تفسير سورة النور [12-30]
انتهاك عرض المسلم حرام، والواجب حسن الظن بالمسلم، وإن وقع مسلم في زلة فيجب ستره، ولا يجوز إشاعة زلته، وهذا من اتباع خطوات الشيطان، ومن تُكلِّم في عرضه بغير حق فصبر فله العاقبة المحمودة في الدنيا والآخرة.
والقرآن يهدي للتي هي أقوم، ولم يفرط الله فيه من شيء، حتى إنه بين لنا فيه أحكام الاستئذان وآداب الدخول إلى البيوت.(34/1)
حسن الظن بالمسلمين
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فقد ورد بإسناد ينظر فيه: أن أبا أيوب الأنصاري كان يقول لزوجته: أنت خير أم عائشة؟ فتقول له: عائشة خيرٌ مني، وتسأله هي: أنت خير أم صفوان؟ فيقول: صفوان خير مني.
فتقول لزوجها ويقول لزوجته: إذا كان صفوان خيراً مني، وعائشة خيراً منك، وأنا وأنتِ لا نقبل أن نزني، فمن باب أولى أنهما لا يقبلان الزنا، لأنهما أفضل منا.
فالواجب عليك أن تظن بإخوانك الخير، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ، أي: الظن السيئ، أما الظن الخيري فمطلوب في أول وهلة إذا اتُهم أخوك بالزنا.
قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ} [النور:12] أي: كذب واضح ظاهر.
قد تتشابك الأمور لكثرة الناقلين، فلان يأتي وينقل لي، وفلان يأتي وينقل لي، وفلان يأتي وينقل لي، فتكثر المقالات حتى أكاد أُغلب وأصدق بالطعن الذي طعن به أخي، فماذا عليّ إذا غلبت في هذه الحالة؟ قال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13] ، فيا أيها المدعي لهذه التهمة! ائت بأربعة شهود يشهدون لك بأنك صادق وقد تقدم حكم القذف فيما سبق من الآيات التي هي كالتوطئة لحديث الإفك، في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] .
قال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] ، وهذه الخطوة الثانية مع الظن الحسن، فإذا جاء من يتهم إخواني في أعراضهم فإني أوقفه، وأقول له: ائت على ما تقول بأربعة شهود، وإذا لم تأت بهم فأنت فاسق، وشهادتك ساقطة، وحكمك أن تجلد ثمانين جلدة.
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14] أي: فيما تقولتم به بألسنتكم (عذاب عظيم) ، ولكن رحمة الله سبحانه بكم رفعت عنكم هذا العذاب وإلا فأنتم تستحقونه بخوضكم بألسنتكم في أعراض إخوانكم، أنتم تستحقون العذاب العظيم لما تخوضون في أعراض المؤمنين وأعراض المؤمنات، {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14] فليس كل كلام يتكلم به.
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور:15] كل يأخذ المقالة بلسانه وينقلها ولا يتثبت {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] وليس الأمر كما زعمتم، أخرج البخاري حديثاً -وإن انتقده البعض- وهو: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً) ، فليس كل حديث يتحدث به.
{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} [النور:15] أي: تحسبون الخوض في أعراض المسلمين والمسلمات أمراً هيناً سهلاً، وهو عند الله عظيم! {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور:16] أي: ليس لنا وما ينبغي لنا ولا يليق بنا أن نتحدث بهذا الحديث في عرض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعرض الصديقة بنت الصديق.
{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور:16] أي: ما ينبغي لنا هذا الحديث، كيف تسوّل لنا أنفسنا أن نخوض في أهل رسول الله؟ كيف تسول لنا أنفسنا أن نخوض في عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها؟ {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} أي: تنزهت -يا ربنا- عن أن يدنس بيت نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونزهت زوجة نبينا محمد عن الزنا، يا ربنا! سبحانك، وهذه اللفظة محمولة على التعجب.
{هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي: افتراء، فالبهتان: أن تذكر أخاك بما يكره وليس فيه.
{يَعِظُكُمُ اللَّهُ} [النور:17] ، يحذركم الله ويذكركم الله، {أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17] لا مع عائشة ولا مع غير عائشة، {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:18] .(34/2)
عقوبة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور:19] ، أي: يحبون أن تنتشر الفاحشة في الذين آمنوا.
فبمجرد حبك الفضيحة لإخوانك ينالك العذاب، ولذلك قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] ، فلا تفرح إذا زلت قدم أخيك المسلم، ولا تنشر الفضيحة لقريبك ولا لزوجك، لا تتشف بسقطة سقطها أخوك المسلم، وتمزق عرضه بهذه السقطة، وتتشفى فيه من طرفٍ خفي أو جلي.
فالذي يحب لإخوانه الفضيحة له عذاب أليم في الدنيا والآخرة، وانظر في نفسك -يا عبد الله- فأنت تعلم حال نفسك التي بين جنبيك، هل إذا حدثت زلة لمسلم من المسلمين تفرح بها وتذهب تنشرها، أم أنك تستغفر الله لصاحبها وتستر عليه؟ إذا كنت تستغفر الله له وتستر عليه؛ فاعلم أنك على خير، وإذا كنت تنشر الرذيلة وتفرح بها؛ فاعلم أن إيمانك ضعيف، وأن في قلبك مرضاً، وأنك تجلب لنفسك النكد والعذاب من الله سبحانه وتعالى.
فانظر إلى قلبك وعالجه، فأنت طبيب قلبك بعد الله سبحانه وتعالى، فاستغفر الله إذا وجدت هذا الخلق الدنيء السخيف في قلبك، إذا وجدت أن الفرح بمصائب المسلمين وفضائح المسلمين والمسلمات يتسرب إلى قلبك، فاستغفر الله، فإن في قلبك مرضاً، وفي قلبك غِلاً، فاستغفر الله منه.
أما إذا وجدت في قلبك شفقة على المسلم الذي سقط، أو على المسلمة التي فعلت شيئاً محرماً، وسترت السقطة، ولم تتحدث بها، فاعلم أن مآلك إلى خير، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور:19] أي: أن تنتشر الفاحشة {فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] أي: عذاب قبل الآخرة عذاب يطاردهم في الدنيا، ثم في الآخرة، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] .
فهذه الآية تحذّر أشد التحذير من إشاعة الفاحشة في المؤمنين أي: من نشر الفاحشة في المؤمنين، وفي معناها قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] ، فالكلام السيئ والأفعال السيئة ينبغي أن تكتم، ولا تنشر في الناس، ومن ثم فصفحة الحوادث التي في الجرائد، ليس لها مستند شرعي، إذ هي تنشر الفاحشة في الذين آمنوا، وتنشر جرائم شخصٍ وتسميه، وقد يتوب هذا الشخص من هذا الذنب، وتبقى وصمة عارٍ في جبهته طيلة حياته، وقد تكون سبباً في الحيلولة بينه وبين التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
فأفادت الآية الكريمة: أن الذي يحب للمؤمنين أن يفتضحوا {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] .
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20] ، هذه الآية خاتمة عشر آيات نزلت في حديث الإفك، وقد تقدم ذكره على مسامعكم باختصار.(34/3)
من فوائد حديث الإفك
ومن الفوائد التي تؤخذ من هذا الحديث: أنه يجب على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه المؤمنين، لقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] .
ويؤخذ من الحادثة: الإنصاف، إنصاف عائشة رضي الله عنه مع من هجاها ورماها، فمع أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قد رماها بالفاحشة، لكن لم يمنعها هذا من أن تُقر له بالفضل الذي له، إذ قد نافح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدافع عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويقول لمن هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتهجوه ولست له بكفءٍ فشركما لخيركما الفداء فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء فـ عائشة رضي الله عنه لم تنس له هذه المنقبة، وهذا من شدة إنصافها رضي الله عنها.
كذلك أم المؤمنين زينب بنت جحش لم تحملها الغيرة -وهي ضرّة لـ عائشة - على أن تتكلم في عائشة بغير الحق الذي تعلمه، فقالت: أحمي سمعي وبصري يا رسول الله! أهلك وما علمت فيها إلا خيراً! ويؤخذ من الحادثة أيضاً بعض الأحكام الفقهية التي سيقت في حديث الإفك، كالتأدب مع النساء، والسير أمام النساء، وترك السير خلفهن، فإن صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه لما وجد عائشة استرجع وأناخ الناقة ثم ركبت عائشة، وسحب الناقة ومشى أمامها، ولم يمش خلفها رضي الله تعالى عنه.
فيؤخذ من هذا التأدب في المسير مع النساء، وفي الحديث مع النساء، ونحو ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في حديث الفتون الطويل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع ابنة الشيخ الصالح التي جاءت تدعوه قائلةً: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] ، ففي الأثر أن موسى عليه الصلاة والسلام مشى أمامها، ومشت خلفه رضي الله تعالى عنها، فيؤخذ من هذا التأدب في الحديث وفي المسير مع النساء، ولا يكثر الشخص من الكلام معهن إلا عند الحاجة إلى الكلام، فإن عائشة قالت: والله! ما سمعت من صفوان كلمةً غير استرجاعه، أي: قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهي الكلمة الوحيدة التي سمعتها أم المؤمنين عائشة من صفوان بن المعطل السلمي.
فيؤخذ منه التأدب في الحديث مع النساء وعدم الإكثار من الكلام معهن، إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك؛ وذلك لأنه قد يصدر من المرأة كلمة يفتن بها الرجل، أو يسوّل لها الشيطان فتخضع بالقول فيطمع فيها الذي في قلبه مرض، كما قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] ، وهذا من باب سد الذرائع الموصلة إلى الفساد، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء) .
ويؤخذ من حديث الإفك: مشروعية سفر النساء مع أزواجهن، ولذلك مباحث واسعة.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ} [النور:19] أي: تنتشر، {الْفَاحِشَةُ} [النور:19] أي: الكبيرة، والفاحشة تطلق على الزنا، وتطلق على كل ما يفحش من الأقوال والأفعال، لكن في أكثر المواطن يراد بها الزنا، فمثلاً قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33] ، الفواحش هنا أعم من الزنا.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] هذه الآية فيها دليلٌ على أن من أعمال القلوب ما يؤاخذ عليه العبد، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك، فللقلوب أعمال لا يؤاخذ عليها العبد، وهي الخطرات والوساوس التي تخطر على القلب وتمر به، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل) .
لكن الأمور التي يجتمع عليها القلب، ويعقد العزم على فعلها، يحاسب عليها العبد، لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] ، فلما عقد القلب العزم على فعلها أصبحت كسباً له فيؤاخذ عليها العبد، ولذلك يؤاخذ العبد ويحاسب على الحسد، وهو من أعمال القلب، ويحاسب العبد على حب شيوع الفاحشة في الذين آمنوا، وهذا الحب من أعمال القلب.
ويثاب العبد على حب الرسول صلى الله عليه وسلم، والحب من أعمال القلب، ويثاب العبد على حب المؤمنين، وهو من أعمال القلب، ويثاب العبد على تمنيه فعل الخير كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم في الأجر حبسهم العذر) ، فكُتِبَ لهم أجر لحبهم الخروج مع رسول الله والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:91-92] الآيات.(34/4)
التحذير من اتباع خطوات الشيطان
قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:21] ، يا: حرف نداء، وأيّ: منادى، والهاء للتنبيه.
(الذين آمنوا) ، أي: آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وصدقوا وعد الله، وصدقوا بلا إله إلا الله، وصدقوا بالبعث وأيقنوا به.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] أي: طرق الشيطان ومسالك الشيطان، فطرق الشيطان أطلق عليها خطواته، فهي الطرق التي يرشد الشيطان إلى فعلها، وكلها طرق وخطوات توصل إلى النار والعياذ بالله، كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء التحذير من اتباع خطوات الشيطان وأوامره في آيات في غاية الكثرة، قال تعالى محذراً من اتباع الشيطان: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] ، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60] ، وقال تعالى محذراً إيانا منه: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:62] أي: خلقاً كثيراً، {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62] ، وقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] .
فجاءت آيات في غاية الكثرة تحذر من اتباع الشيطان واتباع خطواته، ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21] أي: فليعلم الذي يتبع خطوات الشيطان، أنه يأمر أي: يحث ويحض (بالفحشاء والمنكر) والفحشاء: كل ما فحش، والمنكر: كل ما استنكر.
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21] أي: ما طهر وما صلح منكم من أحدٍ أبداً، فأفادت الآية الكريمة: أن الصالح من أصلحه الله، وأن المهتدي من هداه الله، فإذا علم العبد ذلك ازداد تواضعاً لله سبحانه، فإذا علمت أن الذي هداك هو الله لم تستطل على الخلق، فهو سبحانه قادرٌ على إضلالك، وقادرٌ على إصلاح الآخرين، فليكن العبد متواضعاً لله، قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] يا مؤمنون {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] ، فالذي كره الكفر والفسوق إليكم هو الله، {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7-8] ، أن منّ الله عليك بالإيمان {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:8] .
قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا} [النور:21] أي: ما صلح وما تطهر من الذنوب، فالتزكي يطلق أحياناً على التطهر، كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، وفي الآية ردٌ على القدرية نفاة القدر، الذين يقولون: إن الإنسان يختار لنفسه ما شاء، ولا تدخل للرب في ذلك! إنما الرب كالطبيب الناصح! وهذا القول خطأ، تقدم التنبيه على خطئه مراراً، فالله هو الذي يزكي وهو الذي يهدي، ولو كان الأمر كما قالوا، ما قلنا في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] .
فلماذا نطلب الهداية إذا كان أمر الهداية بأيدينا؟! فدل هذا على بطلان قيلهم، وبطلان معتقدهم في هذا الباب، قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] ، فالله سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، والأمر في هذا كله لله، لا تقل: لماذا هدى الله فلاناً؟ ولماذا أغوى الله فلانا؟! فالله أعلم بالعباد، وأعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، وبمن يستحق الإغواء فيغويه، والعياذ بالله.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21] سميع للأقوال والحركات والسكنات، عليمٌ بالنيات، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون.(34/5)
تفسير قوله تعالى: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة.)
ثم قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:22] أي: ولا يحلف، فالإيلاء هو الحلف، قال الشاعر: قليل الألايا حافظٌ ليمينه -أي: قليل الأيمان حافظٌ ليمينه- وإن صدرت منه الألية ضرت أي: إن صدرت منه يمينٌ ضر بيمينه، وقال سبحانه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] أي: للذين يحلفون ألا يقربوا نسائهم مدة طويلة، ليس لهم إلا أن يتربصوا أربعة أشهر {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226-227] .
ومعنى هذه الآية: أن الشخص إذا قال: أقسم بالله ألا أقرب زوجتي سنةً، نقول له: قف، ليس لك ذلك، إنما لك أربعة أشهر كحدٍ أقصى، فإن رجعت في خلال أربعة أشهر وجامعت أهلك فحيهلا، وإن لم تفعل توقف عند نهاية الأربعة أشهر وتجبر إما على الرجعة إلى زوجتك والجماع، وإما على الطلاق رغماً عنك، ومن أهل العلم من قال: يوقف المؤلي -يعني: الذي حلف- عند الأربعة الأشهر وإذا مرت الأربعة أشهرٍ ولم يرجع عدت طلقة عليه شاء أم أبى، هذان قولان لأهل العلم، ومحل بسطهما في كتب الفقه، فمادة (آلى) يعني: حلف، مثل حديث: (آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهراً) ، أي: حلف ألا يدخل على نسائه شهراً.
فقال تعالى: (وَلا يَأْتَلِ) أي: ولا يحلف {أُوْلُوا الْفَضْلِ} [النور:22] أي: أصحاب الفضل منكم يا مؤمنون! {وَالسَّعَةِ} [النور:22] أي: أصحاب السعة، الذين وسع الله عليهم بالمال، والمعنى: لا يقسم الفضلاء ولا يقسم الأغنياء، لا يقسم أهل الغنى والفضل {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} [النور:22] .
وهذه الآية الكريمة نزلت في الصديق أبي بكر، فقد كان أبو بكر ينفق على مسطح بن أثاثة، وكان مسطح قريباً لـ أبي بكر الصديق، وكان ممن شهد بدراً مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع هذا طعن مسطح بلا علمٍ في أم المؤمنين عائشة، ووصفها بالزنا ظلماً وعدواناً.
فلما برأ الله أم المؤمنين عائشة، قال أبو بكر: والله! لا أنفق على مسطح بعد اليوم، وكان معه حق، فرجلٌ محسن يحسن إلى شخص فاللائق بالشخص على أقل تقدير أن يجازيه بجزاك الله خيراً، ولا يذهب يطعن في ابنته بالزنا بلا علم، فقال أبو بكر لما نزلت براءة عائشة وتبين كذب مسطح رضي الله عنه: والله! لا أنفق على مسطح بعد اليوم، فنزل قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22] أي: لا تقسموا يا أهل الفضل ويا أهل الصلاح ويا أهل الغنى أن تحرموا الفقراء والمساكين.
والمذنب إذا لم يعترف بذنبه، فلا وجه للعفو عنه؛ لأنك والحالة هذه تكون قد نصرته ظالماً، ونصرة الظالم لا تجوز، ولكن إذا اعترف بذنبه وأقر بخطئه، فباب التوبة مفتوح، وينبغي العفو عنه، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس) ، والله أعلم.
{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] ، في الآية الكريمة ردٌ على الخوارج، فإن قيل ما وجهه؟ فوجهه أن الخوارج يكفرون بالكبيرة، ووجه الرد عليهم أن مسطحاً ارتكب كبيرة، وهي قذف أم المؤمنين عائشة، ولم يخرجه ذلك عن دائرة أهل الإيمان، فقد وصفه الله بقوله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22] ، وهذه كلها صفات لـ مسطح بن أثاثة، فلم يخرجه الله عن عباده المؤمنين بالقذف الذي قذفه لـ عائشة.
وهذا من إنصاف ديننا، فالشخص يحكم عليه بمجمل ما صدر منه، ولا يحكم عليه بزلة زلتها قدمه، إنما يحكم عليه بمجمل سيرته، فلا نأتي إلى مسطح ونطيح بكل حسناته وفضائله ومناقبه لكونه قذف، فليوضع القذف في كفة من الميزان، ولتوضع سائر الخيرات في الكفة الأخرى، ففي الكفة الأخرى هجرة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، وجهاد مع رسول الله يوم بدر، وليرجح إما جانب الخير أو جانب الشر، وبهذا يحكم على الناس، فالله سبحانه جعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمةً وسطاً.
وهذا القول ينسحب على عموم الصحابة، وعلى عموم الناس، فمثلاً: إذا جئنا نزن معاوية، نجد أن من إنصاف أهل السنة أنهم قالوا: معاوية قاتل علياً، فأخطأ في قتاله لـ علي رضي الله عنهما، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (تقتل عماراً الفئة الباغية) ، ولكن ينظر إلى مناقب معاوية الأخرى، فهو كاتب للوحي على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفتح الله على يديه جملة من بلاد الكفار، ودخل في خلافته ألوف مؤلفة من الكفار إلى الإسلام، فليوزن بمجمل أفعاله، لا بفعلة واحدة، فأهل الظلم والجور يزنون الشخص بعيب واحدٍ فيه، وبزلةٍ واحدة زلتها قدمه، فيظلمون الناس: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمه على شعثٍ أي الرجال المهذب؟ قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا} [النور:22] أي: يعطوا {أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22] ، (والمساكين) هل المسكين أشد فقراً أم الفقير؟ يقول العلماء: إن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، والمعنى: إذا جاء ذكر المسكين والفقير في سياق واحد -كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] ، فللفقر معنى وللمسكنة معنى آخر، والمسكين أعلى حالاً من الفقير، فالفقير لا يكاد يجد شيئاً، أما المسكين فيجد الشيء الذي لا يكفيه، قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فوصفوا بالمسكنة.
وإذا افترقا اجتمعا، أي: إذا جاء لفظ الفقير في سياق ليس فيه ذكر المسكين، دخل في هذا اللفظ المسكين، وكذلك إذا جاء لفظ المسكين في سياق ليس فيه ذكر الفقير، دخل فيه الفقير، كهذه الآية: {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} [النور:22] ، فدخل في المساكين هنا الفقراء، وهذا معنى قولهم: إذا افترقا -أي: في السياق- اجتمعا أي: في المعنى.
والمسكين: من أسكنته الحاجة، ومن أسكنه الفقر.
قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] أي: وليعفوا الأغنياء وأهل الفضل، وليصفحوا.
فجدير بمن آتاه الله جاهاً أو مالاً أن يتغاضى عن هفوات الفقراء والضعفاء، ولا يعدد عليه أخطاءهم حتى لا تعد عليه نعم الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أسماء: (تصدقي ولا توعي فيوعي الله عليك، ولا تحصي فيحصي الله عليك) .
(وَلْيَعْفُوا) أي: ليطمسوا على أخطاء هؤلاء، (وَلْيَصْفَحُوا) أي: يعرضوا عنها، {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] أي: إذا أحببتم أن يغفر الله لكم فاغفروا للناس، فالجزاء من جنس العمل، إذا أحببت أن يغفر لك الله فاغفر لعباد الله، إن أحببت أن يستر الله عليك فاستر على الناس، وهكذا، فالجزاء من جنس العمل.
وفي هذه الآية منقبة كبرى للصديق رضي الله عنه، لأنه أقسم أن لا ينفق على مسطح، فلما نزلت هذه الآية: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] ، قال: والله يا ربي! إني أحب أن تغفر لي، ولن أمنع عن مسطح الصدقة بعد اليوم، وهو الذي طعن في ابنته، وهو الذي اتهم ابنته بالزنا، ومع ذلك يقسم بالله ألا يمنع عنه النفقة بعد نزول قوله تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] .
وهذا امتثال شديد من أبي بكر لكتاب الله ولأوامر الله، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا مولعين بشرب الخمر، فلما نزلت الآية بتحريم شربها قاموا إلى الدنان فكسروها، وهي ممتلئة خمراً، مع حبهم الشديد لها، وكانوا يلبسون خواتيم الذهب، فلما رءوا أن النبي صلى الله عليه وسلم نزع خاتم الذهب، نزعوا خواتيمهم، وكانوا يصلون بالنعال مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فنزع النبي نعله فنزعوا نعالهم، ثم بين لهم أنه إنما نزعها لعلة، وهي أن فيها أذى كما أخبره جبريل عليه السلام، فكان الصحابة شديدي الامتثال لرسول الله عليه الصلاة والسلام، أحدهم كان مع زوجته يجامعها فسمع داعي الجهاد: حي على الجهاد! فقام عن الزوجة مسرعاً لا يتمهل، حتى أنه لم يغتسل، بل أسرع وقاتل حتى قتل رضي الله عنه، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، رضي الله تعالى عنهم، وأسكنهم فسيح الجنان، وقاتل الله أهل التشيع البغيض الذين ينالون منهم.
قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] أي: امتثلوا واعملوا بهذه الصفة، صفة الغفران والرحمة للناس.(34/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات.)
ثم قال تعالى مؤدباً الذين يخوضون بألسنتهم في أعراض أهل الإيمان: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] .
(الذين يرمون المحصنات) أي: العفيفات، (الغافلات) أي: اللواتي لا يشعرن بالشر ولا يشعرن بالتهمة التي اتهمن بها، كامرأة جالسة في بيتها لا تعرف شيئاً عن الشر، وإذا بشخص ماجن فاجر يرميها بالزنا، وهي غافلة عما رميت به.
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} ، ومن يرمي من يرمي غير الغافلات أيضاً داخل فيها، ويدخل في الآية أيضاً الذين يرمون الرجال بالإجماع، فكل من رمى رجلاً بالزنا تنسحب عليه هذه الآية أيضاً.
(لعنوا) أي: أبعدوا عن رحمة الله، وطردوا {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] ، أصل العذاب المنع، يقال: أعذبوا نساءكم، أي: امنعوهن من الخروج.
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور:24] التي طعنوا بها في المؤمنات {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24] ، فاليد تشهد، والرجل تشهد، واللسان يشهد، إذا أشرت أن امرأة زنت بيديك فكذلك الحكم ينسحب عليك، إذا مشيت برجليك تنقل الطعون في المؤمنين والمؤمنات، شهدت عليك رجلاك، وشهد عليك لسانك، وشهدت عليك يداك.
{يَوْمَئِذٍ} [النور:25] أي: يوم القيامة {يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25] أي: جزاءهم الذي يستحقونه {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25] .(34/7)
تفسير قوله تعالى: (الخبيثات للخبيثين ... ) الآية
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] الكلمات الخبيثة لا تصدر إلا من الأشخاص الخبثاء، والخبيثون لا تخرج منهم إلا الكلمات الخبيثة، (والطيبون للطبيات) أي: لا تصدر من الطيبين إلا الكلمات الطيبة، ولا تصدر الكلمات الطيبة إلا من الطيبين.
هذه الآية من العلماء من أولها على هذا التأويل وهم الجمهور، ومنهم من قال: إن هذا في الأزواج، فالرجل الصالح يحرص على الزواج بصالحة، والخبيث يحرص على الزواج بخبيثة، وكذلك الخبيثة السافلة المتبرجة تحرص على الزواج بسافلٍ مثلها، هذا في الأصل.
فإن عكّر معكرٌ بقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10] ، وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} [التحريم:11] ، فنقول إذا اخترنا التأويل الثاني: فهذا على العموم، وكل عموم له استثناءات، وقد يقع الشخص الصالح في امرأة شريرة وهو لا يدري، لقضاء قضاه الله ولأمر أراده الله.
إذاً قال قائل: كيف يجمع بين قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ} [التحريم:10] وبين قوله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26] ؟ فالإجابة من وجهين: أحدهما: أن المراد بـ (الطيبات للطيبين) الكلمات الطيبة تصدر من الطيبين.
والوجه الثاني: أن الحكم على الغالب، ولكل غالب استثناءات، والله أعلم.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26] ، مبرءون في الدنيا والآخرة، برأ الله عائشة مما رميت به في الدنيا والآخرة، وبرأ الله موسى مما رمي به في الدنيا والآخرة، وبرأ الله مريم عليها السلام، وبرأ الله يوسف صلى الله عليه وسلم.
{أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [النور:26] فكل من طُعن فيه له مغفرةٌ على الطعون التي طعن بها إن كانت كاذبة، فإذا طعن فيك وأنت بريء؛ فبسبب الطعن فيك تكفر ذنوبٌ لك سالفة، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26] ، فلينم قرير العين من طعن فيه وهو بريء، فإن رب العزة يغفر ذنوبه ويجزل له الثواب، والله أعلم.(34/8)
تفسير آيات الاستئذان
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور:27-29] .
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا} سبق بيانه بما حاصله: أن الياء حرف نداء، وأي: منادى، والهاء: للتنبيه.
(يا أيها الذين آمنوا) قال بعض أهل العلم: إن المرادف لها في التوراة، أي: الخطاب الذي كان يخاطب به اليهود في التوراة: يا أيها المساكين! فتيمن بعض أهل العلم بذلك وقالوا: إن الله سبحانه وتعالى لما خاطب هذه الأمة بـ (يا أيها الذين آمنوا) كان هذا مشعراً بأن الأمن يحل عليها، وأن اليهود الذين خُوطبوا بـ (يا أيها المساكين) ، ضربت عليهم الذلة والمسكنة.
وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين) هو حديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صحح إسناده بعض أهل العلم المتأخرون، ولكنهم جعلوا متن هذا الحديث لسند آخر سهواً منهم، وقد تراجع بعضهم عن ذلك.(34/9)
الاستئذان في كل البيوت
قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] ، هذا عام في كل البيوت إلا بيتك.
فإذا كان لأمك بيتٌ مستقل، شرع لك أن تستأذن عليها؛ لأن الله فصل بيوت الأمهات عن بيوتك، فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور:61] ، فإذا كان للأم بيتٌ مستقل، وجئت إليها، شرع لك أن تستأذن عليها، وإذا كانت أمك تعيش معك في البيت فالجمهور والأكثرون على أنه يستحب لك أيضاً أن تستأذن عليها، قال ابن عباس: أتحب أن تراها عريانة؟! وقال حذيفة: ما على كل أحوالها تحب أن ترى، وأبو هريرة رضي الله عنه جاء إلى أمه فاستأذن عليها كما في قصة إسلام أمه، فقالت: على رسلك! فسمع صوت اغتسالها بالماء، وإذا لم تستأذن عليها ربما رأيت ما تكره، وقد ترى منها منظراً يسيئك، ويسيئها هي الأخرى، فيشرع الاستئذان على الأم.
ويشرع الاستئذان أيضاً على الأخت، وفي الأثر أنه أتى رجلٌ إلى جابر فأمره أن يستأذن، وقال: إن لم تستأذن رأيت ما تكره! قال الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ} [النور:27] أي: الاستئذان {خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27] أي: تتعظون، فالتذكر يطلق على الاتعاظ.(34/10)
من آداب الاستئذان
هذا، ويكره للمستأذن أن يقول: أنا، إذا سئل: من أنت؟ ففي الصحيح: أن جابراً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه، فقال النبي: (من؟ قال: أنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أنا!! كأنه كرهها عليه الصلاة والسلام) .
فيكره أن تقول: أنا، وليست الكراهية على الإطلاق، إنما هي في باب الاستئذان، بل قل: أنا فلان.
أما قول القائل: أنا فعلت كذا، فلا بأس بها، وقول بعضهم: أعوذ بالله من كلمة أنا، لا أعلم له مستنداً، إلا إذا كان على سبيل الغرور والكبر والاختيال فيذم، لكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) .
روى الخطيب البغدادي في جامعه: أن علي بن عاصم طرق على شعبة الباب، فقال شعبة: من؟ قال: أنا، قال: ليس لي صاحب اسمه أنا! حدثني محمد بن المنكدر حدثنا جابر بن عبد الله قال: أتيت رسول الله، فذكر الحديث.
والإذن إنما شرع لأجل البصر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعُل الإذن من أجل البصر) ، وقد ورد حديث ينظر في إسناده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذن أحدكم فلا يأت الباب من قبل وجهه، إنما يأتيه من يمينه أو عن يساره) ، وهذا أدعى إلى عدم وقوع البصر على شيء يكره، والله أعلم.
قال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:28] ؛ حتى إذا كان البيت مفتوحاً يشرع لك أن تستأذن، وإذا لم يأذن لك أحدٌ، ولم يرد عليك شخصٌ، ولم تجد في الباب أحداً؛ فلا تدخل حتى يؤذن لك، فإن البيت ولو كان فارغاً ودخلته قد تكون مظنة للاتهام، وقد تحدثك نفسك بالسرقة منه، وقد تضع نفسك في مواطن الريب والشكوك، قال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا} [النور:28] .
ثم سؤال آخر: إن وجدت فيه أحداً وأذن لك بالدخول، فهل تدخل؟ الأمر فيه تفصيل: إذا وجدت في البيت امرأةً بمفردها، وقالت لك: ادخل، وأنت وحدك؛ فلا يشرع لك الدخول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء! قال قائل: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟! -أي: قريب الزوج- قال: الحمو الموت) .
أما إذا أتيت أنت وزوجك إلى رجلٍ في بيته، فلم تجدا في البيت إلا امرأته، وأذنت لكما بالدخول، فتدخل أنت وزوجك، وتجلس زوجك معها، وأنت تنتظر داخل البيت في مكان آمن، وإذا كان مجموعة رجال، والفتنة مأمونة، والبيت به امرأة واحدة، وأذنت بالدخول برضا زوجها بذلك؛ جاز لهم الدخول، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يلجن رجلٌ على مغيبة بعد يومي هذا، إلا ومعه الرجل أو الرجلان والثلاثة) ، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل هو وأبو بكر وعمر بيت أبي التيهان الأنصاري رضي الله عنه في غيابه، لما أذنت لهم المرأة، وهذا محله عند أمن الفتنة، والله لا يحب الفساد.
قال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28] : صاحب البيت هو سلطان بيته، وهو سيد بيته، وهو المسئول عن بيته، وهو أدرى بما فيه، وهو أحفظ لعورته، وأعلم بانشغاله من غيره، فإذا استعمل هذا اللفظ الشديد بلا مقدمات وقال لك مباشرة: ارجع، لزمك أن ترجع، من العلماء من قال: ترجع وأنت راضٍ مسلم لحكم الله سبحانه، فإن هذا هو أمر الله، أما إن رجعت وأنت متضايق متبرم، وذهبت تغتابه عند الناس، وتقول: أنا طرقت عليه الباب وقال لي: ارجع، أو لم يرد عليّ؛ فأنت مخطئ، قال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] .
{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] أي: أطهر لكم، فالزكاة تطلق على التطهير، كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] .
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:28] ، أي: عليمٌ بقلوبكم، وعليمٌ باتجاه أبصاركم، وعليم بنياتكم.
ثم قال سبحانه مرخصاً في بعض الدور: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النور:29] أي: ليس عليكم إثم، وليس عليكم حرج، {أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور:29] ، ما هي البيوت غير المسكونة المرادة في الآية الكريمة؟ من العلماء من قال: هي السقائف التي كانت على الطرقات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان أهل الفضل وأهل الخير ينشئون سقائف وبيوتاً على الطرقات، فينتفع بها المسافرون للاستظلال بها وللراحة فيها، ويضعون فيها متاعهم، فمن العلماء من قال: إن المراد بالبيوت الغير مسكونة السقائف، كسقيفة بني ساعدة، التي هي سقيفة سعد بن عبادة وأسرته.
ومن العلماء من قال: إنها الدكاكين التي لا يحتاج الداخل إليها إلى إذن، والنوادي التي يرتادها المرتادون ولا تحتاج إلى إذن، وبصفة عامة: هي الأماكن العامة التي لا تحتاج إلى إذن.
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور:29] ، هنا تقدير أي: غير مسكونة بأحدٍ بعينه، فلا يلزم إذنٌ بالدخول إليها، {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] ، قال بعض العلماء: ليس المراد بالمتاع: الجهاز الذي يُتجهز به فقط، إنما المراد بالمتاع: كل ما يتمتع به، فقد يتمتع الشخص بالنوم مثلاً، قد يتمتع بالثياب، قد يتمتع بالمأكل، قد يتمتع بالاستظلال، والدنيا كلها متاع، فليس معنى قوله تعالى: (متاع) أي: حاجة من الأمتعة المعلومة لدى الناس، بل الأمر أعم من ذلك.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور:29] .(34/11)
معنى: الاستئناس
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب لأهل الإيمان الذين هم: أهل التصديق بالله، وبرسل الله، وبكتب الله، وبملائكة الله، وبالغيب، يا من هذه صفتهم! {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27] سماها الله بيوتاً، ولم يسمها فللاً، إنما هي بيوت.
قال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] ، ما معنى تستأنسوا؟ من العلماء من قال: إن (تستأنسوا) بمعنى: تستأذنوا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أخطأ النساخ! إنما هي: تستأذنوا، ودفع قول ابن عباس رضي الله عنهما جماهير أهل العلم، واستدلوا على تخطئة قوله بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، وبقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وبقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:17-19] ، وابن عباس نفسه فسَّر الآيات الأخيرة بقوله: إنّ علينا أن نجمعه لك في صدرك، ثم إنّ علينا أن نبينه، فاستدل بذلك وبإجماع القراء على أن الآية: (حتى تستأنسوا) كما نقله البعض، وعلى تخطئة القول بأن النساخ قد أخطئوا.
على كلٍ فمن العلماء من قال: معنى (تستأنسوا) تستأذنوا، ومنهم من قال: هو الاستئذان بتنحنح ونحوه من الكلمات والهمهمات والأصوات التي بها يعرف الداخل.
ومن العلماء من قال: إن الاستئناس بمعنى: الاستعلام، أي: حتى تستعلموا، أي تعلموا من فيها بدخولكم، وأخذ هذا من قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] .
أي: إن علمتم منهم رشداً، وقول موسى صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه:10] هو بنفس المعنى.
ومن العلماء من قال: إن الاستئناس هو مقابل الاستيحاش، فالشخص يقول مثلاً: دخلت مكان كذا وكذا فاستوحشته إذا لم يجد من يأنس إليه، فهو من الأنس الذي هو ضد الاستيحاش.
فهي ثلاثة أقوال: فمن العلماء من قال: إن الاستئناس هو الاستعلام، وقيل: هو الاستئذان، وقيل: هو ضد الاستيحاش.
{وَتُسَلِّمُوا} [النور:27] السلام هنا المراد به: سلام الاستئذان، وهو المراد أيضاً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا سلم سلمّ ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً) .
فالمراد بقول الراوي: (كان النبي إذا سلم سلّم ثلاثاً) ، سلام الاستئذان، وليس معناه أنه إذا التقى بشخص في الطريق يقول: السلام عليكم، السلام عليكم، السلام عليكم! إنما المراد: سلام الاستئذان، دل على ذلك حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: (أنه أتى إلى أمير المؤمنين عمر يستأذن عليه، فقال: السلام عليكم، فلم يأذن له، ثم قال: السلام عليكم أنا عبد الله بن قيس، فلم يأذن، ثم قال: السلام عليكم، فلما لم يؤذن له في الثالثة انصرف، فأرسل أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه في أثره من يطلبه، فأتي به، فقال له: ما منعك أن تثبت، قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) ، قال عمر: لتأتيني على هذا ببينة أو أوجعتك ضرباً، فرجع أبو موسى مذعوراً إلى مجلس الأنصار وفيهم أبي بن كعب وهو من سادات الأنصار، فقال: من يشهد لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) ، قال أبي: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا! قم يا أبا سعيد! فقام أبو سعيد فشهد عند عمر بذلك، فقال عمر رضي الله عنه: ألهاني الصفق بالأسواق! فدل ذلك على أن المراد بالسلام هنا سلام الاستئذان، ونحو ذلك الحديث الذي يحسن بمجموع طرقه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى بيت سعد بن عبادة رضي الله عنه، فسلم النبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد بن عبادة سراً ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادها النبي مرة ثانية، فرد سعد سراً، فأعادها النبي ثالثة فردها سعدٌ سراً، وبنوه بجواره يقولون له: ائذن للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: دعوه حتى يكثر علينا من السلام، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يؤذن له بعد الثالثة، فتبعه سعدٌ وقال: والله يا رسول الله! ما من مرةٍ سلمت فيها عليّ إلا رددت عليك السلام، ولكني لم أُسْمِعك حتى تكثر علينا من السلام) ، فالشاهد منه: أن السلام هنا يراد به سلام الاستئذان، وأنه يكون ثلاثاً.
ومن معاني الاستئناس أيضاً: التجول بالبصر في الغرفة وفي البيت، كما في حديث عمر عندما استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أذن له بالدخول -كما في الصحيح- قال: أأستأنس يا رسول الله؟! فأذن له النبي بالاستئناس، فجال ببصره في الغرفة، قال: فلم أجد شيئاً يرد البصر إلا ثلاثة أهبٍ، وحفنة من شعير، وذكر الحديث، فلما كان الاستئناس بعد السلام حمل هذا بعض العلماء على أن يقولوا: إن المراد بالاستئناس الاستئذان، فالمعنى: حتى تستأذنوا وتسلموا، وقالوا: إذا قلنا: إن المراد بالاستئناس: التجول بالبصر أو الذي هو ضد الاستيحاش، كان ذلك بعد السلام ولا يكون قبل السلام، فكان سياق الآية سيكون إذا كان هذا هو المعنى: حتى تسلموا وتستأنسوا.
لكن أجيب على هذا بأن الواو لا تقتضي الترتيب، إنما تقتضي مطلق التشريك، وقد أسلفنا القول في ذلك عند تأويل قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} [آل عمران:55] ، وقول العرب: جاء زيد وعمرو لا يريدون به الترتيب، بل يعنون: أن هذا جاء، وهذا جاء، وقد يكون أحدهما جاء قبل الآخر.(34/12)
تفسير قوله تعالى: (قل للؤمنين يغضوا من أبصارهم)
والأمر بالاستئذان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) .
وبعد أن جاء الأمر بغض البصر ضمنياً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27] ، جاء صريحاً في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] : (يغضوا) أي: يقصروا، من غض الطرف ومنه: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان:19] أي: اخفض من صوتك، ومنه أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات:3] أي: يخفضون أصواتهم.
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] أي: يخفضوا من أبصارهم، و (من) هنا اختلف في موقعها في معناها: فمن العلماء من قال: إن (من) هنا زائدة، والمعنى: قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم.
القول الثاني: إن من هنا للتبعيض، والمعنى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] أي: يغضوا أبصارهم أحياناً، وليس في كل الأوقات، إنما يغضونها عن المحرمات فقط؛ لأن البصر لا يغض دائماً، بل البصر يباح له النظر حيث شاء في المباح، فالرجل يباح له أن ينظر إلى أي شيء من امرأته، أما حديث: (النظر إلى فرج المرأة يورث العمى) ! فهو حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(34/13)
تفسير سورة النور [30-35]
لقد أمر الله سبحانه وتعالى في هذا المقطع من الآيات بغض البصر للرجل والمرأة، ثم بين الله المحارم الذين يجوز للمرأة أن تنظر إليهم وتختلي به وتسافر معهم، وأن ما عدا ذلك فلا يجوز لها أن تظهر زينتها أمامهم، فإنهم ليسوا بمحارم لها، وقد حث الله عز وجل على سد ذرائع فساد النظر إلى الحرام والزنا بالنكاح المشروع في الكتاب والسنة المطهرة.(35/1)
تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.)
باسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فقال: (اصرف بصرك) وقد ورد في الباب حديث علي وفي إسناده كلام: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) وهو حديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام في معرض بيان غض البصر: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) ، ومن الجهل والقبح والعار أن ترى رجالاً ونساء عراة، أو رجالاً يسبحون في البحر عراة كما ولدتهم أمهاتهم، وفي الأنهار والترع كالبهائم والعياذ بالله.
قال الله سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] قد يقول قائل: إن حفظ الفرج آكد من غض البصر؛ لأن عدم حفظ الفرج كبيرة، أما إطلاق البصر ليس من الكبائر عند كثير من العلماء، لأن ابن عباس فسر اللمم بحديث أبي هريرة: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة: فالعين تزني وزناها النظر) فقال: ما رأيت أشبه باللمم المذكور في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] مما قال أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة ... ) الحديث، فلماذا قدم الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج، مع أن حفظ الفرج أهم من غض البصر؟! صحيح أن حفظ الفرج أهم من غض البصر، لكن النظر هو الوسيلة إلى المحرم.
فالفرج لا يتحرك إلا بعد نظر، وكما قال الشاعر: ومعظم النار من مستصغر الشرر فالأمر بغض البصر أمر بسد الذريعة إلى الوصول إلى المحرم، فالزنا جعل له حمى حتى لا يقع شخص فيه، فلا تدخل بيت شخص إلا إذا استأذنت، ولا تنظر إلا إلى الذي أبيح لك، وقد قدمنا أن من الحمى الذي وضع للزنا: مصافحة المرأة الأجنبية، فإنها لا يجوز، والخلوة بالمرأة الأجنبية لا تجوز، سفر المرأة بدون محرم لا يجوز، والغناء الذي يثير الكامن ويهيج على الفاحشة لا يجوز، فللزنا حمى فليبتعد عنه الشخص، ومنه غض البصر.
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] فيه أن ذكر الرجل يطلق عليه الفرج خلافاً لمن كره ذلك من العلماء، فمن أهل العلم من كره أن يقال عن عورة الرجل فرج، وقال: الفرج هو ما انفرج، أي: ما فتح، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] فقال: إن الفرج مختص بالمرأة، لكن هذه الآية ترد عليه، لأن الله جل ذكره قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] .
والمقصود أن يحفظوها عن الزنا، وعن اللواط، وعن الاستمناء، وعن نظر الأجانب إليها، وعن نظر من لا يحل له النظر إليها، وبالجملة عن كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى عليهم، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما تقدم: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل) .
وقد ورد في الباب حديث محمول على الاستحباب، ألا وهو حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: (يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق -وذكر الحديث وفيه:- عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟) يعني: ما هو الشيء الذي يرى، وما الشيء الذي يترك؟ قال: (احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قال: الرجل يغتسل عارياً يا رسول الله؟! قال: الله أحق أن يستحيا منه من الناس) فمن العلماء من قال: وإن كنت وحدك استحب لك أن تستتر ولا تباشر السماء بفرجك، ولا تكن مكشوفاً، وحمل هذا على الاستحباب لا على الإيجاب؛ لأن نبي الله موسى اغتسل عرياناً، ولأن نبي الله أيوب اغتسل عرياناً، وهذا حيث لا يراهما الناس، لكن الكلام على الاستحباب في شريعتنا، والله تعالى أعلم.
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] ، هذا التعقيب بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)) [النور:30] لأن للأعين خائنة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فقد تكون ماشياً مع شخص في طريق ولعينه خائنة وأنت لا تشعر بها، ولا تستطيع أن تضبطه بحال، يسارق النظر وأنت لا تشعر، كما قال سبحانه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] فختمت الآية بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] فمهما أخطأت على الناس فإن الله يعلم حالك ويطلع عليك.(35/2)
رسول الرجل إلى الرجل هل يعد إذناً له؟
في الباب أيضاً رسول الرجل إلى الرجل هل يعد إذناً له؟ مثاله: أنت في بيت قلت لفلان: اذهب فادع لي فلاناً من الناس، فجاء الرجل الذي أرسل إليه، هل يلزمه أن يستأذن أو يدخل مباشرة عليه؟ من العلماء من قال: يدخل مباشرة؛ لحديث: (رسول الرجل إذنه) وقد حسنه البعض من مجموع طرقه.
والرأي الآخر أنهم يستأذنون، لما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي هريرة: (ادع لي أهل الصفة يا أبا هريرة، فذهب أبو هريرة يدعوهم، فأتوا واستأذنوا عند دخولهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، هذه وجهة القائلين بالاستئذان، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] .
ومن العلماء من فصل بين طول زمن الفترة التي أرسل إليها الرسول وقصرها، قالوا: إذا كان قومٌ بالباب فقلت: ادعهم فدعاهم، لم يحتاجوا إلى الإذن، لكن إذا إرسلت إليهم فأتوا بعد خمس ساعات، فهذا يحتاج إلى استئذان، والله سبحانه وتعالى أعلم.(35/3)
مسألة استئذان الصغير المميز
كذلك في أبواب الاستئذان أيضاً مسألة، وهي: هل يستأذن الصغير المميز أو لا يستأذن؟ قال كثير من العلماء: إذا كان الصغير مميزاً فيستأذن؛ لأن أنساً كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ الحلم، ولما نزلت آية الحجاب قال أنس: (فجئت أدخل عند النبي صلى الله عليه وسلم عليه مع زوجه زينب بنت جحش، فضرب الحجاب بيني وبينها) ، قالوا: فالصبي إذا كان مراهقاً مناهزاً للاحتلام يستأذن أيضاً.
وفي الباب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] الآية.(35/4)
حكم من اطلع إلى بيت قوم بغير إذنهم
ففي أبواب الاستئذان مسألة فقهية حاصلها: إذا اطلع شخص في بيت قوم بغير إذنهم فما حكم ذلك؟ معلوم أنه حرام، ومن العلماء من قال: إذا فقأ القوم عينه فلا جناح عليهم ولا إثم، ولا قصاص، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أيما رجل اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه، لم يكن عليهم جناح) وقال بهذا طائفة من أهل العلم.
بينما ذهب آخرون إلى أن هذا الحكم على سبيل التغليظ وليس القصد منه فقأ العين على الحقيقة، وذلك لقول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] ولقوله تعالى أيضاً: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة:45] قالوا: وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي روي عنه بإسناد ينظر فيه: (أن رجلاً أتى إلى النبي وكان حاد اللسان متكلماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: قم فاقطع لسانه) قالوا: ومعنى قول النبي: (قم فاقطع لسانه) أي: أعطه شيئاً حتى يسكت، قالوا: فليس المراد فقأ العين حقيقة، إنما المراد التغليظ في بيان العقوبة، هذا وجه قولي العلماء في هذا الباب.(35/5)
تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)
يقول الله سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] .(35/6)
أولو الإربة المذكورون في الآية
قال تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور:31] في تفسيرها أقوال: أحدها: الخدم الذين ليس لهم حاجة في النساء، أو المخنثون، والتخنيث على قسمين: تخنيث جبلي: يعني: رجل في خلقته مخنث.
تخنيث مكتسب: رجل يتشبه بالنساء ويتمايل كما تتمايل النساء، ويتكسر كما تتكسر النساء.
فالأول وهو المخنث تخنيثاً جبلياً لا حاجة له في النساء من أصل خلقته، فتظهر له المرأة زينتها، أما المخنث تخنيثاً مكتسباً فلا تظهر له المرأة زينتها، وإن اكتشف أن المخنث تخنيثاً جبلياً يصف المرأة منعت المرأة من إبداء زينتها له أيضاً، فكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مخنث يقال له: هيت (كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ذات يوم لـ عبد الله بن أبي أمية: يا عبد الله! إذا فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بـ ابنة غيلان) يعني: إذا غنمتم فاحرص على أن تكون من نصيبك ابنة غيلان وهي بادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي الذي كان متزوجاً بعشر نسوة، فهي إحدى بناته، (عليك بـ ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان) يصف تكسرات جسمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن هذا عليكم) فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول على أزواجه، وفي بعض الروايات: (لقد غلغلت إليها النظر يا عدو الله!) فإن اكتشف أن المخنث على هذا النحو فيمنع.
من العلماء من قال أيضاً: إن التابعين غير أولي الإربة أي: غير ذوي الحاجة في النساء، يدخل فيهم الشيخ الكبير الفاني الذي انقطعت حاجته في النساء، أو الرجل الأهطل الأبله الذي لا يفكر في النساء ولا يخشى منه، فهناك كم من شخص أهطل أبله لا يلتفت إلى النساء، إنما حاجته لقمة يأخذها من البيت أو نحو ذلك، فهذا أدخله أيضاً بعض العلماء في التابعين غير أولي الإربة من الرجال.
فعلى ذلك للمرأة أن تبدي زينتها لمثل هؤلاء المذكورين في كتاب الله عز وجل.
{أَوِ الطِّفْلِ} [النور:31] الطفل هنا اسم يطلق للمفرد ويطلق للجمع، لكن المراد به هنا الجمع بمعنى الأطفال، بدليل قوله تعالى: {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] .
والأطفال على نوعين: - طفل مميز يفهم أمور النكاح وقد تهيج به الشهوة أحياناً وإن لم يكن بالغاً.
- وطفل لا يفهم شيئاً من ذلك، فالطفل الذي ظهر على عورات النساء، فيعرف عورة المرأة، ويعرف الجماع ونحو ذلك؛ فهذا لا تظهر له المرأة زينتها، كالمراهق ابن العشر السنين، أو ابن إحدى عشرة سنة، أو اثنتي عشرة سنة، أما الطفل الذي لا يميز شيئاً من هذا فتظهر له الزينة.
{وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} [النور:31] يعني: لا تضرب المرأة برجلها ليعلم ما تخفي من زينتها، وكانت المرأة تلبس الخلخال، فإذا مرت برجال وضربت برجلها أحدث الخلخال صوتاً فيلتفت إليها الرجال ينظرون إلى عراقيبها وإلى ساقيها من أسفل، وهذا من حيل النساء، كان هذا في زمان رسول الله وقبل زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرأة اليوم تكشف مباشرة إلى ما فوق الركبة، ولا تحتاج إلى أن تضرب بالخلخال، حتى ينظر شخص إلى موطن الخلخال.
قال تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] فأي شيء يدعو إلى إظهار المخفي من الزينة تنهى عنه المرأة، مثلاً إذا جاءت المرأة ورفعت بعض ثوبها لتري الناس الثوب الأسفل أو قميص اليوم مثلاً أو أي شيء من ذلك دخلت في الذنب -والعياذ بالله-، وإن تطيبت حتى يلتفت إليها الناس دخلت في الذنب، وإن وضعت على شعرها ما يلفت النظر إليها ويظهر ما قصي من زينتها دخلت في الذنب.
قال تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} [النور:31] أي: لا يزكي أحد منكم نفسه، فإن ابن آدم كتب عليه نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك قال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] فاللمم يقع فيه الجميع، ومن اللمم النظر، فجاء بعد الأمر بغض البصر أن هناك تجاوزات ستحدث، ولا يستطيع أحد أبداً أن يطبق الآية (100%) ، بل لابد أن يظهر منه خلل، فإن النبي قال في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر ... ) الحديث، فلذلك جاء التذييل في الآية بالتوبة التي تجب ما قبلها، وذلك لما يعتري التطبيق من خلل، ولا أخال أحداً قد نجا، فلابد وأن يكون صدر شيء من ذلك من الشخص، فجاء التذييل بقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] ويدخل في الخطاب المؤمنات.(35/7)
المراد بقوله: (أونسائهن أو ما ملكت أيمانهن)
{أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] : من أهل العلم من قال: إن المراد بهن نساء المؤمنين، يعني: النساء المؤمنات بصفة عامة، فللمرأة أن تبدي الزينة للمؤمنات، وعلى هذا القول لا يجوز للمرأة أن تبدي زينتها لامرأة كافرة، فما بالنا المرأة تبدي زينتها لرجل كافر، تذهب ليلة الزفاف لمصور نصراني يصورها، عياذاً بالله من ذلك! .
ومن العلماء من قال: إن المراد بنسائهن جنس النساء، وأيد هذا القول بأن يهودية كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
أهل القول الأول قالوا: لا تدخل النساء الكافرات؛ لأن النساء الكافرات قد يصفن المرأة للكفار ويفشين أسرارها، فأجيب على ذلك بأن من النساء المسلمات أيضاً فاسقات قد يفشين سر المرأة للأجانب، وهذا محرم في حق الجميع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها) .
قال سبحانه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] : من العلماء من قال: إن المراد الإماء المسلمات، يعني: للمرأة أن تظهر زينتها للأمة المسلمة.
ومنهم من قال: ملك اليمين هنا عامة، للمرأة أن تظهر زينتها لعبدها أيضاً، واستدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في شأن فاطمة أنه كان لها خادم، وكان لها في البيت ثياب قصيرة إذا غطت رأسها بدت رجلاها، وإذا غطت رجليها بدا رأسها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هو أبوك وغلامك) ولكن ينظر في صحة هذا الحديث، فأنا بعيد عهد به، والله أعلم.(35/8)
المحارم الذين يجوز للمرأة أن تظهر زينتها أمامهم
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] البعل يرى كل شيء من المرأة، فقد تقدم بيان بطلان حديث (نظر الرجل إلى فرج امرأته يورث العمى) فهو حديث ضعيف جداً بل حكم البعض بوضعه.
قوله: {أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] يرى الأب من ابنته كما قال كثير من أهل العلم، ما يظهر منها غالباً، كمواضع الوضوء وشعرها، ورجليها، وذراعيها ونحو ذلك، فهذا هو الذي يظهر غالباً منها، واستدل لهذا القول بحديث ابن عمر رضي الله عنهما في البخاري: (كان الرجال والنساء يتوضئون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً) فهذا الحديث إما أن يحمل على ما قبل الحجاب، وإما أن يحمل على المحارم، وفي الحالين يتم الاستدلال به، ولما جاء بعض محارم عائشة يسألها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت بينها وبينهم ستراً، فاغتسلت وأظهرت لهم رأسها، وصبت على رأسها الماء، هذا مستند القائلين بأن المحرم يرى ما يظهر من المرأة غالباً كما ذكر.
ثم إن هناك بعض المواطن التي تمتنع المرأة فيها عن إظهار بعض أجزائها أو جسمها لمحرمها، وهذا إذا كان المحرم فاسقاً يخشى منه أن يعتدي على محرمه، فحينئذٍ تتستر المرأة منه دفعاً لشره ولفساده، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال لـ سودة بنت زمعة: (واحتجبي منه يا سودة) أي: من ابن وليدة زمعة والله أعلم.
قوله: {أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] وهو أبو الزوج، أما أن يذهب أبو الخاطب كما يفعل بعض الجهلة يريد أن يرى مخطوبة ابنه قبل العقد، ويطمئن على شكلها وجمالها فليس هذا من حقه، فليس له أن يراها إلا إذا عقد ولده عليها، أما أن يراها وليست هناك صلة محرمية بينهما فلا يجوز له ذلك.
قوله: {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} [النور:31] أي: المرأة مع ابنها، ويرى ابنها منها زينتها، هذا الأمر مرده إلى الأعراف السائدة وإلى الملابسات التي تحيط بكل أسرة، فليس معنى أن الابن يرى زينة أمه أنها تتبرج له تبرجاً زائداً مزرياً، فيتحرك الشيطان في نفسه بسبب هذا التبرج، فهنا تتدخل نصوص عامة لتحسم هذه المواقف كقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] (لا ضرر ولا ضرار) .
((أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ)) [النور:31] أي: ابن الزوج من امرأة أخرى.
((أَوْ إِخْوَانِهِنَّ)) [النور:31] أخوها.
((أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ)) [النور:31] ابن أخيها أو ابن أختها.
قال بعض أهل العلم: لم يذكر العم والخال لأنه قد ينعت المرأة لأبنائه، وهذا التعليل واه، والله أعلم، والصواب أن السنة قد بينت أن العم والخال له أن يرى أيضاً، وله أن يدخل أيضاً على بنت أخيه أو بنت أخته، من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في شأن أفلح أخي أبي العقيس لما كان عماً لـ عائشة من الرضاعة، وعائشة منعته من الدخول عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه عمك ليلج عليك) فإذا كان العم من الرضاعة يدخل فالعم من النسب من باب أولى.
المحارم المذكورون في الآية من النسب، وإذا كانوا من الرضاعة، فيجري عليهم نفس الحكم، يعني: إذا كان الرجل ابنها من الرضاعة وابن أخيها من الرضاعة وابن أختها من الرضاعة، فكل هؤلاء يدخلون عليها أيضاً وتبدي لهم الزينة.(35/9)
وجوب تغطية الرأس والوجه للمرأة
قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} [النور:31] الخمر: جمع خمار وهو ما تتغطى به المرأة، فقد تخمر المرأة رأسها فيكون الخمار هو ما خمر الرأس أي: غطاه، فالخمار الشيء الذي يغطي، قالت أم المؤمنين عائشة: (فلما رأيت صفوان بن المعطل خمرت وجهي بجلبابي) أي: غطيت وجهي بجلبابي.
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} [النور:31] الضرب: من معانيه التغطية، ومنه قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5] أي: أفنهمل ذكركم؟ ومنه قول الرجل لولده: اضرب على هذا الحديث يعني: امحه، وقوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11] فقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ} [النور:31] أي: وليغطين.
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] والجيب: فتحة الصدر التي يدخل منها الشخص رأسه وهو يلبس الثوب، ومنه قول الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل:12] فهو فتحة الصدر، فقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] أي: يغطين بخمرهن على فتحات صدورهن.
أما الدليل على تغطية الوجه فهو المقطع الأول للآية: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال الإمام أحمد رحمه الله كما نقل عنه القاضي أبو يعلى: المرأة كلها عورة حتى ظفرها، لا يحل لها أن يظهر منها شيء حتى الظفر.
هذا رأي الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] .
من العلماء من فصل في مسألة الزينة وقسمها تقسيماً حاصله: أن الزينة منها ما هو خلقي -يعني من أصل الخلقة- ومنها ما هو مكتسب، فالمكتسب: كالكحل وأنواع المكياج الذي تتزين به المرأة ونحو ذلك، والخلقي: ما كان من أصل خلقتها، فمن العلماء من قال: إن الزينة هنا الزينة الخلقية، ومنهم من عمم، وسيأتي.
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] البعل: هو الزوج، كما قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء:128] فالبعل: الزوج.
وقوله تعالى: {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] .
من العلماء من سلك هنا مسلك النظر وقال: إن الزينة التي تظهر من المرأة تختلف من محرم إلى محرم آخر، ولم يكن هناك نص يحدد ذلك، لكن الزينة التي يراها البعل من امرأته أوسع من الزينة التي يراها أبوها منها إجماعاً، فللزوج أن يرى من امرأته كل شيء، أما أبوها فلا يحل له أن يرى مثلاً عورتها المغلظة، وكذلك أشياء من الأجزاء في جسدها لا يراها الأب.
كذلك قال العلماء: إذا كانت هناك امرأة متزوجة برجل له أولاد من امرأة أخرى فهم محارم لامرأة أبيهم، لكن لا يرون منها القدر الذي يراه أبواها منها، فأبو المرأة محرم وابن زوجها محرم، لكن أبوها يرى منها أكثر مما يرى منها ابن زوجها، وليس على هذا نص صريح من الكتاب والسنة، ولكنه مبني على مسألة المفاسد، والله أعلم، فالمفسدة من ابن الزوج أعظم، وهي من الأب أخف، لأن الأب لا يفكر في الاعتداء على ابنته، لأنها عرضه، أما ابن الزوج فقد يتجرأ على امرأة أبيه، وكلاهما محرم، لكن الشر المتوقع من ابن الزوج أعظم من الشر المتوقع من الأب في الغالب، فهذا وجه تفصيل من فصل، ومبناه على النظر الصحيح عنده، والله تعالى أعلم.(35/10)
المراد بالزينة المذكورة في الآية
{وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] ما المراد بهذه الزينة المذكورة في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] ؟ لأهل العلم في ذلك أقوال: أقوى هذه الأقوال من ناحية السند وصحته قول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن هذه الزينة هي الرداء والثياب) فمن شأن العرب أن نساءهم كن يلبسن العباءة السوداء وتحتها ثوب ملون، فأحياناً يظهر ذيل الثوب الملون من أسفل العباءة، ويشق على المرأة ستره، فهذا الذي فسر به ابن مسعود الآية، فمن النساء الآن من تلبس العباءة السوداء وتأتي عند الرجال وتفتحها، فيرى الرجل الثوب الذي بداخلها فيفتن، فإذا كان شيء من ذلك يشق على المرأة ستره ولا تتعمد التبرج به جاز لها إظهاره، هذا قول عبد الله بن مسعود روي عنه بإسناد على شرط مسلم.
أما ابن عباس رضي الله عنهما فقد روي عنه بأسانيد في كل إسناد منها مقال وضعف، فذهب إلى أن ما ظهر منها هو الوجه والكفان.
وانتصر للقول الأول بأن الزينة التي على الشيء تكون خارجة عن أصله، فالله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف:7] فالذي على الأرض ليس من أصل الأرض، إنما هو شيء منفصل عنها، فليكن كذلك في تفسير الثياب للزينة فهو شيء منفصل عن المرأة، فالثوب والكحل والخلخال مثلاً، كل هذه الأشياء من الزينة لأنها خارجة عن المرأة، أما وجه المرأة في حد ذاته فلا يقال: إنه زينة؛ لأنه من أصل خلقتها.
هذا الذي انتصر به بعض المفسرين بالقول الأول كـ الشنقيطي رحمه الله تعالى صاحب أضواء البيان وغيره من العلماء، واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6] والكواكب ليست هي السماء الدنيا بل منفصلة عنها.
أما حديث: (يا أسماء! إذا بلغت المرأة المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا) وأشار إلى وجهه وكفيه فهو إسناد تالف مسلسل بالعلل، فهو من طريق الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة، والوليد بن مسلم مدلس وقد عنعن، وسعيد بن بشير ضعيف، وقتادة مدلس وقد عنعن، وخالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها، ثم هو بعد ذلك كله هل هو قبل الحجاب أو بعده؟ في ذلك أيضاً بحث، فالإسناد لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(35/11)
حفظ المرأة فرجها من المحرمات حتى ملك اليمين
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] وحفظ الفرج عن المحرمات، وتختلف المرأة في حفظ فرجها عن الرجل من ناحية ملك اليمين، فالرجل لا يحفظ فرجه عن ما ملكت يمينه، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5-6] أما المرأة فيجب عليها إجماعاً أن تحفظ فرجها من عبدها، وقد أتي في زمن عمر بن عبد العزيز بامرأة مكنت عبدها من نفسها، فسألها عن سبب ذلك، فاحتجت بالآية فعذرها بالجهل، وأظن أنه أقام عليها حد الجلد أما الرجم فلم يقمه عليها، وأقام حد الزنا على العبد.
وقوله سبحانه: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] أي: حتى من نظر النساء إليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) فالمرأة لا تنظر إلى عورة المرأة إلا عند الضرورة التي لابد منها، مثال ذلك: أن تكون المرأة تلد ولا بد لها ممن يولدها، فحينئذٍ تلجأ إلى امرأة تولدها، إذ القوابل كن معروفات على عهد السلف، أما أن تبادر بالذهاب إلى رجل كالرجال الذين وجدوا هذه الأيام وتخصصوا دناءة في التوليد، ورضوا لأنفسهم بأن يكونوا قوابل؛ فأن تبادر المرأة سريعاً بعرض فرجها على الرجال يعبثون بها، فهذا من المستقبح المستهجن.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(35/12)
نظر المرأة إلى الرجل
قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] الأمر قد توجه للمؤمنين بغض البصر، وكان بالإمكان القول بأن النساء يدخلن في خطاب الرجال فيكفي ذكر المؤمنين إذ يدخل فيه المؤمنات، ولكن الله تعالى نص ثانياً على النساء لانسحاب الحكم عليهن حتى لا يظن ظان أن النساء خارجات من الحكم.
فللتأكيد على أن الحكم ينسحب أيضاً على النساء قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] ونحو هذا مع بعض فارق في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] فالنساء يدخلن في القوم، ولكن نص عليهن للتأكيد، ولبيان أن السخرية منهن بعضهن من بعض أكثر.
قال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] والغض الخفض كما تقدم و (من) هنا: للتبعيض، فلم يقل: (يغضضن أبصارهن) لأن للمرأة أن تنظر إلى زوجها، فلذلك من العلماء من قال: إن (من) هنا للتبعيض.
يعني: لا يغضضن أبصارهن كلية، بل يغضضن أبصارهن عما حرم عليهن فقط، أما الذي لم يحرم عليهن فلهن أن ينظرن إليه، وهم الأزواج.
وبهذه الآية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] استدل فريق من العلماء على أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال أصلاً، لا بشهوة ولا بغير شهوة، إلا ما دعت إليه الضرورة، وأيد أصحاب هذا القول قولهم بحديث فيه ضعف ألا وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه ورأى عندهما ابن أم مكتوم فأنكر ذلك عليهما، فقالتا: إنه رجل أعمى يا رسول الله! قال: أفعمياوان أنتما) .
ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم منعهما من النظر إلى الأعمى، إلا أن هذا الحديث ضعيف الإسناد، وهو من طريق نبهان مولى أم سلمة، وهو ضعيف، هذا مجمل أدلة القائلين بمنع المرأة من النظر إلى الرجال أصلاً.
وضموا إلى هذين الاستدلالين أصلاً عاماً وهو: أن النظر طريق إلى الفساد وإلى الفاحشة، فمنعه من الأصل سداً للذريعة أي: ذريعة الوصول إلى المحرم، فأصبح هناك نصان وأصل عام، ألا وهو قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ومنه قاعدة سد الذرائع.
بينما رأى فريق من أهل العلم جواز نظر المرأة إلى الرجال إذا أمنت الفتنة، ولم يكن ذلك بشهوة، واستدلوا (بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حمل عائشة ووضع خدها على خده وجعلها تنظر من شق الباب إلى الأحباش وهم يلعبون في المسجد) .
واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ فاطمة بنت قيس: (اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده) فرأى هذا الفريق جواز نظر المرأة إلى الرجال إذا لم يكن مع ذلك شهوة، أما إن وجدت الشهوة فيمنع، أو إن كان النظر سيولد الشهوة فيمنع كذلك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(35/13)
تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم.)
يقول الله سبحانه: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] .
قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا} [النور:32] أي: زوجوا.
والمراد بالنكاح في أغلب آيات الكتاب العزيز عقد التزويج، وفي هذا عموم آيات الكتاب العزيز، إلا في مواطن ثلاثة: الموطن الأول: هو قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] فالمراد بالنكاح الحلم.
الموطن الثاني: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فالمراد بالنكاح على ما بينته السنة: الوطء الذي هو الجماع.
الموطن الثالث: وفيه نزاع، وهو قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] المراد به الجماع، أي: لا يطاوعه إلى زناه وإلى الجماع معه إلا زانية أو مشركة، أما ما سوى هذه الآيات فالمراد بالنكاح عقد التزويج.
قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا} [النور:32] أي: زوجوا.
فالخطاب للأولياء، وبه استدل كثير من أهل العلم على وجوب الولاية في النكاح، وهناك ما هو أصرح منه سواء من الآيات أو من الأحاديث، أما من الآيات: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] أي: لا تزوجوا أيها الأولياء المشركين حتى يؤمنوا، فاستدل بها أبو جعفر الباقر على إثبات الولاية في النكاح، أما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيها (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل) وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا نكاح إلا بولي) فهذه النصوص بنى عليها جمهور العلماء وجوب الولاية في النكاح على الثيب وعلى البكر، وأما أبو حنيفة فخالف بعض المخالفة في ذلك.
فعلى ذلك ما يطلق عليه اليوم بالزواج العرفي وهو: أن البنت تأتي إلى شاب في حضرة زميلين لهما كما يحدث في بعض الجامعات وتزوجه نفسه بحضرة شهود بدون ولي، فهذا النكاح باطل! باطل! قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى} [النور:32] والأيم: هو من لا زوج له من الرجال أو من النساء، أما من النساء ففي الحديث: (لما تأيمت حفصة بنت عمر من زوجها عبد الله بن خنيس) ، فالشاهد: قوله: (لما تأيمت) أي: مات عنها زوجها وأصبحت بلا زوج، فالأيم من لا زوج له من الرجال أو النساء.(35/14)
الزواج سبب من أسباب الغنى
{إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] هذه الآية هي التي يلتمس منها أن الفضل والغنى من الزواج.
أما الأحاديث الواردة في هذا الباب (تزوجوا فقراء يغنكم الله) فلا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك حديث: (اطلبوا الرزق في الزواج) لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث: (ثلاثة حق على الله عونهم: وذكر منهم: الناكح يريد العفاف) فحديث ثابت بإسناد حسن عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من الفقراء من أصحابه، فزوج الصحابي الذي جاء وقال: (ما عندي إلا إزاري هذا يا رسول الله! أقسمه بيني وبينها نصفين) فوصل إلى هذه الدرجة من الفقر! ومع ذلك زوجه الرسول صلى الله عليه وسلم على ما معه من القرآن.
قال سبحانه: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] فواهب العطاء عليم بمن يصلحه المال ممن يفسده، فينزل بقدر ما يشاء.(35/15)
إشارة الآية إلى منع الاستمناء
ثم أرشد الله سبحانه وتعالى إلى التعفف والاستعفاف وطلب العفة لمن لم يجد النكاح: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33] أي: مؤن النكاح وتكاليفه.
وفي الآية من طرف خفي إشارة إلى منع الاستمناء؛ لأن الله عز وجل أرشد إلى التعفف ولم يرشد إلى الاستمناء، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج.
، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ولم يرشد إلى الاستمناء، وأصرح من ذلك في المنع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7] والاستمناء من وراء ذلك.
فعلى ذلك ما يفعله شرار الشباب والنساء من العبث بأنفسهم الأمر فيه كما قال الشافعي: أنه محرم.
استدلالاً بالآية الكريمة: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] فجدير بمن تسول له نفسه فعل هذا أن يذكر أن الله رقيب عليه، وأن لله ملائكة تراقب ولا تفارق الشخص، فعليه أن يذكر ذلك ويستحي من الله ومن ملائكة الله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33] ومن يستعفف يعفه الله، يعني: من سلك طريق التعفف وابتغاه أعانه الله عليه ويسره له، أما من أتبع نفسه شهواتها فيوشك أن تزل قدمه والعياذ بالله! {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33] أي: لا يجدون مؤن النكاح وتكاليفه {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] .
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور:33] أي: يطلبون الكتاب، والمراد بالكتاب المكاتبة، وهي ما تكون بين العبد وسيده، يكاتب العبد سيده، أي: يتفقان على أن يشتري العبد نفسه من سيده بمبلغ من المال، ويكتبان ذلك، ويبدأ في السعي لسداد ما عليه من الدين، فإذا انتهى المال الذي تكاتبا عليه أعتق، هذا المراد بالكتاب، أي: المكاتبة التي تكون بين العبد وبين سيده حتى يتحرر به العبد.
ورب العزة يقول: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} [النور:33] أي: يطلبون المكاتبة {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33] أي: لا تتباطئوا في مكاتبتهم، فإنه قد يتباطأ السيد ويقول: لا أكاتب؛ متحكماً في رقبة عبده، فرب العزة يقول: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33] .
وهل الأمر بقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33] أمر إيجاب؟ رأى ذلك بعض أهل العلم واستدلوا بما صنعه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مع أنس بن مالك وعبده سيرين، أبي محمد بن سيرين فـ سيرين كان عبداً عند أنس وكان لـ سيرين مال كثير، وعلم أنه إذا مات وهو عبد عند أنس فسيأخذ أنس ماله، فأراد سيرين أن يكاتب عن نفسه، فأبى ذلك أنس، فترافعا إلى أمير المؤمنين عمر فقال لـ أنس: لتكاتبنه أو لأوجعتك ضرباً، فكاتب أنس ابن سيرين، ورب العزة يقول: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] .
قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] فيه للعلماء تأويلات: أحدها: أن المراد بالخير المال، واستدل له بأن عموم ذكر الخير في الكتاب العزيز يراد به المال، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] أي: المال.
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] خيراً: مالاً.
فمن العلماء من قال: إن معنى قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] أي: إن علمتم عندهم مالاً.
ولا تكاتبوهم وتتركوهم يتسولون ويسرقون حتى يأتوا بالمال الذي كاتبوكم عليه، والحالة هذه فيها دفع الفساد من سرقتهم، ودفع الفساد من تسولهم، لكن إن كنتم ترون أنهم يعملون أعمالاً تدر لهم مالاً فكاتبوهم، هذا وجه في التأويل.
والوجه الآخر: أن المراد بالخير الصلاح، أي: فإن كانوا أهل صلاح فكاتبوهم وأعتقوهم، فهذا هو المعنى الثاني.
قوله: {وَآتُوهُمْ} [النور:33] أي: أعطوهم من مال الله الذي آتاكم، وما المراد بمال الله؟ هل المراد به الزكاة؟ أي: أن من كاتب عن نفسه قد أصبح من أهل الزكاة، فليعط منها، قال بذلك فريق من العلماء لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] هذا بند في الرقاب أي: لتحرير الرقاب، ومن العلماء من قال: يتصدق عليه صدقة عامة.
{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] من العلماء من قال: تترك له الربع أو العشر فمثلاً: كاتبته على ألف جنيه فاترك له مائة أو مائتين أو ثلاثمائة إحساناً منك إليه.
{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور:33] والفتيات المراد بها: الإماء، فالفتاة أحياناً أو في الغالب تطلق على الشابة، والفتى يطلق على الشباب، وأحياناً يقال: فتاي أي: عبدي وفتاتي أي: أمتي، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي ولكن ليقل: فتاي وفتاتي) فالغالب أن الفتاة شابة، والفتى هو الشاب حراً كان أو عبداً لكن المراد هنا الإماء، {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ} [النور:33] أي: إمائكم {عَلَى الْبِغَاءِ} [النور:33] أي: على الزنا.
فالبغاء هو الزنا، ومنه قول قوم مريم لمريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] أي: زانية.
وهل كان هناك أحد يكره فتاته على البغاء؟ نعم.
كان ذلك موجوداً.
فكان السادة الذين لهم عبيد وعندهم إماء إذا أتاهم الضيف فمن الإكرام الذي يكرمونه به أن يقدموا له الإماء يزني بهن، ومنهم من كان يرسل فتياته الإماء ليزنين بالإكراه، إكراه منه لهن حتى يتقاضى الأجور من ورائهن، كـ عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين كان عنده إماء، وكان يكرههن على الزنا تشرفاً بذلك عند أضيافه، وطلباً للمال من الذين يستأجرونهن.
فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] المراد بالتحصن هنا: العفة، فهنا يطرح
السؤال
إذا لم ترد المرأة تحصناً هل له أن أكرهها؟ فالإجابة: أن قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] خرج مخرج الغالب، فإذا لم تكن هي مريدة للتحصن فلا وجه للإكراه، إذا كانت هي زانية فهي ستزني باختياره واختيارها فانتفى الإكراه، وهذا ليس مباحاً بل حرام، لكن هذا وجه قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] فإنها خرجت مخرج الغالب.
قال سبحانه: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] أي: عفة وطهارة وامتناعاً من الزنا.
{لِتَبْتَغُوا} [النور:33] أي: لتطلبوا {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: متاع الحياة الدنيا، وقيل له عرض لأنه كالجملة الاعتراضية بين الجمل من الممكن أن تقوم الجمل بدونها، وكذلك الدنيا عرض زائل، كما قال القائل: (الدنيا ظل زائل) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا، إنما أنا والدنيا كراكب استظل بظل شجرة ثم قام وتركها) .
{لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فيها وجهان: أحدهما: غفور رحيم للفتاة إذا أكرهت، فتكون الآية من آيات رفع الحرج عن العباد.
والوجه الثاني: غفور رحيم لمن أكرههن ثم تاب من هذه الفعلة بعد نزول الآية، ففيها الوجهان.
{وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] : هل هناك فرق بين الرجل إذا أكره على الزنا، وبين المرأة إذا أكرهت على الزنا؟ فرق بينهما، فالمرأة قد تكره على الزنا وتزني رغماً عنها، بأن يتسلط عليها شرار المفسدين وتزني رغماً عنها، أما الرجل فلا ينتشر ذكره إلا إذا أراد هو من داخله ذلك، أي: لا يستطيع أحد أن يكره الرجل على أن ينتشر ذكره للجماع، هذا وجه التفريق.
فمن العلماء من قال: لا يلتمس للرجل عذر في أنه أكره على الزنا، ومنهم من قال: إذا كان العذر قد التمس له إذا نطق بكلمة الكفر فلأن يلتمس له عند الزنا من باب أولى، وهناك تفريقات محلها كتب الفقه.
{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور:34] واضحات ظاهرات مزيلات للإشكال، {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34] والموعظة هي الشيء الزاجر الذي يزجر الشخص ويخوفه.(35/16)
الحث على النكاح في نصوص القرآن والسنة
{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى} [النور:32] أي: زوجوا من لا زوج له، فيؤخذ منه إما الاستحباب وإما الوجوب، إذ الأمر في الغالب إما للإيجاب أو للندب، أو للإباحة في بعض الأحيان، فهل النكاح واجب أو مستحب أو مباح؟ من العلماء من قال: تنسحب عليه الأحكام الخمسة، فيجب إذا كان الشخص سيفتن في دينه إذا لم يتزوج، فحينئذٍ يجب عليه الزواج، سداً للذريعة الموصلة للفساد، وأحياناً يستحب، والأصل في هذا الباب أن الأمر بالنكاح محمول على أنه مستحب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) ولقول عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] ولقول زكريا عليه الصلاة والسلام: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] .
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.
، منها: ولد صالح يدعو له) .
ولقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] ولقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] .
ولأن النكاح سنة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظغون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) ، ولقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (تزوجوا فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءا) ، ولقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لو لم يبق من حياتي إلا ليلة لأحببت أن يكون لي فيها زوجة) .
فكل هذه النصوص تدفع في نحر من قال إن ترك الزواج أولى، ويستدلون ببعض الأفعال مع السلف لهم فيها أحوال خاصة، ويجعلونها أصولاً، والأصل دائماً مع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلا معنى لبرود شخص يقول: إن ترك النكاح أولى ويتشبث بخيوط أوهى من خيوط العنكبوت، فخير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما العلماء الذين قالوا: إنه مباح فقط، فقالوا: إن شأن النكاح شأن الأكل والشرب والتلذذ بهما، فكما أن للشخص أن يأكل ويشرب ويتلذذ بالأكل والشرب، فله هذا أيضاً مع النكاح إن شاء ترك وإن شاء فعل، لكن النصوص الواردة: (إني مكاثر بكم الأمم) وجمعه صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة عنده، كل هذا يؤيد الاستحباب.
{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32] فيها نص على استحباب تزويج أهل الصلاح.
: {مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32] أي: من العبيد، وقد وردت قراءة فيها ذلك (من عبيدكم) لكن الأصح: {مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32] والمراد بها العبيد.
{وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] الإماء: جمع أمة وهي المملوكة، أي: زوجوا العبيد والمماليك، وهل للثيب أن يزوج عبده ويجبره على الزواج؟ قال جمهور العلماء بذلك، وخالف في هذا فريق من العلماء وقالوا: ليس للثيب من مملوكه إلا الخدمة على ما ورد في الأحاديث، وهل له أن يزوج أمته؟ فقال الجمهور: له أن يزوج أمته ويجبرها على الزواج؛ لأن له فيها حق الصداق.(35/17)
تفسير قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض)
{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] من العلماء من قال: أي منور السماوات والأرض، وفيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وفي الحديث: (اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ... ) الحديث.
وفي الباب قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الزمر:69] .
{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] ثم ضرب لنوره مثلاً، والأمثال يتجوز فيها بعض التجوز عند المفسرين، فلا يلزم أن يتحد المفسرون على وجه واحد في تفسير المثل، بل في هذا الباب فسحة لأهل التفسير ما لم يخالفوا نصاً شرعياً أو أصلاً من الأصول في الكتاب والسنة، فلهم فسحة في تفسير الأمثال وتقريبها إلى الأذهان، والله أعلم.
ورب العزة يقول: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وكان بعض السلف إذا مر به مثل من الكتاب العزيز ولم يفهمه يتأسف على نفسه ويقول: إن الله عز وجل قال في كتابه الكريم: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] فعلى ذلك ليس هو من العالمين إذا لم يفهم المثل.
{مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35] قال بعض العلماء: هنا مضمر، والتقدير: مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة فيها مصباح، والمشكاة باتفاق المفسرين على ما ذكره عدد منهم هي الطاقة التي في الغرفة: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35] فعندنا الآن غرفة فيها طاقة، والطاقة فيها زجاجة مصباح، عندنا ثلاثة أشياء أو أربعة، غرفة بداخلها طاقة أي: كوة كالتي كانت من قبل في بيوت أهل القرى، هذه الطاقة فيها زجاجة، الزجاجة زجاجة مصباح وبداخلها المصباح، وفتيلة مصباح موضوعة في الزجاجة.
