوله: (اجعلوها في سجودكم) ، ليس أمر إيجاب، إنما أمر ندب واستحباب وإرشاد.(91/3)
حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد
الصلاة على النبي في التشهد: هل هي واجبة أو ليست واجبة؟ قيل: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد واجبة، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] ، لكن هل قال الله في الآية: إن الله وملائكته يصلون على النبي فصلوا عليه وسلموا تسليماً في الصلاة بعد التشهد، أو هي مطلقة؟ هي مطلقة، إلا فقصرها على الصلاة يحتاج إلى دليل.
هل تجب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد أو يستحب؟ افرض أنك متعب وتريد أن تسلم بسرعة، وأتيت إلى قولك: "أشهد أن محمداً عبده ورسوله"، السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله، وقضيت صلاتك، أو كان القطار سيتحرك وأنت تصلي فقلت في التشهد: "أشهد أن محمداً عبده ورسوله"، السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فهل تصح هذه الصلاة؟ الرسول عليه الصلاة والسلام لما علم ابن مسعود التشهد وصل إلى قوله: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم قال: ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليك) ، افرض أنه لم يعجبك حاجة، والدعاء ليس بواجب، فلم تدع وسلمت؟ لا شيء عليك، أما حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي ويدعو ولم يحمد الله، ولم يصل على نبيه، ولم يثن على الله، فقال: (عجل هذا، إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه) ، فليس بصريح في الوجوب، وإذا لم يدع لا شيء عليه، ثم إذا دعوت الله هل واجب عليك أن تحمد الله قبل الدعاء وتثني عليه وتصلي على النبي أم أنه مستحب؟
الجواب
مستحب، أما استدلال من استدل بقوله: علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: (قولوا: اللهم! صل على محمد) ، فقد قال الإمام الشوكاني: إن هذا للتعليم؛ لأنهم سألوه: علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فليس فيه صيغة وجوب.
قال الله سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وقال الله لموسى: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68] ، لكن فرق بين الأعلى في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وفي قوله لموسى: (إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى) أي: الأعلى على أعدائك.
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2] ، خلق الخلق فسوى خلقهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] .(91/4)
تفسير قوله تعالى: (والذي قدر فهدى)
قال تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] قدر المقادير وهدى الخلائق إلى هذه المقادير التي قدرت لها، مثلاً كتب لك أن تموت في القاهرة، فيهديك الله إلى أن تذهب إلى القاهرة حتى تلقى حتفك هناك، أو كتب لك أن ترزق في المنصورة بمال أو بزواج، فتساق إلى هذا المكان حتى يمضي فيك وقضاء الله سبحانه وتعالى وأمره، فقدر المقادير وهدى الخلق إلى هذه المقادير التي قدرت لها، ومن العلماء من قال: هدى الذكور إلى مآتي النساء، هدى الرجال إلى كيفية جماع النساء، وهدى البهائم إلى كيفية جماع إناثها، هدى الذكور بصفة عامة إلى مآتي الإناث، فالمعنى: هدى الذكور إلى مآتي النساء، وهدى الخلق إلى ما كتب لهم وقدر لهم.
{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى:4] المرعى هو: النبات الذي يُرعى، والنبات الذي تأكله الدواب والأنعام.
{فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى:5] ، (الغثاء) : اليابس، يعني: أخرج المرعى وكان أخضر، ثم سرعان ما يبس المرعى وأصبح متفتتاً، كما لا يخفى عليكم في شأن النبات، فالبرسيم أخضر، وبعد مدة ينشف ويعملون منه ما يسمى: (بالدريك) .
{فَجَعَلَهُ غُثَاءً} [الأعلى:5] أي: يبساً {أَحْوَى} [الأعلى:5] : من الحوة وهي: التغير من الخضرة إلى السواد.
يعني: يبدأ في اليبوسة وتغير اللون.(91/5)
تفسير قوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى)
قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6] أي: سنقرئك -يا محمد- هذا القرآن فلن تنساه، قال فريق من العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم -مع أنه كان أمياً- حفظ القرآن، وأتقن الحفظ عليه الصلاة والسلام، ففي الآية -إذاً- معجزة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فمع كونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فقد حفظ صلوات الله وسلامه عليه هذا القرآن، ولم يكن هناك معلم من البشر يعلمه، فدل ذلك على الإعجاز.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يحرك لسانه بالقرآن الذي تلي عليه حتى لا ينساه، فكان جبريل يقرأ والرسول يقرأ معه، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16-17] أي: جمعه لك في صدرك وأن تقرأه.
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18] أي: فاستمع لقراءته.
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] أن نبينه للناس، فهذه الآيات مشابهة لقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} وفي هذه الآية دليل على أن الحافظ هو من حفّظه الله سبحانه وتعالى، وأن الذاكرة من الله، وهذا يحملك على عدم الكبر والغرور.
{إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:7] هذا الاستثناء دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ينسى بعض الآيات إذا أراد الله ذلك، وهل ثبت أن النبي نسي بعض الآيات؟ نعم.
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نسي بعض الآيات التي رفعت من الصدور تماماً، وليس من صدر النبي صلى الله عليه وسلم فقط بل من عموم أمة محمد، كما ورد في صحيح مسلم بسند حسن عن حذيفة قال: (إن سورة الأحزاب كانت في طولها مثل البقرة!) ، فنسخت من الصدور، وبقي منها هذا القدر، وأيضاً قد ينسى النسيان المعتاد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون) ، وقال: (يرحم الله فلاناً! لقد أذكرني آية كيت وكيت من سورة كيت وكيت، كنت أنسيتها) .
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:7] ، كقوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء:110] ، وكقوله: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل:19](91/6)
تفسير قوله تعالى: (ونيسرك لليسرى)
قال تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] .
(نيسرك) أي: سنهيئك، (لليسرى) : لعمل الخير، فالشخص قد ييسر لليسرى، وقد ييسر للعسرى.
يعني: قد يسهل لعمل الخير، فيكون عمل الخير خفيفاً على قلبه في غاية الخفة بصفة عامة، وقد يسهل لعمل الشقاوة، فيكون عمل الخير عليه من أثقل ما يكون، فالله سبحانه قد يشرح صدر العبد لعمل الخير، وقد يشرح صدره للكفر والعياذ بالله، فقوله تعالى: (وَنُيَسِّرُكَ) أي: سنهيئك -يا محمد- ونسهل عليك عمل الخير، فيقوم إلى صلاة الليل -مثلاً- وهو منشرح الصدر فرحاً بالقيام لصلاة الليل، وفرق بين شخص قام إليها فرح، وشخص إذا ضربته بالسياط لا يقوم، والتيسير لليسرى ليس في الصلاة فحسب، بل في كل أبوب الخير، شخص يخرج من جيبه الجنية أو العشرة جنيهات يتصدق بها وهو في غاية السعادة، وشخص إذا جاء ليخرج عشرة قروش صدقة مع أنه ينفق مئات وآلاف الأموال في الباطل، لكن عشرة قروش لله ثقيلة عليه، وكأنه سيموت إذا خرجت منه هذه العشرة قروش!! فالأول ميسر لليسرى، والثاني ميسر للعسرى، وكشخص تقول له: صم تطوعاً، فيبادر ويسعد غاية السعادة؛ لأنه صائم، وشخص يأتي عليه رمضان وهو في أشد الكره لرمضان.
التيسير لليسرى من نعم الله سبحانه وتعالى على العبد، وكما قال الله في شأن الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ، على قول من قال: إن الضمير يرجع إلى الصلاة، ومنهم من قال: إنه راجع إلى الاستعانة بالصبر والصلاة معاً.
قال سبحانه وتعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أي: نسهلك لعمل الخير، ومن العلماء من قال: سنجعل شريعتك سمحاء سهلة، (فالأيسر) الأسهل.
أي: يا محمد! شريعتك سمحاء سهلة، ليس فيها التشديد، وليس فيها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، وقد قال النبي: (بعثت بالحنيفية السمحة) ، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] .
ومن أسباب التيسير لليسرى: دعاء الله عز وجل، ومن ذلك: دعوة موسى عليه السلام {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25-26] .
قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7] فإذا جاهدت نفسك وأخرجت مالاً لله، راجياً ثواب الله، فالله يهيئ لك عمل الخير، فالخير يفتح باباً آخر للخير، وقد تمشي وتجد -مثلاً- طوبة في الطريق أو حجراً، فتقول: أرفع الحجر؛ لأن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، ويحضرك حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، فتقول: أنا أمطت الأذى فآخذ أيضاً بأعلاها: "لا إله إلا الله"، فباب خير يجرك إلى باب آخر من الخير، وهكذا(91/7)
تفسير قوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى)
قال تعالى: {فَذَكِّرْ} [الأعلى:9] (ذكِّر) يعني: عظ، ففيه حث على الوعظ، وهذا مسلك الأنبياء عموماً ومنهم: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال العرباض بن سارية: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) ، وكان موسى عليه الصلاة والسلام يعظ بني إسرائيل، فوعظهم مرة موعظة حتى بكوا منها واخضلت لحاهم بدموعهم، ورب العزة قال: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] فالموعظة مسنونة، لكن ينبغي ألا يكثر في الوعظ.