{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] المشكاة مثل لها بعض العلماء بصدر العبد، والزجاجة التي بداخل المشكاة هي قلب العبد، ونور المصباح هو نور الإيمان الذي في القلب، هذا تفسير بعض أهل العلم، وهو مضمون تفسير ابن القيم رحمه الله تعالى، في تفسيره القيم وفي غيره.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(35/18)
تفسير سورة النور [35-47]
لقد وصف الله سبحانه وتعالى قلب المؤمن وشبهه بالزجاجة، من حيث الرقة والبياض والصلابة، فالمؤمن ذو قلب رقيق رحيم بإخوانه المؤمنين، وذو قلب أبيض نقي من الغل والحسد والحقد وغيرها، وذو قلب صلب شديد على الكفار من يهود ونصارى ومنافقين ومشركين وغيرهم من أعداء الله، وعلى المؤمن أن يعلم أن القلب يصدأ ويصاب بالران بسبب الذنوب والآثام التي يرتكبها، فعليه حينئذ أن يقوم بمعالجة قلبه، وتنظيفه من تلك الشوائب، وذلك بالتوبة والاستغفار والمسارعة بفعل الطاعات والخيرات، وكذلك بترك المنكرات والموبقات.
ولقد وصف الله أصحاب هذه القلوب البيضاء بأنهم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن الحامل لهم على ذلك هو خوفهم من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهو يوم القيامة.(36/1)
تفسير قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] .
تقدم الكلام على مطلع هذه الآية بما حاصله: أن من أهل العلم من قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] أي: منور السماوات والأرض، واستدل له بقوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69] ، واستدل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) ، واستدل له بالأثر إن ثبت هذا الخبر: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات) ، ونحو ذلك.(36/2)
حقيقة وقود المصباح المذكور في الآية
قال الله سبحانه وتعالى: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِة} [النور:35] ، ما هو وقود هذا المصباح؟ ما هو (الكيروسين) الذي يشتعل به؟ قال تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35] فوصف رب العزة سبحانه شجرة الزيتون بأنها شجرة مباركة، وقد جاء ذكرها في سور أخرى من الكتاب العزيز، قال الله سبحانه: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون:20] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما حسنه بعض العلماء: (كلوا الزيت وادهنوا به، فإنه يخرج من شجرة مباركة) يعني عليه الصلاة والسلام: زيت الزيتون.
وقد ذكر له الأطباء الأوائل جملة هائلة من الفوائد في التفاسير، وكذا ذكروا للتين أيضاً جملة كبيرة جداً من الفوائد، ذكرها الرازي في تفسيره عند تفسير قول الله جل ذكره: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1-3] .
قال الله سبحانه: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35] والبركة لها معنيان: أحدهما: ثبوت الخير في الشيء، يقول لك قائل مثلاً: بارك الله فيك، يعني: ثبت الله الخير فيك.
ثانيهما: تطلق البركة على الازدياد والنمو، على النمو الذي هو الكثرة والازدياد، فهذان من معاني البركة، وشجرة الزيتون على هذا يرحمك الله! فيها بركة ثابتة فيها، كما قال تعالى: {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور:35] والخير فيها ثابت، وقد استعمله كثير من المرضى الذين كانوا يستعملون المناظير، استعملوا زيت الزيتون وشربوه في الصباح على الريق، وأضافوا إلى ذلك بعض العسل وبعض الحبة السوداء؛ فكان سبباً في شفائهم، والله سبحانه أعلم.
قال الله سبحانه: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] أي: أنها لا تأتيها الشمس من ناحية المشرق ولا من ناحية المغرب، بل هي وسط بين ذلك، لا تتعرض مباشرة للشمس، وأهل الاختصاص يقولون: وهذا أحسن ما يكون من الزيتون، وهو الذي لا يتعرض للشمس تعرضاً مباشراً، أي: يأخذ منافع الشمس ولا تحرقه الشمس.
قال الله سبحانه: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35] أي: من صفاء زيتها وجودة زيتها وحسن زيتها يكاد من صفائه يشتعل ويتوهج من دون أن تمسه النار، وهذا يتنزل على قلب المؤمن الذي بداخله مادة الإيمان، إذا كان القلب أبيض، وفيه الإيمان والفطرة السليمة، يكاد هذا يتوافق مع هذا، مادة الإيمان والفطرة السليمة مع قلب أبيض، يكاد هذا الرجل يتكلم بالحكمة قبل أن يأتيه الدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذا كان الشخص متخففاً من الذنوب، متخففاً من أثقالها، متخففاً من المعاصي ومظالم العباد، بداخله فطرة سليمة وإيمان يكاد ينطق بما يوافق الدليل قبل أن يأتيه الدليل من الكتاب والسنة.
فإذا أتى إلى زيت الزيتون وأشعله (بالكبريت) فإنه يتوهج ويعطي أحسن الإضاءة، كذلك إذا جاءت المؤمن -الذي فطرته سليمة- الأدلةُ من الكتاب والسنة ازداد نوراً على نور، فمثلاً: عمر لفطرته السليمة وإيمانه العظيم، كان يتكلم بالحكمة قبل أن يأتيه الدليل من رسول الله، فإذا جاء الدليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم توهج هذا مع ذاك، قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى يا رسول الله! فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ) ، وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أمرت نساءك بالحجاب يا رسول الله! فتنزل آية الحجاب) ، قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تقبل الفدية من أُسارى بدر يا رسول الله! فينزل قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67] ) وهكذا تأتي موافقات عمر لربه سبحانه، يتكلم بمقتضى الدليل قبل أن يأتي الدليل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فرب العزة يقول: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35] ، فإذا مسته النار فتوهج فأصبح هناك: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] ، كذلك القلب المتخفف من الذنوب والآثام والمعاصي، المليء بالإيمان، إذا جاءه علم الكتاب والسنة ازداد بهاءً على بهائه، وحسناً إلى حسنه، فالله يقول: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] ، لكن هذا النور المتفضل به في الأصل هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يهدي لنوره من يشاء، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33] ، وكما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100] ، وكما قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] .
فهذا النور أصله من الله سبحانه وتعالى، فهو المتفضل به على العباد، ومن ثم يقول أهل الإيمان في أُخراهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يسأل ربه عز وجل هذا النور فيقول: (اللهم! اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، اللهم! أعظم لي نوراً) كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو ربه عز وجل بهذا؛ لأنه يعلم تمام العلم أن المتفضل به والواهب له هو الله سبحانه وتعالى.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ذلك النور ضل) ، وهنا ليست المسألة عشوائية، لم يرش النور بدون حكمة، لكن الأمر كله يجري بتدبير الله سبحانه وتعالى، هو أعلم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية، فقد مضت سنته سبحانه وتعالى على أن فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] أي: خلقنا لجهنم أقواماً، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] تجد في الطفل من الصغر علامات الشقاوة وعلامات الكفر لائحة عليه، وآخر علامات الهدى وعلامات الشفقة والرحمة من الصغر لائحة وبادية عليه، قال سبحانه: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] ، وقوله تعالى في ختام الآية: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] لهذا الختام وجهان: الوجه الأول: أن الله عز وجل يضرب الأمثال للناس، وهو سبحانه العليم بتأويل هذا المثل، فالله سبحانه قال بعد قوله: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] أي: عليم بمن أول المثل تأويلاً صحيحاً، وبمن أوله تأويلاً غير صحيح، هذا وجه.
الوجه الثاني: أن قوله سبحانه: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] راجع إلى قوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] فالمعنى: أنه قد يتسرب إلى شخص فهم رديء ويقول: ما ذنب هذا الذي لم يهده الله لنوره حتى يعذب؟ فجاء الله بالآية الكريمة: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] أي: عليم بمن يستحق الهداية فيهديه، وعليم بمن يستحق الغواية فيغويه سبحانه وتعالى، يهب لهذا الإيمان، وهذا تزل قدمه في الكفر والعياذ بالله! {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] ، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] فلا تعترض إذاً إذا علمت ذلك.(36/3)
معنى المشكاة ووجه الشبه بين قلب المؤمن والزجاجة
ثم قال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35] قال بعض العلماء: أي: في قلب المؤمن، {كَمِشْكَاةٍ} [النور:35] وهي: الكوة التي في الغرفة، {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35] كأن هنا غرفة بها كوة، الكوة فيها زجاجة مصباح، الزجاجة بداخلها مصباح، وتقدم تأويل ذلك بما حاصله: أن الزجاجة هي قلب المؤمن، والمشكاة صدر المؤمن، والمصباح هو نور الإيمان الذي فيه.
وقدمنا أن الزجاجة التي شبه قلب المؤمن بها جمعت ثلاثة أوصاف: الوصف الأول: الرقة، لكونها زجاجة مصباح، وزجاج المصابيح رقيق.
والوصف الثاني: البياض، إذ هي كالكوكب.
والوصف الثالث: الصلابة، إذ هي كالدرة.
فهذه ثلاثة أوصاف وصفت بها هذه الزجاجة التي يشبهها قلب المؤمن، فقلب المؤمن قلب رقيق، قلب صلب، قلب أبيض، رقيق لأهل الإيمان وللأقارب والأرحام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأهل الجنة ثلاثة: رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومؤمن) ، وقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] ، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] ، فقلب المؤمن لين رقيق لأهل الإيمان والأرحام، قلب صلب في الثبات على الحق، وصلب لمجابهة أهل الشرك والنفاق.
ومن صفات قلب المؤمن: أنه في الأصل قلب أبيض كزجاجة المصباح، فهي بيضاء كالكوكب.(36/4)
تنظيف القلب من الذنوب والمعاصي كما تنظف زجاجة المصباح
المعهود قديماً عند أمهاتنا اللواتي كن يستعملن المصابيح في الكوات، أن زجاجة المصباح يومياً تتسخ، يترسب عليها سواد، فتحتاج إلى أن تمسح وإلى أن تنظف، فكان من الورد اليومي للأمهات في الصباح أن تمسح زجاجة المصباح، تأتي بخرقة وتضع فيها بعض الماء القليل ثم تمسح بها زجاجة المصباح، كذلك قلب المؤمن يترسب عليه كل يوم سواد الذنوب، وآثار المعاصي التي لا بد وأن ترتكب، وقولنا: لا بد وأن ترتكب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم) ، لا بد وأن تذنب؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] ؛ ولقوله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً) ؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة) ، فهذه نصوص تدل على أن العبد لا بد وأن يذنب، أما حديث: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) فهو حديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم على الصحيح، وإن كان معناه صحيحاً.
إذاً: لابد وأن تذنب النفس، هذه الذنوب ترسب على القلب سواداً، كما يترسب على زجاجة المصباح السواد، فيحتاج القلب إلى غسيل كما تحتاج زجاجة المصباح إلى غسيل، حتى تشع الضوء الذي بداخلها كاملاً إلى الكوة، والكوة تشع الضوء بدورها إلى الغرفة، أما إذا كانت زجاجة المصباح سوداء معتمة فلا يخرج منها ضوء إلى المشكاة، ولا يخرج منها ضوء إلى الغرفة، كذلك الإيمان الذي في القلب، ومعرفة الله التي بداخله، يحتاج الإيمان إلى أن يخرج من القلب إلى الجسد؛ حتى يملأ الصدر والجسد نوراً، فإذا كان العبد مذنباً فالأمر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أذنب العبد ذنباً نكتت على قلبه نكتة سوداء، فإن تاب وأقلع محيت، وإن عاد وأصر نكتت نكتة أخرى حتى يغطى القلب كله، ثم تلا: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ، فقال: هذا هو الران الذي ذكر الله في كتابه) .
فالسواد على القلب يمنع الإيمان ونور الإيمان من الخروج من القلب إلى الصدر، فتجد الصدر مظلماً، كما أن المشكاة تكون مظلمة إذا كانت الزجاجة سوداء، فتجد اليد تتحرك في ظلمة، والرجل تخطو في الظلمات، والعين تنظر في الظلمات، وهكذا يتحرك كبهيمة عمياء إذا كان القلب قد اسود من المعاصي، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة) ، وفي رواية: (إني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة) ، وجاءت النصوص التي تحث على التوبة والاستغفار بكثرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا استغفر الشخص فقد غسل قلبه، فيخرج نور الإيمان منه إلى الصدر ويمتد هذا النور إلى الجوارح، فتجد الرِجْل لا تخطو إلا في طاعة الله، والعين لا تنظر إلا إلى ما يحبه الله، واليد لا تبطش إلا فيما يرضي الله، واللسان لا يتكلم إلا بما يرضي الله، وهذا النور يصاحبك في قبرك، فيأتيك عملك في صورة رجل حسن الثياب حسن الوجه، هذا النور يصاحبك عند المرور على الصراط، بحسب هذا النور وقوة الإضاءة التي معك تمر على الصراط، فمن الناس من يمر على الصراط كالريح، ومنهم أسرع كالبرق، ومنهم أقل كأجاويد الخيل، إلى آخر ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
أما إذا كان القلب مظلماً مغطىً بسواد المعصية التي لم تغسل بالتوبة، ولم تغسل بالاستغفار، ولم تغسل برد المظالم إلى أهلها؛ ففي هذا الوقت الصدر يظلم، فاليد لا تدري ماذا تصنع؟! هل تصنع خيراً أم شراًً؟ كل الجوارح كذلك، ويأتيك عملك في القبر في صورة رجل أسود الوجه، دنس الثياب، يقول لك: أنا عملك السيئ، ينطفئ نورك منك يوم القيامة والناس أحوج ما يكونون إلى هذا النور.(36/5)
تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع.)
ثم قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ} [النور:36] من هم الذين في بيوت؟ الذين في بيوت هم الذين تقدم ذكرهم، ووصفت قلوبهم بأنها كزجاجة المصباح الموضوع في مشكاة، فهؤلاء الذين وصفت قلوبهم بالبياض، وبالرقة لأهل الإيمان، وبالشدة على أهل الكفر، أين يتواجدون؟ أين يتواجد هؤلاء الذين هداهم الله لنوره؟ قال سبحانه: {فِي بُيُوتٍ} أي: تواجدهم في بيوت، ما هي هذه البيوت؟ هي المساجد على رأي جمهور المفسرين، أي: أنك إذا سألت عنهم: أين أهل الإيمان هؤلاء؟ أين أصحاب القلوب البيضاء؟ أين أصحاب القلوب الرقيقة للمؤمنين ولذوي الأرحام؟ أين أصحاب الصلابة في الحق؟ إنهم موجودون في بيوت الله، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] قوله: (أذن) هنا بمعنى: أمر، فالمعنى: إن الله عز وجل أمر أن ترفع هذه المساجد.(36/6)
الأمور التي يجوز فعلها في المساجد من أمور الدنيا
لم تبن المساجد للسباب ولا للشتائم، ولم تبن المساجد للجدل، صحيح أنه يجوز فيها بعض الأمور التي ورد الدليل بجوازها، كالتقاضي في المسجد جائز، فهذا كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه، وارتفعت أصواتهما في المسجد، فخرج إليهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا كعب! ضع من دينك هكذا، قال: فعلت يا رسول الله! وقال لـ ابن أبي حدرد: قم فاقضه) ، وبوب له العلماء بباب التقاضي والملازمة في المسجد.
وكذلك يجوز ربط الأسير في المسجد، ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال في المسجد، فلا يجوز إلا ما جاء فيه الدليل، والله أعلم.
{أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] وقد جاء الحث على ذكر الله بعد الصلاة وقبل الصلاة وفي الصلاة، وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ} [النور:36] قال أكثر العلماء: التسبيح يطلق على الصلاة؛ وذلك لقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39] ، والمراد بها: صلاة الفجر وصلاة العصر، ومنه قولهم: سبحة الضحى، وقول ابن عمر: لو كنت مسبحاً -أي: مصلياً النافلة- لأتممت الفريضة في هذا السفر.
فقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} [النور:36] أي: يصلي له فيها، ولا يمتنع أن يدخل فيها التسبيح المعهود كذلك، {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36] بالغدو أي: في الصباح، الآصال جمع أصيل وهو قُبيل الغروب على الراجح من أقوال العلماء، فمن العلماء من قال: صلاة العصر، وعلى هذا الأكثرون، ومنهم من قال: الآصال الظهر مع العصر، ومنهم من قال: الآصال العشي؛ لما في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] ، وهنا: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36] (بالغدو) هو الغداة، فمن العلماء من حملها على العشي، فالعشي عندهم المغرب والعشاء.(36/7)
بعض أحكام المساجد
وما معنى: {تُرْفَعَ} ؟ أحد الأقوال في تأويلها أن (ترفع) معناها: تعظم وتمجد وتشرف، من قولهم: رفع الله قدرك، أي: شرفك الله، ورفع لك قدرك، يعني: أمر الله سبحانه بأن ترفع هذه المساجد وتعظم، وتوقر، وتحترم، فلا يكون فيها لفظ بذيء، ولا يكون فيها إثم ولا فسوق، ولا يكون فيها تخطيط للبطش بالمؤمنين والمؤمنات، هذا المعنى الأول لقوله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] .
وقد جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم تؤيد هذا المعنى، فأمر عليه الصلاة والسلام بتنظيف المساجد، وكانت امرأة على عهده عليه الصلاة والسلام تقم المسجد، وأمر بتطييب المساجد، وبتبخير المساجد، ونهى عليه الصلاة والسلام عن البزاق في المساجد، ونهى مَنْ أكل ثوماً أو بصلاً أن يأتي إلى المسجد حتى لا تتأذى منه الملائكة، جملة أمور شرعها النبي صلى الله عليه وسلم لصيانة هذه المساجد، فهذا الوجه الأول لقوله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] .
التأويل الثاني: أن معنى: {تُرْفَعَ} : تبنى وترفع جدرانها، الشاهد عليه من التنزيل: قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] ، فيرفع إبراهيم القواعد من البيت أي: يبني البيت، فعلى هذا الوجه الثاني المراد: البنيان، وقد جاءت فيه جملة نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث المتواتر: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) ، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:18] الآيات، على التأويلين: العمارة بالبناء، والعمارة بالعبادة والذكر وتلاوة القرآن.
ترد بعض المباحث عند هذه الآية من ناحية التشييد الزائد للمساجد، ومن ناحية زخرفة المساجد، وعمل المآذن للمساجد، فمن ناحية زخرفة المساجد جاء في الخبر: (لتزخرفنها كما زخرفتها بنو إسرائيل) ، وجاء أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في شأن مسجده: (عريش كعريش موسى صلى الله عليه وسلم) ، وقال عمر رضي الله عنه: إياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- لما جيء إليه بخميصة لها أعلام يصلي عليها قال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي، وأتوني بأنبجانية أبي جهم بن حذيفة بن غانم) .
فالزخارف في المساجد كرهها كثير جداً من العلماء، ومن العلماء من أشار إلى نوع من الترخيص في ذلك، محتجاً بما فعله بعض أمراء بني أمية، كـ عبد الملك بن مروان لما بنى مسجد دمشق، ونقل عن عمر بن عبد العزيز أنه أدخل زخارف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والأخبار تحتاج إلى تمحيص عن هؤلاء الأمراء، لكن الوارد مرفوعاً وكذا عن أمير المؤمنين عمر النهي عن الزخارف، وخير الهدي وأكمل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الله سبحانه وتعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] كلمة: أذن، تأتي في الكتاب العزيز وفي السنة بعدة معانٍ، تأتي بمعنى: الإذن أي: السماح، أذنت لك أي: سمحت لك، وأذن بمعنى: أمر، {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] أي: أمر الله أن ترفع، وأذن تأتي بمعنى استمع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به) يعني: أن الله سبحانه وتعالى ما استمع إلى شيء كما استمع إلى نبي حسن الصوت بالقرآن يقرأ قرآناً ويتغنى به، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، لكن هنا بمعنى: أمر.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] يعني: هذه القلوب وأصحابها تواجدهم كما سمعتم في بيوت، ليسوا في مقاهٍ، ليسوا على النادي الذي يجمع شرار الخلق ويجمع سقط الناس، وليسوا على المقاهي التي تجمع الخمارين والحشاشين واللصوص، إنما تواجدهم في بيوت {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] فالمساجد بنيت لذكر الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بنيت المساجد لذكر الله وإقام الصلاة وتلاوة القرآن) ، هذا الأصل الذي بنيت له المساجد، لم تبن المساجد كي يباع فيها أو يشترى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من وجدتموه يبيع أو يشتري في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك) .
ومعذرة إن كنا نعيد على الأسماع هذه الأحاديث المعروفة؛ لأننا نفاجأ بين الحين والآخر أن من إخواننا من يجهل البدهيات، وهاهو بالأمس القريب أحد إخواننا تزوج، وخرج يصلي في جماعة، فجاءه أحد الإخوة الذين يحضرون معنا الدروس أحياناً وقال له: لماذا تصلي في جماعة؟ معك رخصة أن تجلس أسبوعاً تصلي في بيتك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً) ! من الذي أفادك أن معنى حديث: (أقام عندها) أي: لا يخرج أبداً من البيت، ولا يخرج إلى الصلاة؟! الحديث معناه: إذا تزوج البكر على الثيب فيقسم للبكر سبعاً، ويقسم للثيب ثلاثاً عليه الصلاة والسلام، فما أدراك؟! فالشاهد: أننا نعيد على الأسماع بعض الأحاديث -وإن كانت معلومة- حتى ينتفع بها المؤمنون، والذكرى تنفع المؤمنين.(36/8)
تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.)
{رِجَالٌ} [النور:37] ففيه أن المساجد مختصة بالرجال في الأصل، ومجيء النساء إليها تبع، يعني: ليس أصلاً، إنما (إن استأذنت امرأة أحدكم الخروج إلى المسجد فليأذن لها) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما قلت بالأمس للأخوات ليس على وجه التشريع أبداً، وأستغفر الله منه، بل مصلحة مرسلة، ونرجع عن كل شيء يخالف الكتاب والسنة.
قال سبحانه وتعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37] يعني: إذا باعوا أو تاجروا لا تأخذهم التجارة ولا يأخذهم البيع والشراء ويشغلهم عن ذكر الله وإقامة الصلاة، بل هم قوم عقلاء أذكياء يعلمون أن هناك يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، فيخافون هذا اليوم، {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37] ، والمراد بإقام الصلاة: إقامتها في أوقاتها، أي: صلاتها في أوقاتها بأركانها، وبالركوع والسجود، والطمأنينة فيها، {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37] ، أي: يوم القيامة، {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37] وما معنى هذا التقلب؟ من العلماء من قال: إن القلوب والأبصار تتقلب بين الخوف والرجاء، فتارة في موقف يوم القيامة تتقلب خائفة من هول المطلع وعظيم الموقف، وتارة تتقلب طامعة في رحمة الله سبحانه وفي فرج الله عز وجل، أحياناً تتقلب الأبصار وتدور، وأحياناً تشخص الأبصار وتركز على شيء واحد، {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37] يعني: الحامل لهم على ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة خوفهم من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهذا يوم لا محالة آت، ولا شك في وقوعه أبداً، ولا يشك فيه إلا كافر.(36/9)
تفسير قوله تعالى: (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا.)
{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38] اللام في قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ} [النور:38] من العلماء من قال: إنها لام العاقبة، ولام العاقبة من أوضح الأمثلة لها قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] ، فآل فرعون لم يلتقطوا موسى ليكون لهم عدواً وحزناً، إنما التقطوه: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21] ، فكانت العاقبة أنه كان لهم عدواً وحزناً، فسميت اللام في قوله تعالى: ((لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)) [القصص:8] لام العاقبة.
فهنا قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} [النور:38] أي: هم صلوا وآتوا الزكاة وذكروا الله في المساجد لتكون عاقبتهم {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38] يعني: يعطيهم الله سبحانه وتعالى على أفضل الأعمال التي عملوها.
وما المراد بقوله: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38] ؟ من العلماء من قال: إن المراد بأحسن ما عملوا: الحسنات، فالله يجازيهم بالحسنات ويكفر عنهم السيئات.
ومن أهل العلم من قال: إن الله سبحانه وتعالى يجازيهم على خير الأعمال التي عملوها، يجازيهم أحسن الجزاء أو يزن لهم الأعمال على أعلى درجات الأعمال التي عملوها.
والقول الأول أشهر عند المفسرين، فالمعنى عند جمهور المفسرين: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38] أي: ليجزيهم الله على الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات.
والمعنى الثاني حاصله: أنهم إذا كانوا عملوا أعمال برٍ على مراتب مختلفة، يرفع الله درجات أعمالهم إلى أعلى مستوى عملوه، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38] هناك جزاء على الأعمال مع التجاوز عن السيئات، وهناك زيادة من فضل الله سبحانه وتعالى، كما قال جل ذكره: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ، فلهم مقابل إحسانهم الحسنى، ومع هذا المقابل لهم زيادة على الحسنى، ألا وهي كما قال جمهور المفسرين: النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى، فالعبد المؤمن يجازى على إحسانه حسنات، ويزيده الله سبحانه وتعالى من فضله زيادات، وهذه الزيادات تفضل من الله سبحانه وتعالى، وكرم منه عز وجل، يتفاوت هذا الفضل من شخص إلى آخر، فإن الله تبارك وتعالى قال: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] ، فالحسنة بعشر أمثالها، ولكن الله سبحانه يضاعف لمن يشاء إلى سبعمائة ضعف، بل إلى أكثر من ذلك.
قال سبحانه: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38] ، فقد يأتي رجل يوم القيامة مرتفعاً في الدرجات مع أن أعماله قليلة، فتقول: كيف وصل هذا إلى هذه الدرجة العليا؟ فهذا {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] ، فالله يرزق من يشاء بغير حساب.
كان هذا مثلاً لأهل الإيمان ومطلعه قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35] أي: في قلب المؤمن على ما تقدم، فهذا الصنف انتهى ما جاء فيه إلى هذه الآية: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38] ، وهم أهل الإيمان.(36/10)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب.)
قوم آخرون وهم أهل الكفر ضُرِبَ لهم مثلان هنا: ألا وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] ، والمثل الثاني: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:40] ، وهذان المثلان في القرآن للكفار قد ضربا في سورة البقرة، ضرب لهم في أوائل سورة البقرة مثل مائي، وضرب لهم مثل ناري، وكذلك ضرب لهم المثلان في سورة الرعد، أما في سورة البقرة ففي ختام الربع الأول: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا} [البقرة:17] فهذا المثل الناري، والمثل المائي في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة:19-20] ، وكذلك في سورة الرعد في قوله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17] ، وهذان أيضاً مثلان هنا: المثل الأول: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] .
والمثل الثاني: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ} [النور:40] .
قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] ثم قال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} [النور:40] فهل هذان مثلان مضروبان لصنف واحد من الكفار أو هما صنفان من الكفار لكل صنف مثَلُهُ؟ الذي عليه كثير من المفسرين: أنهما مثلان لصنفين من الكفار، هما: الصنف الأول: الكفار الذين يعملون أعمالاً ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فهم يجتهدون في كفرهم وفي ضلالهم ويحسبون أنهم مهتدون.
والثاني: الكفار الجهلة.
فالمثل الأول ألا وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] والقيعة: هي المكان المستوي من الأرض، وقال البعض: إنها المكان المنخفض من الأرض، والقول الأول هو رأي كثير من المفسرين، ففي الظهيرة إذا سرت في مكان مستوٍ من الأرض فاشتد بك العطش أو لم يشتد بك العطش، ونظرت من بعيد حسبت أن هناك ماء، فإذا جئت إلى هذا المكان الذي ظننت أن به ماءً لم تجده ماءً، فالسراب هو الذي يراه الرائي من بعيد أنه ماءٌ وليس بماء، وهذا كثيراً ما يُرى في الأسفار، المسافر يرى من بعيد المكان كأنه ماء، فالله سبحانه وتعالى يمثله فيقول: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] .
فالكافر يعمل أعمالاً ويرجو لها ثواباً، أو يظن أنه يحسن صنعاً، فإذا جاء يوم القيامة لم يجد لأعماله أي ثمرة، كما قال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:18] لا يقدرون على تحصيل شيء مما كسبوا، وكما قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103-104] ، فقوم اجتهدوا في طاعات وفي ظنهم أنها تقربهم من الله، ومع ذلك كان سعيهم ضالاً، وكدهم خائباً، وفعلهم طائشاً، وكما قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] .
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] ، ويا ليته لم يجده شيئاً فحسب، بل {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يوم القيامة كأنها السراب، فيقال لليهود: ماذا كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيراً ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من ولد، فماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا -أو انطلقوا- فيتساقطون في جهنم، إذ هم يحسبونها شراباً، ويقال للنصارى: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم) ، فهذا مثل مضروب لليهود والنصارى الذين يجدون ويجتهدون في عبادة ربهم على ضلال، وعلى بعدٍ عن الصواب، فأعمالهم حسرات عليهم يوم القيامة، فهذا المثل مضروب لطائفة من الكفار يجتهدون في الأعمال على غير هدىً، ويظهر فضل العلم بالله سبحانه وتعالى وفضل الإيمان به في ثنايا هذه الآيات.
{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39] وإذا أردت أن تعلم سرعة الحساب يوم القيامة، فتخيل أن الأولين والآخرين يجمعون في صعيد واحد يوم القيامة، فلا يأتي وقت القيلولة إلا وأهل الجنة قد استقروا في جنتهم، كما قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] .(36/11)
تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي.)
قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40] طائفة أخرى من الكفار أعمالهم وحالهم كظلمات في بحر لجي، واللجي هو العميق الذي لا يدرى أين قعره، {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ} [النور:40] أي: يعلوه ويغطيه، كما قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] ، وكما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف:189] ، وكما قال تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16] .
وقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:40] فالبحر في نفسه عميق، والعمق يسبب ظلمة، والموج يسبب ظلمة أخرى، والموج الذي فوقه يسبب ظلمة ثالثة، والسحاب يسبب ظلمة هو الآخر، فهي ظلمات متراكبة، فالكافر عمله ظلمة، مدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، وقوله ظلمة، ومصيره والعياذ بالله! إلى الظلمات، كما قال كثير من أهل التفسير: اجتمعت عليه خمس ظلمات: عمله ظلمة، فكلام الكافر كلام بجهل كلام مظلم، وفعله فعل مظلم، ومدخله مدخل مظلم، ومخرجه مخرج مظلم، ومصيره إلى الظلمات، تلاحقه الظلمات في القبور، تلاحقه الظلمات عند الصراط، تلاحقه الظلمات في جهنم والعياذ بالله! فهذا حال الكافر، كافر جاهل كل أفعاله ظلمات، لا يدري أين يذهب!! ولا يدري أين يُذهب به!! ويلتحق به المنافق، الذي يؤتى به في قبره ويُسأل: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري! سمعت الناس يقولون قولاً فقلت مثل قولهم، فرب العزة يقول في هذه الآيات: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] (يغشاه) أي: يعلوه موج، (لم يكد يراها) من شدة الظلام، أي: من لم يرد الله له الهداية فأنى تأتيه الهداية؟! وأنى يهتدي؟! {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] فانتظمت الآيات فريقين: الفريق الأول: كفار على علم وعلى عناد، كاليهود علموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقرءوا التوراة، والنصارى قرءوا الإنجيل وكفروا بالله على علم، واجتهدوا في حرب دين الله على علم وعن عمد، ويلتحق بهم أيضاً كفار علموا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وجحدوها، كما قال الله فيهم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] .
الفريق الثاني: كفار مقلدون جاهلون.(36/12)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض.)
قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41] لماذا صفت الطير؟ لأنها بين السماء والأرض، فكل دابة تدب على الأرض تسبح، وكل ما درج في السماوات يسبح، والطير أثناء صفها لأجنحتها تسبح، قال الله سبحانه: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] ، وقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:41] هل (مَنْ) هنا تحمل على العاقل فقط أو هي عامة؟ كثير من العلماء جنح إلى التعميم مستدلاً بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44] ، فاستدل بهذه الآية على أن الجمادات تسبح وتذكر الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] واستدل قائل هذا القول بأدلة منها: حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في صحيحه: (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ) ، وبحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الصحيح: (وكنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) ، وحديث: (حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم) .
أما الدواب فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نقيق الضفادع تسبيح) ، وقد أتى الجمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه صاحبه، وأنه يجيعه، وقد جاءت الشجرة تشق طريقها حتى وقفت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، والأدلة في هذا الباب كثيرة، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] ، فاستدل بهذه الأدلة على تسبيح الجمادات لله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ} [النور:41] الرؤيا هنا المراد بها: العلم عند فريق من أهل العلم، فالمعنى: ألم تعلم أن الله يسبح له من في السماوات، وهم الملائكة.
وقوله: يسبح، ما المراد به هنا؟ من العلماء من قال: يراد بالتسبيح: التمجيد المضمن في قولنا: سبحان الله.
ومن العلماء من قال: إن المراد بالتسبيح: الصلاة، ودل على التفريق قوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] .
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:41] والطير تسبح وهي صافات، وقد قال تعالى في شأن نبي الله داود، {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ:10] أي: رجعي التسبيح معه، فهو يسبح وهي تردد التسبيح وراءه صلى الله عليه وسلم، وهذا من فضائل نبي الله داود، {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] فكانت الطيور إذا سبح داود تسبح معه، والجبال إذا سبح داود تسبح معه صلى الله عليه وسلم.
{وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41] أي: صافات أجنحتها كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك:19] أي: تصفُّ أجنحتها، وتقبض الأجنحة، {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] كل قد عرف الطريق التي يصلي بها ويسبح بها لله سبحانه وتعالى، {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41] فعلم الله سبحانه لم يقف على علم ما تصنعه أنت فقط، ولا على ما صنعه الأولون والآخرون فقط من الثقلين، وهم الإنس والجن، بل كما قال تعالى: {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] .
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور:42] .(36/13)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً.)
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور:43] قوله: (يزجي) أي: يسوق، والإزجاء هو السوق، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43] (يؤلف) يعني: يجمع، فالله سبحانه وتعالى يسير السحاب، ثم يجمع بينه أي: يضم بعضه إلى بعض، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43] أي: يجمع بينه، ومنه قولهم للمؤلف: مؤلف؛ لأنه يجمع بين الأخبار التي في موضوع واحد، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43] فالتأليف يطلق على الجمع أيضاً، كقوله تعالى: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ} [الأنفال:63] أي: ما جمعت، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور:43] أي: متراكماً بعضه فوق بعض، كما قال سبحانه: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] أي: بعضه يعلو بعضاً.
{ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور:43] يعني: أولاً يسير السحاب، ثم يجمع بينه، ثم يعلو بعضه بعضاً بإذن الله، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43] و (الودق) : هو المطر عند الجمهور، ومن أهل العلم من قال: إن المراد به الرعد، لكن جمهور العلماء على أن (الودق) هو المطر، {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43] أي: من بينه، {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43] ، وأنت إذا ركبت الطائرة ونظرت إلى السحاب أسفل منك وجدته تماماً كالجبال بعضه يعلو بعض، وتحصل فيه منخفضات ومرتفعات كالجبال تماماً.(36/14)
سوق السحاب وتصريفه وتسخيره دال على عظمة الخالق سبحانه
قال سبحانه: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43] ، فالذي يسوق السحاب هو الله، والذي يصرفه عن الخلق هو الله سبحانه وتعالى، ومن ثم وصف السحاب في آيات أخرى بأنه مسخر قال سبحانه: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164] ، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم -ويا ليت عاملاً يعمل به-: (بينما رجل كان يمشي إذ سمع صوتاً من فوقه يقول لسحابة: اسقي أرض فلان بن فلان! فتعجب لما سمع هذا الصوت! فمشى مع السحابة، كلما اتجهت إلى مكان اتجه معها، فوجدها قد جاءت إلى منتصف الأراضي، وأفرغت ماءها في أرضٍ ما، فجاء وصاحب الأرض يحول الماء بمسحاته، فسأله: ما اسمك؟ قال: اسمي فلان، للذي سمع في السحابة، فقال: أخبرني بالذي تصنع في أرضك فإني سمعت صوتاً يقول: اسقي أرض فلان، فقال: إني أعمد إلى ما يخرج من الأرض فأجزئه ثلاثة أجزاء: أعطي ثلثاًً للفقراء، وثلثاً لعيالي، وثلثاً أرده في الأرض مرة ثانية) أي: تكاليف الزراعة، فانظر كيف بارك الله سبحانه له!!(36/15)
الأسباب الجالبة للرزق
كيف تصبح ثرياً من الأثرياء، وغنياً من الأغنياء، بأمور ذكرها الله في كتابه وذكرها صلى الله عليه وسلم في سنته؟ احفظها بالدليل إذا أردت أن يوسع الله عليك، وكن موقناً بسعة الرزق، فالله لا يخلف الميعاد، من هذه الأمور التي بها تصبح ثرياً ويبتعد عنك شبح الفقر بإذن الله: الأول: الإكثار من الاستغفار، قال الله سبحانه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [هود:3] ، وقال نوح لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10-12] .
الثاني من الأمور التي بها تصبح ثرياً كبيراً من الأثرياء: الإنفاق في وجوه البر، قال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكاً تلفاً) ، وقال الله في الحديث القدسي: (ابن آدم أَنفق أُنفق عليك) .
الثالث: إذا أردت أن تصبح ثرياً صل الأرحام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه) .
الرابع: شكر نعمة الله، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] .
الخامس: تقوى الله وترك المحارم، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] فهذه أسباب سعة الرزق، والبركة في الرزق، فافعلها تصبح ثرياً من الأثرياء فهي أسباب مضمونة.
ولكن كما هو معلوم أن الشخص إذا ذهب إلى طبيب يعالجه، فوصف لك الطبيب جرعة من الدواء، زجاجة دواء، وقال: اشربها جميعها على فترات، فإذا شربت منها ملعقة وتركت لم تشف، أما الشفاء فبإذن الله ثم بشربها كاملة، كذلك في شأن هذه الأسباب، لا تستغفر مرة أو مرتين، ولا تشكر مرة أو مرتين، ولكن واصل الذكر، وواصل الشكر، وواصل صلة الأرحام، وواصل الإنفاق على الفقراء، فكل هذه المواصلة سبب أكيد ومضمون في سعة رزق الله لك، فليعقلها من أراد لنفسه الثراء، والله سبحانه خير الرازقين.
قال تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] قوله: (سنا) المراد به هنا: الضوء، {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] لشدته.(36/16)
تفسير قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار.)
وقوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور:44] يأخذ من طول هذا فيزيد في هذا، ويأخذ من طول هذا فيزيد في ذاك، {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور:44] ، ويقلب الله سبحانه وتعالى أيضاً الأحوال في الليل والنهار، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالعصر، وما المراد بالعصر؟ للعلماء في تأويل العصر تسعة أقوال: الأول: أن المراد بالعصر: الدهر كله، أي: الزمن الذي تقع فيه حركات بني آدم.
الثاني: أن المراد بالعصر: جزء من الزمن، فمنهم من قال: هو زمن محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: هو عمر الإنسان، ومنهم من قال: هو العشي، ومنهم من قال: من وقت الزوال إلى العشي، وفريق قال: إنه وقت صلاة العصر، وفريق قال: هو صلاة العصر نفسها، إلى آخر الأقوال.
الشاهد: لماذا أقسم الله بالعصر؟ قال كثير من أهل العلم: أقسم الله بالعصر؛ لأن الأحوال تتقلب فيه، هذا اليوم يكون المرءُ غنياً آمناً معافىً في بدنه، وهو بالغد القريب فقيراً فقراً مدقعاً، خائفاً خوفاً شديداً، مبتلىً في جسده، وعكس ذلك كذلك، فالله يقلب الأيام، ويقلب الأحوال سبحانه وتعالى، {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44] ، وليس المراد بالأبصار هنا: العيون، إنما المراد بها: البصيرة التي يبصر بها الشخص، التي هي قلبه وعقله الذي يعقل به.(36/17)
تفسير قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء.)
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45] ، ما المراد بالماء؟ هل المراد به المني كما هو رأي كثير من أهل العلم أو المراد به الماء الذي يبشر به الناس؟ كلاهما له وجهه، فالماء الذي خلق منه الإنسان ذكره الله سبحانه في قوله: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:6-7] ، وقوله: (خلق من ماء دافق) أي: مدفوق، وهو المني الذي يخرج من بين الصلب والترائب، وهذا هو الأوجه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} [النور:45] ، والدابة هي التي تدب على الأرض، فخرج من ذلك الملائكة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خُلقت الملائكة من نور) ، خرج من ذلك أيضاً آدم صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل خلقه من طين، لكن قد يقول قائل: إن آدم خُلق من ماء، كما قال سبحانه: {خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11] وقوله: (من طين لازب) أي: تراب خلط بالماء فأصبح طيناً ثم تُرك حتى أنتن وتغيّر، فهذا يؤيد الوجه الثاني.
فالشاهد: أن الدابة ما يدب على الأرض، وألحق بها العلماء ما يسبح في البحر، والله أعلم.
الله جل ذكره يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [النور:45] ، من الذي يمشي على بطنه: الحيات، الثعابين، وسائر الزواحف، وقد وردت أخبار موضوعة تالفة الأسانيد فيها أن الحيات كانت من أحسن الدواب خلقاً، ثم لما طرد إبليس من الجنة دخل في بطن الحية ودخل معها الجنة فمسخت إلى هذه الصورة وأصبحت من الزواحف، وهذه أخبار تالفة، لا يثبت منها شيء عن المعصوم عليه الصلاة والسلام.
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [النور:45] كابن آدم وكالطيور، وأحسنها من يمشي على رجلين، فإن الله قال في شأن الإنسان: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] أي: معتدل القامة، أما غيره فيضرب بوجهه إلى الأرض، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [النور:45] كالأبقار والأغنام والإبل، وغيرها من الحيوانات، قال سبحانه: ((يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور:45] .(36/18)
تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا آيات مبينات.)
يقول الله سبحانه: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:46] ، في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:46] دليل على أن أمر الهداية موكول إلى الله سبحانه وتعالى، فالمهدي من هداه الله، والضال من أضله الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] ، ففي هذه الآية رد على القدرية الذين يقولون: إن الإنسان يختار فعل نفسه، ويتصرف كيفما شاء.
فالإجابة عليهم: أن الله هو الذي يهدي من يشاء، وقد أسلفنا أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] ، ففي هذه الآية دليل على أن المهدي من هداه الله سبحانه وتعالى، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:46] ، وقوله: (صراط) أي: طريق.(36/19)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا.)
قال سبحانه: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] ، من هم الذين يقولون؟ هم أهل النفاق، بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] ، أما على العموم فالذين يقولون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] كل أهل الإيمان، لكن المراد بهم في هذه الآية أهل النفاق.
أما دليل كون أهل الإيمان يقولون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] ، ففي أواخر سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] ، فهذا دليل على أن أهل الإيمان قالوا: سمعنا وأطعنا، وقد قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) ، لكن المراد بالقائلين هنا في هذه الآية: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] هم أهل النفاق لما أفاده ختام الآية، فختام الآية بين أن القائلين هم أهل النفاق.
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] ، أطعنا الله وأطعنا الرسول، {ثُمَّ يَتَوَلَّى} [النور:47] أي: يعرض، {فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] ، فإن المعرضين ليسوا بمؤمنين.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(36/20)
تفسير سورة النور [48-64]
هناك فرق واضح وبون شاسع بين موقف المؤمنين وموقف المنافقين عند تحاكمهم إلى شرع رب العالمين، فموقف أهل الإيمان السمع والطاعة والإذعان، وموقف أهل النفاق الإعراض والنشوز والعصيان، ويتخذون من الأيمان الكاذبة الفاجرة وسيلة لخداع المؤمنين.
ولقد وعد الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالاستخلاف في الأرض والتمكين إن قاموا بما أمرهم الله به حق القيام.
وقد تناولت هذه الآيات الآداب والأحكام المتعلقة بالاستئذان داخل المحيط الأسري.(37/1)
إعراض المنافقين عن التحاكم إلى شرع رب العالمين
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: يقول الله سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] ، فهذا دليل على أن أهل الإيمان قالوا: سمعنا وأطعنا، وقد قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] ) ، لكن المراد بالقائلين هنا في هذه الآية: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] : هم أهل النفاق لما أفاده ختام الآية، فختام الآية بينت أن المراد بالقائلين هم أهل النفاق.
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] أطعنا الله وأطعنا الرسول، {ثُمَّ يَتَوَلَّى} [النور:47] أي: يعرض، {فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] فإن المعرضين ليسوا بمؤمنين.
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور:48] إذا حلت بهم نازلة، فقيل لهم: هلم نتحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهلم نتحاكم إلى الشرع، {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] ، كما تقول للناس الآن: هيا -يا معشر الناس- نتحاكم إلى كتاب الله، ونتحاكم إلى سنة رسول الله، فيأبون عليك ذلك أشد الإباء، ويتحاكمون إلى قوانين كفرية جاءتهم من بلاد اليونان، وجاءتهم من بلاد الفرنجة، ومن بلاد الكفار، فهذا شأن أهل النفاق، بألسنتهم يقولون: آمنا بالله وبالرسول، بألسنتهم يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فإذا قيل لهم: هلم نتحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فريق منهم معرضون.
وشأنهم ذكر أيضاً في سورة النساء قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60-61] ، فهذا شأن أهل النفاق، شأنهم الإعراض عن التحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] ، لماذا لم يثن الضمير المفرد هنا (ليحكم) ، ولم يقل (ليحكما) ؟ ذلك لأن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حكم الله سبحانه وتعالى، فهو حكم واحد إذاً، كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62] ، ولم يقل: (أحق أن يرضوهما) ؛ فإن رضا رسول الله من رضا الله سبحانه وتعالى، وطاعة رسول الله من طاعة الله عز وجل.
{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طائعين، وهذا شأن كثير من أهل النفاق الآن، فهم في الأصل لا يتحاكمون إلى الكتاب ولا إلى السنة، لكن إن أرادوا تشريعاً جديداً أو شيئاً جديداً ووجدوا لهم متنفساً في الكتاب والسنة طفق علماؤهم يرفعون الآيات ويرفعون الرايات! فمثلاً: عندما تصالحوا مع اليهود إذا بالأيادي ترفع: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال:61] ، فإذا وجدوا أي شيء من الكتاب والسنة يشهد لأفعالهم تمسكوا به مع بعدهم عن كتاب الله جملة وتفصيلاً.
قال سبحانه: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم فيه، ((مُذْعِنِينَ)) أي: طائعين خاضعين.
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [النور:50] ، ما الحامل لهم على الإعراض عن التحاكم إلى الله ورسوله؟ هل هو مرض في قلوبهم؟ ((أَفِي)) الهمزة الاستفهامية هنا المراد منها: التوبيخ.
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} [النور:50] أي: هل شكوا.
{أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] أي: خافوا أن يظلمهم الله أو يظلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذا كان ذلك فالله ورسوله لا يظلمان الناس {بََلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50] .
ومن العلماء من قال: إن (أم) في قوله تعالى: {أَمِ ارْتَابُوا} بمعنى: بل، فعلى هذا يكون السياق تأويله كالتالي: أفي قلوبهم مرض: شك وكفر ونفاق، بل ارتابوا، بل يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله، وتكون بل بمعنى الواو، {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} الارتياب هو: الشك، {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ} أي: يظلم، {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50] .(37/2)
موقف المؤمنين عند التحاكم إلى شرع الله
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] ، سواءً كان لهم الحق أو كان عليهم، شأنهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، فعلى ذلك: أي شخص يُدعى إلى الكتاب والسنة ليحكم فيه، فعليه وجوباً -وليس مخيراً في ذلك- أن يذعن لحكم الله ولحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن بعض الإخوة أحياناً يقدم رأيه على نصوص الكتاب وهو لا يشعر، فبالأمس القريب حدثت مشكلة بين الإخوة في المحل، أحدهم طلق زوجته وهي ما زالت في العدة، فجاء وراجعها قبل انتهاء العدة بيوم أو يومين أو ثلاثة، فإذا بإخواننا يغضبون، وكلهم يقفون ويقولون: لا ترجع إليه! لماذا ورب العزة يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] ؟ أي: في العدة، {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] ؟ فلا قول مع قول الله، وهي ما دامت في العدة فهي ما زالت زوجة لمن طلقها إذا كان الطلاق رجعياً، ولا يحل لها هي بنفسها أن تقول: لا أرجع له، ولكن أحياناً الهوى يعصف بالدليل عند كثير من الناس.
قال الله سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] ، وليس سمعنا وأطعنا فقط، بل سمعنا وأطعنا وقلوبهم بذلك راضية، قال الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] ، وقال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، فليس فقط أنك ترضى في الظاهر بحكم الكتاب والسنة، لكن أيضاً قلبك يكون مطمئناً راضياً، قال سبحانه: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، فهذا الواجب أمام حكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليك أن تسمع وأن تطيع، ويكون قلبك من الداخل راضياً بحكم الله، وراضياً من الداخل بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورب العزة يقسم على هذا، والمسائل التي يقسم فيها الرب قليلة، والقسم فيها دل على أهميتها، فرب العزة يقسم على قيام الساعة لأهمية الساعة: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3] ، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] ، وقال هنا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ليس ذلك فقط، بل {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، هذا هو الإيمان النابع عن رضا من القلب، وعن سمع وطاعة في الظاهر والباطن.
قال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وإنما تفيد الحصر، أي: ليس لهم قول إلا أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] والمفلحون: هم الفائزون بالمطلوب، الناجون من المرهوب، الرجل المفلح: هو الرجل الذي فاز بما يطلب، ونجا مما يرهب، فهو يطلب الجنة ويرهب من النار، فهذا غاية مراد أهل الإيمان.
{وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52] .
{وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} يتقي ما يجلب له العذاب كذلك {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .(37/3)
اتخاذ المنافقين الأيمان وسيلة للخداع والتمويه
وقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} [النور:53] أي: أهل النفاق، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [النور:53] يعني: أنهم بالغوا في الأيمان وأكدوا الأيمان.
{لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور:53] أقسموا واجتهدوا في اليمين لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن معك.
{قُلْ لا تُقْسِمُوا} [النور:53] أي: كفانا من أيمانكم، فإنكم كما قال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المجادلة:16] ، وكما قال تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96] .
{قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53] في تأويل قوله تعالى: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} قولان: القول الأول: خير لكم من القسم أن تطيعوا الله عز وجل، وتطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة ظاهرة، أي: امتثلوا الأمر إذا طلب منكم فقط، لا نريد منكم إلا أنكم إذا أمرتم بأمر فامتثلوا له.
والقول الثاني: أي: طاعتكم طاعة معروفة، إنما هي غش وكذب، كما يعدك شخص ميعاداً ويقول لك: سآتيك في وقت كذا وكذا، فتقول له: مواعيدك معروفة، ما معنى مواعيدك معروفة؟ يعني: أنك تعد وتخلف، أو يهددك شخص، فتقول له: تهديدك معروف، يعني: طالما هددت لم تنفذ شيئاً، فكذلك قوله: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أي: طاعتكم التي تزعمون طاعة معروفة لدينا إنما هي أكاذيب ووعود مخلفة، طاعتكم طاعة معروفة، أي: ليس لكم طاعة، وليس لكم عهد، وليس لكم ميثاق.
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:53] .
وهذه الآية أفادت: أن هناك أقواماً يقسمون بالله أيماناً، وهم مع قسمهم كذبة؛ لأن هؤلاء أقسموا بالله جهد أيمانهم، أقسموا وعقدوا الأيمان، والله سبحانه وتعالى قال لهم: {قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} ، وقال في الآية الأخرى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي: وقاية يتقون بها، وهناك أقوام يحلفون بالله كذباً، فينبغي أن يعلم المسلم ذلك، ليس كل من يحلف بالله يعتبر صادقاً، فلا تُخدعن كما خدع أبوك آدم لما أقسم له إبليس: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] ، فأقبل وأكل من الشجرة، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، إذا لدغ أبوك آدم عليه السلام وهو أعقل الخلق فلا ينبغي أن تلدغ، صحيح أن المؤمن يصدق المؤمنين في الظاهر لكن إن كان هناك من القرائن ما يدفع ذلك، فالقرينة مقدمة على اليمين.
فمثلاً: إذا جاء شخص متهم بجريمة، والشهود شهدوا عليه، فحلف فإنه إذا أقيمت عليه البينة فلا اعتبار باليمين، يعني: إذا جيء بمتهم، والبينات محيطة بأنه مرتكب للجريمة، فحينئذ لا تنفع الأيمان، يقسم مهما يقسم لا اعتبار ليمينه أبداً ما دام الشهود قد قاموا بإثبات الجريمة عليه.
{لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:53] .(37/4)
مهمة الرسول البلاغ
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} [النور:54] أي: ما كلف به، وهو البلاغ، قال الله سبحانه: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] ، وقال سبحانه: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] .
{وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] .(37/5)
تفسير قوله تعالى: (ليستخلفنهم في الأرض.)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] أي: يجعلهم خلفاء في الأرض، ويجعلهم يملكون الأرض.
من هم المعنيون بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} ؟ هل المعنيون بها فئة معينة من المؤمنين أم المعنيون بها عموم من آمن وعمل صالحاً؟ لأهل العلم قولان: أحدهما: أن المعني بها أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد وعدهم الله بذلك، ووفى لهم سبحانه وتعالى، فملكوا ملك كسرى وقيصر، وطردوا الفرس والروم، وأبدلوا دول الكفر بدول الإسلام، ودخل الناس على أيديهم في دين الله أفواجاً.
القول الثاني: إن المراد عموم المؤمنين، فكل من آمن وعمل صالحاً ليستخلفنه الله في الأرض، إلا أن هذا الأخير يعكر عليه الواقع الذي نعيشه، فإن قال قائل: كيف هذا والمسلمون ضربت عليهم الذلة في هذه الأزمان؟ فالإجابة: إن عموم المسلمين الآن لا يعملون الصالحات، فخرجوا من تحت هذه الآية، إنما كما قال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، فأكثرهم ابتعد عن كتاب ربه وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وابتعد عن العمل الصالح، وإن شئت فانظر أيهما أكثر عمراناً المساجد أو ملاعب الكرة؟! وهل المحاضرات التي تبث في التلفزيونات والإذاعة أكثر أم أكثر ما يبث اللهو والمجون؟ فالإجابة: أن الأغلب لم يعملوا صالحاً، والحكم للأغلب كما هو مقرر في الشرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغزو جيش الكعبة) الحديث.
فلهذا يقال: إن وعد الله لا يتخلف، ولكن إذا كانت الكثرة لأهل الإيمان والعمل الصالح كما كان الحال في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل سيستخلفهم، ووعده لا يتخلف سبحانه.
فهذان هما التأويلان في الآية الكريمة، أحدهما: أن المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا لا إشكال في تأويل الآية، فقد أعطاهم الله سبحانه وتعالى ما وعدهم.
والثاني: أن المراد عموم المؤمنين، وقد يرد إشكال وهو: انفصام الواقع عن الآية، ولماذا لم يستخلف المؤمنون الآن؟ فالإجابة: أن أكثر المسلمين الآن حادوا عن طريق الله، وحادوا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخلف شرط العمل الصالح عن شرط الإيمان، والله تعالى أعلم.
{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55] أي: يجعلهم خلفاء في الأرض.(37/6)
قدرة الله على الكافرين
{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [النور:57] معجزين أي: فائتين أو هاربين، أي: أنهم لن يفوتوا الله عز وجل، لا تظن أبداً -يا محمد- أن الذين كفروا فائتون، إنما اعلم تمام العلم أن الله قادر عليهم وعلى الانتقام منهم، وعلى الانتصار منهم.
{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:57] .(37/7)
وعد الله بارتفاع راية الإسلام
{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] أي: سيمكن الله عز وجل لهذا الدين، والدين هو: الإسلام كما في قوله تعالى -على منهج الذين يفسرون القرآن بالقرآن وهو منهج جيد-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] .
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} أي: أن راية الإسلام ستعلو، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من بيت وبر ولا مدر إلا وسيدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] ، وهذا قد كان في زمن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيكون أيضاً بين يدي الساعة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي وردت في أشراط الساعة وما يتعلق منها بالمهدي، ونزول عيسى صلى الله عليه وسلم.
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] ، فهل كان الصحابة يخافون؟ الإجابة: نعم، كان الصحابة في بداية الأمر يخافون أن يتخطفهم الناس: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال:26] .
قال سبحانه: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] من كفر بعد هذا التمكين فأولئك هم الفاسقون.(37/8)
العلاقة بين الصلاة والزكاة والتمكين في الأرض
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56] من يربط بين الآية والتي قبلها يقول: إن من أسباب التمكين في الأرض: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
ومنهم من يقول شيئاً آخر حاصله: أنك إذا مكنت عليك أن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] ، فكل من مُكن في الأرض أي نوع من التمكين عليه أن يقيم الصلاة في المكان الذي هو فيه، ويؤتي الزكاة كذلك ويحث عليها.
الطبيب في المستشفى عليه أن يحث الذين تحت يده، المدير في المدرسة عليه أن يحث الذين تحت يده، كل مسئول عليه أن يحث رعيته على إقامة الصلاة وعلى إيتاء الزكاة قدر استطاعته.(37/9)
المعنيون بقوله تعالى: (كما استخلف الذين من قبلهم)
ومن المعنيون بقوله تعالى: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] ؟ قال جمهور المفسرين: إن المراد بنو إسرائيل، فإن الله سبحانه وتعالى قال في شأنهم: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص:5] ، وهم الإسرائيلون الذين كانوا يذبحون، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5-6] فأحد القولين: أن الذين استخلفوا من قبل أمة محمد هم بنو إسرائيل وكما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137] .
ومن المفسرين من قال -وله وجه-: إن الذين استخلفوا من قبلهم أعم من كونهم بني إسرائيل، فبنو إسرائيل صحيح أنهم استخلفوا، لكن قصر الآية عليهم غير جيد، فإن هناك من استخلف وليس من بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى، صحيح أن يوسف من أبناء إسرائيل، لكنه ليس المعني في تفسير الجمهور القائلين بأنهم الذين كانوا في زمن فرعون، ويوسف قد مكن أيضاً {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:56] ، لكن الأشهر هو قول الجمهور كما سمعتم.(37/10)
الآداب والأحكام المتعلقة بالاستئذان داخل البيوت
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:58] وهذا حكم الاستئذان داخل البيوت، وقد تقدم حكم الاستئذان من خارج البيوت.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يا من آمنتم بالله، ورضيتم به رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وهم: العبيد والإماء.
{وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور:58] ، الأولاد الصغار الذين لم يبلغوا الحلم، وبلوغ الحلم معروف إما أن يكون بالاحتلام، وإما بالإنبات، وفريق يرى أنه ببلوغ خمس عشرة سنة، فالذين أقل من هذه السن، وهم مميزون، فالآية في حقهم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور:58] أي: الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم الذين يميزون، أما الأطفال الرضع فالآية لا تتعلق بهم؛ لأنهم لا يعرفون معنى الاستئذان.
{ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور:58] ، أي: عليكم -يا أهل الإيمان- أن تعلموا أولادكم المميزين الاستئذان ثلاث مرات، إذا جاء الطفل يدخل على أمه وعلى أبيه في هذه الثلاثة الأوقات عليه أن يستأذن، ولا يكون الأمر فوضى، فإن الولد قد يهجم على الغرفة فيجد أمه وأباه في موضع يكرها أن يُريا فيه، فيخرج ما رأى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58] في هذه الأوقات على الأم والأب أن يعلما ولدهما الاستئذان.
{وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} استدل بها بعض العلماء أن الشخص إذا كان في خلوة يجوز له أن تنكشف عورته شيئاً ما إذا كان لا يراه أحد، ومن العلماء من قال: الأفضل أن يستتر في الخلوة أيضاً؛ لأن الملائكة تراه، بل لأن الله سبحانه وتعالى يراه، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الله أحق أن يستحيا منه) .
وقوله تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور:58] لأن هذه الأوقات الثلاثة مظنة انكشاف العورات، الرجل يدخل ينام ويخلع ثيابه، فقبيح بالأب أن يرى ولدُه عورته، وقبيح بالأم أن يرى ولدها عورتها، فهذا قبيح وإنما يفعله من لا خلاق له.
{ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور:58] ، في غير هذه الأوقات الثلاثة لا تشقوا على الأطفال أن يستأذنوا في كل وقت، إنما الأطفال يستأذنون في هذه الأوقات الثلاثة، أما الكبار فيستأذنون في كل وقت.
في غير هذه الأوقات الثلاثة الأمر متجه إليك أن تستر عورتك، في غير الأوقات الثلاثة عليك -يا رجل- وعليك يا -امرأة- أن تستترا، لكن في الأوقات الثلاثة على الولد أن يستأذن على أبويه، وهذا منحى شرعي ينحى في عدة مسائل، فالرسول صلى الله عليه وسلم حكم أن ما أتلفته الماشية بالنهار فلا جزاء على صاحب الماشية، يعني: في النهار أنت تحرس بستانك وتحرس حقلك، فإذا جاءت الماشية واعتدت عليها يمكنك أن تطردها أنت، لكن إذا اعتدت الماشية ليلاً فأتلفت أرضاً فيعزم صاحب الماشية؛ لأنه كان ينبغي عليه أن يربطها، ولذلك يحكم في الديات الآن في بلاد السعودية: لو أن جملاً كان يمشي في الطريق وجاءت سيارة بسرعة فصدمت الجمل، ينظر في تحديد الأحكام: هل كان هذا ليلاً أو نهاراً؟ إن كان هذا نهاراً فيغرم صاحب السيارة أرشاً إن كان الجمل مجروحاً، ويغرم قيمة الجمل إذا قتل الجمل، وإن كان هذا ليلاً فيغرم صاحب الجمل الإتلافات التي في السيارة، وإن مات من في السيارة يتحمل صاحب الجمل دية الذين ماتوا؛ لأنه أرسل ماشيته ليلاً فأضرت بالعباد.
فهذا المنحى الشرعي: ففي هذه الأوقات الثلاثة التي هي من حقك أنت لا يعتدى عليك، فمن حق الرجل أن يسكن مع امرأته في هذه الأوقات الثلاثة، إذا جاء الولد يدخل فعليك أن تعلمه الاستئذان، أنت لست كل وقت مع زوجتك، ففي غير هذه الأوقات الثلاثة لا تحرج على الولد إذا كان طفلاً أن يستأذن، فإن ذلك يشق عليه.
قال الله سبحانه: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور:58] ، ففي غير هذه الأوقات الثلاثة: ليس عليكم ولا عليهم جناح، والمراد بالجناح: الإثم، أي: ليس عليكم ولا عليهم إثم بعدهن.
{طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} [النور:58] أي: من شأن الأطفال أن يطوفوا على أبويهم، هذا يدخل عليه وهذا يخرج، فكونهم طوافين عليكم يشق على الطواف أن يطرق دوماً، فخفف عن الأطفال لهذا الغرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الهرة: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) .
{طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58] .
{وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] أي: في كل وقت.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59] من أهل العلم كـ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من يقول: إن هذه من الآيات التي ترك الناس العمل بها، وهي آية محكمة في كتاب الله عز وجل لم تنسخ، كذا قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، هي وآية {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ترك الناس العمل بها وقالوا: إن أكرمكم أغناكم وأوجهكم.
وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء:8] ترك الناس العمل بها، إذا جئت والناس يتقاسمون الميراث، لا أحد من الذين يتقاسمون الميراث يقول: يا جماعة! أنتم تتقاسمون عشر قطع من الإرث، هيا نتصدق منها على الفقراء، ما أظن هذا يحدث الآن، هذه من الآيات التي ترك الناس العمل بها مع أنها محكمة لم تنسخ على الصحيح، أما تعليل البعض بأن الأبواب قديماً كانت من الستور، وكان الأطفال يهجمون فيدخلون على أمهاتم وآبائهم مباشرة، أما الآن فأصبحت الأبواب لها أقفال ونحو ذلك فلا يحتاج إلى إذن، فهذا ليس بجيد أيضاً، فقد يغلق الوالد الباب وينسى أن يقفله بمفتاح، فإذا جاء الولد وفتحة رأى ما يكره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهذه الآية أصل في حفظ تصورات الأطفال، وإبقائها نظيفة، وهذه الآية تبين محاسن ديننا، فمن محاسن الدين: أن يبقى فكر الولد نظيفاً جميلاً يفكر فيما يرضي الله، ولا يفكر في العبث والفجور والمجون، وهذه الآية فيها إرشاد إلى أنه ينبغي أن نمنع أبناءنا من النظر إلى شاشات التلفاز وما فيها من فضائح، فمنع الله الطفل من الدخول على أمه وأبيه حتى لا يرى مناظر مكروهة، فمن ثم كل مكروه يأخذ نفس الحكم، إذا كان الطفل سيرى في شاشات التلفاز رجلاً فوق امرأة، أو الطفلة سترى في التلفاز رجلاً يقبل امرأة فنفس الحكم، فيجب أن يمنع الابن والبنت من رؤية التلفزيون، والله أعلم.(37/11)
أحكام القواعد من النساء
يقول الله سبحانه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60] .
قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} فيه مقدر: حكمهن أنه ليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة.
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} لأهل العلم أقوال في تحديد القواعد من النساء: فمنهم من قال: إن القواعد من النساء هن النساء اللواتي يئسن من المحيض.
ومنهم من قال: قد تكون المرأة يئست من المحيض ومع ذلك فهي تشتهى وبها قوة، فلا تكن من القواعد.
ومنهم من قال: إن القواعد من النساء هن النساء اللواتي لا يستشرفن للنكاح ولا يرجونه، أي: هي المرأة التي لا تريد النكاح ولا ترغب فيه، يعني: انقطعت حاجتها في الرجال.
ومنهم من قال: هن النسوة اللاتي كبرن حتى صرن لا يُشتهين، فهذه بعض أقوال العلماء في تحديد القواعد من النساء.
قال سبحانه: {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي: لا يرغبن في النكاح، ولا يشتهين النكاح، {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ} أي: ليس عليهن إثم، فالجناح هو الإثم.
{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} والمراد هنا قطعاً: بعض ثيابهن، فليس معنى (أن يضعن ثيابهن) كل الثياب، إنما المراد: أن ينزعن بعض ثيابهن، أو ثيابهن الخارجية التي هي بمثابة الجلباب، فالمرأة في الغالب ترتدي درعاً أي: قميصاً، وليس المراد به: قميص النوم، إنما ترتدي ثوباً وفوق الثوب ترتدي جلباباً، فيجوز لها أن تخلع الجلباب وتبقى بالثوب -ثوب البيت- ومعه الخمار من غير تبرج.
فمن أهل العلم من قال: إن الثوب الموضوع هو الجلباب الخارجي، فمثلاً: نساؤنا يلبسن ثوباً أسود، وتحته ثوب آخر، فلا جناح عليهن إذا كن من القواعد أن يضعن ثيابهن الخارجية، ومع ذلك يحتطن، ولا يكن متبرجات بزينة، والتعفف أفضل كما لا يخفى، فإن جرير بن حازم أخرج عنه البيهقي بسند صحيح: أنه دخل على حفصة بنت سيرين وكانت من القواعد آنذاك، فرآها وهي مرتدية للنقاب والجلباب فقال لها: يا أماه يرحمك الله! ألم يقل الله سبحانه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] ؟ فقالت له هذه المرأة الرشيدة: أكمل الآية، فأكملها: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60] قالت: فهو إثبات النقاب.
فالاستعفاف مع ذلك خير، فكما قال فريق من العلماء: إن لكل ساقطة لاقطة، فقد تكون المرأة لا تشتهى في نظرك ولا تشتهيها نفسك، ولكن ثم أنفس أخر تشتهيها وترغب فيها، فلذلك قال سبحانه: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} أي: يستعففن ولا يضعن شيئاً من جلابيبهن.
قال سبحانه: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ} [النور:60] التبرج: يطلق على التكشف، ويطلق على الظهور والبروز، قال سبحانه: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ، فأطلق عليها بروجاً لارتفاعها، قال سبحانه: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر:16] فمن معاني التبرج: التكشف وإظهار ما خفي، فهذا من معاني التبرج.
فالمرأة القاعد وإن جاز لها أن تضع جلبابها إلا أنها مع وضعها الجلباب لا تتبرج، فلا تظهر حليها مثلاً للأجانب، كالعقد الذي يكون في صدرها، والقرط الذي يكون في أذنها.
{غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60] سميع للأقوال، عليم بما في النيات وما في الضمائر وما في السرائر، فهو يعلم هل وضعها لثيابها لأنه يشق عليها أو تبرج منها؟ العليم بذلك هو الله سبحانه وتعالى، الله سميع لقولها إذا تكلمت، هل تريد بكلامها خضوعاً في القول، وجذباً للرجال إليها، ولفت أنظار الرجال إليها؟ عليم بنياتها وبضميرها وما تكنه نفسها {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .(37/12)
نوع الحرج المرفوع عن الأعمى والمريض والأعرج
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:61] ما هو الحرج؟ أسلفنا أن الحرج الإثم، فالحرج والجناح بمعنى واحد، ومن معانيه الإثم، قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور:61] الآية.
فأفادت الآية أن الحرج المرفوع هو الحرج في الأكل، أما آية الفتح فالحرج المرفوع فيها هو الحرج في التخلف عن الجهاد، وهذه الآية الكريمة سبب نزولها هو ما أخرجه البزار في الزوائد: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يخرجون للغزو، ويتخلف المرضى وذوي العاهات، فيعطي الغزاة مفاتيح بيوتهم لهؤلاء الزمنى والمرضى الذين بقوا، ويرخصون لهم في الأكل من البيوت، فيتحرج هؤلاء الزمنى والمرضى من الأكل من البيوت، ويقولون: لعلهم أعطونا مفاتيح بيوتهم وأذنوا لنا في الأكل من البيوت عن غير طيب نفس، فيتحرجون من الأكل، فأنزل الله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور:61] الآيات.
فقال بعض العلماء: إن الحرج الموضوع هو الحرج في الأكل، ومنهم من قال: إن الأعمى كان يذهب إلى بيت السليم المعافى، فيأخذه المعافى ويذهب به إلى بيت أقارب له ليأكل عندهم، فيقول الأعمى: إنما يأخذنا إلى بيت غيره, ويستنكف من الأكل في هذا البيت.
وقال آخرون: إن المبصرين والأصحاء كانوا يتحرجون من الأكل مع العميان، وتحرجهم كان على قسمين: فقسم منهم يتحرج من الأكل مع العميان تقذراً، فإذا مد الأعمى يده إلى لقمة قد لا يضبط يده ويضعها في وسط الطعام، أو تتلوث يده بالطعام فيتقذر الصحيح ويمتعض من الأكل معه.
وقسم كانوا يتحرجون من الأكل مع العميان ليس للسبب المذكور، إنما يقولون في أنفسهم: قد نأكل مع العميان فتمتد أيدينا إلى طعام أفضل من الطعام الذي يأكله الأعمى لأنه لا يرى، فيمتنعون عن الأكل معهم تورعاً.
فهناك طائفة تمتنع تورعاً، وطائفة تمتنع تقذراً، فهذا قول في الآية أن الحرج المرفوع في الطعام.
ومن العلماء من قال: إن الحرج المرفوع عن الأعمى في الشيء الذي يفعله المبصر ولا يستطيعه الأعمى، إذا كان هناك أي شيء يُفعل بناءً على الرؤية بالنظر وتركه الأعمى، فالأعمى معذور فيه ولا يؤاخذ، وإذا كان هناك أي شيء يفعله صحيح الرجلين فالحرج مرفوع عن الأعرج في كل شيء يفعله صحيح الرجلين.
فمثلاً: صحيح الرجلين يصلي وهو قائم، الأعرج لا يستطيع ذلك فيصلي وهو جالس.
صحيح الرجلين يجاهد، الأعرج رجله تعوقه عن الجهاد فيرتفع عنه الحرج في الجهاد، فهذا قول أيضاً في الباب.
وكذلك المريض في كل شيء يعوقه المرض ويخلفه عنه؛ لا يؤاخذ فيه.
إذاً: حاصل الأقوال في الحرج المرفوع عن الأعمى والأعرج والمريض: أنه في الطعام، وأُذن لهم أن يأكلوا مع الناس، وأُذن للناس أن يأكلوا معهم، ورفع الحرج أيضاً في كل ما يتخلفون عنه بسبب العلة التي بهم.
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:61] فعلى ذلك لا يؤاخذ العميان كما يؤاخذ أصحاب البصر.
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور:61] وهذه الآية من آيات رفع الحرج الواردة في كتاب الله.(37/13)
جواز الأكل في بيوت المذكورين في الآية بحسب العرف
قال تعالى: {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61] ، الآية أفادت أنه يجوز لك أن تدخل هذه البيوت، وأن تأكل منها ولو لم تستأذن، لكن هل الأمر على إطلاقه أو فيه تفصيل؟ لا شك أن في الأمر تفصيل، ففرق العلماء بين الطعام الذي يقع به الحرج والطعام الذي لا يقع به الحرج، فقد يقول مثلاً: تمري موضوع في البيت في مكان عام في البيت، فلا بأس أن تأكل من هذا التمر الموضوع في البيت بدون استئذان، لكن قد تكون الأم -مثلاً- أو الأخت أو الصديق اشترى مثلاً كيلو سمن بلدي غالي الثمن، أو كيلو عسل يستعمله للعلاج ويحفظه في صندوق بعيد عن الأيدي؛ فلا تأت وتكشف الصندوق وتلتهم الكيلو العسل أو الكيلو السمن! هنا فرق قال كثير من العلماء في مثل هذه الحالة الأخيرة: يُحتاج إلى إذن.
ومنهم من قال: إن المسألة مسألة عرفية، يعني الحكم فيها مردود إلى الأعراف السائدة.
فمثلاً: في بلادنا إذا دخل أخوك عندك وأكل خبزاً أو أرزاً أو بطاطساً، فهي أشياء لا تؤثر في العادة في نفسية الذي أُكل عنده، أما إذا اشترى شخص مثلاً كيلو لحم -وهو يشتري في الشهر كيلو لحم- وحفظه في موطن ما، وجاء أخوه في غيابه والتهمه، لا شك أن الحكم في هذه الحالة يختلف، فقال بعض العلماء بهذا التفصيل الذي سمعتموه لعمومات أخر دلت مع الآية، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي صححه بعض أهل العلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه) ، ووضعوا للآية ضوابط.
ومنهم من قال: ترجع المسألة إلى نفسية صاحب البيت، وإلى الصداقة الموجودة بين الداخل وبينه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
لكن على التقعيد يجوز لك أن تأكل ما تعارف عليه الناس من بيوت المذكورين، والله أعلم.
{وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور:61] ، الزوجة تأكل من بيت الزوج بغير إذنه؛ لأن البيت أصلاً منسوب إليها، وكما قال راوي الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق مع صفية بنت حيي ليقلبها إلى بيتها، وكان بيتها قريباً من دار أسامة بن زيد كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] ، فنسب البيوت إليهن، وعليه: فالمرأة تأكل من بيت الزوج مطلقاً بغير إذن.
قال سبحانه: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور:61] يعني لو أن شخصاً أمه متزوجة برجل آخر يجوز له أن يدخل عندها ويأكل.
{أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور:61] ، وهذا بالنسبة للقهرمان الذي هو بمعنى الخادم، في بيوت الأثرياء يضعون غرفة للطعام فيها مثلاً: الأرز والسمن وكل متعلقات البيت بكميات، ويجعلون عليها خادماً، وإذا احتاجوا شيئاً أو أمره صاحب البيت أن يعطي فلاناً شيئاً من هذا الخبز أعطاه، فالقائم على هذا الذي بيده مفاتيح هذه الأمكنة يجوز له أن يأكل منها، وهذا يتفق مع عمومات الشرع كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ولي الخادم طعام أحدكم فليناوله منه اللقمة وليناوله منه اللقمتين) ، فكما أن الخادم يقوم على حفظ طعام البيت فيجوز له أن يأكل منه.
{أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا} [النور:61] أي: مجتمعين {أَوْ أَشْتَاتًا} [النور:61] أي: متفرقين.
إذاً: يجوز لك أن تأكل مع جماعة، ويجوز لك أن تأكل بمفردك، إلا أن التجمع على الطعام أولى (اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه) ، فالتجمع على الطعام أولى.(37/14)
تفسير قوله تعالى: (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم)
وقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] ما المراد بالبيوت هنا؟ من العلماء من قال: إن المقصود عموم البيوت، فوُجه إليه القول: هل يسن إذا دخلنا بيتاً مسكوناً فيه أناس أن نقول: السلام علينا فنسلم على أنفسنا؟ فقال قائل هذا القول: إن المعنى سلموا على إخوانكم، فإن المؤمنين كالجسد الواحد كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد،) وكما قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] أي: يقتل بعضكم بعضاً، وليس المراد الانتحار، وكما قال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] أي: لا يلمز بعضكم بعضاً، وقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ} [النور:12] أي: بإخوانهم، فقال قائل هذا القول: إذا دخلت بيتاً أي بيت كان فسلم على من فيه، فالمعني بالنفس: المؤمنون الذين هم داخل البيت.
ومن العلماء من قال: إن المراد بالبيوت المسكونة ما تقدم في قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] وهذه الآية التي بين أيدينا في البيوت غير المسكونة، يعني: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد، فقال هذا الفريق من العلماء: قل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أي: سلم على نفسك، على ظاهر الآية.
ومنهم من قال: إن هذه البيوت هي المساجد، أما كون المساجد يطلق عليه بيوت، فهذا في كتاب الله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] قالوا: فإذا دخلت المسجد فسلم عند دخولك المسجد على من في المسجد، وقال آخرون أيضاً: إن المراد بالبيوت: بيوت الداخلين، إذا دخل الشخص بيته يسلم على أهله التي هي بمنزلة نفسه، وقال ابن العربي رحمه الله: إن الله سبحانه وتعالى أطلق البيوت ولم يقيدها، فعم ولم يخص فقال سبحانه: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا} [النور:61] فأي بيوت يدخلها الشخص يسلم على من فيها، سواء كان فيها أشخاص أو لم يكن فيها أشخاص، وهذا القول بالعموم في هذا الموطن قول قوي؛ إذ ليس هناك ما يمنع التعميم، والله أعلم.(37/15)
من ثمار السلام
وقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً} [النور:61] أي: أن الأمر بهذه التحية إنما هو أمر من الله سبحانه وتعالى.
{فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً} [النور:61] وقد تقدم أن البركة: ثبوت الخير في الشيء، وتطلق البركة على النمو والازدياد، فمعنى بارك الله فيك أي: نمى الله الخير فيك، وزاد الله الخير فيك، وثبت الله الخير فيك.
{فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61] ، تطيب بها أنفس من دخلت عليهم، فإذا دخلت على قوم فسلمت عليهم، أو إذا مررت بقوم فسلمت عليهم، طابت نفوسهم تجاهك، وارتاحت نفوسهم لحديثك، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) ، فإفشاء السلام سبب في إيجاد المحبة بين المسلمين والمسلمات، فكم من ضغينة دفنت بسبب قول: السلام عليكم، وكم من بلية تُجنبت بسبب قول: السلام عليكم، وكم من فتنة قامت واشتعلت بسبب ترك السلام! قال سبحانه: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور:61] .(37/16)
تفسير قوله تعالى: (على أمر جامع)
ثم قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:62] أي: إنما المؤمنون الذين كمل إيمانهم.
{الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62] وهذا الأصل، ثم شيء آخر {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ} [النور:62] أي: مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} [النور:62] ما المراد بالأمر الجامع؟ الأمر الجامع هو الأمر الذي يجتمع الناس عليه، فعلى ذلك الأمر الجامع: هو الأمر ذو الأهمية الذي يجمع الناس.
فمن ذلك مثلاً: صلاة الجمعة أمر جامع، الدعوة للجهاد والخروج إليه أمر جامع، الاجتماع لحفر الخندق أمر جامع، فهناك أمور جامعة كان يجتمع عليها الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الأمر الجامع مثلاً أن يقال: هيا -يا إخوان- نحفر قواعد المسجد، فتأتي أفواج أهل الصلاح، ويستحي قوم فيدخلون في وسطهم فيبدأ العمل، فتجد قوماً يتسللون لواذاً، يهرب الواحد بعد الآخر، يتسلل ويهرب، هذا من ناحية، وهذا من ناحية أخرى، وهذا يستتر وراء هذا ويهربان، وكذلك كان الحال كما قال بعض العلماء في الجمعة على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، كان بعض الجالسين من أهل النفاق، هو أصلاً متبرم من الجمعة ومتبرم من الصلوات، فيتسلل هرباً، ويأتي آخر ويهرب بعده، ويأتي آخر ويستظل بهذا حتى يهربا معاً، كذلك في حفر الخندق، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفر الخندق مع أصحابه، فيأتي قوم يريدون الكيد للإسلام يتسللون لواذاً، هذا يهرب بعد هذا، وهذا يهرب بعد هذا، وهذا يظهر في الأعمال الجامعة دائماً، تجد قوماً من ضعاف الإيمان هذا ديدنهم وهذا شأنهم، ليس لهم في الخير نصيب، مثلاً يقال: هيا -يا إخوان- نكنس المسجد، تجد فئة مؤمنة تقوم وتجتهد وتتفانى في طاعة الله سبحانه وتعالى، وفئة بليدة محرومة عندها غضاضة، تهرب واحدة تلو الأخرى، فالأمر الجامع هو الأمر الذي يجتمع المسلمون عليه، ففي هذا الأمر الجامع قوم مقبلون على الخير، وقوم أهل كبر وأهل غطرسة محرومون من الخير يهربون واحداً تلو الآخر، وهذا في أعمال البر بصفة عامة، فالله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:62] أي: كاملو الإيمان {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62] ، يعني يقولون: ائذن لي -يا رسول الله- معي كذا وكذا، أما خلسة وهروباً فهذا فعل أهل النفاق، {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} ، وهذا أيضاً من الأدلة الدالة على رفع الحرج، فمع أن الأمر أمر جامع جاز للإمام أن يأذن لذوي الأعذار، قد يكون الشخص مشغولاً فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} [النور:62] أي: للانصراف لمشاغلهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62] ، فإذا كان المستأذن مؤمناً بالله واليوم والآخر، فما بالك بغير المستأذن الذي يمكث يعمل فهو من باب أولى أشد إيماناً.