قال أهل العراق لـ ابن مسعود: لماذا لا تعظنا -يا ابن مسعود - أكثر مما تعظنا؟ قال: إني أكره أن أُملكم، إنما أتخولكم بالموعظة كما كان النبي يتخولنا صلى الله عليه وسلم بالموعظة، وكان ابن مسعود يحدثهم كل خميس.
فإذا قال قائل: فلماذا دروس العلم تقام يومياً؟ فالإجابة: هناك فرق بين العلم وبين الوعظ، فالوعظ: جانب من جوانب العلوم، لكن هناك علوم وفرائض يجب أن تُتعلم.
يقول الله سبحانه: {فَذَكِّرْ} أي: فعظ وخوف، ورغب ورهب.
{إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] ، ما معنى (إن) في هذا المقام؟ من العلماء من قال: (إن) بمعنى (قد) ، فالمعنى: فذكر فقد تنفع الذكرى.
ومن العلماء من قال: هنا مقدر محذوف، والتقدير: فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع.
ومن أهل العلم من قال: (إنْ) في هذا المقام بمعنى: (حيث) ، فالمعنى: فذكر حيث تنفع الذكرى، فعلى هذا الأخير لا تكون التذكرة إلا إذا ظن الشخص أنها ستنفع، أما إذا ظن الشخص أن التذكرة ستسبب بعداً عن الدين أو سباباً للدين؛ فالأولى الإمساك عنها.
أي: إذا كان الواعظ يظن والتذكرة ستنفع هذا الشخص، أو إذا لم تنفعه التذكرة فلن يأتي منه شر؛ فحينئذ يذكره، لكن إذا كان الشخص يتوقع من حاله أنه إذا ذكر سب الدين، ففي هذه الحالة يمسك عنه؛ لأن التذكرة ستؤدي إلى مفسدة أعظم من حاله التي هو عليها، فمن العلماء من قال: (إن) هنا بمعنى: (حيث) ، وهذا له شواهد في اللغة والشرع، فالوعظ قد يمسك عن التذكرة لأقوام خشية أن ينالوا الشرع بسوء، فمن الناس من إذا جئت تذكره يسب السنة والدين!! ففي هذه الحالة الإمساك عن تذكرته أولى وأنفع، وبعض العلماء -كما سمعتم- يقول: (إن نفعت الذكرى) بمعنى: (حيث تنفع الذكرى) ، ومنهم من يقول: فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع، ممكن تقول لواحد شقي: افعل كذا وكذا، فيقول لك: تعلمني يا ابن الكلبة!! ويشتم.
{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى:10-11] أي: سيتعظ من يخاف الله، ويتجنب هذه التذكرة الشقي الذي كتب في علم الله أنه سيموت على الكفر.
{سَيَذَّكَّرُ} [الأعلى:10] أي: سيتعظ وينتفع بالتذكرة من يخشى، {وَيَتَجَنَّبُهَا} [الأعلى:11] يبتعد عنها وعن الانتفاع بها الأشقى.
قال فريق من أهل العلم: المراد بالأشقى: الكافر الذي سبق في علم الله أنه سيموت على الكفر، والتقييد بما سبق في علم الله؛ لأن هناك كفاراً انتفعوا بالذكرى، فالصحابة كانوا كفاراً، ولما ذكرهم الرسول عليه الصلاة والسلام تذكروا.
{الَّذِي يَصْلَى} [الأعلى:12] أي: يدخلها يصلي بحرها، ويذوق هولها.
{الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:12] لماذا وصفت النار بأنها كبرى؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ناركم التي توقدون عليها جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم!) .
{ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13] أي: لا هو بميت فيستريح، ولا هو بحي يحيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت في صورة كبش، فيوقف على قنطرة بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون، فيقولون: نعم هذا الموت، وينادى: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت، فيذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار) ، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39]-الذي هو ذلك اليوم- {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39-40] فالحسرة متعددة على الكافر، يوم موت الكافر يوم حسرة عليه، فبعد الموت لا مجال للتوبة، ويوم ذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار يوم حسرة أيضاً على الكفار، فبعد ذلك لا مجال أبداً للرأفة ولا للرحمة ولا لأي شيء.
{ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} كما قال تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] .(91/8)
تفسير قوله تعالى: (قد أفلح من تزكى)
قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] ، (الفلاح) : هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، والمطلوب هو: الجنة، والمرهوب هو: النار، (فأفلح) معناها: قد فاز بمطلوبه ونجا من مرهوبه.
(من تزكى) : (مَنْ) بمعنى: الذي (تزكى) أي: زكى نفسه من الشرك ومن المعاصي، ومن العلماء من قال: تزكى: من الزكاة، أي: أخرج الزكاة، لكن القول الأول أقرب، وعليه كثير من أهل العلم في هذه الآية، كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] أي: زكى نفسه، ففي قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قولان مشهوران: القول الأول: تزكى من الذنوب، أي: تطهر من الذنوب والمعاصي والشرك.
القول الثاني: تزكى أي: أخرج الزكاة، والقرينة التي تؤيد قول من قال: إن المراد بالتزكي: إخراج الزكاة، قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] فقالوا: ذكر الصلاة بعد الزكاة، وحمل بعضهم ذلك على زكاة الفطر وصلاة عيد رمضان، وقال آخرون بالعموم.(91/9)
تفسير قوله تعالى: (بل تؤثرون الحياة الدنيا)
قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16] أي: تقدمون وتفضلون الحياة الدنيا على الآخرة، وقيل للدنيا: دنيا، لقرب زوالها، فالأدنى: هو الأقرب، والدنيا: هي القريبة، أي: قريبة الزوال.
{وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا} [الأعلى:17-18] أي: المذكور في هذه السورة كلها، أو على وجه الخصوص ذكر إيثار الحياة الدنيا موجود مثبت في الصحف الأولى، ففي قوله: (إِنَّ هَذَا) قولان: القول الأول: الإشارة ترجع إلى كل ما ذكر في هذه السورة.
القول الثاني: ترجع إلى أقرب مذكور، وهو: إيثار الحياة الدنيا، أي: أن الخلق يؤثرون الحياة الدنيا، كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20-21] ، فهذا الشيء بالضبط موجود في الصحف الأولى، ومثبت ومسطر في الصحف الأولى.
ما هي الصحف الأولى؟ {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ} [الأعلى:19] ، فدل ذلك على إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم نزلت عليه صحف، كما قال الله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:36-37] أي: وبما في صحف إبراهيم الذي وفى أيضاً.
{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:19] موسى صلى الله عليه وسلم ذكرت له صحف، وذكرت له التوراة، وذكرت له الألواح، فهل الألواح والتوراة والصحف الأولى التي نزلت على موسى هي مسمى لشيء واحد؟ هل نقول: إن التوراة هي: صحف موسى وهي الألواح، أم هي ثلاثة أشياء؟ لأهل العلم قولان في هذا الباب، ولا دليل يحكم به في هذه القضية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى) (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) فالتحذير من إيثار الدنيا على الآخرة ليس موجوداً في شرعنا فحسب، بل هو على لسان الأنبياء عموماً، فهناك أمور يدعو إليها جميع الأنبياء وهناك أمور يحذر منها جميع الأنبياء، فجميع الأنبياء يدعون إلى التوحيد، ويحذرون من الشرك، ويرغبون في الآخرة، ويزهدون في الحياة الدنيا، ويحذرون من المسيح الدجال، كما قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا وقد أنذره قومه، ألا وإني أنذركموه: إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور) .
هذا، وقد كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يحث على قراءة سورة: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) في الصلوات، ففي صلاة العشاء يقول لـ معاذ: هلا صليت بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) ، وكان يقرأ بها في الركعة الأولى من صلاة الوتر، ويقرأ في الثانية: بالكافرون، وفي الثالثة: بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ بها في الركعة الأولى من صلاة الجمعة، وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ بها أحياناً في العيدين، ويسن أن يقرأ بقصار المفصل في صلاة العشاء، وفي صلاة المغرب على وجه الخصوص، وإن قرأ أحياناً بغيرها فلا بأس، لكن هذا يكون الغالب، كما قال النبي لـ معاذ: (أفتان أنت يا معاذ! هلا صليت بـ (الشمس وضحاها) و (سبح اسم ربك الأعلى) و (الليل إذا يغشى) و (والسماء والطارق)) ، كما في الروايات، فالأتبع للسنة أن تقرأ سورة من قصار المفصل كاملة في الصلاة، أو تقرن بين سورتين إن شئت، فهذا هو الأقرب إلى اتباع سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن قرأت بغير ذلك جائز ولا إشكال في ذلك، لكن لا يستعرض الإمام عضلاته على المصلين، فإن هناك من الأئمة من يلزم المصلين بطريقته وبحفظه، فهو يحفظ القرآن، ويقرأ لهم مثلاً في صلاة الفجر بعشر آيات من سورة البقرة، ثم في صلاة المغرب يكمل العشر الآيات التي بعدها، وهكذا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(91/10)
تفسير سورة الغاشية
سورة الغاشية من السور التي جاء فيها بيان أحوال طائفتين من الناس: الطائفة الأولى هم أهل الوجوه الخاشعة الذين حق عليهم العذاب، والطائفة الثانية هم أهل الوجوه الناعمة الذين أعد الله لهم النعيم المقيم إلى آخر ما جاء في هذه السورة العظيمة من الآيات التي تبين قدرة الله عز وجل ووحدانيته.(92/1)
تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث الغاشية)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فسنتناول بمشيئة الله تفسير سورة الغاشية، وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأ بسورة الغاشية في الركعة الثانية من ركعتي الجمعة، ويقرأ في الركعة الأولى: بـ (سبح اسم ربك الأعلى) .