فهنا ثلاثة أصناف: قوم بقوا في العمل مع النبي صلى الله عليه وسلم وبقوا معه في الأمر الجامع.
وقوم تسللوا لواذاً.
وقوم استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم لأعذارهم.
{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62] ، ليسوا كلهم يؤذن لهم، إنما يؤذن لمن تراه أنت، وهذا موكول إلى اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي تراه محتاجاً إلى الإذن ائذن له، فهذه الآية خيرت الرسول صلى الله عليه وسلم ورفعت الحرج عن الرسول أيضاً؛ لأن الرسول قد يأذن لشخص من غير أصحاب الأعذار تستر بعذر، فالله لم يقل له فأذن لأصحاب الأعذار منهم، فإن الرسول لا يعلمهم، إنما فيها أيضاً رفع الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أباح الله له أن يأذن لمن شاء منهم.
{فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} [النور:62] ، فيه دليل على أن هذا الاستئذان في نفسه فيه خلل لترك العمل الجامع، فلذلك جبر هذا الخلل؟ باستغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فهنا عمل خير، والناس مجتمعون عليه، فلما جاءه قوم يستأذنونه أذن لهم، فالاستئذان في نفسه قصور منهم، فيجبر هذا القصور بأن يستغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:62] .(37/17)
تفسير قوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً)
وقال الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] الدعاء هنا المراد به: نداء النبي صلى الله عليه وسلم لكم، يعني: إذا دعاكم الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر فلا تظنوا أن دعوته لكم لهذا الأمر كدعوة غيره، يعني: إذا دعاك زيد من الناس فليست دعوة زيد لك -تعال يا فلان- كدعوة رسول الله، إنما الواجب مع رسول الله أن تسمع له وأن تطيع، ففرق بين معصيتك ومخالفتك لرسول الله وبين إجابتك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا سعيد بن المعلى يصلي فدعاه، فلم يخرج أبو سعيد من صلاته، فقال له النبي بعد أن انصرف من الصلاة: (ما منعك أن تجيب؟! قال: إني كنت في صلاة يا رسول الله! قال له النبي عليه الصلاة والسلام: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] ) ؟ فهذا رشح أن المراد بالدعاء في الآية: المناداة، أو الدعوة التي هي: تعال يا فلان! وقيل: إن المراد بالدعاء: دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام على الناس أو للناس، فإذا دعا الرسول على قوم أو دعا الرسول لقوم فليست دعوته كدعوة غيره عليه الصلاة والسلام، إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم انتقم من فلان، أو اللهم اغفر لفلان، فدعاؤه عليه الصلاة والسلام أو دعوته بهذا الصدد ليست كدعوة غيره عليه الصلاة والسلام.
ومن العلماء قال في هذا الباب: دعوة أهل الصلاح ليست كدعوة غيرهم، فمثلاً: أنت تؤذي عبداً من عباد الله الصالحين، فدعوته عليك ليست كدعوة غيره، فهو صالح مظلوم، ويستدل لهذا المعنى بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] .
ففي الآية تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، والحث على توقيره عليه الصلاة والسلام، وعلى تعظيمه صلى الله عليه وسلم، ولهذا شاهد آخر من التنزيل، وهو قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3] ، فليس قول الرسول عليه الصلاة والسلام كقول غيره، ليست مناداته صلى الله عليه وسلم للناس: تعالوا أيها الناس! كدعوة غيره، وليست دعوته صلى الله عليه وسلم على الناس: اللهم افعل بهم وافعل! كدعوة غيره {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} .(37/18)
تفسير قوله تعالى: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً)
وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ} [النور:63] ، قد هنا للتحقيق أي: قد علم الله، كما قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] ، ليست على الشك، إنما هي للتحقيق {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور:63] والتسلل: هو الهروب بخفية، تسلل فلان إلى مكان كذا وكذا، تسلل من بين الأشجار، فالتسلل هو الهروب خفية، ولاذ فلان بفلان يعني تستر به: يا من ألوذ به فيما أؤمله ويا من أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره فألوذ به من معانيها: أستتر به {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور:63] فاللواذ: هو التستر في الهرب، يعني شخص يريد أن يهرب فيمشي خلف شخص حتى يستتر به ويهرب.
مثلاً: شخص أراد أن يخرج يوم الجمعة ولكنه خائف أن يخرج مباشرة، فينظر إلى اثنين أو ثلاثة خارجين، ويجعل نفسه في وسطهم ويخرج هرباً!(37/19)
عاقبة مخالفة أمر النبي عليه الصلاة والسلام
قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] كلمة عن هنا: هل هي زائدة أو لها معنى؟ من أهل العلم من قال: عن زائدة، والمعنى: فليحذر الذين يخالفون أمره، قالوا: ولغة العرب منها أحرف زائدة، والقرآن نزل بلسان عربي مبين.
ومن العلماء من قال: عن هنا بمعنى بعد، فليحذر الذين يخالفون بعد أمره، كما قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] ، على أحد الأقوال في تأويلها: أي: بعد أمر الله له بالطاعة فسق.
ومنهم من قال: هنا محذوف مقدر، فالمعنى: فليحذر الذين يخالفون معرضين عن أمره، قال: فعن تضمنت الإعراض، ولكن حذف الإعراض، فليحذر الذين يخالفون معرضين عن أمره عليه الصلاة والسلام، هذه ثلاثة أقوال في الآية.
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] الفتنة: الكفر، وقد تطلق الفتنة على أشياء أخر، تطلق الفتنة على: التعذيب بالنار، وتطلق الفتنة على الشرك {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:161-163] .
لئن فتنتني لهي بالأمس قد فتنت سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم وألقى مصابيح القراءة واشترى وصال الغواني بالكتاب المتيم فقوله: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} ، أي: صرف عن الدين، أو كفر وشك ونفاق في قلوبهم، وذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى إلى أن المراد بالفتنة هنا: الشرك، وفكر قليلاً كيف أن مخالفة أمر الرسول تجلب لهم الشرك؟! ففسرها على ما ورد عنه: أن المخالفة في الأمر الصغير تجلب مخالفة في الأكبر حتى يصل الأمر والعياذ بالله إلى الشرك.
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} ، شك وريب وشرك في قلوبهم، وصرف لقلوبهم عن الحق إلى الباطل.
{أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] وجع للأبدان مؤلم موجع، أو عذاب أليم في الآخرة.
{أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النور:64] تضمنت التهديد.
{وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [النور:64] كما قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] ، وكما تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف:49] .
{فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:64] .
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(37/20)
تفسير سورة الذاريات [1]
سورة الذاريات من السور التي تتعرض لآيات الله في الكون التي توجب لمن تدبرها معرفة الله عز وجل، وتتعرض -في أولها- لما أعده الله لمن أعرض وكذب بهذه الآيات من العذاب والنكال الأليم، وتعرض أيضاً صورة مشرقة لما أعده الله للمؤمنين المتقين الصادقين في الدار الآخرة، وبيان سبب ذلك النعيم مما كانوا عليه من الطاعات.(38/1)
تفسير قوله تعالى: (والذاريات ذروا)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فسورة الذاريات سورة مكية نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:1-6] .
أما الواو في قوله تعالى: {والذاريات} فهي واو القسم، يقسم الله سبحانه وتعالى بالذاريات، كما أقسم الله سبحانه وتعالى بالنجم في قوله: {وَالنَّجْمِ} [النجم:1] ، وكما أقسم بالسماء وبالشمس وبالقمر في جملة آيات، فالواو: هي واو القسم، وأحرف القسم ثلاثة: الواو، والباء، والتاء.(38/2)
هل لله عز وجل أن يقسم بمخلوقاته
فإن قال قائل: كيف يقسم الله سبحانه وتعالى بالذاريات وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بالأمانة فليس منا) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا: والكعبة، بل قولوا: ورب الكعبة) ، فكيف يقسم الله سبحانه وتعالى بالذاريات؟! وهل يؤخذ من قسم الله بالذاريات، جواز القسم بغير الله، أم لا؟! فالإجابة: أن لله سبحانه أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته، وليس لنا نحن أن نقسم إلا كما علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) .
والذاريات: هي الأشياء التي تذرى.(38/3)
أقوال العلماء في ((الذاريات))
وللعلماء في معنى الذاريات أقوال:- القول الأول: إنها الرياح التي تذري البخار، أي: تخرج البخار من البحار وتخرج البخار من الأنهار وترفعه إلى أعلى، أو تذريه إلى أعلى.
فمن العلماء من قال: إنها الرياح تذري البخار إلى أعلى، وتذري الغبار كذلك إلى أعلى، وتذري الأشياء، بمعنى تفرقها وتنشرها وترفعها.
والقول الثاني: الذاريات هن النساء اللواتي يذرين الأولاد، أي: يخرجن الأولاد متتابعين، فينشرن الأولاد في الأرض.
أما: ((ذرواً)) فهي: من التذرية، أي: والذاريات يذرين الأشياء تذريةً.(38/4)
تفسير قوله تعالى: (فالحاملات وقراً)
{فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات:2] ، والوقر: هو الحمل، كما يقال: حملني فأوقر لي راحلتي، أو حمّل راحلتي فأوقرها لي، أي: حمَّلها أقصى ما تستطيع حمله،.
{فالحاملات وقراً} أي: الحاملات أقصى ما يستطاع من حمل.
وعلى ذلك فمن العلماء من قال: إن الحاملات وقراً، هي: الرياح التي تحمل السحب التي أثقلتها وأوشكت أن تسقط، أو السحب التي حمّلت بالماء.
ومنهم من قال: إن الحاملات: هن النساء الحوامل اللواتي أشرفن على الوضع، أو حملن حملاً ثقيلاً، كما قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:189] .
{فالحاملات وقراً} الوقر: هو الحمل، أوقر لي راحلتي، أي: أتم حملها، والمعنى: فالحاملات حملاً ثقيلاً.(38/5)
تفسير قوله تعالى: (فالجاريات يسرا)
{فالجاريات يسراً} أي: الجاريات بسهولة وبيسر، وما هي هذه الجاريات بسهولة وبيسر؟ قال بعض العلماء: إنها السحب تجري جرياً سهلاً يسيراً.
ومنهم من قال: هي الكواكب التي تسير سيراً سهلاً يسيراً.
ومن العلماء من قال: إن الجاريات هي السفن، بدليل قول الله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:32] ، وبدليل قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] .
فمن أهل العلم من قال: إن الجاريات هي السحب تجري بما تحمله.
ومنهم من قال: إن الجاريات هي السفن تجري بسهولة ويسر.
ومنهم من قال: إن الجاريات هي الكواكب والنجوم التي تجري.
ومنهم من أضاف الشمس والقمر، كما قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38] .(38/6)
تفسير قوله تعالى: (فالمقسمات أمراً)
ثم قال سبحانه: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:4] ، للعلماء أيضاً فيها أقوال: القول الأول: إنها الرياح التي تقسم الأرزاق على العباد بإذن الله، فالرياح تأتي بالمطر تسقطه في مكان، كما قال تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43] ، فمن العلماء من قال: إن المقسمات أمراً هي الرياح تقسم الأرزاق بأمر الله وبإذن الله، أي: تقسم الأمطار التي تأتي منها الأرزاق بإذن الله.
القول الثاني: إن المقسمات أمراً هي الملائكة التي تقسم الأرزاق على العباد بأمر الله سبحانه وتعالى.
إذاً مما ظهر يبدو أن للعلماء قولاً مطرداً في هذه الكلمات الأربع: والذاريات، فالحاملات، فالجاريات، فالمقسمات، فمن العلماء من حملها كلها على شيء واحد ألا وهي الرياح، فقال: إن الذاريات: هي الرياح تذري البخار، ثم تضمه بعضه إلى بعض فيحمل بالسحب، ثم تجري بالسحب بإذن الله، ثم تنزله في المكان الذي أراده الله سبحانه.
ومن العلماء من قال: الجاريات والحاملات هن النساء الحوامل.
{فالجاريات يسراً} كل ما جرى بتيسير الله سبحانه، سواءً كان الشمس أو القمر أو النجوم أو الرياح، أو كل شيء يجري بأمر الله سبحانه وتعالى.
أما المقسمات أمراً، فقول إنها الملائكة، وقول إنها الرياح.
أقسم الله بذلك على ماذا؟(38/7)
تفسير قوله تعالى: (إنما توعدون لصادق)
قال: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5] ، أي: إن الشيء الذي وعدتم به لصدق، أي إن الحديث عن البعث لحديث صدق.
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5] ، أقسم الله بهذه الأشياء على أن البعث آت، وعلى أن الساعة آتية لا ريب فيها، ليس البعث والساعة فحسب، بل كل شيء وعدنا الله به فهو وعد صدق، فصادق هنا بمعنى: صدق، كما في قوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] ، أي: في عيشة مرضية.
وقوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5] ، فيه تذكير بالبعث، فإن المرء إذا ذكر بالبعث وتذكر البعث عمل لأخراه فاستقامت أحواله وصلحت سريرته.
{وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:6] ، أي: الحساب والجزاء واقع، يقسم الله سبحانه وتعالى على أن الدين لواقع، يعني: الجزاء لآت وقائم وحادث.
فيقسم الله على أن البعث آت كما أقسم في آيات أخر وقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] ، وأمر نبيه أن يقسم ويقول: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} وكما أكد ذلك بقوله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7] ، فهنا يؤكد هذا المعنى الذي تأكد في أغلب سور القرآن الكريم.
{إن الدين لواقع} أي: إن الحساب والجزاء لكائن.(38/8)
تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الحبك)
ثم أقسم الله سبحانه وتعالى قسماً آخر فقال: {وَالسَّمَاءِ} [الذاريات:7] ، أقسم الله بالسماء (ذَاتِ الْحُبُك) .
أما الحبك: فللعلماء فيه أقوال:- القول الأول: الطرق والمسالك والمدارات التي تسير فيها النجوم والكواكب والشمس والقمر.
والقول الثاني: أن المراد بالحبك: الزينة.
والقول الثالث: أن المراد بالحبك: الحبك، وهو الشد والإحكام، كما تقول: هذا الشيء محبوك، أي: مضموم بعضه إلى بعض بشدة، وكما تقول: احبك الثياب، أو هذا ثوب محبوك، أو كما يقول العامة: فلان محبكها، يعني: مضيق الأمر فيها.
فالحبك: الشد والإتقان والإحكام، كما قال تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ:12] ، فهذه بعض الأقوال في تفسير الحبك وهي أشهر تلك الأقوال.(38/9)
تفسير قوله تعالى: (إنكم لفي قول مختلف)
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] ، يقسم الله سبحانه وتعالى على شيء ألا وهو {إنكم لفي قول مختلف} ، هل هناك علاقة بين المقسم به والمقسم عليه؟ البعض من المفسرين أحياناً يلتمس علاقات بين المقسم به والمقسم عليه، فمن العلماء مثلاً من يورد هنا: {والسماء ذات الحبك} على رأي من قال: والسماء ذات الطرق المختلفة والمتنوعة.
{إنكم لفي قول مختلف} أي: كما أن السماء فيها طرق ومدارات مختلفة، وقول آخر على رأي من قال: إن الحبك هو الشد والإتقان، فيكون والسماء التي أتقن صنعها إنكم لفي قول متفرق مشتت، فيحدث ربط والله سبحانه أعلم بذلك.
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] ، هذا القول المختلف هو قولهم في القرآن وفي الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، فمنهم من يقول: إنه ساحر، ومنهم من يقول: إنه كاهن، ومنهم من يقول: إنه شاعر، ومنهم من يقول: إنه مجنون.
ومنهم من يقول: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] ، ومنهم من يقول: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] ، ومنهم من يقول: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:6-7] .
فأقوالهم في القرآن وفي الرسول عليه الصلاة والسلام ليست بمتحدة وليست بمطردة، إنما هي أقوال متشتتة ومتفرقة.(38/10)
تفسير قوله تعالى: (يؤفك عنه من آفك)
{يُؤْفَكُ عَنْهُ} [الذاريات:9] ، ليس المقصود القول المختلف، بل قدر العلماء محذوفاً.
قالوا: {يؤفك عنه من أفك} يؤفك هنا بمعنى: يصرف، فالمعنى: يصرف عنه من صرف، كقوله تعالى: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] ، أي: فأنى يصرفون.
قال فريق من العلماء: يصرف عن الحق، ويصرف عن القرآن، ويصرف عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
من صرف، أو يضل عنه من ضل.
وقوله: {من أفك} يفيد أن المصروف من صرفه الله سبحانه وتعالى، وأن الضال والزائغ من أزاغه الله سبحانه وتعالى.
{فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] .(38/11)
تفسير قوله تعالى: (قتل الخراصون)
ثم قال سبحانه: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] ، قتل: كما تقدم في أكثر آي الكتاب العزيز، معناها: لعن، ومعنى ذلك: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] .
والخراصون: هم الذين يقولون بالتخمين، ولا يبنون الأقوال على حقائق، بل يقولون بالتخمين والظنون بلا دلائل ولا بينات، فيكذبون القرآن بالظنون، ويكذبون القرآن بالتخمين، فالله يقول: ((قتل الخراصون)) والخراصون أيضاً: المتشككون المرتابون.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} [الذاريات:10-11] ، في الآية محذوف تقديره، الذين هم في غمرة من الجهل، وغمرة من الكفر وغمرة من الغباء، والمعنى: وهم في جهل وكفر قد غمرهم وغطاهم.(38/12)
تفسير قوله تعالى: (يسألون آيان يوم الدين)
{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات:12] ، متى هذا اليوم؟ قال سبحانه: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] أي: يحرقون ويعذبون.
{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات:14] أي: ذوقوا عذابكم، والفتنة لها معانٍ متعددة، الفتنة تطلق على الصرف وتطلق على التعذيب بالنار، وتطلق على الشرك، وغير ذلك.
فالفتنة لها معانٍ كثيرة متعددة، يفهم معناها من السياق {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:161-163] أي: بصارفين عن الدين.
لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم وألقى مصابيح القراءة واشترى وصال الغواني بالكتاب المتيم والفتنة هنا الصرف.
{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] أي: يعذبون، {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات:14] ، ذوقوا عذابكم أو ذوقوا جزاء انصرافكم، {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:14] ، أي: هذا اليوم الآخر وهذا العذاب الذي كنتم به تستعجلون.
فإن قال قائل: وهل الكفار كانوا يستعجلون العذاب؟ فالإجابة: نعم، فقد كانوا يقولون: (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] ، وكانوا يقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] .
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:15-16] .
يرى الطبري رحمه الله تعالى أن قوله: {آخذين ما آتاهم ربهم} أي: عاملين بالفرائض التي افترضها عليهم ربهم، وهذا القول قول ضعيف في هذا المقام، كما ضعفه الحافظ ابن كثير وغيره؛ وذلك لأن الجملة حالية، فهم آخذين ما آتاهم ربهم أثناء وجودهم في جنات وعيون، فعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى والله أعلم بقوله: ((آخذين ما آتاهم ربهم)) أي: آخذين ما أنعم ومنَّ الله به عليهم في الجنان.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} [الذاريات:16] ، أي: في الحياة الدنيا، {مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] ، وما هي أوجه الإحسان التي كانوا يفعلونها وبها استحقوا لفظ الإحسان؟ للإحسان وجوه عدة والمقصود به هنا -والله أعلم- ما كانوا عليه في الحياة الدنيا من الطاعة، التي تحلوا بها وتحققت.(38/13)
حال السلف مع القرآن
وقد جاء عن السلف أنهم كانوا ينزلون الآيات على أنفسهم، فهذا أحدهم مر على قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] ، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ} [آل عمران:134] ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] ، فقال: أنا لست من أهلها.
ومر بعضهم على الآيات التي تتحدث عن الأشقياء والفجار فقال: الحمد لله لست من أهلها، ومر على قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102] ، فقال: أنا من أهل هذه الآية، كما هو حالنا فإنه يقوم أحدنا في الصباح ويصلي الفجر ويقرأ الأذكار بعد الصلاة، ويتلو ما شاء الله من كتاب الله، ثم يخرج إلى عمله، وفي الطريق تعتريه الفتن، وينظر إلى هذه وينظر إلى تلك، ويتحدث بحديث فيه اغتياب للمسلمين واغتياب للمسلمات، ويغضب ويثأر لنفسه، فيسقط مرة ويقوم مرة، فلا ينطبق عليه إلا هذه الآية: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:102] .(38/14)
صور الإحسان في الكتاب والسنة
ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في سؤال جبريل له عن الإحسان؟ قال: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه) ، فقوله تعالى: ((إنهم كانوا قبل ذلك محسنين)) أي كانوا في حياتهم الدنيا يعبدون الله سبحانه وتعالى على هذا النحو، يعبدونه موقنين ومستحضرين أن الله يرى مقامهم ويسمع كلامهم، كما قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] ، ففي ممشاهم يشعرون أن الله يراهم، وفي مجلسهم يشعرون أن الله يراهم، وفي عبادتهم يشعرون أن الله يراهم، وهذه من صور الإحسان.
ومن صور الإحسان التي تخلقوا بها: العفو عن الناس، فإن هذا من أخلاق المحسنين، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] .
، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90] فالعدل: القصاص، والإحسان: هو العفو، فتخلقوا أيضاً بهذا الخلق الكريم الذي هو العفو عن الناس، فلم يثأروا لأنفسهم في كل وقت وحين، ولم ينتصروا لأنفسهم من إخوانهم بالحق وبالباطل، إنما هضموا حقوق أنفسهم طلباً لثواب الله، وعفواً عمن ظلمهم ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، وأيقنوا وأتقنوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه) .
ومن صور الإحسان كذلك: أنهم كانوا رحماء في معاملتهم مع الناس، بل مع كل شيء حولهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) ، فتخلقوا بهذا الخلق في دنياهم، ومن ثم أخذوا ما آتاهم ربهم في أخراهم، ثم وردت لهم صفات أخر: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] أي: لا ينامون، وقد استوقفت هذه الآية الكريمة الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى، إذ كان الأحنف يقرأ القرآن قراءة المتدبر المتأمل، فلما مر على هذه الآية الكريمة: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} قال معترفاً: أنا لست من أهل هذه الآية.
وهكذا نحن أيضاً ينبغي أن نقبل على كتاب الله فننزل آياته على أنفسنا لننظر: هل نحن من أهلها؟ وهل نحن من العاملين بها، أم لسنا كذلك؟ فهل نحن من أهل قول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64] ، ويقولون: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] ؟ هل نحن أيضاً من أهل قول الله سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] ؟ فاقرأ القرآن قراءة المتأمل المتدبر المتفكر، ولا تكثر من الثرثرة ولا تكثر من الضحك والصياح والعويل والافتخار بنفسك، فأكثر ديدنك الثناء على نفسك، إظهار بطولاتك، قف مع كتاب الله، لتنظر هل أنت من الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107-109] ؟ هل أنت أيضاً ممن قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83] ؟ هل أنت كذلك من أهل هذه الآية: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] ؟ فاقرأ القرآن قراءة المتدبر المتأمل واعمل به.(38/15)
تفسير قوله تعالى: (كانوا قليلاً من الليل.)
قال الله في شأن أهل الإيمان: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] ، أي: لا ينامون.
ولماذا لا ينامون؟ ألكونهم يتاجرون؟ أم لكونهم يخافون؟ أم لكونهم يصلون؟! الآيات الأخر أفادت وأوضحت الذي أجمل {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:64-65] ، لا ينامون لكونهم يخافون اليوم الذي هو آتٍ وموعود، كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] ، ساعات الليل، {سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9] ، طول ساعات الليل أو في ساعات الليل، لماذا هو ساجد ولماذا هو قائم؟ {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] ، هذا هو حاله، ساجد وقائم في ساعات الليل الطويلة خوفاً من شيء ورجاء لشيء {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} .
هكذا كانوا يصنعون، وهذا كتاب الله سبحانه ليس فيه آية ضعيفة ولا فيه خبر موضوع، إنما هو كلام الله عن هؤلاء الناس، الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] .
لماذا يتركون الفرش الدافئة؟ لماذا يؤثرون التعب والإرهاق وتورم الأقدام، على الراحة والنوم في الفراش الدافئ مع النساء الحسان؟ قال الله سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] ، وهذا يدل على أننا جميعاً نحتاج إلى تزكية أنفسنا، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10] ، ونحتاج إلى نهيٍ لأنفسنا عن الهوى، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] ، وجدير بنا أن نقف مع أنفسنا، ونراجع أنفسنا مع قيام الليل، ويصلي أحدنا لله ما استطاع من ركعات، مستحضراً أن الله يراه وأن الله يسمع كلامه وأن الله يسمع دعاءه، ويتعوذ بالله من دعاء لا يسمع.
وإذا وجد في القلب قسوة فليتعوذ بالله من قلب لا يخشع، وإذا وجد أن العين أصبحت لا تدمع فليتعوذ بالله من عين لا تدمع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من ذلك، وقد صح عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، وعين لا تدمع، وقلب لا يخشع) ، فجدير بنا أن نمعن النظر في هذه التعوذات التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله منها.
ولنقرأ كتاب الله قراءة المتدبر المتأمل، خاصة في صلاة الليل عندما تكون بمفردك.(38/16)
تفسير قوله تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون)
قال تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ} [الذاريات:18] أي: في أوقات السحر التي هي أحلى الأوقات وأشهى الأوقات للنوم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يقومون في السحر عندما يناديهم ربهم سبحانه: هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ فلا ينامون كالجيف، ولا ينامون كالرمم، ولا ينامون والشياطين تبول في آذانهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عنده شخص نام حتى أصبح، فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنه) .
فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وفي الآية الأخرى {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17] ، فجدير بنا أن نطبق كتاب ربنا على أنفسنا.(38/17)
تفسير قوله تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)
قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] .
هل هذا الحق هو الزكاة المفروضة، أو غير الزكاة المفروضة؟ هناك قرينتان في الآيات: قرينة توضح أنها الزكاة المفروضة، وقرينة توضح أنها ليست الزكاة المفروضة، بل هو مال آخر غير الزكاة، فمن قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] ، يؤخذ أن فعل الإحسان يقتضي أن يزيد المحسن على الفرض شيئاً ليس مفروضاً عليه، فهذا يقوي قول من قال: {وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] ، إنهم جعلوا على أنفسهم في أموالهم حقاً معلوماً، فاقتطعوا جزءاً من أموالهم لم يوجبه الله سبحانه وتعالى عليهم، وجعلوه لأهل الفقر، ولأهل المسكنة، وللمحرومين والسائلين.
فهذه القرينة التي هي: ((إنهم كانوا قبل ذلك محسنين)) حملت بعض المفسرين على أن يقولوا: إن الحق المعلوم هنا حق آخر سوى الزكوات المفروضة، شأنهم شأن ذلك الرجل الذي ورد ذكره في الحديث الذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يتماشى في الصحراء أو في البرية إذا رأى سحابة من فوقه وسمع فيها صوتاً، وإذا بهذا الصوت يقول للسحابة: اسقي أرض فلان، فتعجب لهذا الصوت وتبع السحابة فوجدها قد جاءت وأسقطت كل مائها في أرض من الأراضي، وإذا برجل قائم في أرضه يحول الماء بمسحاته، فسأله عن اسمه فقال: اسمي فلان -للذي سمع اسمه في السحابة- فقال: أخبرني ماذا تصنع فإني سمعت في السحابة صوتاً يقول: اسقي أرض فلان لأرضك، قال: أما وقد سمعت، فإني أعمد إلى ما يخرج من الأرض فأجزئه أثلاثاً: جزء أرده إلى الأرض، وجزء أقتات به أنا وأهل بيتي، والجزء الآخر أخرجه للفقراء والمساكين) .
فقد جعل هذا الرجل على نفسه حقاً معلوماً لم يوجبه الله سبحانه وتعالى عليه، وإنما كان الواجب عليه الزكاة.
أما الوجهة التي قوى بها العلماء الرأي القائل بأن هذا الحق هو الزكاة المفروضة، فهو كلمة (معلوم) أي: حق محدد، حدد بأنصبة الزكوات.
فالله سبحانه أعلم، لكن على كل فأهل الإحسان فيهم الصفتان، فإنهم يؤدون الواجب ويزيدون عليه بغيره، فإذا فعل العبد هذا الأمر استحق أن يكون من أهل الإحسان.(38/18)
تفسير قوله تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين.)
{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ} [الذاريات:20] أي: دلالات، {لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20] ، لأهل اليقين.
وهي دلالات على قدرة الله سبحانه وتعالى، ودلالات على البعث، ودلالات على الموت، ودلالات على الحساب.
{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ} [الذاريات:20-21] كذلك آيات للموقنين، {أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] .(38/19)
تفسير قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون)
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] اختلف العلماء في الآية على قولين: أما القول الأول: إن الرزق هو المتمثل في المطر الذي ينزل إلى الأرض، فيخرج الله به النبات، وأما قوله: {وما توعدون} فمحمول على العذاب الذي ينزل على أهل الكفر، وينزل على أهل الظلم، فحمل قوله: ((وفي السماء رزقكم)) على الرزق، وحمل قوله: ((وما توعدون)) على العذاب.
القول الثاني: أن الآية عامة في الأرزاق، وعلى ما أعده الله في الجنان، وقد تحمل على ما كتب وسطر على بني آدم وأنه يلحق بهم.(38/20)
تفسير قوله تعالى: (فورب السماء.)
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الذاريات:23] يقسم الله سبحانه وتعالى بنفسه، فيقول: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ} [الذاريات:23] وقد اختلف العلماء في عود الضمير في قوله: (إنه) على أقوال: القول الأول: إنه راجع إلى كل ما تقدم.
القول الثاني: إنه راجع إلى القرآن.
القول الثالث: إنه راجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
القول الرابع: إنه راجع إلى الآية التي سبقتها وهي الأرزاق، والقول بالعموم أولى وأشمل وأكمل والله أعلم.
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] ، أي مثل ما أنكم تتكلمون.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(38/21)
تفسير سورة الذاريات [2]
تضمنت سورة الذاريات قصة إبراهيم عليه السلام مع الملائكة، وفيها من أدب الضيافة ما يدل على رفعة خلق إبراهيم عليه السلام، بل جعل كثير من العلماء هذه الآيات أصلاً من الأصول التي تستخلص منها آداب الضيافة.(39/1)
تفسير قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:24-28] .
يستخرج العلماء من هذه الآيات كثيراً من آداب الضيافة، وكذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:69-70] .
فيتعرض المفسرون عند هذه الآيات لآداب الضيافة ولأحكامها.
يقول الله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] ، من العلماء من قال: إن (هل) هنا بمعنى: قد، ومنهم من قال: إن (هل) على بابها وأشير بها للتنبيه، فعلى الأول: (قد) أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، ومن هم ضيف إبراهيم عليه السلام؟ هم الملائكة الذين تمثلوا له في صورة بشر أثناء ذهابهم إلى مدائن قوم لوط لتدميرها ولإنزال العذاب عليها، فمروا مسلّمين عليه ومخبرين له بما سيحدث لهذه القرى من عذاب، كما قال سبحانه: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74] ، فلما علم إبراهيم صلى الله عليه وسلم ما سيحدث، بدأ يجادل أو يدافع عن قومه أو يطلب التمهل في إنزال العقوبات على قوم لوط على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
الشاهد: إن الملائكة تصورت في صورة رجال، وتصور الملائكة في صورة رجال وارد في جملة آيات وأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن تأتي الملائكة في صورة البشر، قال الله سبحانه وتعالى في شأن مريم: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17] ، وكذلك هنا الملائكة تشكلت في صورة بشر، ولما ذهبوا إلى لوط أيضاً تشكلوا له في صورة بشر.
وقال عمر رضي الله عنه: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد) ، وفي آخر الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) .
وكذلك كان جبريل يتمثل للرسول صلى الله عليه وسلم بصورة دحية الكلبي، وكذلك الثلاثة نفر: الأقرع والأبرص والأعمى، الذين ابتلاهم الله سبحانه وتعالى، فتمثل لهم الملك في صورة رجل ليبتليهم، وقد تمثلت بعض الملائكة في صورة بشر في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصل تشكل الملائكة في صورة البشر وارد وجائز كما في هذه النصوص.
يقول الله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:24-25] ، أي: أنكم بالنسبة لنا مجهولون لا نعرفكم.
وبالنسبة لسؤال الشخص للداخلين عليه -من أنتم؟ ومن أي البلاد- له أدلته في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث وفد عبد القيس لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (من القوم أو من الوفد؟ قالوا: وفد عبد القيس يا رسول الله، قال: مرحباً بالقوم أو بالوفد) ، (ولما جاءت أم هانئ تسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من هذه؟ قالت: أم هانئ يا رسول الله، قال: مرحباً بأم هانئ) ، ولما ذهبت زينب امرأة عبد الله بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في بعض المسائل وأرسلت بلالاً وقالت له: قل له: إن ابن مسعود يزعم أنه أحق من تصدقت عليه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (من هذه؟ قال بلال: زينب، قال: أي الزيانب هي؟) .
إذاً: يجوز السؤال عن الشخص القادم أو عن الشخص المستخبر، ولا مطعن في هذا ولا لوم على السائل.(39/2)
حكم التكلف في إكرام الضيف
أما مسألة التكلف في إكرام الضيف، هل هي مشروعة أو غير مشروعة؟ فقد ورد ما سمعتموه من قول الله تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ، وكذلك فعل أبو التيهان الأنصاري لما ذهب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر في ظهيرة يوم من الأيام، قام إلى شاة ليذبحها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب) لكنه أقره على ذبح الشاة، وقد ورد في الباب أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (نهينا عن التكلف للضيف) ، وهو بهذا اللفظ منازع في صحته، وقد حكم بعض العلماء على هذا الحديث بالضعف وهو الذي تستريح إليه النفس الآن، أما النصوص الثابتة فعمومها يحث على إكرام الضيف.
أما حديث: (نهينا عن التكلف للضيف) ، على فرض ثبوته فهو منزل على معنىً معين وهو ما إذا كنت ستستدين ديناً كبيراً ترهق عن سداده فلا تفعل حينئذ، فـ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ثبت أن سلمان رضي الله عنه قال لـ أبي الدرداء: (إن لزورك عليك حقاً -أي: إن لضيفك عليك حقاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان) .
يقول الله سبحانه: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ، وفي الآية الأخرى: {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69] ، والحنيذ: هو المشوي، فأخذ العلماء منه أدباً يتعلق بالضيافة: وهو أن على أهل البيت أن يتقنوا الطبخ الذي يقدمونه للضيف، فلا تأت المرأة -مثلاً- بلحم نيئ -غير ناضج- تقدمه للضيف، حتى يأكل قطعة أو لا يكاد يأكل ويترك لها الباقي، فتنضجه هي بعد أن ينصرف فإبراهيم صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، بل جاء بعجل حنيذ وهو العجل الذي شوي شياً وأنضج إنضاجاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات:26-27] من قوله تعالى: (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أخذ العلماء فقهاً آخر من فقه الضيافة ألا وهو: أن صاحب البيت نفسه يستحب له أن يباشر خدمة الأضياف بنفسه، ولا يجعل الخدم فقط هم الذين يتولون تقديم الطعام، فإن مباشرة صاحب البيت تقديم الطعام بنفسه للأضياف تفهمهم مدى حفاوته واهتمامه بهم، وإن كان المؤدى واحد، لكن حسن الاستقبال مع القيام على الخدمة كل ذلك يشعر الأضياف باهتمام صاحب البيت بهم، وهذا ينعكس بمودة ومحبة في قلب الضيف، لأن المضيف جمع له بين الحسنيين حسن الضيافة، وحسن البشاشة والاستقبال والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبسمك في وجه أخيك صدقة، وقال: لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) ، ثم تقديم الطعام الذي هو نوع من الواجب عليك كما قال بعض العلماء، والله سبحانه وتعالى أعلم.(39/3)
تشديد النبي عليه الصلاة والسلام على إكرام الضيف
قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ، في الآية أيضاً: أن الضيف يكرم بأفضل ما عندك، لأن إبراهيم صلى الله عليه وسلم جاء بعجل سمين، فلم يأت بعجل هزيل ولا بعجل نحيف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حاثاً على إكرام الضيف: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الضيافة ثلاثة أيام جائزته يوم وليلة) ، أي: يبالغ في إكرام الضيف في اليوم الأول والليلة الأولى ويتحفه بما يستطيع من إتحاف، أما سائر الأيام فكسائر طعامك وشرابك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل نزل بقوم فلم يقروه فحق له أن يأخذ منهم بقدر قراه) أي: بقدر ضيافته، ولا يخفى عليكم أن خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أوصى ولده إسماعيل أن يغير عتبة بابه، -يطلق امرأته-، ومن أسباب هذا التغيير، عدم احتفائها بالأضياف وعدم إكرامهم للأضياف، وقد ورد عن الخليل صلى الله عليه وسلم: أنه أول من أضاف الأضياف، وبالغ في إكرامهم وتأسيس أصول ضيافتهم، وهذا حفيده يوسف صلى الله عليه وسلم يقول لإخوته: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] ، أي: وأنا خير من أنزل الأضياف منازلهم وخير من أكرم الأضياف.
وها هو لوط عليه السلام يقف مغتماً مهتماً لما سيصيب الأضياف من مكروه، بل ويفديهم ببناته ويقول لقومه: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر:71] ويقول أيضاً: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] ، وها هو النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله سائل فيقول: (يا رسول الله!! إنا ننزل بأقوام فلا يقدمون لنا ما ينبغي للضيف، فقال: إذا نزلتم بقوم فلم يقدموا لكم ما ينبغي للضيف فخذوا منهم بقدر قراكم) ، أي: بقدر ضيافتكم، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
بل إن من العلماء من وضع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) في كتاب المظالم اعتقاداً، إلى أن الشخص الذي لا يكرم ضيفه قد يكون ظالماً، لأنه بخس الضيف حقه.(39/4)
من آداب الضيافة
قال تعالى: {فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:25-26] ، هذا من آداب الضيافة.
قوله: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ) راغ: من الروغان، وهو التسلل خفية، فلم يقل لهم: ماذا تريدون أن تأكلوا؟ ولم يعرض عليهم أتريدون كذا أو كذا.
فيزهد الضيف في الطعام، إنما تسلل عليه الصلاة والسلام في خفية وسرعة، وهو المفهوم من قوله تعالى: (فَرَاغَ) من الروغان، تركهم وفي خفة وسرعة دخل على أهله صلى الله عليه وسلم.
{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ، ومن كلمة (راغ) -أي: تسلل في خفة وسرعة- أخذ العلماء شيئين: الأول: عدم إحراج الضيف وسؤاله عن الطعام الذي يأكله أو الشراب الذي يشربه.
الثاني: في إحضار ما عندك للضيف حتى لا يمل من المجلس ويضجر ويخرج من البيت.
قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات:26] ، المراد بالأهل هنا: الزوجة، ومنه: قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران:121] ، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من عند عائشة.
ومنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ والله ما علمت من أهلي إلا خيراً) ، يريد عائشة وقد يطلق أحياناً على ما هو أعم من الزوجة؛ كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى بـ الحسن والحسين وفاطمة وعلي ووضع عليهم كساءً وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً) ، فالأهل: قد تطلق على الزوجة، وقد تطلق الأهل: على الأبناء والأقارب، وقد تطلق على ما هو أعم من ذلك.
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] ، المعني بالأهل هنا: أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام وأهل بيته صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ، أما قوله: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ) أنه أتى بالطعام من عند الأهل والزوجة المساعدة في ضيافة الضيف، وقد قال العلماء في معنى قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:71] ، أي: قائمة على خدمة الأضياف، وكان هذا حال النسوة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كن يخدمن الأضياف، وقد زار النبي صلى الله عليه وسلم عرساً في ليلة عرسها وكانت هي التي تخدم الأضياف، وكانت قد نقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمرات من الليل.
وكذلك أم سليم كانت تضيف أضياف أبي طلحة، لما ذهب إليها الأضياف الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك امرأة جابر كانت تضيف أضياف زوجها، فأخذ من هذه النصوص مع قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:71] ، أي: قائمة بخدمة الأضياف، أنه يستحب للزوجة أن تعين زوجها على إكرام أضيافه.
{فَجَاءَ بِعِجْلٍ} [الذاريات:26] ، كثير من أهل العلم يقولون: إن المراد بالعجل هنا من البقر، إن كان كذلك فهو مخالف لما جاء في الحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن البقر وفيه: (لحومها داء وألبانها دواء وشفاء) ، وقد روي عن رسول الله حديث بهذا اللفظ في شأن البقر: (لحومها داء وألبانها دواء وشفاء) ، وهذا الحديث ضعيف الإسناد، ولبعض فقراته شواهد ألا وهي: (ألبانها دواء وشفاء) أما لفظة لحومها داء فإسنادها تالف ضعيف جداً، إضافة إلى ذلك فمعناه أيضاً باطل منكر.
فإن الله سبحانه وتعالى أنزل لنا من الأنعام ثمانية أزواج -أي: حلالاً طيبة لنا- وفصلت هذه الثمانية أزواج بقوله تعالى: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] ، وبقوله تعالى: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144] ، ومن البقر -أي: الثور والبقرة- فإذا كان الله سبحانه قد أنزلها لنا حلالاً مع ما أنزل، فالله سبحانه وتعالى يحل لنا الطيبات ويحرم علينا الخبائث، وثبت كذلك في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه بالبقر) ، وثبت أيضاً في حديث الجمعة: (من راح في الساعة الثانية يوم الجمعة فكأنما قرب بقرة) ففي كل هذه النصوص ما يدل على تضعيف معنى: (لحومها داء) ، فضلاً عن ذلك فلا شاهد لهذه الفقرة من الحديث فإسنادها تالف ساقط.(39/5)
تفسير قوله تعالى: (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ)
قال الله سبحانه وتعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] ، فيه أيضاً: التلطف في خطاب الأضياف، ففي قوله: (أَلا تَأْكُلُونَ) لم يطلب منهم الجلوس للطعام ولم يسألهم هل أكلوا أم لم يأكلوا إلى غير ذلك من الأسئلة السمجة المحرجة التي تجعل الضيف ينفر منك ومن طعامك قبل أن تأتي به، فالأولى أن تقرب ما عندك وتتلطف كما تلطف الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم إذ قال: (أَلا تَأْكُلُونَ) .(39/6)
تفسير قوله تعالى: (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [الذاريات:28] ، وفي الآية الأخرى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود:70] ؛ وذلك لأن الضيف إذا لم يأكل عندك فالعرف السائد بين الناس أنه يضمر لك شراً، أما إذا أكل عندك فلا يجدر به أن يغدر بك إبقاءٍ لهذا الذي أسديته إليه.(39/7)
مراقبة الضيف أثناء الأكل
وهنا يجدر بنا التنبيه على مسألة وهي: هل يشرع النظر إلى الأضياف وهم يأكلون؟! الفقه في هذه المسألة أنه إذا كان النظر إلى الأضياف وهم يأكلون يحرجهم ويشق عليهم كما يفعل أرباب البيوت البخلاء، إذ يعدون اللقيمات التي أكلها الضيف عداً مما يسبب إحراجاً للضيف الذي يرى أن الجميع ينظر إليه ويعد عليه اللقيمات عداً، فيقوم محرجاً قبل أن يقضي حاجته من الطعام، ففي هذه الحالة الأولى أن يكف المضيف عن نظره عن ضيفه ويتركه حتى يأكل براحته.
أما إذا كان الضيف لا يأكل بالكلية؛ فلك أن تسأل لماذا لا تأكل؟ فلعله أن يكون مثلاً صائماً أو مريضاً ولا يشتهي إلا نوعاً من الطعام غير موجود، أو لعله يرغب في طعام غير هذا الطعام تستطيع أن تأتي به، فلهذا فقه يقتضيه مقام الضيافة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فالشاهد: أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما {رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:70] ، ففيه إثبات الخوف الجبلي، والخوف الجبلي يرد حتى على الفضلاء وأهل الصلاح، فالخليل إبراهيم عليه السلام أوجس خيفة في نفسه من هؤلاء الأضياف، وفي موسى عليه السلام يقول الله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] ، وكذلك قال موسى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء:21] ، وكذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال:26] .
فالخوف الجبلي الذي يتوارد على أبناء آدم لا يخدش في دينهم وتقواهم، وإن كان ينبغي لهم أن يقاوموا أنفسهم في هذا الخوف لعموم قوله تعالى: {َفلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] .
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ} [الذاريات:28] ، على الضيف أيضاً: أن يطمئن صاحب البيت ولا يدخل عليه الرعب والإزعاج بل عليه أن يطمئنه ويذهب عنه الروع.(39/8)
تفسير قوله تعالى: (قالوا لا تخف وبشروه بغلام.)
قال تعالى: {قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] ، الغلام العليم هنا هو: إسحاق صلى الله عليه وسلم، كما في الآية الأخرى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] ، فهي صريحة في أن الغلام العليم هو إسحاق صلى الله عليه وسلم, والعليم: ذو العلم الكثير الغزير الوفير، وقد كان نبي الله إسحاق صلى الله عليه وسلم عالماً.
قال تعالى: (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ) .
الغلام يطلق على الصغير تأسيساً، ويطلق على الكبير مجازاً كما قال علي فيما روي عنه: أنا الغلام القرشي المؤتمن أبو حسين فاعلمن والحسن وكما قالت ليلى الأخيلية تصف الحجاج الثقفي: إذا حل الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها وكما قال صفوان بن المعطل السلمي لـ حسان بن ثابت لما قذفه ورماه قال: تلق ذباب السف عني فإنني غلام إذا ما هجيت لست بشاعر {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] .(39/9)
تفسير قوله تعالى: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ.)
قال تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات:29] أي: في صيحة.
، أقبلت تصيح وتئن.
{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} [الذاريات:29] أي: ضربت وجهها وليس المقصود بالصك هو اللطم الذي يفعل عند المصائب، فهو منهي عنه كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ، إنما هو ضرب للوجه على سبيل التعجب، كما قاله كثير من المفسرين.
{َفصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:29] .
من العلماء من أخذ فقهاً للرؤى من هذه الآية، قال: إذا رأت امرأة لا تلد رؤيا أنها لطمت وجهها فلا تؤلها على التأويل المكروه، ولكن تؤلها بأنها ستبشر بغلام كما بشرت سارة عليها السلام بغلام عليم (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) .(39/10)
الجدال المحمود
قال تعالى: {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات:29-30] ، فلا معنى للجدل ولا معنى للمراجعات، فإن الجدل والمراجعات إذا كانت تجزي فلتجادل ولتراجع، لكن إذا كان هناك أمر قد قضاه الله ونفد فلا معنى للجدل ولا معنى للمراجعات، ويؤخذ من هذه الآية: فقه الخطاب والتحاور مع الناس، فإذا كان كلامك مع الناس له جدوى أو إذا كان إلحاحك سيأتي بفائدة فلتلح ولتجادل، لكن إذا كان الجدل والكلام ليس من ورائه فائدة، فحينئذ أمسك عليك لسانك، وبهذا جاءت نصوص الكتاب العزيز.
قال الله في شأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} [هود:74] بالغلام {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:74-75] ، والحليم: هو الذي يتأنى ولا يبادر في إنزال العقوبات على الناس، فإبراهيم لما أخبرته الملائكة أنهم متجهون إلى المؤتفكات -مدائن قوم لوط- لتدميرها، بدأ يجادل عن قوم لوط ويطلب المهلة لهم، كما قال تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:74-76] أعرض عن هذا الجدل، {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود:76] ، فلا معنى للمناقشة والجدل، فليقف الجدل ولتقف المناقشات التي ليس وراءها كبير طائل وكبير جدوى، وكذلك قال الملك لمريم عليها السلام لما قالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:20] قال الملك: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21] ، فلا معنى للجدل بعد أن قضى الله سبحانه وتعالى الأمر، وكذلك قال ربنا سبحانه وتعالى لزكريا صلى الله عليه وسلم: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9] ، فلا معنى للجدل ولا للكلام إذا لم يكن من وراء الجدل كبير فائدة ولا كبير طائل.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات:28-30] .(39/11)
إطلاق لفظ (العجوز) على المرأة الكبيرة
قال تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ} [الذاريات:29] ، وفي الآية دليل على إطلاق لفظ عجوز على المرأة الكبيرة، أما قول من يقول: رجل عجوز، وإن كانت اللغة تقتضيه من بعض الوجوه لكنها ليست بالأفصح، إنما الأفصح في شأن الرجل أن يقال: شيخ والمرأة عجوز، كما قالت سارة عليها السلام: {يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:72-73] .(39/12)
تفسير قوله تعالى: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ.)
قال موجهاً الخطاب إليهم: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} [الذاريات:31] ، بعد أن قدم لهم الطعام والشراب وآنسهم واستأنس بهم، بدأ يسألهم عن وجهتهم.
(قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ) أي: ما شأنكم (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) ؟ لماذا أتيتم إلى هنا؟ {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الذاريات:32] ، أي: نحن مررنا بك في طريقنا إلى قوم مجرمون {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات:32-34] ، مسومة أي: معلمة.(39/13)
تفسير قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ.)
{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] في قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) مسألة يجب التنبه لها وهي: إذا كان هناك قوم أهل إجرام وفي أوساطهم قوم مسلمون، هل تغزى الديار بما فيها من أهل الإسلام وهل تدمر بمن فيها من أهل الإسلام؟ أو يخرج أهل الصلاح منها ثم تشن الغارات على أهل الشر والفساد؟ قد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في جملة مواطن: يقول سبحانه: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] ، نحن ما سلطناكم على المشركين عام الفتح لوجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات في أوساط الكفار، فإذا شننتم الغارات على الكفار قتلتم إخوانكم المؤمنين وقتلتم أخواتكم المؤمنات فأصابتكم منهم معرة -مضرة أو إثم- بغير علم، ولكن تمهلنا وتم صلح الحديبية حتى يخرج أهل الإيمان وحتى يتميز الكفار ومن ثم تأتي الضربات عليهم، {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] ، وكذلك في هذه الآية {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] ، وفي المقابل فيجوز شن الغارات على البلاد وإن كان فيها قوم صلحين إذا كثر فيهم الخبث كما في قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:27-99] ، وقد نزلت هذه الآيات في قوم من أهل الإسلام كانوا مستضعفين أجبروا على الخروج مع أهل الشرك لقتال المسلمين، فكان المسلم يرمي فيصيب أخاه فيقول: قتلنا إخواننا ويحزن لذلك أشد الحزن، فأنزل الله الآية: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) في شأن هؤلاء الذين خرجوا مع الكفار يكثرون سوادهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم، قالت عائشة: يا رسول الله! يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم، قال: نعم إذا كثر الخبث) ، وفي رواية أخرى: (يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم) ، وقد ورد أيضاً في الباب حديث: (الرجل الصالح الذي كان في بلدة ولكنه كان لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر فقيل للملائكة: به فابدءوا) ، لكنه لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالحاصل بعد إيراد هذه النصوص يتضح لنا أن المقامات تختلف، فإذا كان المقام مقام غزو وأزمته بأيدي أهل الإيمان فلهم أن يتمهلوا في شن الغارات على الكفار، حتى يُخرجوا أهل الإيمان، وإن كان المقام مقام آخر وسيحدث أذىً لأهل الإسلام من وجود هذه الفئة المتعالية التي تمترست بالمسلمين فيجوز حينئذ اختيار أخف الأضرار، وقد صدرت فتوى في هذا الصدد من الأزهر أثناء الحروب مع اليهود لما احتل اليهود جزيرة بمصر يقال لها جزيرة شدوان، وكان بها بعض المسلمين، فنزلت قوات اليهود بها فصدرت فتاوى آنذاك من الأزهر بضرب الجزيرة بمن فيها من المسلمين والقوات اليهودية، ومثل هذه الفتاوى صدرت حينما احتل الإرتيريون جزيرة باليمن وغلب عليها أهل الصليب، فصدرت فتاوى بأن تضرب الجزيرة بمن فيها من المسلمين الذين تترس بهم، ففي المسألة فقه يختلف بحسب المقام والله أعلم.
قال الله سبحانه: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] ، وهذا وإن كان على المستوى المتسع فهو على المستوى الضيق كذلك، كأن يكون هناك شخص صالح في وسط أقوام أهل شر وفساد، فهل يلقى القبض عليهم جميعاً وهو معهم أو يحاول إبعاده منهم ثم إنزال العقوبات على الآخرين؟ قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] ، وهو بيت لوط صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد أسلم مع لوط صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا عتاة، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يسلم معه أحد إلا لوط عليه الصلاة والسلام، ولوط ذهب إلى بلاد الأردن يدعو إلى الله فيها، وما آمن به أحد صلى الله عليه وسلم إلا أهل بيته، أما الآخرون فكانوا من الفضاضة والغلظة والقذارة بمكان كبير.(39/14)
الفرق بين الإسلام والإيمان
هذه الآية دليل لمن يقول: إن الإسلام يأتي بمعنى الإيمان؛ لأن الله قال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] ، وفي الحقيقة أن هذه المسألة سبق الكلام عليها: وهي أن مسمى الإيمان والإسلام قد يتحدان في المعنى وقد يفترقان، فإذا جاءا في سياق واحد افترقا في المعنى، وإذا لم يأتيا في سياق واحد اتحدا في المعنى، ففي حديث جبريل اجتمعا في سياق واحد فأخذ الإيمان معنى أن تؤمن بالله وملائكته إلى آخر الحديث، وأخذ الإسلام معنى آخر: أن تشهد.
إلخ أركان الإسلام الخمسة، فانصرف معنى الإيمان إلى أعمال القلب والإسلام إلى الأعمال الظاهرة، ويدل على ذلك أيضاً: قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، ولكن إذا جاء الإيمان في سياق مستقل، فيشمل أيضاً الإسلام ويكون داخلاً فيه كما جاء في حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) .(39/15)
تفسير قوله تعالى: (وَتَرَكْنَا فِيهَا.)
قال تعالى: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} [الذاريات:37] ، أي: دلالة وعبرة {لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الذاريات:37] فكانت هذه القرية على مرأى من القرشيين أثناء رحلاتهم للتجارة في أسفارهم، كما قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] ، وكما قال في شأن قرى أخرى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر:79] أي: بطريق واضح للمارة يمرون عليه، {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الذاريات:37] .(39/16)
تفسير قوله تعالى: (وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ.)
(ووَفِي مُوسَى) أي: وفي قصة موسى عبرة وعظة كذلك للذين يخافون العذاب الأليم {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الذاريات:38] ، أي: بحجة بينة واضحة، وهي الآيات التي أمدة الله بها من العصا التي تلقى فتصبح حية تسعى، ومن اليد التي تخرج بيضاء للناظرين، وسائر الآيات التي أمده الله بها.
{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الذاريات:38] (مبين) أي: واضح.(39/17)
تفسير قوله تعالى: (فتولى بركنه.)
قال تعالى: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:39] ، والركن هنا المراد به: الجمع، كما قال لوط صلى الله عليه وسلم: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80] ، قالوا الركن الشديد: هو القوة القبلية والعشيرة والجمع، ومن أهل العلم من قال: إن الركن هنا المراد به: الإعراض بالوجه، كما قال الله سبحانه: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] ، أي: معرض بوجهه استكباراً واستنكافاً ليضل عن سبيل الله.(39/18)
أقوال العلماء في تفسير الركن
قوله تعالى: (بِرُكْنِهِ) فيه قولان: القول الأول: هو الجماعة والعشيرة والجند والقوم.
القول الثاني: الوجه.
أي: الإعراض بالوجه.
(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي: لا يخلو أمرك يا موسى من أحد شيئين: إما أنك ساحر وإما أنك مجنون، وهكذا قال أهل الكفر دائماً للأنبياء، كما قال سبحانه: {إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52-53] .
قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الذاريات:40] ، أي: طرحناهم مهملين لذكرهم، (فَنَبَذْنَاهُمْ) فالنبذ: الطرح والإلقاء بإهمال، {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:40] ، (في اليم) .
أي: في البحر.
(وهو مليم) ، أي: وقد صب عليه اللوم.(39/19)
تفسير قوله تعالى: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ)
قال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات:41] .
هي ريح الدبور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور) ، ووصفت بالدبور؛ لأنه لا خير فيها على الإطلاق، لا تلد أي نوع من أنواع الخير.
والرياح على أقسام ثمانية ذكرها المفسرون في تفاسيرهم، {وأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] ، هناك رياح لواقح تلقح، أما هذه فريح عقيم لا فائدة فيها ولا خير، {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:41-42] أي: كالعظام المتفتتة البالية.(39/20)
تفسير قوله تعالى: (وَفِي ثَمُود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين)
قال تعالى: {وَفِي ثَمُود} [الذاريات:43] ، أي: في قبيلة ثمود كذلك آية، ((وَفِي ثَمُود) هي: قبيلة نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم.(39/21)
أقوال العلماء في تفسير الحين
قال تعالى: {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذاريات:43] ، ما هو هذا الحين؟ من العلماء من قال: إن الحين هو: وفاتهم، ومن العلماء من قال: إن الحين بعد ثلاثة أيام؛ لأنهم لما عقروا الناقة قال لهم نبي الله صالح: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] ، فمن العلماء من حمل الحين على الثلاثة الأيام التي وعدوا بها من نبيهم صالح إذ قال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] ، ومنهم من قال: إن الحين: هو انتهاء الأجل، والأمر في ذلك كله قريب.
{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} [الذاريات:44-45] .(39/22)
تفسير قوله تعالى: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ.)
قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات:46]-أي: وقوم نوح أيضاً فيهم آية وعظة، وتسرد سير أهل الإجرام للاعتبار والاتعاظ، فهي أمم قد أهلكها الله وقرون قد أبادها الله سبحانه وتعالى بكاملها، وبين هؤلاء قرون وأمم أخرى، كما قال سبحانه: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:38-39] ، فقرون دمرت وأبادها الله سبحانه وتعالى عبرة للمعتبرين وتذكرة للمتذكرين، {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات:46] .(39/23)
تفسير قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ)
قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] أي: بقوة، ومن العلماء من قال: إن المراد (باليد) هنا الجارحة، لكن القول الأقوى هنا أن المراد باليد: القوة وليس في هذا نفي صفة اليد عن الله سبحانه، بل هي ثابتة بنصوص أخرى، لكن قد جعل بعض العلماء خلق آدم بيده تكرمة لآدم، مما اختص به صلى الله عليه وسلم؛ لأن أهل الإيمان يقولون له: (أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربك) ، قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:47-48] ، فلا يقتصر خلق الزوجين على الذكر والأنثى فحسب بل كل شيء كذلك، فالخير والشر متقابلان، والحر والبرد متقابلان والمعروف والمنكر كذلك، والإثم والعدوان والبر والتقوى كذلك، فمن كل شيء خلق الله سبحانه وتعالى زوجين حر وبرد، كر وفر.
إلى غير ذلك مما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه، سماء وأرض، ذكر وأنثى، لكن: (هو سبحانه وتر يحب الوتر) ، سبحانه وتعالى.(39/24)
تفسير قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ.)
قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] أي: بالتوبة والإنابة والرجعة {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:50-52] ، هكذا الاتهامات تنصب على الرسل، {أَتَوَاصَوْا بِه} [الذاريات:53] أي: بهذا القول، كأن أهل الكفر وصى بعضهم بعضاً بهذا الافتراء الذي يواجهون به المرسلين.
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] أي: قد تجاوزوا الحد في الظلم والافتراء والكذب، {فَتَوَلَّ عَنْهُم} [الذاريات:54] أي: أعرض عنهم.
{فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54] أي: لا لوم عليك إذا أعرضت عنهم.(39/25)
تفسير قوله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)
قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] .(39/26)
متى تشرع الذكرى
ومتى تنفع الذكرى،؟ وهل تعرض في كل حين؟ بل كما قال الله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21-22] .
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] للذكرى فقه على الإجمال، فإذا كان الذي أمامك إن ذكر بالله يتمادى في غيه ويسب الله ويسب الدين، فالله لا يحب الفساد، وحمل بعض أهل العلم قوله تعالى: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] أي: حيث تنفع الذكرى، فإذا ظننت ظناً راجحاً أن التذكير سيؤدي إلى مفسدة أعظم فالأولى ألا تذكر، كأن يكون هناك شخص منفعل إذا ذكر بالله من الممكن أن يشتم الله سبحانه وتعالى، فحينئذ لا تعين الشيطان عليه، ولكن محل التذكرة حيث يتوقع أن تنفع، أما إذا لم يتوقع أن تنفع ولم يتوقع مفسدة كذلك، فالأصل أن الأمر بالتذكير هو المتعين، والله سبحانه أعلم.(39/27)
تفسير قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس.)
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: ليطيعوني فيما أمرتهم به وينتهوا عما نهيتهم عنه.
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57-58] .
قال بعض العلماء: (المتين) : الشديد، وقال آخرون: القوي.
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات:59] والذنوب بالفتحة معناه: الدلو العظيمة، ومنه: (ألقوا على بوله ذنوباً من ماء) فالذنوب: الدلو الكبير والقدر العظيم.
(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا) : أي: نصيباً كبيراً من العذاب يصب فوقهم (ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ) أي: لهم ذنوباً من العذاب، أي: نصيباً من العذاب كنصيب أصحابهم الذين سلفوا.
{فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات:59] .
قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات:60] ، فإن قيل: وهل الكفار كانوا يستعجلون العذاب؟ فالإجابة بنعم.
فقد قالوا: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] ، وقالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] .
عافانا الله وإياكم من العذاب وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(39/28)
الأسئلة(39/29)
حكم نظر المحرم إلى ثدي المرأة
السؤال
هل ثدي المرأة عورة مع المحارم وكذا مع المرأة؟
الجواب
لا، ثدي المرأة ليس عورة مع المحارم، بل للمحرم أن يرى من محرمه ثديها، كأن تكون مرضعة واشتهى طفلها أن يرضع فلا بأس بأن تبرز ثديها أمام محارمها.(39/30)
حكم صلاة المأموم إذا لم يقرأ بالفاتحة في الصلاة السرية
السؤال
مأموم لم يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاة سرية: فهل تبطل صلاته؟
الجواب
المسألة فيها قولان لأهل العلم: القول الأول: أن عليه أن يأتي بركعة جديدة على رأي من قال: إن من لم يقرأ بفاتحة الكتاب لا تحسب له ركعة، وهو الإمام البخاري.
والقول الثاني: أن صلاته صحيحة، اعتماداً على حديث أبي بكرة لما أدرك النبي صلى الله عليه وسلم راكعاً فقال له الرسول: (زادك الله حرصاً ولا تعد) .(39/31)
زكاة عروض التجارة
السؤال
كيف يخرج أصحاب محلات الأثاث زكاة أموالهم؟
الجواب
محلات الأثاث -الموبيليا- هي عروض تجارة، فيخرجون زكاتها كما تخرج زكاة عروض التجارة، بأن تُقوَّم على رأس الحول ويخرج إن شاء من أعيانها على رأي لبعض الأئمة، فمثلاً إذا كانت عنده أربعين غرفة نوم، فله أن يخرج الزكاة من نفس وذلك الأثاث الذي يبيعه، وهو رأي قوي لبعض العلماء، وله استدلالاته من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام على عهده كان يخرج زكاة البر براً، وزكاة الذهب ذهباً، والفضة فضة، فأجروا هذه على نفس المجرى والله أعلم، وإما أن يقيمها على أنها عروض تجارة ويقدر السعر تقديراً ويخرج على أساس السعر.
والله أعلم.(39/32)
حكم ساب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما موقفنا من خطيب يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر؟
الجواب
إن الذي يتطاول على أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الزندقة أقرب منه إلى الإسلام والعياذ بالله، وقد نهى رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (لا تسبوا أصحابي) فهذه وصيته عليه الصلاة والسلام لنا جميعاً، (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ، بل وربنا سبحانه يقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] ، والنصوص في فضائل الصحابة لا تحصى، فمثلاً: أكثر الصحابة حملاً لسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام هو عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول عنه أبو هريرة: ما سبقني أحد في حفظ سنة الرسول عليه الصلاة والسلام إلا ما كان من ابن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب، فكيف يقف شخص -يتقلد رأي المعتزلة الشراذم الذين خالفوا نهج أهل السنة- ويطعن في عبد الله بن عمرو بن العاص الذي لا ذنب له نعلمه رضي الله عنه، بل كان في الحرب التي دارت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما معتزلاً للفتنة، مع أن أباه شارك في حرب تلك الفتنة، بل عبد الله بن عمرو كان يجابه والده، ولما قُتل عمار بن ياسر جهر بحديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال فيه: (تقتلك -يقصد عمار بن ياسر - الفئة الباغية) فقال معاوية لـ عمرو بن العاص: أبعد عنا مجنونك هذا، وذهب معاوية يقول له: يا مصفر استه إنما قتله الذين أخرجوه، قال: إني سمعت رسول الله يقول، فذكر الحديث ولم يبال، ولما عاتبوه لماذا تخرج معنا إذاً؟! قال: إني أخرج معكم ولست أقاتل، وقد كان والده شكاه للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (أطع أباك ما دمت حياً) ، فقال: وأنا أخرج كما أمرني أبي لكنني لا أشارك في قتال.
ويأتي في زماننا قوم لا علم لهم بكتاب الله ولا علم لهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يوقرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتكلمون في صحابي جليل مثل عبد الله بن عمرو بن العاص الذي نقل لنا أغلب سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيرى أحدهم القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ففي الحقيقة لا ندري كيف نجيب؟ فلا نقول إلا: سبحانك هذا بهتان عظيم، ولا ندري من أين نبدأ وإلى أين ننتهي مع هؤلاء الأقوام؟ وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.(39/33)
تفسير سورة الطور
أقسم الله عز وجل بعظيم مخلوقاته على وقوع العذاب على الكافرين، بسبب عنادهم وطغيانهم وتكذيبهم، وعلى العكس فإن الله وعد المتقين بجنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولكن هذه الجنة تحتاج إلى صدق وصلاة وتسبيح وصبر في الدعوة إلى الله ومجاهدة الكافرين.(40/1)
قسم الله بعظيم مخلوقاته
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بسورة الطور في صلواته، وكان كثيراً ما يقرأ بها في صلاة المغرب، قال جبير بن مطعم رضي الله عنه: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، حتى بلغ قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] فكاد قلبي أن يتصدع.
وفي رواية: كاد قلبي أن يطير) ، وكان آنذاك مشركاً.
يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {وَالطُّورِ} [الطور:1] ، الواو للقسم، فيقسم الله سبحانه وتعالى بالطور، وقد تقدم أن الله سبحانه له أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته، أما نحن فليس لنا أن نقسم بجبل ولا بشجر ولا بحجر ولا بأب ولا بنبي ولا بأخ، ولا بأي شيء إلا بالله أو بأسمائه أو بصفاته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، لكن لربنا أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته، فأقسم الله سبحانه وتعالى بالطور.(40/2)
موضع البيت المعمور
قال تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:4] ، هو بيت في السماء السابعة أو فوق السماء السابعة على الراجح من أقوال العلماء، وهو قول الجمهور، كان الخليل إبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إليه، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال أثناء المعراج، فكان الخليل عليه الصلاة والسلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وهو بيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون.(40/3)
المقصود بالسقف المرفوع
قال تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور:5] ، المراد به السماء، كما قال تعالى في كتابه الكريم: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32] ، فالسقف المرفوع: هو السماء التي رفعها الله سبحانه.
قال تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] للعلماء فيه أقوال، تقدم كثير منها عند قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] ، فمن الأقوال التي فيها: امتلأت وفاضت فاختلط عذبها بمالحها.
ومن الأقوال: أن (البحر المسجور) هو المتأجج ناراً، وهكذا يكون يوم القيامة، تشتعل البحار ناراً على ما قاله فريق كبير من العلماء.(40/4)
المراد بالكتاب المسطور
قال الله تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:2] (المسطور) : هو المسطر المكتوب، وما المراد بالكتاب المسطور؟ من أهل العلم من قال: إنه الكتاب الذي كتبت فيه مقادير الخلائق، كما قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52-53] ، على أحد الأقوال في تأويلها، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) .
ومن العلماء من قال: إن الكتاب المسطور هو القرآن الكريم.
ومنهم من قال: إن الكتاب المسطور هو الكتاب الذي تكتب فيه أعمالنا الآن وتسطر، وتنشر يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13] .(40/5)
معنى الرق المنشور
قال تعالى: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] الرق: هو الجلد أو الورق الذي يكتب فيه، أو هو الرقاع التي يكتب فيها، فكل ما كتب فيه يطلق عليه الرق، سواء كان ورق شجر، أو ورقاً أبيض كالذي بين أيدينا، أو جلداً، أو أي شيء يكتب عليه يسمى رقاً، والرق المنشور الذي ينشر يوم القيامة، أي: يفتح، كما قال الله سبحانه: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:10] .(40/6)
معنى الطور
الطور على رأي جمهور المفسرين: هو جبل، والمراد به طور سيناء الذي كلم الله سبحانه وتعالى عنده نبيه موسى صلى الله عليه وسلم.
وقد قال فريق من العلماء: إن الجبل إذا كان عليه نبات أطلق عليه الطور، فالطور على هذا القول: اسم لكل جبل ينبت، والذي لا ينبت يطلق عليه جبل.
لكن المعني بالطور هنا على رأي جمهور المفسرين هو طور سيناء، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص:46] أي: نادينا نبينا موسى عليه السلام.(40/7)
تفاوت مخلوقات الله
الله يقسم بالطور، وكما تقدم فإن الله سبحانه وتعالى يقسم بعظيم مخلوقاته، فيقسم بالشمس، وبالقمر، وبالنجم، وبالسماء، وبالأرض، ويقسم في الجملة بعظيم المخلوقات، ولا تكاد ترى قسماً بالذباب ولا بالبعوض ولا بنحو ذلك، وإن كان الكل من خلق الله، لكن خلق الله سبحانه وتعالى يتفاوت في العظمة، كما قال سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] .
فالخلق يتفاوت، وكذلك القرآن وهو كتاب الله يتفاوت في الفضل، فسورة الفاتحة هي أعظم سورة في الكتاب العزيز، وآية الكرسي هي سيدة القرآن الكريم، فكل هذا الأمر فيه لله يتصرف فيه كيف يشاء سبحانه وتعالى.
والجبال المذكورة في كتاب الله منها الطور، كما في هذه الآية، ومنها الجودي، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] ، ومن الجبال المذكورة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جبل أحد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحد جبل يحبنا ونحبه) ، ومنها جبل يقال له: جمدان، مر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (سيروا هذا جمدان، سبق المفردون، قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) .
فالجبال تتفاوت فيما بينها في الفضل، كما أن سائر الخلائق بينها تفاوت في الفضل، وكما قدمنا أن الله سبحانه وتعالى فضل بعض البلاد على بعض، فأم القرى مكة ليست كالمنصورة مثلاً، وفضل بعض المساجد على بعض، فالمسجد الحرام يفوق غيره من المساجد في الفضل، وهذا {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] .
فأقسم الله سبحانه وتعالى هنا بالطور.(40/8)
وقوع عذاب الله للكافرين
أقسم الله سبحانه وتعالى بهذه الأشياء على شيء واحد تكرر القسم عليه في عدة سور ألا وهو: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] ، فأقسم الله بهذه الأشياء على هذا الشيء، وتكرر هذا الشيء المقسم عليه في عدة آيات من سور الكتاب العزيز، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور:7-9] أي: تتحرك السماء تحركاً، وتضطرب اضطراباً، {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور:9-10] تزاح عن أماكنها وتسير، كما قال سبحانه: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3] .(40/9)
معنى الوعيد بالويل
قال تعالى: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطور:11] في هذا الوقت: الويل للمكذبين، والويل المراد به العذاب الشديد، وقد وردت جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في إسناد كل منها مقال، وفحواها: أن الويل وادٍ في جهنم تستغيث منه جهنم، وتستجير جهنم من حره، لكن الأسانيد فيها مقال، فمن العلماء من حسنها أو صححها بمجموعها، ومنهم من أبقاها في حيز الضعف، وقال: إن الويل المراد به التوعد بالعذاب الشديد، {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطور:11] ، أي بالعذاب الشديد في يوم الدين.(40/10)
دخول الكافرين النار بسبب كفرهم بالله
قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:12-13] أي: يدفعون إليها دفعاً، {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:14-15] كلام يقال لهم على سبيل التعيير والتوبيخ، {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور:16] فإن الصبر لا فائدة فيه آنذاك؛ وعدم الصبر لا فائدة فيه آنذاك، لأن العذاب واقع لا محالة، فالصبر على العذاب قد يخفف العذاب في الدنيا، واحتساب الأذى في سبيل الله قد يخفف العذاب في الدنيا، والتجلد قد يخفف العذاب، أما في الآخرة فليس كذلك، فصور التخفيف التي بها يخفف العذاب في الدنيا لا تنفع بشيء في الآخرة.
فمن صور تخفيف العذاب في الدنيا: الاشتراك في المصائب، إذا اُبتليت تأملت، فإذا رأيت بلاء غيرك أعظم من بلائك هان عليك بلاؤك، أما في الآخرة فلا ينفع هذا الاشتراك، كما قال الله سبحانه: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] ، كذلك الصبر قد يخفف العذاب في الدنيا ولكنه لا يخففه في الآخرة، قال أهل الكفر: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] ، وهنا يقول سبحانه: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور:16] أي: يستوي عليكم، الصبر وعدمه، {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:16] أي: إنما تجزون جزاء كسبكم، وجزاء عملكم.(40/11)
حال المتقين في الآخرة
قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الطور:17-18] (فاكهين) أي: منعمين مسرورين بما آتاهم ربهم، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور:18-20] صفوفهم متقابلة، كما قال سبحانه: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] .(40/12)
طعام وشراب أهل الجنة
وقال تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا} [الطور:22-23] (كأساً) أي: كأس خمر، وإذا أطلق الكأس فالمراد به: كأس الخمر في الكتاب العزيز، {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23] ، فخمر الدنيا تجلب اللغو لشاربها، فشارب خمر الدنيا يهذي ويلغو، وكذلك يرتكب الآثام، ويقول الفحش والمنكر من القول، أما خمر الآخرة فلا يصاحبها لغو ولا إثم، وكذلك لا يصاحبها الصداع كما قال تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] .
فقوله سبحانه: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا} [الطور:23] (فيها) بمعنى: معها، أي: لا يصاحب خمر الآخرة، (لغو) كخمر الدنيا، ولا يصاحبها إثم كذلك، فالجنة كما قال الله عنها: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25-26] .
قال تعالى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23] ، وليس المراد بالتنازع المعروف في الدنيا، إنما المراد بالتنازع هنا -والله أعلم- التناول؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] .
قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24] (غلمان) أي: خدم، {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ} [الطور:24] أي: من الخدم الذين يخدمونهم، {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24] من شدة البياض الذي هم فيه، كما قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: {لُؤْلُؤًا مَنثُورًا} [الإنسان:19] من كثرتهم كأنهم لؤلؤ رش في الجنة من شدة البياض، وكثرة الخدم.
قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25] أي: أقبل أهل الجنة بعضهم إلى بعض كلٌ يسأل الآخر ويكلم الآخر، فالمراد بالتساؤل هنا التخاطب والتحادث.(40/13)
الخوف من عذاب الله من أسباب دخول الجنة
قال سبحانه: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] أي: كنا في حياتنا الدنيا في أهلنا خائفين، ومن أهل العلم من قال: هنا مقدر محذوف، وتقديره: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25] قال بعض العلماء: أقبل كلٌ منهم على الآخر يسأله ويقول له: أتدري متى غفر لنا؟ غفر لنا يوم أن جلسنا بمجلس كذا وكذا نستغفر الله، غفر لنا يوم أن كنا نحن وأنت في مكان كذا وكذا ودعونا الله، غفر لنا يوم سرنا في طريق كذا وكذا وأمطنا الأذى عن الطريق، غفر لنا يوم أن اتبعنا الجنازة، أو يوم أن عدنا مرضى، فكلٌ يذكر الآخر بالوقت الذي غفر له فيه، هذا قول، لكن صريح الآيات لا يعارضه، ولكنه أقوى منه في المأخذ، والله أعلم.
قال تعالى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] (قبل) أي: في حياتنا الدنيا، (في أهلنا) أي: في وسط أهلنا، (مشفقين) أي: خائفين من عذاب الله، فهذا الشعور ينبغي أن ينتاب المؤمن، ألا وهو الخوف من عذاب الله سبحانه، شعور يجب أن ينتاب المؤمن في حياته الدنيا.
هاهم أهل الإيمان يقولون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26-27] و (السموم) هو الحر الشديد، {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28] و (البر) قال بعض العلماء: المراد به اللطيف، فجمعوا بين خصلتين، {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] (مشفقين) أي: خائفين، ومع ذلك: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} [الطور:28] أي: كانوا يدعون ربهم مع خوف وإشفاق، كما قال سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] .
فعلى المسلم أن يوطن نفسه على هذه الأحوال، ألا وهي: دعاء الله سبحانه وتعالى مع الخوف والشفقة من عذابه، فهذا هو حال أهل الإيمان، وقد دلت عليه عشرات النصوص من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على المسلم أن يدعو ربه دعاء الخائف من عذابه الراجي رحمة ربه.(40/14)
ما يتبع الميت من حسنات بسبب الذرية الصالحة
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] أفادت هذه الآية شيئاً وهو: أن الشخص قد يستفيد بكسب غيره أحياناً.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] أي: إذا كان الأب صالحاً وبلغ درجة عالية في الجنة، وابنه مؤمناً، ولكن هذا الابن قصر ولم يبلغ منزلة أبيه في الجنة، فإكراماً من الله سبحانه وتعالى للآباء، وتفضلاً منه سبحانه وتعالى على الأبناء، يلحق الأبناء بالآباء، ولا يلت الآباء من أجورهم شيئاً، أي: ولا ينقص الآباء من أجرهم شيئاً، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] ، أي: للدرجات العُلى، فأفادت الآية ما أفادته غيرها أن الابن ينتفع بصلاح الأب، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] ، فالابن الصالح ينتفع بسعي أبيه، وكذلك الأب ينتفع بسعي ولده كذلك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ومنها: ولد صالح يدعو له) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما حسنه بعض أهل العلم: (إن الرجل ترفع درجته يوم القيامة، فيقول: يا رب! أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك) ، وحديث: (يقول الله يوم القيامة لملائكته: أدخلوا هؤلاء الصغار الجنة، فيمتنع الصغار عن دخول الجنة، فيقول الله سبحانه: ما لي أراهم واقفين -أي: ممتنعين مترددين- فيقولون: يا ربنا! لا ندخلها حتى يدخلها آباؤنا وتدخلها أمهاتنا، فيقول الله سبحانه: أدخلوا معهم آباءهم وأمهاتهم) ، فالولد الصالح ينتفع بصلاح أبيه، والأب ينتفع بصلاح الولد.
إذاً: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، فيه استثناءات وإضافات، وله إيضاحات، فقد ينتفع الرجل بسعي غيره، فإن الرجل قد يحج عن الآخر فينتفع بحجه، والرجل قد يتصدق عن الآخر فينتفع بصدقته، والرجل قد يدعو للآخر فينتفع بدعائه، والرجل قد يسدد الدين عن الآخر فيجزئ سداد الدين عنه، والرجل قد يشفع في الآخر فتقبل شفاعته فيه، وقد أورد بعض أهل العلم ما يقارب سبعة وعشرين وجهاً لاستفادة الشخص بسعي غيره، كلها بأدلة من الكتاب والسنة.
يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور:21] ما المراد بالذرية؟ هل الذرية المراد بها الأبناء فحسب أم المراد بها التسلسل؟ أحياناً يذكر الذرية ويراد بها أبناء الشخص فحسب، ذريتك هم أبناؤك، وأحياناً تمتد الذرية إلى أحفاد أحفاد الأحفاد، كما قال الله لنا: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3] ، وبيننا وبينهم قرون كثيرة، فقوله سبحانه: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور:21] ، هل المراد بها الذرية المتسلسلة إلى قيام الساعة أو المراد بالذرية الأبناء؟ الظاهر أنه الثاني، والله سبحانه وتعالى أعلم، وإلا لاستوى أهل الصلاح كلهم في الفضل يوم القيامة، إذ كلهم يرجعون إلى المحمولين مع نوح، والمحمولون مع نوح عليه السلام في درجة عالية من الجنة، فلو قلنا بتسلسل الذرية إلى الأحفاد وأحفاد الأحفاد لاشترك الجميع في المنزلة، ولكن الذي يبدو ويظهر أن المراد بالذرية هنا هم الأولاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] (وما ألتناهم) أي: وما أنقصناهم، بل كلٌ مرتهن بعمله وبكسبه.(40/15)
وصف الحور العين في الجنة
وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور:20] من العلماء من قال: إن المراد بالتزويج هنا الاقتران، أي: جعلنا لكل منهم قرينة وهي من الحور العين، ومنهم من قال: إن التزويج هنا بمعنى الإنكاح، ولكن التزويج أعم من الإنكاح، فالله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الحجر:88] أي: أصنافاً.
قال سبحانه: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور:20] الحورية هي: التي تكون عينها شديدة البياض، وحدقتها شديدة السواد، فالحور تطلق على شدة البياض، ومنه قال فريق من أهل العلم: سبب تسمية الحواريين بذلك، لشدة بياض ثيابهم، وقال الشاعر: فقل للحواريات يبكين غيرنا ولا تبكين إلا الكلاب النوابح فقوله: (فقل للحواريات) أي: للجواري البيضاء، فالحواري هو شديد البياض، فالحورية هي: شديدة بياض العين، شديدة سوادها كذلك.(40/16)
دعوة النبي عليه الصلاة والسلام لقومه وتكذيبهم له
قال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:29] ، قد تقدم حكم التذكير ومحل التذكير، فقوله تعالى: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [الطور:29] أي: بحمد ربك، وهي جملة اعتراضية، فذكر فما أنت -بحمد الله- بكاهن ولا مجنون، كما قيل لـ علي: كيف حال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح -بحمد الله- بارئاً.