يقول الله سبحانه وتعالى: {هَلْ أَتَاكَ} [الغاشية:1] ، من العلماء من قال: (هل) هنا بمعنى: (قد) ، فالمعنى: قد أتاك حديث الغاشية.
الخطاب لمن؟ منهم من قال: إنه للرسول صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من قال: إنه لعموم الإنسان.
فالمعنى على هذا الوجه: قد أتاك أيها الإنسان حديث الغاشية، أو قد أتاك يا محمد حديث الغاشية.
ومن العلماء من قال: إن هذا الاستفهام للتنبيه، ومجيء الاستفهام لقصد التنبيه له شواهد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم متعددة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ بن جبل! ثم سكت، ثم قال: يا معاذ بن جبل! ثم سكت، ثم قال: يا معاذ بن جبل! وكل مرة معاذ يجيب: لبيك وسعديك يا رسول الله، والرسول يسكت، ففي الثالثة قال: هل تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله إن هم فعلوا ذلك ألا يعذبهم) ، فاستفهم الرسول صلى الله عليه وسلم من معاذ حتى يلفت انتباه معاذ إلى ما سيلقى عليه، ولهذا نماذج متعددة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من العلماء من قال: إن الاستفهام للتنبيه، وقال آخرون: المعنى: إن كنت تسأل أيها الإنسان عن حديث الغاشية فقد جاءك حديث الغاشية.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ} [الغاشية:1] والحديث المراد به هنا: الخبر؛ خبر الغاشية، فكلمة (الحديث) لها عدة معان، فالقرآن حديث، قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] فأطلق على القرآن حديثاً، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث، وكلام الناس حديث، فالحديث يطلق على الكلام، ويطلق على الخبر.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] أي: خبر الغاشية، والغاشية للعلماء فيها قولان: القول الأول: أن المراد بالغاشية: النار، ومستند هذا القول: قوله تعالى: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50] تغشى أي: تغطي على وجوه الكافرين.
ومن أهل العلم من قال: إن الغاشية هي القيامة؛ لأنها تغشى الناس بأهوالها وكروبها.
ومن أهل العلم من قال: إن الغاشية هي النار وهي القيامة معاً، فلم يرد خبر يقصر الغاشية على النار دون القيامة، ولا يقصر الغاشية على القيامة دون النار، فالقول بالتعميم أولى، فالنار غاشية، والقيامة -أي: الساعة- غاشية، لأنها تغطي على كل ما سواها من أخبار وفظائع وأنباء.(92/2)
تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذٍ خاشعة)
قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] .
ما هي متبوعات هذه الغاشية؟ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2] من أهل العلم من قال: إن الوجوه الخاشعة هي: وجوه الكفار، لقول الله سبحانه وتعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى:45] يعني: هؤلاء هم الكفار، وتأيد هذا القول بأن الله وصف وجوهاً بأنها خاشعة، وبعد آيات قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] فهناك وجوه خاشعة، ووجوه ناعمة، فقالوا: إن الوجوه الخاشعة هي: وجوه الكفار، والوجوه الناعمة هي: وجوه أهل الإيمان، ومن أهل العلم من قال: إن الوجوه الخاشعة عموم الوجوه، فكل الوجوه تخشع -أي: تخاف- لقوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108] لكن القول الأول أصح، لذكر الوجوه الناعمة بعد ذلك، فالمراد إذاً -والله أعلم- بالوجوه الخاشعة: وجوه أهل الكفر، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} وأصل الخشوع هو: الخضوع والذل، والخشوع يطلق على الخضوع، ويطلق على الذل، ويطلق على الانخفاض كذلك، كما قال الله: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر:7] أي: ذليلة أبصارهم ومنخفضة أبصارهم، ونقول: رجلٌ خاشع في صلاته.
أي: خاضع ومنكسر بين يدي ربه سبحانه وتعالى.(92/3)
تفسير قوله تعالى: (عاملة ناصبة، تصلى ناراً حامية)
قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2-4] ، قد يطرح سؤال فحواه: هذه الوجوه الخاشعة: كيف جمعت بين الخشوع بين كونها تصلى النار في قوله تعالى: وبين قوله: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} ؟! المعهود أن من مستلزمات الخشوع أن يأمن العبد، لكن الإجابة: أن الخشوع في الدنيا غير الخشوع في الآخرة، فالخشوع من الله سبحانه وتعالى في الدنيا يتبعه أمنٌ في الآخرة، أما عدم الخشوع لله في الدنيا يتبعه ذلٌ وانكسارٌ في الآخرة، فالخشوع والذل في الآخرة للكفار غير خشوع المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى في الدنيا، فمن كان يسجد لله ويذل نفسه لله سبحانه وتعالى في الدنيا فهو آمن في الآخرة، ومن استكبر عن السجود في الدنيا أذل في الآخرة، كما جاء في حديث صحيح البخاري وغيره: (ويأتي رب العزة سبحانه وتعالى فيكشف عن ساق، أو فيكشف عن ساقه، ويأتي يسجد له كل من كان يسجد له في الدنيا، ويأتي من كان يسجد رياءً وسمعة كي يسجد، فيخر لوجهه طبقاً واحداً، لا يستطيع السجود) ، كما قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم:42-43] .
قوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} يعني: متعبة، ومنه: قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] أي: إذا فرغت من أعمالك الدنيوية ((فَانصَبْ)) أي: فاجتهد واتعب في عبادة ربك سبحانه وتعالى، واتعب في دعاء ربك سبحانه وتعالى، على قول.
القول الثاني: إذا فرغت من الصلاة، ((فَانصَبْ)) أي: فاجتهد في الدعاء بعد الصلاة، وهو قول قتادة، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن خديجة: (إن جبريل بشرها ببيت من القصب لا نصب فيه ولا وصب) .
فالنصب هو: التعب، فقوله سبحانه وتعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} يعني: الوجوه الخاشعة، أو هي وجوه قوم حالهم أنهم يعملون وينصبون، يعملون ويتعبون، فيطرح هنا
السؤال
متى هذا التعب؟ ومتى هذا النصب؟ من العلماء من قال: إن هذا التعب والنصب في الآخرة، يعني: أن أصحاب الوجوه الخاشعة لا يعملون أعمالاً مريحة، وإنما يعملون أعمالاً شاقة مرهقة متعبة، فإن قال قائل: وهل في الآخرة عمل ونصب؟ الإجابة: نعم.
أهل النار ليسوا في سجن وعذاب في النارِ فقط، بل يسميه العامة: أشغال شاقة مؤبدة مضافة إلى السجن الذي هم فيه، وليس كتأبيد الأشغال في الدنيا، بل خالدين مخلدين فيها، فإن قال قائل: ما هذه الأعمال التي يعملوها في النار؟ ف
الجواب
من هذه الأعمال: الصعود والنزول -يعني: يصعدون في النار في جبال وينزلون- كما قال تعالى: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن:17] ، وكما قال سبحانه: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17] أي: سأتعبه في الصعود، والصعود في الدنيا يتعب، فأنت إذا صعدت بيتاً مرتفعاً أو سلالم مرتفعة تتعب وترهق، فما بالك إذا صعدت في النار؟ إضافة إلى عذاب النار ولهيبها يرهق أيضاً فيها بالصعود، فإن قال قائل: وهل النار فيها انخفاضات وارتفاعات؟ فالإجابة: نعم.
ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه إذ سمع صوتاً، فقال لأصحابه: (أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجرٌ ألقي في النار منذ سبعين خريفاً فلم يصل إلى قعرها إلا الآن) فالشاهد: أن من أنواع العمل؛ العمل المرهق المتعب في النار، وهو: أن يرهق الشخص فيها صعوداً -أي: يصعد في النار- كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] فالذي يصعد في السماء، يتعب ويرهق ونفسه ينيقطع، ففي النار عذاب إضافة إلى كونها ناراً، عذاب الصعود، كما ذكره الله سبحانه وتعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} وقوله: ((يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا)) ، ومن أهل العلم من قال: إن النار من شدة حرِّها ترفعهم فيها وتخفضهم، وهذا أيضاً نوعٌ من العمل، وذلك مثل القدر الذي يغلي بالماء وتحته نارٌ شديدة، فإنك عندما تضع فيه مثلاً بطاطس، فإن البطاطس تصعد إلى أعلى وتنزل ثانيةً، وهكذا تفعل بهم هذه النار الشديدة، ترفعه إلى أعلى ثم يهبط، ثم يرفع إلى أعلى وهكذا، فأحد الأقوال في تفسير العمل الذي يعمله أهل هذه الوجوه الخاشعة أن العمل: الصعود في النار، وقول آخر: إن المراد بالعمل هو: التلاعن الدائم بين أهل النار، فهم فدائماً في سباب وتلاعن، كما قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر:47] الآيات، وكما قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] ، ومن هذا العمل أيضاً: الصياح والعويل والدعاء على أنفسهم بالهلاك، كما قال الله سبحانه وتعالى: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:14] ، إلى غير ذلك من الآيات، فمن أنواع العمل: العتاب الزائد، والتلاعن الزائد بين أهل النار، كما قال تعالى أيضاً: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] وكما قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ، فمن أهل العلم من قال: إن هذا العمل والنصب يعني: هذا العمل المتعب المرهق يكون في النار، ومن أهل العلم من قال: إن هذا العمل وهذا النصب يكون في الدنيا، فأصحاب هذه الوجوه الخاشعة عملوا أعمالاً وأنفقوا أموالاً طائلة، وعملوا أعمالاً كبيرةً في دنياهم ولكنهم لم ينتفعوا بهذه الأعمال، بل ذهبت هذه الأعمال سدىً، كما قال تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد:6] أي: أنفقت كثيراً من الأموال في عداوة محمد وعداوة المسلمين، وكما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، وكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] ، وكما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:18] ، فمن العلماء من قال: أن هذا العمل والتعب كان في الدنيا لكن لم ينتفعوا بهذا العمل في الآخرة، كما قال جل ذكره: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:103-105] ، لكن القول الأول أن هذا العمل والنصب في الآخرة قول أكثر المفسرين، وهو القول الصحيح، لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} بعد قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فخشوع وجوه أهل الكفر يكون يوم القيامة.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي: ذليلة ساكنة؛ أسكنها الذل، وأسكنتها جرائمها وشركها بالله، فذلت وانكسرت يوم القيامة.
{تَصْلَى نَارًا} [الغاشية:4] (تَصْلَى) أي: تذوق، أو ترد، أو تدخل، فكله من معنى {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ناركم التي توقِدون، جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم) .(92/4)
تفسير قوله تعالى: (تسقى من عين آنية)
قال تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5] ، ما معنى آنية؟ الآنية هي: التي بلغت أعلى درجات الحرارة، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] ، إناه: يعني: نضجه واستواؤه.
((لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ)) فكان البعض يتحين وقت نضج الطعام في بيت رسول الله، فإذا ظن أن الطعام طبخ واستوى استأذن ودخل حتى يأكل من الطعام، فالمراد (بإناه) : نضجه واستواؤه، كذلك ((عَيْنٍ آنِيَةٍ)) فالعين: معروفة، أما الآنية، فهي التي بلغ الماء فيها أعلى درجات الحرارة.(92/5)
تفسير قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع)
قال الله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] الضريع: بعض أهل العلم يقولون: هو طعامٌ خبيث من نبات يقال له: ضريع يعرفه العرب، وهو سمٌ من السموم، يمزق الأمعاء في الدنيا، لكن ضريع الآخرة أشد.
{لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} فإن قال قائل: كيف قيل هنا: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} وفي الآية الأخرى: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:36] وهو: صديد أهل النار، أو غسالة أهل النار، فكيف يوفق بين هذه الآيات؟ من العلماء من قال: إن هذا محمولٌ على التنوع، فمن الكفار من ليس لهم طعام إلا من ضريع، وكفار آخرون ليس لهم طعامٌ إلا من غسلين، فأهل النار يتفاوتون في العذاب، كما قال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، وكما قال جل ذكره: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما سأله العباس وقال: يا رسول الله! أبو طالب كان يحوطك ويرعاك ويمنعك فهل نفعته بشيء، قال: (نعم.
هو في ضحضاح من نار يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) فدلت هذه النصوص على أن أهل النار يتفاوتون في العذاب، كما قال جل ذكره: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88] ، وكما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:12-13] فدلت هذه النصوص على أن أهل النار يتفاوتون في العذاب.
الشاهد: أن من أهل العلم من قال: إن هناك طوائف من أهل النار طعامها الغسلين، وطوائف من أهل النار طعامهم ضريع، وقولٌ آخر: إن الأطعمة تتنوع لكن في وقت معين طعامهم الضريع ليس لهم إلا الضريع، فمثلاً: ألف سنة طعامهم الضريع، وألف سنة أخرى طعامهم الغسلين، ليس لهم إلا هو، ((لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ)) وثم أقوال أخر.
{لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} وهل الضريع والغسلين طعام حتى يقال: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} ؟ الإجابة: أن الضريع والغسلين أطلق عليهما تجوزاً: طعام وإلا فهما كما قال سبحانه: {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7] ، ومن العلماء من قال: هو استثناء منقطع، ليس لهم أكل لكن لهم الضريع، كما قال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس فاليعافير ليست بأنيس.
قال سبحانه: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} * {لا يُسْمِنُ} هذا الضريع لا يسمن الأجسام، ((وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)) فلما كان {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} فوجه الضرر فيه محض؛ أنه لا يشبعهم بل يزيدهم ألماً إلى آلامهم.(92/6)
تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة)
قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} كما أسلفنا أن من أهل العلم من قال: إن من أسباب تسمية الآيات مثاني، وإطلاق المثاني على آيات القرآن: أنه يأتي بأوصاف قومٍ وأوصاف قومٍ مقابلين لهم، فلما ذكر الله سبحانه أوصاف الكافرين {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} ثنى بوصف حال المؤمنين فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} ، فمن أهل العلم من قال: إن المراد بالوجوه الناعمة: المتنعمة التي تعيش في نعيم، ومنهم من قال: الوجوه التي ظهر عليها أثر النعمة وأثر النعيم، وفي هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} ما يستدل به، لقول القائلين بأن أهل الإيمان لا يعتريهم خوف يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26] وهذه مسألة اختلف فيها بعض الاختلاف ألا وهي: هل أهل الجنة يعتريهم شيء من الخوف والحزن يوم القيامة أو أن هذا الخوف والحزن لا يعتري إلا الكفار؟ من أهل العلم من قال: إن الخوف والحزن لا يعتري إلا الكفار، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] أي: عند الموت {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:30-31] ، وكما قال تعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68-69] ، ومن أهل العلم وهم الأكثر من قال: إن أهل الإيمان يعتريهم هذا الخوف والحزن لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل: (قول كل نبي من الأنبياء: نفسي نفسي، إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله) الحديث، ولقول المرسلين على جنباتي الصراط: (رب سلم سلم) ، ولقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] ، وبعد ذلك يكون المآل إلى الطمأنينة والأمن بالنسبة لأهل الإيمان، والله أعلم.(92/7)
تفسير قوله تعالى: (لسعيها راضية)
قال تعالى: {لِسَعْيِهَا} [الغاشية:9] والمراد بالسعي: العمل الذي عملته في الدنيا تتقرب به إلى الله، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19] .
مشكوراً مِن مَن؟ من أهل العلم من قال: مشكوراً من الله سبحانه وتعالى، وهذا رأي الأكثرين، وفريقٌ قالوا: مشكوراً من الله، ومشكوراً من أصحاب العمل أنفسهم، سيشكرون سعيهم يوماً ما.
قال الله سبحانه: (لِسَعْيِهَا) أي: لعملها الذي عملته في الدنيا راضية، أي أن أصحاب هذه الوجوه راضون عن سعيهم وعملهم الذي عملوه في الدنيا، ومن العلماء من قال قولاً آخر، فقال: إن معنى: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية:9] أي: أنها راضية بالثواب الذي أعطاه الله لها مقابل السعي، وراضية بالأجر الذي أعطيته مقابل هذا السعي، فشخصٌ -مثلاً- تصدق بلقمة من كسب طيب فأخذها الله سبحانه وتعالى ورباها ونماها له حتى تأتي يوم القيامة كالجبل العظيم، ما له ألا يرضى وقد تضاعف الأجر إلى هذا القدر؟! ورجلٌ عمل حسنة فجاءت يوم القيامة بعشر أمثالها، ما باله لا يرضى؟ ورجلٌ عمل حسنة فجاءت يوم القيامة بثمانمائة ضعف، ما باله لا يرضى؟ فقال هذا الفريق: إن معنى قوله سبحانه: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي: لثواب سعيها راضية، وأيد هؤلاء العلماء قولهم بأن المؤمن لا يكاد يرضى بالقدر الذي عمله من الخير في الدنيا يوم القيامة، بل يتمنى أنه عمل خيراً أكثر من ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في معنى الحديث: (ما من أحدٍ يموت له عند الله خير يرجو أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد) فمع أنه شهيد وقتل في سبيل الله، لكن يريد أن يرجع إلى الدنيا حتى يقتل في سبيل الله، وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا ثم أقتل) الحديث.
إلخ، فتمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل مرات في سبيل الله، فأهل الصلاح يتمنون يوم القيامة أنهم لو زادوا من الخير، هذا قولٌ من الأقوال.
والله أعلم بالصواب.
إذاً: فمعنى قوله سبحانه وتعالى: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} فيه قولان: أولاً: المراد بالسعي هو: العمل، لكن من العلماء من أجرى التفسير على ظاهر الآية، ومنهم من قدر إضماراً فيها.
يعني: منهم من قال: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي: هي راضية عن عملها الخير الذي عملته في الدنيا، ترجو به وجه الله سبحانه وتعالى، فقد وجدته في الآخرة.
القول الثاني: أنها لثواب سعيها وللمقابل الذي أخذته لسعيها راضية عن هذا المقابل وشاكرة لهذا المقابل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله يوم القيامة لأهل الجنة: يا أهل الجنة! هل تريدون شيئاً أزيدكم؟! فيقولون: يا ربنا! وهل فوق ما أعطيتنا؟ ألم تبيض وجوهنا، ألم تجرنا من النار، فيقول الله سبحانه: أحلل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً) الحديث.(92/8)
تفسير قوله تعالى: (في جنة عالية، لا تسمع فيها لاغية)
قوله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية:10] يستفاد من هذه الآية ضمناً وليس صريحاً: أن الجنة في السماء، أما الدليل على ذلك من السنة: حديث المعراج؛ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما تجاوز السماء السابعة وصل إلى سدرة المنتهى، ورب العزة يقول: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:14-15] ، {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} من العلماء من يقول: عالية القدر، لكن هي عالية القدر، وعالية المكان كذلك.
{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} هل يستفاد من علو الجنة زيادةٌ في النعيم؟ من العلماء من قال أو أومأ إلى ذلك، وذلك لأن السقف إذا كان منخفضاً يتضايق السكان الذين فيه، فإذا كان مرتفعاً ينفس على من بداخله، وهذا واضح، فمن العلماء من قال: يستفاد من علو الجنة -أي: علو سقفها، وفوقها عرش الرحمن- يستفاد منها زيادة النعيم، قوله: {لا تَسْمَعُ فِيهَا} [الغاشية:11] أي: لا تسمع في الجنة {لاغِيَةً} [الغاشية:11] ، منهم من قال: لا تسمع في الجنة نفساً لاغية، كما قال سبحانه: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25-26] حتى إن شرب الخمور، لا يسكرهم ولا يذهب بعقولهم، ويحملهم على السباب والشتائم، كما قال تعالى: {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23] أي: من جراء شرب الكئوس {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الطور:23-24] فليس في الجنة يا ابن كذا، ولا يا ابن كذا، ولا سخرية من بعضهم البعض، ولا أي شيء قبيح يضايق، ولا كلمات جارحة، ولا سباب، ولا أفعال، ولا غمز، ولا لمز، ولا همز، ولا عيب، ولا غير ذلك من الشتائم.
{لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} ، كقوله: {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} ، وكقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] ، لا تسمع فيها كلمة تنكد وتعكر عليك أبداً.
{لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية:11-12] ، قال الله هنا: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} وفي الآية الأخرى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:50] ، وفي الثالثة: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] ، فهناك عينٌ وعيون، وكلٌ في النعيم بحسب عمله.(92/9)
تفسير قوله تعالى: (فيها سرر مرفوعة)
يقول الله سبحانه: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13] .
لماذا كانت هذه السرر مرفوعة؟ من العلماء من قال: إن هذه السرر رفعت كي يطلع أهلها على النعيم الذي أعد لهم في الجنة.
{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية:13-14] والأكواب هي: أكواب الدنيا المعروفة، ومن العلماء من قال: الأكواب ما لم يكن له عروة ولا خرطوم.
{وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} أما موضوعة، فمن أهل العلم من قال معناها: حاضرة، أي: جاهزة مستعدة إذا طلبت الماء أو طلبت أي شراب، فتأتيك الأكواب جاهزة معدة، ومنهم من قال: موضوعة بجانب العين الجارية.
{وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ} [الغاشية:14-15] ، والنمرقة هي: النمارق التي يتكأ عليها كالوسائد.
{وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} [الغاشية:15] يعني: الوسائد التي يتكأ عليها مصفوفة.
{وَزَرَابِيُّ} [الغاشية:16] من أهل العلم من قال: إنها العبقري الحسان، وهي السجاجيد ونحوها التي تفرش على الأرض، {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:16] مبثوثة أي: منتشرة، متفرقة هنا وهناك، كما في قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] (بث) أي: فرق ونشر.(92/10)
تفسير قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت.)
قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] من أهل العلم من قال: فمن طرح له
السؤال
لماذا مُثل بالإبل ولم يمثل مثلاً بالفيل وهو أعظم خلقاً من الجمل؟ فأجاب الحسن البصري رحمه الله تعالى على ذلك بقوله: إن الفيل لم يكن معروفاً عند العرب كمعرفتهم للإبل، وقال أيضاً: ثم إن الفيل كالخنزير، لا يؤكل لحمه، ولا يركب ظهره، ولا يحلب دره، أما الناقة، فيحلب لبنها، ويركب ظهرها، ويؤكل لحمها، فوجه الانتفاع بالجمال أكبر بمراحل من الانتفاع بالفيل، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} على هذه الحال من فضل الخلق، كما هي ظاهرة بادية أمام أعينكم معشر العرب.
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} إن قال قائل مثلاً: لماذا لم يقل: أفلا ينظرون إلى الشياه كيف خلقت؟ فالمطرد: أن توجيه النظر يكون إلى الأعظم دائماً، فالعرب كان كثيرٌ منهم أهل فخر واختيال، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الفخر والخيلاء قال: (الفخر والخيلاء من الفدادين أهل الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم) ، يعني: أهل الإبل ينظرون إلى الناقة ورأسها مرتفع في السماء وأهلها يشتبهون بها، وتجده أعرابياً جلفاً جافاً ومع ذلك مستكبر غاية الكبر، ولا يبالي بأي شخص؛ لمعاشرته للجمال، أما الذي يرعى الغنم يكون فيه سكينة ووقار، فلا يخفى عليك أن الشاة دائماً رأسها منكساً في الأرض، فيكون أهل الشياه أهل تواضع، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبيٍ إلا ورعى الغنم) لذلك تجد في الأنبياء تواضع، فإذا مثلت للأعرابي: أفلا ينظرون إلى الشياه كيف خلقت؟ يحتقر التمثيل ويقول: لا أريد أن أكون من أهل هذه الشياه.
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:17-21] حالك أنك مذكر، ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] ، وبين قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] لأن في باب التذكرة أنت فقط مذكر، وأمر الهداية مرده إلى الله، إلا أن من أهل العلم من قال: أن هذه الآية مسبوقة بآية السيف، لكن منهم من حملها على أنها في باب التذكير؛ وليس لك إلا التذكير، لأنك لست بمجبرٍ لهم، ولا بمسلط على قلوبهم فيؤمنوا، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] * {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] ، وكما في الآية الأخرى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45] ، لست بمكره لهم على الإيمان.
{إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية:23] من أهل العلم من قال: (إِلَّا) هنا بمعنى: (لكن) ، فالمعنى: لكن من تولى وكفر، {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:24-25] أي: رجوعهم، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:26] أي: يوم رجوعهم إلينا.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(92/11)
الأسئلة(92/12)
الجمع بين الأمر بترك صيام آخر شعبان وفعل النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، وحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله) وفي الرواية الأخرى: (إلا قليلاً) كيف يمكن التوفيق بينهما؟
الجواب
حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) الراجح بلا تردد أنه ضعيفٌ لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قول يحيى بن معين، وقول الإمام أحمد بن حنبل، وقول ابن عدي رحمه الله تعالى، وقول طائفة كبيرة من أهل العلم، وقد اعتبروه من الأحاديث التي استنكرت على بعض رواته وهو العلاء بن عبد الرحمن، ومن العلماء من حسن الحديث بناء على أن الحديث من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، وهذا الإسناد مركب عليه عدة أحاديث في صحيح مسلم، لكن هذا الحديث بالذات ليس في مسلم، فقالوا: إسناده حسن، لكن العلماء الذين ضعفوه قالوا: هذا الحديث من الأحاديث التي أخذت على العلاء.