فجملة: (بحمد الله) اعتراضية يصلح السياق بدون ذكرها، وتفهم من سياقات أخرى، فيجوز أن تقول: أصبح بارئاً، لكن إضافة بحمد لله لرد الفضل إلى الله سبحانه، فكذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [الطور:29] أي: بفضل الله عليك لست بكاهن ولا بمجنون، كما قال في سورة القلم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [القلم:1-2] أي: بحمد الله لست بكاهن، وبحمد الله لست بمجنون.
قال سبحانه: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:29] (الكاهن) هو الذي يدعي علم الغيب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً أو عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) ، وقد ورد بلفظ: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) ، وهذا الأخير تكلم فيه بعض العلماء، قال سبحانه: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:29] أي: كما يصفك هؤلاء الواصفون.(40/17)
عدم سؤال النبي لقومه أجراً
قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور:40] أفادت الآية الكريمة أن الداعي إلى الله عليه أن يكون حراً طليقاً، غير خاضع للناس، وغير طالب لأموالهم، فلا تذهب تحاضر -أيها الأخ الداعي إلى الله- في مكان، وتمتد عينك إلى أهل الثراء أصحاب المسجد الذي أنت فيه، ولا أصحاب المكان الذي أنت فيه، بل عليك أن تكون عزيزاً بما آتاك الله من تُقى، وبما آتاك الله سبحانه وتعالى من علم، أما إذا استشرفت نفسك أُهنت لما في أيدهم، وزهدوا فيما عندك من العلم، وحملوا هموم مجيئك، في كل مرة يرتبون لك هدية ومالاً فحينئذٍ تهون عندهم ويسأموك، وبعد أن كانوا يجلونك ويوقرونك يزهدون فيك وفي علمك؛ بل ويتكلمون أمامك ومن خلفك -والعياذ بالله-.
فلذلك على الأخ الداعي أن يجعل العلم فوق كل شيء بعد تقوى الله سبحانه وتعالى، ولا تمتد عينه إلى ما متع به أزواجاً منهم، فالمال زائل، والعلم الذي يُبتغى به وجه الله باقٍ، وقد قال الله سبحانه لنبيه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ولم يقل له: وقل رب زدني مالاً، بل قال في شأن المال: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] ، وقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة:269] .
فعلى إخواننا الدعاة إلى الله أن ينزهوا أنفسهم من أخذ المال مع إعداد أنفسهم علمياً كذلك، وإلا سقطت هيبتهم، وذهب وقارهم، وداسهم الناس بالأقدام والعياذ بالله! قال الله سبحانه: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} [الطور:40] أي: تطلب منهم أجراً على البلاغ، {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور:40] أي: خائفون من غرامة يؤدونها إليك، {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور:41-42] أي: يكيدون يا محمد وأهل الإسلام، فإذا كانوا يكيدون بك وبأصحابك فاعلم تمام العلم وأيقن تمام اليقين أن الذين كفروا هم المكيدون، كما قال سبحانه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ، وكما قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] ، قال الله سبحانه وتعالى كذلك: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] ، وقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:81] ، ألا فليعلم كل من يكيد بالإسلام أن الله سبحانه وتعالى يكيد به، وكل من يخطط لأذى المسلمين فالله سبحانه وتعالى يدبر له ويحكم له خططاً، فالله سبحانه وتعالى هو الحفيظ لأوليائه، وهو متولي الصالحين.(40/18)
تكذيب المشركين بالآيات
قال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} [الطور:43-44] إن يرى هؤلاء الكفار العذاب نازلاً عليهم من السماء، قد تقطع عليهم وسقط قطعاً قطعاً؛ لكذبوا أيضاً مع مجيء هذه الآيات، وقالوا: {سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] أي: متراكم بعضه فوق بعض! فيرون العذاب نازلاً ولكنهم يلحدون كذلك، كما يفعل أهل الإلحاد والعلمنة في هذا الزمان، يرون الزلازل من تحت أرجلهم، ويقولون: هزات أرضية! هكذا أهل الكفر دائماً، {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ} [الطور:44] أي: قطعاً من السماء متساقطة عليهم بالعذاب {يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] ولا يقرون أنه عذاب من عند الله سبحانه وتعالى، فهكذا أهل الإلحاد الذين يجحدون اليوم الآخر وينكرون عذاب الله فإنهم يصرفون العذاب إلى اصطلاحات سموها هم وآباؤهم.
قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] أي: أن الآيات لا تنفعهم بشيء، كما قال الله جل ذكره في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96-97] .
قال تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الطور:45-46] ، {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور:47] أي: إن للذين ظلموا عذاباً في الحياة الدنيا أقل من عذاب الآخرة، وما هو العذاب في الحياة الدنيا الذي ذكره الله بقوله: {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47] ؟ قال فريق من العلماء: هو ما أصابهم يوم بدر، وقال آخرون: هو ما أصابهم من جوع لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (اللهم! اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) .
قال سبحانه: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47] أي: قبل عذاب يوم القيامة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور:47] .(40/19)
بيان الحجج العقلية في الرد على المشركين
قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] أي: لا يصدقون، {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور:37] يرزقون من شاءوا ويمنعون من شاءوا، {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:37] ، فخزائن الله لا يملكها أحد إلا هو سبحانه، كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21] ، وكما قال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء:100] ، وكما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] فخزائن كل شيء بيده، فمن ثم سل الله من خزائنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله ملأى سحاء الليل والنهار -أي: تصب الخير بالليل والنهار- أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض! فإنه لم يغض ما في يمينه شيئاً -أي: لم ينقص ما في يمينه شيئاً- وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض) ، فالخزائن كلها بيد الله، فإن شئت الثراء فسل الله الثراء، وإن شئت الغنى فسل الله الغنى، فخزائن كل شيء بيديه، ولا ينبغي أبداً أن يفارقك هذا الظن، ويبتعد عنك هذا اليقين، وأن يزول عنك هذا التصور، بل عليك دائماً أن توقن أن خزائن كل شيء بيديه، وكل أنواع الفتوحات من عنده سبحانه وتعالى، من الأرزاق والأموال والأفهام والأخلاق والكلمات الطيبة، وكل شيء خزائنه عند الله سبحانه وتعالى.
قال الله سبحانه: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور:37] يتحكمون في الخلق، ويرزقون من شاءوا ويمنعون من شاءوا، {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:37] أم هم المغالبون على الدنيا يذلون من شاءوا ويهينون من شاءوا ويعزون من شاءوا؟ لا، بل الله هو الذي يعز، وهو الذي يذل، وهو الذي يرفع، وهو الذي يخفض، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، هذا ذو منصب الآن وفي الغد وضيع، هذا ذو جاه الآن وفي الغد ذليل حقير -والعياذ بالله-، فالأيام يصرفها ربنا كيف يشاء، ويداولها سبحانه كيف يشاء، يعز ويذل، ويقبض ويبسط، يميت ويحيي سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:37] على الكون وعلى الحياة وعلى الخلق، {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور:38] أي: هل لهم سلم يصعدون عليه، ويستمعون إلى ما يدور في الملأ الأعلى، وينقلون الوحي إلى الناس به؟ {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ} [الطور:38] أي: مدعي هذا الاستماع {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور:38] أي: بحجة بينة موضحة للذي قال وزعم.
قال تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور:39] فقد كان أهل الكفر يدعون لله البنات، ومنهم من يقول: إن الملائكة إناث، وأنها بنات لله سبحانه، وهناك طائفة تقول: البنات في الجملة بنات الله، وطائفة تقول: إن الملائكة إناث، وهؤلاء الإناث هم بنات لله سبحانه، قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] ، وكان هذا اعتقاد قبيلة خزاعة من المشركين، كانت تعتقد هذا المعتقد الرديء.(40/20)
تحدي الله للمشركين أن يأتوا بآية مثل القرآن
قال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:34] ، قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى تحدى المشركين بأنواع من التحديات، وتحداهم أن يأتوا بحديث مثل هذا القرآن فلم يأتوا، فتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يأتوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فلم يأتوا، وتحداهم أن يأتوا بآية من مثله فلم يأتوا، {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34] .
ولما طفق مسيلمة الكذاب يختلق الاختلاقات، ويكذب على الله، ويدعي قرآناً نزل عليه من عند الله، فطفق يقول: يا ضفدعة بنت ضفدعين، نقي كما تنقين، نصفكِ في الماء ونصفكِ في الطين، لا الماء تعكرين، ولا الشارب تمنعين، كذبه أقرب أصحابه إليه، فقالوا: نشهد على قفاك أنه قفا كذاب على الله سبحانه، أين هذا من قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى:1-4] ؟ كذلك لما طفق يكذب ويقول: والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، فالآكلات أكلاً، إن قريشاً قوم يعتدون! كذبه أحب أصحابه إليه وأقرب أصحابه إليه، ووسم بسمة لا تفارقه إلى يوم الدين ألا وهي سمة: مسيلمة الكذاب والعياذ بالله من الكذب على الله.(40/21)
طغيان المشركين
قال سبحانه: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} [الطور:32] أي: هل عقولهم وصلت بهم إلى هذا الحد وحملتهم على أن يقولوا هذا القول؟ {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور:32] أي: تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان، {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [الطور:33] أي: قاله واختلقه من عند نفسه، {بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:23-34] ، وكل هذه الآيات فيها تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له.(40/22)
اتهام النبي بأنه شاعر
قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] ، قالوا: كاهن، وقالوا: مجنون، و (أم) هنا بمعنى: بل، أي: بل يقولون: شاعر نتربص به ريب المنون، و (نتربص) أي: ننتظر، و (ريب المنون) أي: مصائب الدهر، فكأنهم يقولون: انتظروا فسيموت محمد عن قريب، وتستريحون من محمد ومن شره! هكذا يقولون، (نتربص به ريب المنون) أي: ننتظر به مصائب الدهر التي تحل به، كما قال شاعر كان مولعاً بامرأة قد تزوجت: تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوماً أو يموت حليلها فقوله: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] أي: حوادث الدهر، أي: ننتظر به حوادث الدهر تحل به، وكما قال سبحانه وتعالى معقباً على مقالتهم وعلى ظنهم السيئ الرديء: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] ، وكما قال الشاعر: فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا فالموت سيأتي الجميع.
قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِر} [الطور:30] أي: بل يقولون شاعر، {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا} [الطور:30-31] أي: انتظروا، {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:31] أي: من المنتظرين.(40/23)
الاستعانة على الشدائد بالصبر والصلاة
وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] هذه الآية تصبِّر النبي صلى الله عليه وسلم أيما تصبير، وتطمئنه غاية الاطمئنان، وقوله تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] قال فريق من أهل العلم: على مرأى منا، فنحن نراك ونرى ما يصيبك، ونحن نحفظك، ونحن مطلعون عليك، فما يحدث لك ليس بغائب عنا، وليس بخافٍ علينا، {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] أي: بحفظنا، وليس المراد بهذا التأويل نفي صفة العين لله، وإنما إثباتها مع بيان آثارها، كقول الرجل للآخر في الحياة الدنيا: ولدك في عيني، أي: اطمئن على ولدك فهو بإذن الله في حفظي بعد الله سبحانه، فأنا أرعاه وأحيطه بالنصح وبالتوجيه، فالله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] .
وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] للعلماء في تفسير قوله تعالى: {حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] أقوال، منها: حين تقوم إلى الصلاة، فإذا قمت إلى الصلاة فاستفتح الصلاة كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستفتح: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) .
ومن العلماء من قال: حين تقوم من المجلس، قل: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
ومن العلماء من قال: حين تقوم من نومك صل لله سبحانه وتعالى، فالآية فيها: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] .
والآية أفادت شيئاً أفادته غيرها من الآيات وهو: أنه يستعان على الشدائد والمصائب بالصبر والصلاة، وهذا الأصل قد أُكد عليه في عدة آيات وأحاديث، فيستعان على المصائب والشدائد والبلايا بشيئين: بالصبر وبالصلاة، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور:48] أي: لقضاء ربك، اصبر على قضاء ربك، {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الطور:48] ، قال فريق من أهل العلم: أي صل، وهذا المعنى مذكور في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر:97] فما العلاج؟ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:98-99] أي: اصبر على عبادة ربك حتى يأتيك اليقين.
وهذا المعنى كذلك في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130] ، ومن الآيات ما هو أصرح كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] ، وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] وقد فعل ذلك سلفنا الصالح رحمهم الله، فكان ابن عباس في سفر له، فلما أتاه خبر أخيه قثم بن العباس، فقيل له: إن أخاك قد مات، فتنحى عن الركب وقام يصلي، فقيل له: لماذا تصلي وقد بلغك خبر موت أخيك؟ قال: إن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] ، وقال الله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] .
فهذا أصل أُكد عليه في آيات كثيرة، ولما دخلت سارة عليها السلام على الجبار قام الخليل إبراهيم عليه السلام يصلي، فحينئذٍ إذا كان ذلك كذلك فليثبت الشخص مع هذا الأصل، وليداوم عليه عند الشدائد، فهو سلاحه، وهو معينه بإذن الله، ألا وهو الاستعانة بالصبر وبالصلاة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور:48] أي: اصبر لقضاء ربك، {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] نحن نتولاك ونرعاك.
قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [الطور:48-49] أي: فصل له في الليل، كما قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:49] ، من العلماء من قال: إن المراد بإدبار النجوم: الوقت الذي أدبرت فيه النجوم، وسيأتي بعده النهار.
ومنهم من حمل ذلك على ركعتي الفجر؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) .
ومنهم من حمله على صلاة الفجر؛ لقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] .
ومن العلماء من حمله على ركعات قبل الفجر، عندما توشك النجوم على الإدبار؛ لأن الله قال: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:49] أي: عقب ذهاب النجوم، والكل محتمل، وله وجه من الصحة، والله أعلم.(40/24)
الأسئلة(40/25)
حكم منع المرأة من الذهاب إلى المسجد وحضور الدروس والمحاضرات
السؤال
رجل عندما رأى زوجته المتنقبة تلبس زيها كاملاً، ولكن البيشة رقيقة على العينين بحيث تظهر عيناها وجزءاً من الوجه، وكان زوجها قد حذرها في مشوار الذهاب أن يُرى منها ذلك عند الإياب، ولما لم تستجب ناسية أو منشغلة عزم على ألا تخرج أسبوعاً لتستمع للعلم الشرعي خلال يومي الثلاثاء والجمعة تأديباً لها حتى لا تكرر هذا الأمر، فهل الزوج محق أم مخطئ؟
الجواب
الزوج اجتهد في تقدير العقوبة على الزوجة، لكن نراه جانب الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، فهو إن كان يقرها على خروجها لطلب العلم الشرعي أو يقرها على خروجها للمساجد لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، وقد ذكر أن عدم استجابتها للنسيان أو للانشغال، فجدير بمن شعر أن أخاه قد نسي أن يلتمس له العذر، فإن الله سبحانه رفع عن الناسي وعن المخطئ القلم، (رفع القلم عن ثلاثة) ، ولما قال أهل الإيمان: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله سبحانه: (قد فعلت) .
فهو أخطأ من وجهين -فيما أرى والله أعلم- وإلا فهو مجتهد، أخذته الغيرة -جزاه الله خيراً- لكن الخطأ أنه آخذ الناس، مؤاخذة الناس لا ينبغي أن يتشدد فيها الشخص، والثاني أنه عاقب بعقوبة النبي صلى الله عليه وسلم ضيف فيها الباب وقال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) .
والله سبحانه وتعالى أعلم.(40/26)
تفسير سورة النجم
الضحك والبكاء من الصفات التي جبل الله عليها الخلق، وهناك أمور تكون أسباباً للضحك والبكاء.
ولقد أهلك الله تبارك وتعالى الأمم المكذبة كعاد وثمود وقوم نوح والمؤتفكات، ومن فصاحة القرآن وبلاغته أنه عبر عن تدميرها بكلمة واحدة، ثم ضرب الذكر عنها صفحاً إلى أن تلقى ربها يوم القيامة.(41/1)
مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه
الحزونة والابتسامة والضحك صفات جبل الله سبحانه وتعالى عليها الخلق، فمن الناس من هو كثير الضحك، وأصل ذلك من الله سبحانه.
وكذلك كثير الأحزان، (وقد جاء جد سعيد بن المسيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: اسمي حزن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت سهل، قال: لا أغير اسماً سمانيه أبي، قال سعيد: فما زالت فينا الحزونة) .
فالذي يضحك كثيراً فذلك من الله، والذي يبكي كثيراً فالأصل أن ذلك من الله، فإنه سبحانه هو الذي أضحك وأبكى، ولكن ثم أمور تكون أسباباً للضحك وأخرى أسباباً للبكاء، وإلا فأصل الضحك وأصل البكاء من الله سبحانه وتعالى، فهذه الأمور كالتذكير مثلاً بالموت، والتذكير بالمصائب، والتذكير بالآخرة، كل ذلك يُحزن وإنما هو أسباب فقط، وإلا فهناك من الناس مهما أتته من أسباب الحزن لا يبكي، ومن الناس من إذا أتته كل أسباب السعادة لا يضحك؛ فهذه فقط أسباب.
وهذه الآية الكريمة احتج بها عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما مؤيداً لرأي أم المؤمنين عائشة، في مسألة عذاب القبر، فقد ذهبت أم المؤمنين عائشة إلى نفي عذاب القبر على من نيح عليه، فإنها لما بلغها رضي الله عنها أن عمر وابن عمر رضي الله عنهما يذكران الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، أو ببعض بكاء أهله عليه) ، قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن: إنما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في يهود، فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم ماتت لهم امرأة يهودية، فكانوا يبكون عليها، فقال: إنهم يبكون عليها وإنها لتعذب الآن في قبرها، واقرءوا إن شئتم: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] .
كذا قالت أم المؤمنين عائشة، فاستطرد ابن عباس متماً لحديثها بقوله: وقد قال الله سبحانه، {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] يعني أن الضحك والبكاء لا يؤثران في الميت؛ لأن الضحك والبكاء أصلهما من الله سبحانه وتعالى.
وفي الحقيقة أن لهذه المسألة فقهاً، وهي مسألة هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه؟ فقد قال فريق من أهل العلم: إذا كان النوح من سنته، وأوصى الناس بالبكاء عليه بعد موته، فإنه يأثم بكون سنته البكاء على الأموات، ويأثم لوصيته بمخالفة السنة، كما كان قائل الجاهلية يقول: إذا أنا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد قال سبحانه: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] ، ومن العلماء من قال: إن هذا الضحك والبكاء يكون يوم القيامة، لكن الأكثرين على أنه عام.(41/2)
منشأ خلق الإنسان ووقت النشأة الأخرى
قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم:44-46] : تُمنى؛ أي: تُسال وتُراق.
قوله: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} [النجم:47] ، قال كثير من أهل العلم: ذلك يوم القيامة.(41/3)
الفرق بين قوله تعالى: (أغنى وأقنى)
قال تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم:48] ، أما الغنى فمعروف، وأما قوله تعالى: (وأقنى) فالإقناء أن تقتني شيئاً إضافياً فوق الغنى الذي أنت فيه، فتصبح مقتنياً لسيارة، أو مقتنياً لعمارة.
فالغنى هو الاستغناء عن الناس، وفوق الغنى الاقتناء هو مزيد من الاستغناء عن الناس، بحيث يكون عندك أشياء فوق الاستغناء عن الناس، بل أنت الذي تعطي الناس وتتفضل عليهم، فمعنى (فأقنى) : جعله يقتني ما اقتناه.(41/4)
معنى الشعرى وسبب تخصيصه بالذكر
قال تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم:49] .
والشعرى: كوكب كبير في السماء، فلو قال قائل: إن الله سبحانه وتعالى هو رب كل الكواكب، ورب كل النجوم، فلماذا قال سبحانه: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم:49] ؟ ف
الجواب
أنه لا إشكال في هذا؛ فإن الشعرى خصت بالذكر لكونها من أكبر الكواكب وأكبر النجوم، فكونه سبحانه ربها فهو رب ما دونها من الكواكب؛ ولأن القوم كانوا يعظمونها، ومنهم من كان يتيامن بها أو يتشاءم بها إلى غير ذلك من المتعلقات بها.(41/5)
أقوال العلماء في تعدد قبيلة عاد
قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:50-51] ، اختلف العلماء في عاد هل هما عادان أم عاد واحدة؟ من أهل العلم من قال: إن عاداً عادان: عاداً الأولى: وهي التي أُطلِق عليها إِرم كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:6-7] ، فهي قبيلة إرم بن سام بن نوح؛ فعاد الأولى هي عاد التي أبوها إِرم.
وأما عاد الثانية: فهي التي كانت تسكن الأحقاف، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [الأحقاف:21] ، وهي بلاد حضرموت باليمن.
ومن العلماء من قال: إنها عاد واحدة، وليست هناك عاد أولى وعاد أخرى، إنما عاد قبيلة واحدة أُطلِق عليها (عاداً الأولى) باعتبار ترتيبها الزمني بالنسبة للأمم التي جاءت من بعدها.
فليست هناك على هذا التأويل الثاني عاد أولى وعاد آخرة، إنما هي عاد واحدة، وهي المنسوبة إلى إِرم بن سام بن نوح، وهي نفسها التي كانت تسكن الأحقاف، وأُطلِق عليها الأولى باعتبار تقدمها على سائر الأمم التي ذكرت في كتاب الله سبحانه وتعالى، كثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبع وغير ذلك من القبائل.(41/6)
هلاك الأمم المكذبة
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:50-51] .
أي: ما أبقاها هي الأخرى، فهذه كلمات موجزة دلت على إهلاك الله لأمم طاغية أشد الطغيان، فأُجمِل أمرها في كلمة واحدة.
فعاد تلك القبيلة العاتية عبِّر عن تدميرها بكلمة واحدة فصيحة، وهذا من بلاغة القرآن الكريم: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} ، وقبيلة أخرى يُعبَّر عن تدميرها أيضاً بكلمة واحدة قال تعالى: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} .
وقبيلة ثالثة: وهي قبيلة نوح قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:52-53] .
فقبائل وشعوب وقرون عاتية في الظلم والجبروت، يُعبر عن إهلاكها بكلمة واحدة، ويضرب عنها الذكر صفحاً إلى أن تلقى ربها سبحانه وتعالى يوم القيامة.
والقبيلة الرابعة: قوم لوط قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] .
فالمؤتفكات: هي مدائن قوم لوط، والمؤتفكة هنا كبرى مدائن قوم لوط، وهي التي ذكِرت في قوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} [الحاقة:9] ، أي: والمؤتفكات أيضاً جاءوا بالخاطئة.
والمراد بقوله: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] ، أنّ هذه المؤتفكات -مدائن قوم لوط- أهواها الله سبحانه، قال جمهور المفسرين: اقتُلِعت أرضهم وارتفعت إلى السماء، وجعل الله سبحانه وتعالى عاليها سافلها حتى سُمِع للصبيان صياح، وللكلاب نباح، وقُلبت رأساً على عقب، وأتبعت كما قال سبحانه بحجارة من سجيل منضود.
وقوله: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:54] ، أي: حل بها ما حل، ونزل بها من العذاب والبلاء والكرب ما نزل، فغشاها وأصابها ما أصابها، ولحق بها ما لحق بها، و (ما) هنا لتعظيم الذي لحق بها، وبيان عظم الدمار الذي لحق بها، وعظم العذاب الذي حل بها.(41/7)
اقتراب موعد الساعة
قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:55] : والمراء من الجدل، أي: فعلام يجادلك هؤلاء؟ والآلاء: النّعم.
{هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ} [النجم:56-57] ، أي: اقتربت الساعة.
قوله: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:58] ، أي: مانعة تمنعها.(41/8)
حكم البكاء والتباكي عند تلاوة القرآن
وقوله تعالى {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} [النجم:59-60] ، في معرض الذم لمن يضحك وهو يتلو كتاب الله، ولمن لا يبكي وهو يتلو كتاب الله سبحانه، ففيها الحث ضمناً على التباكي عند قراءة كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد دلت على ذلك آيات، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107-109] .
فيشرع التباكي عند تلاوة القرآن لهذه الآيات الكريمة، ولقوله أيضاً: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83] ، وقد قال القائل: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل) ، زاد أحد الرواة في هذا الحديث (من البكاء) ، فيشرع التباكي عند تلاوة القرآن.
قوله: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:61] ، سامدون فيه أقوال، أحدها: لاهون، والآخر: تغنون، يعني يستبدلون الغناء بتلاوة القرآن.(41/9)
حكم سجود التلاوة وكيفيته
قال تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] ، هذه الآية الأخيرة قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه فسجد وسجدوا ومن كان معهم من المشركين، وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية بالمدينة كما في حديث زيد بن ثابت، فلم يسجد فيها صلى الله عليه وسلم.
هذه الآية قرأها النبي بمكة كما في حديث ابن مسعود وسجد صلوات الله وسلامه عليه فيها، وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث زيد بن ثابت في البخاري أيضاً ولم يسجد فيها.
فمن العلماء من قال: إن السجود كان مشروعاً فيها بمكة ونسخ في المدينة، ومنهم من أبى النسخ وقال: بل تركه صلى الله عليه وسلم لبيان جواز عدم السجود فيها، وأما الأمر فهو على الاستحباب لا على الإيجاب.
وهذا هو الأصح على ما يظهر من تصرف أمير المؤمنين عمر، إذ قد قرأ أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه سورة النحل، فجاء إلى السجدة التي فيها وكان يخطب على المنبر فنزل عن المنبر وسجد وسجد المسلمون معه، ثم لما كانت الجمعة المقبلة قرأها أمير المؤمنين عمر فتهيأ الناس للسجود فقال: يا أيها الناس! إنا نمر بالآية فيها السجدة، فمن سجد فهو حسن ومن لم يسجد فلا شيء عليه، وترك أمير المؤمنين عمر السجود في آية النحل التي سجد فيها في الجمعة السابقة.
فالذي يترجح: أن سجود التلاوة سنة مستحبة وليس بواجب، واستنبط العلماء من سجود النبي صلى الله عليه وسلم وعموم أصحابه وسجود المشركين معه استبعاد أن يكونوا كلهم على وضوء آنذاك، وأن سجود التلاوة لا يلزم له وضوء، إذ يصعب ويشق أن يقال إن الجميع كانوا على وضوء.
وهل يهوي الشخص إلى سجود التلاوة مكبراً أو يسجد بدون تكبير؟ الأمر في ذلك واسع.
أما بالنسبة لهذا السجود في الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ورد عنه حديث فيه ضعف من حديث عبد الله بن عمر العمري عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر عند الهوي لسجود التلاوة، واستؤنس لهذا التكبير بعموم الصفات المروية لصلاة رسول الله أنه كان يكبر عند كل خفض ورفع، فأُخِذ من هذا العموم مع خصوص حديث عبد الله بن عمر العمري إثبات مشروعية التكبير عند الهوي لسجود التلاوة، أما خارج الصلاة فالأمر فيها واسع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ثبت أن النبي سجد في هذه السجدة كما قدمنا، وترك السجود فيها أيضاً، وثبت أنه سجد في سجدة (ص) ، وثبت أنه سجد في الانشقاق، وكذلك في العلق، وما وراء ذلك من السجدات فموقوفات على أصحاب رسول الله.
وانعقد الإجماع على بعضها كالإجماع المنقول في سجدة فصلت (حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .
ونقل بعض العلماء الإجماع على السجود في سجدة (ألم * تنزيل) خارج الصلاة، وفي داخل الصلاة اختلفوا هل يُسجد فيها أو لا يُسجد؟ على قولين لأهل العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(41/10)
تفسير سورة القمر [1]
معجزة انشقاق القمر من المعجزات العظيمة التي أيد الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وما كان من قريش أمام هذه الآية الباهرة إلا أن استمروا على كفرهم وعنادهم، وزعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم سحرهم، ولكن سيعلم هؤلاء المشركون عاقبة تكذيبهم عند خروجهم من قبورهم وجلة قلوبهم ذليلة أبصارهم، ثم يكون مصيرهم إلى جهنم وبئس القرار.(42/1)
معجزة انشقاق القمر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الأعياد بسورة ق وسورة القمر.
يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ، قوله سبحانه: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) كقوله سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] ، وكقوله سبحانه وتعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم (بعثت أنا والساعة كهاتين) وقرن بين السبابة والوسطى.
أما قوله تعالى: (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) فهذه من كبرى المعجزات التي أيد الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ألا وهي معجزة انشقاق القمر، فقد سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فانشق القمر لرسول الله، فقال المشركون: سحرنا محمد صلى الله عليه وسلم! فقالت طائفة منهم: إن يكن محمد سحرنا فإنه لم يسحر السفار، فلما أتى السفار -أي المسافرون- إلى مكة سألهم أهل الشرك: هل رأيتم القمر منشقاً؟ قالوا: نعم رأيناه منشقاً، فلقة على هذا الجبل، وفلقة على هذا الجبل، فلقة في هذه الناحية، وفلقة في تلك الناحية، وحديث انشقاق القمر من الأحاديث المتواترة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روي انشقاق القمر من عدة طرق عن أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد أيد الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه بطائفة من المعجزات كحنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، ومجيء الأشجار إليه صلى الله عليه وسلم، وبكاء الجمل عنده صلى الله عليه وسلم، وبالإسراء وبالمعراج، وبغير ذلك، وكانت المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي هذا القرآن الذي بين أيدينا، يدعو إلى كل خير، وينهى عن كل شر، ويخبر بأنباء ما قد مضى، وبأنباء ما هو آتٍ، فهو المعجزة الباقية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حفظ الله به العقول والدماء والأبدان والأموال والأعراض، فكله خير، فلله الحمد والشكر على ذلك.(42/2)
موقف الداعية ممن أصر على عناده رغم تكرر تذكيره
قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر:4] ، لقد جاءهم من الأنباء ما فيه زاجر وواعظ لهم عن شركهم وعن غيهم، ولكنهم لم يستجيبوا لتلك المواعظ {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:5] ، كما قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] .
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر:6] ، يعني: أعرض عنهم يا محمد! والآية أفادت فقهاً في الدعوة إلى الله وهو: أن الشخص إذا وضح للقوم الآيات، وذكر القوم بالله وبحدود الله وبشرعه برفق ولين، وكرر عليهم ذلك، فأبوا إلا الرفض وأبوا إلا العناد وأبوا إلا النيل منه والطعن فيه، بل والطعن في الشرع ومن جاء به، فله حينئذٍ أن يعرض عنهم ولا يستمر في النصح والتذكير، ولا لوم عليه؛ لأن الله قال هاهنا: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر:6] ، بعد قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:4-5] ، فبعدها قال سبحانه: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر:6] ، وفي الآية الأخرى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54] ، وفي الآية الثالثة يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] ، فمحل ذلك التولي والإعراض عنهم كما في قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النساء:81] ، وهنا {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر:6] ، وكما في قوله تعالى الذي سمعتموه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] ، تفيد هذه الآيات فقهاً في الدعوة إلى الله، ألا وهو: إذا كان من أمامك متمرداً وعاتياً على شرع الله، ومتبرماً من التذكير بالله، وقد بذلت معه الجهد في هذا الباب؛ فحينئذٍ أعرض عنه ولا لوم عليك كما قال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [الذاريات:54] ، أي: فأعرض عنهم {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54] ، أي: لا لوم عليك، فحينئذٍ هناك وقت على الداعية إلى الله فيه ألا يهين نفسه، وألا يهين أيضاً دعوته التي يحملها إذا كان من أمامه يستعملون البذاءات، ويستعملون الألفاظ السخيفة للطعن فيه وفي الدين، فحينئذٍ أمر الله وتوجيه الله لنا: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) .(42/3)
موقف المشركين من معجزة انشقاق القمر
قال الله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2] وهذا في الكفار، (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) أي: معجزة، ((يُعْرِضُوا)) أي: يعرضوا عنها (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ، المعجزات لا تنفع من ختم الله على قلبه، ولذلك قال سبحانه: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر:14] ، أي يصعدون {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15] ، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59] ، فقوله سبحانه: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2] يبين أن الآيات لا تنفع من أراد الله له الغواية والعياذ بالله! وقوله تعالى: {يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أي: سحر ذاهب، أي سحر مستمر فيه صاحبه، ويعنون به: محمداً صلى الله عليه وسلم، و (مُسْتَمِرٌّ) فيها أكثر من قول، أحدها: سحر ذاهب، والثاني: سحر مستمر فيه صاحبه ألا وهو عندهم محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:3] ، أي: كل أمرٍ من الأمور له نهاية وله استقرار كما قال سبحانه: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67] كل خبر له نهاية وله مستقر، سواء من أخبار هذه الحياة الدنيا أو أخبار الآخرة أو الأنباء التي ذُكِرت في كتاب الله فلها وقت تتحقق فيه، فهذا يتنزل على أمور الدنيا وعلى أمور الآخرة، كل مشكلة من المشاكل في نهاية المطاف لها منتهى ولها استقرار، حتى بالنسبة لمسائلنا الشخصية، ترى الفتاة حسناء وجميلة ويتخاطفها الخطاب، وهذا ينظر، وهذا ينظر، والمشاكل حولها كثير، وما هي إلا أيام أو سنوات أو شهور، وينتهي أمرها بزواجها أو بموتها أو بذبولها أو بأي شيء من الأشياء، تنتهي قصتها ويُطوى الذكر عنها، وكذلك الشاب تراه متمرداً وذاهباً إلى هنا، وها هنا، ويعصي بهذا، ويؤذي بهذا، وفي النهاية لكل ظالم نهاية، ولكل عابث نهاية.
وكذلك أمور الآخرة التي حكاها ربنا في كتابه، ووعد بها لا بد أن يأتي وقت تتأتى فيه هذه الأمور، وتستقر فيه هذه الأنباء، قال الله سبحانه: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} ، كل أمر له نهاية وله استقرار.(42/4)
تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ)
ثم الله سبحانه وتعالى هددهم تهديداً ضمنياً {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر:6] ، (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) عندها وقف لازم كما قال كثير من العلماء، ثم قوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) أي: وانتظر بهم وتأنّ بهم إلى يومٍ يدعو فيه الداعي إلى شيءٍ نكر، وهو يوم القيامة، ومن هو الداعي المذكور في قوله سبحانه: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) ؟ الداعي هنا لم يُفسر من هو، فمن العلماء من قال: الداعي هو الله سبحانه وتعالى، ومنهم من قال: الداعي ملك من الملائكة موكل بدعوة الناس للخروج من القبور، ومنهم من قال: الداعي هو إسرافيل الذي ينفخ في الصور {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] ، فللعلماء فيه ثلاثة أقوال مشهورة، أحدها: أن الداعي هو الله سبحانه، الثاني: أن الداعي هو ملك من الملائكة مختص بذلك، الثالث: أن الداعي هو إسرافيل عليه السلام، فالله سبحانه وتعالى أعلم.
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر:6] ، (إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ) للعلماء فيه قولان: أحدها: إلى شيء فظيع عظيم، لا يعلم حجمه وعظمه إلا الله سبحانه وتعالى، شيء مخيف عظيم لا يعلم مدى بشاعته ومدى فظاعته إلا الله سبحانه وتعالى، فنُكِّر لبيان عظمته، القول الثاني: يوم يدعو الداعي إلى شيء لا يفهمه هؤلاء، لماذا يناديهم هذا المنادي؟ يقول: هلموا تعالوا، فيخرجون من القبور، لماذا يخرجون؟ لا يدرون إلى أين يتجهون، إلى الداعي فقط، لا يعرفون لماذا هم ذاهبون إلى هذا الداعي، هل يدعوهم هذا الداعي للمكافئة والإثابة أو يدعوهم هذا الداعي للعقاب والجزاء؟ أمر مستنكر عندهم.(42/5)
حال الكافرين عند خروجهم من قبورهم
وكما قال سبحانه في الآية الأخرى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7] ، قال سبحانه: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر:7] ، أي ذليلة أبصارهم {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} أي: القبور {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7] ، الخشوع محبوب في الدنيا، فلماذا هو مذموم في الآخرة، الله سبحانه وتعالى حمِد الخاشعين له في الدنيا، وقال في آية أخرى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2-4] ، فكيف هي خاشعة ومع ذلك تصلى ناراً حامية؟! العلماء قالوا: إن الخشوع في الدنيا يجلب الأمن في الآخرة، وعدم الخشوع في الدنيا لله سبحانه يجعل الشخص ذليلاً خاشعاً في الآخرة، فلا إشكال، فهذا خشوع الدنيا وذاك خشوع الآخرة.
قال سبحانه: (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ) أي: ذليلة أبصارهم، (يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ) أي من القبور، (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ) يعني: مسرعين كأنهم جراد منتشر، وتقدم الجمع بين هذا الوصف في هذه الآية: (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ) وبين الوصف في الآية الأخرى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] ، فالفراش المبثوث له طريقة في انتشاره، والجراد المنتشر له طريقة في انتشاره، فالفراش دائماً يطير بشكل غير منظم، يتجه فريق منه إلى اليمين، وفريق منه إلى الشمال، وفريق إلى أعلى وفريق إلى أسفل، أما الجراد في مسيره وانتشاره فانتشاره منظم، تجد أسراب الجراد تمشي كلها إلى وجهة محددة، فكيف الجمع بين قوله: (يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ) ، أي: متجهون وجهة محددة، وبين قوله: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) ، أي: الفراش المنتشر أيضاً؟ العلماء يقولون: إذا دعاهم الداعي خرجوا كلهم من القبور متجهين في خط واحد إلى الداعي الذي دعاهم، لا ينحرفون عنه يمنة ولا يسرة، إذا دعاهم الداعي لا ينحرفون عنه يميناً ولا يساراً بل كلهم يتجهون أسراباً وأفواجاً إلى هذا الداعي، لكن في مواقف أخر، مثلاً: حين تتطاير الصحف، أو حين يُدعى للمرور على الصراط، أو حين يدعى للميزان، فحينئذٍ الأفئدة تطير وتذهب، وكل يجري في وجهة لا يدري إلى أين يذهب، ولا يدري إلى أين يفر.
{مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين {إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] ، أي: شديد، وهذه كلمة موجزة من الكفار تدل على مدى الهم الذي هم فيه، ومدى النكد الذي يعيشونه، ويلامسونه، كلمة موجزة: (هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي: يوم شديد وشاق والعياذ بالله! وقوله سبحانه عن الكافرين: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] ، هل هو عسِر على الكافرين فقط كما قال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:9-10] أم هو عسِر أيضاً على أهل الإيمان؟ للعلماء في هذا الإشكال أقوال: أقواها: أنه عسِر على الجميع، لكن وصِف بأنه على الكافرين غير يسير، وأن الكافرين يقولون: هذا يوم عسر؛ لأن عسره لن يزول عن الكافرين، أما العسر الذي لحق بأهل الإيمان فإنه عسر زائل، والعسر الزائل لا يُطلق عليه عسرٌ إذ مآله إلى الزوال، أما العسر الملازم فهو الذي يطلق عليه العسر، كما روي عن رسول الله أنه كان يستعيذ بالله من جار السوء في دار المقامة، فإن جار السفر يوشك أن يزول، الجار في السفر والصاحب في السفر وإن كان مؤذياً فبانتهاء السفر يزول، أما الجار الذي يساكنك ويجاورك طيلة حياتك، الجار المؤذي هو هذا الذي يستعاذ منه، فمن أهل العلم من قال: إن اليوم عسير على الجميع لكن عسره على أهل الكفر أشد، أما عسره على الجميع فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، قلت: يا رسول الله! النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى الله عليه وسلم يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض) ، فهذا عام لـ عائشة ولغيرها، وقال الله سبحانه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34-36] ، وقول آدم صلى الله عليه وسلم وكذا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام جميعاً: نفسي نفسي، كلهم يقول: نفسي نفسي، من هول المطلع، والله سبحانه وتعالى أعلم.(42/6)
تعرض نوح لأذى قومه
قال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] ، أي: زجروه وأهانوه وآذوه صلوات الله وسلامه عليه، ووصفوه بالجنون يعني: أن الأذى باللسان كان وارداً، والزجر كذلك بكل أنواعه، وقوله: (وَازْدُجِرَ) هو: أبلغ الزجر، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] ، دعا ربه دعوة مظلوم بقوله: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) .(42/7)
الأسئلة(42/8)
حكم حديث من أخذ على تعليم القرآن قوساً
السؤال
بالنسبة لموضوع من أخذ على تعليم القرآن قوساً من العلماء من حسنه؟
الجواب
أعلم أن من العلماء من حسّنه، لكن تحسيننا لحديث لا ينبني على تحسين عالم واحد فقط، فليس معنى أنه موجود في كتاب، وصاحب الكتاب صححه أنه يقيناً صحيح، هناك عدد كبير جداً من أهل العلم ضعفوا هذا الحديث.
إلى هنا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(42/9)
حكم الحج بمال مختلس
السؤال
شخص اختلس مالاً كي يحج، هل حجه صحيح؟
الجواب
نعم حجه صحيح، لكن عليه الدين.(42/10)
طالب جامعي طلب منه نحت تمثال
السؤال
طالب في كلية التربية مقرر عليه مادة النحت، وطلب منه وضع تمثال أو ما شابه ذلك فما الحكم؟
الجواب
يظهر أنها ضرورة تقدر بقدرها، وحاول ألا تتقِن صنعته، حتى لا يُبعث إلى مكان وتتحمل إثمه، والله أعلم.(42/11)
حكم صبغ بعض الشعر ببعض الألوان
السؤال
هل صبغ بعض الشعر ببعض الألوان يجوز أم لا؟
الجواب
يجوز إذا لم يكن فيه تدليس وغش للخطاب، وأما مسألة السواد ففيه قولان للعلماء، فاتق السواد وما سوى ذلك فلا بأس به.(42/12)
حكم من أرغم زوجته على إسقاط جنينها
السؤال
عندي طفل صغير يبلغ عاماً وثلاثة أشهر، وزوجي يأبى أن أحمل مرة أخرى، ويعزم على إنزال أي جنين يأتي، فما حكم طاعته، وإذا رفضت الإجهاض ممكن أن يصل الأمر إلى مشاكل كثيرة جداً؟
الجواب
الذي يظهر -والله سبحانه أعلم- أن الولد من حق الزوجة كما أنه من حق الزوج أيضاً، فلها أن تحتال وأن تخفي عليه الأمر؛ لأن الولد من حقها كما أنه من حقه، يعني من حقها أن تحمل وترزق بالولد كما أن من حقه أن يُرزق بالولد.
وإذا خشيت من الطلاق هذه مسألة أخرى تقدر هي مصلحتها ومفسدتها.(42/13)
حكم الاستمناء لمن هو محاط ببيئة فيها نساء
السؤال
لقد سمعنا في أمر العادة السرية آراءً مختلفة، فبالنسبة لشاب أعزب محاط بالفتن من النساء هل هي مباحة له أم محرمة؟
الجواب
هذه التسميات المحدثة، كالعادة السرية، ونداء إنساني، والإخوة على الساحة، -حتى الدعاة يستعملونها- هذه الألفاظ لابد أن نجل أنفسنا عنها، الألفاظ نأخذها من كتاب ربنا ومن سنة نبينا ومن سيرة سلفنا الصالح، بعض الإخوة يقول لك: الإخوة الدعاة العاملين على الساحة، ساحة ماذا؟! عبِّر بألفاظ منتقاة من كتاب الله ومن سنة رسول الله لا منتقاة من الملاعب! فالشاهد: أن العادة السرية اسمها في الشرع الاستمناء.
وبالنسبة لمسألة الاستمناء، الوارد فيها من كتاب الله ما احتج به الإمام الشافعي قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7] ، استدل بها الإمام الشافعي على المنع؛ لأن الله قال: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ) ترجع إلى الأزواج أو ما ملكت الأيمان (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) .
وأيضاً قال النبي: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) ما أرشد إلى هذه المسألة.
تبقى مسائل أُخَر وهي النظر في السؤال الذي ذكره الأخ خاصة، وفي الحقيقة أننا نخشى من الحديث فيه، ومن الاسترسال في الحديث فيه كما قال القرطبي رحمه الله: قد أصبحت قيلاً ويا ليتها لم تُقل، ولكن فقط من باب أن شخصاً تورط في مخالطة النساء، فالأولى له ثم الأولى أن ينقذ نفسه من التواجد في وسط النساء، وهذا من أنجح الحلول، ويعتصم بالله سبحانه وتعالى، ويكثر من الصيام، ويدعو بدعاء يوسف صلى الله عليه وسلم: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] ، ويتزوج ويبادر بالزواج، ولو من ثيب إلى أن يوسع الله سبحانه وتعالى عليه، ثم إن شاء أن يتزوج أخرى بعد ذلك تزوج، لكن نقول: إذا كانت هذه العملية حراماً لاستدلال الشافعي رحمه الله، وهناك حرام أعظم سيقع فيه الشخص وهو الزنا، فلا نريد أن نقول له: افعلها؛ لأنه سيفهم خطأً، وسيعيش دائماً يفعلها، ودائماً هو مع النساء، فسيعيش دائماً في معصية.
لكن القواعد الكلية للشرعية تقول باختيار أخف الضررين عند توارد الأضرار، اختر أخفها، لكن نصيحتي أن تترك المكان، وقد سُئل ابن عباس فأجاب بإجابة نحو التي ذُكِرت، قال: (هي خير من الزنا، ونكاح الإماء خير منه) ، يعني: إن لم يكن معك مال تتزوج فاشتر أمة رخيصة خير من الاستمناء، مع أن الله سبحانه أمر بالصبر عن نكاح ملك اليمين: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] يعني: من الإماء {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ} [النساء:25] إلى أن قال: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء:25] ، يعني صبركم عن نكاح الإماء خير من إقدامكم على نكاح الإماء، لكن نقول: الثيبات الحرائر موجودات، واحدة زوجها مات، اكسب أجراً في الأيتام وفي المرأة، وعندها بيتها، وعندها أثاثها، أما إذا قالت لك أمك: يا ابني! أنت ستفضحنا تتزوج ثيب!! فقل لها: الرسول صلى الله عليه وسلم ما فضح أهله أبداً لما تزوج خديجة بنت خويلد.
وتعفَّف خير لك من أن تقع في المحرم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(42/14)
حكم وصل شعر الشارب بشعر اللحية
السؤال
ما حكم وصل شعر الشارب بشعر اللحية؟
الجواب
الذي يصل شعر الشارب بشعر اللحية، سيكون قد أطلق الشارب، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (قصوا الشارب) ، والله أعلم.(42/15)
حكم الاقتراض من البنك لمساعدة من مر بضائقة مالية
السؤال
طلب مني شخص يمر بضائقة مالية أن أقوم بعمل قرض من البنك له على أن يقوم بسداده لي؟
الجواب
لا تفعل.(42/16)
حكم قراءة الإمام من المصحف لعدم حفظه
السؤال
هل تجوز القراءة من المصحف لإمام يخطئ؟
الجواب
أجاز الجمهور ذلك استدلالاً بأن النبي كان يصلي وهو يحمل أمامة، وبأن ذكوان كان يؤم عائشة من المصحف، وأبطل الصلاة ابن حزم، وقال: إنه نوع من العبث في الصلاة، لكن رأي الجمهور أقرب إلى الصواب، والله أعلم، ولكن الأقرب أن ينحى الإمام ويؤتى بإمام حافظ ليصلي بالناس إذ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) .(42/17)
حكم الوضوء لسجدة الشكر
السؤال
ذكرتم أنه لا يجب الوضوء في سجدة التلاوة، ماذا عن سجدة الشكر وتلاوة القرآن؟
الجواب
سجدة قراءة القرآن نفس سجدة التلاوة، ونفس الحكم في سجدة الشكر.
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بُشِّر بأمر خر ساجداً، ويشق أن يقال أيضاً: إنه في كل مرة كان يبشر كان على وضوء عليه الصلاة والسلام.
وبالنسبة لسجدة التلاوة لم يصح فيها ذكر معين، وسجدة الشكر كذلك لم يصح فيها ذكر معين، إنما هي كسائر السجدات.(42/18)
حكم تلاوة القرآن بغير وضوء
السؤال
هل تجوز تلاوة القرآن بلا وضوء؟
الجواب
نعم تجوز تلاوة القرآن بلا وضوء، والأفضل الوضوء، أما الجواز فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث عائشة كان يذكر الله على كل أحيانه، ولأنه ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: (بت عند خالتي ميمونة فقلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطرحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم في طولها، ثم قام فجعل يمسح النوم عن وجهه، ثم قرأ الآيات العشر الأواخر من آل عمران حتى ختم، ثم أتى شناً معلقاً) فدل ذلك على أنه قرأ العشر آيات قبل أن يتوضأ، والله أعلم.(42/19)
حكم مس المصحف بغير وضوء
السؤال
هل يجوز مس المصحف بلا وضوء؟
الجواب
التلاوة فصلنا فيها الآن بقي المس.
مس المصحف بدون وضوء من منعه استدل بشيئين: الشيء الأول: قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] ، والشيء الثاني: (لا يمس القرآن إلا طاهر) ، كما روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أما قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] فجمهور المفسرين على أنه في الكتاب المكنون الذي عند الله والمطهرون هم الملائكة، فلا يستدل بالآية على المنع، أما حديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر) ، فأكثر أهل العلم على تضعيفه، فأصبح الباب الآن فارغاً من الأدلة المانعة، إذاً: فلا بأس بمسه.(42/20)
حكم إزالة شعر الوجه
السؤال
أعلم جيداً أن نتف الحواجب من النمص، فهل يجوز لي يوم عرسي فقط أن أزيل شعر وجهي إلا حواجبي؟
الجواب
إذا كانت تعلم أن عمل الحواجب هو المحرم فقط، والسؤال ليس فيه أنها ستزيل شعر الوجه فلا إشكال إذاً، لكن كتفصيل للسؤال: شعر الوجه على أقسام، شعرٌ تحرم إزالته، وشعر على نزاع بين العلماء في إزالته، وشعر تستحب إزالته عند الأكثرين، أما الشعر الذي تحرم إزالته بالإجماع شعر الحواجب لحديث: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات ... ) ، أما الشعر الذي فيه الخلاف، وفيه قولان للعلماء، فهو شعر الجبهة باستثناء الحواجب، فمن العلماء من قال: إن معنى النمص اللغوي يتطرق إلى الإزالة، ومنها إزالة شعر الوجه بصفة عامة، ومنهم من قال: إن النمص مختص بالحاجب، والشعر الذي استحب كثير من العلماء إزالته إذا نبت للمرأة شارب أو نبتت لها لحية، قالوا: حتى لا تقع في التشبه بالرجال، وقد لعن النبي المتشبهات من النساء بالرجال.
قد يقول قائل: إن معنى النمص اللغوي يقتضي أن إزالة أي شعر من الوجه محرم إذ النمص الإزالة، لكن على هذا القائل تعقُّب، فيقال له: إذا قلت: إن النمص إزالة فبناءً على هذا عليك أن تحرم على المرأة أن تزيل شعر رجليها، والمسطر في كتب العلماء أن النساء كن يزلن شعور الأرجل أحياناً للتزين، ويزلن شعر الذراعين للتزين، ولم يُستنكر ذلك، فالذي يظهر -والله سبحانه أعلم- أن المحرم يقيناً شعر الحواجب، وأن شعر الشارب أو اللحية تستحب إزالته، وأن شعر الوجه في الخد ونحوه إن تركته فمن باب الورع، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، وإلا فالقطع بتحريمه فيه نظر.(42/21)
حكم التجارة في اللحوم المجمدة
السؤال
ما هو حكم اللحوم المجمدة والتجارة فيها؟
الجواب
التجارة في اللحوم المجمدة في النفس منها شيء، ونفس الحكم السابق، من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، إذا كانت اللحوم المجمدة تذبح في مصر، فالأصل في مصر أنها بلاد مسلمة، وأن ذبحها حلال، لكن إذا كانت مستوردة ففي الدولة التي استوردت منها تفصيل، إن كانت مستوردة من دول الملاحدة، فلا تؤكل أصلاً، ولا يُتاجر فيها، وإن كانت مستوردة من دولة كتابية، فيبقى النظر في طريقة التذكية التي ذكيت بها الذبيحة هناك، فإن قطع أهل اختصاص بأن التذكية ليست على الشريعة، لا أعني التسمية عند الذبح من عدمها فقط، بل أعني التذكية الشرعية، أو هل هي لم تذك بمعنى: أنها قُتِلت بطريقة الصعق أو غير ذلك، فتكون بمنزلة الوقيذ، ففيها تفصيل، ولا أعلم طريقة الذبح التي تُذبح بها هذه البهائم في دول أهل الكتاب، فليُسأل عنها أهل الاختصاص.
لكن دائماً معنا حديثان لرسول الله نتحرك بهما: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) .(42/22)
حكم من فاته بعض التكبيرات في صلاة الجنازة
السؤال
رجل دخل ليصلي الجنازة وقد سُبق ببعض التكبيرات فإذا كبر معهم ماذا يصنع؟
الجواب
هذه المسألة كنا نفتي فيها أولاً بأحد شيئين: قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) ، فنقول: إما أن تكبر: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر إلى أن تتحد مع الإمام في التكبيرة التي هو فيها، إذ القراءة بين التكبيرات ليست بواجبة؛ لأن هذا قول، فتكبر عدة مرات وبعدها تتفق مع الإمام وتفعل ما يفعل الإمام، أو الرأي الآخر: كبِّر واصنع كما يصنع الإمام، وما فاتك فأَتِم بعد الإمام، لكن بعد مراجعة صفة صلاة الجنازة باتساع، ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كبَّر على الجنازة أربع تكبيرات، وورد أنه صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن أرقم عند مسلم صلى على الجنازة فكبر خمس تكبيرات، ومن العلماء من يدعي أن الخمس منسوخة، لكن رد ذلك بأن: حديثها ثابت في مسلم، والقول بالتنويع أولى من القول بالنسخ.
لكن الآثار عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين أفادت أشياء تريح الصدر جداً، منها أن من السلف من كان يكبر على الجنازة تسعاً، ومنهم من كان يكبر عليها سبعاً، ومنهم من كان يرى التكبير ثلاثاً، ومنهم من كبر على الجنازة مرتين، ومنهم من يرى قراءة الفاتحة في الصلاة على الجنازة، ومنهم من لا يرى قراءة الفاتحة في الصلاة على الجنازة، يعني: ورد أن بعضهم كان يدخل التكبير ومباشرة يدعو للميت، وورد أن بعضهم كان يكبِّر ويصلي على رسول الله ويدعو للميت، فالمسألة أصبح فيها اتساع، حتى روى ابن عباس -كما في البخاري - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُتِي إليه بجنازة فصلى عليها، وجهر بفاتحة الكتاب، وقال: إنما جهرت بفاتحة الكتاب لتعلموا أنها سنة، فلم أجد أحداً من العلماء قال ببطلان الصلاة على الجنازة إذا لم تقرأ فيها بالفاتحة، فليست الفاتحة ركناً من أركان الصلاة على الجنازة كما أنها ركن من أركان الصلوات المعتادة، بينهما خلاف، فجهر ابن عباس وقوله: لتعلموا أنها سنة، ليس صريحاً في الإيجاب، ثم يدل على أن منهم من كان لا يصنعها أصلاً، فالأمر في ذلك واسع، والله أعلم.(42/23)
المادة الأولى في صناعة أحمر الشفاه
السؤال
لقد قرأت في إحدى الجرائد على لسان طبيب أن المادة الأولى في أحمر الشفاه هي براز الإنسان بعد المعالجة الكيميائية؟
الجواب
فليُبحث عند الأطباء عن صحة هذا الكلام، إذا كان أحد من إخواننا يعرف شيئاً عن ذلك فليفدنا.(42/24)
حديث: (لحومها داء، وألبانها دواء، وسمنها شفاء)
السؤال
حديث (ألبانها شفاء، وسمنها دواء، ولحومها داء) لا يصح منه إلا الجملة الأولى، ولكن قرأنا في بعض الكتب أنه صحيح، فما رأيكم؟
الجواب
لا نعرف أن من العلماء من صحح حديث (لحومها داء، وألبانها دواء، وسمنها شفاء) في البقر، لكن بعد مراجعة هذا الحديث، والبحث في الطرق التي وردت، وجدنا أن اللفظ الأول أقرب إلى الوضع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الثابت (ألبانها دواء، وسمنها شفاء) ، أما (لحومها داء) فحديثياً ليست بثابتة، من ناحية العلل والرجال ليست بثابتة بحال من الأحوال، ومن ناحية النظر أيضاً وعموم الشريعة لا تثبت، فإن الله قال: {وأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6] فُسِّرت بقوله: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144] ، والنبي ضحى عن نسائه بالبقر، وإبراهيم راغ إلى أهله فجاء بعجل حنيذ، على رأي من قال: إن العجل الحنيذ من البقر، وهو رأي أكثر العلماء، والله أعلم.(42/25)
حكم الزغاريد
السؤال
قلتم أن الزغاريد يمكن أن تكون وسط الأخوات، وقد أخذ بعض الناس من ذلك الحجة، ولكن أخبرتم أن الزغاريد مهما كانت ذات صوت منخفض يُسمع صوتها لمن في الشارع، فأرجو التوضيح لبعض الأخوات؟
الجواب
بالنسبة للزغاريد، غاية ما ورد فيها: (صوتان ملعونان: صوت رنة عند نعمة، ورنة عند مصيبة) ، أولاً ليس صريحاً أنه في الزغاريد، ثانياً: الحديث ليس بثابت، فبقي شيء في مسألة الزغاريد الذي يبنى عليه الحكم الشرعي، وهو مسألة الافتتان بها من عدمه، هل سيفتن الرجال بهذه الزغاريد أو لا؟ فكانت الإجابة: إذا كانت الزغاريد في وسط النساء بعيداً عن الرجال، لا يفتن بهن الرجال، فما المانع إذاً؟ إذ ليس في الباب الآن خبر، وهو ليس من أنواع اللهو، وقد قال الرسول لـ عائشة في يوم العرس: (يا عائشة! ما كان معكم لهو؟! فإن الأنصار يعجبهم اللهو) ، فما بقي معنا شيءٌ صريح يمنع، لكن السائل يقول: إن الزغاريد يسمعها من في الشارع، إذا كان يسمعها من في الشارع خرجنا عن إجابتنا السابقة، الإجابة كانت مشروطة بألا يُفتن بهن الرجال، لكن إذا كان سيفتن بهن الرجال فلسنا مسئولين عن ذلك، فما نستطيع أن نحرم من أجل الأخت التي قالت: إنه قد يسمعها رجل؛ لأن هذه من مسائل الأخوات التي فيها إفراط وتفريط.(42/26)
حكم شهادات الاستثمار لمجموعة (ج) عديمة الفوائد
السؤال
ما الحكم في شهادات الاستثمار المجموعة (ج) عديمة الفوائد، علماً بأن هناك حكماً أجاز حلها على اعتبار أنها بمنزلة القرعة التي ارتضاها الجميع؟
الجواب
ليست بمنزلة القرعة التي ارتضاها الجميع، بل الأرباح التي توزع على الفائزين منشؤها من الربا.(42/27)
حكم الصلاة على جنازة موضوعة خلف الإمام وأمام المأمومين
السؤال
هل تصح صلاة الجنازة والجنازة وراء الإمام وأمام المأمومين؟
الجواب
هذا أمر محدث ومبتدع، فالسنة أن تكون الجنازة أمام الإمام هو يصلي إليها، والمأمومون يصلون خلفه، كيف يصلي هو والجنازة خلفه؟ كيف تتأتى هذه الصورة؟ فهذه صورة لم ترد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويخشى إن كانوا قد تعمدوا ذلك أن تبطل صلاة الجميع، والله سبحانه وتعالى أعلم.(42/28)
كيفية الصلاة على أكثر من جنازة متعددة الأجناس
السؤال
كيف تكون الجنازة مما يلي الإمام إذا تعددت الأجناس رجالاً ونساءً أو صبياناً؟
الجواب
الرجال أولاً ثم النساء ثم الصبيان.(42/29)
جد الزوج لأمه محرم لزوجته
السؤال
هل يعتبر جد الزوج لأمه محرماً لزوجته؟
الجواب
نعم، جد الرجل لأمه محرم للزوجة.(42/30)
حكم الزواج بابنة العم وقد رضع من جدته لأبيه
السؤال
ابن رضع من جدته لأبيه، فهل يجوز له الزواج من ابنة عمه؟
الجواب
لا يجوز؛ لأنه أصبح أخاً لعمه من الرضاعة، فهو عم لبنت عمه من الرضاعة.(42/31)
حكم إقامة الزاني حد الجلد على نفسه
السؤال
شخص -والعياذ بالله- ابتلي بفاحشة الزنا من امرأة متزوجة، ويريد أن يقام عليه الحد، ويقول: أعلم أنك ستقول عليك بالتوبة والاستغفار، ولكن بالله عليك أرجوك أن تصف لي كيف يقام الحد؟ هل أجلد نفسي مائة جلدة أو مائتين؟ وبم أجلد (أبكرباج) أم بأي شيء؟
الجواب
قلت ستجلد نفسك، ولكن الخطاب في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] لإمام المسلمين، ليس الخطاب هنا للأفراد، لكن إن كنت لا تقنع بكلام رسول الله، فماذا نفعل لك؟ إذا كان الرسول أمر من هو مثلك أن يستر على نفسه، وأنت تأبى إلا أن تفتضح؛ لأن عند جلدك لا بد كما قال سبحانه: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] ، فعظِّم رغبتك فيما عند الله سبحانه وتعالى، وسله المعافاة والعافية في الدنيا والآخرة، وأكثر من عمل الصالحات، إن كان الله قد وسع عليك فاذهب واعتمر أو اذهب وحج، واعمل أي عمل صالح يدمر هذه الكبيرة، والله سبحانه وتعالى يتجاوز عن سيئاتك، أما الفضيحة أن أقول لك: اجلد نفسك بكرباج، وهل يليق بي أن أقول لك: اجمع عدداً من الحارة، وقل لهم: يا أيها الناس! أنا زنيت وتعالوا اجلدوني، وهم ليسوا بحكام، وليسوا أولياء أمور، افعل ما أمرك به رسولك محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(42/32)
حكم نكاح امرأة متزوجة نكاح متعة
السؤال
رجل يعمل في السوق، وتعمل معه امرأة متزوجة وهو غير متزوج، فابتلي بالزنا معها، وهذه من مفاسد الاختلاط في الأعمال، وهو يتعاشر معها ويبكي، ولكن تراوده فكرة أنه ينكحها نكاح متعة، حيث أنه يعطيها هدايا وأموال، فما الحكم؟
الجواب
ليس هذا نكاح متعة بحال من الأحوال؛ لأن نكاح المتعة لم يكن مع مثل هذه المتزوجة، ونكاح المتعة من أصله منسوخ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حرم الله نكاح المتعة يوم خيبر إلى الأبد، فحُرِّم نكاح المتعة تحريماً أبدياً.
فالذي تفعله إنما هو زنا -والعياذ بالله- ولا يسول لك الشيطان ويزين لك سوء عملك، فاستغفر الله، وأكثر من عمل الصالحات.(42/33)
حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن
السؤال
هل يجوز أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن؟
الجواب
نعم يجوز أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن، وذلك لعموم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، وذلك في قصة اللديغ الذي رقاه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، أما المانعون فحججهم دائرة بين الضعف وعدم الصراحة، فمن حجج المانعين حديث: (علمت رجلاً القرآن فأهدى إلي قوساً، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخذتها أخذت قوساً من نار فرددتها) ، وهذا الحديث الراجح أنه ضعيف، وأكثر العلماء على تضعيفه.
الحديث الثاني للمانعين: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به) ، وهذا الحديث وإن كان حسن الإسناد إلا أنه ليس بصريح، فالأكل بالقرآن له وجوه مشروعة، ووجوه غير مشروعة، ولو كان على عمومه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقسموا واضربوا لي معكم بسهم) ، فتبين بحديث (اقسموا واضربوا لي معكم بسهم) ، أن قوله: (ولا تأكلوا به) ، محمول على شيءٍ خاص، وهو أن تبدل حرامه حلالاً رغبة في الأكل به كما قال الله سبحانه عن اليهود: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:174] ، أو الابتداع في هذا القرآن كالذي يُفعل في بعض المناسبات التي لم يُشرع فيها أن يذكر الله سبحانه بهذا النحو الذي يفعلونه، فهذه أقوى حجج القائلين بالمنع والجمهور على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
وطائفة توسطت في الباب وقالت: إن اشترط المعلم فاشتراطه غير جائز، وإن لم يشترط فلا بأس بذلك، وطائفة أخرى قالت بالتفصيل: إن كان التعليم فرض عين -أي أنه يعلم الناس الفاتحة من أجل أن يصلوا بها ويتعبدوا ربهم- فليس له أن يطالب بأجرٍ على تعليمهم، أما إذا كان متفرغاً للتعليم فلا بأس، لكن جمهور أهل العلم على مشروعية أخذ الأجرة على تعليم القرآن مستدلين بحديث: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) .(42/34)
تفسير سورة القمر [2]
قص الله في كتابه قصصاً لأنبيائه ورسله، وما عانوه من آلام وشدة في سبيل تبليغ دين الله تعالى، وذكر في كتابه الدعوات التي ادعاها الرسل على أقوامهم لما لم يستجيبوا لهم، ووصف العذاب الذي عذبهم به؛ كل هذا من أجل أن يتسلى النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم بمصاب أولئك عن مصيبتهم، ولتكون عبرة يعتبرها الطغاة من بعدهم.(43/1)
قصة قوم نوح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:9-10] .(43/2)
يسر ألفاظ القرآن وسهولة عبارات الشرع
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، وهذا كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: (إن كثيراً من آي الكتاب العزيز غني بذاته عن التأويل) ، كقول الله سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وكقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] ، وقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] ، كل هذه آيات لا تحتاج إلى كبير تأويل ولا إلى كبير تفسير، فهي مفهومة يفهمها العرب إذ هي لغتهم، فكثير من آي الكتاب العزيز غني بذاته عن التأويل، وينبغي للخطيب وللمعلم وللمذكر أن يذكر الناس بالسهل اليسير، ولا يتعمد الإتيان بألفاظ يفكر فيها أياماً حتى يُخرجها للناس، ولا تخرج من قلبه بل تخرج من لسانه، ثم الناس لا يفهمونها ولا يفقهونها، فالفقيه حق الفقيه والرباني كل الرباني هو الذي يقدم للناس مادة علمية سهلة تُفهم، ولذلك ترى مقالات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست كمقالات غيره، مقالات النبي صلى الله عليه وسلم مقالاتٌ سهلة ويسيرة ومفهومة، (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ، (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ، كلام سهل ويسير ومفهوم.
أما هؤلاء الذين يتشدقون في خطبهم ويأتون بغريب الألفاظ حباً في ثناء الناس عليهم، فإنهم مذمومون من جملة من الوجوه: الوجه الأول: إن قصدوا الرياء فعملهم حابط، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله سبحانه: من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) .
الوجه الثاني: أنهم مبتعدون عن قول الله سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، ومبتعدون عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث: أنهم واقعون تحت طائلة السجع المذموم الذي حذر منه ابن عباس وغيره، فقد قال ابن عباس لبعض التابعين: (وانظر إلى السجع من الدعاء فاجتنبه؛ فإني عهدت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك) .
أما التكلف الممقوت، وتمكث شهراً تفكر في بيت شعر، أو يوماً تفكر في قافية توافق قافيتك، أو تأتي بأسلوب صعب شاق على الناس، فسعيك غير مشكور، وعملك غير محمود، والسهولة كل السهولة واليسر كل اليسر في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلما دخلت إلى أقوال علم الكلام ازددت بعداً عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إن هذا التعقيد الزائد لا معنى له ولا حاجة.
وتوجد كتب أُثني عليها، وهي في الحقيقة جدير بها أن يثنى عليها من باب تأصيلها للعقائد، وتوضيحها للمناهج؛ ككتاب العقيدة الطحاوية وشرحها، لكن شابتها الألفاظ المعقدة زائدة التعقيد التي تجعلك تتهم نفسك عند قراءتها، ولو كان الكاتب قد أوجز وعبر بأساليب سهلة مفهومة لكان قد اجتمع إليه الحسن إلى الحسن، ولكنها تعقيدات في الألفاظ، حتى وأنت تقرأ -أيها الذكي- قد تتهم نفسك لعدم فهم هذه الألفاظ، وهذا الشيء أيضاً شاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في أجزائها الأول، فهي أجزاء حملت تعقيداً وألفاظاً معقدة كان من الأولى أن ينقى الكتاب منها، إلا أنها لما كانت في معرض الرد على أهل الكلام أُبيح له ذلك واستجاز ذلك رحمه الله تعالى، فلا تتهم نفسك أبداً وأنت تقرأ مثل هذه المقالات، فالعيب ليس فيك، إنما العيب في الذي لم يفهمك مراده، ولم يفهمك مراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الباب.
وعلى هذه المسائل فلتقس الأمور، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، أي: هل من معتبِر؟(43/3)
حكم زيارة ديار القوم الكافرين
فلو قلنا: إن المراد من هذا كله تذكير الناس بمصارع الظالمين والطغاة، وبإنجاء الله للمؤمنين؛ فحينئذٍ يوجَّه سؤال ويُطرح: هل لنا حينئذٍ أن نزور مصارع القوم الظالمين بقصد الاعتبار والاتعاظ؟ يعني: إذا علمنا مثلاً أن قوماً ما أهلكهم الله، فهل لنا أن نزورهم؟ ومن ثم تأتي مسألة زيارة الأهرامات وغيرها من آثار أهل الظلم والكفر والفراعنة، هل تُشرع الزيارة للاتعاظ والاعتبار أم أنها من أصلها لا معنى لها؟ القائل بالجواز يستدل ويبني قوله على أمور، منها: قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم:42] ، وكما قال سبحانه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] ، {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} [القمر:15] إلى غير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالسير في الأرض للاعتبار والادكار.
ولقائل آخر أن يمنع مستدلاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه لأصحابه لما مر بديار ثمود: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم) ، فهذا الحديث يمنع من الدخول عليهم بقصد النظر، إنما فقط يجوز الدخول عليهم مع الحالة المصاحبة لك من الخوف والبكاء أو التباكي، وللاتعاظ والاعتبار، فيقال: إن الأصل هو المنع، إلا إذا كنت باكياً كما أشار إليه حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا وجهٌ آخر أيضاً وهو قويٌ، والمسألة لا تخلو من الأخذ والرد، لكن الذي يذهب فقط للإعجاب بحضارة الكفار الفراعنة، ثم يرجع معجباً بهم، ومتغنياً بتراثهم، فهذا يُخشى عليه أن يلحقه -والعياذ بالله- شعبة من النفاق، أو شعبة من محبة الكفر والكافرين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال سبحانه: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:15] ، أي: فهل من متعظ؟ وهل من معتبر؟(43/4)
الاعتبار بهلاك الأمم
ثم يقول سبحانه: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} [القمر:15] ، أي: عبرة وعظة يُعتبر بها ويدَّكر، ودلالة وعلامة على قدرتنا على إنجاء أوليائنا وإغراق أعدائنا.
قال فريق من أهل العلم: إن السفينة استمرت على جبل الجودي بالهند لقرون طويلة، بل لآلاف السنين حتى يعتبر بها المعتبرون ويدَّكر بها المدكرون، وقد تقدم شيءٌ من الحديث في هذا الباب، ألا وهو: باب ترك شيءٍ للاتعاظ وللاعتبار، فالله جل ذكره قال في شأن فرعون: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92] ، فجعل الله سبحانه جسد فرعون آية ودلالة على إغراق كل ظالم، وإهلاك كل طاغية؛ فجسد فرعون تُرِك آية، وكذلك سفينة نوح تُرِكت آية، وكذلك مدائن قوم لوط كما قال الله عنها: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] ، وديار ثمود كما قال سبحانه: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر:79] أي: بطريقٍ واضح، يمر عليهما المارة أثناء أسفارهم، وأثناء ذهابهم وإيابهم.(43/5)
نصرة الله لأنبيائه وأوليائه
قال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] ، دعوة موجزة لكنها صدرت من مظلوم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إياك ودعوة المظلوم! فإنها ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعها الله سبحانه فوق الغمام، ويقول: بعزتي! لأنصرنك ولو بعد حين) ، فليحذر الشخص دعوة مظلوم قد ظلمه، فإن هذه الدعوة تطاردك ولو بعد زمن طويل، وتلاحقك، وتنزل بك فجأة وعلى غرة، فليؤد كل شخص المظالم إلى أهلها.
قال سبحانه: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11-12] ، تصوير بليغ: تُفتح أبواب السماء بماءٍ منهمر، والأرض تفجر عيوناً، فيلتقي الماء على أمرٍ قد قُدِر، ماءٌ يغطي أعالي الجبال، كما قال نوح لولده إذ قال له: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] ، فالذي ينزل الماء هو الله، والذي يفجر الأرض عيوناً هو الله سبحانه، والذي يسخر السحب ويسيرها هو الله، والذي يفجر الأرضين هو الله سبحانه وتعالى، فليكن الملتجأ إليه دائماً.
قال الله سبحانه: {وَحَمَلْنَاهُ} [القمر:13] أي: حملنا نوحاً عليه الصلاة والسلام ومن معه كما في الآية الأخرى، {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء:119] .
قال سبحانه: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13] هي: السفينة، وهي: الفلك، وهي الجارية، فقد أُطلِق عليها كل ذلك، وأُطلِق عليها: {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13] ، وأُطلِق عليها: الفلك المشحون، أي: المملوء، من قولهم: شحنتُ الباخرة، أو شُحِنت الباخرة، وأُطلِق عليها: الجارية لقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] ، والفلك كما في قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37] .
قال سبحانه وتعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] قال كثير من المفسرين: أي تجري على مرأى منا، وبحفظنا وبرعايتنا لها، كما قال الله سبحانه وتعالى لموسى صلى الله عليه وسلم: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] ، وكما قال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] ، فقوله سبحانه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ، {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، و {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} كل ذلك كقول الشخص -مع ملاحظة الفارق- في الحياة الدنيا: ابنك في عيني، أي: أنا أحفظه وأرعاه لك بإذن الله فاطمئن عليه.
فالله سبحانه وتعالى يقول: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] ، أي: بحفظنا وبرعايتنا.
{جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:14] ، والجزاء هنا بمعنى: الثواب، والجزاء أحياناً يطلق بمعنى: العقاب، أي: إكراماً منا لمن كان كَفَر به قومه وهو نوح صلى الله عليه وسلم.(43/6)
ما رمى أعداء الأنبياء به رسلهم
(وَقَالُوا) أي: عن نوح صلى الله عليه وسلم (مجنون) ، وهي مقولة يوسم بها كل من سلك طريقه إلى الله سبحانه، وكل من وحّد الله ودعا إليه وسلك سبيله، وسلك سنن رسله عليهم الصلاة والسلام، يُتهم بالتخلف العقلي وبالجنون، وفي الوقت ذاته يصفون أنفسهم بالتقدم وبالرقي، ويصفون مخالفيهم بالتأخر والرجعية، وخفي على هؤلاء أن التقدم هو التقدم الذي يقربنا إلى الله سبحانه، والتخلف هو التخلف الذي يصدنا عن طريق الله وعن سنة رسوله، ويؤخرنا عنها، وأن الرقي هو الرقي في درجات الجنان، وأن الهبوط والانحدار هو الهبوط إلى الجحيم، والعياذ بالله! قال سبحانه: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] أي: وزجر نوحٌ صلى الله عليه وسلم من قومه أبلغ الزجر، وانتهروه غاية الانتهار، وأغروا به السفهاء، وسلطوا عليه الحمقى والصبيان، يرمونه بالبعر، ويضربونه بالأحجار صلى الله عليه وسلم.(43/7)
مواساة الله لنبيه بذكر قصص الأنبياء
الآية في مطلعها تحمل مواساة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له وتصبيراً، فإن الشخص إذا ابتلي بابتلاء من الابتلاءات وشاركه فيه غيره هانت عليه بلواه، وهانت عليه مصيبته، كما قالت الخنساء وهي ترثي أخاها صخراً: فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي ولا يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس معهم بالتأسي ولذلك كثرت المواساة، وكثر التذكير بأخبار الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لتصبيره، فقال الله له: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} [الأنعام:34] ، وفي الآية الأخرى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة عند موته: (يا فاطمة! إنه قد حل بأبيك ما ليس الله بتارك منه أحداً، ألا اصبري فالذي نزل بأبيك لن ينجو منه أحد) ، وقال الله سبحانه وتعالى: {أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] ، فكل هذه من أنواع المواساة التي يواسي ربنا سبحانه وتعالى بها عباده ورسله، ويصبِّرهم الله سبحانه وتعالى بها.
فلذلك شرعت أشياء لخدمة هذا الأصل، من عيادات المرضى، واتباع الجنائز، فإذا فقئت عينك مثلاً، ودخلت المستشفى وأنت تتألم، ثم دخل بعدك رجل فقئت عيناه؛ تهون عليك بلواك.
وإذا دخلت وقد كُسرت رجلك، ورأيت رجلاً كسرت رجلاه، وبُتِرت يداه، هانت عليك مصائبك.
هذا منهج من مناهج التصبير، ألا وهو المواساة، وكان الرسول يصبر نفسه بهذا المبدأ، فلما أوذي عليه الصلاة والسلام قال: (رحم الله أخي موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) .
وهذا يعطينا فقهاً للتعامل مع الناس، ألا وهو مواساة الناس بمصائب غيرهم، فإذا جاءك شخص يشكو من مرضٍ متألماً منه، فاحك له قصصاً تصبره بها، وذكِّره بعبر فيها أقوام قد أُصيبوا بأشد وأشد من الذي ابتلي به، فحينئذٍ تهون عليه تلك المصيبة التي هو فيها، ويحمد الله سبحانه وتعالى على ما أصابه.
وهذا مضمن في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر:9] أي: كذبوا عبدنا نوحاً عليه الصلاة والسلام، فكما أن محمداً صلى الله عليه وسلم كُذِّب، فقد كُذِّب أيضاً نوح، وكما أن المشركين كذّبوا محمداً فقبلهم أهل شرك كذبوا نوحاً صلى الله عليه وسلم.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر:9] فيه إشعار بالعبودية لله.(43/8)
قصة قوم عاد
ثم قال سبحانه: (كَذَّبَتْ عَادٌ) تلك القبيلة العاتية الظالمة {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:18] أي: كيف كان عذابي لهم؟ وكيف كان إنذاري تلك القبيلة العاتية؟(43/9)
إهلاك الله لعاد لما كذبوا الرسل
قال الله سبحانه وتعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:18] ، أي: ونذري، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر:19] ، فالعذاب الذي أُهلكت به قبيلة عاد الريح كما وصفها ربنا بقوله: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات:41] ، أي: التي لا فائدة فيها، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم: الدبور كما في الحديث: (نصرت بالصبا) أي: الريح التي سلطها الله على الأحزاب هي: ريح الصبا: (وأُهلكت عاد بالدبور) ، فاسمها: الدبور، وصفتها: عقيم كما سمعتم في قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:41-42] .
وهي القبيلة العاتية التي قالت عن نفسها: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] ، فكانت في منتهى القوة، وكانوا في منتهى الطول، وذكروا في تراجمهم أشياء تدل على قوتهم، وإن كانت الأسانيد ليست بثابتة، لكن جاءت بها جملة أقوال للمفسرين منها: أن أحدهم كان يحمل الصخرة بيديه ويلقيها على القوم فيهلكهم والعياذ بالله، فقالوا مفتخرين منكرين لنعمة الله عليهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] ، قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:15-16] .
قال سبحانه: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} شديدة البرودة محرقة {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر:19] ، قال فريق من أهل العلم: كيف يوسم اليوم بأنه يوم نحس، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله: لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب ليله ونهاره) ؟ فكيف وُصِفت الأيام هنا بأنها أيام نحس وفي الآية الأخرى {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت:16] ، وفي الحديث القدسي: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار؟) .
فالإجابة من وجوه: الوجه الأول: أن الذي وصف الأيام بأنها أيام نحس هو الله سبحانه وتعالى، فلا راد لوصفه، ولا راد لحكمه، ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني: أن النهي عن سب الدهر إذا كنت تعتقد أن الدهر هو المتصرف في الأمور، وأن الدهر هو الذي كان سبباً في تسليط هذه الأشياء عليك، لكن إذا رددت الأمر لله سبحانه وتعالى فلا جناح عليك.
وهذا كأوجه الجمع التي وردت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة) ، وبين حديث الرسول: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) ، فمن أوجه الجمع بين هذه الأشياء: أن تعتقد أن العدوى مؤثرة بذاتها، وتجعل ذلك بمعزل عن إرادة الله سبحانه وتعالى، فنفيت العدوى بهذا الاعتبار، وقال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) على أنه من باب الأخذ بالأسباب.
قال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:19-20] ، وقوله: (في يوم نحس) : يدل على أنها كانت أياماً وليست بيوم، كما قال: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7] ، وكذلك قال تعالى: ((فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ)) [فصلت:16] ، فيوم في هذه الآية اسم جنس، قال تعالى: (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ) أي: ترفعهم وتنزعهم، وكأنهم كانوا مثبتين في الأرض وهي تنزعهم من جذورهم، {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:20-22] .(43/10)
المقصود بقوم عاد عند العلماء
وللعلماء في عاد قولان مشهوران: أحدهما: أن قبيلة عاد قبيلتان: عاد الأولى، وعاد الآخرة؛ لقوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم:50] ، وقالوا: إن عاداً الآخرة هي عاد التي نزلت الأحقاف، ومن أهل العلم من قال: إنها كلها قبيلة واحدة لكن وُسِمت بأنها الأولى لتقدم زمنها، وهي التي نزلت في الأحقاف، وقال: سبحانه في شأنها: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الأحقاف:21] .(43/11)
قصة قوم ثمود
ثم يذكر الله سبحانه قوماً آخرين عتوا وطغوا وبغوا، وهم قبيلة ثمود، تلك القبيلة الظالمة العاتية، هي الأخرى قال سبحانه في شأنها: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] ، قال الله جل ذكره: (فَهَدَيْنَاهُمْ) ، أي: دللناهم على طريق الخير لكنهم استحبوا العمى على الهدى.
قال الله جل ذكره في كتابه الكريم: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر:23] ، وقد كذبوا بنذير واحد وهو صالح صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت الإجابة على هذا الإشكال: بأن الذي كذب بنذير واحد أو برسول واحد فقد كذب بجميع الرسل وبجميع النذر؛ لأن رسالتهم واحدة، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ، فمن كذب واحداً منهم فقد كذب جميعهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الأنبياء إخوة لعلات؛ دينهم واحد، وأمهاتههم شتى) ، يعني: إخوة من الأب، فالأب المراد به هنا التوحيد الذي دعت إليه كل الرسل، فمن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع.(43/12)
إهلاك الله لثمود لما عقروا الناقة
قال تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:30-31] ، ومن شأنهم: أن الله سبحانه وتعالى أمهلهم ثلاثة أيام بعد قتل هذه الناقة، لقول نبي الله صالح لهم: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] ، وقال الله جل ذكره في هذه الآيات: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) ، والمحتظِر: هو الرجل الذي يصنع الحظائر، والحظيرة كانت تصنع من عيدان الحطب، فيتساقط منها ورق ينفضه الرجل عن العود الذي ينشئ به الحظيرة؛ فيداس ويمتهن وتأكله البهائم، فهكذا أصبحت قبيلة ثمود كما وصفها ربنا سبحانه وتعالى كهشيم المحتظِر، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:32] .(43/13)
تكذيب ثمود بآية صالح عليه السلام
قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [القمر:23-27] ، والناقة قد طلبوها من نبيهم صالح صلى الله عليه وسلم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء:59] ، طلبت قبيلة ثمود من نبيها صالح صلى الله عليه وسلم أن يخرج لهم آية ألا وهي: أن يخرج لهم ناقة عشراء من بطن هذه الصخرة يحلبون لبنها فيكفيهم جميعاً، فدعا صالح صلى الله عليه وسلم ربه فخرجت ناقة عشراء من بطن صخرة كبيرة، خرجت ناقة لا مثيل لها في العظم وحسن الخَلْق، وتقاسمت قبيلة ثمود، ماء البئر مع هذه الناقة، يوم تشرب قبيلة ثمود ماء البئر، وفي اليوم التالي تشرب لبن الناقة، والناقة تشرب من البئر، واليوم الذي لا تشرب فيه قبيلة ثمود من البئر تشرب لبن الناقة، فتكفيهم جميعاً، فسئمت القبيلة هذا! وتمالئوا على إبعاد الناقة عن البئر، وأرادوا الاستئثار بماء البئر؛ فتمالئوا على قتل الناقة وعقرها، واتفقوا كلهم على ذلك، فقال لهم رسول الله صالح عليه الصلاة والسلام محذراً إياهم من مغبة هذا الأمر ومن مغبة الإقدام عليه: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس:13] أي: احذروا الاقتراب من ناقة الله، {وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13] أي: احذروا أيضاً الاقتراب من سقياها، {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس:14] دمّر الله عليهم بيوتهم بسبب هذا الذنب، فسوى بلادهم ودمرها وأبادها، {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:15] أي: لا يخاف ربنا العقوبة من أحد، ولا عاقبة ما صنع بهم، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في شأن هؤلاء القوم: (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) نبتليهم بها (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر:28] أي: يوم لهم ويوم للناقة {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر:28] ، ثم قال: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} [القمر:29] دعت قبيلة ثمود رجلاً منهم وهو أشقى هذه القبيلة كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم، انبعث لها رجل شرير عارم في قومه وهو أشد الرجال منعة في قبيلة ثمود، قال المفسرون: اسمه قدار بن سالف، وحرضوه على قتل هذه الناقة، قال الله سبحانه وتعالى (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى) وللعلماء قولان في قوله تعالى: (فتعاطى) ، أحدهما: تعاطى السيف الذي طعن به الناقة، والثاني: تعاطى كأساً من الخمر قبل أن يقدم على قتلها، {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر:29] أي: فأقدم على الناقة فعقرها.(43/14)
الأسئلة(43/15)
استحباب الزواج المبكر
السؤال
هناك فتاة منقبة، وعندما يتقدم لها رجل للزواج يوافق على كل شيء، ولكن عندما يعلم أن أمها مريضة بفشل كلوي يتخيل أن المرض معدي، فادع الله أن يرزقها بشخص يوافق، وقد قرأت كتاباً يقول: إن التفكير في الزواج حجاب بين الله وبين العبد؟
الجواب
ليس حجاباً بين الله وبين العبد أبداً، في الحقيقة ينبغي على الدعاة أن يحثوا الناس على الزواج المبكر، ويحثوا الناس على تعدد الزوجات من هذه الحالات، وإن كان البعض يحزن لكن ديننا فيه علاج لكل هذه المشاكل.
ربما ابنتك في ثالث ثانوي، وتحمل همها، المدرس يخلو بها أو لا؟ الاختلاط، زَوِّجها وانتهِي، وكم من شخص يرغب في الزواج بهذه التي هي في سنها، وديننا يشجع على ذلك، وأنت تقول: أنا لن أوظف ابنتي، ولن أجعلها تعمل، فلماذا إذاً تجعلها تدرس أربع سنوات، ثم تتخرج ولن تعمل؟!(43/16)
حكم الزواج بدون إشهار
السؤال
رجل تزوج امرأة زواجاً شرعياً، لكنه لم يعلم الناس، والأمر سري، ويخفيه عن كثير من الناس، هل يجوز هذا الزواج؟
الجواب
إذا كان بولي وشاهدي عدل فالزواج صحيح، وإذا كان بدون ولي فالزواج باطل، لكن يستحب له إذا كان صحيحاً على النحو الذي ذكرنا أن يبادر بالإعلان، ويُخبَر ولا يخفي، والله أعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.(43/17)
إسناد حديث: (لا تؤمنوا حتى تراحموا)
السؤال
ما صحة حديث: (لا تؤمنوا حتى تراحموا) ؟
الجواب
أعرف أن في إسناده كلاماً.(43/18)
كيفية تدريس منهج التاريخ للأمم الكافرة
السؤال
أنا مدرس تاريخ في الثانوية، والمنهج الذي أدرسه خاص بحضارة الفراعنة، فكيف أصنع؟
الجواب
اشرح الدرس، وبين لهم أن الفراعنة كفار.(43/19)
حكم النظر إلى عورة الطفل الصغير
السؤال
هل يجوز أن تظهر عورة الصبيان الصغار، والبيت به فتيات مراهقات فينظفون للطفل مكان البول ونحو ذلك؟
الجواب
الصبي الصغير ابن سنة أو سنتين جرى العمل على عهد رسول الله أن الأطفال أمهاتهم وأخواتهم ينظفن لهم، فما ورد هذا التشديد الذي يريده الأخ السائل، فالأمر قريب، والطفل الذي لا يُشتهى ابن سنة ابن سنتين إذا انكشفت عورته لا بأس بذلك، ولا نشق على الطفل نقول واجب عليك أن تستتر؛ لأنه ليس مخاطباً بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.(43/20)
حكم استخدام وسائل منع الحمل للحاجة
السؤال
زوجة حالتها الصحية ضعيفة، وأنجبت طفلاً وازدادت حالتها سوءاً أثناء الرضاعة، فهل تستخدم وسيلة لمنع الحمل خلال مدة الرضاعة؟
الجواب
لها ذلك، إذا لم تكن الوسيلة مضرة.(43/21)
حكم زواج المسيار
السؤال
ما هو رأي الشرع بالنسبة للزواج المسمى بالمسيار؟ وهل هو زواج متعة لبعض النساء؟
الجواب
أما تسميته بالمسيار فهذه تسمية لا وجه لها، ونحن نريد له اسماً كان على عهد السلف الصالح حتى نناقشه مناقشة موضوعية بناءً على أقوال علماء السلف، أعرف أنه انتشر في السعودية في الفترة الأخيرة، وكان البعض أطلق عليه زواج المسيار، ونحن لا نوافق على هذه التسمية من الأصل، فليصاغ السؤال صيغة أسهل وأقرب للفهم من السائل؟ وممكن أن يعرف بالتالي: امرأة تعرض نفسها على رجل ليتزوجها دون أن تفرض عليه مهراً، ولا نفقات ولا قسمة.
نعيد السؤال مرة أخرى: امرأة أرادت أن تتزوج رجلاً فعرضت عليه نفسها وقالت له: تزوجني، قال: أنا فقير، قالت: سامحتك في المهر، قال: لا أستطيع أن أنفق عليك، قالت: أنا ثرية أنفق على نفسي.
قال: لا أستطيع أن آتيك في كل ليلة فأنا متزوج ومن بلد بعيدة، قالت: أنا أسامحك، المتيسر من وقتك قبلته، بهذه الصورة التي ذكرت، مَن عنده شيءٌ يمنع من مثل هذه الصورة؟ امرأة تنازلت عن صداقها، هل لتنازلها عن الصداق وجه شرعي أو ليس له وجه؟ قال الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] ، إذاً: سقطت هذه الجزئية، وقد تزوجت أم سليم على إسلام أبي طلحة، فهذه تزوجت لإعفاف نفسها.
هذا شيء، الشيء الثاني مسألة النفقة: باتفاق العلماء أنه يجب على الزوج أن ينفق على زوجته، قالت: أنا أعرف، إلا أنني متنازلة أيضاً عن النفقة، ولنا من السلف من سلك هذا، قالت امرأة لأحد أولاد أبي طالب أظنه عقيل بن أبي طالب أو من آل العباس: أنفق عليك، ولا تتزوج عليّ، قال: قد فعلت، قالت: وأنا قد فعلت.
بقيت الثالثة وهي مسألة القسمة: هذه رضيت بساعة، ويجوز لها أن تسقط كل أيامها كـ سودة بنت زمعة فإنها أسقطت أيامها لرسول الله عليه الصلاة والسلام، لا تريد ساعة ولا ساعتين، وقالت: يومي لـ عائشة يا رسول الله! إن جاءها بعد ذلك فهو فضْل منه.
بعد هذا التقنين أو التقعيد الذي فحواه: أنه ليس هناك نهي، يبدأ النظر في مسألة المفاسد والمصالح، يعني إذا كان هذا هو الإطار الكلي للفتيا، فما هي المصلحة المترتبة من وراء هذا الزواج أو المفسدة المترتبة من وراء هذا الزواج.
يعني: إذا كانت القواعد الكلية تفيد المشروعية، إذاً: نبدأ في النظر مرة ثانية إلى المفاسد والمصالح، فمن المصالح التي قد ترد في هذا الباب قول القائل: أنا أذهب لأندونيسيا، وهناك نساء متبرجات تبرجاً مزرياً، وأبيت في الفندق، وفي الليلة الواحدة تطرق على باب الفندق مائة امرأة بكل أنواع الجمال الذي تريد، فأريد أن أُعِف نفسي، وأنا أبقى مدة للاستيراد أو التصدير فأتزوج امرأة على كتاب الله وعلى سنة رسول الله، هذا لأنني أعطيها صداقاً، وأعف نفسي بها، وهي تفرح بالصداق، حتى إنها تفرح بالمبلغ الذي هو بالنسبة لأهل بلادها طائل، وأبقى على هذه الحال، وقد أُرزق منها بولد، وقد لا أُرزق منها بولد، وقد أطلقها، وقد لا أطلقها، لكن في نيتي أنني سأفارقها ولم أُبرزه، هل أحاسب عليه شرعاً؟ سؤال: شخص تزوج امرأة وفي نيته الفراق، لكن ما قصد بالزواج أنه يدمرها، لكن قصد أن يتعفف، قال: سأتزوج وأعطيها صداقاً ثم يمكن أن أطلقها -لم يقل باللسان بل في ذهنه- وإن كانت جميلة بقيت، وإن كانت العكس أفارقها، هذا الزواج من أصله ينعقد أو لا ينعقد؟ الإمام الشافعي يرى أن هذا الزواج ينعقد ولا غبار عليه، استدلالاً بقصة ذي الرقعتين التي وردت بإسنادين كلاهما مرسل، كما عند الشافعي في الأم: أن رجلاً قرشياً كانت تحته امرأة من قريش، فكان يؤذيها ويضربها، فطلقها ثلاث تطليقات، فتعسر الأمر وانتهى، فقالوا: نبحث عن محلل يحلل هذه المرأة لزوجها، فبحثوا فما وجدوا أحداً يضمنون أنه يتزوج ويطلق إلا رجلاً كان يلبس ثياباً مرقعة ويقم المسجد -يكنس الجامع- فذهبت إليه امرأة وسيطة، وقالت: هل لك أن تبيت الليلة مع امرأة تأتيها وتجامعها ونعطيك ثوبين جميلين وتطلقها في الصباح؟ قال: لا حرج، فدخل بها وبات معها، فقالت له في الليل لما أعجبها وأعجبته: إنهم سيطرقون علينا الباب الفجر ويقولون: اخرج وطلِّق، فقل لهم: لن أطلق، واذهب إلى أمير المؤمنين عمر، فقاموا في الفجر، وضربوا الباب، فقال: ما أنا بخارج، هي زوجتي، قالوا: طلق، قال: ما أنا بمطلق، فارتفع الأمر إلى أمير المؤمنين عمر، فأمضى الزواج، مع أنه دخل وفي نيته أن يطلق في الصباح، فأمضى الزواج وجلد المرأة التي كانت وسيطة تعزيراً لها، وأمضى الزواج واستدل بها الشافعي على أن الشخص إذا تزوج وفي نيته أن يطلق أن الزواج صحيح، وقال: ربما نيته تتغير وهو داخل ينوي الطلاق، فقد ينوي الإمساك بعد ذلك، واستدل أيضاً بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) فحديث النفس لا يؤاخذ به أحد.
فالسؤال المطروح: ما المفسدة المترتبة على زواج المسيار؟ هذا له شروط غير شروط زواج المتعة؛ لأنه لابد في زواج المسيار من الولي، وهو أبوها أو أخوها الذي يزوجها، وهنا تنازلت عن الصداق، وزواج المتعة تأخذ المرأة فيه الصداق.
وإذا وجد الأطفال وجب على الأب شرعاً ما يجب عليه تجاه أي طفل، وهذه مسألة سابقة لأوانها، أليس الخليل إبراهيم عليه السلام كان تاركاً لإسماعيل وسارة في مكة، وهو وزوجته في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، وكان يذهب لتفقده بمكة.
يعني أنت الآن متزوج واحدة مستقرة هنا، وجاءت أخرى قالت: أنا يتيمة أدركني، تزوجني بأي طريقة، أنقذني من الذي أنا فيه، تزوجتها وجعلتها في شقتها التي هي فيها، وتذهب إليها وقت الفراغ أيحرم؟ إذاً: هو ليس بزواج متعة؛ لأنه بولي وشهود، وتعتد بعده العدة الشرعية، وإذا رُزق ولداً فهو ولده.
وهذه المسألة أول ما قرأتها، كنت مستنكراً لها أشد الاستنكار، ولما تقرأ أقوال الأئمة تجد الجمهور على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها) .
وكم من شخص يدخل بالمرأة، وفي نيته المعاشرة فيطلق في اليوم التالي، وكم من شخص يدخل وفي نيته الفراق ويمسك، ويحبها بعد ذلك، وتلتئم المعيشة.
إذاً: هل العقد صحيح؟ وهل الطلاق حرام؟ ليس حراماً، إذاً ما هو الإثم؟ ولماذا يبطل العقد؟ ما حددنا مدة، ولا أتينا بكلمة بها بمسحة من أثر المتعة.
وكما أن نية الطلاق موجودة فإن نية الإمساك موجودة، ثم أنت ما لك وللنية التي في الداخل، نحن قلنا: إن الطلاق غير محرم، وهناك توهمات أحياناً يتوهمها الشخص، أحياناً توجد مفاهيم استقرت وهي خطأ، واحد الآن زوجته تعيش معه في غاية الانضباط، ما عملت أي شيء خطأ، وزوجة جميلة وحسناء ورحيمة، فجأة قال: أنا لا أريدها، لماذا؟ قال: لا أريدها، أنتِ طالق، هل هو آثم؟ ليس آثماً، لكن هل هو أحسن؟ لا، ما أحسن، وليس هو بتصرف المحسنين، لكن التأثيم يحتاج إلى دليل؛ لأن الله قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231] .
ونكرر بأن التحديد بمدة لا يجوز؛ لأن هذا داخل في زواج المتعة، فإن قال: أتزوجك وأطلقك بعد ثلاثة أيام، لا يجوز أبداً.
وأنا أذكر مثالاً لكن مع الفارق الدقيق: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فبتَّ طلاقي، وإني تزوجت بعده بـ عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله! يا رسول الله ما معه إلا مثل هذه الهدبة، وأشارت إلى طرف من ثوبها، تعني أنه كذا وكذا.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك) ، فالمرأة تطلقت ثلاثاً من رفاعة، ودخلت على هذا الزوج الجديد عبد الرحمن بن الزبير وفي نيتها أن تفتعل أي مشكلة حتى تطلق وترجع إلى زوجها الأصلي، والرسول كان يبتسم وهي تحكي له، وسعيد بن خالد جالس فنهر وزجر هذه المرأة التي تجهر عند رسول الله بهذا، ولم يعجبه هذا الكلام، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يبتسم، هل قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: أنت آثمة؟ المرأة ليس بيدها من أمر النكاح شيء، لكن ممكن تفتعل مشكلة وتجعل عيشتك سوداء حتى تطلقها، لكن تحريم الزواج بناءً على نيتها المسبقة ليس فيه دليل على أنها آثمة، ولا أثمها الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا وصفها بأنها محلِّلة، وهي ليس لها من أمر عقد النكاح أي شيء، لكن إذا الزوج تزوجها بنية التحليل هو الذي يأثم، والمحلَّل ملعون، كما في حديث: (لعن الله المحلِّل والمحلَّل له) والملعون هو: المطرود من رحمة الله، والله أعلم.(43/22)
توجيه ما ورد عن أهل العلم من عبارات معقدة
السؤال
أريد أن توضح كيفية الكلام الذي ورد عن صاحب العقيدة الطحاوية والكلام الذي ورد عن شيخ الإسلام ابن تيمية؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فلا شك أن شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحب العقيدة الطحاوية من أئمة المسلمين في هذا الباب رحمهما الله تعالى، ولا يطعن فيهم أحد أبداً رحمة الله تعالى عليهم، لكن كان كلامنا على شدة الألفاظ التي نحتاج إلى تيسيرها، فهم كانوا يخاطبون قوماً يحتاج للحديث معهم إلى مثل هذا الأسلوب، لكن مرادنا أن الشراح الذين يشرحون هذه الكتب لا ينبغي أن يتقيدوا بالألفاظ التي وردت فيها، ولكن يبسطونها ويسهلونها للناس حتى تُفهم، ولا تنقل الألفاظ حرفياً، وأنت لا تفهم معناها.(43/23)
حكم الصلاة خلف من عرف منه المجاهرة بالمعاصي
السؤال
هل تصح الصلاة وراء إمام إذا كان معروفاً أنه منافق؟
الجواب
ماذا تقصد بقولك: معروف أنه منافق؟ ولماذا لا تصلي خلفه؟ إن كان به عيب ظاهر، فلينظر إلى هذا العيب، هل هذا العيب يستدعي ترك الصلاة خلفه أم لا يستدعي؟ وأخونا يذكر أنه يدخن السجائر علناً أمام كل الناس، وهؤلاء الصلاة وراءهم صحيحة، لكن إذا وُجِد رجل صالح يصلي بالناس أفضل منه فليصل الناس وراء الصالح، لكن إذا لم يوجد إلا الذي يدخن السجائر، وستصلي منفرداً إذا لم تصل خلفه، فصل خلفه فصلاتك صحيحة، وإثمه على نفسه.(43/24)
حكم عمل المرأة مندوبة مبيعات
السؤال
هل عمل المرأة مندوبة مبيعات حلال أم حرام؟
الجواب
المرأة التي تعمل مندوبة للمبيعات تعرض نفسها لفتن كبيرة، وتعرض غيرها أيضاً لفتن كبيرة؛ لأنها تخرج وتروج لسلعتها التي تبيعها؛ فالخروج من أصله لا يُشرع إلا للضرورة، قالت ابنتا العبد الصالح: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] ، ثم في خروجها خاصة لمثل هذا العمل التي تجابه فيه الرجال، وتواجه فيه الرجال، يستدعي الأمر منها أن تخضع بالقول أحياناً أو تبتسم في وجه العميل أحياناً حتى تروج لسلعتها، فذلك يجرها إلى مفسدة عظيمة، والله سبحانه أعلم.(43/25)
حكم الجنب إن اغتسل ولم ينو غسل الجنابة
السؤال
رجل اغتسل للجمعة وكان جنباً ولم ينو غسل الجنابة، ونسي وصلى، هل عليه غسل آخر؟
الجواب
الصلاة ما أجزأته، وعليه أن يغتسل غسلاً آخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) ، وهو ما قصد بغسله رفع الجنابة إنما نوى الاغتسال للتطهر، يعني: إذا نوى الاغتسال لرفع الجنابة فإنها ترتفع ويكون قد تطهر أيضاً، لكن التطهر لا يجزئه للصلاة، فيلزمه غسلٌ آخر، والله أعلم.
وإذا قلنا: إنه ما اغتسل وما زال جنباً، فإن النبي قال: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور) ، فإثم التخلف عن الجمعة لا يلحقه؛ لأنه اجتهد في المسألة أو نسي، لكن عليه أن يغتسل وعليه أن يعيد الصلاة، ويصليها ظهراً، وإن خرج الوقت.(43/26)
حكم نظر الرجل إلى الرجل وحدود العورة
السؤال
هل يجوز للرجل أن ينظر إلى عورة الرجل، أو أن تنظر المرأة إلى عورة المرأة مع الأخذ في الاعتبار أن عثمان دخل على الرسول صلى الله عليه وسلم فغطى النبي فخذه؟
الجواب
لا يجوز أن ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) ، لكن فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع عثمان في الفخذ ليس في العورة المغلظة، والخلاف قائم في الفخذ، هل الفخذ من العورة أو ليس من العورة؟ وردت أحاديث ثابتة صحيحة تفيد أن الفخذ ليس من العورة؛ إذ قد رأى أبو بكر فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورآه عمر، وكان النبي راكباً على فرس لـ أبي طلحة وحسر عن فخذه صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس، أما حديث: (الفخذ عورة) ، فقد تكلم فريق من العلماء في إسناده، وعلى فرض ثبوته، فقد جمع بعض العلماء بين الحديثين بوجوه من الجمع، فقال البخاري رحمه الله: حديث جرهد الذي هو: (الفخذ عورة) أحوط، وحديث أنس الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حسر عن فخذه أسند، يعني أقوى من ناحية الإسناد، فجعل حديث: (الفخذ عورة) من باب الاحتياط؛ لأنه يؤدي إلى انكشاف ما بعده.
وسلك ابن القيم رحمه الله مسلكاً آخر في الجمع، فقال ما حاصله: إن العورة عورتان، عورة مخففة وهي الفخذ، وعورة مغلظة وهما السوءتان.
وهذا قول له وجاهته، والله سبحانه وتعالى أعلم.(43/27)
تفسير سورة القمر [3]
ما زال الله تعالى يقص في كتابه مصارع الظالمين وإهلاك الطغاة والمتجبرين؛ عبرة لكل معتبر، وذكرى لكل مدكر يعلم بأن وعد الله حق، وأن وعده لأوليائه لا يتخلف، ثم يختم الله هذه السورة ببيان أن ما حدث من عذاب في الدنيا لأولئك الناس إنما هو بداية العذاب، وأن ما في الآخرة أشد وأبقى.(44/1)
قصة قوم لوط
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:33-34] .
لوط هو نبي الله صلى الله عليه وسلم الذي آمن بإبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ فمن ثمرات دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم نبي الله لوط عليه الصلاة والسلام، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] ، أُرسِل لوط صلى الله عليه وسلم إلى قوم يفعلون الخبائث المستبشعة، ألا وهي إتيان الذكران من العالمين! فحذرهم نبي الله لوط من مغبة فعلهم، ومن سوء عاقبتهم، فكان منهم ما قال الله سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ} [القمر:33] .(44/2)
العذاب الذي أهلك الله به قوم لوط
قال سبحانه: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً} [القمر:37-38] أي: في صبيحة اليوم الذي خرج فيه لوط عليه الصلاة والسلام صبحهم عذاب الله عز وجل، وقد ذكر الله صورة هذا العذاب في آيات أخر، قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] .
ثم قال الله: {عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:38] ما المراد بالعذاب المستقر؟ قال فريق من المفسرين: استقر بهم العذاب، ولم يُنزع عنهم ولم يرفع من يومها إلى أبد الآبدين، إلى يوم الدين، ويوم الدين أيضاً يعذبون، فاستقر عليهم العذاب -والعياذ بالله- لا يفارقهم من وقتها إلى أبد الآبدين، فهم مخلدون في جهنم، وقبل ذلك هم في قبورهم يعذبون، وعن الصراط ناكبون، وساقطون في الجحيم، فالعذاب استقر بهم حيث كانوا؛ عياذاً بالله سبحانه وتعالى من نقمته ومن عذابه! فهذا المراد بقوله سبحانه: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:38] ، أي: ملازم لهم لا يفارقهم، قد تقتل أنت في الدنيا لكن بعد القتل تستريح في القبر، ولكن أهل الكفر ليسوا كذلك، فإذا نزل بهم العذاب استمر بهم ولازمهم ولم يفارقهم بحال من الأحوال -والعياذ بالله- مثلاً: قتِل اليهودي كعب بن الأشرف، ولازمه العذاب في قبره وعند قتله إلى أبد الآبدين، ولا يأتي وقت إلا وهو أشد من الذي قبله، فعذاب القبر ينسيه عذاب القتل، وعذاب جهنم ينسيه عذاب القبر، فهكذا تكون الأمور، فهذا المعنى -والله أعلم- كما ذكره جمهور المفسرين في تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ) .
{فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:39-40] ، أي: سهلناه وبيناه لكم، فاقرءوا ما فيه، واتعظوا بأخبار هؤلاء الفسقة الظلمة واعتبروا بهم، فيا من سولت لك نفسك اقتراف الفواحش وارتكاب الآثام! انظر كيف فعل بقوم لوط! ويا من سولت لك نفسك الكبر والطغيان! انظر كيف كان عاقبة قوم عاد! ويا من سولت لك حضارتك ومدنيتك التعالي على الله والكبر على العباد! انظر إلى ثمود الذين جابوا الصخر بالواد! فهؤلاء ذكرهم الله سبحانه وقص علينا من أنبائهم ومن أخبارهم حتى نتعظ، فعدة آيات يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:40] أي: بينا في هذا الكتاب العظيم بأسلوب سهل ميسر مفهوم عاقبة هؤلاء الظلمة الذين حادوا عن طريق الله وعن هدي رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ومن ثم كرر قوله سبحانه: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) ، ثم يستحث الله العباد فيقول: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:40] ، كما يستحثهم في آيات أخر: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] ، وكما ذكر في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان} [الرحمن:13] .(44/3)
حكم من فعل فعل قوم لوط
قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا) هنا يرد مبحث سريع في عقوبة من فعل فعل قوم لوط.
قال فريق من أهل العلم: عقوبته ما ذُكِر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم المروي من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتموه يأتي البهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) و: (ومن وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) ، فذهب فريق من أهل العلم إلى القول بمقتضى هذا الحديث، ألا وهو: أن من فعل فعل قوم لوط حده القتل، الفاعل والمفعول به سواء، ومحله في المفعول إذا كان مطاوعاً، أما إذا كان مكرهاً فللمكره أحكام أخرى، إلا أن بعض أهل العلم قالوا بغير هذا القول، وطعنوا في ثبوت هذا الحديث، فقالوا: هذا الحديث وإن كان من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب -وهو حسن الحديث في الجملة- إلا أن هذا الحديث من الأحاديث التي استنكرت عليه، فقد اتهمه بعض العلماء بهذا الحديث، وذكر فريق من أهل العلم كـ ابن عدي هذا الحديث في كتابه الكامل في الضعفاء، وعموم من ترجم لـ عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ذكروا هذا الحديث كأنهم يشيرون إلى أنه من مناكيره، فلما حكموا عليه بالضعف اتجه لهم
السؤال
ماذا نصنع مع من فعل فعل قوم لوط؟ قالوا: نقيسه على الزاني، إن كان ثيباً رُجِم، وإن كان بكراً جلد وغرِّب عاماً؛ شأنه شأن الزاني.
وقال آخرون: نفعل به ما ذُكِر في كتاب الله سبحانه، ألا وهو أنه يُلقى من أعلى مكان في المدينة ثم يُتبع بالحجارة؛ لأن الله قال: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] ، فهي ثلاثة أقوال في حكم من فعل فعل قوم لوط.
ولا شك أن المخاطب بهذه الأشياء هو إمام المسلمين، فليس من حقك أنت كأحد أفراد الرعية أن تقيم هذا الحد على شخص فعل هذا الفعل.(44/4)
المراد بآل لوط في القرآن
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ) ، قال العلماء: المراد بآل لوط هنا بنات لوط، وهنا نورد بحثاً يتعلق بالآل من هم؟ وهل الزوجة تدخل في الآل أو لا تدخل؟ فابتداءً زوجة لوط يقيناً لا تدخل في قوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34] ، لا تدخل يقيناً في الآل الذين أنجاهم الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في شأن امرأة لوط وامرأة نوح: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] ، فامرأة لوط يقيناً لا تدخل في الآل الذين أنجاهم الله سبحانه والذين ذكرهم الله سبحانه في قوله: (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ) .
يبقى بعد ذلك من المراد بالآل؟ قال بعض العلماء: إن آل الرجل هم أهل بيته، أي: أبناؤه وبناته، وأدخل البعض الزوجات مستدلاً بقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32] ، إلى قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] ، على اعتبار أن المراد بالآل هم الأهل، قالوا: واستُثني من آل لوط زوجته بنص كتاب الله سبحانه وتعالى.(44/5)
إنجاء الله لآل لوط المؤمنين
قال الله سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34] ، أي: في وقت السحر، وهذا الوقت قد أنجى الله سبحانه وتعالى فيه عددا كبيراً من أوليائه رحمهم الله ورضي عنهم، وقت السحر وقت ينزل ربنا سبحانه وتعالى فيه إلى سماء الدنيا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) ، فدعاء المحتاجين في هذه الأوقات أقرب إلى الاستجابة منه في غيره، فهناك أوقات مظنة الإجابة فيها أكثر من أوقات أُخر.
قال الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر:34-35] ، ألا وهو لوط صلى الله عليه وسلم، جازاه الله بإنجائه وإنجاء أهل بيته وإهلاك أعدائه، نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر، ثم بين الله سبحانه وتعالى أن لوطاً عليه السلام ما قصَّر في النصح، بل أدى صلوات الله وسلامه عليه ما عليه من النصح لقومه، فقال الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} [القمر:36] خوفهم من عذابنا: {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} [القمر:36] ، جادلوا واستخفوا بالنذر، واستخفوا بالعقوبات التي حذرهم منها لوط صلى الله عليه وسلم، وجادلوا في شأن هذه العقوبات، وشككوا أيضاً في وقوعها واستخفوا بها.
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} [القمر:37] طلبوا منه أن يخلي بينهم وبين أضيافه الذين هم الملائكة، وهم لا يعلمون أنهم الملائكة، وقصة المراودة مذكورة في آيات أخر، قال الله: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:78-80] الآيات.
فيقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر:36-37] قال جمهور المفسرين: ضربهم جبريل صلى الله عليه وسلم بجناحه فأعمى أبصارهم.(44/6)
المراد بالنذر في القرآن
وما المراد بالنذر؟ قال فريق من أهل العلم: إن النذر هي الأشياء التي خوفهم بها لوط صلى الله عليه وسلم، وهي العقوبات التي تأتي من الله سبحانه، فحذرهم أن عقوبات الله تعالى ستحل بهم، وأن المصائب ستنزل عليهم إذا هم استمروا على فعلهم، فكذبوا بهذه النذر كما قال سبحانه.
ومن العلماء من قال: إن النذر جمع نذير، والمراد بالنذير: الرسول كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] ، وعلى هذا التأويل يأتي إشكال؛ إذ كيف يقال: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) وهم إنما كذبوا بنبي واحد ألا وهو لوط عليه الصلاة والسلام؟ فهذا الإشكال مدفوع كما تقدم مراراً بما حاصلة: أن من يكذب بنذيرٍ واحد فقد كذب بالنذر جميعاً، وأن الذي يكذب برسول واحد فقد كذب بالرسل جميعاً، كما قال سبحانه: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] ، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] ، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141] ، إلى غير ذلك.
فعلى هذا هناك تأويلان لتفسير قوله تعالى: (بِالنُّذُرِ) : أحدهما: أن النذر هي العقوبات التي خوَّف بها لوط صلى الله عليه وسلم قومه، فلم يبالوا ولم ينتهوا بهذه العقوبات التي حذرهم منها لوط عليه الصلاة والسلام، والثاني: أن النذر جمع نذير، والنذير هو الرسول.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} [القمر:33-34] ، قال بعض العلماء: حجارة تحصبهم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] ، ففسر بعض أهل العلم الحاصب بما ذُكِر في الآية الأخرى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] .(44/7)
قصة فرعون وقومه
ذكر الله أيضاً قوماً من الطغاة ولِّي عليهم طاغٍ جبار عنيد، بل هو أكبر طاغية عرفه العالم والتاريخ وهو فرعون، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [القمر:41] ، ويخرج من آل فرعون هنا امرأته، لما ذكره الله سبحانه وتعالى عن امرأة فرعون: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] .(44/8)
هداية الله لامرأة فرعون
إن الذي يتلو كتاب الله ويتدبره يدرك تماماً أن الهادي هو الله سبحانه وتعالى، امرأة تحت نبي من الأنبياء، ومن أولي العزم من الرسل وهو نوح صلى الله عليه وسلم، وهي -والعياذ بالله- كما قال الله عنها: {ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] ، امرأة تحت أفجر وأظلم رجل عرف في التاريخ وتقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] ، وتكون من سيدات نساء أهل الجنة.
كما أن نبياً كريماً أبوه نبي وجده نبي وولده نبي، وهو يعقوب صلى الله عليه وسلم، أبوه إسحاق الكريم وجده إبراهيم الكريم الحليم، وولده يوسف الصديق الكريم، ومع ذلك من أحفاده من مسخوا إلى قردة وخنازير! تخيل وتصور أن نبياً من ذريته من يمسخ إلى قردة وإلى خنازير، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60] ، من هم هؤلاء؟ هم ذرية يعقوب صلى الله عليه وسلم! فأمر الهداية لا يملكه أي شخص كائناً من كان إلا الله سبحانه وتعالى، هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ما من قلب أراد أن يُقيمه إلا أقامه، وما من قلب أراد أن يزيغه إلا أزاغه، وقصص القرآن الكريم تؤيد لنا هذا المعنى حتى لا نأسى على القوم الكافرين، وحتى لا تذهب أنفسنا على قوم حسرات، تخيل نبياً كريماً خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء؛ ينزل إلى الأرض وهو نبي كريم تائب تلقى كلمات من ربه فتاب عليه، ويُبتلى ببلية عظمى، ما هي هذه البلية؟ أحد أبنائه يقتل الآخر! تخيل لو حدثت لك هذه الحادثة، جاء أحد بنيك وقتل الآخر ظلماً وعدواناً! على من تبكي يا ترى؟! على القاتل الذي أوجب لنفسه بفعله النار، أو على المقتول الذي ذهب ولم يعد إلى يوم الدين، بل قد تتجه إليك أنت التهم، في حياتنا الدنيا إذا جاء ولد من أبنائك وقتل الآخر، تجد التهومات تنصب عليك أنت، لعله كان يكسب من الحرام، لعل أحدهما ولد زنى، لعل لعل تأتي التهومات لك في بيتك وفي داخل دارك، فالهادي هو الله سبحانه وتعالى، ليس لنا من أمرنا شيء، والواقع يثبت لنا ذلك، تجد فاجراً من الفجار وابنه في غاية الصلاح، وتجد رجلاً في قمة الصلاح وابنه شرير مفسد.
فالهادي هو الله سبحانه وتعالى، وإن وضع المربون للتربية قواعد، وإن أسسوا لها الأسس، فإنما هي أسباب يؤخذ بها ولكن يُعتقد دائماً أن الهادي هو الله سبحانه وتعالى؛ {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] .(44/9)
تكذيب فرعون وقومه بآيات موسى
قال سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} [القمر:23-42] ، كذبوا بكل الآيات التي جاءتهم، وأعظمها تسع آيات كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء:101] ، وهي آيات مفصلات، لم تأت دفعة واحدة إنما فصِّلت تفصيلاً، تأتي آية ثم يُترك القوم لعلهم أن يعتبروا فلا يعتبروا، فتأتي الآية الأخرى ثم يترك القوم كي يعتبروا فلا يعتبر القوم، كما قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133] يعني: ليست دفعة واحدة، إنما كل آية بينها وبين الأخرى فاصل زمني حتى يتوب الناس إذا كشف عنهم البلاء، ولكن لا توبة ولا رجعة ولا إنابة لمن ختم الله سبحانه وتعالى على قلبه.
قال الله جل ذِكره في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [القمر:41] الأشياء المخوفة التي ترهبهم، ونفس القول في تأويل النذر كالقول السابق في قوم لوط صلى الله عليه وسلم.(44/10)
إنذار الله لقريش بالعذاب
قال الله تعالى: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:42] ، فذكر الله سبحانه أهل الكفر أمة تلو الأخرى، ثم وجه الخطاب إلى مشركي قريش بقوله سبحانه: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ) أي: هل أنتم أفضل أو أقوى من هؤلاء الكفرة الذين أبادهم الله سبحانه؟ وهذا القول يوجه إلى كل كافر وإلى كل طاغ في كل زمان، والله سبحانه لما أنزل على قوم لوط ما أنزل قال في شأن هذه الأحجار {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] ، ليست هذه الأحجار ببعيدة عن الظالمين في أي زمان بل هي قريبة منهم.
قال الله جل ذكره في كتابه الكريم موجهاً الخطاب إلى المشركين: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ) الذين أهلكهم الله أم تظنون أنه قد كُتبت لكم براءة في الكتب؟ هل سطر في الكتب أن مشركي قريش لن يمسهم العذاب؟ {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43] ، أي: في الكتب التي سبقت، هل قرأتم في الكتب التي نزلت على الأنبياء أنكم -يا معشر قريش- كتبت لكم براءة ولن تعاقبوا ولن تؤاخذوا؟ وهذا أسلوب تهكمي فيه سخرية من هؤلاء القوم ومن أفكارهم.
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر:44] ، (أم) هنا تختلف في تأويلها عن (أم) في الآية التي قبلها، فـ (أم) في الآية التي قبلها: (أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) استفهامية تحمل معنى الاستنكار والتوبيخ والتقريع، أما (أم) هنا في: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) بمعنى: بل، فالمعنى: بل يقولون: نحن جميع منتصر، أي: أن هؤلاء الكفار يقولون: (نحن جميع) : أي: نحن جمعٌ، بدليل قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} [القمر:45] ، فقولهم (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي: باجتماعنا معاً سننتصر على محمد بل على العقوبات التي تأتينا بل على الملائكة كما قال أبو جهل لرسول الله: أتتوعدني وأنا أكثر هذا الوادي نادياً، فقال الله سبحانه وتعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:17-18] ، وكما ذكر بعض المفسرين في تأويل قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] ، قالوا: إن أهل الشرك لما نزلت هذه الآية فُتِنوا بها، وقالوا: نحن أكثر عدداً، نحن تسعة عشر ألفاً أو نزيد، فكل ألفٍ منا يوكلوا بأحد هؤلاء الخزنة، ونحن جميعٌ منتصر؛ لأن عددنا أكثر من هؤلاء الملائكة، وسننتصر عليهم! يا لهذا الجهل وهذا الغباء! والعياذ بالله.
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر:44] فرد الله عليهم: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] ، هذه الآية تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وكان أهل الشرك قد جمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه جموعاً، وكان من الصحابة من يقول لما نزلت هذه الآيات قبل أن تتحقق: أي جمعٍ هذا الذي سيهزم؟ ومتى سيهزم؟ ولما جاء يوم بدر، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه إلى السماء قائلاً: (اللهم! إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) ، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر سيهزم الجمع ويولون الدبر) ، وما هي إلا لحظات في يوم بدر حتى هُزِم الجمع وولوا الأدبار كما وعد الله سبحانه وتعالى.
وإن لحقت بهم الهزيمة فهذه الهزيمة لا تقارن بعذاب الآخرة، قال سبحانه: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46] ، أي: أشد وأعظم.(44/11)
كيفية دخول أهل الكفر النار
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:47-48] ، وهذا التعبير يبين كيفية دخول الكافرين النار؛ سحبٌ على الوجوه! كما قال سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سُئل: (يا رسول الله! كيف يمشي الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟) ، قال سبحانه: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) وهذا تصوير لا يكاد يتخيله شخص، ثم وهم على وجوههم في النار يُقال لهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48] .(44/12)
تقدير الله للأمور وحكمته في ذلك
قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، هذه الآية تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين يوم أن أتوا إليه يخاصمونه في القدر، فعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم هدياً قيماً طيباً في طريقة جدال القدرية، ألا وهو: عدم الاسترسال في جدالهم، فلما أتوا يخاصمون رسول الله في القدر، ويقولون: كيف الأمور مقدرة؟ كيف نحاسب؟ كيف وكيف؟ أنزل الله سبحانه: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48-49] ، كما تقول لشخص: اضرب رأسك في الحائط فكل شيءٍ مقدر، فالله يقول: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48-49] ، فكل شيءٍ بقدر حتى العجز والكيس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، كل شيء في هذه الحياة الدنيا مقدر، نشاط الرجل لجماع أهله مقدَّر، وكسله مقدر، كل شيءٍ في هذا الكون يجري بقدر، فالله سبحانه وتعالى يبسط الأرزاق بقدر، ويضيق في الأرزاق بقدر، ينصر أقواماً على أقوام بقدر، يُنزل المطر ويمنعه بقدر، كل شيءٍ عند الله سبحانه وتعالى مقدر موزون، كما ذُكِر في عدة آيات من كتاب الله سبحانه وتعالى.
قال الله جل ذكره: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، وكل شيء مُثبَت كما روى عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) .(44/13)
أمر الله لا يرد ولا يتكرر
قال الله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50] ، يعني: إذا أردنا أمراً لا نكرر الكلام كثيراً، إنما أمرنا بكلمة واحدة، أما أمر الملك في الدنيا أو أمر الرئيس في الدنيا قد يكرر، افعل يا أيها الوزير! افعل، لم لا تفعل؟ وكذلك المدرس قد يكرر الأمر على الطلبة مرات ولا يستمعون لقوله، وطالب ينفذ، ومائة طالب لا ينفذون! أما ربنا سبحانه وتعالى فيقول: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50] ، كلمة واحدة يتكلمها ربنا سبحانه وتعالى فيتحقق الأمر كما في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (كان رجل فيمن كان قبلكم لم يعمل خيراً قط، فقال لبنيه عند الموت: يا بني! أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإذا أنا مت فاحرقوني واسحقوني فإذا كان في يوم ريح عاصف فذرونيفي البحر) ، أي: اسحقوني بعد أن أُحرق، واطحنوني وخذوا دقيقي وجزيئات جسمي في يوم فيه ريح شديدة وتعالوا إلى وسط البحر وذروني فيه، (قال: فمات ففعل به ذلك، فقال الله له: كن، فكان كأسرع من طرفة العين، فقال الله: يا عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ فقال: مخافتك أي رب! قال: فما تلافاه أن غفر له) .
فالشاهد قوله: (كن رجلاً) فكان في الحال! {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، الله قادر في شأن هذا المريض الذي عظم مرضه واستعصى على الأطباء أن يقول له: اشف، فيُشفى بإذن الله بكلمة كن {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، كن غنياً، كن فقيراً، كن ملكاً، كن وزيراً، فلتُقتَل فلتمت فلتحيا، كل ذلك بأمر الله، ومن العلماء من قال: إن أعظم هذه الأمور على الإطلاق أمر الساعة، كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل:77] .(44/14)
مصير كل ظالم في الآخرة
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} [القمر:51] أسلافكم وأمثالكم وعشائركم والذين كانوا يشايعونكم ويظاهرونكم، فكل هذه تحتملها كلمة الأشياع (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، هل من معتبر؟ زملاؤك قد أهلكهم الله، وأجدادهم وآباؤهم وآباؤك قد أهلكهم الله، فهل من رجل عاقل ذكي يعتبر؟ هل من رجل فاهم فاضل يعرف أن الموت آتٍ، وأن الأجل منتهٍ؟ ثم يبين سبحانه أن هذا الإهلاك ليس بنهاية للمطاف، فيقول سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر:52] ، لم يقتصر الأمر على إهلاكهم، بل كل شيءٍ فعلوه مسطر عليهم، وسيلاقونه يوم القيامة، {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52-53] ، هكذا يبين ربنا سبحانه وتعالى أن الهلاك ليس بنهاية للمطاف، وأن الموت ليس بنهاية للمطاف، إنما: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:52-55] .
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(44/15)
الأسئلة(44/16)
كيفية ضبط التسبيح بعد الصلاة
السؤال
رجلٌ سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (معقبات لا يخيب قائلهن (أو فاعلهن) دبر كل صلاة مكتوبة ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة) ، فقال: أنا كلما أذكر الذكر الذي بعد الصلاة، لا أعرف أضبطه، هل يجوز لي أن آتي بمسبحة كي أعد عليها التسبيحات حتى أصل إلى هدي رسول الله في هذا الباب؟
الجواب
تعلمه بأن في كل أصبع ثلاث عقد، وثلاثة في خمسة بخمسة عشر.
وهل يأتي بمسبحة يتعلم بها ضبط العد؟ وأنا لم أقل: إنها مستحبة، أنا أقول: شيءٌ أضبط به العد الذي أرشدني إليه الرسول، الرسول أرشد إلى ثلاثة وثلاثين، وأنا لا أعرف أن أضبط الثلاثة والثلاثين، أريد أن أصل إلى طريقة أمتثل بها حديث الرسول، وأبتعد بها عن الشكوك.
وقد دخل ابن مسعود المسجد فوجد قوماً قد جمعوا أكواماً من الحصى، فيقولون: نسبح مائة، فيسبحون مائة ويحضرون أحجاراً ويرموا بها، وهذه الصورة تختلف عن مسألتنا، ثم إنهم في الآخر كانوا من الخوارج، يعتريهم ما يعتري الخوارج من مسائل التباهي بالأعمال والإكثار من الذكر، وقد قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم) ، فإنكار ابن مسعود ليس من أجل الحصى الذي تضبط به التسبيحات التي حث عليها الرسول، إنما هو لأمر استحدثوه وهو أنهم جلسوا وجمعوا أكواماً من الحصى ويقولون: يا جماعة! نسبح مائة، ويسبحون مائة ويرمون بالأحجار، فتختلف المسألتان.
فالشاهد: أن هذه المسألة قابلة للأخذ والرد، والفتيا بالتحريم حقيقة صعبة، لك أن تقول بالتحريم إذا أتيتنا بعالم قبلك من أوائل سلفنا الصالح قال بتحريم هذه الطريقة لتحديد الذكر بعد الصلاة، ليس كفعل الخوارج الذي انتقده ابن مسعود على الأقوام الذين جمعوا الحصى، هذه تختلف يقيناً عن مسألتنا كمنظر وكهيئة وكواقع من كل الجوانب.
فالمسألة إذاً قابلة للأخذ والرد.
ولذلك ترى بعض العلماء أجازها كشيخ الإسلام ابن تيمية، لكن نحن نقول: إن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعقد التسبيح باليد، ومن لم يستطع تكون حالته خاصة، تكون الفتيا له خاصة، وإلا هدي رسول الله أكمل وأتم هدي.
وهو خلاف الأولى في حقي وفي حقك، لكن في حق رجل لا يستطيع العد، هل هي خلاف الأولى؟ في حق رجل مستطيع العد وإتقان العد هي خلاف الأولى، لكن في حق رجل لا يستطيع الوصول إلى العدد إلا بهذه الطريقة لا يقال: إنها خلاف الأولى.
وهي مثل مسألة الخط في المسجد، هذه فقهيات لازم تُفهم حتى لا تصطدم بالعامي، الخط الذي يخط في المسجد لضبط القبلة، قد يأتي أحد المشايخ ويقول: الخط بدعة، لماذا؟ يقول: لأنه لم يكن في مسجد رسول الله خط، فنقول: حقاً لم ينقل أن مسجد الرسول كان فيه خطوط لضبط القبلة، لكن مسجد الرسول كانت قبلته في الأمام مباشرة، لكن هذا المسجد فيه انحراف، القبلة إلى اليمين قليلاً أو إلى اليسار كثيراً، أنا لا أستطيع أقدر الميول كم هي؟ فصنعت خطاً لضبط القبلة، هل أنا آثم بهذا الخط؟ أو هل أنا مبتدع لكوني حرصت على ضبط قبلتي؟ الاحتجاج بأن مسجد الرسول ليس فيه خط لا ينسحب علي هنا؛ لأن المقامين مختلفان، القبلة هنا في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام مستقيمة للأمام، والقبلة عندي الآن فيها ميول، فالمقامات تختلف، فلذلك هذه المسألة تحتاج إلى إمعان نظر، ولا تحتاج إلى تقليد في كل الأحوال؛ لأن لنا علماء، ومن فضل الله أن علماءنا ليسوا بواحد ولا باثنين ولا بثلاثة فقط، إنما لنا علماء لهم اجتهادات، عندك مثلاً مالك، الشافعي، أحمد، اقرأ أقوال هؤلاء العلماء في المسائل، ولا تتحجر على عالم واحد، بل اطلع وافهم، وهذا المطلب الذي أردناه، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضاه.(44/17)
حكم من نام على جنابة من جماع
السؤال
هل يجوز للرجل أن يجامع أهله ثم ينام على الجنابة إلى الفجر؟ وهل صحيح أن الملائكة تلعن من فعل ذلك؟
الجواب
أما كون الملائكة تلعن من فعل ذلك فليس بصحيح.
أما هل يصح أن ينام الرجل على جنابة؟ فهذا أيضاً سؤال إجابته تحتاج إلى فهم الحديث لا إلى التسرع فيه.
يجوز مع الكراهة، ولماذا الكراهة؟ لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، لما سُئل هذا السؤال، قال له السائل: (يا رسول الله! أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ) ، قد يتوهم متوهم أن قوله: (نعم، إذا توضأ) أنه حرام عليك أن تنام إلا إذا توضأت، والصواب أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا كان قال: (لا، إلا إذا توضأ) يفيد التحريم، لكن حينما قال: (نعم، إذا توضأ) ، فكأنه بقوله: نعم، يشير إلى الجواز، وبقوله إذا توضأ استحباب الوضوء قبل النوم، فإذا استدل به مستدل على المنع والتحريم لا يكون استدلاله في محله؛ لأن الحديث ما أفاد نهياً صريحاً عن النوم، لكن قال: (نعم) ثم قال: (إذا توضأ) ، فلا يساوي (لا، إلا إذا توضأ) والفرق واضح بين اللفظين، فدقة فهم أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام تستطيع من خلالها أن تصل إلى الحكم المراد.
ثم في الباب أدلة أُخر: سُئلت عائشة: (أكان النبي صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب) ، أي: ينام قبل أن يغتسل أم يغتسل قبل أن ينام؟ قالت: (ربما فعل هذا، وربما فعل ذاك) ، قال: (الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة) .(44/18)
وقت صلاة العشاء
السؤال
متى ينتهي وقت صلاة العشاء؟
الجواب
مسألة متى ينتهي وقت العشاء فيها: قولان: قيل: قبل الفجر بقليل، وقيل: عند منتصف الليل.
وسؤالي هنا: متى منتصف الليل؟ وفي حديث الرسول: (وقت العشاء إلى منتصف الليل) ، الليل يكون من أذان المغرب إلى أذان الفجر.
لكن كيف أحدد نصف الوقت هذا؟ نقسم الوقت من المغرب إلى الفجر، مثلاً: المغرب يؤذن الساعة الخامسة، والفجر يؤذن الساعة الرابعة، فيكون المجموع إحد عشرة ساعة، ونقسم على اثنين، ويكون هذا منتصف الليل، وهل الصحابة كانوا يفعلون ذلك؟ لا، ما كان الصحابة يعملون ذلك، والرسول يقول: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) ، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام أخَّر العشاء يوماً إلى منتصف الليل، وقال: (هذا وقتها لولا أن أشق على أمتي) ، ما المراد بقوله: (هذا وقتها) ؟ أي: هذا وقتها المستحب.
فهل وقتها المستحب يكون آخر الوقت الذي بعده تصبح قضاءً؟ وكيف كان الصحابة يكتشفون منتصف الليل وليس معهم ساعات، رجل نام ساعتين في الليل، ثم وقام، كيف يعرف أن منتصف الليل جاء أو لا؟ هل يصلي قضاءً أو يصلي حاضرة؟ فاتضح صحة رأي الجمهور في تحديد وقت صلاة الفجر، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى) ، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يأتي وقت الصلاة الأخرى، باستثناء الفجر بالإجماع؛ فوقتها ينتهي بطلوع الشمس، ويكون حديث عبد الله بن عمرو: (وقت العشاء إلى منتصف الليل) ؛ على أنه وقت استحباب لا وقت تحريم.
مع العلم أن الأمور التقريبية هذه لا تضبط بها نهايات الأوقات ولا بدايتها، وقد ورد في الأحاديث: (حتى ذهب من الليل نصفه) (حتى ذهب من الليل ثلثه) ، (حتى ذهب من الليل أكثره) ، شيء تقريبي، وتحديد أوقات الصلوات أشياء ثوابت يعرفها العوام بلا ساعات وبلا منبهات وبلا إذاعة ولا أي شيء، الفجر إذا ظهر الخيط الأبيض من الأسود، الظهر عند الزوال، العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، المغرب إذا غربت الشمس، العشاء إذا سقط الشفق، وهذا كله تستطيع أن تتعلمه في يوم واحد، لكن منتصف الليل شيء لا يُتعلم بالسهولة واليسر.(44/19)
الحق في كل مسألة واحد وإن تعددت أقوال المجتهدين
السؤال
هل في كل مسألة لابد أن يكون الحق والصواب واحداً أو ربما يتعدد فيها الحق؟
الجواب
الحق والصواب عند الله واحد، أما اجتهاداتنا في الدنيا فقد تختلف وتتنوع، والموفق منا للحق والصواب مأجور أجران، والذي لم يوفق للحق والصواب له أجر كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام.(44/20)
صحة حديث: (إنما الطاعة في المعروف)
السؤال
هل حديث: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) صحيح؟
الجواب
معناه صحيح، لكن ليس بهذا اللفظ، إنما لفظه: (إنما الطاعة في المعروف) ، وهو ثابت في صحيح البخاري.(44/21)
خال الزوج ليس بمحرم
السؤال
هل يجوز للزوجة أن تسلم على خال زوجها أو تكشف عن وجهها عليه مع العلم أنه رجل كبير في السن؟
الجواب
خال الزوج ليس بمحرم، ويجوز له أن يتزوج بالمرأة إذا مات زوجها، فهو أجنبي عن المرأة.(44/22)
من أحكام التعزية
فضيلة الشيخ! مصطفى العدوي تعودنا مع إخواننا أن نطرح مسائل فقهية على سبيل المناقشة، ومعرفة كيفية الاستدلالات، ومعرفة ما هو المكروه وما هو المحرم، وإن خالف هذا المستقر في الأذهان في مسألة من المسائل، فطرح المسائل بهذه الطريقة إن شاء الله يوصل إلى نتيجة محمودة، وإلى اتساع في الآفاق بمشيئة الله تعالى، والحمد لله أن إخواننا الجالسين طلبة علم، وليس فيهم كثير عوام، فلنطرح مسألة ونوجه السؤال فيها إلى أحد إخواننا، ونرجو ألا يجد في نفسه علينا، إذ المجال مجال مناقشة ومجال وصول إلى الخير إن شاء الله تعالى بالدليل من الكتاب أو السنة.
و
السؤال
رجل من أهل القاهرة، ومن وجهاء القاهرة، له شقة يمتلكها هناك، فمات له ميت وله أصدقاء من المنصورة، ومن الإسكندرية وطنطا، تربطهم به صداقة قوية، فلما مات له الميت توقَّع يقيناً أنه سيأتيه أصحابه إذ قد علموا بالوفاة التي حدثت له مع العلم أن هذه الشقة مليئة بالأغراض المعيشية، فمات له ميت وله أصدقاء سيأتونه يقيناً من عدة بلدان بعيدة، وسيأتيه عدد ضخم من الزوار والمعزيين، فقال لي: ماذا أصنع لاستقبال هؤلاء الأضياف الذين أتوني للتعزية، والسؤال لك: هل التعزية في الميت مشروعة أو ليست بمشروعة؟
الجواب
ورد حديث: (لا عزاء بعد ثلاث) وهو ضعيف، فعلى كلٍ أننا في اليوم الأول أو الثاني، والتعزية مشروعة.
وأنا لست بمخطئ إذا ذهبت إليه من المنصورة كي أعزيه في القاهرة، وأنا ما شددت إليه رحلاً، وأما حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ، ما هو المستثنى منه؟ هل شد الرحال لطلب العلم حرام؟ وزيارة أخي في القاهرة مثلاً أو زيارة عمي في الإسكندرية ما المانع منه؟ إذاً: إذا ذهبت أنا وإخواني لتعزية صديقي في القاهرة، فوجدنا البيت ضيقاً لا يسع، هل يجوز لي أن اعمل لهم خيمة في الشارع يجلسوا فيها؟ الآن البيت ضيق، وما وجدت في البيت سعة، والجو حار، فوضعنا خيمة تغطينا من الحر أو البرد هل هذا جائز أو هناك خلاف؟ وهل هناك شيء شرعي يمنع؟ ثم إن وجدت الناس في الخيمة يتكلمون ويلغون بالكلام، فقلت: أحضر مسجلاً مع شريط للحصري يتعظون به هل يجوز أو لا يجوز؟ وربما هناك من يقول: إن استماع القرآن خير من اللغو.
الآن: أنا كسائل من العوام طرحت المسألة بكل حيثياتها، هل هذا الشيء بهذه الملابسات المحيطة حرام؟ هناك حديث جرير رضي الله عنه: (كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة) ، والحديث ضعيف فيه هشيم بن بشير وهو مدلِّس وقد عنعنه، وأحمد بن حنبل رحمه الله قال في إجاباته لـ أبي داود في العلل: لا أرى لهذا الحديث أصلاً.
فالحديث ضعيف، وعلته عنعنة هشيم بن بشير عن إسماعيل بن خالد، وقال بعض العلماء: سقط بينهما شريك، وقيلت أقوال أُخر، وقد حسنه البعض، فهذا رأي الإمام أحمد، والدارقطني أيضاً فإنه ذكر كلاماً حول هذا الحديث في العلل.
الحقيقة -يا إخوة- الفتوى بالتحريم لا تُطاق، وتعليم الناس السنة ينبغي أن يكون شيئاً فشيئاً.
وأما أمر التعزية على المتيسر، ويجوز أن تعزي بالتلفون أو الطريق أو البيت، أو العمل، على المتيسر، لكن الفتيا بالتحريم دائماً تحتاج إلى تمهل وتريث، وقبل أن تفتي بالتحريم مع هذه الملابسات المحيطة بمسألتنا لابد أن تعلم أن كل مسألة تقدر بقدرها، وتكون هذه وصفة خاصة بالجواز لمن هذه حاله، ولا تطَّرد فيما سواها، والله أعلم.
ويجب ملاحظة أننا لا نقول فتوى عامة: أن الخيمة جائزة، ويقف صف طويل يعزي، وبالسيارات الفارهة التي جاءت تعزي، لا، لم نقل بهذا، تكلمنا على فتوى معينة في ملابسات معينة، والأصل في التعزية على ما تيسر، في البيت في العمل بالهاتف في الطريق في اليوم الأول اليوم الثاني اليوم العاشر كله جائز.
شخص مثلاً يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ عزاء جعفر بن أبي طالب في المسجد! أقول: إن هذا لم يثبت، ومن وجده فليأتنا به.
إذاً: السنة أن التعزية على ما تيسر كما سمعت، والرسول لما مات جعفر أمهل ثلاثاً ثم ذهب إلى أهله يعزيهم، فالسنة أن تعزي كما جاء، لكن إن جاءنا شخصٌ له ملابسات خاصة يجوز لنا أن نفتيه بفتاوى خاصة على قدر حاجته وانتهى الأمر، والله أعلم.(44/23)
الاسم الشرعي للشاذ جنسياً
السؤال
ما الاسم الشرعي للشاذ جنسياً؟ وكيف تكون معاملته مع الرجال والنساء؟
الجواب
هذه المصطلحات التي أتت إلينا من بلاد الكفر ينبغي أن توزن بوزنها في الشرع، فالشاذ جنسياً، والعلاقات الجنسية؛ كل هذه مصطلحات دخيلة علينا وعلى شرعنا، وهم إنما أطلقوا على الزنا علاقة جنسية للتهوين من أمره ومن شأنه، واسمه في الشرع: زنا، والشاذ جنسياً اسمه: مخنَّث، فلا نحب أن تُسحب هذه الاصطلاحات الواردة إلينا من بلاد الكفر وتطغى على اصطلاحاتنا الشرعية، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهانا أن تغلبنا الأعراب على اسم صلاتنا العشاء، فقال: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء يسمونها العتمة لإعتام الإبل) مع أن الرسول سمى العشاء: العتمة.
فجدير بنا ألا نصبغ أسئلتنا بهذه الأخلاق السيئة، فكلٌ له حكم، والمخنث الذي هو بين الرجال والنساء له حكم، والمخنث من الرجال الذي يؤتى له حكم آخر، ففي المسألة تفصيل: وأما معاملاته من الرجال والنساء وهو شاذ فعلى حسب شذوذه، إن كان لا يشتهي النساء ولا يصفهن، فله حكم، وإن كان يشتهيهن أو كان يصف النساء لا يدخل عليهن؛ لحديث: أن مخنثاً قال: إذا فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بـ ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان، فقال الرسول: (لا يدخلن هذا عليكن) .(44/24)
تفسير سورة الرحمن [1]
لله سبحانه وتعالى أسماء فمنها ما قد يشاركه فيها البشر مثل: الرحيم، الكريم، الرءوف، ومنها ما يختص به سبحانه مثل: الرحمن، فالرحمن لا يتسمى به أحد إلا الله سبحانه وتعالى، وفي القرآن سورة تسمى بسورة الرحمن، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه السورة على نفسه، وليس للبشر والخلق أن يثنوا على أنفسهم إلا لضرورة، وبعد أن أثنى سبحانه وتعالى على نفسه بدأ بتعداد بعض نعمه التي لا تحصى على خلقه، فاستفتح بنعمة عظيمة وهي نعمة تعليم القرآن لخلقه وتيسير حفظه، فهذه النعمة بها يرضى الله عنا، وبها ندخل الجنة، فهي النور والهداية إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، ثم امتن الله تعالى بنعمة خلق الإنسان ثم بتعليمه البيان، ثم ذكر ما يحتويه هذا الكون العلوي والسفلي من سماء، وما فيها من كواكب ونجوم وأرض، وما فيها من بحار وأنهار وزروع وثمار، وهذا يدل على أن نعم الله كثيرة لا تحصى، فالواجب على المسلم شكر الله على هذه النعم.(45/1)
مقدمة تفسير سورة الرحمن
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فسورة الرحمن مدنية على رأي أكثر العلماء، سميت باسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، وهذا الاسم من أسماء الله لا يشاركه فيه أحد، وهناك أسماء لله سبحانه وتعالى قد يشاركه فيها البشر، كالعزيز، فإنه اسم من أسماء الله وصفة لبعض خلقه: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:51] ، وقال إخوة يوسف: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف:88] ، وكذلك الكريم اسم من أسماء الله وصفة لبعض خلقه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام) ، وثم أسماء أخرى على هذا المنوال.
لكن اسم الرحمن لا يتسمى به أحد إلا الله سبحانه وتعالى، ولما تشدق مسيلمة الكذاب وأطلق على نفسه رحمان اليمامة وُصِفَ دائماً بأنه كذاب، فلا يقال: إلا مسيلمة الكذاب.
واسم الرحمن كان مستنكراً عند المشركين، ومن ثم استنكره سهيل بن عمرو في صلح الحديبية عندما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتبه في الاتفاقية، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل بن عمرو: لا ندري ما الرحمن؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم) .
وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] ، وقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان:60] ، فاسم الرحمن كان مستنكراً عند أهل الشرك من أهل مكة، عند مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم.(45/2)
تفسير قوله تعالى: (الرحمن.
علم القرآن.
خلق الإنسان)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1-2] .
يثني الله سبحانه وتعالى على نفسه، ويمدح الله سبحانه وتعالى نفسه، ليس ذلك للبشر، فليس لنا أن نمدح أنفسنا، ولا أن نثني عليها، إلا إذا دعت ضرورة لذلك، كما قال يوسف الصديق عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] ، وكما قال عثمان رضي الله عنه: (أناشدكم الله، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها؟ قالوا: اللهم نعم، قال: أناشدكم الله، هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزته؟ قالوا: اللهم نعم) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: اللهم نعم، قال: ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي؟ قالوا: اللهم نعم) إلى آخر الحديث، فالثناء على النفس الأصل أنه ممنوع إلا إذا دعت حاجة إليه، لكن ربنا سبحانه وتعالى يثني على نفسه، فهو المنان سبحانه، فيقول سبحانه: {الرَّحْمَنُ} [الرحمن:1] ، ثم يعدد نعمه على خلقه، فيقول سبحانه في بداية هذه النعم، وأوائل هذه النعم: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:2] ، فهي أكبر نعمة أنعم الله سبحانه وتعالى بها علينا، هي تعليمنا القرآن، ولولا تعليمنا القرآن لكنا من أهل النيران والعياذ بالله! وأي خسار بعد هذا الخسار أن يودع الشخص في سجين والعياذ بالله؟! فأول نعمة ذكرت في هذه السورة الكريمة -التي يطلق عليها بعض العلماء: سورة النعم- هي نعمة تعليم القرآن، ففي تعليم القرآن فضائل ذكر بعضها في كتاب الله.
أما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيها: (خيركم من تعلّم القرآن وعلمه) ، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين) .
فيقول سبحانه: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:2] فهو سبحانه علم الطب وعلم الهندسة وعلم الزراعة والصناعة والحرف، ولكن لم يكن الامتنان الأول بقوله: علم الطب، ولا علم الزراعة، ولا علم الهندسة، إنما صدر بقوله تعالى: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:2] ، وبضمينة حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، وبضمينة قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] تظهر فضل تعلم القرآن.
{عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:2-3] فذكر تعليم القرآن وفضله قبل خلق الإنسان.(45/3)
تفسير قوله تعالى: (علمه البيان) وبيان نوعي البيان
{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4] ، البيان بيانان كما قال العلماء، والبيانان هما الأشهر، وإن كانت ثمّ أنواع أخر من أنواع البيان، فالبيانان الأشهر أحدهما: بيان باللسان، والآخر: بيان بالقلم.
وأصل البيان: إظهار ما في نفس الشخص للآخرين، وهذا يكون إما عن طريق اللسان، وإما عن طريق القلم، فالامتنان بالتعليم بالقلم ذكر في سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ، فنعمة من الله إذ امتن علينا بتعليمنا البيان بكل أنواعه، وبهذا يفارق بنو آدم سائر العجماوات، من البهائم وسائر الدواب.
فإن قال قائل: إن الله سبحانه وتعالى امتن علينا بتعليمنا البيان بنوعيه كما ذكرتم، وكما أسلفنا ثمّ أنواع أخر من أنواع البيان كالإشارات وكالنظرات، لكنها ليست بتلك الشهرة، إذ كتاب الله يذكر الغالب الأشهر.
فإذا قال قائل: إن الله امتن علينا بتعليمنا البيان، كما امتن على عيسى صلى الله عليه وسلم بقوله: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [المائدة:110] ، فإذا كانت هذه نعماً فسؤال يطرح: لِم لم يعلمها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ بل قال الله في شأنه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف:157] ؟! فلماذا لم يمتن الله على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام بتعليمه البيان بالقلم؟! العلة من ذلك ظهرت في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:48-49] .
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتعلم البيان بالقلم لعلة ألا وهي: دفع الشكوك عن الذين كانوا يزعمون أن بشراً يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نص على ذلك في كتاب الله بقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] .(45/4)
تفسير قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان)
يقول سبحانه: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] ، هنا فعل مستتر أو مقدر، فالمعنى الشمس والقمر يجريان بحسبان، أي: يجريان بحساب، ليس جريهما عشوائياً، إنما يجريان بحساب وبتقدير، كما قال سبحانه: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] ، فهذا المعني بقوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] أي: يجريان بحساب.(45/5)
تفسير قوله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان)
قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] ، ما المراد بالنجم هنا؟ النجم على رأي أكثر العلماء هنا ليس المراد به الثريا، وإن كان هذا القول قد قال به فريق من العلماء، وليس المراد به النجم الساطع في السماء الذي أقسم الله به بقوله: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:1] ، إنما النجم هو النبت الذي لا ساق له في الأرض، وذلك كالحشيش الذي في الأرض، فهذا نبت، قال كثير من أهل التفسير: إن كل نبات ليس له ساق يطلق عليه نجم، وكل نبات له ساق يطلق عليه شجر، فذكر الله شيئين في السماء: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] ، وشيئين في الأرض وهما: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] ، وقد قال بعض أهل العلم بالقول الأول، لكن الأكثرون على أن المراد بالنجم النبت الذي لا ساق له.
وأصل تسمية النجم مأخوذة من النجوم وهو الظهور، نجم النبات عن نزول المطر، أي: ظهر بسبب نزول المطر، نجمت هذه المشكلة عن شيء، أو نجم هذا الشيء عن مشكلة حدثت أي ظهر.
أثبتت الآية الكريمة أن الشجر يسجد، وأن النجم يسجد صراحة، فالله يقول: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] ، وقد قال الله جل ذكره: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] ، وقال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] .
وقد حنّ الجذع لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وثمّ أدلة أخر في الجمادات وغيرها قد تقدمت، قال صلوات الله وسلامه عليه: (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ، إني أعرفه الآن) .
وقال الله سبحانه في شأن الأحجار: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] .(45/6)
تفسير قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان)
قال الله سبحانه: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن:7] ، الميزان ما المراد به؟ من أهل العلم من قال: إن المراد بالميزان الحق والعدل، شرعه الله سبحانه، فوضعه هنا أي: شرعه للناس، شرع للناس الحكم بالعدل، فشرع لهم الحكم بالقسط.
ومن أهل العلم من قال -وهذا قول لا تشهد له كثير أدلة-: إن الميزان الذي له كفتان نزل مع آدم صلى الله عليه وسلم، مع السندان مع أشياء أخر، لكن الآثار بذلك مقطوعة، أي: من أقوال بعض التابعين لا يثبت منها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(45/7)
تفسير قوله تعالى: (ألا تطغوا في الميزان)
قوله تعالى: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن:8] أي: أن لا تجوروا وأن لا تزيدوا، فالطغيان تجاوز الحد بصفة عامة.(45/8)
تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن:9] أي: بالعدل والحق، {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:9] أي: ولا تنقصوا الميزان.(45/9)
تفسير قوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام)
قال تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:10] أي: للخلق، مهدها الله سبحانه وتعالى لهم، وجعلها قابلة لموتاهم إن ماتوا: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25-26] أي: جعلناها لكم كفاتاً في حياتكم وبعد مماتكم، فإذا متم قبرتم فيها، والله قادر على أن لا يجعلها تقبل أحداً أبداً إذا شاء الله سبحانه للأرض أن تلفظ الخلق، فإنها تلفظهم ولا تقبلهم في بطنها، وهذا يكون يوم القيامة في حق جميع الخلق، كما قال سبحانه: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:3-4] قوله: (ألقت ما فيها) أي: ما في بطنها وتخلت.
ويكون في الدنيا كذلك في حق بعض الناس، فهذا نصراني كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد أسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ثم إنه انتكس وارتد نصرانياً، وطفق يطعن ويقول: ما يدري محمد ما كتبت له؟ فلما مات ودفنوه أصبحوا وقد لفظته الأرض على وجهها، فقال أصحابه: هذا فعل محمد وأصحاب محمد، فأعمقوا له الحفر ثم دفنوه، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فقالوا أيضاً: هذا فعل محمد وأصحاب محمد، ثم أعمقوا وأعمقوا فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فعلموا أن الأرض لفظته، فألقوا عليه الحجارة على وجه الأرض.(45/10)
تفسير قوله تعالى: (فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام)
قال الله سبحانه: {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} [الرحمن:11] والأكمام هي: أوعية الطلع، التي يكون بداخلها الطلع، وبالتعبير الدارج بيننا وبمثال مقرب: كوز ذرة يكون فيه أوراق، هذه الأوراق تسمى: الأكمام، والذرة بداخلها، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} [الرحمن:11] .(45/11)
تفسير قوله تعالى: (والحب ذو العصف والريحان)
قال سبحانه: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} [الرحمن:12] أي: الذي يكون منه بعد ذلك العصف، والعصف هو التبن، والآيات مفسرة بقوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] .
قوله: {وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن:12] إذا قلت: إن الريحان هنا بالضم كما هو مثبت في المصاحف التي بين أيدينا: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن:12] فتكون (الريحان) هنا لها تأويل يختلف شيئاً ما عما إذا قلت: (والحب ذو العصف والريحانِ) حيث تكون الريحان صفة للعصف، ويكون المراد بها على قول لفريق من المفسرين: الاخضرار، فيقال: والحب ذو الخضرة وذو اليبس، فهو أولاً يكون أخضر، ثم بعد ذلك ييبس ويصبح عصفاً.
أما على قراءة من قرأها معطوفة على الحب، فيقول: إن المراد بالحب النبات الأخضر، أو يقول: الريحان المعهود ذو الرائحة الطيبة.(45/12)
تفسير قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)
قال سبحانه: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] (فبأي آلاء) أي: فبأي نعم الله سبحانه وتعالى عليكما تكذبان، فالخطاب بالتثنية موجه إلى الإنس والجان.
وقد ورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب في صحته نزاع، لكن تشهد لمعانيه عمومات، ألا وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه الآيات على أصحابه وسكتوا، قال: إن الجن كانت أحسن قيلاً منكم، قالوا: وكيف؟ قال: لما تليت عليهم هذه الآيات قالوا: لا نكذب بشيء من آلائك ربنا) أي: لا نكذب ولا نجحد بشيء من نعمك يا ربنا.
والحديث وإن كانت أسانيده فيها بعض الأقوال وبعض النزاع، إلا أن هناك نصاً عاماً تندرج تحته مثل هذه الأجوبة، من هذه النصوص العامة التي تندرج تحتها هذه الأجوبة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل فلا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ) عليه الصلاة والسلام.(45/13)
تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار)
قال الله سبحانه: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] قوله: (خلق الإنسان) اللام في الإنسان هنا للعهد كما هو معلوم، وليست للجنس، فأحياناً تأتي كلمة (الإنسان) ويراد بها إنساناً معهوداً بعينه، وأحياناً تأتي ويراد بها جنس الإنسان.
كما يقول الله سبحانه وتعالى (الكتاب) فأحياناً يأتي ذكر الكتاب ويراد به كتاباً معهوداً بعينه، وأحياناً يأتي ذكر الكتاب مراداً به جنس الكتب، فمثلاً: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113] فالمراد بالكتاب هنا القرآن، فالمراد به كتاب معهود نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القرآن.
لكن: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} [الحديد:25] فالكتاب هنا اسم جنس، لا يراد به كتاباً معهوداً بعينه، إنما يراد به كل الكتب التي نزلت من عند الله سبحانه وتعالى.
وكذلك الإنسان أحياناً يأتي ذكر الإنسان ويراد به إنساناً بعينه وهو آدم صلى الله عليه وسلم أو غير آدم، وأحياناً يأتي ذكر الإنسان للجنس، فمثلاً: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] الإنسان الذي خلق من صلصال كالفخار هو آدم صلى الله عليه وسلم، لكن قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:2] فالإنسان هنا ذرية آدم.
فقوله سبحانه: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] إن قال قائل: كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5] ، {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] و {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26] ، فالصلصال من حمأ مسنون: الطين المتغير المنتن؟! نقول: إن هذه مراحل خلق الإنسان، خلق من تراب: عجن التراب بالماء، فأصبح طيناً، ثم ترك الطين حتى أنتن فأصبح حمأً مسنوناً، خلق منه الإنسان وترك حتى يبس فأصبح صلصالاً كالفخار، إلى غير ذلك.(45/14)
تفسير قوله تعالى: (وخلق الجان من مارج من نار)
قال تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] المارج قال فريق من أهل العلم: هو طرف اللهب، وهو أقوى شيء في النار، فالنار المجاورة للمصدر مباشرة هي الأضعف، وطرف اللهب هي الأقوى، فيقولون: إن المارج من نار هو طرف هذا اللهب أو طرف النار.
قوله سبحانه: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] بهذه الآية وبقول إبليس: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} [الأعراف:12] يقوى قول من قال: إن إبليس من الجن كما دل عليه الكتاب العزيز صراحة في قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] .
أما الإشكال الذي قد يرد ألا وهو: إن الله سبحانه وتعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، فإبليس لم يكن على هذا الزعم موجهاً له الخطاب؛ لأنه ليس من الملائكة، فلماذا يُعَاْقَبُ وهو ليس من الملائكة والله يقول: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] ؟ الإجابة على هذا الإشكال: أن الله وجه إليه الأمر بالسجود كذلك مع الملائكة، فلما امتنع عوقب بامتناعه.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] قد يأتي شخص ويقول: كيف يعذب الجان وهو مخلوق من نار؟ نقول: هذا من الممكن؛ فأنت يا من خلقت من طين قد تعذب بالطين وبالأحجار الطينية، وقد عذب قوم لوط بحجارة من سجين، أي: من طين منضود متحجر.(45/15)
تفسير قوله تعالى: (رب المشرقين ورب المغربين)
قال الله سبحانه وتعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:16-17] إن قيل: هناك مشرق ومغرب، ومشرقان ومغربان، ومشارق ومغارب فكيف الجمع؟ الجمع أيسر من أن يتكلف: فالمشرق والمغرب لها تأويلات أحدها: مشرق الشمس ومغربها، والمشرقان والمغربان أي: مشرق الشمس والقمر ومغربهما، والمشارق والمغارب مشارق الشمس والقمر والنجوم ومغاربها، هذا قول.
وقول آخر: أن الشمس لها في الجملة مشرق ومغرب، وعلى التفصيل كل يوم يختلف مشرقها عن مغربها أي: يختلف مشرقها عن اليوم الذي قبله، فالشمس اليوم لها مشرق، وغداً لها مشرق، وبعد غد لها مشرق، وإن كانت الاختلافات طفيفة لا يعلمها إلا الله، لكنها على كلٍ مشارق ومغارب، والله أعلم.(45/16)
تفسير قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان)
قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:18-19] المرج يطلق على الخلط أحياناً، وقيل: إن معنى (مرج البحرين يلتقيان) أي: أقبل هذا البحر على ذاك، والبحران هنا المراد بهما العذب والمالح، وعبر عن النهر بالبحر هنا.
فأولاً من ناحية اللغة: يطلق البحر على النهر كذلك، فإن البحر مأخوذ من الاتساع، والنهر كذلك مأخوذ من الاتساع، فالنبي صلى الله عليه وسلم يوم أن سمع صوتاً في المدينة فامتطى فرسه وكان عريان -أي: الفرس- وتتبع أثر الصوت فقال: (ما وجدنا شيئاً، إن وجدناه لبحراً) أي: وجدنا الفرس سريع الخطى، واسع الخطى، فالواسع يطلق عليه بحر، ومنه قول العامة: هذا بحر في العلم، أي: علمه واسع.
والنهر كذلك يطلق على الاتساع والشدة، قال عليه الصلاة والسلام: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السنَّ والظُّفُرَ) فما أنهر الدم أي: ما أخرج الدم بغزارة، فالبحر يطلق على النهر أحياناً، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الجنة-: (فيها بحر اللبن، وبحر العسل، وبحر الخمر، وبحر الماء) ، وفي الكتاب العزيز: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] فعبر عن البحر بالنهر، وعن النهر بالبحر.
فإما أن يقال: أطلق على النهر والبحر بحران تغليباً كما يقول العرب: جاء العمران ويقصدون: أبا بكر وعمر، وكما نقول نحن الوالدان أو الأبوان، ونريد بالأبوين: الأب والأم، فأطلق عليهما الأبوان تغليباً، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) والمراد بهما الأذان والإقامة.(45/17)
تفسير قوله تعالى: (بينهما برزخ لا يبغيان)
قال سبحانه: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] البرزخ: الحاجز، والبرزخ: الفاصل كذلك، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] وهو وجودهم في المقابر إلى يوم البعث.
قال تعالى في شأن البحرين: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] أي: يحجز الملح عن العذب، فلا يتداخلان، وإلا لو دخل الملح على العذب لوصل الملح إلى بلادنا ولأفسد علينا سقيانا ومزارعنا، ولكن من حكمة الله الحكيم الحميد أنه سبحانه جعلهما في الحياة الدنيا لا يبغيان.
أما بين يدي الساعة فكما قال فريق من أهل العلم: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] قال بعضهم: اختلط مالحها بعذبها، ودخل مالحها في عذبها.
أما هذه الآية الكريمة: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] فهي من الأدلة على قدرة الله سبحانه وتعالى، ولو شاء الله لخلطهما.(45/18)
تفسير قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)
قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:21-22] .
قال فريق من أهل العلم: إن اللؤلؤ لا يخرج إلا من البحار، فكيف قيل: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن:22] ؟ فالإجابة من وجوه: أحدها: ما تقدم، ألا وهو أنه أطلق: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن:22] تغليباً، وإن كان يخرج من البحر.