يعنى: قد يكون الراوي ثقة، لكن لا ينفي بعض الأحاديث، فقالوا: من الأحاديث التي استنكرت على العلاء هو هذا الحديث، ومن العلماء من ضعف العلاء مرة واحدة بسبب روايته لهذا الحديث، من الذين ضعفوه يحيى بن معين، والإمام أحمد، وابن عدي رحمه الله تعالى، وغيرهم جمع كبير من العلماء.
إذاً: لا إشكال، فالباب قد فرغ بحديث: (كان يصوم شعبان كله إلا قليلاً) ومما يدل على تضعيفه أيضاً: (أن النبي نهى عن صيام يوم الشك إلا إذا وافق صوم أحدكم) فمعنى ذلك قد يوافق صوم أحدكم يوم الشك، فإذا كنت تصوم الإثنين والخميس وجاء يوم الشك يوم الإثنين، فصم يوم الإثنين ولا شيء عليك، وهذا يوم الشك يعني يوم الثلاثين من شعبان وهو بعد منتصف شعبان، لكن أيضاً يلتمس الجمع لمن حسنوه، ووجه الجمع: أن النهي في قوله: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ليس النهي للتحريم، ولكن للتنبيه، فالمعنى: من كان يشق عليه أن يواصل صيام النصف الثاني من شعبان برمضان، يعني إذا صمت مثلاً خمسة عشر يوماً من النصف الثاني من شعبان، فيأتي رمضان ويشق عليك المواصلة، فلا تصم هذه الأيام حتى تتفرغ وتتقوى للفريضة، أما من استطاع أن يصوم هذه الأيام مع رمضان، فليصمها، على فرض تحسين الحديث، والله سبحانه أعلم.(92/13)
حكم الصلاة على الفرش المزخرفة برسم الصليب
السؤال
في بعض المساجد والمنازل على السجاد والمفروشات علامة الصليب فهل يجوز أن نصلي عليها أم لا؟
الجواب
الصلاة عليها جائزة مع الكراهة، أما الكراهة لأمرين: الأمر الأول: أنها تشغل المصلي، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خميصة لها أعلام مخططة بخطوط، فلما انصرف من صلاته قال: (اذهبوا بخميصتي هذه وأتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) فقال عمر: (إياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) ، ثم أيضاً في صحيح البخاري من طريق عمران بن حطان، عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع الصليب إلا نقضها) ، والله أعلم.(92/14)
حكم الصلاة مع الجماعة الثانية والثالثة بنية النافلة
السؤال
ما حكم الجماعة الثانية والثالثة والرابعة في الصلاة أثناء النافلة؟
الجواب
الجماعة الثانية في المسجد صحيحة، وقد قدمنا الأدلة على ذلك، منها: حديث (من يتصدق على هذا) .(92/15)
حكم محاسبة الرجل على معصية زوجته
السؤال
هل يحاسب الإنسان على معصية زوجته؟
الجواب
إن كان يستطيع كفها عن هذه المعصية وقصر، أما إن لم يستطع كفها عن هذه المعصية فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.(92/16)
حكم اعتكاف المرأة في البيت أو في المسجد
السؤال
هل الأفضل للمرأة الاعتكاف في البيت، أم الاعتكاف في المسجد؟
الجواب
الأدلة بعمومها تدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، لحديث: (صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد -أو صلاتها في حجرتها خير من صلاتها في بيتها- وصلاتها في مخدعها خير من صلاتها في حجرتها) والحديث من مجموع الطرق صحيح، وإن كان أبو محمد بن حزم يغمز في الحديث ويضعفه، لكن أكثر الأئمة على تصحيحه، فهو صحيح بمجموع الطرق، والله أعلم.
فإن اعتكفت المرأة في المسجد جاز لها، لكن هل يجوز لها أن تعتكف في بيتها؟ لم أعلم دليلاً أن صحابية من الصحابيات اعتكفت في بيتها، ولا أعلم دليلاً على أن صحابية اعتكفت الاعتكاف المشروع في بيتها، وإذا كان أحد يملك دليلاً يدل على ذلك فليتحفنا به، والصلاة فيها الدليل: (أن الصلاة في بيتها أو في حجرتها أو في مخدعها أفضل من صلاتها في المسجد) لكن اعتكافها في بيتها؟! هي أصلاً في بيتها لا تخرج منه، لكن هل ورد أن صحابية على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفت في بيتها؟ هذا مما لا أعلمه، وأما بالنسبة لاعتكاف النساء في المسجد فقد اعتكفت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن.(92/17)
شفاعة القرآن لأصحابه
السؤال
هل القرآن والقيام يشفعان للعبد؟
الجواب
القرآن الحديث فيه ثابت، قال صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) ، أما الصيغة المذكورة في السؤال فلا أعلمها صحيحة.(92/18)
كيفية البحث في فتح الباري
السؤال
كتاب: (فتح الباري) كيف أستفيد منه؟
الجواب
هو مرتب على أبواب الفقه، كترتيب الإمام البخاري، وهو شرح لصحيح البخاري، فإذا أردت أن تبحث مسألة في الصلاة، فابحث في أبواب الصلاة واستخرج المسألة التي تريد، وإذا كنت تريد أن تذاكره بالتسلسل، فاقرأ متون البخاري، والمشكل عليك انظره في شرح الحافظ ابن حجر؛ حتى لا تمل.(92/19)
حكم النفقة على العيال
السؤال
امرأة كانت قد تزوجت من رجل وهي مطلقة من رجل آخر معها منه ستة أطفال ولا ينفق عليها، وعندما تزوجت من الرجل الآخر أمرها بأن تطلق منه، وهي الآن حامل من هذا الرجل، ويريدها أن تجهض هذا الجنين، وإلا فسوف يحرمها طليقها من أولادها؟
الجواب
طليقها ليس له أي تدخل في شأنها أبداً، وإنما عليه أن ينفق على أولادها الستة الذين هم أولاده.
ولزاماً عليه أن ينفق عليهم، وهو ليس بواجب عليه أن ينفق عليها، وإنما ينفق على أولادها هم وجوباًَ، فالرجل المطلق الأول يجب عليه أن ينفق على أولاده الستة، وإن خدمت له أولاده تعطى مقابل الخدمة، أما الإنفاق عليها فمهمة الزوج الجديد، لكن كون المطلق الأول يقول لها: اجهضي حملك، فليس له ملك ولا يطاع أبداًَ، إنما الذي يطاع زوجها الجديد ويطاع في غير معصية الله.(92/20)
حكم التجميل والعلاج بالزبادي والعسل
السؤال
هل التجميل والعلاج بالزبادي والعسل الأبيض يجوز إذا كان يعالج التشققات على الوجه؟
الجواب
إذا كان يعالج التشققات على الوجه فلا مانع من استخدام الزبادي والعسل، ولا بأس أبداً، وليس هناك مانع شرعي أبداً من ذلك إذا كان يعالج، لكن هنا في بلادنا أحياناً تظهر أشياء: كأن تسقط اللقمة على الأرض فيأخذها الناس ويقبلونها، ما مدى مشروعية هذا العمل؟ يقولون: نعمة ربنا، ويقبلونها، السنة أن يميط ما بها من أذى ويأكلها، لكن هو لن يأكلها، وإنما يأخذها ويقبلها، ويقول: نعمة ربنا، والعمل صحيح، لكن ليس عليه دليل فيما نعلم، فقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم تمرة على الأرض فقال: (لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها) ، (وإذا سقطت لقمة أحدكم فليتناولها وليمط ما بها من أذى وليأكلها) ، ونحن نتكلم على مسألة تقبيل العيش الملقي على الأرض وقول: (نعمة ربنا) يرفعها إذا خشي أن تمتهن فقط فلا أعرف دليلاً عليه، وعند أبي يعلى -وإسناده حسن- أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل مع عائشة، فدخلت سودة، فقالت عائشة لـ سودة: كلي، قالت: ما أنا بآكلة، قالت: كلي، قالت: ما أنا بآكلة، قالت: كلي أو لألطخن وجهكِ، فأبت، فقامت عائشة ولطخت وجه سودة بالطعام، فصنعت سودة بـ عائشة مثل الذي صنعت بها.
رواه أبو يعلى في مسنده بإسناد صحيح، وقد ورد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يترامون أحياناً بالبطيخ، فقد كان البطيخ أحياناً يصل إلى كميات كبيرة فتفسد، فيترامون بها، أما إبعادها عن الطريق وتقبيلها فلا أعلم عليه دليلاً إلا: (فليمط ما بها من أذى وليأكلها) .(92/21)
الحكم على حديث: (اطلبوا العلم ولو في الصين)
السؤال
ما صحة حديث: (اطلبوا العلم ولو في الصين) وإذا كان صحيحاً فَلِمَ يحرم بعض العلماء السفر إلى بلاد الإفرنج لطلب العلم؛ لأنها بلاد كفر في زعمهم؟
الجواب
الحديث ضعيف لا يثبت بحالٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما قولك: (بلاد كفر في زعمهم) فإن زعمك أنت خاطئ، فهي بلاد كفر، فإنجلترا وفرنسا كفار، لا يوجد عندنا شك، وأمريكا أكفر وأكفر، وروسيا أشد إلحاداً وكفراً، وهذه بلاد كفر، ولا شك في ذلك، لكن هل يسافر إليها؟ فالسؤال يكون: هل يشرع السفر إلى بلاد الكفر؟ والجواب عليه: إذا كانت هناك حاجة تنفع المسلمين في دنياهم جاز السفر لها.