والثاني: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن:22] قال البعض: ثبت الآن أن اللؤلؤ أيضاً يخرج من الأنهار، فالله سبحانه وتعالى أعلم.(45/19)
تفسير قوله تعالى: (وله الجوار المنشآت.)
قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الرحمن:23-24] .
قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ} أي: السفن، جمع جارية كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] وسميت جارية لجريها، كما أطلق على الفتاة جارية لجريها في خدمة أبويها، وعلى الأمة جارية لجريها ولسعيها في خدمة سيدها، فيطلق على السفن، والجواري، والفلك، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] .
الأعلام المراد بها الجبال، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولينزلن قوم إلى جنب علم) فالعلم هنا هو الجبل، فالجوار المنشآت في البحر كالجبال هي لله سبحانه وتعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:33-34] إن يشأ الله يغرقها وإن يشأ الله يسيرها.(45/20)
تفسير قوله تعالى: (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك.)
قال سبحانه: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:25] ثم القرار: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] .
كما قال الله سبحانه لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ، وكما قال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] ، وكما قال الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] .
فهنا يذكر سبحانه لفظاً عاماً في كل الخلائق: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] الجلال مأخوذة من الإجلال، وقولك: أنا أجل الشخص عن كذا، أي: أنزهه وأرفعه عن هذا المستوى، فتقول: أنا أجلك عن هذا الفعل، أي: أرفع قدرك، فلا يليق بك أن تنزل إلى هذا المستوى الرديء وتفعل هذا الفعل، فأنت أجل من هذا الفعل، وأعظم من هذا الفعل، فالجلال هنا من هذا المعنى.
وكذلك: الإكرام، بمعنى: أنا أكرمك أن تصنع هذا الصنيع، وأن تنزل إلى هذا المستوى، فربنا أجل وأكرم، فهو لا يتطرق إليه سبحانه عيب ولا نقص بحال من الأحوال، منزه عن كل قبيح، ومنزه عن كل نقص، ومنزه عن كل عيب سبحانه وتعالى.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام) أي: ألحوا في الدعاء وأكثروا في الدعاء، من قول: يا ذا الجلال والإكرام، فتقول مثلاً: يا ذا الجلال والإكرام افعل لي وافعل، كما تقول بعد الصلاة: اللهم! أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فتخلل بها أدعيتك.(45/21)
تفسير قوله تعالى: (يسأله من في السماوات والأرض.)
قال الله سبحانه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن:29] وهذه الآية تبين لك عظمة ربك سبحانه وتعالى، فكل شيء في السماوات والأرض يسأل الله، أنا وأنت وأبي وأبوك وأخي وأخوك وأمي وأمك والخلائق أجمعون، الشمس والقمر، الملائكة والجن، والسمك والحيتان، والجراد والنمل والقمل والدود، كل ذلك يسأل الله سبحانه وتعالى في آن واحد، والله يجيبه، والله يسمعه، ويعلم سره ونجواه.
أما أنا وأنت إذا حدّثنا شخصان في آن واحد، نقول لأحدهما: اسكت، حتى ينتهي الآخر من حديثه، حتى أفهم مراده؛ لأنه كما قال سبحانه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4] .
لكن ربنا سبحانه وتعالى ليس كذلك، فكل من في السماوات والأرض يسألون ربهم، وهو يسمعهم ويجيبهم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] ، {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32] .(45/22)
الأسئلة(45/23)
حكم من حلف بالطلاق
السؤال
أريد الحكم في هذه الأيمان الثلاثة التي ألقاها الزوج لزوجته وهي متفرقة، عندما يقول الزوج: عليّ الطلاق لم يحصل هذا الشيء، والزوجة متأكدة أنه حصل؟
الجواب
هو كذاب، لكن لا تقع به طلقة.(45/24)
حكم الصلاة في البنطلون الواسع والضيف والمسبل
السؤال
ما حكم الصلاة في (البنطلون) ؟
الجواب
الصلاة (بالبنطلون) صحيحة، لكن إذا كان ضيقاً ومسبلاً كرهت، لكنها أيضاً مع الكراهية صحيحة.(45/25)
حكم إقامة جماعة ثانية في مسجد قد صلي فيه
السؤال
هل تجوز إقامة جماعة ثانية في مسجد أقيمت فيه الجماعة الأولى؟
الجواب
نعم تجوز؛ لحديث: (من يتصدق على هذا؟) ولم ينه رسول الله عليه الصلاة والسلام عن ذلك.(45/26)
حكم من تحايل على حقوق الفقراء واستعمل الغش والتزوير
السؤال
لقد اشتريت منذ فترة (بجامة) نوم من صندوق الضمان الاجتماعي، وذلك بدون أي رخصة من الضمان الاجتماعي، وإنما قمت بعمل بحث مزور مع أني غير محتاج، فهل أنا قد أخذت شيئاً ليس من حقي؟
الجواب
نعم أخذت شيئاً ليس من حقك، إن هذا موضوع للفقراء، وأنت لست بفقير، فأنت تدخلت على حق الفقراء وأخذته ببحث مزور.
السائل: ولما سألت الموظف عن ثمن (البجامة) علمت أنها بثمانية وثلاثين جنيهاً وكان معي (بجامة) أخرى بواحد وثلاثين فخلطتهما وأخذت (البجامة) ذات السعر ثمانية وثلاثين بواحد وثلاثين؟! الشيخ: يعني غش الموظف السائل: وقد مر على هذا الموضوع عامان فماذا أفعل في السبعة جنيهات؟ الجواب: تصدق بها؛ لأنه الآن يصعب الوصول إلى الموظف الذي خدع، فتصدق بها ويصل ثواب الصدقة إلى الموظف الذي غش، والله أعلم.
وقد حضرتني في هذا الباب مسألة لرجل غل من غنيمة بعض المعارك، في زمان أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه، فلما قسمت الغنائم سمع حديث الغلول والوعيد الوارد فيه، فأراد التوبة، فذهب إلى أمير المؤمنين معاوية وقال: معي غلول، لا أدري ماذا أصنع به وقد تبت إلى الله.
قال: ما أدري أنا كيف أصنع والغنيمة قد قسمت.
فذهب إلى بعض الصحابة فأفتي: أن تصدق بها والله يقبل التوبة عن عباده، وثوابها يصل إلى المجاهدين إن شاء الله.(45/27)
حكم من خرج من المسجد بعد الأذان ليصلي في مسجد آخر
السؤال
إذا كنت أحضر درساً في المسجد، وأذن المؤذن فهل يجوز أن أخرج من المسجد وأصلي في مسجد آخر قريب من عملي حتى لا أتأخر عن العمل؟
الجواب
نعم، يجوز لك ذلك إذا كنت ستصلي في جماعة أخرى في مسجد آخر.
أما حديث الرجل الذي خرج من المسجد بعد سماع المؤذن وقول الصحابي: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) فمحمول على أنه خرج بلا عذر، وأنه خرج ولم يصلها في جماعة.
أما إذا خرج لعذر وخرج قاصداً الصلاة في جماعة أخرى وأدرك شيئاً من الصلاة في هذا المسجد فلا بأس بذلك، والله أعلم.(45/28)
تفسير أهل السنة لقوله تعالى: (تجري بأعيننا)
السؤال
تحدثتم عن قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فقلتم أي: تجري بحفظنا وعنايتنا، الشاهد: هل هذا ليس بتأويل؟
الجواب
لا، ليس بتأويل أبداً؛ لأنه قد جرى على هذا كلام العرب، وهذه أقوال مفسري أهل السنة، وإن شئت فاقرأ كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، وإلا فما معنى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] عندك أيها السائل؟ فالعلماء من أهل السنة يقولون: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] أي: تجري بحفظ الله وبرعايته، وعلى مرأى منه، هذه أقوال أهل السنة.(45/29)
حكم اللقطة
السؤال
شخص وجد مالاً في الطريق وعليه دين فأخذ المال، فهل يسدد دينه من هذا المال، وهل له نصيب فيه؟
الجواب
هذا المال يسمى اللقطة، فيجري عليه حكم اللقطة، فيعرفه عاماً إن كان مالاً يعرف، أما إذا كان مالاً لا يعرف كنصف أو ربع جنيه أو جنيه فكيف تعرفه عاماً؟ هذا ضرب من الجنون أن تبقى لمدة سنة تقول: الذي ضيع جنيهاً فليأت ليأخذه.
لكن إذا كان المال كثيراً مما يجعل صاحبه يظل يبحث عنه طيلة هذه المدة، فحينئذ يعرف المال عاماً فإن أتى صاحبه وإلا فليستمتع به بعد الحول.(45/30)
حكم نظام البحث المعمول به في تقسيم الأراضي الزراعية
السؤال
ما هو الموقف من نظام البحث المعمول به في تقسيم الأراضي الزراعية، حيث أنه في أغلب الأوقات تأخذ المرأة أكثر من أخيها الرجل بحجة أنها مبحوثة، وفي بعض الأحيان يأخذ أخ دون أخ بحجة أنه عمل بحث؟
الجواب
بالنسبة لهذه المسألة فالأراضي هذه تعتبر هبات، وللحكومة أن تهب ما تشاء لمن تشاء، أعني: من الرعية، أي: أن للوالي أن يهب ما يشاء، فإذا جاء والٍ وقال: كل أم من الأمهات لها فدان مثلاً، أو كل بنت كبيرة من أسرة مكونة من بنات، نعطيها ألفي جنيه، الوالي يقول: أنا أختار البنت الكبيرة من الأسر، وقرر هذا القرار، من الناحية الشرعية -بغض النظر عن حكومتنا وما فيها من قول- ليس هناك ما يمنع من ذلك شرعاً، والله أعلم.(45/31)
حكم عفو المرأة عمن طلقها في النفقة
السؤال
تزوج شخص من موظفة واختلفا على مرتبها، وانتهى الزواج بعد أن أنجبا طفلين بالطلاق، وتزوج من أخرى وأنجب منها طفلتين، وقد حصلت الزوجة الأولى على نفقة -وبحمد الله- عليه مبلغ كبير، وأخذت عليه حكماً بالحبس، فهل تمد له يد المساعدة أم يترك يحبس؟ وهل هي في مساعدتها له تكون ممن يسكت على ظلم؟!
الجواب
الأورع لها والأتقى أن لا تحبسه؛ لأن الله يقول: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] هذا من ناحية.
ثم إن الأحكام التي صدرت ليست -من حيث الأصل- شرعية من الدرجة الأولى، ففيها بعض ما يعتري هذه المحاكم.
فالأولى لها أن تصبر وتعفو: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237] كما قال الله سبحانه وتعالى.(45/32)
حكم أخذ الزوج من راتب زوجته
السؤال
هل لي أن آخذ نصف راتب زوجتي؟
الجواب
إن هي اشترطت عليه قبل بداية الزواج أنها ستعمل فهي أحق براتبها، وإن لم تشترط عليه أنها تعمل فالأمر بينهما على ما يتفقان عليه؛ لأنه من حقه أن يمنعهما من العمل كزوجة، لكن هذا الحق الذي له يسقط إذا اشترطت قبل الزواج أن تعمل؛ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحق الشروط بالوفاء ما استحللتم به الفروج) .
لكن إذا تزوجها وهي موظفة ولم يحدث اشتراط، ولم يحدث أي شيء ثم دخل بها، فقال لها: قد أنجبنا فاجلسي في البيت، قالت: أنا أريد الوظيفة، فمن حقه شرعاً أن يجلسها في البيت، فإن اتفقا على نصف المرتب فلا حرج ولا بأس على ما اتفقا عليه.(45/33)
عدم وجوب تغطية المرأة لشعرها عند تلاوة القرآن
السؤال
هل يجب على المرأة أن تغطي شعرها عند قراءة القرآن كما في الصلاة؟
الجواب
لا يجب على المرأة أن تغطي شعرها عند تلاوة القرآن؛ إذ لا دليل يلزم بذلك، لكنه من تمام الزينة التي ذكرها العلماء ضمناً، في قول بعض السلف الصالح كـ ابن عباس وغيره، أو قول عروة: الله أحق من تزين له.
لكن كدليل يلزم أو يوجب على المرأة أن تغطي رأسها عند تلاوة القرآن، لا أعلم دليلاً يدل على ذلك.(45/34)
حكم من أراد التصدق بمبلغ معين فأعطى السائل أكثر منه
السؤال
شخص وضع يده في جيبه ليعطي سائلاً مبلغاً قدره: خمسة وعشرين قرشاً، ولما عاد لمنزله وجد أنه أعطى السائل ورقة بمائة (دولار) ، فعلى أي الورقتين يكون ثوابه؟
الجواب
نرجو أن يثيبه الله سبحانه وتعالى، صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات ... ) وهو أعطى السائل مائة (دولار) وليست له نية إلا في الربع جنيه، فهو مثاب على الربع جنيه، لكن فضل الله أوسع، والله سبحانه وتعالى كريم.(45/35)
حكم من سعى في الصلح ولم يوفق وطلب منه الشهادة
السؤال
إذا دخل رجل وسعى في الصلح وقد سمع من طرف واحد، وسمع من الطرف الآخر، ولم يوفق في الصلح، ولجأ طرف إلى المحكمة ثم طلب منه الشهادة، فهل سماع القول يلزم السامع أن يقول ما سمعه منه وتعتبر شهادة ملزمة، أم أن القول المسموع عند التدخل لحل المشكلة ولم تُحلَّ لا يلزمه القول به؟
الجواب
الصحيح أن تقول: أنا جلست بينهما مصلحاً، وسمعت من هذا كذا، وسمعت من هذا كذا، إلا إذا كانت هناك خدعة خُدِعَ بها شخص، فأحياناً نوجد مخرجاً لهذا الشخص في بعض الحيل، لو أن شخصاً قال: الأخ فلان استلف من فلان ألف جنيه، وهما الاثنان أصدقاء لي، لكن أنا ما رأيتهما عندما أسلف أحدهما الآخر، لكن ثقتي فيهما كبيرة جداً، فجاء واحد وقال: فلان استلف مني ألف جنيه فاشهد على ذلك، فشهدت على الألف جنيه، وبعدها حصلت مماطلة، فأخونا الدائن ذهب إلى المحكمة يشكو المدين، فالقاضي استدعاني، فكيف أشهد أنا الآن؟ وكيف أصنع أمام القاضي؛ فإنه سيطلب مني الآن اليمين؟ فأنا واقع بين خطرين: إن شهدت أنه اقترض ألفاً فأنا ما رأيت، وإذا لم أشهد سيقول لي القاضي: لماذا وقعت؟ فله أن يذهب ويحتال على المدين، ويقول له: أنت لماذا لم تسدد الدين لصاحب الدين؟ قال: والله ليس عندي ما أدفعه، فهنا الحمد لله ثبت أنه أخذ الألف جنيه، فحينما يشهد؛ لأنه بعد ذلك يكون أخف الأضرار.(45/36)
حكم صلاة المرأة في البنطلون
السؤال
هل تجوز صلاة المرأة في (البنطلون) ؟
الجواب
إذا كان (البنطلون) واسعاً وسابغاً في البيت فلا بأس.(45/37)
حكم الزواج بأخت من رضع من أمي
السؤال
أرضعت والدتي ابن خالتي وهو أكبر مني، فهل يجوز لي الزواج من بنت خالتي التي تصغره؟
الجواب
نعم يجوز لك الزواج من بنت خالتك؛ لأن ابن خالتك هو الذي رضع من أمك، فهو أخوك من الرضاعة فقط، لكن لو أنت الذي رضعت من خالتك فتكون أخاً للبنت فتحرم عليك، لكن الصلة المذكورة ليست كذلك فلك أن تتزوج بنت خالتك.(45/38)
حكم تسمية سورة النحل بسورة النعم
السؤال
يسمي البعض سورة النحل بالنعم؟
الجواب
هذه تسمية صحيحة.(45/39)
حكم حديث: (من أراد الدنيا فعليه بالقرآن.)
السؤال
حديث: (من أراد الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن) ؟
الجواب
لا أعلم له الآن سنداً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.(45/40)
حكم لبس النساء غير السواد من الثياب
السؤال
سئلتم عن لبس النساء اللون الأسود والخروج به، وهل يجوز استعمال اللون الكحلي أو البني أو الأبيض، وقلتم: المسألة فيها سعة، أما الأبيض فمحل نظر، فما الضابط في اللباس بالنسبة للمرأة؟
الجواب
بالنسبة للبس النساء بصفة عامة يجوز للمرأة أن تلبس الأسود، وهو الأحب؛ لأنه فعل نساء الأنصار ونساء المهاجرين الأول، النساء المهاجرات الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما نزلت آية الحجاب خرجن كأن على رءوسهن الغربان من السواد، لكن إن لبست المرأة لبساً آخر غير الأسود فلا مانع أبداً منه، إلا إذا كان يلفت أنظار الناس إليها، ويحدث فتنة بها، فمثلاً: لو لبست امرأة ثوباً أحمر -وإن كان سابغاً- وهو فاتح ومشت في الشارع، كل الناس سينظرون إليها، وهي مأمورة أن تصرف أنظار الناس عنها؛ لقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] .
لكن إن لبست ثوباً بنياً ولم يكن بلافت للنظر فلا بأس بذلك، وقد طافت عائشة بثوب مورد، ليس معناه: أن فيه ورداً، إنما هو في الجملة وردي، لكنه محمول على أنه وردي ليس بملفت للنظر، روى ذلك عنها -أظنه- عطاء بن أبي رباح، قال: رأيت عائشة تطوف وقد لبست ثوباً مورداً.
إذاً إن وجدت الفتنة منع هذا الثوب، وإن لم توجد الفتنة لبس الثوب قال تعالى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] .
إلى هنا وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.(45/41)
تفسير سورة الرحمن [2]
من عظيم شأن الله سبحانه وتعالى أنه يسمع أصوات المخلوقات ودعاءها في آن واحد، فلا تختلط عليه الأصوات والدعوات، وهذا دليل على عظمة الله وقدرته.
ولقد تحدى الله سبحانه وتعالى الخلق جميعاً بأن ينفذوا من أقطار السماوات والأرض، وأن يخرجوا من ملكه ومن قهره فلم ولن يستطيعوا ذلك، فالجن والإنس مؤمنهم وكافرهم في قبضة الله سبحانه وتعالى، وتحت تصرفه، لا مفر ولا مهرب لهم من الله إلا إليه، وهذا التحدي هو في يوم القيامة يوم يجمع الله الأولين والآخرين.(46/1)
تفسير قوله تعالى: (سنفرغ لكم أيها الثقلان)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول سبحانه وتعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31] ، قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) أشكل على بعض العلماء، فقال بعضهم: كيف يقول ربنا: سنفرغ؟ أبالله شغل عن خلقه حتى يقول: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} [الرحمن:31] ؟! فلذلك أوّل بعض العلماء هذه الآية، فقال بعضهم: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} [الرحمن:31] أي: سنحاسبكم وسنقضي بينكم.
ومن أهل العلم من قال: هي حاملة لمعنى التهديد ولمعنى الوعيد، فالله سبحانه ليس به شغل، ولكنه يتوعد العصاة ويهددهم بقوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31] .
فعلى ذلك: أشهر الأقوال في تفسير قوله سبحانه: (سَنَفْرُغُ) قولان: أحدهما: أنها على معناها لكنها مضمنة للتهديد ومضمنة للوعيد.
والآخر: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) أي: سنحاسبكم وسنقضي بينكم.
و (الثَّقَلان) هم الإنس والجن كما تقدم.(46/2)
تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس.)
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:32-33] ، متى هذا؟ من أهل العلم من قال: هذا الكلام يوجه للثقلين في الآخرة، فيقول الله لهم في الآخرة: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن:33] ، {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:8-9] ، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25] .
حينئذٍ يحاول الإنسان الهرب، ويحاول الجان الهرب، فلا يستطيعون الفرار، كما قال الله سبحانه: {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:10-12] .
فمن أهل العلم من قال: إن قوله سبحانه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن:33] هذا كلام يوجه إلى الإنس والجن الآن، ويوم تشقق السماء، وبين يدي الساعة عند حدوث الأشراط الكبرى لها، فلا يستطيعون الفرار كما قال تعالى: {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3] أي: وليس ثمّ مفر.
فهذا قول.
{لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] على هذا التأويل قالوا: إن المراد بقوله: {لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] أي: لا تنجون إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، فهذا هو التأويل الأول لهذه الآية، أن هذا الكلام محله بعد أشراط الساعة الكبرى، يوم أن تشقق السماء بالغمام.
وثمّ قول آخر ألا وهو: أن هذا القول في الحياة الدنيا، فيبين الله سبحانه وتعالى أنه لا طاقة ولا قدرة للإنس ولا للجن على اختراق السماوات، وعلى التنصت عليها كما كان الجن يفعلون قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان مسترقو السمع من الجن -كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يعرجون إلى السماء واحداً فوق الآخر كما وصفه سفيان راوي الحديث بوضع إحدى كفيه على الأخرى إلى أن يصلوا إلى السماء، فيتصنتون على سماء الدنيا، ويستمعون إلى الملائكة وهم يتحدثون في العنان بما سيكون، فيخطفون الخبر من هؤلاء الملائكة ثم يمضون سريعاً إلى الكهنة والسحرة، فيلقون الخبر ومعهم مائة كذبة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم شددت الحراسة على السماء كما قالت الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9] ، وكما قال الله سبحانه: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:6-9] ، فمن حاول اختراق السماوات سلطت عليه الشهب وأرسلت عليه النجوم فكانت رجوماً له، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] .
فالقول الثاني في تأويل هذه الآية: أن هذا في الحياة الدنيا، وهو تحدٍ للإنس والجن، وبيان عجز الإنس والجن عن اختراق السماوات واختراق الأرض.
وبهذه الآية وبضمينتها في سورة (ص) استدل الشنقيطي رحمه الله تعالى على بطلان المدّعى الذي فحواه: أن الإنسان صعد إلى القمر، ووصف هذه الأقوال بأنها أكاذيب، محتجاً بقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} [ص:10] والارتقاء: الصعود، والأسباب: الطرق الموصلة إلى السماء، ثم قال تعالى: {جُندٌ مَا} [ص:11] نُكِّر الجند للتعميم، {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} [ص:11] ، أي: أن من يفكر في غزو السماء واختراق السماء الدنيا محكوم عليه بالهزيمة، كما قال تعالى: {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} [ص:11] ، واستظهر أيضاً بقوله تعالى في هذه السورة: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ} [الرحمن:35] ، والله أعلم بصدق هذا المدّعى الذي ادعوه وهو الصعود إلى القمر، فقد ثارت في بعض الأزمنة محاولات لغزو الفضاء يعرفها كبار السن منكم إبان التنافس في غزو الفضاء بين الروس والأمريكان، فقد كانت ترسل الأولى سفناً للفضاء والأخرى ترسل، وبعد زوال ما يسمى: بالاتحاد السوفييتي، ماتت كل هذه الأشياء، ولم يعد لها الآن أي ذكر على الإطلاق.
وقد ذكر أن بعض الصينيين ألف كتاباً يثبت فيه: أن هذه كانت محاولات تجريها المخابرات الأمريكية والأمريكان في صحراء نيفادا، وليس للصعود على القمر حقيقة، فالله أعلم بصحة هذه الادعاءات، هو وحده سبحانه أعلم.
أما كوننا نجبر على تصديق الأمريكان في دعواهم فليس عندنا في ديننا ما يجبرنا على تصديقهم، فهم من حيث الأصل كفار، لهم أخبار تصدق وأخبار تكذب؛ إذ من شأنهم القول المشحون بالصدق مع الأكاذيب، وليس في ديننا ما يثبت ذلك، أما ما ينفيه فقد سمعتم ما ينفيه، والمسألة ما زالت محل نظر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(46/3)
تفسير قوله تعالى: (يرسل عليكما شواظ من نار.)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} [الرحمن:35] ، والشواظ على التحرير أنها جمع شظية، والشظية معروفة: وهي التي تلقيها الطائرات في دنيانا من قنابل ونحوها فتخرج منها الشظايا، لكن شظايا جهنم والعياذ بالله! وصفها بعض أهل العلم بأنها كالجبال.
وكما قال تعالى أيضاً في كتابه: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] كالقصور، فالقصر مفرد قصور: {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات:33] .
قال الله سبحانه: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن:35] أما النار فمعروفة، وأما النحاس فمن أهل العلم من قال: هو الدخان، لكن كثير من أهل العلم يذهبون إلى أنه النحاس المعهود لدينا.(46/4)
تفسير قوله تعالى: (فإذا انشقت السماء.)
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:36-37] ، فقوله: (إذا انشقت السماء فكانت وردة) أي: كانت وردة في لونها، وكالدهان في سيرانها، فقوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37] شبهت بالدهان من جانب، وبالوردة من جانب آخر.
فلم تشقق السماء؟! قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25] فتتشقق السماء بالغمام وتنزل منها الملائكة.
ومن أهل العلم من قال: إنها تتشقق لشدة الحر الذي فوقها، فتذوب كما يذوب الدهن الذي مسته الحرارة، فالدهن إذا مسته الحرارة سال وانصهر، وتحول من الحالة الجامدة إلى الحالة السائلة، وفي هذا التحول تحت النار الشديدة تعتريه ألوان، فيتلون أثناء تغيره من الحالة الجامدة إلى الحالة السائلة، فكذلك السماء مما يعتريها من حر جهنم تسيل وتكون كالمهل، وتأخذ لون الورود لاحمرارها الزائد، وتتلون كما يتلون الدهن على حسب شدة لهب النار أو انخفاضها، فكلما اعتراها حر شديد أخذت لوناً، وإذا اعتراها حر آخر أخذت لوناً آخر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(46/5)
تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان)
قال الله جل ذكره: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39] قد تشكل هذه الآية مع قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] فآية أثبتت
السؤال
{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] وكذلك قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92] ، وآية نفت السؤال وهي قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39] ، وكذلك قوله تعالى: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78] ، فكيف التوفيق بين هذه الآيات؟ للعلماء في ذلك مسالك: أحد هذه المسالك: أن المواقف يوم القيامة تتعدد وتتنوع، فاليوم كألف سنة مما تعدون، فلا يمتنع أن يسأل هؤلاء في موطن، ويترك سؤالهم في موطن آخر.
والوجه الثاني من أوجه الجمع: أن الله سبحانه وتعالى لا يسأل العبد المجرم: هل عملت كذا أو لم تعمل كذا؟ لكن إذا سئل سؤالاً يسأل للتوبيخ، وترك السؤال هو سؤال الاستفسار: هل عملت أم لم تعمل؟ أما هذا فقد يعكر عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله سبحانه وتعالى يدني المؤمن يوم القيامة فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا؟ فيقول: نعم يا رب! فيقول الله سبحانه: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) .(46/6)
تفسير قوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم.)
قال سبحانه: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] السِّيمَا: هي العلامة، سيماهم أي: علاماتهم، فلأهل الإيمان علامات يوم القيامة، ولأهل الكفر علامات يوم القيامة، ولأهل الفسق علامات يوم القيامة.
ومن علامات أهل الإيمان: الغرة والتحجيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل: (كيف تعرف أمتك من بين الأمم يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أمتي تأتي يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء) ، فتأتي الوجوه بيضاء، والأيدي بيضاء، والأرجل بيضاء من آثار الوضوء، وكذلك علامات الإيمان تظهر في الوجوه، كما في قوله سبحانه: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] .
أما أهل الفسق فلهم علامات كذلك: فالغادر يحشر يوم القيامة معلماً بعلم عند استه، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان) .
ومانع الزكاة يعرف فيطوقه الشجاع الأقرع كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا سائر أصحاب الكبائر: (من ظلم قيد شبرٍ من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) .
أما أهل الكفر فلهم علامات منها: زرقة العيون، كما قال الله سبحانه: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] أي: نحشرهم زرق العيون، وسود الوجوه، كذلك قال سبحانه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] .
قال الله جل ذكره: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] ومن هم المجرمون؟ هل هذه الآية تنزل على الكفار فحسب؟ نقول: الإجرام هنا أعم من أن يكون منزلاً على الكفار فحسب، فتارك الصلاة مجرم بنص كتاب الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:38-43] وإن الحكم عليه بالإجرام لا يعني أنه كافر مخلد في النار، فقد يدخل النار إذا لم يغفر الله له، ثم يخرج برحمة الله سبحانه وتعالى, على ما تقدم من تفصيل في حكم تارك الصلاة.
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] أي: تضم الناصية إلى القدم ويقذف به في النار، فقوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] حذف ما بعده وفهم المراد من السياق ومن دلالته، فلم يقل الله سبحانه: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] ثم يقذفون في النار؛ لأن الجميع يعلم أنه يؤخذ بالنواصي والأقدام ثم يأتي بعد ذلك القذف في النار، فلكون السامعين يعلمون ذلك حذف من السياق.
فتضم ناصية الشخص -وهي مقدم رأسه- إلى رجليه ويقذف في النار، وإن كان أبوه نبياً، وإن كان ولده نبياً، فالله يقول: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166] ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة، فيقول له: يا أبتِ ألم أقل لك: لا تعصني، فيقول: أما اليوم فلن أعصيك أبداً، فيقول: يا رب أبي الأبعد ألم تعدني أنك لا تخزني يوم يبعثون؟ فيقال: يا إبراهيم! انظر بين رجليك، فإذا بذيخ منتفخ -والذيخ هو ذكر الضبع، منتفخ أي: ملوث بعذرته وحاجته التي يخرجها من الدبر- ثم يؤخذ به ويلقى في جهنم والعياذ بالله!) .(46/7)
تفسير قوله تعالى: (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون)
قال تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} [الرحمن:43] أي: التي يكذبون بها في دنياهم، قد رأوها في أخراهم، فماذا كان لما رأوها في أخراهم؟ قال الله جل ذكره: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام:27] أي: لرأيت منظراً عظيماً مروعاً بشعاً، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] .
انظر إلى حكمة الله سبحانه في تعذيبهم، فهم قد رأوا النار وعاينوها بأعينهم، ومع ذلك يقول سبحانه: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] ، فيرون النار بأعينهم، وربنا أصدق القائلين يقول: وهم بعد رؤيتهم للنار وبعد وقوفهم عليها ومعرفتهم لحقيقتها، لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.(46/8)
صفة تردد المجرمين بين جهنم وبين الحميم الآن
يقول الله جل ذكره: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} [الرحمن:43] ، {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:44] أي: يترددون بينها وبين الحميم الآن، فيذهبون إلى جهنم يأكلون فيها من زقوم، فيملئون منها البطون، ثم يطلبون الشراب، فيذهبون إلى الحميم الآن، يذهبون إلى الماء الذي بلغ أعلى درجات الغليان، فقوله: (آن) في أصله: ناضج، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] فإناه أي: نضجه واستواءه، أي: لا تنتظروا وقت استواء الطعام وتستأذنوا على رسول الله حتى ينزل الطعام وتدخلوا على الأكل مباشرة، وهذا فيه ذم للطفيليين، وفيهم كتاب مؤلف للخطيب البغدادي رحمه الله تعالى.
فقوله: (آن) أي: بلغ أعلى درجات الغليان، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:43-44] أي: يصلون حرها، ويأكلون من زقومها، ثم يتجهون إلى الشراب كي يخفف عنهم فإذا هو بالحميم الآن، الذي يقطع الأمعاء، ويشوي الوجوه قبل وصوله إلى الأفواه، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] .(46/9)
تفسير قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان)
قال تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:45-46] .
وهذا مقابل أهل العصيان والتمرد، وكما قال فريق من أهل العلم: إن القرآن أطلق عليه مثاني؛ لكونه يأتي بالشيء وبمقابله، فيأتي بأهل النار ثم يأتي بذكر حال أهل الجنة، ويأتي بذكر البرد وبعده يأتي بذكر الحر، فيأتي بالأشياء ومقابلتها، يذكر حال الأبرار ثم يذكر حال الأشرار، فلذلك سمي القرآن: مثاني، على قول فريق من العلماء.
فالله سبحانه بين الله حال الأتقياء، حيث قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] .(46/10)
صفة الجنتين المذكورتين في الآيتين
قال الله سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] قال بعض العلماء: إن هاتين الجنتين من ذهب، أما الجنتان اللتان دونهما المذكورتان في قوله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] فهما من فضة؛ لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما) .
ومن العلماء من قال: إن الجنتين جنة له لمقامه كمؤمن، وجنة ورثها من الكافر أو اليهودي أو النصراني كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] وكما قال الرسول صلى الله عليه على آله وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد أعد له مقعده من الجنة ومقعده من النار) ، فإذا دخل المسلم الجنة ورث مقام النصراني أو اليهودي فيها، وورث النصراني أو اليهودي أو الكافر مقامه من النار فيكون للمؤمن إذاً جنتان، جنته الحقيقة المعدة له، وجنته أيضاً التي ورثها من الكافر أو اليهود أو النصراني.(46/11)
الرد على من زعم أن الجنتين جنة واحدة
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] الآية الصريحة أفادت أنهما جنتان، وقد جاء عن بعض المفسرين الأوائل وادعى: أنها جنة واحدة، ونسب هذا القول إلى الفراء، وهو قول ممقوت ومذموم، فالآية الصريحة أفادت أنهما جنتان، وهو قد قال: هما جنة واحدة إنما ذكرت التثنية لتوافق رءوس الآيات، وهذا القول منكر من القول وزور؛ وذلك لمصادمته الآية الكريمة؛ ثم لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رداء الكبرياء على وجهه سبحانه وتعالى) .
وكذلك قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:50] {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52] قال: التثنية على سبيل التوافق.
إذاً: قول الفراء مردود من ثلاث وجوه: أحدها: النص بأنهما جنتان.
الثاني: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم للجنتين.
الثالث: قوله تعالى: (فيهما) .
فلا معنى لمثل هذه الأقوال التي تصادم صريح الكتاب العزيز.(46/12)
معاني خوف مقام الله سبحانه وتعالى
وللعلماء في هذه الآية أقوال: أحدها: أن من اعتقد أن الله يراه ويراقبه سبحانه وتعالى في السر والعلن، فله جنتان، فهذا للمسلمين الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، فهؤلاء خافوا مقام ربهم في السر والعلن، وقويت مراقبتهم لله سبحانه، ففي كل وقت وفي كل حين يشعرون بقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] ، ويشعرون بقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61] ويوقنون كذلك بقوله تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود:5] .
فهذا فريق من العباد قويت عنده مراقبة ربه سبحانه وتعالى، فأيقن أن الله معه في كل وقت وحين، فانزجر عن المعاصي وانكف عن الآثام، ويدخل فيهم الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم لما رأى برهان ربه وخشيه بالغيب، ويدخل فيهم ذلك الرجل الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ويدخل فيهم ذلك الرجل الذي قعد بين رجلي ابنة عمه، فلما قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، قام وتركها، ويدخل فيهم الكفل من بني إسرائيل، وإن كان الحديث فيه ضعيفاً، لكن معناه ثابت من نصوص أخر، والله لا يعجزه شيء، وفحوى حديثه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع عن ذنب عمله -أي: لا يبالي بأي ذنب- فجاءته امرأة يوماً تستسلفه مالاً، فراودها عن نفسها مقابل المال، فوافقت تحت ضغط الحاجة، فلما قعد بين رجليها أرعدت وبكت، فقال لها: ما لك؟! أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكنه شيء ما حملني عليه إلا الحاجة، فقام من فوقها وقال: لا جرم لا أعصين الله بعد هذه الليلة أبداً، ومات من ليلته فأصبح مكتوباً على بابه: إن الله قد غفر للكفل) .
الشاهد: أن خوف مقام الرب سبحانه تندرج تحته كل هذه المفردات وغيرها.
وأيضاً من خوف مقام الرب معنى آخر وهو: تذكر لقائه يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري من حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدم، وينظر من أمامه فلا يرى إلا النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بكلمة طيبة فليفعل) ، فهذا أيضاً داخل في الخوف من مقام الرب سبحانه، ومن لقاء الرب سبحانه وتعالى.(46/13)
الأسئلة(46/14)
مقدار التشهد الأوسط
السؤال
التشهد الأوسط هل يتمم أو إلى قوله: أشهد أن محمداً عبده ورسوله؟
الجواب
الراجح عندي والله أعلم أنه ينتهي إلى قوله: أشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ لما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال -لما علم التابعي التشهد ووصل إلى قوله: أشهد أن محمداً عبده ورسوله-: إذا بلغت ذلك فقم.
وأنا إلى الآن ما علمت أحداً من العلماء الأوائل قال بإتمام التشهد الأوسط إلى نهايته، لكن المسألة ما زالت محل بحث، وأنا ما زلت أبحث في هذه المسألة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصبحه أجمعين.(46/15)
حكم الاتجار بالحمام الذي يستخدم للزينة
السؤال
ما حكم الاتجار بالحَمَامِ الذي يوضع للزينة؟ وهل المكسب من الناحية الشرعية حرام؟
الجواب
إذا كان الحَمَامُ يوضع للزينة فالاتجار فيه لا بأس به؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى بيت أنس بن مالك وله أخ يقال له: أبو عمير له طائر يلعب به يقال له: النغير، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن طائره: (يا أبا عمير! ما فعل النغير) ؟! فالتجارة في حَمَامِ الزينة لا بأس به.
أما الاشتغال بمهنة صيد الحمام والأبراج على السطوح التي لها صفير، والتي فيها سرقة لحمام المسلمين، فقد كرهها أكثر العلماء، ومنهم من وصف فاعلها بالفسق؛ لما يعتريه من أكل للحرام، ولما يعتريه من أخلاقيات لهؤلاء الناس من الصفير والغزل، والله أعلم.(46/16)
حكم العمل بالقميص الإفرنجي والبنطلون
السؤال
هل يجوز العمل في القميص (الإفرنجي) و (البنطلون) ؟
الجواب
نعم، يجوز العمل في القميص (الإفرنجي) وفي (البنطلون) إذا كان واسعاً وسابغاً.(46/17)
حكم إمامة الصبي في الصلاة
السؤال
قال لي زميل في العمل: كيف أن صبياً صغيراً مثل فلان يؤم الناس في صلاة الجمعة، وهناك من المأمومين من هو أكبر منه وأعلم منه وأفقه منه، فقلت له: إن الإمامة من شروطها: أحفظكم لكتاب الله، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صبياً إماماً لقومه؛ لأنه أحفظ لكتاب الله، فما سند هذا الحديث وما تخريجه وهل هو صحيح؟
الجواب
الحديث ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤمكم أقرؤكم؟ قال عمرو بن سلمة: فكنت أنا أصغر القوم فأممتهم في الصلاة لكثرة ما كنت آخذه من المسافرين والمارة من القرآن) ، وكان عمره آنذاك ست سنين، لكن هل أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي؟ لم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن سلمة أن يصلي بالناس، إنما قال الرسول: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، فهم الذين اختاروا الأقرأ فكان هو الأقرأ مع صغره.
وهذه المسألة انبنى عليها خلاف فقهي طويل: فمن الفقهاء من يمنع غير البالغ من إمامة الناس إذا كان فيهم من هو بالغ ومتقن للإمامة، وإذا احتججنا عليه بهذا الحديث يقول: ما أدراكم أن الرسول عليه الصلاة والسلام علم أن عمرو بن سلمة كان يؤم القوم في الصلاة وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمره بذلك أو علم به؟ فاستدل عليه الجمهور بأن جابراً قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) أي: لو كان العزل حراماً لنزل فيه قرآن، فمن أجوبة الجمهور قولهم: وكذلك لو كانت إمامة عمرو ليست بجائزة لنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآن يبين عدم جوازها، فالمسألة مسألة أخذ ورد.
فالذين قالوا بعدم الإمامة قالوا: إن الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم) موجه للبالغين كسائر أنواع الخطاب، لكن بعض الصحابة فهم أنه عام، لكن في الشرع الخطاب موجه للبالغين، قإذا قلنا: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، والصبي هذا ليس بمكلف من حيث الأصل، فإن له أن يصلي بالناس وينصرف ويتركهم قبل إتمام الصلاة، هذه وجهة نظر الذين قالوا بعدم إمامة الصبي، وهم الحنابلة، وطائفة من أهل الظاهر كذلك.
فأجابوا على حديث عمرو بن سلمة بأمرين: أحدهما: ما أدرانا أن الرسول علم ذلك وأقره؟ ثانيهما: أن الخطاب في الشرع موجه للبالغين.
أما المجوزون وهم الجمهور، فاستدلوا بعموم الحديث وقالوا: إن عمرو بن سلمة أمّ قومه والرسول عليه الصلاة والسلام أقره، لعدم وجود نهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان ذلك حراماً لنزل فيه قرآن.
فالمسألة فيها وجهتان لأهل العلم، أما الحديث فهو ثابت كما هو معلوم، والله سبحانه أعلم.(46/18)
حكم حديث: (كلكم على ثغر من ثغور الإسلام)
السؤال
حديث: (كلكم على ثغر من ثغور الإسلام فليحذر أحدكم أن يؤتى الإسلام من ثغره) ؟
الجواب
لا أعلم عنه شيئاً.(46/19)
حكم حديث: (دينك دينك لحمك ودمك)
السؤال
حديث (دينك دينك لحمك ودمك) ؟
الجواب
لا أعلم عنه شيئاً أيضاً.(46/20)
حكم القنوت في صلاة الفجر
السؤال
هل القنوت في صلاة الفجر جائز، بمعنى: لو قنت الشخص فلا إثم عليه؟
الجواب
أما الإثم فلا إثم عليه، فإن المسألة خلافية بين أهل العلم، فبعض أهل العلم ذهب إلى عدم القنوت إلا في وقت النوازل، ويكون حينئذٍ في عموم الصلوات.(46/21)
حكم المداومة على قراءة سورة السجدة فجر يوم الجمعة
السؤال
ما الحكم على المداومة على سورة السجدة في فجر الجمعة؟
الجواب
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في فجر الجمعة بالسجدة وهل أتى على الإنسان، لكن لم يرد أنه كان يداوم عليهما أو لم يكن يداوم، هكذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في فجر الجمعة بالسجدة وهل أتى على الإنسان، فإن قرأتهما فلا بأس، وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن قرأت غيرهما فالله يقول: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] ، والله سبحانه وتعالى أعلم.(46/22)
حكم حرق الحشرات الضارة بالنار
ف
السؤال
تقوم وزارة الزراعة بحرق أحطاب القطن التي عليها لوز مصاب بديدان اللوز، أي: أنها تحرق هذه الحشرات وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حرق هذه الحشرات بالنار، أو التعذيب بالنار، فهل يجوز في مثل هذه الأحوال حرق هذه الديدان الضارة التي تسبب خسارة كبيرة للمحصول، علماً بأنه توجد طرق أخرى لكبس هذه المخلفات في صورة قوالب؟
الجواب
إذا لم توجد وسيلة لدفع الضرر إلا بالنار فيجوز إحراقها بالنار؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لدغت نملة نبياً من الأنبياء فأمر ببيت النمل فأحرق، فأوحى الله إليه: هلا نملة واحدة؟ أهلكت أمة من الأمم تسبح) ، فأخذ العلماء من هذا الحديث: أن النملة التي آذت النبي يجوز أن تستثنى من عموم النهي عن الحرق بالنار، أو عموم القتل، فإذا قلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) فمحل هذا إذا كانت هناك وسيلة أخرى تقوم مقام الحرق بالنار في نفس المفعول.
أما إذا قال القائل: إن الكبس لا يقضي تماماً على هذه الحشرات التي تذهب بمحصول المسلمين، فحينئذٍ نتجه إلى الحرق بالنار، إذا لم توجد وسيلة أحسن وأفضل من هذه الوسيلة للقضاء على مثل هذا أو تشابهها، والله أعلم.(46/23)
حكم ما تفرد به الطبراني في الأوسط
السؤال
ما حكم حديث: (ذهب الشيطان إلى الشام فطرده أهل الشام، وذهب إلى العراق فقضى فيها حاجته, وذهب إلى مصر فباض وفرخ) يقول: رواه الطبراني في الأوسط؟
الجواب
ما مرّ علي هذا الحديث، لكن للمعلومية مسانيد الطبراني في الأوسط أغلبها ضعيفة، فإذا تفرد الطبراني في الأوسط بحديث على أقل تقدير (90%) مما تفرد به الطبراني في الأصل ضعيفة.(46/24)
تفسير سورة الرحمن [3]
لقد أعد الله سبحانه وتعالى لمن خاف مقام ربه جنتين ذاوتي أغصان، فيهما عينان تجريان، ويتخلل هاتين الجنتين أنواع كثيرة لا تحصى من الفواكه، وليس هذا فحسب؛ بل إنهم يتنعمون بالحور العين على الفرش التي بطائنها من إستبرق، ولقد وصف الله الحور العين بالياقوت والمرجان في الحسن والجمال.
وهناك جنتان أدنى من الأوليين أعدهما الله لعباده المؤمنين.
وختم الله سبحانه وتعالى هذه السورة بأنه هو الذي تبارك وتقدس ذو الجلال والإكرام، تكرم على عباده بهذه الجنان وما فيها، فما على المؤمن إلا أن يجد ويجتهد؛ حتى يكون من أهلها.(47/1)
تفسير قوله تعالى: (ذواتا أفنان)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:48] ، الأفنان: هي الأغصان الدقيقة.
وهل الجنتان ذواتا أفنان، أو أن هنا شيء مقدر محذوف؟ من العلماء من يقدر فيقول: أشجارهما ذواتا أفنان.
ومن العلماء من يقول: إن الجنة هي في الأصل الشجر المجتمع فلا حاجة إلى تقدير، فأصل معنى الجنة: الشجر المتشابك الملتف المجتمع الذي يجن من دخل فيه، ومعنى يجن من دخل فيه: أي: يغطي على من دخل فيه، وهذا من معاني الجنة، ولهذا أطلق على الجن جناً لاستتارهم واختفائهم، وأطلق على المجنون مجنوناً وللتغطية التي على عقله.
إذاً: من العلماء من قال: إن الجنة هي الشجر الكثير الملتف المجتمع، الذي من كثرته يغطى على من دخل فيه، فلا حاجة إلى تقدير على هذا المعنى، ومن قال: أشجارهما ذواتا أفنان فمعناه صحيح أيضاً.(47/2)
تفسير قوله تعالى: (فيهما عينان تجريان.)
قال سبحانه: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:49-52] أي: صنفان، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:44-54] والإستبرق نوع من الديباج أو الحرير كما قال بعض أهل العلم.
قال فريق من العلماء: عبر بالباطن ليدل على حسن الظاهر، فإذا كان الباطن من إستبرق فالظاهر أفضل منه بلا شك، فمن الناس مثلاً عندما ينجدون مرتبة يدخلون في داخل المرتبة أي شيء قطن أو حشو أو إسفنج أو أي شيء، لكنهم يهتمون بالمظهر الخارجي.
فإذا كان الباطن من إستبرق فما بالك بالظاهر كما قال كثير من أهل العلم؟ فيعبر بالأدنى للدلالة على الأعلى كما قال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133] فإذا كان عرضها السماوات الأرض فما بالك بطولها؟ العرض يكون أدنى من الطول وأقصر.
فالله يقول: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) أي: ثمر الجنتين متدلٍ.(47/3)
تفسير قوله تعالى: (فيهن قاصرات الطرف)
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:55-56] وقاصرات الطرف: النساء اللواتي غضضن أبصارهن إلا على الأزواج، وقصرن طرفهن فلا ينظرن إلا إلى الأزواج، وهذا أدب ينبغي أن يتوافر في نساء الدنيا.(47/4)
الرد على شبهة أن بإمكان الجني افتضاض بكارة الإنسية
قوله: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) أي: لم يفتضهن إنس قبلهم ولا جان، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:57] .
لقد أثيرت هنا مسألة وفي الحقيقة لا معنى لإثارتها، لكنها قد ذكرت ونذكرها عرضاً على وجه السرعة، ألا وهي مسألة: هل الجني يفتض إنسية؟ وهل يمكن أو يتصور أن جنياً يفتض إنسية ويفض بكارتها ويعتدي عليها أو أن هذا لا يتصور؟! في الحقيقة أن مثل هذه المسائل التي يفترض أن تكون موجودة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ الجن كانوا موجودين على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، والنساء والفتيات كن موجودات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل في أية حالة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع شيئاً من هذا ولا أفتى فيه صلوات الله وسلامه عليه.
يعني: لم يرد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً أن امرأة افتضها جني، وما ورد ذلك بحال من الأحوال، ولا سقط الحد أبداً عن امرأة اتهمت بأنها زنت وقالت: إن حملي من جني، أو إن افتضاضي من جني، ولا تسقط الحدود بمثل هذه الأقوال.
فغاية ما ورد في هذا الباب بما قد يستأنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المستحاضة التي تحيض ولا تطهر ويستمر دمها ويستمر نزيفها، قال: (ذاك ركضة من ركضات الشيطان) لكن إسناد هذا الخبر من طريق راوٍ يقال له: عبد الله بن محمد بن عقيل، والراجح عند أكثر العلماء أنه ضعيف الحديث.
فعلى ذلك لا يثبت في افتضاض الجني للإنسية في الدنيا أي شيء، ومن ثم مسألة زواج الإنسي بالجنية أو الجني بالإنسية فكل هذا لم يثبت فيه خبر أبداً.
أما الوارد عن سليمان عليه السلام، أو عن ملكة سبأ التي أطلقوا عليها بلقيس، وأن أباها كان من الجن وأمها من الإنس أو عكس ذلك، فكل ذلك لا يثبت بحال من الأحوال، وليس له دليل من الأثر الثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا أعلم ذلك أيضاً عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالذين قالوا بجواز تزوج الإنسي بالجنية منهم من يحتج بهذه الآية فيقول: المفهوم المخالف يفيد أن الجني قد يطمث، لكن عدم ورود شيء من ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلنا نمنع، بل ولا نثيره، لكن شاء الله أن يثار.(47/5)
حكم نظر المرأة للرجال الأجانب والرجل للنساء الأجنبيات
هنا تثار مسألة فقهية نتناولها على وجه السرعة ألا وهي: حكم نظر المرأة إلى الرجال الأجانب.
فمن العلماء من يشدد ويهول في نظر المرأة إلى الرجال الأجانب، ويشدد في نظر الرجل إلى النساء الأجانب.
فأيهما أعظم: نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي أو نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية؟ النصوص والتقارير تفيد في الجملة أن الكل ممنوع؛ وذلك لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] ، ولما رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؟ فقال: اصرف بصرك) .
وورد بإسناد ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وعليك الآخرة) .
وورد بإسناد أشد ضعفاً بل هو تالف وإن كان المعنى صحيحاً ألا وهو: (النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من اتقاها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه) وقد أخرجه الطبراني بإسناد ضعيف واه، لكن معناه ثابت صحيح.
هذا بالنسبة لمسألة النظر على وجه الجملة، والوارد فيه من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأيضاً: (كان النبي صلى الله عليه وسلم متجهاً من عرفات إلى مزدلفة في الحج، وقد أردف خلفه الفضل بن عباس وكان رجلاً وسيماً وضيئاً، فكان خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت امرأة من خثعم -أي: من قبيلة خثعم- وكانت أيضاً حسناء وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض مسائلها، فطفق الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فحول الرسول صلى الله عليه وسلم وجه الفضل) .
ولم يرد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغض بصرها في هذا الحديث، لكن النصوص الأخرى العامة كقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ، وقوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] تفيد الأمر بالغض.
فنرجع إلى مسألتنا: أن من العلماء من قال: إن الأمر الموجه للنساء بغض البصر أخف منه بالنسبة للرجال؛ وذلك لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تنظر إلى الأحباش في المسجد وهم يلعبون، والنبي صلى الله عليه وسلم يحملها ويضع خده على خدها، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية النسائي بسند صحيح: (يا حميراء تشتهين تنظرين؟ فتنظر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى الأحباش وهم يلعبون، حتى كانت هي التي ملت) .
أما الحديث الوارد الذي فيه: (أن ابن أم مكتوم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده بعض أزواجه، فأمرهن النبي صلى الله عليه وسلم بغض البصر، فقلن: يا رسول الله، إنه رجل أعمى، فقال: أفعمياوان أنتما؟) فهو حديث ضعيف الإسناد من طريق نبهان مولى أم سلمة وهو ضعيف.
وفي الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: (اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده) فلا شك أنها كانت ستراه أو كانت تراه؛ لأنها تعتد في بيته.
هذا بالنسبة لما ورد في مسألة النظر.
إذاً: محل نظر النساء إلى الرجال عند أمن الفتنة، ويرجع بعض العلماء إلى قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] فكلمة (من) المراد منها التبعيض: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ} [النور:31] أي: يغضضن بعض أبصارهن؛ لأنه يباح للمؤمنات أن ينظرن إلى أشياء، فيباح للمرأة بل يستحب لها أن تنظر إلى زوجها كي تعف نفسها، ولها أيضاً أن تنظر إلى محارمها إذا أمنت الفتنة، ولها أن تنظر إلى الرجال عموماً إذا كان الفتنة مأمونة، أما إذا كانت النظرة ستجر إلى فتنة، فالنظرة من أصلها تمنع، والله لا يحب الفساد.
ولكون عائشة رضي الله عنها نظرت إلى الأحباش وهم يلعبون، قال بعض العلماء: إن الخطب في شأنهن يسير شيئاً ما إذا كانت الفتنة مأمونة، لكن على الإجمال فالمستحب لهن غض البصر إلا لما دعت إليه الحاجة، فإن الله وصف نساء الجنة بأنهن قاصرات الطرف أي: يغضضن الأبصار إلا عن الأزواج.
{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] .
الطمث: هو الافتضاض، أي: افتضاض الأبكار، وهو الجماع مع نزول الدم كما هو معلوم.
{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] تجوز بعض العلماء وأطلق الطمث على كل جماع، سواء صحب هذا الطمث بافتضاض أو كان مجرد جماع أطلق عليه طمث، وإذا أطلقت الطامث على الحائض فيقولون: امرأة حائض، وامرأة طامث، كل ذلك يعني: أنها حائض.(47/6)
تفسير قوله تعالى: (كأنهن الياقوت والمرجان.)
ثم قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:57-58] أي: في الحسن والبهاء.(47/7)
أصل ودليل الجزاء من جنس العمل
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:59-60] هذه الآية أصل في أن الجزاء من جنس العمل، وأن المحسن يجازى بالإحسان، وفي المقابل المسيء يجازى بإساءته، هذا الأصل وهذا التقعيد.
وقد قال ذو القرنين لما قال الله سبحانه وتعالى له: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:86-88] .
فهذا هو الأصل والتقعيد: أن المحسن يجازى لإحسانه، وأن المسيء يجازى على إساءته، إلا أنه أحياناً تتدخل قرائن فتجعل العقوبة مثلاً تتضاعف، أو قرائن تجعل العقوبة تخف بل قد تزال أحياناً، ولهذا عشرات الأدلة بل تكاد تصل إلى مئات الأدلة ألا وهي: مسألة تضعيف العقوبات، أو تخفيف العقوبات، أو تضعيف الثواب أو الجزاء فقط على قدر العمل.
وهذه مسألة قد يفهمها شخص على غير وجهها، وإن كان دخولنا إليها عرضاً في التفسير، فمثلاً: رجل يبيع ويشتري، فجاءه شخصان فباع لأحدهما السلعة بعشرة، وفي نفس الوقت باب من الآخر بخمسة.
فقد يتوهم البعض أن هذا خطأ، ولكنه صواب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) ولك أن تبيع بما شئت، فالله يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فالإكراميات قد تختلف، والعقوبات قد تختلف.
وقد سبق أننا بينَّا: أن الزنا حرام بالاتفاق والإجماع، ولكن صدور الزنا من شيخ كبير السن أشد جرماً، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: ملك كذاب، وشيخ زانٍ، وعائل مستكبر) ، والزنا محرم لكنَّ الزنا بحليلة الجار أشد تحريماً، والزاني يجلد مائة جلدة، لكن إذا كانت الزانية أمة فإنه يخفف عنها العقوبة، وهكذا سائر الأمور والأحوال، فقد تزيد العقوبات وقد تخف، وقد يزيد الإحسان وقد يخف، وقد تزيد المكافآت وقد تقل.
وعلى كل من ولّاه الله سبحانه وتعالى عملاً أن ينظر فيمن تحت يديه بهذا المنظار، فإن الله سبحانه وتعالى كما أفادنا محمد عليه الصلاة والسلام: (لما عمل اليهود من الصباح إلى الظهر وأعطاهم الله أجرهم، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر وأعطاهم الله أجرهم، وجاءت أمة محمد فعملت من العصر إلى المغرب وتضاعف لها الأجر، فاحتج اليهود والنصارى: يا رب! عَمَلُنَا أكثر وأَجْرُنَا أقل، قال الله لهم: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء) .
فمن كان على عمل له أن يكافئ وله أن يعاقب على قدر مصلحة العمل، وعلى قدر الأسباب المترتبة من هذا العمل.
لكن القاعدة الكلية التي تحكم هي قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فالله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58] ، فالآية أفادت: أن الجزاء من جنس العمل.
ومن الأحاديث الدالة على أن الجزاء من جنس العمل: قوله عليه الصلاة والسلام: (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) ، وقوله: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) وقوله: (من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) وقوله: (المستكبرون في الدنيا يحشرون أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأخفافهم) كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من النصوص.(47/8)
تفسير قوله تعالى: (ومن دونهما جنتان)
قال تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:61-62] أي: أقل من الجنتين الأوليين، هما جنتان أدنى منهما منزلة، فالجنتان الأوليان أعدت للمقربين: والجنتان الأخريان هذه أعدت لأصحاب اليمين، فالناس على ثلاثة أقسام كما سيأتي في سورة الواقعة: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] .
فجنتان هنا للمقربين: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] لأصحاب اليمين، والدون: هو الأقل، كقوله: فلان دون فلان.
أي: أقل من فلان.(47/9)
تفسير قوله تعالى: (مدهامتان)
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:63-64] ، قال العلماء: أي: خضراوان، ومن المفسرين من قال: سوداوان، وجمع بعض العلماء فقالوا: قد اجتمع فيهما الخضار مع السواد، فالأشجار حينما تروى وتشبع من الماء، فاخضرارها من شدته يميل شيئاً ما إلى السواد، وذلك من شدة الري الذي أصابها، فهذا المعنى والله أعلم.(47/10)
تفسير قوله تعالى: (فيهما عينان نضاختان)
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:65-66] أي: فوارتان {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:67-68] تقدم أن هذا من عطف الخاص على العام، فالفاكهة عامة يدخل فيها النخل والرمان، ولكن ذكر النخل والرمان تنصيصاً لبيان فضل النخل والرمان.
أما النخل فقد ضربه النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للمؤمن بقوله: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن فأخبروني ما هي؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: هي النخلة) .
فعطف النخل والرمان على الفاكهة من باب عطف الخاص على العام.
تقول: جاء القوم وزيد.
لماذا نصصت وذكرت زيداً بالاسم؟ لبيان أهمية زيد وفضل زيد.
فعطف الخاص على العام لبيان فضل الخاص وشرفه.
كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7] ، ونحوه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} [النساء:163] فكله من باب عطف الخاص على العام لبيان فضل الخاص.(47/11)
تفسير قوله تعالى: (فيهن خيرات حسان.)
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:69-70] أي: حسان الوجوه وخيرات الأخلاق.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:71-72] إذاً: إذا وُصِفَتْ نساء الجنة فإنهن يُوْصَفْنَ بأنهن حور في أغلب الأحيان، وهذا مما يدل على -بالنسبة لناشدي الجمال- أن جمال المرأة أيضاً يتمثل في نظرها وفي عينها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة بن شعبة: (اذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) يعني الصغر، أي: أن أعين نساء الأنصار صغيرة.
فالذي ينشد الجمال في عين المرأة، فالله سبحانه وصف نساء الجنة بأنهن حور مقصورات في الخيام، والحور كما قال العلماء: شدة بياض في شدة سواد، يعني: عيناها سوداء شديدة السواد، والبياض الذي فيها شديد البياض، وأصله مأخوذ من البياض، فإن العلماء الذين ذكروا الحواريين، قالوا: أُطْلِق عليهم أنهم حواريون من شدة بياض ثيابهم، ومنهم من قال: كانت لهم عمائم بيضاء، وقد أطلقوا على بعض الدقيق الأبيض شديد البياض دقيق حواري، أي: دقيق أبيض.
والله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] .
وهل يذم من طلب امرأة -مثلاً- جميلة أو عينها جميلة عند الزواج أو لا يذم؟
الجواب
لا يذم من طلب ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (اذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) فحث الرسول صلى الله عليه وسلم على النظر إليها، هذه مسألة قد يفهمها البعض على غير وجهها، وقد ينتقص بعض إخواننا من يطلب ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم صعد النظر إلى المرأة التي وهبت نفسها وصوبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(47/12)
معنى قصر الحوريات في الخيام وما يستفاد من الآية
قال الله سبحانه وتعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] يستفاد منه: أن الحور مقصورة في خيمتها، وهذا الأصل في النساء: القرار في البيوت، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] أي: نحن لا نخالط الرجال ولا نزاحمهم، فسننتظر حتى ينتهي القوم من سقياهم، وبعد ذلك نسقي، والذي حملنا على ذلك وعذرنا في ذلك أن أبانا شيخ كبير، فهذه المقالة جمعت معنيين طيبين من هاتين الفتاتين.
أولهما: قولهما: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23] أي: حتى ينتهي الرعاء من سقياهم وينصرفوا، فليس لنا أن نزاحم الرجال ونخالطهم.
ثانيهما: حين أومأتا إلى الحامل لهما والعذر لهما في هذا الخروج من أصله بقولهما: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] فلم تكن إحداهن ولاّجة ولا خراجة، لم تكن إحداهن كثيرة الخروج وكثيرة الدخول، بل كن مستقرات في البيوت، وإذا حملتهن الحاجة على الخروج استترت وخرجت، وهذا أمر قد قدر عليهن رضي الله عنهن.
وقد قال الله لنساء نبيه -وهن خير أسوة-: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] ، وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان) فكل هذه النصوص تحمل أهل الإيمان وأصحاب الغيرة على أن يقروا نساءهم في البيوت، وأن لا يخرجوا النساء إلى الأعمال التي فيها مزاحمة للرجال كما في المصالح الحكومية، وفي المدارس، والمواصلات، فيتعلمن الرجولة التي تذم في النساء: (فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء) .
فمن وسع الله عليه ولم يكن في حاجة إلى عمل زوجته إلا الاستزادة من عمل الدنيا، فليعلم أن هذا هو هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر ربنا إذ قال لنساء نبينا وهن خير أسوة: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} [الأحزاب:33] ، وقال الله سبحانه عن نساء الجنة: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] ، والخيام جمع خيمة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، لا يراهم الآخرون) ، وفي رواية: (الخيمة لؤلؤة مجوفة طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون لا يراهم الآخرون) .
وفي هذه اللفظة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للمؤمن فيها أهلون لا يراهم الآخرون) ، استدل بعض العلماء على أن الحور المعدة لكل رجل تفوق الاثنتين، فقد وقف بعض أهل العلم مع قوله صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لكل امرئ منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن) ، فَقَصْرُ الحورِ المعدة لكل رجل على زوجتين ضعيف من وجوه: أولاً: في حديث رسول الله: (للمؤمن فيها أهلون لا يراهم الآخرون) .
ثانياً: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الشهيد: (إنه يزوج اثنتين وسبعين من حور العين) .
وهنا على سبيل الجمع: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:72-75] .(47/13)
تفسير قوله تعالى: (متكئين على رفرف خضر.)
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] ، والاتكاء كما هو مقرر ومعلوم عند كثير من أهل العلم: هو الميل بأحد الشقين على الأرض، ومن العلماء من قال: إن الاتكاء المراد به التربع، يعني: جلسة الرجل المتربع بلغتنا.(47/14)
حكم الأكل مع الاتكاء
وهذا ينبني عليه حكم فقهي ألا وهو: مسألة الأكل متكئاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لا آكل متكئاً) فهل قوله: (إني لا آكل متكئاً) أي: لا آكل وأنا مائل بأحد شقي على الأرض، أو لا آكل وأنا جالس جلسة المتربع التي يسميها أهل بلادنا؟ فأكثر العلماء على أن الاتكاء هو الميل بأحد الشقين على الأرض؛ لقول الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور) ، ففرق في هذا الحديث بين الاتكاء وبين الجلوس.
أما الذين قالوا: إن الاتكاء هو التربع فمنهم: الخطابي رحمه الله تعالى، وابن القيم رحمه الله تعالى، فعلى رأيهما يكره الأكل متربعاً، لكن على رأي الجمهور: أن المكروه هو الأكل وأنت مائل على أحد الشقين إلى الأرض، لكن هل يحرم هذا الأكل وأنت متكئ؟ رسولنا صلى الله عليه وسلم قال: (إني لا آكل متكئاً) ، فهو يتحدث عن نفسه صلى الله عليه وسلم، وهل حديثه عن نفسه يفيد التحريم؟ لا يفيد التحريم إلا مع نص آخر يقوي هذا التحريم، وهذا يجرنا إلى بعض المسائل الفقهية التي فيها أمور تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل مجرد تركه لها صلوات الله وسلامه عليه يجعلها محرمة؟ سنذكر مثالاً لذلك: الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم ليصلي على رجل قد مات، يسأل: (هل عليه دين؟ فإن قالوا: نعم، قال: هل ترك لدينه وفاءً؟ فإن قالوا: لم يترك لدينه وفاءً، امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه) لكن مع امتناعه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة عليه يقول: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم) ، فهو نفسه عليه الصلاة والسلام لم يصلِّ عليه وإنما قال: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم) فلماذا ترك الرسول عليه الصلاة والسلام الصلاة على من عليه دين؟ هل لأن الصلاة على من عليه دين حرام؟ ليست حراماً؛ إذ لو كانت حراماً لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم) ، ولكن المفهوم والله سبحانه أعلم بالمراد: أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما امتنع من الصلاة عليه حتى يزجر عن الاستدانة، وحتى يرهب من مسألة الاستدانة، وحتى يحذر من مسألة المماطلة في سداد الديون، وهذا المفهوم بدليل أنه قال للصحابة: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم) .
ننتقل إلى مسألة أشد وهي: مسألة المنتحر: (أتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد قتل نفسه بمشاقص، كي يصلي النبي عليه عليه الصلاة والسلام، فلم يصلِّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، لكنه ما نهى الناس عن الصلاة عليه، وما أمر الناس بالصلاة عليه، فلم يقل كما في الحديث السابق: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم) ، ولم ينه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة عليه، فلذلك اختلف الفقهاء في مسألة الصلاة على المنتحر: فقال فريق منهم: لا نصلي عليه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ترك الصلاة عليه.
وقال آخرون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ما نهانا، والأصل أن الله قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، فهذا رجل مسلم، فمادام مسلماً فالأصل أنه يصلى على المسلمين.
فرأي جمهور العلماء أنه يصلى على المنتحر، وإن ترك بعض أهل الفضل الصلاة عليه؛ زجراً لأمثاله وترهيباً لهم من الانتحار، فلأهل الفضل ذلك؛ حتى ينزجر الناس، وحتى ينكف الناس عن الانتحار، وهذا مأخذ طيب ومأخذ عليه أدلة كثيرة جداً.
وهذا يضطرنا ويسوقنا إلى بيان أفعال لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وسنرجع كرة إلى مسألة العقوبات الرسول عليه الصلاة والسلام جلد شارب الخمر نحواً من أربعين جلدة، فجاء عمر ووجد الناس قد تساهلوا في شرب الخمر، فجلد شارب الخمر نحواً من ثمانين جلدة، وكذلك كان الطلاق الثلاث في المجلس الواحد في عهده عليه الصلاة والسلام طلقة واحدة كما قال ابن عباس في صحيح مسلم، فلما كان في خلافة عمر قال: (أرى الناس قد استعجلوا على هذا الأمر الذي كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضى عمر الثلاث طلقات) .
فنرجع إلى المسائل التي فعلها الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يأمر بها ولم ينه عنها: فالأصل أنها تسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] لكن ينظر بعد هذا في عمومات أخرى، هل تعارض بهذه المسائل أو لا تعارض؟ وهذا سيجرنا عن قريب إن شاء الله إلى مسألة الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة الليل في رمضان، وسيأتي حولها بحث طويل إن شاء الله.
نرجع إلى قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] فالعبقري الحسان: هي الفرش والوسائد التي يتكأ عليها والبسط الرقيقة، كل هذه مجملة في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] ، فأقوال العلماء كلها تدور على أنها السجاجيد التي تبسط والوسائد التي يتكأ عليها، أي: أنها أقرب إلى المجالس العربية من (الأنتريهات) ومن (الصالونات) أنها: {رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] .(47/15)
تفسير قوله تعالى: (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام)
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:77-78] من العلماء من قال: إن قوله: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) بمعنى: تبارك ربك، وكلمة (اسم) أصحبت كما في قول الشاعر: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكي حولاً كاملاً فقد اعتذر وقد تقدم الكلام على هذا البيت الشعري بما حاصله: أن الشاعر يقول فيه: تمنى ابنتايا أن لا يموت أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر فقوما وقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر فقوله: (إلى الحول) يعني: اعملوا الذي تريدون لمدة سنة.
(ثم اسم السلام عليكما) يعني: ثم السلام عليكم، وانتهى أمركم بعد سنة فلا تبكوا ولا تفعلوا شيئاً، وهذا كان في الجاهلية.
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكي حولاً كاملاً فقد اعتذر هذا البيت الشعري بالنسبة لمعناه منقوض في الشرع، فإن المرأة لا تحد على أحد أكثر من ثلاثة أيام إلا زوجاً أربعة أشهر وعشراً، لكن كان في الجاهلية الإحداد لمدة حول كامل، ولذلك يقول الأب: (إلى الحول ثم اسم السلام عليكما) فمن العلماء من قال: إن (اسم) هنا مصحبة، فالمعنى: إلى الحول ثم السلام عليكما.
فقالوا: إن كلمة: (اسم) هنا في قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78] أي: معناها: تبارك ربك ذو الجلال والإكرام.(47/16)
معاني البركة ومن أي شيء تؤخذ وتكسب
والبركة لها معنيان: أحدهما: الكثرة والازدياد، أي: كثر خيره وازدادت بركته.
والمعنى الثاني: البركة ثبوت الخير في الشيء.
فمن أهل العلم من يقول: إن اسم هنا في قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن:78] على بابها، وأخذوا منه: أن كل شيء يبدأ فيه باسم الله يبارك فيه، واستؤنس لهذا المعنى بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم بيته فذكر الله عند دخوله قال الشيطان: لا مبيت لكم اليوم، فإذا ذكر الله عند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم اليوم ولا عشاء، فإذا دخل البيت فلم يذكر الله عند دخوله ولا عند طعامه قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء) .
فقالوا: إن ذكر اسم الله سبحانه يجلب البركة في الأشياء، حتى عند الجماع كذلك، فإن الشخص إذا جامع زوجته وقال: باسم الله عند الجماع، حصلت البركة ولم يشركه شيطان، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً) .
وقوله: {ذِي الْجَلالِ} [الرحمن:78] أي: الذي يجل عن كل نقص وعن كل عيب، وقوله: (وَالإِكْرَامِ) الذي يكرم كذلك عن كل نقص وعن كل عيب، كما تقول لشخص إذا ذكرت سيئاً: أكرمك الله، أو أجلك الله، أو أنا أجلك عن كذا وكذا، والله سبحانه أعلم.(47/17)
الأسئلة(47/18)
عدم التعارض بين كروية الأرض وقوله تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس)
السؤال
يقول تبارك وتعالى في سورة الكهف: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف:86] هل هذا يتعارض مع ما وصفه العلماء أن الأرض كروية؟
الجواب
ليس هناك أي تعارض، واقرأ تفسير الآية فلن تجد أي تعارض.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(47/19)
حكم حديث: (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه)
السؤال
ما حكم حديث: (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) ؟
الجواب
حديث: (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومن العلماء من استنكر معناه، لكنه مع ثبوته عن النبي عليه الصلاة والسلام مصروف عن الوجوب، فليس واجباً أن كل واحد قبل أن يجف عرقه يعطى أجره؛ لأن هذا الحديث محمول على استحباب التبكير بإعطاء الأجير أجره.
ومن العلماء من ذكر صوارف الوجوب لحديث: (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) ، ومنها: حديث صيام رمضان: أن الله سبحانه وتعالى يثيب الصائمين في آخر ليلة من رمضان، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأجير يأخذ حقه بعد انتهاء العمل، فهو صام أول يوم من الشهر وما أخذ الأجر إلا آخر الشهر، لكن هذا الحديث الأخير ضعيف.
واحتج الطحاوي في كتابه: (مشكل الآثار) على أن الأجير لا يعطى أجره قبل أن يجف عرقه، أي أنه يجوز لك أن تؤخر شيئاً ما إن دعت الضرورة إلى ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر علياً أن يأمر الجزار بذبح الهدي وقال: (لا يعطى الجزار منها شيئاً ونحن نعطيه من عندنا) أي: نحن نعطيه من عندنا فيما بعد.
لكن على كلٍ فاستحباب إعطاء الأجراء أجرهم عليه أدلته، فالله سبحانه وتعالى قال في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم ومنهم: رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره ... ) .(47/20)
حكم من أخذت من مال زوجها دون علمه بقدر ما أخذ من مالها
السؤال
والدتي له مرتب وزوجها يسرق من مرتبها، فقامت وأخذت من ماله من ورائه بدل المبلغ الذي أخذه، ولها بنت متوفية ولها أبناء، فوالدتي تصرف عليهم من هذا المال الذي أخذته من الزوج، فهل هذا حلال أم حرام؟
الجواب
لا يجوز له أن يأخذ من هذا المال شيئاً، إلا إذا طابت نفسها بذلك، فهو معاشها تتصرف فيه كيف تشاء، فليس للزوج أن يأخذ منها شيئاً، فإذا أخذ منها فهل لها أن تأخذ من ماله بقدر ما أخذ من مالها؟ وهذه يسميها العلماء: مسألة الظفر، وحاصلها: إذا جاء شخص وأخذ مالك، ثم تمكنت أنت منه هل لك أن تأخذ من ماله بالقدر الذي أخذه من مالك؟ مثال ذلك: رجل يشتغل بقالاً عند شخص وله في الشهر مائة جنيه، اتفقوا على هذا، جاء في نهاية الشهر، فقال: هذه سبعون جنيهاً فقط، ولا أعطيك غيرها، فقال له: أعطني المائة التي اتفقنا عليها، فلم يرض، فاحتال هذا الرجل الأجير وقال في نفسه: أصبر هذا الشهر، وبعد فترة احتال وأخذ الثلاثين السابقة ووضعها في جيبه، فهل هذا الفعل جائز؟ هذه التي يسميها العلماء: مسألة الظفر.
فمن العلماء من يجيزها لعدة أدلة: من هذه الأدلة قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] ، {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] ولحديث هند بنت عتبة رضي الله عنها أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال: خذي ما يكفيكِ وولدك بالمعروف) .
فهي عمومات: الجزاء من جنس العمل، يعني: الانتصار على قدر المظلمة.
ومن العلماء من يكره ذلك تورعاً، ويحتج بحديث فيه ضعف: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) ، لكن في هذا الحديث ضعف.(47/21)
حكم الاستعاذة في الصلاة لمن سمع نهيق الحمار
السؤال
من سمع صوت الحمار وهو في الصلاة فهل عليه أن يستعيذ؟
الجواب
إن استعاذ بالله من الشيطان الرجيم فالصلاة صحيحة، وإن لم يستعذ فلا جناح عليه.
وقد ورد أن أمير المؤمنين علياً كان يصلي فمر به رجل من الخوارج فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] ، فالرجل يقول لـ علي: سواء صليت أو لم تصل فأنت كافر، الخارجي يقول لـ علي هكذا، وعلي يصلي، فقال علي وهو في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] فأجابه علي بآية في الصلاة.
فإذا كان هذا جائزاً في الدفاع عن نفسه بآية، فلأن يكون امتثال حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان) في الاستعاذة أيضاً في الصلاة من باب الجواز وليس من باب الاستحباب، فالصلاة صحيحة.(47/22)
الثواب المترتب على المشقة
السؤال
يسأل عن الثواب على قدر المشقة؟
الجواب
نعم، الثواب على قدر المشقة، لكن لا بد أن تكون المشقة شرعية أيضاً، أي: أن يكون لها دليل من الشرع، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أجرك على قدر نصبكِ) ، وفي الرواية الأخرى: (أجرك على قدر نفقتك) ، لكن لابد أن يكون العمل نفسه مشروعاً.
لكن إذا كان هناك شخص واقفاً في الشمس ونذر أن يظل واقفاً في الشمس إلى الليل، فهذا ليس له ثواب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه) .(47/23)
حكم استعمال العطور المخلوطة بالكحول
السؤال
ما حكم العطور المخلوطة بالكحول؟
الجواب
بالنسبة للحكم في الكحول تقدم الكلام فيه بكثرة، لكن اختصاراً: الذي أراه -والله سبحانه وتعالى أعلم- أن العطور الكحولية مكروهة، ولا أطيق القول بالتحريم؛ لأن القائلين بالتحريم يبنون الفتوى على أنها خمر، والقطع بأنها خمر لا نتحمله ولا نقول به، فلذلك أنا أقول: إنها تكره.
هذا على قول من قال: بأن النجاسة في الخمر نجاسة حسية، أما من قال: بأن النجاسة في الخمر نجاسة معنوية فالأمر عنده مباح، والله أعلم.(47/24)
حكم طلب الزوج من زوجته التنازل عن المؤخر من المهر
السؤال
هل يجوز للعاقد إذا حدثت مشاكل بينه وبين أهل العروسة، وكانوا هم السبب في هذه المشاكل، وكلما تم حل المشاكل أظهروا مشكلة أخرى، هل يجوز أن يطلب من زوجته التنازل عن المؤخر و (الشَبكة) كي يضمن حقه إذا حدث الطلاق، مع العلم أن أهل العروس هم سبب المشاكل التي حدثت؟
الجواب
لا يجوز له أن يخدع العروس ويجعلها تكتب تنازلاً له سراً، لا يجوز ذلك أبداً، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] فهي التي تفتدي به، وكذلك قال تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19] فالبنت ما أتت بفاحشة مبينة.
فلا يجوز لك أن تخدعها ولا أن تعضلها فحرام، وإن كنت لا تريدها فطلقها ولها نصف صداق.(47/25)
الجمع بين تعلم أمور الدين والدنيا
السؤال
فتاة في الكلية تريد أن تحضر مجالس الذكر ووالدتها لا توافق وتقول: عليكِ بالمذاكرة، فالمذاكرة أهم وأنتِ تتفرغين للكلية فقط، فحاولت أن تقنعها فلم تفلح؟
الجواب
لها أن تجمع بين الفعلين وتسدد وتقارب، تتعلم أمر دينها وتتعلم أمر دنياها، وتطيب خاطر الوالدة بالكلام الطيب، والله أعلم.(47/26)
حكم التحميد لمن عطس في الصلاة
السؤال
هل الذي يعطس في الصلاة يحمد الله؟
الجواب
نعم يحمد الله، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً من أصحابه عطس في الصلاة فقال: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد رأيت بضعة عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها الأول) ، وهذا الحديث ورد في موطنين: الموطن الأول ما سبق.
والموطن الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً قام من الركوع فقال: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فقال: لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها الأول) ، وكلا الحديثين صحيح.(47/27)
حكم دفع الرشوة لاستخراج حق
السؤال
رجل ذهب لاستخراج شهادة خبرة فطلب منه الموظف المختص رشوة فأعطاه، لأنه إذا لم يعطه لعطل عليه استخراج الشهادة وهو بحاجة إليها؟
الجواب
إذا كان يأخذ شهادة الخبرة وليست عنده خبرة فالمال المدفوع حرام، وآخذها آثم، ومعطيها آثم، وإن كان يأخذ شهادة الخبرة وهي من حقه وأبى الموظف إلا مع دفع المال، فليدفع والإثم على الموظف، لكن إن استطاع أن يأخذها بدون أن يدفع فهو الأفضل، للتناهي عن الإثم والعدوان، لكن إن لم يستطع إلا بالدفع فيدفع والإثم على من أخذ؛ لأن الدافع لا يدفع إلا لأخذ حقه، ولا يدفع لسلب حق آخرين.(47/28)
حكم إعطاء الطبيب شهادة مرضية لشخص لم يمرض
السؤال
طبيب يقول: جاءني شخص موظف من الموظفين، وذهب بدون أن يأخذ إجازة من العمل؛ ذهب ليصلح بين قوم كادت تحدث بينهم مقتلة، فاستمرت مدة الإصلاح شهراً بدون أن يأخذ إجازة، ففصل من العمل، فقالوا: لا رجوع له إلى العمل إلا بشهادة مرضية، ونعرف يقيناً -الطبيب يقول:- أنه كان يصلح بين قوم وستحدث بينهم مقتلة والله أصلح به، ورجع بعد شهر، فهل أعطيه شهادة على أنه كان مريضاً أو أتركه يفصل من العمل؟
الجواب
هو سيفصل من العمل، أو يعطى شهادة غير حقيقية، فما رأيك وما فقهك في هذه المسألة؟ أحد الحاضرين: يعطى؛ لأنه ليس له عمل آخر.
أحد الحاضرين: هو ذهب ليصلح بينهم، والصلح خير، فأرى أنه يعطى شهادة مرضية.
الشيخ: الإصلاح محبوب، لكن لا أتكلم عن الإصلاح بل نقول له: جزاك الله خيراً على الإصلاح، الطبيب يسأل ويقول: أعطيه شهادة على أنه كان مريضاً أو أتركه يفصل والله يسهل له؟ أحد الحاضرين: ما دام أنه يجوز الكذب للإصلاح؛ فيجوز أخذ شهادة مرضية؛ وذلك لتعلقها بالإصلاح.
الشيخ: يجوز الكذب للإصلاح بين الناس، هل هناك شخص عنده إجابة ثالثة؟ أحد الحاضرين: الضرورات تبيح المحظورات.
الشيخ: الضرورات تبيح المحظورات، أحسنت، هل هناك إجابة رابعة؟ أحد الحاضرين: يجوز إعطاؤه شهادة مرضية؛ لأنه أخف الضررين.
الشيخ: أخف الضررين، هل هناك إجابة خامسة؟ أحد الحاضرين: لا يجوز إعطاؤه.
الشيخ: أي أن تلك الشهادة باطلة، وينفصل من العمل.
الشيخ: إخوانكم استدلوا بأدلة جزاهم الله خيراً.
الأخ الكريم استدل بفعل الخضر، فإن الخضر خرب السفينة، فهل التخريب هذا جائز والله يقول: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ، لكنه خرب، ولماذا خرب؟ قال تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79] .
وأخوكم الله يبارك فيه استدل بشيء آخر: أن الكذب من أصله للصلح جائز، فمتبوعات، الصلح من الكذب لأخذ شهادة مرضية جائزة؛ وذلك لتتميم الصلح، والرسول عليه الصلاة والسلام رخص في الكذب في الإصلاح.
والأخ الآخر زاد زيادة أخرى وهي: مسألة اختيار أخف الضررين، فلو أن شخصاً أخذ سكيناً وقال لك: سأقتلك إذا لم تدفع ألف جنيه، نقول: ادفع الألف جنيه، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وإضاعة المال) ، ولا يجوز لي أن أدفع الألف جنيه؛ لكن دفعتها خوفاً من القتل.
اليوم قرأت في الأقضية قصة طريفة ذكرت عن أمير المؤمنين علي في القضاء، والقضاء يحتاج إلى ذكاء، فأمير المؤمنين علي اختصم إليه قوم، فقال أحدهم: إنا أعطينا هذا الرجل مبلغاً من المال وقلنا له: تصدق بما أحببت من هذا المال، فالرجل أخذ تسعة أعشار لنفسه وتصدق بعشر.
مثلاً: أعطوه عشرة آلاف جنيه وقالوا له: تصدق بما أحببت من هذا المال، فأخذ العشرة آلاف وتصدق بألف ووضع التسعة آلاف في جيبه واستمتع بها، فذهبوا به إلى أمير المؤمنين علي وقالوا: نحن لا نقبل أن يأخذ التسعة آلاف ويتصدق بألف، ولكننا رضينا أن يأخذ النصف وهي خمسة ويتصدق بخمسة.
فقال أمير المؤمنين علي: قد أنصفوك، أي: أحسنوا معك التصرف.
فقال: لا، يا أمير المؤمنين، هي حقي! لأنهم قالوا: تصدق بما أحببت.
فـ علي رضي الله عنه وجد من الرجل تعنتاً وإصراراً على أن يأخذ المال كله، فقال: اسمع، لك فقط العشر وتأتينا بتسعة أعشار.
قال: كيف تحكم بهذا؟ فقال: هم قالوا لك: تصدق بما أحببت، وأنت أحببت تسعة آلاف، فنأخذ منك التسعة آلاف التي أحببتها، ونترك لك الألف التي لم تحبها.
فكان القضاء فيه نوع من الذكاء، وهذه القصة أوردها ابن القيم رحمه الله في كتابه: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية.
أحد الحاضرين: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات دون ماله فهو شهيد) .
الشيخ: (من مات دون ماله فهو شهيد) أنت حر، هل قلنا لك: إنك تأثم إذا لم تعطه الألف جنيه؟(47/29)
حديث: أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين
السؤال
نرجو توضيح المقصود من قوله صلوات الله وسلامه عليه: (أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين) ؟
الجواب
تقدم بيان أن هذا الحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد ذكره العلماء.
أما على فرض حسنه فمعناه: أنا بريء من المسلم الذي يعيش بين ظهراني المشركين، يعني: إن أصابه من المشركين شيء أو سوء أو مكروه فأنا لست مسئولاً عنه، فعهدتي بريئة وذمتي بريئة من الضرر الذي يصيب هذا المسلم، فلست منتصراً له إذا أصابه ما أصابه، كقول الله سبحانه وتعالى في شأن الذين لم يهاجروا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال:72] ، فنفس المعنى مضمن في هذه الآية الكريمة.(47/30)
حكم السفر إلى بلاد الكفر للعمل أو الدراسة
السؤال
هل يجوز السفر إلى بلاد الكفر للعمل أو الدراسة؟
الجواب
إذا دعت الضرورة إلى ذلك فالضرورة تقدر بقدرها، وإذا لم تكن هناك ضرورة لذلك، فبلاد الكفر فيها الشر والفساد، وفيها الامتناع من الجمع والجماعات، فالمسألة بقدرها وبحسبها.(47/31)
حكم صلة المرأة التي تزوجت بغير إذن وليها
السؤال
شخص له أخت تزوجت رغماً عنه، وذلك مع كونه الولي، فهل يقاطعها لقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [المجادلة:22] ؟
الجواب
الأخت التي تزوجت رغماً عن أخيها هل يقال: إنها حادت الله ورسوله حتى ننزل عليها الآية؟ وما معنى حاد الله ورسوله؟ حاد الله ورسوله، أو شاق الله ورسوله بمعنى واحد، فحاد الله ورسوله: كأن يكون في جهة، وشرع الله وسنة رسول الله في جهة أخرى، وهذا عن عمد وقصد، وكذلك من شاق الله ورسوله يكون في جهة وشرع الله وسنة رسول الله في جهة أخرى، وهذا عن عمد وقصد.
لكن هذه الفتاة التي تزوجت بغير إذن أخيها، وتزوجت في المحكمة ومعها أمها أو أخوالها أو غير ذلك، فهي مخطئة لا شك في ذلك؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لا نكاح إلا بولي) ويقول: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) .
لكن أما وقد تزوجت عند مأذون ودخل بها زوجها وحملت منه وانتهى أمرها، فهذه لا يقام عليها حد الزنا؛ لأنها دخلت في شبهة وهي شبهة الزواج بغير إذن الأخ، لكن زوجها المأذون؛ فيرتفع عنها حكم الزنا؛ لأن النكاح نكاح شبهة، وإن كان في أصله باطل، لكن أما وقد انتهت الأمور، فما بقيت إلا الأرحام التي توصل؛ لأنه لا يشترط في صلة الرحم أن تكون الرحم صالحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما أوليائي المتقون، ولكن لهم رحم أبلها ببلالها) ، أي: أصلها بصلتها.
ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] مع المجاهدة منهم لك وإنما: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] .
ففي مثل هذه الحالة انتهى الأمر، ولو كان الأمر في بدايته لقلنا لك: قاطعها واشتد عليها، بل واضربها إذا أرادت أن تتزوج بغير إذن ولي، مادام الأمر محتملاً ومطاقاً، لكن الأمر قد تم ودخلت بزوجها وانتهت الأمور، فما بقيت إلا صلة الأرحام، والله المستعان.(47/32)
درجة عبد الله بن محمد بن عقيل عند المحدثين
السؤال
ما القول في عبد الله بن محمد بن عقيل؟
الجواب
أنصح الأخ السائل الذي يريد معرفة ترجمته بتوسع أن يقرأ فقط ترجمته في: تهذيب التهذيب، وسيخلص أن الرجل ضعيف.(47/33)
حكم التسمية عند الوضوء
السؤال
ما حكم التسمية عند الوضوء؟
الجواب
التسمية عند الوضوء مستحبة، وليست بواجبة، أما الدليل على استحبابها فما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (توضئوا باسم الله) .
أما المحتج على إيجابها فيحتج بحديث: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ، وهذا الحديث له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة طرق، تفوق عشرين طريقاً، لكن ما سلم منها أي طريق، وبعضها تالف وضعيف، وبعضها يعل بعضاً، فلهذه الإشكالات في هذه الطرق حكم فريق من أهل العلم على هذا الحديث بالضعف الشديد.
وبعضهم لكثرتها حسن الأحاديث الواردة فيها؛ بل وصححها، وألّفت كتب في هذا الحديث، فقد ألف بعض إخواننا الأفاضل كتاباً في إيجاب التسمية، وفي تفصيل درجة هذا الحديث، وألف آخرون كتاباً في أن التسمية لا تجب، وأن حديث التسمية ضعيف واه.
وفي الحقيقة أن كل طرق الحديث -كما سمعتم- ضعيفة وتالفة، وبعضها يعل بعضاً، لكن أيضاً إجمال القول على كثرتها منهم من حسنه بمجموعها وصححه بمجموعها، ومنهم من أبقاها في حيز الضعف.
والكلام على هذا الحديث ليس من الكتاب المعاصرين فحسب؛ بل تكلم عنه الأوائل من أهل العلم المتقدمين، فمنهم من حكم على الحديث بالضعف جملة، ومنهم من حكم عليه بالصحة.
نرجع إلى مناقشة المسألة فقهياً: فإن صح الخبر، فالنفي في هذا الحديث لا يعني نفي الأصل، إنما يعني نفي الكمال، لماذا قلنا: إنه لا يعني نفي الأصل إنما يعني نفي الكمال؟ لأن كل صفات الوضوء التي رويت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ كحديث عبد الله بن زيد، وكحديث ابن عباس، وكحديث عثمان رضي الله عنهم جميعاً، لما وصفوا وضوء رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يذكر واحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الله عند الوضوء، فلما لم يذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الله عند الوضوء؛ استفيد أن الأمر ليس بأمر حتم وإيجاب، إنما هو أمر -إن صح- إرشاد واستحباب.
أمر آخر: نقل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وغيره من الشافعية الإجماع على أن من نسي التسمية وتوضأ وصلى أنه لا يعيد الصلاة، فلو كان حديث: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) نفي الوضوء من أصله، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول) إذاً لبطل الوضوء من أصله، ثم بطلت الصلاة، لكنهم أجمعوا -حتى القائلين بتصحيح الحديث- على أن الصلاة صحيحة، فهذا هو الحكم في هذه المسألة، والله سبحانه أعلم.(47/34)
تفسير سورة الواقعة [1]
يوم القيامة يوم لا شك في مجيئه، وفي ذلك اليوم ينقسم الناس إلى ثلاثة أصناف: المقربون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الواقعة ما أعده للصنفين الأولين من نعيم أبدي سرمدي، وما أعده للصنف الثالث من عذاب أليم.(48/1)
ضعف أحاديث فضل سورة الواقعة
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: نفسر سورة الواقعة، والواقعة المراد بها من الناحية اللغوية: السقطة العظيمة الشديدة، ومنه قولهم: وقع الشيء، وقولهم أيضاً: واقعة الحرة، فالواقعة: هي السقطة الشديدة العظيمة، لكن المراد بالواقعة هنا: القيامة بلا اختلاف على ما علمته بين أهل العلم.
سورة الواقعة ورد في فضلها بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كل منها مقال، ومن هذه الأحاديث التي وردت في سورة الواقعة: ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لما دخل عليه عثمان في مرض موته فقال له عثمان: ماذا تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي، قال: وما ترجو؟ قال: أرجو رحمة ربي، قال: ألا نأتي لك بالطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: أفلا نأمر لك بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه، منعتني منه في صحتي فتعطيه لي عند موتي! قال: يكون لبناتك من بعدك، قال: إني لا أخشى على بناتي الفاقة بعد الذي سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة) ، لكن هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك ورد حديث في تصحيحه نزاع، إذ في كل طرقه مقال، ألا وهو الحديث المشهور: (شيبتني هود والواقعة) إلى آخر الحديث، فقد تكلم فيه بعض العلماء كذلك.(48/2)
تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة.
ليست لوقعتها كاذبة)
يقول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1] : قال بعض أهل العلم: إن المراد: إذا قامت القيامة.
وقال آخرون قولاً قريباً من هذا القول إن لم يكن هو نفسه: إن المراد بالواقعة: النفخة.
فالقولان متلازمان.
{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2] للعلماء فيها أقوال: أحدها: ليس لوقوعها نفس تكذب هذا الوقوع إذا وقعت، أي: إذا وقعت الواقعة لم يعد هناك منكر ينكر وقوعها، بل الكل أيقن بهذا الوقوع، فليس عند وقعتها نفس مكذبة لهذا الوقوع، فقد انتفت عنهم الشكوك، وزالت عنهم الريب، وأيقن الجميع بوقوع الواقعة.
القول آخر: إن المراد بقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2] كالمراد بقوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:1-2] أي: ليس له من يدفعه، فكذلك ليس هناك من يدفع وقوع هذه الواقعة، وثم أقوال أخر.
{خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3] ، خافضة لأقوام قد ارتفعوا في الدنيا، ورافعة لأقوام قد انخفضوا في هذه الحياة الدنيا، والواقعة لا تخفض ولا ترفع، إنما الذي يخفض ويرفع هو الله سبحانه وتعالى، فهذا مفهوم من السياق، ومفهوم لكل مسلم، لكن لما كان هذا الخفض والرفع يحدث يوم القيامة فنسب إليها، والله يقول: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3] ، فكم من رجل مرتفع في هذه الحياة الدنيا يذل ويهان في الآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس بأخفافهم) ، فكم من ملك وكم من أمير وكم من رئيس وكم من وزير قد ارتفع في هذه الحياة الدنيا يحشر يوم القيامة كأمثال الذر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكم من طغى عليه بالمال في دنياه يحشر يوم القيامة فقيراً وكم من مكسو في هذه الحياة الدنيا يحشر يوم القيامة عارياً! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه: (لا إله إلا الله من يوقظ صواحب الحجرات كي يصلين؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة!) ، أي: كم من نفس مكسوة ومستورة في هذه الحياة الدنيا تتعرى يوم القيامة وتفضح! لخلوها من الثواب، ولخلوها من العمل الصالح، فالآخرة فيها خفض لأقوام ورفع لآخرين، فيحشر هذا المؤذن الذي يزدريه الناس ويحتقرونه أطول الناس عنقاً يوم القيامة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة) .
قال الله سبحانه وتعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة:4] ، والرج هو: الهز الشديد، فرجت الأرض رجاً، أي: حركت تحريكاً شديداً، وهزت هزاً شديداً، {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:5] ، أي: فتتت الجبال تفتيتاً، كما قال الله سبحانه: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل:14] ، وكما قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105-107] ، فقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:5] أي: فتتت الجبال تفتيتاً، هذه الجبال الصلبة الجامدة تدمر وتفتت تفتيتاً من شدة الأهوال.
{فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:6] (الهباء) قال بعض أهل العلم هو: التراب، وقال آخرون: هو الغبار، وقال غيرهم: هو هذا الغبار المتطاير الذي يرى في شعاع الشمس كالذرات.
{فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:6] أي: منتشراً متفرقاً.(48/3)
أصناف الناس يوم القيامة
أما أحوال الناس يوم القيامة فينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام، وكل قسم تحته أقسام، لكن التقسيم الكلي إلى ثلاثة أقسام: قال سبحانه: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] أي: أصنافاً ثلاثة، أي: وكنتم -يا معشر الإنس والجن- أصنافاً ثلاثة.
قال سبحانه: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:8-11] ، فهذه هي الأصناف الثلاث، أصحاب الميمنة وهم جمهور وأكثر أهل الجنة، وأصحاب المشأمة وهم أهل النار، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10-11] ، وهم أصحاب المراتب العالية في الجنان، قال سبحانه: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا} [الواقعة:7] أي: أصنافاً، فالأزواج تطلق على الأصناف في كثير من الأحيان، وتطلق على الأقران كذلك، وتطلق على الزوجات والأزواج بالاصطلاح المعهود لدينا.
فقوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه:131] أي: أصنافاً منهم.
قال سبحانه: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:7-8] وهم الذين يتلقفون الكتب بالأيمان.(48/4)
المقربون وما لهم يوم القيامة
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:10-12] تأخر السابقون في الذكر عن أصحاب الميمنة وعن أصحاب المشأمة، لكن شرح حالهم وبين حالهم قبل أصحاب الميمنة، وقبل أصحاب المشأمة، فالله سبحانه وتعالى قال: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:8] ، ثم قال: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:9] ، ثم قال: {وَالسَّابِقُونَ} [الواقعة:10] ، وفصل حال السابقين قبل أن يفصل حال أصحاب اليمين، وقبل أن يفصل حال أصحاب الشمال، وهذا مما يسميه علماء البلاغة: اللف والنشر، فاللف والنشر فحواه: أن الذي يلف آخراً عند فرده، ينشر أولاً، كأنك أتيت بشريط تلفه، فالذي لف في آخره، إذا أردت أن تفرده يخرج أولاً، وكمثال حسن له قوله تعالى في سورة آل عمران: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ} [آل عمران:106] فذكر أهل الوجوه السود بعد أهل الوجوه البيض، ثم لما ذكر الجزاء قدم أهل الوجوه السود في الذكر على قاعدة اللف والنشر كما هنا.
قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] السابقون قطعاً هم السابقون بالخيرات والدرجات، والسابقون إلى الإيمان، والتصديق، فلأهل السبق في الخيرات دائماً فضل، ولذا يراعى تقدير أهل السبق في الإسلام، فمن طال عمره في طاعة الله واتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لابد أن يحفظ له هذا القدر، ولا يسفه ولا يزدرى ولا ينتقص، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] فالذين أنفقوا قبل الفتح لابد وأن يحفظ لهم هذا الإنفاق، إذ أنهم أنفقوا في وقت شدة، فإسلامهم متقدم، وإنفاقهم نافع في حينه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ خالد لما كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فقال له خالد: أتعيرونا بأيام سبقتمونا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فبلغت هذه المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لـ خالد: (لا تسبوا أصحابي -مع أن خالداً رضي الله عنه من الصحابة لكن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أسبق- قال: لا تسبوا أصحابي، والذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفة) .
ومن هذا الباب أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأنصار: (إن الأنصار قد أدوا ما عليهم، وبقي الذي لهم، فمن ولي منكم أمراً فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم) وفي رواية: (فليكرم كريمهم، وليتجاوز عن مسيئهم) ، فأهل السبق لهم فضل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فذكر الحديث وفيه: (فأقدمهم هجرة) ، فجعل لقدم الهجرة قدر.
وعلى ذلك فلتكن تعاملاتنا مع الناس، يوقر ويقدر من له سابقة في الخير، ومن شاب شيبة في الإسلام لا يزدرى ولا ينتقص، قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] ، وهذا حث على الامتثال السريع لأمر الله ولأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقع تحت قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] .
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10-11] وهم في أعلى الدرجات وأعلى المراتب {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:12-13] ، الثلة المراد بها: الجماعة.
{وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14] .(48/5)
تفسير قوله تعالى: (ثلة من الأولين.
وقليل من الآخرين)
من المراد بالأولين والآخرين؟ قال فريق من أهل العلم: إن المراد بالأولين: الأمم التي تقدمت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن المراد بالآخرين: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأيد هذا القائل مقالته بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) ، وهذا القول تقلده بعض أهل العلم، واحتجوا له أيضاً ببعض الاحتجاجات مثل: الأوائل كانوا يصلبون على الخشب، وينشرون بالمناشير، ويوضع المنشار فوق رأس أحدهم فيشق نصفين، ولا يتزحزح عن دينه، وتخد لهم الأخاديد ويقذفون في النار، ولا يتزحزحون عن دينهم، لكن هذا قول مرجوح.
والراجح قول من قال من أهل التفسير: إن قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:13] أي: من الأولين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي: من صدر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14] أي: من متأخري أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (والذي نفسي بيده! إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة) ، قال ذلك لأصحابه رضي الله تعالى عنهم، وهذه الآية فسرت عند كثير من أهل العلم بآية فاطر التي هي: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] ، فالطوائف الثلاث داخلة في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] ، والذين اصطفاهم الله من العباد هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الأولى وهو الأقوى، فيقال: إن قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:13] أي: من أوائل هذه الأمة الذين آمنوا بالله وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلى ذلك: تظهر هذه الآية فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
ثم يفشو الكذب) ، وأما حديث: (مثل أمتي مثل الغيث لا يدرى أوله خير أم آخره) ، فليس بثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك حديث: (المتمسك بما أنتم عليه له أجر خمسين منكم ... ) إلى آخره؛ فهذا أيضاً الراجح ضعفه وعدم ثبوته عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:13] أي: جماعة من صدر هذه الأمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى وسلم الذين آمنوا به وصدقوه، فإنفاقهم خير إنفاق، وجهادهم خير جهاد، وثباتهم خير ثبات؛ فمن جاء من بعدهم فالفضل لله ثم لهم في وصول الدين إلينا.
وقد ناقش بعض أهل العلم مسألة تبين هذا المعنى، فلما قارنوا بين عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه ورحمه الله ومعاوية رضي الله عنه، كان التقرير: أن مشهداً شهده معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من مائة مثل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه الله.
وكذلك عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، قالوا في ترجمته: اجتمعت فيه خصال الخير، فكان يحج عاماً، ويجاهد عاماً، وختموا الترجمة النيرة له بقولهم: ولم يسبقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا برؤيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس من جاهد مع الرسول كمن جاهد بعد رسول الله؛ بدليل الآية الكريمة: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] ، ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن البدريين: (يا عمر! وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم!) .(48/6)
غربة الدين آخر الزمان
قال الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:10-14] هذا فيه بيان لانصراف الناس عن الدين في آخر الزمان، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه) ، فبسبب بعد العهد عن الرسالات ينسى الناس كثيراً مما ذكروا به، كما قال الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} [الحديد:16] أي: طال عليهم الأمد بينهم وبين الرسل الذين كانوا يذكرونهم، فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون.
فبالبعد عن أزمنة الخير ينسي الناس كثيراً مما ذكروا به، فكما قال القائل: تزينت الدنيا لخطابها، فنسي الناس كثيراً مما ذكروا به، وانغمسوا في ملذاتها وشهواتها، فقل منهم الصابرون على تعاليم الدين، وقل منهم الصابرون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أصبحوا موضع اتهام لاتباعهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فطعن فيهم الطاعنون، وأرجف وضحك منهم المرجفون، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:29-32] ، فلم يصبر كثير من الناس على ازدراء أهل الغفلة، ولم يصبر كثير من الناس على ظلم أهل الظلم والعدوان، فنكصوا على أعقابهم، ورجعوا تاركين وراءهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وتاركين لكتاب ربهم، فقل أهل الفضل وأهل الخير، وقل أهل الثبات والصلاح في الأمم المتأخرة وأصبحوا غرباء.
فلذلك قال سبحانه وتعالى في شأن المقربين: {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14] أي: قلة قليلة من الأمم التي بعد عهدها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأخرت أزمانها عن أزمنة أصحابه رضي الله تعالى عنهم، ثم قال سبحانه في بيان ما أعد الله لهؤلاء المقربين {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة:15] أي: منسوجة، قال العلماء: منسوجة بالذهب {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} [الواقعة:16] وتقدم تفسير الاتكاء.
وفي قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:16] أدب من آداب المجالسة، فإذا جالست قوماً أو تخاطبت مع قوم فأقبل عليهم بوجهك، وأصغ إليهم بسمعك، لا تقابلهم وأنت ثاني العطف كما قال تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] ، ولا وأنت مصعر لخدك كما حذر لقمان ولده من ذلك {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان:18] ، فكل هذه من المقابلات المذمومة، ولكن فصل الخطاب مع الناس وحسن اللقاء معهم يستلزم منك أن تقبل عليهم بوجهك، وأن تصغي لهم بسمعك، فالله يصف أهل الجنة بقوله: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:16] أي: بعضهم يقابل بعضاً، وبعضهم يقبل بوجهه على بعض.(48/7)
تفسير قوله تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون)
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:17] ، وصف الولدان بأنهم مخلدون لبيان أن الهرم والشيب لا يتسرب إليهم كأهل الدنيا، فأهل الدنيا قال الله في شأنهم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54] ، فترى الولد من أهل الدنيا وسيماً، ثم ما هي إلا سنون تمر عليه حتى يبدأ في الضعف والانهيار، ثم بعد ذلك في الانحناء كما قال الشاعر: يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعل يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا ما رام القيام ويحمل أما غلمان الجنة وخدمها الذين يطوفون على أهلها فهم مخلدون في سن واحدة، لا يكبرون ولا يشبون ولا يهرمون.
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:17-18] ، الأكواب هي التي لا عرى لها، أي: لا أيدي لها، والأباريق هي التي لها الأيدي {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:18] قال بعض أهل العلم: هي الخمر الصافية، ومن العلماء من قال: إن الكأس لا يطلق عليها كأس إلا إذا كانت مليئة بالشراب، أما إذا كانت فارغة فلا يطلق عليها كأس، {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} [الواقعة:18-19] أي: لا يصابون بالصداع من جراء تناولها، {وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] أي: ولا تذهب بعقولهم كما تفعل خمر الدنيا.
{وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20] قال بعض أهل العلم: يستدل بذلك على أن الشخص له أن يتخير من أنواع الفاكهة التي تقدم له في الدنيا، فإن الله أجاز ذلك في الآخرة، ولعل المعنى يتضح بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) فقول صلوات الله وسلامه عليه: (وكل مما يليك) له فقه بلا شك، أي: إذا لم تتعدد الأصناف فلا تأكل إلا مما يليك، وأما إذا تعددت الأصناف فلك أن تمد يدك إلى صنف بعيد، وقد ورد بذلك حديث فيه ضعف، وآخر ثابت صحيح: أما الذي فيه ضعف وكلام فهو حديث: (أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: عكراش، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثريداً، فكان يمد يده من بعيد، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عكراش! كل مما يليك فإنه طعام واحد، ثم أتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برطب وبتمر، فقال له: يا عكراش! كل حيث شئت، فقد تعددت الأصناف) ، لكنه حديث فيه ضعف.
أما الثابت الصحيح فهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمت إليه قصعة طعام وفيه الدباء، فكان يتتبع الدباء من أطراف القصعة صلى الله عليه وسلم) ؛ فعلى ذلك إذا كان على المائدة عدة أصناف، وصنف منها مرغوب لديك، وهو ليس أمامك، فلك أن تمد يديك إلى البعيد، وتأتي بالصنف الذي تشتهيه، أما إذا تساوت الأطعمة وكان الطعام واحداً فكل مما يليك كما أدبنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكذلك إذا قدمت إليك أنواع من الفواكه، وكان هناك صنف منها بعيد عنك، فلك أن تتخير منها ما شئت كما قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20] .
وقوله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] ، فيه أن الطير جائز، ومرغوب فيه في الدنيا وفي الآخرة، وقد تقذر رجل من أكل الدجاج، ولكن رد عليه هذا الاستقذار أبو موسى رضي الله تعالى عنه، وكان يأكل دجاجاً رضي الله تعالى عنه، أما الجلالة فلها أحكامها، وقد تقدم شيء من أحكامها.
{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] تقدم أن بعض أهل العلم يقول: قدم ذكر الفاكهة على اللحم، فيؤخذ أن صاحب البيت يقدم الفاكهة قبل تقديم الطعام؛ لأن الله قدمها في الذكر بقوله: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20-21] ، وهذا من الناحية الشرعية فيه نظر، فإن الواو لا تقتضي الترتيب في كل الأحوال؛ بل قد تقتضي مطلق التشريك، كأن تقول: جاء زيد وعمرو، ولا تعني أن زيداً جاء أولاً ثم تبعه عمرو، فقد تعني أنهما أتيا معاً، فكذلك قوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20-21] لا يقتضي أن الفاكهة تقدم أولاً، ثم على إثرها لحم الطير، إلا أن بعض المشتغلين بالطب يقرر أن استفادة الجسم من الفاكهة قبل الطعام أسرع من استفادته منها إذا قدمت بعد الطعام، فالله سبحانه وتعالى أعلم بذلك، والأمر مباح ما دمت تقصد إكرام الضيف، إلا إذا قصدت بخلاً كما يفعل البعض، إذ يملئون الأجواف بالماء والتمر حتى إذا أتى الطعام تقلل الضيوف من أكلهم، فلك نيتك، {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) .
وقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:22-23] تقدم الكلام على ذلك، وذكرنا أن المكنون هو: المحفوظ الذي لم تمسه الأيدي.
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:24] .
أفادت الآية الكريمة أن هذا النعيم المذكور جزاءً بما كانوا يعملون، فكيف يجمع بين هذه الآية الكريمة وبين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ؟ جمع بعض أهل العلم بين هذا الحديث الأخير وبين تلك الآية بأوجه من الجمع منها: أن دخول الجنة أولاً يكون برحمة الله سبحانه وبفضل الله سبحانه، ثم الترقي في الدرجات يكون بناءً على الأعمال كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] .(48/8)
أصحاب اليمين وما أعده الله لهم
ثم قال سبحانه: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27] تعظيماً لشأنهم، وهم الدرجة الثانية من أهل الجنة الذين يعبر عنهم في بعض المواطن بالأبرار، كما قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:5-6] فالأبرار هنا هم أصحاب اليمين، وعباد الله الذين ذكروا في قوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] هم المقربون.
فأهل اليمين {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:28] ، وقد تقدم أن بعض الأعراب ذكر لبعض السلف الصالح رحمهم الله هذه الآية وقال: كل ما في القرآن حسن، لكني أقرأ آية فيها {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:14] ، والسدر شجر ذو شوك وهو مؤذٍ، فقال له العالم رحمه الله تعالى: ألم تقرأ قوله تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:28] ؟ فالمخضود الذي أزيل شوكه، أي: الذي أبعد شوكه.
فلما أبعد منه الشوك ما بقي منه إلا الحسن، كما تقدم في تأويل قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:14] أي: شجرة السدرة التي تغشاها من أمر الله ما تغشاها، فأصبحت لا تكاد توصف، بل لا توصف مما حل بها من البهاء والحسن والجمال.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29] ، والطلح -على رأي الأكثرين- الموز، أما المنضود فمعناه: المتراكب بعضه فوق بعض، ومنه قوله تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10] أي: متراكب بعضه فوق بعض، فالطلح المنضود هو الموز، إذ يكون بعضه مركباً فوق البعض الآخر كما هو معلوم ومشاهد.
قال تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30] ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها) ، قال أبو هريرة، وفي بعض الروايات أن القائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30] ) فالظل الممدود هو الظل الطويل كما بينه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:31-33] .
يقول الله سبحانه: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34] من العلماء من قال: إن المراد بالفرش السرر كما فسرتها الآية الأخرى {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13] ، وقد يكون المقصود أنها مرفوعة المكان والقدر، ومن ذلك يستفاد أنه يجوز في الدنيا أن تنام على سرر مرفوعة، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم سرير ينام عليه صلى الله عليه وسلم.
{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:34-35] يقيناً أنها لا ترجع إلى الفرش لقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:36] ، فقوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] أي: خلقناهن خلقاً جميلاً، وهو راجع إلى شيء محذوف مفهوم من السياق، إذ يستحيل أن يرجع إلى ما قبله؛ لأن الله قال: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:35-36] ، إلا أن قائلاً قال: إن المراد: من ينام على الفرش، لكن الأولى والأوجه أن يقال: إن قوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] أي: خلقناهن خلقاً جميلاً ووسيماً وفيه كل صفات الحسن عائد على شيء محذوف مفهوم من السياق.
وهذا يتكرر كثيراً جداً في كتاب الله، وقد ضربت له أمثلة: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] أي: حتى توارت الشمس بالحجاب، {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] ، فالتي بلغت الحلقوم هي الروح، وقد فهمت من السياق، وكذلك هنا {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] ، فبعد أن كن نساء الدنيا عجائز، وكن عمشاً ورمقاً -كما قال العلماء- ردهن الله سبحانه وتعالى رداً جميلاً وخلقهن خلقاً حسناً، فقال: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:36] أي: رددن إلى البكارة مرة ثانية، {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37] ، والعرب من النساء هن المتحببات إلى الأزواج، وهن النساء اللواتي أحببن أزواجهن، وتلطفن مع أزواجهن بالمقال وبالأسلوب والعبارات، وهن المتغنجات للأزواج كما قال العلماء.
وهذا كله يستحب في زوجة الدنيا، أي: يستحب أن تتحبب إلى زوجها، وتتعمد ذلك بالكلام الطيب الهادئ المريح، بل يشرع لها أن تبالغ في ذلك بل وأن تكذب في ذلك كي يقبل عليها زوجها ويحبها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص في كذب المرأة على زوجها، ومحل هذا أن تظهر له عظيم محبتها وودها له.
{عُرُبًا} [الواقعة:37] أي: متحببات إلى الأزواج {أَتْرَابًا} [الواقعة:37] في سن واحدة، {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:38] .(48/9)
حوار مع أحد الطلاب
ونطرح الآن الأسئلة والنقاش في مسائل تفتح الأذهان بإذن الله.(48/10)
جواز رفع القبور للضرورة
الشيخ: ما رأيك في المقابر المرتفعة التي يدفن فيها الناس الآن، هل هي على السنة أم أنها تخالف السنة؟ الطالب: غير شرعية.
الشيخ: ماذا نصنع كي تكون شرعية؟ الطالب: لا نرفعها.
الشيخ: عندما حفرنا في الأرض متراً خرج من الأرض ماء فهل نحفر أيضاً أم ماذا؟ يعني: شخص بلدته لا يرشح الماء فيها، وكل المقابر في البلدة عالية، ولا يسمح له بحفر قبر جديد، فاشترى أرضاً، وحفر خمسة قبور في هذه الأرض، فأصبحت مقابره فقط هي الدفينة في الأرض، فجاء الأطفال ولعبوا فوقها، وجاء الناس ومشوا من فوقها، فهم لا يعرفون أنها مقابر، فصارت لا توقر، والكلاب تقبل وتدبر عليها، فهل يتركها هكذا أم يرفعها؟ الطالب: تترك كما هي ولا يرفعها.
الشيخ: تقول: الأفضل أن تترك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، فتحرق جلده؛ خير له من أن يجلس على قبر) .
لكن ما مناط الحكم في المسألة؟ فالمشكلة في انخفاضه وليس في ارتفاعه، فماذا يصنع؟ الطالب: يتركها منخفضة الشيخ: الأطفال يلعبون عليها، والناس يمشون فوقها! الطالب: يرفع قليلاً.
الشيخ: الرفع للضرورة فقط يجوز، وإلا فرفع القبور محرم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته) .(48/11)
الأسئلة(48/12)
من أمثلة الطلاق البدعي
السؤال
هل هناك طلاق بدعي وطلاق سني؟
الجواب
نعم الطلاق البدعي المخالف للسنة، والسنة هي ألا تخالف سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيذكرون من الطلاق البدعي: طلاق المرأة في طهر جامعها فيه، أو طلاق المرأة وهي حائض، أو طلاق الثلاثة مجتمعة في مجلس واحد، فهذه كلها من صور الطلاق البدعي التي لا توافق سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
والطلاق البدعي منه طلاق يقع، وطلاق لا يقع، فطلاق الرجل لامرأته في طهر جامعها فيه يقعد عند جماهير السلف والخلف، وطلاق الحائض لا يقع عند بعض العلماء مع مخالفة بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم، لكن جماهير السلف والخلف على أن طلاق الحائض يقع.(48/13)
حكم الولد المولود من جماع المخطوبة قبل العقد
السؤال
هل ينسب الولد لأبيه إذا كان الأب قد جامع الأم أثناء الخطبة قبل العقد؟
الجواب
العبرة بالولادة، فإذا ولد الولد على فراش الزوجية، أي: أن أباه وأمه على فراش الزوجية فالولد للفراش، أما إذا ولد على غير فراش الزوجية فلا ينسب لأبيه.(48/14)
حكم التتابع في القضاء
السؤال
شخص أفطر أربعة أيام فهل يلزم التتابع في القضاء؟
الجواب
لا يلزم.(48/15)
حكم صلاة المرء في بيته لعجز أصابه
السؤال
يوجد لدينا مسجد تحت البيت، وأنا رجل مقعد، هل تصح صلاتي وأنا بالطابق الذي فوق المسجد مباشرة وتحسب جماعة أم لا؟
الجواب
أنا متوقف في هذه المسألة.(48/16)
اتصال الصفوف ليس شرطاً في صحة الصلاة
السؤال
ما الدليل على أن اتصال الصفوف شرط في صحة الصلاة؟
الجواب
عندما نقول: ينبغي أن تتصل الصفوف، فلا يعني ذلك أن نجعلها شرطاً في البطلان، في الحرم المكي الناس يصلون أمام باب الملك عبد العزيز، وآخرون في شارع أجياد على بعد مائة متر، فقد جاء مستعجلاً فيركع، وهكذا صفوف أخرى، فأنا أسأل: ما هو الدليل على أن اتصال الصفوف شرط في صحة الصلاة؟ الطالب: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) .
الشيخ: حديث (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) ، النفي هنا عند الجمهور نفي الكمال لا نفي الصحة؛ لأن أبا بكرة جاء وركع خلف الصف ثم دخل في الصف وهو راكع، فالعلماء يستدلون بهذا الحديث ويقولون: لو كانت الصلاة باطلة خلف الصفوف لبطلت تكبيرة الإحرام التي عقدها أبو بكرة خلف الصف، فلما أجازها الرسول صلى الله عليه وسلم فهم أن (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) على سبيل نفي الكمال لا نفي الصحة.
وبالمناسبة: فإن بعض أهل العلم سئل عن صلاة الملوك في القصور التي خلف الحرم، فقال: جائزة، وفي جلسة خاصة: سئل: على أي أساس أجزتها؟ قال: لأنه إذا نزل فسوف يؤذي المصلين كلهم، فالجنود سيبعدون المصلين ويشتتونهم، فليصل الملك في قصره، وهذا بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وهذا منطق مسدد لعلة درء المفسدة.
وعلى ذلك نقول: اتقوا الله ما استطعتم، فيجوز لي أن أصلي منفرداً ولي أجر الجماعة، أي: إذا صليت منفرداً وربي يعلم من حالي أني أريد الجماعة كتبت لي جماعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج أحدكم من بيته يريد الجماعة فوجد الناس قد صلوا كتب له أجر الجماعة) وهذا لأصحاب الأعذار.(48/17)
حكم ترك صلاة الجماعة من أجل الحراسة
السؤال
جندي في الجيش عندما يكلف بالخدمة لا يتمكن من أداء الصلاة جماعة، فماذا يفعل؟
الجواب
صل على قدر استطاعتك، ولا تلزم بالجماعة ما دمت مكلفاً بالحراسة، فصل قبل أن يخرج وقت الفريضة.(48/18)
حكم الأكل في بيوت من يتعاملون بالربا
السؤال
كثيراً ما نتعرض لدخول بيوت إخواننا ونأكل منها، فهل يحرم علينا أن نأكل من بيوت من غلب على ظننا أنهم يتعاملون مع البنوك؟
الجواب
كل والإثم عليهم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام دخل وأكل من بيت امرأة يهودية، ولم يستفصل عليه الصلاة السلام، والمعهود من اليهود أنهم يرابون، وقد ورد أثر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يؤيد هذا المعنى حيث قال: (كل وخذ ما أعطاك، والإثم عليه) ، أورده ابن رجب في جامع العلوم والحكم، وإن كانت المسألة لا تخلو من نزاع، لكن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأكله عند اليهودية يقوي الرأي القائل بأننا نأكل، اللهم إلا إذا كانت هناك مصلحة مرجوة في عدم الأكل، كأن يكون في عدم الأكل زجر لهذا الرجل عن الربا، فحينئذٍ يفعل الأصلح، والله سبحانه وتعالى أعلم.(48/19)
حكم صلاة المرأة بعباءة البيت
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تصلي في عباءة البيت وعليها خمار فقط؟
الجواب
يجوز أن تصلي في عباءة البيت، وعليها خمار.(48/20)
هيئة الجلسة بين السجدتين
السؤال
ما هو الصحيح في هيئة الجلسة بين السجدتين؟
الجواب
لك أن تفترش اليسرى وتنصب اليمنى، ولك أن تنصبهما معاً، وهاتان الصفتان وردتا عن النبي صلى الله عليه وسلم.(48/21)
حكم قطرة العين للصائم
السؤال
ما حكم قطرة العين للصائم؟
الجواب
قطرة العين ليست بطعام ولا بشراب ولا بشهوة، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر فيما روي عن ربه تبارك وتعالى: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) ، وهي ليست بطعام ولا بشراب ولا بشهوة.(48/22)
حكم وضع ميت في قبر قد دفن شخص فيه من قبل
السؤال
حفرت خمسة قبور لمن يموت من عائلتنا، فإذا دفنا خمسة فيها، هل يجوز لنا أن نفتح هذه القبور مرة أخرى ونضع فيها موتى آخرين؟
الجواب
عائلتك لها خمسة قبور، ثم فجأة مات منكم هذا الشهر خمسة فدفنوا في هذه القبور الخمسة، وبعد شهر مات ثلاثة فإذا جئت تفتحها فإن الرائحة في غاية الكراهة، فماذا تصنع؟ نقول: يوجد مقابر صدقة فتدفن الميت فيها.(48/23)
عدم ثبوت حديث: (تحترقون تحترقون)
السؤال
حديث (تحترقون تحترقون ثم تحترقون ثم إذا صليتم الظهر) .
الجواب
الحديث لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.(48/24)
حكم تأخير قضاء الصوم حتى مجيء رمضان الآخر
السؤال
امرأة وضعت قبل رمضان الماضي بشهر ونصف وما زالت في حالة رضاعة حتى الآن، فهل تكفر عن رمضان الماضي مع العلم بأنها ضعيفة البدن؟
الجواب
شخص عليه صيام من رمضان الماضي يجب عليه قضاؤه، وسيدخل عليه رمضان الآتي وهو لم يصم القديم، فكثير من الفقهاء يفتون فيقولون: إذا دخل عليك رمضان جديد ولم تصم فلتكفر بإطعام، لكن هذا القول ليس عليه دليل، فهل منكم أحد يذكر دليلاً يشهد لهذا القول المتداول؟ فرب العزة يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ، فالآية الكريمة أطلقت قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] لم يحدد الله لنا سنة أو سنتين أو ثلاثة، بل الآية الكريمة أطلقت، فالذي يقيدنا ويقول: لزاماً أن تصوم قبل رمضان القادم؛ عليه أن يأتينا بالدليل، والذي يقول: عليكم بكفارة إذا دخل رمضان ولم تصوموا، فعليه بالدليل، فالدليل هو الحكم {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] ، والبعض يستدل بقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان يكون عليّ الأيام من رمضان فلا أستطيع أن أقضيها إلا في شعبان، للشغل برسول الله عليه الصلاة والسلام) لفظة: (للشغل برسول الله عليه الصلاة والسلام) ليست من قول عائشة وإنما ذكرها يحيى القطان، وهو الذي فهم ذلك، لما قالت: (لا أستطيع أن أقضيها إلا في شعبان) ، قال يحيى: للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم، هي لم تقل هذه اللفظة، لكن على فرض أنها قالتها أم لم تقلها ليست هذه محل المناقشة، وإنما قولها: (لا أستطيع أن أقضيها إلا في شعبان) ، لا يفيد إيجاب القضاء قبل دخول رمضان، وإنما هو فعل استحبته عائشة، فاستحبت ألا تتراكم عليها ديون من رمضان السابق مع رمضان الآتي، لكن جعله كدليل يوجب كفارة على من أخر الصوم السابق حتى دخل الآخر لا يصح، ولا أعلم دليلاً، والآية صريحة في هذا {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ، فأطلقت لنا ولم تقيدنا، والذي يقيد عليه أن يأتي بالدليل، والمجال مفتوح لمن عنده أي دليل يلزم به.
وأما قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] ليست في محل النزاع في الأصل، فهذا كان في أول الإسلام، فالشخص في أول الإسلام كان مخيراً بين صيام رمضان وبين الإطعام، وإن كان مستطيعاً للصيام، لكن نسخت بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، لكن قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ليست منسوخة.
فما دام أنكم لا تحفظون دليلاً لا من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله، والله يأمرنا عند النزاع أن نرد الأمر إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالأصل أن الذمم بريئة، وتقضي متى شاءت، لكن ينبغي أن الديون تؤدى سريعاً، فصحيح من هذا الباب، لكن أن تفرض عقوبة فهذا ليس عليه دليل.
وأما إذا مات قبل أن يقضي ما عليه من صيام فالنزاع في شأنه قائم على تفصيل واسع، فمن العلماء من يستدل بعموم حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) ، فيقول: يقضي عنه أولياؤه، وبعض أهل العلم يفصل تفصيلاً آخر فيقول: إذا جاء رمضان وانتهى وهو مريض وأفطر فيه، ثم استمر به مرضه بعد رمضان إلى أن مات فليس عليه ولا على أوليائه أي نوع من أنواع القضاء، إذ مرضه متواصل، ولم تأتِ فرصة كي يصوم فيها، أما إذا جاء رمضان وأفطر فيه أياماً ثم انتهى رمضان وشفاه الله زماناً يمكن فيه القضاء ولم يقضِ فقد أصبح القضاء معلقاً في الذمة، فيقضي عنه الأولياء إذا مات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) وكذلك المرأة التي أتت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن أمي ماتت ولم تحج قال لها: أفرأيتي لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: فدين الله أحق أن يقضى) ، وهل يؤخذ من هذين الحديثين أن على الأبناء أن يحجوا وأن يصوموا عن آبائهم الذين فاتوا وعليهم صوم وحج أم أن هذا على الاستحباب؟ الجواب: هذا على الاستحباب على قواعد الجمهور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصيام، فقال له قائل: (هل عليّ غيره؟ قال له: لا؛ إلا أن تطوع) ، فهو على الاستحباب لا على الإيجاب، والله لم يوجب على شخص ثلاث حجات: حجة عن نفسه، وحجة عن أمه، وحجة عن أبيه، إنما هو على سبيل الاستحباب.(48/25)
حكم أخذ مال فاسق بدون حق
السؤال
سائق تاكسي أوصل امرأة إلى بيتها، ثم طلبت منه أن يدخل البيت ويحمل الحقيبة، فحملها وفجأة قالت له: إما أن تمارس الفاحشة وإلا سأصرخ! فوافقها، فأعطته نقوداً ليشتري لها طعاماً، فأخذ النقود وهرب، فهو يسأل عن حكم هذه النقود؟
الجواب
تصدق به عنها لعل الله أن يكفر بهذا المال عنها.(48/26)
حكم معالجة الطبيب للمتبرجات
السؤال
أنا طبيب أمراض جلدية، وتأتي إليَّ نساء متبرجات لديهن مشاكل في جلد الرأس، فأعطيهن العلاج لذلك، فهل عليّ وزر إذا أعطيتهن العلاج، علماً بأن جلد الرأس إذا لم يعالج فإن شعرها سيتأذى، فهل أعطيهن علاجاً كي يتقوى شعرهن أم يتركن بلا علاج؟
الجواب
الظاهر -والله أعلم- أنه يعالجهن ويذكرهن بالله؛ لأن الأصل أن نأخذ المسألة بدليل أيضاً، فالأصل: أنه يجوز أن تعالج شخصاً كافراً، يعني أتاك نصراني أو ملحد أو كافر كي تعالجه، وهذا النصراني ليس بمحارب للمسلمين، أما إذا كان محارباً فاتركه يهلك، أما إذا كان كافراً غير محارب فيشرع علاجه لحديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه البخاري لما مر على قوم، وفيهم لديغ، فرقاه أبو سعيد بفاتحة الكتاب على قطيع من الغنم، فهؤلاء النسوة خذ منهن أجرتك وعالجهن، وادعهن إلى الله سبحانه وتعالى.(48/27)
حكم الحج بمال مستدان
السؤال
هل يصح الحج إذا اقترضت مبلغاً من المال من أجل الحج أم يكون الحج فاسداً؟
الجواب
الحج صحيح، لكن لم يوجب الله عليك أن تقترض، فإن كنت تطمع في فضل الله سبحانه وتعالى وفي رزقه وكان عندك ميراث إذا مت يسد منه الدين فلا بأس، والحج صحيح.(48/28)
تفسير سورة الواقعة [2]
لقد بين الله في سورة الواقعة ما أعده من عذاب شديد لأصحاب الشمال، فذكر طعامهم وشرابهم ومأواهم، وأنه حميم في حميم؛ وذلك لأنهم كفروا بالله تعالى ولم يلتزموا بشرعه ولا بأمره ونهيه.
ثم ذكر الله تعالى جملة آيات دالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته.(49/1)
مصير أصحاب الشمال، وصفاتهم
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: يذكر الله سبحانه وتعالى الصنف الثالث من أهل الآخرة، فيقول سبحانه: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:41-45] .
قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:41] أطلق عليهم أصحاب الشمال كما قال فريق من أهل العلم: لأنهم يتلقون كتبهم بشمالهم.
وكيف يجمع بين تلقيهم الكتب بالشمال كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة:25] وبين قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق:10] ؟ فمن العلماء من قال: يؤتاه بالشمال من وراء ظهره كذلك، فتمتد اليد الشمال خلف الظهر ويتلقى الكتاب على هذه الحال والعياذ بالله! {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:41] ، تكريرها لبيان هول وعظم ما أعد لهم، أي: وأصحاب الشمال وما أدراك ما حال أصحاب الشمال؟! إنه حال سيئ ومذل ومخز، والعياذ بالله! حالهم {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة:42] (السموم) : الريح الحارة الشديدة، و (الحميم) : الماء الحار الشديد الذي قد انتهى إلى أعلى درجات حرارته.
{وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة:43] الدخان الأسود الشديد، وهذا هو الذي يظللهم، فريح حارة شديدة، والظل الذي يستظل به دخان أسود كثيف مؤذٍ، والماء الذي ظن أنه يتبرد به من الحميم.
{وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:43-44] هذا مصيرهم في الآخرة.(49/2)
طعام أهل الشمال في الآخرة وشرابهم
قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:51-52] ، والضالون هنا ليس المراد بهم النصارى الضالون فحسب، بل المراد عموم من ابتعد عن كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكفر بالله، فدخل في ذلك أهل الشرك وأهل الإلحاد واليهود والنصارى {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} [الواقعة:51] أي: المكذبون بالبعث {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:52] ، والزقوم وصفها الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43-46] وقال تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60] فسرها بعض العلماء بشجرة الزقوم، وهي شجر وليست شجرة، كما قال الله: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:52] ، وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:66] ، وقال الله في صفة هذه الشجرة: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64] ، وقد جعلها الله فتنة للظالمين، حيث قال أهل الظلم: كيف تنبت الأشجار في وسط النيران؟! وخفي عليهم أن الله على كل شيء قدير، وقوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65] هذا تصوير لها وإن لم نرَ نحن رءوس الشياطين لكننا جميعاً نتصور أن رءوس الشياطين شيء مزعج ومخيف ومرهب، فوصفت برءوس الشياطين مع كوننا لا نعرف كيف رءوسهم، ولكنه تصوير لما انقدح في الذهن واستقر في القلب من أن الشياطين ورءوسها أشياء مخيفة.
قال الله سبحانه وتعالى: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:52-55] والحميم هو الماء الذي يغلي.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الواقعة:51-53] كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] ؟ فآية الغاشية {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:52] فكيف الجمع؟ بعض أهل العلم يقول: فريق من أهل النار طعامهم الضريع وليس لهم إلا هذا الضريع، وفريق آخر من أهل النار طعامهم شجر الزقوم، فهم أصناف، وكل صنف اختص بأكلة معينة على حسب جرائمه التي اقترفها، أو يحمل على أنهم في سنين ما يأكلون إلا الطعام من ضريع، وليس لهم إلا هو، وفي سنين أخر يأكلون من شجر الزقوم وليس لهم طعام إلا هو، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله تعالى: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:54-55] ، الهيم من الإبل: شديدة العطش التي تشرب ولا تكاد تروى.
{هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:56] أي: هذه مكرمتهم التي يكرموا بها!(49/3)
إنكار المشركين للبعث
قال تعالى: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:47] ، ينكرون البعث أيضاً، فكانوا يشركون بالله وينكرون البعث، وإنكار البعث بمفرده كفر، والشرك بالله بمفرده موجب للخلود في النار.
{وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:47] استبعاداً للبعث، وهذا يفترق به المسلمون عن غيرهم من أهل الديانات، وإن كان بعض أهل الممل كاليهود يقرون بالبعث، لكن تصورهم للبعث تصور خاطئ، فقد زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وزعموا أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات، أحسنوا العمل أم لم يحسنوه، قالوا بزعمهم: إن النار تمسهم سبعة أيام، وهي تلكم الأيام التي عبدوا فيها العجل، ثم يخلفهم فيها المسلمون بزعمهم! وقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:47] كقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:79-83] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال رجل ممن قبلكم لبنيه: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: كنت خير أب، قال: فإن الأبعد لم يفعل خيراً قط، والله! لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فإذا أنا مت فحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم في يوم عاصف، فلما مات وصنعوا به ذلك أحرقوه، ثم طحنوه، ثم أخذوا ترابه في يوم عاصف، وأتوا إلى البحر فذروه في البحر فلما فعلوا به ذلك قال الله له بكلمة واحدة: كن رجلاً، فإذا هو رجل قائم بين يدي الله سبحانه، فقال الله له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك يا رب! فغفر الله له) .
قال الله سبحانه وتعالى: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:47-50] ، كل الأوائل والأواخر سيجتمعون في صعيد واحد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي) داعٍ واحد يدعوهم والكل يستمعون إلى قوله، بجمع كل من كان من عهد آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49-50] ، وهذا دائماً يذكر به الله في ثنايا الآيات؛ لأن التذكير بالبعث واليوم الآخر يحمل على إحسان العمل.(49/4)
الإصرار على الذنوب
هذا بحث عاجل وسريع حول مسألة الإصرار على الحنث العظيم على تأويل من فسر الحنث العظيم بأنه الذنب وليس الشرك، أما تفسير الحنث العظيم بأنه الشرك فلا إشكال فيه؛ لأن نصوص الشريعة تشهد بأن من أصر على الشرك ومات عليه فإنه من أصحاب الشمال، لكن التوجيه على رأي من قال: إن الحنث العظيم هو الذنب العظيم ما دون الشرك، فهل الإصرار على الذنب العظيم الذي هو دون الشرك يجلب لصاحبه الخلود في النار؟
الجواب
القواعد الكلية لأهل السنة والجماعة تفيد أن الإصرار على الذنب العظيم الذي هو دون الشرك كالإصرار على الزنا مثلاً أو الإصرار على القتل، فالإصرار على ذلك ليس بموجب للخلود في النار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116] ولقول الله سبحانه وتعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:284] ولقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ؛ ولحديث البطاقة الذي فيه: (أن الله سينادي رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فيقول الله سبحانه وتعالى: انشروا له صغار ذنوبه، وأخفوا عنه كبارها، فيخرجون سجلات طويلة سجلت فيها معاصيه وذنوبه، طول هذه السجلات مثل مد البصر! فيقول الله سبحانه وتعالى له: أظلمناك شيئاً؟ فيقول: لا يا رب! فيقول الله: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب! يقول الله: أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا رب! فتوضع في كفة، ثم يقول الله له: إن لك عندنا حسنة، وإنك اليوم لم تظلم، فتخرج له بطاقة فيها: لا إله إلا الله فتوضع في الكفة الأخرى، فتطيش بتلك السجلات، ولا يثقل مع اسم الله شيء) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث قد يفهم على غير وجهه، كما فهمه بعض أهل الإرجاء، ولكن فهمه عند أهل السنة أنه مثال لرجل أراد الله أن يغفر له، وليس بلازم أن يغفر الله لكل مجرم، وليس بلازم أن يغفر الله لكل مسرف على نفسه، بل كما سمعتم {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21] ، فالمصر على المعصية حتى يموت عليها، ولم يتب منها؛ ليس بلازم عند أهل السنة والجماعة أن يعذب.
والمقام مقام تحرير المسائل العلمية، ليس مقام تخويف ولا ترهيب، فنحن في وسط إخواننا طلبة العلم، فالمقام مقام تحرير مسائل علمية، فمن أصول أهل السنة والجماعة ما سمعتموه، ويشهد لهذا المعنى حديث البغي التي كانت تتكسب من الزنا والعياذ بالله! فمرت ذات يوم بكلب يلهث من العطش، فنزعت موقها وملأته ماءً من بئر وسقته، فشكر الله لها، فغفر لها، وأدخلها الجنة، ولم يذكر في الحديث أنها تابت من هذا الذنب، فأمر ذلك إلى الله سبحانه، لكن {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116] .(49/5)
ترف أهل الشمال
ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} أي: في دنياهم {مُتْرَفِينَ} ، وهل كل مترف في الدنيا يعذب في الآخرة؟ قطعاً ليس كل منعم في الدنيا يعذب في الآخرة، ولكن كما قال فريق من أهل العلم: إن عموم أهل الترف على الشر والفساد، فأهل الترف مفسدون وأهل شر، ولا يستثنى منهم إلا القليل، فدل على هذا الأصل قول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:83] ، أي: الإنسان إذا أنعمنا عليه بنعمة أعرض ونأى بجانبه، وكما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] أي: من رأى نفسه مستغنياً عن الله بدأ في التمرد والطغيان؛ ولذلك يقول الله جل ذكره: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16] من العلماء من يقول: أمرنا مترفيها بأوامرنا ونواهينا فعصوا تلك الأوامر وأقبلوا على تلك المناهي فخالفوا أمرنا بذلك، فحق على هذه القرية القول {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16] .
ومنهم من يقرأها بالتشديد (أمّرنا مترفيها) أي: جعلنا المترفين أمراء فسعوا في الأرض بالفساد، فليس مجرد الترف -الذي هو النعمة في الدنيا- سبباً للعذاب، لكن سياقات الكتاب العزيز تبنى على العموم، كما قال الله جل ذكره: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، مع أنه أثبت لبعض الأعراب إيماناً في قوله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} [التوبة:99] ، فليس الترف والنعيم والتنعم والاستمتاع بالدنيا وحده جالب للعذاب، فإذا أدى هذا المنعَّم في الدنيا حق الله عليه في ماله وفي صحته فهو على خير، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نعم المال الصالح للرجل الصالح) ، وجاءه الفقراء يشكون ما لإخوانهم الأثرياء من الأجر بقولهم: (ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى والنعيم المقيم) ، وفي آخر الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ... ) .
فليس كل منعم في هذه الحياة الدنيا من أهل النار، وليس كل شقي في هذه الحياة الدنيا من أهل الجنة، فكم من رجل -والعياذ بالله- جمع بين شقاوة الدنيا وشقاوة الآخرة، وكم من شخص في هذه الحياة الدنيا جمع بين النعيمين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.
فها هو نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام آتاه الله ملكاً لم يعطَ لأحد من بعده، ولم يحزه أحد من قبله فيما علمنا، ومع ذلك هو نبي صالح يقول: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] وها هو ذو القرنين كذلك كما قال الله: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84] ، ومكنه الله غاية التمكين في الأرض، وهو رجل صالح أثني عليه خيراً في كتاب الله سبحانه.
وهذا يجرنا إلى شيء ألا وهو: إن هناك أحاديث فيها الوعيد لأصحاب جرائم ورد في ذكرهم جملة من الخصال خصلتان أو أكثر، فهل يعذبون بسبب الخصلة الواحدة أم لابد من اقتران الخصلتين معاً؟ مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون في آخر الزمان أقوام لهم حواصل كحواصل الطير، يصبغون بالسواد، لا يريحون راحة الجنة) هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح.
فهل مجرد الصبغ بالسواد هو الذي يجعلهم لا يريحون رائحة الجنة أم يضم إليها أيضاً أنهم يحلقون لحاهم ويتركون في نهايتها شيئاً مستديراً كالذي يفعله بعض السعوديين الآن، ويصبغ الشعيرات التي في آخر اللحية بالسواد؟ هل هذا الصبغ بالسواد فقط هو الذي حذا بهم إلى أنهم لا يريحون رائحة الجنة أو نضم إليه أيضاً أنهم يحلقون لحاهم، ولا يبقون إلا مثل حواصل الطير؟ أو أن فيهم أشياء أخرى لم تذكر في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام إنما ذكرت العلامات فقط؟ أي: أن هناك خصالاً لهؤلاء الناس الذين ذكروا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لم تذكر في الحديث، ومن سيماهم: أنهم يصبغون بالسواد، وأن لهم حواصل كحواصل الطير؟ في الحقيقة أن هذا ينبني عليه فقه واسع، ليس في هذه المسألة فحسب بل في عدة مسائل، هل الصفات التي ذكرت هي وحدها الكفيلة بمنعهم من الجنة، ومنعهم أن يشموا رائحتها أم هناك صفات أخر استترت في الحديث ولم تبين، ولكن ظاهرهم أنهم يصبغون بالسواد؟ مثال آخر: وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:38-46] ،فهل الصفة الواحدة من هذه الأشياء المذكورة كفيلة بالحكم عليهم بالإجرام وبالحكم عليهم بالخلود في النيران؟ قطعاً هذا محل نظر، فإن بعض الأشياء التي ذكرت في قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] إلى آخر الآيات منها صفات مكفرة بالاتفاق، موجبة للوصف بالإجرام وللخلود في النيران، كقولهم: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:46] ، وصفات أخر مكفرة على خلاف بين العلماء وهي قولهم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] ، وصفات أخر وهي قولهم: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44] ليست مكفرة على رأي الجماهير.
فهل اشتباك هذه الصفات معاً هو الذي يحكم عليهم بالإجرام وبالخلود في النيران أو أن بعض الصفات هي التي تحكم عليهم بذلك؟ لكل مسألة من هذه المسائل ملابساتها الخاصة، فينبغي إمعان النظر في مثل هذه الأحوال حتى يخرج الشخص بفقه صحيح متفق مع النصوص العامة والقواعد الكلية لأهل السنة والجماعة، والله أعلم.
الشاهد: أن قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] ، إذا فسرنا الترف بأنه مجرد التنعم فلا شك أن التنعم وحده ليس بكافٍ ولا بكفيل للحكم عليهم أن يكونوا من أصحاب الشمال، فكم من منعم في هذه الحياة الدنيا كان مصيره إلى الجنان! فهذا أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه من أصحاب الأموال الطائلة، وكذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من أصحاب الأموال الطائلة، قيل: كان لـ عثمان ألف جارية! وثم صحابة آخرون آتاهم الله مالاً غزيراً، ومع ذلك أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية الثناء.
فقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] ، ضموا مع هذا الترف {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46] ، من العلماء من قال: إن الحنث العظيم هنا المراد به: الشرك، ومن العلماء من قال: إن أصل الحنث هو الذنب، يقول الشخص: حنثت، أي: وقعت في الذنب لكوني أقسمت وخالفت يميني، فالحنث أصلاً هو الذنب، لكن لاقترانه بالعظيم فسر بعض أهل العلم الحنث العظيم بالشرك، ومنهم من قال: هو الذنب العظيم، {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46] .(49/6)
آيات تقر بربوبية الله سبحانه
قال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:57-58] تمنون أي: تقذفون المني وتسيلونه، ومنه قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة:37] أي: يهراق ويسال ويندفع.
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة:58-60] ، أي: وما نحن بعاجزين كما قول بعض أهل العلم {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61] أي: نحولكم إلى صور أخرى لا تتخيلونها ولا تتوقعونها كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس:66-67] ، فقوله تعالى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61] أي: ننشئكم في صور أخرى من الخلق لا تعلمونها، قد تطمس وجوهكم فترد كالقفا كما صنع بأقوام من قبل، وليست الآية الكريمة دليلاً على المبدأ الهندوسي الكافر الذي يتبناه الكفرة من أهل الهند بقولهم بتناسخ الأرواح، أي: أن الشخص عندهم إذا مات وكان صالحاً فإن روحه تحل في شيء طيب، وإن كان فاسداً ومات، فإن روحه تذهب إلى كلب أو قط أو حية أو ضفدعة، والأرواح الطيبة بعد أن يموت صاحبها لا تموت هي، بل تتحول إلى أشياء بحسب صلاح الشخص أو فساده.
والآية لا تدل على هذا المبدأ الكافر، فالله سبحانه وتعالى يحذر من مسح الأجساد في هذه الآية {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61] كما مسخ بني إسرائيل إلى قردة وخنازير، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:62] أي: علمتم كيف خلقناكم أول مرة فلولا تتعظون وتعتبرون.
وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة:63] ذكرت الآية الكريمة الحرث، ولم تنتقص من يحرث ويزرع، وقد أورد بعض الألمان الكفرة شبهة على أحد المسلمين قليلي العلم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال هذا الألماني الكافر لرجل من المسلمين: ما هو أصح كتبكم المعتمدة بعد القرآن الكريم؟ قال: صحيح البخاري.
قال: إن في صحيح البخاري حديثاً فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على قوم، فوجد عندهم في البيت سكة من حديد -وهي بمعنى: آلة الحرث- فقال: (لا يدخل هذه الآلة قوم في بيوتهم إلا أصابهم الذل) ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هاهو دينكم يدعو إلى التخلف، كيف لا يدخل القوم آلة الحرث إلا أدخلوا على أنفسهم الذل؟ فالرجل علمه بالسنة ضعيف، فحاول أن ينكر هذا الحديث، فلما أثبت له أن هذا الحديث في صحيح البخاري حاول أن يؤول أو يدعي أن الحديث مدسوس، والحديث ثابت صحيح، ولكن آفة عدم الفهم هي التي تسربت إلى هذا الرجل، فهذا الحديث بعينه يدعو إلى التقدم وإلى التسلح، فمعناه: أنكم -يا معشر المسلمين- إذا رضيتم بالزرع، وتركتم آلات القتال وآلات الحروب، إذا عمدتم إلى المزارع وإلى الفئوس وإلى آلة الحرث فقط، وتركتم صناعات الحروب كالسيوف والدروع وملحقات ذلك الآن كالطائرات والصواريخ، ونحو هذه الأسلحة التي تكف شر عدوكم بإذن الله، وانعكفتم على الحرث؛ فإن عدوكم سيتسلح ويتسلط عليكم، فيسلب ما بأيديكم وينزل بأسه بكم، ولكن إذا تسلحتم وتقويتم مع هذه الآلة فإنكم ستأمنون شر أعدائكم، فهذا هو الفهم الصحيح، أما ديننا فإنه يدعو إلى الزرع والحرث، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة -وهي: النخلة الصغيرة التي لا تنبت إلا بعد سنوات طويلة- فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت له أرض فليمنحها أخاه أو ليزرعها) ، فلا يتركها، فإما أن يزرعها هو وإما أن يمنحها أخاه.
إلى غير ذلك من النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، وهي نصوص في غاية الكثرة.
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} [الواقعة:63-64] أي: تنبتونه وتخرجونه {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:64-65] محطماً مدمراً {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:65-67] أي: لظلتم تتعجبون مما حدث وتضربوا بيد على الأخرى قائلين (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) .
وقوله تعالى: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة:66] فيه قولان: قيل: إننا كنا ننتظر الناتج للثمرة حتى نسدد بها الديون، والآن قد دمر هذا الزرع، فوقعنا في الغرم وهي الاستدانة، فطائفة منهم يقولون: إنا لمغرمون، وطائفة أخرى تقول: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:67] ، وقيل: هي طائفة واحدة تقول هذا ثم تقول: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:67] .
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة:68] استدل بذلك بعض أهل العلم على أن الشرب يكون بعد الأكل، وقد خالف بعض أهل الطب في ذلك فقالوا: إن الشرب بعد الأكل مضر، ولكن من العلماء من استأنس بهذه الآية، وبقوله تعالى -مع الفارق-: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:51-52] إلى قوله: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} [الواقعة:54] ، وهنا قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة:63] ، ثم عقب بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة:68] .
{أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:69] فالله هو الذي سخر السحاب، وهو الذي أنزل منها ماءً ثجاجاً.(49/7)
الأسئلة(49/8)
حكم تجديد عقد الزواج بعد الإسلام
السؤال
النصراني إذا أسلم هل يعقد مع زوجته عقداً جديداً؟
الجواب
إذا أسلم النصراني فإنه لا يعيد العقد؛ وذلك لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا كفاراً كلهم قبل البعثة، ولما أسلموا لم يؤمر أحد منهم بعقد جديد، والأثر الذي ورد أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدت عقداً جديد على زوجها أبي العاص بن الربيع بين عبد شمس لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(49/9)
الحكم بعد زواج المرأة بدون ولي والبناء عليها
السؤال
إذا تم الزواج بدون ولي، وقد دخل بها الزوج وانتهى الأمر، فهل يستمر الزواج أم لا؟
الجواب
في الحقيقة أن هذه قرائن تحملنا على شيء معين، صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا نكاح إلا بولي) ، وصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل) ، فقد ورد في النهي عدة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن قد تم الزواج، وبنى بها الزوج، وأنجبت منه، ثم بعد ذلك هدى الله الزوج والزوجة للبحث في الدين فوجد أنه لم يتزوج بولي، وفي الحقيقة أن مثل هذه المسألة يرجى أن تدخل تحت نكاح الشبهة، ويستمر العقد صحيحاً ما دام أنه قال به بعض أهل العلم، لكن كإبعاد لأي شبهة وأي شك؛ يقول الولي لهذا الزوج: زوجتك ابنتي، ويقول الزوج: قبلت، وينتهي الإشكال.
ذات مرة اتصل أحد الإخوة يسأل سؤالاً ويقول: كان في أمريكا هو وزوجته، وبعدها طلق هذه الزوجة، ورجعت إلى مصر، وبعد أن رجعت إلى مصر أقنعه أصحابه أن يرجع لزوجته، فوكل أخاه بإتمام موضوعات الزواج، فتمت الموضوعات، وأرسلت الزوجة بعقد رسمي موثق من المأذون الشرعي إلى أمريكا مرة ثانية، فعاشرها ثلاث سنوات جديدة، ثم علم بعد ذلك أنها هي التي زوجت نفسها، فاتصل بأحد الإخوة المشايخ -الله يغفر له- وحكى له الموضوع.
فأجاب هذا الشيخ وقال له: ترجعها حالاً، فالعقد باطل! فرجع الرجل مع زوجته من أمريكا يسأل: ماذا يصنع؟ سبحان الله (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) ، فكان المفروض أن يقول هذا الشيخ لهذا الرجل: اتصل بوليها من عندك وأخبره الخبر، ثم يقول: اطلب منه أن يقول: زوجتك ابنتي أو أختي على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة إلى المجيء من أمريكا، لكن كلفه هذا الشيخ عفر الله له سفراً من أمريكا هو وزوجته إلى مصر، صحيح أنه قد تم النكاح، ونحن نرى أن هذا رأياً مرجوحاً، لكن من العلماء من يجيزه، كـ أبي حنيفة أما نحن فلا نجيزه ابتداءً، لكن في مثل هذه الأحوال يؤخذ بالقول الذي يعمل به في البلاد كالمحاكم وإن كان مرجوحاً؛ لأنه لا بد من قواعد تضبط الناس.
فالشاهد: أن المسألة فيها تفصيل واسع، والأحناف يستدلون بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (الثيب أحق بنفسها) ، وإن كان الجمهور من أهل العلم فسروا قوله عليه الصلاة والسلام: (الثيب أحق بنفسها) بقولهم: لها الحق أن تنتقي الزوج الذي تريد، لكن ليس لها حق في العقد، أما الأحناف فقد استدلوا بعمومه على جواز الزواج بلا ولي للثيب خاصة، وهذا رأي مرجوح لكن قد تم الزواج عند المأذون الشرعي، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (فإن اشتجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له) فعقد المأذون يقوم مقام الولي في غياب الولي، وليس في حضور الولي، فكان الأيسر أن يفتى في مثل هذه المسألة بقوله: اجعل وليها يزوجك في الهاتف؛ فالتزويج غيابياً جائز، والطلاق غيابياً جائز، فإن كانت المرأة في دولة كأمريكا -مثلاً- وأولياؤها في مصر، ولم تستطع أن تتصل بهم، ولم يستطع أهلها أن يأتوا إليها، ولكن لا تعلم رفضاً منهم، فيجوز في مثل هذه الأثناء أن توكل شخصاً بتزويج نفسها.
وقد عرضت هذه المسألة مرة في امرأة عضلها أولياؤها بلا سبب شرعي، ولا يريدون منها أن تتزوج، وقالوا لها: أنتِ تزوجتِ وأخذتِ نصيبكِ، فلا تتزوجي مرة ثانية! وهناك أولياء جهلة يمنع البنت من الزواج مع أنها ستقع في فتنة، فبحثنا بحثاً شديداً عن مخرج لهذه المسألة، إلى أن وفق الله إلى قول طيب للإمام مالك رحمه الله! فقد قال مالك: إنها تنصب لنفسها ولياً آخر ويكون رجلاً صالحاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أرسل جعفر وابن رواحة وزيد بن حارثة قال: على القوم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فـ جعفر، فإن أصيب جعفر فـ عبد الله بن رواحة، فشاء الله أن يقتل الثلاثة، قتل زيد ثم قتل جعفر ثم قتل ابن رواحة، فوقف المسلمون بلا أمير، وليس هناك أمير أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاصطلح المسلمون على خالد، فأخذ منها مالك أن المسلمين يصطلحون على تنصيب ولي لهذه المرأة أو تنصب ولياً شرعياً إذا كان الرفض ليس له مبرر شرعي، مثلاً: قالوا لها: لا نريدك أن تتزوجي، ففي مثل هذه الحالة نقول: إن الله لا يحب الفساد، والله أباح لها أن تتزوج، لكن إذا قالوا لها: لا نريد منك أن تتزوجي بفلان بعينه، ففي هذه الحالة نقول: معكم حق إذا كانت الكفاءة غير موجودة في هذا الشخص بعينه، والله أعلم.
وكذلك البكر؛ إذا كان أبوها لا يريد منها أن تتزوج أبداً دون أي سبب شرعي! قلنا لها: وكلي أي شخص، فتنتقل الولاية إلى الأخ، فإذا كان الأخ غير موجود فتنتقل إلى العم، فتنتقل الولاية للعصبات واحداً تلو الآخر، فإن فقد الأولياء تماماً، أو أن كلهم لا يريدون لها أن تتزوج أبداً، وهي تريد أن تعف نفسها بالزواج وقالت: اختاروا لي أي شخص أتزوجه، فأبوا جميعهم، فعند ذلك: (السلطان ولي من لا ولي له) .(49/10)
حكم الصلاة بالنعال
السؤال
هل أصلي في النعل، وخاصة أن الظروف تتاح لذلك؛ لأن معظم صلاتنا على الأرض، ولكن ذلك أثار فتنة شديدة حولي، فهل أستمر على ذلك؟
الجواب
بالنسبة للصلاة في النعال، الأدلة عليها تقارب خمسة عشر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإذا كان فيها أذى تزيل الأذى وتصلي فيها، وإذا كان المسجد سيتسخ بالتراب الذي على النعلين فقد أمرنا على الجملة بتطهير المساجد وتنظيفها وتوقيرها، وإذا لم يكن هناك اتساخ وكانت النعل نظيفة لا تؤثر على فراش المسجد فلا بأس أن تصلي في النعلين بشرط: ألا تحدث فتنة في المسجد، فالناس قد لا يفهمون وجهة نظرك، أما إذا كان الشخص غبياً فيحاربك إذا بينت السنة، فعليك أن تتلطف في إظهار سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً ثم تقدم على فعل السنة، بمعنى: لا بأس أن تقيم محاضرة في مسألة شرعية الصلاة في النعال وتبين المسألة من جميع الوجوه، وبعد ذلك تقدم على الصلاة في النعال.
ومن الأدلة على جواز الصلاة بالنعلين: ما ورد في صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أنه: (سئل: أكان النبي يصلي في النعلين؟ قال: نعم) .(49/11)
حكم زواج المرأة بدون ولي
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تزوج نفسها؟
الجواب
قال الرسول: (لا نكاح إلا بولي) ، فلا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها.(49/12)
الحث على حفظ كتاب الله مع مواصلة دراسة الجامعة
السؤال
أخونا يقول: إنه يدرس الدراسة الجامعية، ويريد أن يؤهل نفسه أثناء الدراسة لحفظ القرآن، فبماذا تنصحونه؟
الجواب
احفظ القرآن مع مواصلة دراستك في الجامعة.(49/13)
حكم لبس (الكرفتة)
السؤال
ما حكم لبس (الكرفتة) ؟
الجواب
الكرفتة تخنقك فقط كما قال بعض المشايخ حفظه الله، وقد سئل شخص عن رجل يلبس (البنطلون) فقال: انظروا إلى هذا الغبي؛ فإنه يوسع حيث يحتاج الأمر إلى تضييق، ويضيق حيث يحتاج الأمر إلى توسيع! فالكرفتة ما هي إلا خنقة تخنق بها نفسك.(49/14)
النصح أولاً
السؤال
لي زميل في العمل يسرق، فقمنا بإبلاغ المدير عنه فنهره المدير بشدة في أول الأمر، ثم اعتذر لهم مع علمه بالسرقة، واعتدل الزميل فترة من الزمن ثم عاد من جديد إلى السرقة، والآن المدير يعلم، ولكن شخصيته ضعيفة أمامه ولا يستطيع عمل شيء، فهل نقوم بإبلاغ صاحب الشركة؟
الجواب
أولاً تنصح، فإذا ما قبل نصحك بلغ صاحب الشركة: (فمن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) .(49/15)
حكم إعانة شخص على شراء تلفاز
السؤال
شخص يريد مني المساعدة في شراء التلفاز لمشاهدة كرة القدم، فهل أساعده؟
الجواب
لا تساعده؛ لأنه ليس لك ثواب في مساعدته، بل عليك عقاب.(49/16)
عدم اشتراط الصلاة على النبي بعد الانتهاء من الدعاء
السؤال
هناك حديث أن الدعاء لا يقبل إلا إذا انتهى بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
ليس هذا الكلام بصحيح، فإن النبي قد دعا بعدة دعوات ولم يصلِّ فيها على نفسه، والصحابة دعوا بعدة دعوات ولم يصلوا فيها على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الأفضل والأولى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.(49/17)
حكم رفع اليدين عند الدعاء في خطبة الجمعة
السؤال
مسألة الإشارة بالأصبع في الدعاء؟
الجواب
روى أبو داود ومسلم أنه: (رأى عمارة بن رؤيبة بشر بن مروان رافعاً يديه يدعو بها في خطبة الجمعة، فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو وما يزيد على أن يشير بأصبعه) ، وهذا الحديث في الحقيقة فهمه مشكل شيئاً ما، فـ عمارة في الحقيقة صحابي مقل، رأى بشر بن مروان -وهو أمير- يدعو في خطبة الجمعة رافعاً يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين، (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر لا يزيد على أن يشير بإصبعه) هذا الحديث كيف سيفهم؟ حمل هذا الحديث بعض العلماء على ظاهره، لكن أولاً عمارة بن رؤيبة ما أورد أن الرسول نهى أن ترفع يديك، ما أورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: لا ترفع اليدين معاً أثناء الدعاء لكن عمارة رأى أن هذا إحداث لكون بشر بن مروان خالف مكان رفع الإصبع ورفع اليدين، لكن هل الرسول صلوات الله وسلامه عليه نهى عن رفع اليدين معاً أثناء الدعاء؟ أم أن عمارة رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في منظر فبنى عليه أنه لا يجوز خلاف هذا المنظر أو هذا المشهد؟ وعلى كل، ذكر العظيم أبادي في شرحه لسنن أبي داود في عون المعبود معنيين للحديث، وهناك اختلاف في رواية هذا الحديث، فبعض الروايات أنه قال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بأصبعه في الخطبة) ، ورواية أخرى تقول: (يشير بأصبعه في الدعاء في الخطبة) ، فالرواة الأكثر والأثبت رووا بلفظ: (يشير بأصبعه في الخطبة) ، وبعض الرواة -ولا تعارض- قيدها بالدعاء، أي: بعض الرواة أطلق، وبعض الرواة قيد، فمن العلماء من قال: إن الأصبع يشار بها أثناء الدعاء، ويكره أن تمد يديك، هذا قول بعض العلماء، واعترض عليه بوجوه: قالوا: لم يكن من عادة الرسول عليه الصلاة والسلام أن يشير بأصبعه عند الدعاء، فما ورد في أي حديث أنه كان يشير بأصبعه عند الدعاء إلا في هذا الحديث.
ثم إن عموم المرويات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الدعاء أنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه.
ثم شيء ثالث، قالوا: من الأوجه لتوجيه هذا الحديث هو: أن هذا من شأن الخطباء الذين يقبلون ويدبرون بأيديهم في خطبهم كي يلفتوا أنظار السامعين، فاختار شمس الحق العظيم أبادي في تعليقه هذا الوجه وحاصل قوله: إن بشر بن مروان، كان يفعل هذا، ويشير باليدين معاً كإيضاحات لمن يستمعون خطبة الجمعة، فيشير يميناً ويساراً ومقبلاً ومدبراً، ويفتح يديه ويغلقهما كما يفعله سائر الوعاظ في خطبهم، فنهاه عمارة بن رؤيبة عن هذا النوع من الإحداث وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشير بإصبعه فقط، فالمعنى الأول: أنه يشير بأصبعه على ظاهره، أي: أنك إذا دعوت فإنك تشير بإصبعك أثناء الدعاء، ولا تفتح اليدين، واعترض على هذا المعنى من وجوه: أولاً: الرسول لم ينه عن رفع اليدين معاً، وإنما هذا فهم فهمه عمارة بن رؤيبة.
ثانياً: أن أكثر الرواة رووا الحديث مطلقاً بالخطبة، وليس مخصوصاً بالدعاء.
ثالثاً: أن هناك وجهاً آخر وهو أن بشر أحدث شيئاً لم يكن من هدي عليه الرسول عليه الصلاة والسلام من الإيضاحات باليد إقبالاً وإدباراً وتأخراً وتقدماً ورفعاً وخفضاً، فهذا الذي استنكره عمارة على بشر بن مروان.