باختصار: إذا كان الشخص إيمانه ضعيف وليس له حاجة في هذه البلاد، ويخشى عليه من الفتنة، فالذهاب إليها لا يجوز؛ لأنه سيرى مناظر عارية أمامه، وقد يشرب كئوساً من الخمور، أو يتعرض لها، فإذا كانت هناك حاجة تعود على المسلمين بالنفع في دنياهم فله أن يسافر إليها، أما إذا لم تكن هناك حاجة تعود على المسلمين بالنفع في دنياهم، أو في دينهم فلا يسافر إليها، والله أعلم.(92/22)
صلاة المرأة خلف زوجها في البيت
السؤال
إذا صلت المرأة مع زوجها، فهل تقف بجواره أم خلفه؟
الجواب
تقف خلفه لحديث أنس: (صليت خلف رسول الله والعجوز خلفنا) وحديث ابن عباس: (كنت عند خالتي ميمونة) الحديث.(92/23)
حكم منع الزوج زوجته من إعارة دفتر محاضراتها
السؤال
هل من حق الزوج أن يمنع زوجته أن تعير دفتر محاضراتها لدروس العلم إلى زميلاتها أم لا؟ وهل له حق الطاعة في ذلك؟
الجواب
سنجيب بمقتضى السؤال: ننظر، لماذا منع الزوج، ويذكر بحديث: (من كتم علماً) وإن كان في طرقه مقال، لكن يستدل بالآية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] ، ويذكر بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] ، ويذكر بحديث رسول الله: (والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه) ، لكن إن ذكر بكل هذا ولم يتذكر، فادفعي شره ولا تعيري دفترك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(92/24)
تفسير سورة البلد
لله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وفي هذه السورة العظيمة يقسم سبحانه بأحب البقاع إليه وهي قبلة المسلمين؛ أن الإنسان خلق في تعب ونكد ومكابدة لمتاعب هذه الحياة، ثم ذكر الله الإنسان وحثه على اقتحام العقبة الكئود حتى لا يتكرر عليه النكد يوم القيامة، وهذه العقبة يكون اقتحامها بإطعام المساكين، والنظر إلى المحتاجين، والعطف على الأيتام، وتفقد الأرامل.(93/1)
تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في سورة البلد: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] وهذا قد يرد عليه إشكال! فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالبلد، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1-3] ، فأقسم الله سبحانه وتعالى بالبلد.
والآية التي نحن بصددها: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} نافية للقسم بهذا البلد، وابتداء: البلد هي مكة، وقد نقل فريق من أهل العلم الإجماع على أن المراد بالبلد مكة، ثم نرجع فنقول: كيف نجمع بين قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} ، وبين قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3] ؟ للعلماء في ذلك أقوال: هذه الأقوال تنصب على تفسير: (لا) في قوله تعالى: (لا أُقْسِمُ) ، فمن العلماء من يقول: إن (لا) نافية لشيء قد تقدم، فالمعنى: أن المشركين كانوا ينكرون البعث، ويقولون: لا بعث، فقال الله لهم: (لا) فهناك بعث، ثم أكد هذا بقوله سبحانه: أقسم على ذلك بهذا البلد، هذا التأويل مبني على الربط بين السور ببعضها، وبين المعاني ببعضها، فهذا القول الأول، حاصله: أن (لا) نافية لشيء متقدم، ثم ابتدئ الكلام بقوله: أقسم على هذا المنفي بهذا البلد.
ووجه الاعتراض على هذا القول الأول: أن الأصل أن كل سورة مستقلة بنفسها، ولا دليل على أن نربط بين السورة والأخرى إلا إذا جاء في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: أن (لا) زائدة، ومثال ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:29] ، فقوله سبحانه: (لِئَلَّا يَعْلَمَ) المراد به: ليعلم، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12] ، فالمعنى: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك، و (لا) زائدة على قول بعض العلماء.
والشاهد من شعر العرب قول الشاعر: تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع فـ (لا) أيضاً هنا زائدة.
واعترض على هذا: بأنه ليس في القرآن حرف زائد، وأجيب عن هذا الاعتراض: بأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، ولغة العرب فيها أشياء زائدة كي يتكامل بها المعنى ويتسق.
القول الثالث: أن (لا) نافية، لكن ليس لشيء متقدم، إنما هو للشيء الآتي، فالمعنى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1-2] يعني: لا أقسم بهذا البلد أثناء وجودك، وقد أحللت لك هذه البلدة كما سيأتي بيانه، يعني: لا أقسم بهذا البلد أثناء وجودك فيه في الوقت الذي أحللت لك هذه البلدة تفعل فيها ما تشاء.
إذاً: هي ثلاثة أقوال للجمع بين قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} وبين قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3] : أحدها: أن (لا) نافية لشيء متقدم.
الثاني: أن (لا) زائدة.
الثالث: أن (لا) نافية باعتبار ما هو آت، يعني: لا أقسم بهذا البلد حينما أحللت لك هذه البلدة.
فقوله تعالى على فرض أن (لا) زائدة (أقسم بهذا البلد) ، فيه أن الله أقسم بالبلد، وبعض العلماء يورد هنا، وما كان في مثل هذا المقام تقديراً محذوفاً، فيقول مثلاً: قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] ، فيريد أن يفر من القسم بغير الله، وقال: إن الله لا يقسم إلا بنفسه، فقال: إن قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] ، (وَهَذَا الْبَلَدِ) فيها تقدير محذوف (لا أقسم بهذا البلد) أي: أقسم برب هذا البلد، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] أي: ورب الشمس وضحاها، وهذا القول قول ضعيف؛ لأنه إذا قلنا: إن المقدر ورب الشمس وما ضحاها، ورب القمر إذا تلاها، ورب النهار إذا جلاها، سنأتي إلى قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] سنقع في إشكال، فكيف نقول: ورب السماء ورب ما بناها؟! فالذي بناها هو الله، فهذا وجه تضعيف هذا القول.(93/2)
تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد)
قال تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ} [البلد:1-2] ما المراد بـ (أَنْتَ حِلٌّ) ؟ من العلماء من قال: إن (حِلٌّ) معناه: لست بآثم، كما تقول للشخص: أنت في حل من أمرك، أنت في حل من هذا الوعد، أنت لست بآثم إذا أخلفت هذا الوعد، وأنت لست بآثم إذا لم توف لي بهذا الأمر، فقوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ) أي: وأنت في حل، وما المراد بهذا القول؟ المراد أن مكة بلد حرام، حرمها الله على لسان نبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بل حرمها يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها -لا يجوز لك أن تطير الحمام من الحرم- ولا يعضد شوكها، ولا يلتقط لقطتها، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يقتل فيها الناس، فالبلد بلد حرام محرم.
الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مكة حراماً عليه كما أنها حرام على الناس، فيحرم على الرسول أن يرتكب فيها شيئاً من المذكور، لكنها أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار يوم الفتح، يفعل فيها ما يشاء، ويقتل من يشاء، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مكة بلد حرام حرمها الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا ينفر صيده) إلى آخر الحديث: (وإنها ما أحلت لأحد قبلي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار -أثناء فتح مكة- ثم رجعت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس إلى يوم القيامة) فأحلت مكة للرسول ساعة من النهار، قتل فيها بعض الناس، كما قال في شأن ابن خطل: (وإن وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة فاقتلوه) ، فقوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2] أي: وأنت في حل مما تصنع في الساعة التي أحللت لك فيها هذه البلدة عام الفتح، فهذا هو تأويل قوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ) عند الجمهور، أي: جمهور المفسرين.
وقول آخر: (وَأَنْتَ حِلٌّ) أي: قد استحل أهل هذه البلدة دمك، وهناك أقوال أخر لا نوصي بذكرها، المهم أن قول الجمهور هو الأول الذي سمعتموه.
فعلى هذا اتضحت وجهة من قال: إن (لا) نافية لشيء آت، فلا أقسم بهذا البلد في الساعة التي أُحلت لك فيها هذه البلدة، إنما أقسم بهذه البلدة في سائر الأوقات، وهذه وجهة من قال: إن (لا) نفي لشيء آت.
وهنا اعتراض على هذا التأويل وحاصله: إن هذه السورة -سورة البلد- مكية، وإنما أحلت مكة لرسول الله عام الفتح، يعني: بعد نزول هذه السورة، فكيف يلتئم الجمع بين أن السورة مكية وبين قوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ) وهو إنما كان عام الفتح؟ فأجيب بأن هذا أطلق باعتبار ما سيكون، كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر:30] ليس معنى (إنك ميت) ميت الآن إنما معنى {إِنَّكَ مَيِّتٌ} أي: ستموت، وكقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] ونحو ذلك.
{لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1-2] (حِلٌّ) يعني: حلال فاصنع ما تشاء.(93/3)
تفسير قوله تعالى: (ووالد وما ولد)
{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد:3] المراد بالوالد عند فريق من العلماء آدم صلى الله عليه وسلم ((وَمَا وَلَدَ)) ذريته.
وقال فريق آخر من العلماء: إن (وَالِدٍ) هو إبراهيم صلى الله عليه وسلم، (وَمَا وَلَدَ) الأنبياء من سلالة إبراهيم، فكل الذين جاءوا بعده من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] يعني: (وَمَا وَلَدَ) هم ذرية إبراهيم.
قول ثالث: أن الوالد إبراهيم، (وَمَا وَلَدَ) إسماعيل وثم أقوال أخر، واختار الطبري رحمه الله تعالى العموم، فقال: إن الله أقسم بكل والد وما ولد، فإن (ما) هنا بمعنى الذي، فالمعنى: ووالد والذي ولده.
ومن أهل العلم من قال: (وَوَالِدٍ) أي: رجل أنجب {وَمَا وَلَدَ} [البلد:3] أي: رجل لم ينجب، وهذا عليه قلة من المفسرين.(93/4)
تفسير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد)
أقسم الله بهذا البلد، وبـ {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} على شيء، وهو: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] كما أسلفنا قد يأتي ذكر الإنسان ويراد به الخصوص، وأحيانا يراد به العموم، فقال الله سبحانه وتعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] وهو آدم {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [الإنسان:2] وهم ذريته، آدم لم يخلق من نطفة، هنا يقول الله سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] المراد به عموم الإنسان، فكل بني آدم خلقوا في كبد، والكبد: المشقة والتعب والنصب والإرهاق، ومنه قول القائل: (كبّدت العدو الخسائر) أي: ألحقت به خسائر.
قال الله سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} فما هو هذا الكبد؟ قالوا: التعب والمشقة كما أسلفنا، فالإنسان منذ أن خلق؛ والتعب والمشقة ملاحقة له، فعندما يخرج من بطن أمه يتلقفه الشيطان فيطعن في خاصرته فيصرخ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا ويطعن الشيطان في خاصرته حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها) الحديث، ثم يبقى يجوع حيناً ويشبع حيناً، ثم تأتيه آلام الختان، وتأتيه آلام قطع السرة، وتأتيه آلام الفطام ومنعه من الثدي، وهذا من أشق الألم عليه، ويكبر شيئاً ما فيبتلى بأصدقاء سوء يضربونه ويظلمونه، ويذهب إلى المدرسة فيبتلى بالمعلم: لماذا تركت الواجب؟ ويضربه، ويذهب إلى البيت فيكلفه أبوه بأعمال إن تخلف ضربه، ويستمر فيه الكيد يمرض! يتعب! يشاك! يقوم، وهكذا لا تكاد تجد راحة حلت به إلا وتبعها بلاء، ولا تجد فرحاً نزل به إلا وتبعه حزن، وهكذا، تبدأ مشاكل الدراسة والنجاح والرسوب والمجموع وغير ذلك.
ثم ينتهي من الدراسة فيبحث عن الوظيفة، ويبحث عن زوجة، فيتزوج ويحمل هم الأولاد والزوجة، وربما يبتلى بقوم ظالمين، إذا التزم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تستمر به البلايا في كل حياته، يشيب وبعد أن يشيب يبدأ بالانحناء والتدهور، كما قال القائل: يسر الفتى طول السلامة والبقاء فكيف ترى طول السلامة يفعل يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا ما رام القيام ويحمل يأتي ليقف فيسقط بعد أن كان شابا قوياً، وهكذا! يبتلى بأمراض الشيخوخة التي لا تكاد تعالج إلا إذا أذن الله، ثم يبتلى بتلقف الملائكة له، هل تتلقف له بالرحمة أو تتلقف له بالعذاب؟! ويبتلى بفراق الأهل والأحباب ويدخل القبر ويبتلى في القبر ابتلاء أشد من ابتلاء المسيح الدجال، وفتنة أشد من فتنة المسيح الدجال، ثم كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] تدنو الشمس من رأسه يوم القيامة وتقترب، يبتلى بالموازين التي تقام ويوزن فيها الأعمال، يبتلى بالمرور على الصراط، وما أدراك ما الصراط؟! ويبتلى بقصاص المظالم بعد مروره على الصراط، ابتلاءات تلو ابتلاءات إلى أن يستقر إما في جنة، وإما في نار، فهكذا خلق الإنسان.
أقسم الله سبحانه وتعالى على ذلك، فالإنسان لا يملك لنفسه من هذه الأمور كلها شيئاً، ومن ثم يعلم أن الأمور مقدرة، وأن أقدار الله سبحانه وتعالى تجري عليه رغماً عنه، لا يريد الشخص أن يكون فقيراً، ولا أن يخسر، ولكن يخسر رغماً عنه، ويمرض رغماً عنه، لا يريد الشخص أن يكون تعيساً، ولا أن يكون عقيماً، لكن رغماً عنه قدر الله ينفذ فيه شاء أم أبى، كلنا يكره الموت، ولكننا كلنا سنموت، فهذا بعض ما ورد في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] .
كل بني آدم على هذا النحو، لا ينجو منهم رئيس ولا مرءوس، بل تجد هم الرئيس أكبر من همك آلاف المرات، لا يكاد ينام نوماً هادئاً هنيئاً: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} ، يتكبد المشاق في جمع المال، ثم يتكبد المشقة في حراسة هذا المال!(93/5)
تفسير قوله تعالى: (أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد)
قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5] نحن الذين خلقناه في كبد، وهذه الحال التي خلق عليها، أفيحسب الإنسان أنه يعجزنا أو يفوتنا وأننا لن نقدر عليه، ولن نقبضه ولن نعيده مرة ثانية حياً بعد موته؟! {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} .(93/6)
تفسير قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبداً)
قال الله تعالى: (يَقُولُ) هذا الإنسان {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد:6] أي: أنفقت مالاً كثيراً، فاللبد: الكثير المجتمع، وقريب منه قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] تكالبوا عليه واجتمعوا حوله {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} أي: أنفقت مالاً كثيراً، ومن القائل أهلكت مالاً لبداً؟ من العلماء من قال: إن القائل: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} هو الكافر، يقول الكافر من الكفار: إنني أهلكت مالاً كثيراً في عداوة محمد عليه الصلاة والسلام، كما ذكر في بعض التفاسير أن امرأة أبي لهب كان لها قلادة من ذهب، فباعتها كي تنفق ثمنها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا قول وراد في التفاسير، فالكافر يقول: أنا أنفقت مالاً كثيراً في عداوة الإسلام وأهله، وعداوة محمد، والمنافق يقول للمسلمين: إنني أنفقت مالاً كثيراً في الخير، مرائياً بهذا المال ومسمعاً، فهذه بعض الوجوه في تفسيرها.
(يَقُولُ) الإنسان بعمومه إما الكافر وإما المرائي، وقد يقولها المؤمن ليس على سبيل الرياء.
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:7] هذا الكافر يزعم أنه أنفق أموالاً طائلة ويتباهى بذلك أمام الكفار، أيظن أن أمره قد خفي علينا، وأننا لا نراه؟! فكذلك المنافق الذي أنفق الأموال مرائياً ومسمعاً، أيحسب أننا لن نراه؟!(93/7)
تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين.)
قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد:8] العينان تشهدان على الكافر بما صنع، {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9] فإن كنت -أيها الكافر- تظن أن أحداً لم يراك، وأنت تنفق في عداوة الأنبياء وعداوة أهل الصلاح فاعلم أن الله يراك، ثم جوارحك أيضاً شاهدة عليك، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] .
أما المتباهي بكثرة إنفاقه في سبيل الله فالتوجيه أن يقال له: إن من نعمه عليك ما أكثر من إنفاقك، فإذا كنت تدعي أنك أنفقت مالاً كثيراً لنصرة الدين فإنا قد جعلنا لك عينين، ولساناً وشفتين، والنعمة الواحدة من هذه النعم تغطي على كل ما أنفقت: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8-9] .
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] الهداية هنا: هداية الدلالة لا هداية التوفيق، فقد تقدم أن الهداية هدايتان: هداية الدلالة، ويملكها البشر بإذن الله، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] ، {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:19] أي: أدلك على عبادة ربك فتحصل على الخير، فالهداية هنا هداية الدلالة، يملكها البشر بإذن ربهم.
أما هداية التوفيق فلا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] .
قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي: وضّحنا له الطريقين، وبينا له أعدل الطريقين: طريق الخير وطريق الشر، بيناهما له، كما قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) أي: أوضحنا له الطريق {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] ، وأصل النجد: المكان المرتفع، والنجود هي: الأماكن المرتفعة.(93/8)