وعلى كلِّ: فالمسألة من أصلها استنكار من عمارة بن رؤبية لـ بشر، فـ عمارة هو الذي رأى أن هذا مستنكر، ويعاقب بالتقبيح، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ذلك، فلو جاء شخص وأقبل بيديه وأدبر بهما في الخطبة، فهل نقول له: لعن الله هاتين اليدين، بناءً على أن بعض الصحابة رضي الله عنهم فهم هذا الفهم؟ هذا لو نقله صحابة مجالسون للرسول صلى الله عليه وسلم عن الرسول في عموم خطبه لقبلنا منه هذا القول، لكن هذا صحابي رضي الله عنه مقل، صحيح أن قوله ثقة لا شك؛ لكنه مقل، وقد جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه ما عاشره كبير معاشرة، ومثل هذا حديث الرجل الذي جاء والرسول عليه الصلاة والسلام فاتح الأزرار، فذهب هذا الرجل -وهو معاوية بن قرة - وما أغلق أزراره في صيف ولا شتاء، فهو مأجور على كل حال، لكن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ما نقلوا هذا عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فلنفهم الأحاديث على وجهها ليست الصحيح خير لنا من أن نلعن ونقبح، والصحابي له اجتهاده في اللعن أو التقبيح، ولعله رأى صورة من الصور ليست مرئية لدينا، إذ الأمويون كانوا مشهورين بالإحداث في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.(49/18)
مسألة جلسة الاستراحة
السؤال
ما حكم جلسة الاستراحة؟
الجواب
هذه الجلسة لخدمة القيام وليست ركناً ولا واجباً، وهناك قولان في هذه المسألة، فهناك مرجحات لمن قالوا بجلسة الاستراحة، قالوا: إن الرسول قال لـ مالك بن الحويرث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وقد رآه مالك مالك وهو جالس جلسة الاستراحة، ولو كانت هناك صورة مستثناة لبينها الرسول عليه الصلاة والسلام، فأجاب الأولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) بالجملة، ولا يلزم من هذا التقييد؛ فمثلاً: إذا رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ سورة لا يكون لزاماً علينا أن نقرأ بها، فهذان القولان للعلماء في جلسة الاستراحة، ومما يؤيد وجهة من قال بجلسة الاستراحة أن في بعض طرق حديث أبي حميد الساعدي ذكر جلسة الاستراحة، فالمسألة فيها الوجهان لأهل العلم، فإن اخترت أي القولين فلا بأس عليك ولا جناح عليك، وإن كان الذي يستقر في نفسي أنني أجلس، لحديث البخاري الصريح في ذلك، لكن لا أستنكر الوجهة الأخرى.
واسمحوا لي بالحديث عن وضع اليد اليمنى على اليسرى، فوضع اليد اليمنى على اليسرى الأمر فيها محسوم إلى حد كبير؛ لحديث سهل بن سعد: (أمرنا بوضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) وحديث وائل بن حجر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً يده اليمنى على اليسرى) ، لكن هنالك من الفقهاء من قال: إن اليد اليمنى وضعها الرسول على اليسرى من أجل الدم، أي: من أجل أنه كان يقف ويطيل الوقوف فإذا وقف وأطال الوقوف، نزل الدم من يديه إلى أطراف الأصابع، فكان حينئذٍ يرفع اليد حتى يرجع الدم مرة ثانية إلى سائر اليد، كما يقول -مثلاً- أطباء العظام في اليد المكسورة أنها ترفع لأعلى حتى لا يتسرب الدم إليها فتثخن أو تمتلئ دماً، فهذا قول من الأقوال، لكنه قول مرجوح لحديث: (أمرنا بوضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) .
وهنا أحد الإخوة يسأل عن العمرة وأركانها من أول النية وحتى العودة، فأرجو من الإخوة القائمين على المسجد حفظهم الله تعالى كالشيخ محمد غريب والشيخ فتحي أن ينظموا محاضرة في كيفية عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحتاج إلى محاضرة أخرى في قيام الليل كتوطئة لدخول شهر رمضان.(49/19)
تفسير سورة الواقعة [3]
أقسم الله تعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم، ثم ذكر أن هذا قسم عظيم، والمقسم عليه هو القرآن الكريم كلام الله تعالى، فأقسم الله أنه قرآن كريم، محفوظ في لوح مصون من أي تلاعب أو تحريف، وأنه نزل من عند الله تعالى، وفي هذا تعظيم لشأن القرآن الكريم.
ثم ختم الله سبحانه وتعالى سورة الواقعة بتلخيص لأحوال الأصناف الثلاثة الذين ذكرهم في بداية السورة، فذكر مصيرهم يوم القيامة، وهم: المقربون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال.(50/1)
نار الدنيا تذكر بنار الآخرة
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة:71] (تورون) من العلماء من قال: معناها: تقدحون.
أي: تقدحونها أو تستخرجونها، كما في قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:1-2] (فالموريات) : هي الخيل التي تضرب بحوافرها على الحجارة فيخرج منها ذلك الشرر، فيقال: إن الخيل أورت هذه النار.
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} [الواقعة:71-72] من العلماء من قال: إن المراد بالشجرة هنا: الشجرة التي توقد فتخرج منه هذه النيران، ومنهم من قال: هي شجرة مخصوصة كان يؤخذ منها بعض الخشب وبعض المواد فباحتكاكه تستخرج النار.
قال تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:73] ما المراد بقوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:73] ؟ جمهور العلماء قالوا: تذكرة بنار جهنم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: إن كانت لكافية يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً) ، فقوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:73] أي: جعلناها تذكرة بنار الآخرة.
وقال تعالى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] المقوون هم: المسافرون.
{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] فالمقوون هم: المسافرون، ولقائل أن يقول: إن هذه النار هي متاع للحاضرين وللمسافرين، فكما أن المسافر يحتاج إليها فكذلك الحاضر يحتاج إليها، فلماذا قيل: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] ؟ هذا كما قدمنا يلفت نظرنا لشيء ألا وهو: أن المستفيد الأعظم والأكبر من النار هم أهل الأسفار الذين كانوا يقطعون الفيافي والقفار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا في أسفارهم يحتاجون إلى النيران، للاستضاءة، والتدفئة والطهي عليها، فاحتياجهم إليها أكثر من أهل الحضر، فقال تعالى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] لأن المستفيد الأكبر منها هم المسافرون، ومن ثم قال موسى لأهله: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7] ، فالحاضر مستفيد والمسافر مستفيد، لكن المستفيد الأكبر هم أهل السفر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك نسبت الاستفادة إليهم، ونسب المتاع إليهم، وهذا وارد في عدة آيات وعدة أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ، فقد يقول قائل: إن هذا الحديث يفيد الحصر فلا يشفع رسول الله صلى الله عليه وسلم -في ظن هذا القائل- إلا لأهل الكبائر، ثم يرد أيضاً كيف (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) والنبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن شفاعته: (إنها نائلة -إن شاء الله- من مات لا يشرك بالله شيئاً) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليّ، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة) ، وهذا ليس من أهل الكبائر، فلقائل أن يستمر في سؤاله فيسأل: ما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ؟ فيجاب عليه بما يجاب في قوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] أن شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام لأهل الكبائر ولغير أهل الكبائر، لكن المستفيد الأكبر من شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل الكبائر، فصحيح أن هناك أناساً ترتفع درجاتهم في الجنان بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن المستفيد الأكبر من شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل الكبائر فنسبت الشفاعة إليهم لكونهم المستفيد الأعظم من شفاعة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونحوه في الحديث الذي في إسناده بعض الكلام: (ألا إنها ليست للمتقين ولكنها للمتلوثين الخطائين) فقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا إنها ليست للمتقين) أي: ليس المستفيد منها بالدرجة الكبرى المتقون، فالمتقون يستفيدون من شفاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن الذي يستفيد أكثر وأكثر هم الذين قد استوجبوا النار أو قد ورد في شأنهم أن النار لازمة لهم فأنجاهم الله بفضل شفاعة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذاً: اندفع الإشكال الوارد في قوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] ، وقدمنا أن التذكرة هي التذكرة بنار الآخرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(50/2)
حكم التسبيح في الركوع والسجود
قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] {فَسَبِّحْ} أي: نزه {بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} : من العلماء من قال: إن (الباء) هنا زائدة، والمراد: سبح اسم ربك العظيم، أي: نزه اسم ربك العظيم عن كل ما يلحد به الملحدون في أسمائه سبحانه وتعالى، ونزه اسم ربك عن كل نقص وعن كل عيب، فلا تفعل كما يفعل أهل الشرك إذ يشتقون من اسم الله اللات ويطلقونها على صنم، أو يشتقون من اسم العزيز العزى ويطلقونها على صنم آخر، فقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] من أهل العلم من قال: معناها سبح اسم ربك العظيم، وقد ورد نحو هذا في قول الشاعر: تمنَ ابنتاي ألا يموت أبوهما وهل أنا إلا من ربيع أو مضر فقوما وقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتبر وقد قدمنا ما في ذلك، قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (اجعلوها في ركوعكم) ، وكذلك لما نزل عليه {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوها في سجودكم) .
وهل قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في ركوعكم) يفيد الوجوب؟ كثير من أهل العلم يرون أن ذلك للاستحباب لتنوع الأذكار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركوع، والسجود، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) وثبت أنه كان يقول: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) ، وثبت أنه كان يقول: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي) ، إلى غير ذلك من الأذكار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركوع، فلتنوع هذه الأذكار ذهب كثير من العلماء إلى أن {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قولها ليس بواجب، ومن تركها فصلاته صحيحة، وإن لم يقل شيئاً أصلاً فالصلاة كذلك صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم المسيء في صلاته فقال: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر) ، ثم جاء إلى الركوع فقال: (اركع حتى تطمئن راكعاً) ، ولم يوجب عليه في هذا الركوع شيئاً، وقد قال كثير من أهل العلم: إن حديث المسيء صلاته قد جمع أركان الصلاة، هذا والله سبحانه وتعالى أعلم.
أما من استبدلها، فمثلاً: استبدل (سبح اسم ربك العظيم) بسبحان ربي الأعلى، فقال: (سبحان ربي الأعلى) في الركوع، وقال: (سبحان ربي العظيم) في السجود، فهل يلزمه سجود سهو أو لا يلزمه؟ ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يلزمه أن يسجد للسهو، وذلك لأن (سبح اسم ربي الأعلى) في الركوع داخلة أيضاً في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الركوع فعظموا فيه الرب) ، وكذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول له: اذكر كذا اذكر كذا، يذكره ما لم يكن يذكر، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحد فليسجد سجدتين -وفي بعض الروايات- قبل أن يسلم -وبعضها- بعد التسليم) .
فالشاهد في: (حتى لا يدري كم صلى) فهي في الأركان، والله سبحانه وتعالى أعلم، ثم إن الخلاف في هذه المسألة وارد أيضاً.(50/3)
تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم)
قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] من أهل العلم من قال: إن معنى الآية الكريمة: أقسم بمواقع النجوم.
وقد يقول قائل: كيف يقول ربنا: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] وتقولون: تأويلها: أقسم بمواقع النجوم؟ وكيف يقول الله سبحانه: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] وأنتم تقولون: معناها أقسم بهذا البلد، فقلبتم النفي إثباتاً؟ فالإجابة: إن الحامل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أقسم بمواقع النجوم وأقسم بالبلد، فهذا الذي حملنا على أن نقلب هذا الذي زعمت أنه نفي إلى إثبات، أما قسمه بالبلد فقد قال الله تعالى، وقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1-3] .
أما قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] فقد قال سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] .
فأقسم بالنجم عند سقوطه، وقال سبحانه: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:1] فأقسم الله أيضاً بالطارق وهو النجم الثاقب كما في الآية الكريمة، فهذا يلزمنا أن نأتي بتأويل وجيه لقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] ، وقد تقدمت أمثلة لهذا متعددة، فمن العلماء من قال: إن كلمة (لا) هنا زائدة، وفي لغة العرب تأتي أحرف أحياناً زائدة، ومن العلماء من قال: إنها صلة لتقوية الكلام كما قدمنا مراراً، أي: إذا قلت: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] أقوى من أن تقول: فأقسم بمواقع النجوم، فجاءت (لا) صلة لتقوية الكلام، كما أقول لك: إذا ما جئتني أكرمتك، ويصلح أن أقول: إذا جئتني أكرمتك، لكن قوة: إذا ما جئتني أكرمتك أقوى من قولنا: إذا جئتني أكرمتك.
ولهذا أمثلة ونماذج قدمناها مراراً كما في قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12] أي: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك.
وكما في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} [الحديد:29] فالمعنى: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء، وكما في قوله تعالى كذلك: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] أي: أنهم يرجعون، أي: محرم على قرية أن أهلكت إن يرجع أهلها مرة ثانية إلى هذه الحياة الدنيا.
فقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] قسم، ومن الأدلة على أنه قسم: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76] ، (مواقع النجوم) من العلماء من قال: أماكن سقوط الثريا، أي: الأماكن التي تسقط فيها هذه النجوم، أو التي تدور فيها هذه النجوم، ومن العلماء من نحى منحى آخر فقال: إن المراد بقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] مواطن نزول الآيات، فقال: إن القرآن نزل منجماً، فكانت الواقعة تحدث فتنزل فيها الآية، فهذه الأوقات والمواطن التي تنزل فيها الآيات عند حدوث الوقائع تسمى نجوماً، فيقال: القرآن نزل منجماً، يعني: مفرقاً على حسب الوقائع، فقال فريق من أهل العلم: إن مواقع النجوم أوقات نزول الآيات.
{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76] في هذا ما يشير إلى أن الأقسام منها أقسام عظيمة، ومنها أقسام دونها في العظم، فالأيمان تتفاوت، فهناك لغو يمين، وهناك يمين منعقدة، فاليمين المنعقدة أقوى من لغو اليمين بل لغو اليمين لا يؤاخذ عليها العبد، والأيمان المنعقدة -في نفسها- تنقسم إلى أقسام، فالأيام المنعقدة التي تتكرر كأن تقول: أقسم بالله العظيم.
أقسم بالله العظيم.
أقسم بالله العظيم؛ أقوى من قولك: أقسم بالله.
مرة واحدة.
ومن العلماء المالكية من فسر قوله تعالى: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91] قال: توكيد اليمين هو تكريرها.
والأيمان التي تنشأ ابتداءً أقل رتبة في العظم من الأيمان المصبورة التي يحبس عليها صاحبها، والأيمان المصبورة التي حبس عليها صاحبها أيضاً تتفاوت في العظم، فمثلاً: إذا حبس شخص بعد الصلاة كما قال الله سبحانه: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة:106] أي: صلاة العصر، فإذا حبس في مسجد كمسجد التوحيد -مثلاً- فليس ذلك كمن يحبس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقواها رجل حبس على يمين بعد صلاة العصر عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه أعظم من اليمين الأخرى، وإن كانت كلها أيمان منعقدة.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:76-78] والمكنون هو: المحفوظ.(50/4)
تفسير قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون)
قال تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] والمس له معان متعددة، فأحياناً يطلق على اللمس باليد، ومنه قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (والله! ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط) ، فالمس هنا أطلق على اللمس باليد، وأحياناً يطلق المس على الجماع كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فالمس هنا المراد به: الجماع، وأحياناً يطلق المس على التذوق، وأحياناً يطلق المس على عموم التعامل كما في قول موسى عليه السلام للسامري: {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه:97] أي: لن يتعامل معك أحد، ولن يقترب منك أحد، على قول بعض المفسرين.
فقول تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] .
من العلماء من قال: إن المراد بالمس في هذه الآية اللمس باليد أو بالجارحة، ثم قال: إن المراد بالمطهرون هنا هم الملائكة.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة:79] اختلفوا في (الهاء) التي في قوله: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة:79] إلى من ترجع؟ فمن العلماء من قال: راجعة إلى المصحف الذي بين أيدينا، ومنهم من قال وهم الأكثر: إنها راجعة إلى المذكور في الآية وهو الكتاب المكنون، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77-78] أي: كتاب محفوظ لا يمس هذا الكتاب المكنون إلا المطهرون وهم الملائكة، واستدلوا لذلك بقول الله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:13-16] ، فآيات سورة عبس فسرت بها آيات سورة الواقعة، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77-78] أي: محفوظ {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] وهم الملائكة، والسفرة: هم الملائكة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة) ، فهذا وجه للمفسرين، وعليه أكثرهم.
ثم أيدوا قولهم بأن قالوا: في الحياة الدنيا قد يتجرأ كافر ويلمس القرآن، فقد يأتي نصراني نجس أو يهودي جنب أو مشرك خبيث المعتقد ويمس القرآن، بل الآن هناك من يطبع القرآن في دول الكفر، وأفخر الطبعات للمصاحف تأتي من بلاد الأوروبيين.
وأوردوا حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض الشرك) مخافة أن يناله المشركون بالتدنيس والتلويث.
ومن العلماء من قال: إن المراد بقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] أي: المصحف الذي بين أيدينا، ثم اختلفوا في (المطهرون) من هم؟ فقال فريق من أهل العلم: إن المراد بالمطهرين المؤمنون، وغير المطهرين هم المشركون؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] .
ثم قال فريق منهم أيضاً: إن قوله: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة:79] أي: لا يتذوقه ولا يعرف حلاوته ولا يفهمه إلا أهل الإيمان، أما من حجب عن هذا القرآن من أهل الكفر فلا يفهم معانيه ولا يتأملها.
قول ثالث: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة:79] أي: لا يلمسه إلا المطهرون من الأحداث، أي: من الجنابة ومن الحدث الأصغر، واستدلوا بهذا القول بحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: (لا يمس القرآن إلا طاهر) ، وهذا الحديث بكل طرقه لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو ضعيف من كل الطرق وأشار إلى هذا الضعف الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، فتبين -والله سبحانه أعلم- أن المراد بـ {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] الكتاب المكنون، والمطهرون هم: الملائكة؛ وذلك لأن سياق الآيات يدل على أن القرآن الكريم في الكتاب المكنون، وقوله: (لا يمسه) الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، والثاني: أنه فسر بآيات سورة عبس، وثم وجوه أخر لترجيح هذا الوجه، وقد قال به جمع كبير من المفسرين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
على ذلك: إذا جاء شخص يقول: هل لغير المتوضئ أن يمس المصحف؟ فلقائل أن يقول بناءً على هذا التأويل السابق الذي هو تفسير المطهرين بالملائكة: لا أعلم دليلاً صحيحاً صريحاً يمنع من مس المصحف، أما من اختار أن المطهرين هم المطهرون من الأحداث وغيرها، فحينئذٍ يمنع الجنب والذي ليس على وضوء من مس المصحف، وكذلك يمنع الحائض، أما الذي يرى التأويل الأول فحينئذٍ لا يمنع من مس المصحف.
فعلى ذلك: هذه المسألة خلافية، فإذا تبين لك رأي فخذ به، ولا تشدد على من تبنى الرأي الآخر.(50/5)
تفسير قوله تعالى: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون)
وقوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة:81] هذا الخطاب لمن؟ هل هو لأهل الإيمان أم هو لعموم الخلق أم هو لأهل الكفر؟ من العلماء من قال: إنه لأهل الإيمان، فمعنى (مدهنون) من الإدهان وهو: الممالأة لأهل الباطل كما قال سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] أي: تميل فيميلون، أو تلين فيلينون، أو تقرهم على باطلهم فيقرون، فمن العلماء من قال: الخطاب موجه لأهل الإيمان، والله سبحانه وتعالى يتعجب من أهل الإيمان في قوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة:81] أي: عندما تداهون هؤلاء الكفار في هذا الكتاب العزيز!(50/6)
التحذير من استعمال نعم الله في معصيته
قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] رزقكم هنا من العلماء من قال: شكركم، أي: تجعلون الشكر الذي ينبغي أن يقدم على نعم الله تجعلون مكان هذا الشكر تكذيباً، {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} [الواقعة:82] يعني: نصيبكم من نعم الله عليكم التكذيب، وكما في قصة الحديبية، عندما أصبحوا على إثر سماء فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: قال ربكم: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته، فهذا مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا ونوء كذا فهذا كافر بي مؤمن بالكوكب) أي: النعم تأتي إليكم ويفترض أن تقدموا لها شكراً، لكنكم تقدمون لهذه النعم تكذيباً، فهل هذا يليق؟! بعض العلماء يجعل هذه الآية الكريمة أصلاً في أنه لا يستعان بنعم الله على معصية الله، فكثير من الناس يقع في هذا الجرم، فيستعين بنعم الله على معصية الله سبحانه وتعالى، فمثلاً: رجل ينعم الله عليه بأن يدخل بيته تلفوناً، فهذه النعمة من الله سبحانه يقلبها إلى نقمة ويجعل شكرها أنه يتصل بالفتيات والنساء للغزل، ولقبيح الكلام، وللهجر من القول، وآخر ينعم الله عليه بسيارة فيمشي بها مختالاً فخوراً متكبراً على الناس، فنصيبه من هذه النعمة التكبر والتعالي على الناس والغرور والتباهي، وآخر ينعم الله عليه بأن يأخذ مثلاً درجة أستاذ في الكلية فتجده يمشي وقد انتفخ وانتفش كأن ما على الأرض إلا هو، وكأنه سيخلد في الحياة الدنيا، وما شعر أن من تواضع لله رفعه، وأن الله ما زاد بعبد عفواً إلا عزاً، ولا يشعر بهذه المعاني أبداً إلا أنه يجعل حظه الثناء من الناس وحب الفخر وحب الظهور.
فهناك طائفة كبيرة من الناس بل هم أكثر الخلق يجعلون رزقهم أنهم يكذبون، ويستعينون بنعم الله سبحانه على معاصيه عز وجل، فربنا يذكرنا ويحذرنا من ذلك، فقال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} [الواقعة:82] أي: حظكم التكذيب مع نعم الله عليكم التي يفترض أن تقدموا بالشكر لله عليها، فهل يليق هذا بمؤمن عاقل؟ إنه يفترض إذا أنعم الله عليك نعمة أن تقدم شكراً لله عليها، فالنبي الكريم سليمان صلى الله عليه وسلم لما رأى عرش ملكة سبأ مستقراً عنده ما تباهى ولا تطاول بل قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40] ، وكما قال لما أفهمه الله لغة النمل تبسم ضاحكاً من قولها وقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] ، فلا ينبغي أبداً أن تقدم على نعم الله كفراً وتكذيباً، إنما يجب أن تقدم لله شكراً وتواضعاً، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] .(50/7)
تفسير قوله تعالى: (فلولا إذا بلغت الحلقوم)
ثم ذكرنا الله سبحانه وتعالى وحذرنا فقال: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] وحذف المشار إليه لفهم العرب له، فالذي بلغ الحلقوم هو الروح، والكل يفهم ذلك، فإذا كان الكل يفهم ذلك، فلا معنى لإيراد هذه الكلمة ما دام الناس يفهمونها، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين.
{فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] أي: الروح بلغت الحلقوم.
{وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:84] وأنتم -يا أهل الميت- تنظرون إليه وهو محتضر، وتنظرون إليه والروح عند الحلقوم، {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:84-85] من العلماء من قال: إن المراد بـ (نحن) : ملائكتنا؛ لأن الله قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، ومنهم من قال: نحن أقرب إليه منكم، أي: بعلمنا ورؤيتنا واطلاعنا وإحاطتنا، فإن الله سبحانه مستوٍ على العرش، وهو في السماء كما وصف نفسه في جملة من الآيات.
ويؤيد المعنى الأول -أن المراد: ملائكتنا- أن الله سبحانه قال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93] لرأيت منظراً عظيماً {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:93] أي: بالضرب: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93] ، وقال في الآية الأخرى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال:50] لرأيت منظراً بشعاً {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50] ، ضرب على الوجوه وضرب على الأدبار في ساعة الاحتضار، وأنت جالس ولكنك لا ترى هذه المناظر البشعة! وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا أتته ملائكة سود الوجوه، معهم مسوح ... ) الحديث إلى آخره، وفيه: (فيجلسون منه مد البصر، فيأتي ملك الموت فينتزع الروح من الجسد كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فلا يدعونها في يده طرفة عين) كل هذا يحدث وأنت جالس، ولكنك لا ترى شيئاً! يقول الله سبحانه: {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:86] أي: لله سبحانه وتعالى، قيل: مجزيين، وقيل: محاسبين، وقيل: غير مدينين بفضل الله {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:87] .(50/8)
أصناف الناس عند الموت
قال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة:88] أي: أهل الدرجة العليا في الجنة هم المقربون الذين سلف ذكرهم في مطلع هذه السورة الكريمة في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10-11] ، فالجزاء في قوله تعالى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:89] .
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:90-91] للعلماء فيها أقوال: أحدها: فسلام لك قادم من أصحاب اليمين، أي: أصحاب اليمين يرسلون إليك السلام، ويستقبلونك بالسلام، سلام لك واصل وقادم إليك من إخوانك أصحاب اليمين، فهم يقرئونك السلام، ويبلغونك إياه.
وقول آخر: (فسلام لك) أي: هنيئاً لك يا من دخلت في عداد أصحاب اليمين! وأمان لك يا من دخلت في عدادهم! وقال بعض أهل العلم: إن هذا السلام من الله سبحانه ومن الملائكة كذلك، فإن الله قال: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23-24] .
ثم قال تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} [الواقعة:92] أعاذنا الله وإياكم منهم {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} [الواقعة:93] هذه الإكرامية التي يكرم بها (نزل من حميم) أي: ماء يغلي وقد بلغ أعلى درجات الغليان، {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:94] يشوى على الجحيم -والعياذ بالله- ويصلاها، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة:95] قد سبق الكلام على حق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين بما حاصله: إذا ذكرت الكعبة، فكثير منا من رآها، ومنا من لم يرها، فالذي لم يرها يعلم يقيناً أن بمكة كعبة، فهذا علم يقين، لكن الذي رأها ارتقى في العلم من علم اليقين إلى عين اليقين؛ لأنه رآها بعينه، فإذا جاء ودخلها أو لمسها بيده صار عنده حق اليقين، فلذلك يسمع الناس أن هناك ناراً، فهذا لأهل الإيمان علم يقيني، فإذا رآها أصبحت عنده عين اليقين، فالذي دخلها في حقه تكون حق يقين، فالله سبحانه وتعالى قال عن كتابه وعبر عن هذا الكتاب بأعلى مراتب العلم فقال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة:95] .(50/9)
الأسئلة(50/10)
صحة حديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً.)
السؤال
ما صحة حديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً) ؟
الجواب
(لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعراً) ، الحديث ثابت صحيح، لكن هذا في الشعر المذموم الذي قال الله في أهله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] ، أما سائر الشعر فإن الله استثنى فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] .(50/11)
حكم تقبيل المرأة وهي حائض
السؤال
هل يجوز للرجل أن يقبل امرأته وهي حائض؟
الجواب
نعم يجوز له ذلك.(50/12)
حكم اتباع جنازة تحدث فيها بدع
السؤال
ما حكم المشي في الجنازة التي تقام فيها البدع؟
الجواب
امشِ فيها، وإن استطعت أن تغير البدعة بيدك أو بلسانك فافعل، فإذا لم تستطع فغيرها بقلبك، وامشِ فيها؛ لأن اتباع الجنازة من أجل الميت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تبعها حتى يصلى عليها، وتدفن فله قيراطان) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(50/13)
الفرق بين اليمين المؤكدة ويمين اللغو
السؤال
ما الفرق بين اليمين المؤكدة ويمين اللغو؟
الجواب
اليمين المؤكدة: أن تقسم بالله وتعقد القلب على هذا القسم، أما يمين اللغو كأن يقال لك: تعال واشرب معي الشاي، فقلت: لا، والله! فبهذه الصورة لا كفارة عليك.(50/14)
عدم ثبوت حديث: (خير أمتي في المدن)
السؤال
ما حال حديث (خير أمتي في المدن) ؟
الجواب
لا يثبت.(50/15)
حكم لبس المرأة للجيبة
السؤال
أخت تريد أن تلبس بدل الجلباب (جيبة) وخماراً طويلاً فما رأيكم؟
الجواب
إذا كانت (الجيبة) واسعة ولا تجسم فلا بأس، وإذا كان الخمار طويلاً ويغطيها فالأمر واسع في ذلك.(50/16)
تدليس الأعمش وسفيان
السؤال
قال لي شخص: إن الأعمش وسفيان كانا مدلسين، فهل هذا صحيح؟
الجواب
الأعمش كان مدلساً، أما سفيان فتدليسه نادر جداً جداً، أما معنى المدلس، أن يحذف شخصاً حدثه، ويذكر شيخ شيخه، ويكون قد سمع من شيخ شيخه بعض الأحاديث، فالتدليس له صور فمثلاً: أشرف سمع الحديث من علي، وعلي سمع الحديث من خالد، وأشرف معاصر لعلي وخالد، وهو يسمع أحياناً من خالد، وأحياناً يسمع من علي، لكن هناك كلام معين بعينه سمعه أشرف من علي عن خالد، فجاء وقال: قال: خالد، وحذف علياً، فأنا أظن أن خالداً هو الذي حدثه مباشرة، لكنه أخفى عليّ أنه أخذه من علي، وعلي أخذه من خالد، فيقال: أشرف دلس في الإسناد، أي: حذف الواسطة، وقال: عن، فالتدليس له صور.(50/17)
حكم إطلاق لفظة (عاقد القران)
السؤال
ما رأيك بكلمة (عاقد القران) ؟
الجواب
لم ترد هذه الكلمة لا في الكتاب ولا في السنة، ولكن لنبدلها بما ورد في الكتاب والسنة: عقدة النكاح، فقد قال الله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة:235] أو تقول: عقد زواج.
هذا، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(50/18)
الدعاء للميت بعد دفنه
السؤال
هل الدعاء بعد دفن الميت عند القبر سراً أم يكون دعاءً جماعياً؟
الجواب
السنة بعد الدفن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم -فيما رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح من حديث عثمان -: (استغفروا لأخيكم، وسلوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل) ، فيشرع لك أن تستغفر لأخيك الميت وتسأل الله له التثبيت، ولم يرد الدعاء الجماعي عن رسول الله ولا عن الصحابة رضوان الله عليهم.(50/19)
صفة التيمم
السؤال
ما هي صفة التيمم؟
الجواب
أقوى صفات التيمم: أن يضرب الأرض ضربة واحدة، وينفخ فيها، ثم يمسح بهما الوجه واليدين إلى الرسغين، وقد بوب البخاري في صحيحه بباب: التيمم ضربة واحدة، وأورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عمار مع عمر لما أجنب عمار وتمرغ كما تتمرغ الدابة، قال: (إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك هكذا ضربة واحدة ومسح) .(50/20)
حكم القراءة من المصحف في صلاة النافلة
السؤال
هل يمكن قراءة القرآن من المصحف في صلاة النوافل لمراجعة الحفظ؟
الجواب
أجازه فريق من أهل العلم.(50/21)
استحباب صلاة الرجل للنافلة في بيته
السؤال
أيهما أفضل صلاة الرجل في البيت أم في المسجد بالنسبة لصلاة النافلة؟
الجواب
قال عليه الصلاة والسلام: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ، هذا هو الذي يستشهد به؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام صلاها أصلاً في المسجد ثلاث ليال، وما امتنع عنها إلا خشية أن تفرض، وقد قال أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه: نعمت البدعة هذه! والتي ينامون عنها أفضل.
وقد سئل الإمام أحمد: أيصلي الرجل وحده في بيته أم يصلي مع الجماعة؟ قال: سنة المسلمين أحب إليّ.(50/22)
استحباب صلاة المرأة في بيتها
السؤال
هل صلاة المرأة للتراويح في البيت أفضل أم في المسجد؟
الجواب
صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع الجماعة في المسجد؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ، وقال عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) ، ولكن إذا كانت الصلاة في المسجد تنشطها أو كانت لا تحسن الصلاة في البيت، ففي هذا وجه للأفضلية.(50/23)
حكم المتاجرة باللحوم المستوردة
السؤال
ما حكم الاتجار في اللحوم المستوردة؟
الجواب
في الحقيقة: في النفس شيء من الاتجار في اللحوم المستوردة، لكن لا نستطيع أن نحرم، بل الأمر فيه كراهية لعدم معرفة مصدر هذه اللحوم بالضبط، وهل هي مذكاة شرعاً أم ليست مذكاة، فلا نقول بالتحريم، ولكن الأصل في اللحوم المستوردة إذا كانت من عند أهل الكتاب قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] ، ولكن الإشكال الذي يرد الآن ليس أن أهل الكتاب لا يذكونها على اسم الله فحسب، بل لا يذكونها على الطريقة المشروعة في التذكية، فالله أعلم إن كانت اللحوم المستوردة مذكاة شرعاً، فإن كانت مذكاة تذكية شرعية على طريقة أهل الكتاب فلا بأس، أما إذا كانت ليس مذكاة بل ماتت بالصعق أو نحو ذلك فهي حرام، لكن على ما هو حاصل الآن الأولى الابتعاد عنها، لكن القطع بالتحريم لا نطيقه.(50/24)
الحث على سماع أشرطة الشيخ محمد حسان
السؤال
نريد نبذة عن المسيح الدجال؟
الجواب
أحيلكم على شرائط أخي الشيخ محمد حسان حفظه الله تعالى فقد اتسع في هذا اتساعاً طيباً، نسأل الله أن يبارك فيه.(50/25)
صحة حديث: (أمتي هذه أمة مرحومة)
السؤال
حديث (أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلالزل والقتل) .
الجواب
الحديث في إسناده كلام، ثم إن النبي ذكر المفلس من أمته، فقال: (من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا ... ) الحديث.(50/26)
النساء من أعظم الفتن
السؤال
هل يجوز التعامل مع الفتيات في الجامعة بإعطائهن ورقة مراجعة ومذاكرة بغرض المساعدة من باب العطف عليهن؟
الجواب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) .(50/27)
حكم المرور من أمام المأمومين أثناء الصلاة
السؤال
ما حكم المرور أمام الصف الأول أثناء صلاة الجماعة للمضطر؟
الجواب
إذا لم يمر أمام الإمام فلا بأس بذلك إن دعت الضرورة إليه، وقد أرسل ابن عباس أتاناً له يمشي بين يدي الصف.(50/28)
المعاصي سبب في زوال النعم
السؤال
هل المعاصي يمكن أن تمنع العبد من صلاة الفجر؟
الجواب
المعاصي سبب لزوال النعم، ومن نعم الله الصلاة في جماعة، فقد تمنع المعاصي من صلاة الفجر، وقد تمنع من صلاة الجماعة، وقد تمنع من التصدق.(50/29)
من شروط المسح على الخفين
السؤال
هل من شروط المسح على الخفين النية؟
الجواب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) .(50/30)
حكم الإهلال من ميقات المدينة لغير أهلها
السؤال
أريد الذهاب للعمرة ولكن لظروف أو لأخرى سأذهب أولاً إلى المدينة ثم إلى مكة لأداء العمرة، هل عليّ شيء إذا ذهبت إلى المدينة ثم أحرمت من ميقات أهل المدينة للعمرة؟
الجواب
ليس عليك شيء لأنك لم تنشئ نية العمرة إلا من المدينة، فحينئذٍ يكون ميقاتك ميقات أهل المدينة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة) ، فأنت أثناء مرورك بميقات المصريين الذي هو رابغ وأنت في الباخرة لن تنشئ نية العمرة؛ لأنك في نيتك أن تذهب إلى المدينة أولاً، كشخص يريد الذهاب إلى اليمن، فمر أثناء ذهابه إلى اليمن بميقات أهل مصر، فلا يلزمه أن يهل إلا إذا نوى فعلاً أن يبدأ في العمرة، فحينئذٍ يهل من الميقات الذي سيمر عليه، والعلم عند الله.(50/31)
حكم قطرة الأنف للصائم
السؤال
ما حكم قطرة الأنف بالنسبة للصائم؟
الجواب
قطرة الأنف بالنسبة للصائم تكره، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) ، فيستفاد منه أن الصائم لا يبالغ في الاستنشاق وما قام مقام الاستنشاق، لكن هل تفطر؟ هي ليست بطعام ولا بشراب ولا بشهوة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في شأن الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) .(50/32)
حكم عقد الزواج لمن حصل بينهما فاحشة قبل موعد العقد
السؤال
فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها تقدم شاب ليخطبها، فوافق أبوها وأبرم معه موعداً للعقد، ورفض أن يعقد العقد قبل مجيء الموعد، وللأسف حدث بينها وبين الخطيب فاحشة -والعياذ بالله- فهل نذهب إلى المأذون الشرعي لنعقد أم ماذا نصنع؟
الجواب
لا يعالج الفساد بفساد، إذا لم تكن حاملاً فعليها أن تنتظر الموعد الذي أبرمه أبوها للعقد وتتزوج فيه، هذا إذا لم تكن قد حملت، فإن حملت والحمل دون الأربعة أشهر، فحينئذٍ تكون هذه الفتاة في حيز ضيق، وليس إسقاط الجنين على العموم كما يفعله بعض الناس كما في الصحف، ولكن حالات الاضطرار لها أحكامها، ما لم ينفخ في الجنين الروح، أما إذا نفخ فيه الروح فيحرم الإسقاط، فلا تعالج الخطأ بخطأ، وكل ما هنالك أن تذكر الوالد بموعد العقد، ولا يمنع العقد؛ لأنها هي الآن زانية وهو أيضاً زان والعياذ بالله!(50/33)
ورود حديث الجساسة في صحيح مسلم
السؤال
هل هناك حديث عن تميم الداري أنه كان في سفر في عرض البحر ثم نزلوا بجزيرة هنالك؟
الجواب
الحديث في صحيح مسلم، وهو حديث الجساسة الطويل.(50/34)
حكم إعطاء الطفل (البزازة) التي ليس فيها حليب
السؤال
الأم التي تعطي ولدها (بزازة) ليرضع هل هذا نوع من أنواع الخداع؟
الجواب
ليس هذا من أنواع الخداع بل من المصالح، كإبعاد الإزعاج، فإذا أسكت الطفل (ببزازة) كي لا يزعجني فلماذا آثم وهو الذي يؤذيني بالبكاء؟! ولعل البعض يحاول الاستدلال بحديث: (أن أماً دعت طفلها فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا تريدين أن تعطيه؟ قالت: أريد أن أعطيه تمرة.
قال: أما أنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة) ، لكن الحديث هذا ضعيف، وإن اشتهر على ألسنة كثير من إخواننا.(50/35)
جواز العقيقة بشاة واحدة للذكر
السؤال
هل يجوز أن أشتري العقيقة شاة واحدة لطفلي حينما يتيسر الحال ثم أشتري الثانية؟
الجواب
إذا كانت عقيقة فلا بأس.(50/36)
قضاء الصوم عند الاستطاعة
السؤال
زوجتي لم تصم نصف رمضان الماضي وهي الآن في فترة نفاس، وتستمر حتى نزول القصة البيضاء، فما الحل فيما إذا صامت شعبان ثم رمضان وهي ترضع الصغار؟
الجواب
إذا أطاقت الصيام صامت، وإن أفطرت لنفاس فالصوم ما زال باقياً في عنقها فلتصمه متى تيسر لها، أما إن أفطرت نتيجة إرضاع ففيها أقوال ثلاثة للعلماء، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.(50/37)
حكم الزواج العرفي
السؤال
تزوجت زواجاً عرفياً، وعندما عرفنا أن الزواج حرام تركت هذا الزواج، فهل يلزمه أن يطلقني؟
الجواب
إذا كان الزواج العرفي هو: أن المرأة تزوج نفسها بلا ولي، وعلمت بأن الزواج هذا حرام، فلا يلزمه أن يطلقها؛ لأن العقد مفسوخ من الأصل.(50/38)
ضعف حديث: حفظ القرآن
السؤال
هل هناك دعاء لحفظ القرآن، والذي نهايته قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ علي: (مؤمن ورب الكعبة) ؟
الجواب
الحديث ضعيف لكن كما قدمنا: خير وسيلة لحفظ القرآن ومراجعته القيام به في صلاة الليل كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه) .(50/39)
استحباب لبس القواعد للنقاب
السؤال
امرأة في الخمسين من عمرها، فهل يجب عليها لبس النقاب؟
الجواب
الله يقول: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60] ، بهذه الفقرة الأخيرة استدلت حفصة بنت سيرين على استحباب النقاب عندما دخل عليها جرير بن حازم وقد تنقبت -كما في سنن البيهقي بسند صحيح- فقال لها: يا أماه! أليس الله يقول: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] ؟ قالت له: أكمل الآية قال: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60] قالت: هذا هو إثبات النقاب.(50/40)
حكم دفن الميت ليلاً
السؤال
ما حكم دفن الميت ليلاً؟
الجواب
إذا مات الشخص ليلاً أو نهاراً وأريد أن يدفن ليلاً فالنهي الوارد في ذلك للتنزيه وليس للتحريم؛ وذلك لأن امرأة كانت تقم المسجد أو رجل فمات فدفنه الصحابة ليلاً دون الرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح عليه الصلاة والسلام قالوا: (مات فدفناه وكرهنا أن نوقظك يا رسول الله! فقال: أفلا آذنتموني) ، ولم ينكر عليهم أنهم دفنوه ليلاً، فمن أراد الدفن ليلاً وتحقق وجود عدد كبير من المصلين على الميت فلا بأس حينئذٍ بأن يدفن ليلاً، قال بعض أهل العلم: العلة من المنع من الدفن ليلاً قلة المصلين على الميت، فالنبي أقر من دفن ليلاً، فأخذنا من هذا الإقرار جواز الدفن ليلاً، وقد ذكر البعض -والله سبحانه أعلم- أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها عندما ماتت دفنت ليلاً.(50/41)
حكم من جامع امرأته وهي حائض
السؤال
هل كفارة من أتى امرأته وهي حائض نصف دينار؟
الجواب
حديث: (من أتى حائضاً فكفارته نصف دينار) ، حديث ضعيف وقد تبنى القول بمضمونه فريق من العلماء، فهناك من المعاصي ليست عليها كفارات منصوص عليها، ولكنها في نفسها آثام ومعاص، فيجتهد العالم في تحديد الكفارة التي تليق بهذا الإثم أو بهذه المعصية، فقدمنا مثلاً: أن من أتى امرأة وهي حائض فإنه آثم، وبالنسبة لكفارة هذا الإثم ففريق من العلماء يقول: يستغفر، وفريق يقول: الاستغفار فقط ليس بكاف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر الرجل الذي قبل امرأة أن يستغفر ويصلي ركعتين، فمن ثم ننصح هذا الذي أتى امرأته وهي حائض بفعل أي نوع من أنواع البر الذي يوازي هذه السيئة التي اقترفها؛ لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فيتصدق بمال يقدره العالم بما يوازي هذه المعصية ويمحو أثرها بإذن الله.
فلا يقال: إن الذي أتى امرأة وهي حائض لا شيء عليه؛ لأن الحديث ضعيف، ولكن يقال: إن عليه أن يفعل فعل بر، فإن شئت أن تفتيه بأن يتصدق أو يصوم أو يصلي عدداً من الركعات، فهذا اجتهاد من باب أن عمل الخير يدفع السوء بإذن الله.(50/42)
تفسير سورة الحديد [1]
للقرآن الكريم أساليبه الفريدة في طرح القضايا، ومن تلك الأساليب غرس عظمة الله عز وجل في القلوب ببيان كونه محموداً منزهاً مقدساً في السماوات والأرض، وبيان أسماء الله وصفاته التي فارق بها خلقه، وبيان سعة علمه تعالى ورقابته، وتدبيره للكون، ثم بعد ذلك يجيء الأمر بالإيمان به تعالى وبرسله، والحث على أعمال الخير كالإنفاق ونحوه، فهو يبني العقيدة ثم يجيء بأحكام الشريعة، وهذا يظهر جلياً في سورة الحديد.(51/1)
بين يدي السورة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فسورة الحديد أطلق عليها هذا الاسم لورود ذكر الحديد فيها، كما أطلقت الأسماء على غيرها من السور لورود الاسم فيها، فسورة البقرة سميت بذلك لورود ذكر البقرة فيها، وآل عمران سميت بذلك لذكر آل عمران فيها، وكذلك النساء والمائدة والأعراف والأنعام، كما سميت بعض السور بمطالعها، أو بالحروف المقطعة التي بُدئت بها.(51/2)
تفسير قوله تعالى: (سبح لله ما في السماوات والأرض.)
قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد:1] .
قوله تعالى: ((سبح)) أي: نزه.
فالمعنى: نزه الله سبحانه وتعالى كل من في السماوات ومن في الأرض عن كل عيب وعن كل نقص، وعن الشريك، وعن الولد، وعن الصاحبة.
وهذا يفيد أن الجمادات أيضاً تسبح، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، فدلت هذه الآية الكريمة على أن الجمادات تسبح، وقال تعالى في كتابه الكريم: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] ، وقال سبحانه: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] ، وقال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] .
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ) ، ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يثبت لأعرابي نبوته قال له: (اذهب إلى هذه الفسيلة فادعها) ، فذهب إليها فدعاها فأتت تشق طريقها حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعت، وثبت أن الجذع حنّ لما فارقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسُمع له صوت كصوت العشار إلى أن نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق المنبر فاحتضنه، والأدلة في هذا كثيرة، وكلها تثبت أن للجمادات أنواعاً من الإدراكات، وأنواعاً من التسبيحات والسجود، ولا يعلم ذلك إلا الله تعالى، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44] ، وقال في شأن نبي الله داود عليه السلام: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] ، وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (كنا نسمع للطعام تسبيحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤكل) ، والحديث ثابت صحيح.
قال تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحديد:2] .(51/3)
تفسير قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن.)
قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] .
أحسن ما فسرت به هذه الآية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) .
وقد كثرت أقوال المفسرين في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} .
إلا أن تفسير ذلك من حديث النبي صلى الله عليه وسلم السابق، هو الأولى، فقوله: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) ، ويفسر المراد بـ (الأول) ، وقوله: (وأنت الآخر فليس بعدك شيء) يفسر المراد بـ (الآخر) ، وقوله: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء) يفسر المراد بـ (الظاهر) ، وقوله: (وأنت الباطن فليس دونك شيء) يفسر المراد بـ (الباطن) .
ومما فسرت به قول بعض العلماء: (الباطن) : العالم ببواطن الأمور وما خفي وما غاب منها.
و (الظاهر) : القاهر الذي يَغلب ولا يُغلب، ويعلو سبحانه وتعالى ولا يعلى عليه، وعلى بعض هذه الألفاظ بعض المآخذ.
قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
الآيات التي تثبت علم الله سبحانه وتعالى تتكرر مراراً في سور الكتاب العزيز، وكل معنىً تكرر في الكتاب العزيز يدل تكراره على أهمية عظمى له، فإذا فهم العبد ذلك وأيقن به، ولازمه هذا الشعور وهذا العلم بأن الله تعالى عليم استقامت أموره، وحسنت سرائره، ومن ثم صلحت له دنياه وصلحت له أخراه، فكم من آية ختمت بقوله تعالى: (والله عليم حكيم) ، وبقوله تعالى: (والله عليم خبير) ، وبقوله تعالى: (إنه عليم بذات الصدور) ، وكم من آية سيقت لإثبات هذا المعنى، كقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] ، وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود:5] ، وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61] ، وقد تكاثرت الآيات المثبتة لهذا المعنى غاية الكثرة، وكلها لتأسيس شيء في الأذهان وتثبيته وترسيخه، ألا وهو مراقبة الله سبحانه وتعالى، والعلم بأنه يراك ويطلع على أحوالك، ويعلم سرك ونجواك، قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12] .(51/4)
تكرار صفة علمه تعالى
قال الله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد:6] .
قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} أي: يدخل الليل في النهار، وقوله تعالى: {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي: يدخل النهار في الليل، فهذا يأخذ من طول ذاك، وهذا يأخذ من طول ذاك، فالليل يطول في بعض أيام السنة ويأخذ من النهار، والنهار يطول في بعض أيام السنة ويأخذ من الليل.
قوله تعالى: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} في هذا تكرار الإخبار بعلم الله سبحانه.
فالآيات السابقة تتضمن الإخبار بأن الله سبحانه عليم يعلم الظاهر كما يعلم الباطن، ولكن تصرف الآيات وتتنوع وتتعدد أساليبها، فمن لم يفهم من هذا السياق فهم من السياق الآخر، ومن لم يتذكر بهذه الآية فليتذكر بتلك، ومن لم يدرك هذه الفقرة فليدرك تلك، وكلها -كما سلف- لتأسيس شيء وترسيخه، ألا وهو العلم بأن الله تعالى عليم، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام:60] .(51/5)
الأمر بالإيمان، مفاده وعلاقته بالإنفاق
قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد:7] .
قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الخطاب هنا موجه لأهل الإيمان على قول بعض أهل العلم، فيرد على هذا القول إشكال فحواه: كيف يوجه لهم الأمر بالإيمان وهم في الأصل مؤمنون؟! فمن العلماء من أجاز ذلك على أن المراد: زيدوا في إيمانكم بالله ورسوله، وزيدوا تصديقاً لله تعالى، وزيدوا تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] ، فالمعنى إذاً: ليزدد إيمانكم بالله ورسوله.
وعليه فيكون في هذا الدليل دليلٌ لأهل السنة والجماعة القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص، والأدلة على هذا متعددة، كقوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] ، وقال تعالى حكاية عن الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] .
قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ذكر بعض أهل العلم أن بينها وبين قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} رابطاً قوياً، وهو أن قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي: صدقوا الله ورسوله وأنفقوا.
فنصدق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في الإنفاق أيضاً، فقد قال لنا ربنا سبحانه وتعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [التغابن:17] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم تطلع فيه الشمس وإلا وبجنبتيها ملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا) ، فإذا كنت موقناً بأن الله تعالى يخلف على المتصدق، وبأن الملك يدعو للمتصدق بأن يخلف الله تعالى عليه، وازداد بذاك يقينك وإيمانك حملك ذلك على استقبال قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ، بالأنفاق السريع، وبالامتثال السريع.
وهذا يفيد في مسائل من الدعوة إلى الله تعالى، وفي مسائل التعامل مع الخلق.
فيمهد للتعامل مع الخلق بالتذكير بالله تعالى بالإيمان به، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل في معاملته مع الناس، ومعاملته مع أهل الإيمان، وأحكامه في القضايا، فكان دائم التذكير بالإيمان بالله تعالى قبل أن يفصل في القضايا، فمن ذلك قوله الله عليه وسلم في قصة المتلاعنين قبل أن يقضي بينهما، وقبل أن يبدأ اللعان: (الله أعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟) .
وفي سائر قضاياه يقول للمتخاصمين قبل الحكم: (إنكم تختصمون لدي ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه فأقضي له بحق أخيه، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار، فإن شاء قبلها وإن شاء ردها) ، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يذكر الناس بالله تعالى، ويذكر الخصوم بالله تعالى قبل أن يبدأ في فضّ النزاع والقضاء بينهم.
فلهذا يشرع التذكير بالله تعالى قبل إبداء الأوامر، وقبل إبداء النصائح، حتى مع العدو الصائل، أو مع من يخشى معه الشر، فيشرع تذكيره كذلك بالله تعالى، فقد حكى الله تعالى عن مريم عليها السلام لما تمثل لها الملك بشراً سوياً قولها: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] أي: ألجأ وأستجير بالرحمن منك.
وفي حديث صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي جلس بين رجليها ابن عمها ليرتكب معها المحرم قالت مذكرة له بالله تعالى: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه.
فقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: صدقوا الله ورسوله فيما أخبراكم به على وجه العموم، وصدقوا الله ورسوله فيما أخبراكم به من أن المنفق يخلف الله سبحانه وتعالى عليه.
ثم جاء الأمر بالإنفاق فقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ، وفي هذه الآية تجريد لك من المال الذي بين يديك، فليس لك الحق في المال الذي بين يديك تعبث فيه كما تشاء، وتتصرف فيه كما تريد، فقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن الإسراف فقال تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] ، ونهانا عن التبذير فقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27] ، وقال سبحانه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء:26] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الاقتصاد والسمت الحسن جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) ، فليس لك أن تتصرف بالمال الذي بين يديك يمنةً ويسره كما تشاء، فأنت مسئولٌ عن الاستخلاف في هذا المال وبما عملت فيه، ومسئولٌ عن طريق اكتسابه، ومسئولٌ عن موضع إنفاقه.
والذين ينفقون الأموال في الإضرار بالمسلمين والإضرار بمن استرعاهم الله تعالى إياهم كلهم مسئولون أمام الله تعالى عن خيانة هذه الأمانة التي حملهم الله تعالى إياها.
قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} في الآية إيماء بالرد على المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان كبيرة، ولا ينفع كذلك -عند بعضهم- مع الإيمان كبير عمل.
كما أن فيها أن الإنفاق بدون إيمان لا ينفع صاحبه، فقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: ابن جدعان كان يقري الضيف ويفعل ويفعل، فهل نفعه ذلك؟ فقال: لا يا عائشة، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) ، فلا بد مع الإنفاق من إيمان، وإلا فرب العزة يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، ويقول تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18] ، ويقول سبحانه في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) .(51/6)
تفسير قوله تعالى: (وما لكم لا تؤمنون بالله ... ) ومعنى الميثاق
قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الحديد:8] .
تعددت أقوال العلماء رحمهم الله تعالى في المراد بالميثاق، ومتى أخذ، ومن الذي أخذه.
فقال بعضهم: إن الذي أخذ الميثاق على الإيمان هو ربنا سبحانه وتعالى، كما قال تعالى في سورة الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172-173] .
وفي معناه وتفسيره قال فريق من أهل العلم: إن الميثاق هو الميثاق المأخوذ على ذرية آدم وهم في صلب أبيهم آدم عليه السلام، فأخذ عليهم الميثاق أن يؤمنوا بالله تعالى وأن يوحدوه؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما خلق الله آدم مسح على ظهره فاستخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها، ثم نثرهم بين يديه كالذر، ثم أشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا.
أن تقولوا يوم القيامة إن كنا عن هذا غافلين) .
وخالف في هذا المعتزلة فقالوا: ما الذي أدرانا أن هذا الميثاق قد أخذ ولا يذكره أحد من الخلق؟! وهذا ضرب من التأويل باطل؛ إذ يصح أن يقال -بناءً على هذا الزعم الباطل-: وما الذي أدرانا أن آدم عليه السلام خلق من تراب؟ وهذا كله من أنواع الباطل.
فمنهج أهل السنة في ذلك أن الله تعالى أخذ من ذرية آدم وهم في صلب أبيهم آدم عليه السلام الميثاق على الإيمان وعلى التوحيد.
ومما يؤسف له أن بعض مفسري أهل السنة والجماعة المشهود لهم بالتوفيق في تفسيرهم سلك في هذه الآية مسلك المعتزلة في تأويلها، وهو الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى، في تفسيره (تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن) ، فلينبه على هذه الزلة في هذا التفسير الذي هو في عمومه طيبٌ ومبارك.
وثمّ قولٌ آخر في الميثاق أنه الميثاق الذي أخذه النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار ليلة العقبة، وقال بعض أهل العلم: إن قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} [الحديد:8] خطاب موجهٌ لأهل الكتاب، والميثاق هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] .
فأخبر الأنبياء أممهم بهذا الميثاق، وأخذوا على أممهم الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بُعث، فكان يهود يستفتحون على الذين كفروا من الأوس والخزرج، ويقولون: سيخرج نبيٌ عن قريب نتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد:9] .
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي: واضحات ظاهرات جليات، وقوله تعالى: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي: من ظلمات الجهل والكفر إلى نور الإيمان ونور الطاعات.(51/7)
فضيلة السابق في الإيمان، وموقف الشيعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحديد:10] .
هذا أيضاً تذكيرٌ بأن المال زائلٌ عنك، وأن الله سبحانه يرث السماوات والأرض، وتكرر هذا المعنى كثيراً حتى تزهد فيما هو في يديك، ومن هذا قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40] .
فلماذا تتخلف عن الإنفاق والوارث للسماوات والأرض هو الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] هذه الآية تدلنا على أصل، وتؤدبنا بأدب، ألا وهو احترام أصحاب السوابق في الخير، فمن أفنى عمره في طاعة الله تعالى، ومن أفنى عمره في الدعوة إلى الله تعالى، ومن أفنى عمره في الصلاة والصيام، على الناس أن يوقروه، ويقيلوا عثرته إذا زلت قدمه، وعلى الناس أن ينزلوا الناس منازلهم، فالرجل الكبير الطاعن في السن الذي ابيض شعره واشتعلت لحيته شيباً كم سجد لله من سجدة، وكم صام لله تعالى من شهر، وكم سبح لله من تسبيحة، وكم حج، وكم اعتمر، فلا ينبغي أن يُساوى مع الأحداث الذين قلّ ذكرهم وطاعتهم لله تعالى، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) ، وكان الناس يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الصغير منهم يتكلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر كبر) ، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (أراني أتسوك الليلة فأتاني رجلان فدفعت السواك إلى الأصغر منهما فقيل لي: كبر) أي: أعط الأكبر.
وفي هذه الآية ردٌ على الشيعة البغضاء البعداء -قاتلهم الله عز وجل وانتقم منهم- في انتقاصهم لـ أبي بكر، ولـ عمر رضي الله تعالى عنهما، فمن الذي نال الحظ الأكبر والنصيب الأوفر من هذه الآية الكريمة سوى الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقد كان -كما حكى الله تعالى عنه-: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له -كما حكى الله عنه-: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبي بكر) ، أي: ما نفعني مالٌ قط كما نفعني مال أبي بكر، وصَدَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر السماء ليلة أسري به وعرج به، وأنزل الله تعالى براءة ابنته من فوق سبع سماوات، فأبى أهل الظلم من أهل التشيع البغيض المقيت كل ذلك، وحقدوا على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، واتهموه بما لا يليق به رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وخالفوا في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم مثل أحدٍ ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) .
والجهل حين ينتشر يقبل قول كل ناعق، والذي يؤسف غاية الأسف أن يكون في الجامعات من يتشدق بالنيل من أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه من ذوي المراكز هنالك، ولا يوجد من ينكر عليه ذلك من الزملاء الأفاضل، والإخوة الأتقياء الأبرياء البررة.
فجديرٌ بكل مسلم أن يكون ذابا دائماً عن صحابة النبي الكريم رضي الله تعالى عنهم؛ ليكون له نصيب من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] .
فإذا كان رب العزة يقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] ، فهل الصديق رضي الله عنه منهم أم لا؟ أليس منهم الخليفة البار الراشد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أم لا؟ ويأتي شيعي بغيض مقيت -قاتله الله عز وجل وقاتل أتباعه وأشياعه- يصف هذين الكريمين سيدي شيوخ أهل الجنة بما لا يليق بهما، ويقول: إنهما الجبت والطاغوت، فقاتل الله عز وجل أهل الظلم وأهل العدوان، وكل من شايعهم، وكل من سايرهم.
ولو كان مثل هذا الزنديق موجوداً على عهد السلف الصالح رحمهم الله تعالى لنكلوا به، ولكنها دولة الفوضى ينعق فيها كل ملحد بما يريد، وينعق كل نصراني بما يريد، وكل شيعي بما يريد، ولا أحد يوقف هذه الهمجية وهذا العبث في النيل من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وهذا خالد بن الوليد رضي لله تعالى عنه سيف من سيوف الله تعالى المسلولة سله الله تعالى على المشركين، كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه شيء، وعبد الرحمن أحد العشرة السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، فقال خالد لـ عبد الرحمن بن عوف: أتعيروننا بأيام سبقتمونا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ونال من عبد الرحمن، فبلغت هذه المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحدٍ ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه) ، ولكن شاء الله تعالى أن يأتي قوم رعاع ينالون من خير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل من أفضلهم بالإجماع، وشارك هذا الناعق اللئيم اليهود في نيلهم من أصحاب موسى صلى الله عليه وسلم.(51/8)
الأدب مع المفضول عند التمايز
قال تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} .
في هذا تسلية وتعزية لمن أنفق من بعد الفتح وقاتل، وهذه التسلية والتعزية تأتي في جملة من مواطن الكتاب العزيز، ومن ذلك قوله سبحانه في شأن داود وسليمان عليهما السلام: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:78-79] ، ثم أثنى على داود عليه السلام بقوله تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:79] .
فهذه الأخلاق تستفيد منها في التعامل مع الناس، فإن مايزت بين اثنين فينبغي عليك أن تثني على الطرفين بما يسري على النفوس، وقد جاء معاذ ومعوذ ابني عفراء رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قتلهما لـ أبي جهل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمسحا سيوفكما.
ثم نظر إلى السيفين فقال: كلاكما قتله) ، ثم أعطى سلبه لأحدهما مع قوله صلى الله عليه وسلم: (كلاكما قتله) ، فهذا أدبٌ يتأدب به مع الناس الذين هم دون في الفضل، والله سبحانه وتعالى أعلم.(51/9)
الأسئلة(51/10)
حال حديث: (يا علي! لا تنم إلا على خمسة.)
السؤال
ما صحة حديث (يا علي: لا تنم إلا على خمسة) ؟
الجواب
حديث ضعيف.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(51/11)
تصفيق النساء وزغردتهن في الأعراس
السؤال
هل التصفيق للنساء في العرس محرم؟
الجواب
لا، فالتصفيق للنساء في العرس مباح، بل يستحب لهن، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في نصٍ عام -وإن كان ورد في الصلاة-: (إنما التصفيق للنساء) ، وقال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله تعالى عنها: (ماذا عندكم من اللهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو) .
السؤال: هل الزغاريد حرامٌ في العرس؟ الجواب: الزغاريد لا أعلم في منعها حديثاً صحيحاً، وحديث: (صوتان ملعونان) ، فيه نظر من ناحية الإسناد، وإن صح فدخول الزغاريد ليس واضحاً فيه، والكلام في الزغاريد مبني على المفسدة والمصلحة، فإن كانت النساء فيما بينهن فليزغردن وليصفقن كما شئن، وأما إذا كنّ سيفتن الرجال فهذا نوع من أنواع الفساد، والله لا يحب الفساد.(51/12)
عقوبة الأمة المحصنة عند زناها
السؤال
هل ينصف الرجم على الأمة المحصنة؟
الجواب
الرجم لا يتنصف، والجمهور على أن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، فإذا زنت فليجلدها، فإذا زنت فليجلدها، فإذا زنت فليبعها ولو بحبل من ظفير ولا يثرب) أي: لا يوبخها ويعيبها.
والحكمة في الأمر ببيعها إذا زنت في الرابعة هي أنَّ سيدها قد يكون ضعيفاً لا يستطيع إعفافها، فيشتريها من يستطيع إعفافها، أو ربما كان ضعيف الشخصية لا تهابه، فيبيعها من شخص مهاب لا تستطيع عنده أن تلتفت يمنه أو يسرة.(51/13)
الزواج بواسطة التلفونات
السؤال
هل يجوز الزواج بواسطة التلفون الحديث المرئي؟
الجواب
يجوز بالمرئي وبغير المرئي إذا كان التلفون له سماعة يسمعها الشهود كذلك، فيجوز الزواج بهذه الطريقة.(51/14)
لفظ النكاح الوارد في قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ... ) والمراد به
السؤال
ما معنى قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] ؟
الجواب
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن النكاح هنا المراد به: الزواج.
لكن يرد عليه أن نقول: كيف تقول -رحمة الله عليك-: إن الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة؟! فأنت بهذا تحل للزاني المسلم أن يتزوج بمشركة، وتحل للزانية المسلمة أن تتزوج بمشرك، وهذا لا يقره الشرع، فالزانية ما زالت مسلمة، فإذا قلت: إن المعنى أن الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة اختل عليك المعنى؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] ، وقال: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] .
فالذي عليه الجمهور وهو رأي الحافظ ابن كثير وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى- أن الزاني لا يطاوعه على زناه إلا زانية ترضى بالزنا، أو مشركة لا تعتقد حرمة الزنا أصلاً، والزانية لا يطاوعها على الزنا إلا زانٍ أو مشرك.(51/15)
الصلاة عند القبر
السؤال
ما حكم الصلاة في المقابر، أو في حجرةٍ بها مقبرة؟
الجواب
القبر إذا نُبش جازت الصلاة عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بني مسجده على نخيلٍ قد سوي وقبور نُبشت، فإذا نبش القبر جازت الصلاة، أما إذا لم ينبش القبر فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) ، وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) ، وقال: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) ، وقال: (لا تجلسوا إلى القبور ولا تصلوا إليها) ، إلى غير ذلك من النصوص، وأقوال العلماء رحمهم الله تعالى في الصلاة على القبور دائرة بين التحريم والكراهة.(51/16)
تأويل الحديث: (إن الله خلق آدم على صورته)
السؤال
على أي شيءٍ يرجع الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته) ؟
الجواب
من أهل العلم من يقول (على صورته) ، أي: على صورة المضروب؛ لأن لفظ الحديث: (إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطمنّ الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته) .
أي: خلق آدم على صورة هذا الذي ضربته؛ لأنك ضربت هذا فكأنك ضربت آدم صلى الله عليه وسلم، لكن هذا التأويل شيء، وإثبات أسماء وصفات الرب سبحانه وتعالى من نواح وأدلةٍ أخر.(51/17)
قبض تعويض شركات التأمين
السؤال
شخص يعمل في شركة قطاع خاص مُؤمَّن عليه، وأصيب في حادث إصابة شديدة، وعلم أن شركة التأمين تصرف مبلغاً كتعويض إصابة عمل، وهو متخوف من قبضه، فماذا يعمل؟
الجواب
اقبضه.
ونسأل الله تعالى أن يتم شفاءك.(51/18)
الزواج من المشركة أو الكتابية
السؤال
هل الزواج من مشركة جائز؟
الجواب
الزواج من مشركة لا يجوز، ولكن الزواج من يهودية أو نصرانية عفيفة جائز؛ لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] .
فإن قيل: إن الله سبحانه وتعالى وصف النصرانية أو اليهودية بأنها مشركة، فقال الله تعالى في كتابه الكريم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] .
فأفادت هذه الآية أنهم أهل شرك، وكذلك قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] ، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] .
قلنا: إن كل عام في الشرع تأتيه تخصيصات.
فقول الله سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ، ليس على عمومه؛ فهناك زناة لا يجلدون في الأصل وهم المجانين، وهناك زناه يرجمون، وهناك زناه يجلدون خمسين جلدة وهم العبيد والإماء، فكل عام له استثناءاته.
فعلى وجه الإجمال لا يجوز لك أن تتزوج بمشركة، لكن استثني من أهل الشرك النصارى واليهود بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] أي: العفيفات.
وفهم ذلك أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد تزوج حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه بيهودية، فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، فكأنه نهى عن ذلك، فلما بلغ حذيفة أن عمر يشير إلى النهي ولم يأت صريح النهي قال له: أحرامٌ هو يا ابن الخطاب؟ قال: لا، ولكني خشيت أن تتعاطوا المومسات منهن، أي: خشيت أن تتزوجوا الزواني.
كما أن آية المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] بعد آية البقرة: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] .
فمن أحب نصرانية، وكانت تريد الزواج به، ويريد الزواج بها وواجهتهما مشكلة إشهار الإسلام لخوف المرأة، فممكن أن يتزوجها على حالها هذه وهي نصرانية، ولكن يتأكد من عفتها؛ لأن الله تعالى لما أباح نكاح الكتابية قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] أي:: العفيفات من الذين أتوا الكتاب.
فإن ذكرها بالإسلام فإنه يؤجر على إسلامها.
وأما مقولة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى، فقد بناها على أنه كان هناك من بعض السلف من يقول: إني آكل ذبائح كل النصارى إلا ذبائح بني تغلب.
وقول الشيخ أحمد شاكر ليس بصحيح، بل مصادم للآية الكريمة، فهل أهل الكتاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين؟ والله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] .
فالذين أوتوا الكتاب كانوا كفاراً على عهد رسول الله، كما قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] ، فمقولة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى التي بثها في كتبه، وتلقفها الشباب الذين عندهم شدة في المسألة ليست بصحيحة، وإن كان قد صح أنه ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما المنع، إلا أنه ورد عن حذيفة رضي الله تعالى عنه الزواج فعلا بيهودية.
كما أن التفريق في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] ، يفيد أن أهل الكتاب شيء وأهل الشرك شيء آخر، ولكن لا يمنع هذا من دخول أهل الكتاب في ضمن المشركين بنص آية براءة، إلا أن الذي يحسم مثل هذه القضية هو أفعال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(51/19)
كلمة حول كثرة الجماعات واختلافها
السؤال
أنا متحير بين كثرة الجماعات الموجودة، فماذا أفعل؟
الجواب
لا تدخل لتتحير بين جماعة من الجماعات، بل تعلم كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واحضر مجالس العلم ومجالس الفقه في الدين، وآخ كل المسلمين فيما تستطيعه وتطيقه، وفيما يقره الشرع، أما أن تلزم نفسك بجماعة وأمير فهذه بدعة أصبحت بالية والحمد لله تعالى، فقد استنار المسلمون، ولنتعاون مع المسلمين على البر والتقوى فيما يقره الشرع، وفيما تطيقه وتتحمله.(51/20)
مدى صحة حديث: (زمزم لما شرب له) ، وحديث: (الدال على الخير كفاعله) ، والأحاديث الواردة في ليلة نصف شعبان
السؤال
ما صحة حديث: (زمزم لما شرب له) ؟
الجواب
حديث: (زمزم لما شرب له) لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضعيف، وله شاهد من حديث معاوية رضي الله تعالى عنه موقوفاً عليه، وبعض أهل العلم يجعل الموقوف شاهداً للضعيف، ويرقيه به إلى الحسن، وبعض العلماء يرى أن الضعيف يبقى ضعيفاً، ونحن نقول: الصحيح أنه موقوف على معاوية رضي الله تعالى عنه، ونحن مع الرأي الأخير.
السؤال: ما صحة حديث: (الدال على الخير كفاعله) ؟ الجواب: حديث صححه بعض أهل العلم.
السؤال: ما صحة الأحاديث الواردة في فضل ليلة النصف من شعبان؟ الجواب: الأحاديث الواردة في فضل ليلة النصف من شعبان كلها ضعيفة، وقد تكلم صاحب (سنن المبتدعات) عليها كلاماً جيداً، فليراجعه من شاء.(51/21)
استحلال قتل النفس
السؤال
ما الحكم فيمن قتل نفسه مستحلاً لذلك؟
الجواب
المستحل يكفر، ولكن ما أدراك أنه مستحل أو غير مستحل؟!(51/22)
حلول للتائب عن المعصية المجاهد لنفسه
السؤال
شابٌ تاب عن المعصية، وأصبح يعاني من المجاهدة في غض البصر، فماذا يفعل؟
الجواب
يبحث عن زوجةٍ يتزوجها بكراً كانت أم ثيباً على قدر سعته، وعليه أن يكثر من الصيام، ويعتقد تمام الاعتقاد أن تعالى الله رقيب عليه.(51/23)
مدى صحة حديث الأوعال
السؤال
هل يصح حديث الأوعال؟
الجواب
حديث الأوعال ليس بصحيح.(51/24)
الشطرنج وأقوال العلماء فيه
السؤال
هل الشطرنج حرام؟
الجواب
لم يرد في مسألة الشطرنج حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت أو غير ثابت فيما علمت، وورد عن علي رضي الله تعالى عنه بإسناد فيه ضعف: أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ ولكن بنى العلماء قولهم في الشطرنج على أنه نوع من أنواع اللهو المضيع للأوقات، والمذهب للصحة والأذهان، فذهب الجمهور إلى منعه لهذه الأسباب؛ للعمومات الشرعية، ثم منهم من قال بالتحريم، ومنهم من قال بالكراهة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(51/25)
سلس الريح وحكمه
السؤال
أحتاج بشكل دائم إلى إخراج الريح، وهذا ينقض الوضوء، فماذا أفعل؟
الجواب
إذا كانت مصاباً بسلس الريح فلك حكم، وإذا كان خروج الريح منك وقتياً فلك حكم آخر، فإذا كنت تكثر إخراج الريح كما لو كان في كل دقيقة يخرج الريح، ويأس الأطباء من علاجك، فستكون مصاباً بما أطلقوا عليه (سلس الريح) ، وحينئذٍ من العلماء من سيسلك معك مسلك من به سلس البول، وسلس البول ليس فيه دليل أصلاً، وإنما سلكوا بمن به سلس البول مسلك المستحاضة، ويقول: تتوضأ وتسد الدبر بشيء أثناء الصلاة حتى لا يخرج منك شيء، وإن خرج بعد السد بالقطن شيء، فلا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، والله سبحانه وتعالى أعلم.(51/26)
مسائل متعلقة بكفارة اليمين
السؤال
هل يجوز إخراج قيمة الطعام في كفارة اليمين؟ وهل هي وجبة أو أكثر؟ وما صفة هذا الطعام؟ وهل يجوز تقديم الصيام على الإطعام؟
الجواب
إما إخراج القيمة في كفارة اليمين فجمهور العلماء على أن القيمة لا تجزئ؛ لأن الله تعالى قال: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] .
أما الأحناف فذهبوا إلى أن القيمة تجزئ، لكن هناك تعليل يطرح في هذه المسألة لتقرير رأي، ولا لترجيح رأي على آخر، وهو أن الجمهور الذين قالوا بإخراج الطعام قد يكون من توجيهاتهم أن المال قد يكون متوفراً عندك، بخلاف الطعام، فرأى الجمهور إخراج الطعام لهذه العلة، فإذا توفر المال ولم يتوفر الطعام {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] ، والآية صريحة في إخراج الطعام دون المال.
أما إن كان المال متوفراً والطعام متوفراً، فإن حدة القول بأن القيمة لا تجوز ستخف قليلاً وهذا رأي له وجاهته من ناحية المعنى، وقد قال به الأحناف، فنكون بهذا وقرنا قول الأئمة الثلاثة بقولنا: كفارته إطعام عشرة مساكين في حالة عدم توفر الطعام.
فإذا كان الطعام متوفراً والأموال متوفرة، ومن الممكن أن الفقير يختار مكان الطعام الذي سيأتي إليه أي نوع هو يشتهيه، فهل سيصبح في فسحه أم في غير فسحة؟ وهذا كله لا يقاوم النص: (فكفارته إطعام عشرة مساكين) ، ولكن القضية في فهم هذا النص، وهو الإطعام عند عدم الاستفادة من العملة.
يوضح هذا: أنك تكون أمام الحرم لتخرج زكاة الفطر، وتخرجها في الغالب أرزاً، فتجد أمام الحرم من يبيع أكياس أرز، والكيس بثمانية ريال، فتأخذ الكيس منه ثم تسلمه لواحد من الفقراء، فيعود الفقير إلى البائع ويبيعه منه بستة ريال، ثم يذهب لمتصدق آخر؛ إذ يجوز للفقير أن يبيع زكاة الفطر ويستفيد منها، فلقائل أن يقول: لو أنا أخذنا برأي الأحناف وسلمنا الرجل ثمانية ريال كاملة لكان لذلك وجهه! وخلاصة المقال أن الجمهور على أن الكفارة إطعام فحسب، ولكن نحن نورد أن مخرج كلام الجمهور في أزمنة قد تكون الأطعمة فيها أقل من الأموال، كما نقول: إن حالة وجود المال والطعام الجمهور فيها على أن الكفارة كذلك لا تكون إلا طعاماً.
وأما مقدارها فهي وجبة واحدة لكل فرد أي: عشر وجبات.
وأما صفتها فقد قال تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89] .
وأما تقديم الصيام على الإطعام فلا يجوز ما دمت تستطيع الإطعام.(51/27)
قبض تعويضات حرب الخليج
السؤال
ما حكم تعويضات حرب الخليج؟
الجواب
خذها واستمتع بها.(51/28)
الزيادات الواردة في أحاديث افتراق الأمم
السؤال
ما صحة حديث: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار) .
الجواب
كل الزيادات التي وردت في هذا الحديث بعد قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) فيها نظر، فالحديث: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) إلى هذا القدر حسنٌ، وكل زيادة بعد ذلك، كزيادة (وكلها في النار) ، و (الجماعة) ، و (السواد) ، متكلمٌ فيها، ليست متكلماً فيها من المعاصرين، بل من الأوائل رحمهم الله تعالى، وقد أفردت رسائل لبعض إخواننا في بيان ذلك كله، فليراجعها من شاء.(51/29)
عورة المرأة المسلمة عند النصرانية وحدودها
السؤال
ما هي عورة المرأة المسلمة بالنسبة للمرأة النصرانية؟ وهل المراد بالنساء في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] إلى قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] جنس النساء، أو المراد بالنساء نساء المؤمنين؟
الجواب
فيه قولان لأهل العلم، والذي يترجح أن المراد جنس النساء؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها دخلت عليها يهودية فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كذبت يهود) ، ثم أوحيَ إليه أن هذه الأمة تبتلى في قبورها.
ففي هذا الحديث كانت اليهودية تدخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
فالحاصل أن عورة المسلمة بالنسبة لغير المسلمة على هذا التأويل الثاني تكون كعورتها بالنسبة لسائر النساء، وهو ما يظهر غالباً من المرأة للمرأة، والله أعلم.(51/30)
السنة في لبس العمائم
السؤال
كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس العمامة؟
الجواب
لا أعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس العمامة، إلا أن هناك حديثاً أورده ابن القيم في زاد المعاد من طريق مجاهد عن أم هانئ قالت: (دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وله عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه له أربع غدائر) ، إلا أن مجاهداً لم يسمع من أم هانئ، فالبس العمامة كما تيسر لك، إلا أن ما يتعمم به جماعة التبليغ كأنه الأقرب إلى السنة، والله تعالى أعلم.(51/31)
الصغار وخواتيم الذهب
السؤال
هل يجوز إهداء الطفل الصغير خاتم ذهب؟
الجواب
يجوز إهداء الطفل الصغير خاتماً من ذهب؛ لما جاء في الحديث (أن النبي عليه الصلاة والسلام أتاه خاتم من عند النجاشي فناوله أمامة بنت ابنته زينب كالكاره له) .
لكن هل يلبس الصغير ما يحرم على الكبار؟ الجواب: ورد في الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:، فقال له: ادع لك الصغير -أي: الحسن أو الحسين - فذهب أبو هريرة رضي الله عنه يدعوه، فإذا بـ فاطمة رضي الله تعالى عنها تخرجه وقد ألبسته سخاباً) ، والسخاب -كما يقول بعض العلماء- هو كالعقد، فالطفل يُتجوّز في حقه بعض التجوزات في مسائل الملبس خاصةً، وإن كان العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى يكره الذهب للأطفال حتى لا ينشأوا على هذا، والله سبحانه وتعالى أعلم.(51/32)
معنى ورود جهنم المذكور في سورة مريم
السؤال
ما معنى الورود في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] ؟
الجواب
قال فريق من أهل العلم -ويكاد ينعقد قول الجمهور على ذلك-: إن المراد بالورود: المرور على الصراط، والله سبحانه وتعالى أعلم.(51/33)
أذان الفجر ولقمة الصائم في فمه
السؤال
إذا نوى رجلٌ الصيام، وكان في فمه طعامٌ فأذن لصلاة الفجر هل يلفظ ما في فمه أم يأكله؟
الجواب
يأكله ولا حرج.(51/34)
إحباط العمل بترك صلاة العصر ومعناه
السؤال
هل ترك صلاة العصر يُحبط العمل؟
الجواب
نعم.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) .
السؤال: ما معنى إحباط عمل تارك صلاة العصر؟ الجواب: إحباط عمل تاركها ينبني على أشياء.
فإن كان ترك صلاة العصر جحوداً لها فتحبط جميع الأعمال ويكفر بذلك، وإن كان ترك صلاة العصر تكاسلاً فقد قال فريق من أهل العلم: يحبط عمل يومه ذلك.
والقواعد الكلية لأهل السنة والجماعة تفيد عدم التكفير إلا عند الجحود، وهذا رأي الجمهور.(51/35)
صلاة سنة الفجر بعد الفريضة
السؤال
هل يجوز أداء ركعتي سنة الفجر بعد صلاة الفجر؟
الجواب
نعم.
يجوز ذلك؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها) .(51/36)
إيثار الدعاء بين الأذان والإقامة على السنة القبلية
السؤال
هل يجوز ترك السنة القبلية لأجل الدعاء بين الأذان والإقامة؟
الجواب
لا يشرع ذلك، بل يكره كراهية شديدة.(51/37)
الجمع بين ملك النخل وقوله تعالى: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير)
السؤال
إذا كان الإنسان يملك النخل بأكمله فما الجواب على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13] ؟
الجواب
السائل بعيد، فالإنسان لا يملك شيئاً، بل يموت ويترك كل شيء لله سبحانه وتعالى.(51/38)
مدى صحة النهي عن صيام يوم السبت، وما ورد مما يخالفه
السؤال
ما صحة ومعنى حديث: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) ؟
الجواب
الحديث ضعيف حكم عليه خمسة من الأئمة الأولين بالضعف، فقد قال الإمام مالك رحمه الله تعالى فيه: هذا حديث كذب، وقال أبو داود رحمه الله تعالى: هذا حديث مضطرب.
فضعفه خمسة من الأوائل، وإن كانت له أسانيد يُحكم عليها في الظاهر بالحسن إلا أن هؤلاء الخمسة الأئمة على تضعيف هذا الحديث.
وأما من ناحية المعنى فإن المعنى ضعيف كذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يصومن أحدكم الجمعة إلا ويوماً قبله أو يوماً بعده) ، واليوم الذي بعده هو السبت يقيناً، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوما) ، فمن حافظ على هذا فسيصوم السبت يقينا، وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالثلاث البيض من كل شهر) ، وبالمحافظة عليها يأتي فيها السبت يقيناً على مدار العام.
أما أن يفهم من هذا الحديث أنه لا يصام السبت حتى وإن كان يوم عرفة فهذا فهم خاطئ، ولم يقل به السلف، بل جماهير السلف رحمهم الله تعالى على خلافه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فإن صح الخبر فهو منزلٌ على من يخصص يوم السبت لاعتقاد منه على أن في ذلك خيراً، فسيكون قد خصص السبت وشابه اليهود في تخصيصهم السبت من دون الأيام؛ إذ اليهود يسبتون يوم السبت، ويؤخرون الأعمال فيه، ويعتقدون أن في السبت فضيلة، فإن فعلت وأنت تعتقد هذا الاعتقاد اليهودي فلا شك أنك مذموم.(51/39)
تفسير سورة الحديد [2]
الصدقة من أعظم أعمال البر، لكنها لا تقبل إلا بشروط يجب توافرها، والمؤمنون يحرصون على تحقيق هذه الشروط، ولذا فأعمالهم الصالحة يقبلها الله منهم، ويكون لهم بذلك نور يوم القيامة، بخلاف المنافقين الذين ينطفئ نورهم على الصراط، وهم في أمس الحاجة إليه، فيقعون في جهنم وبئس المصير.
وقد رغب الله عباده في الخشوع، وعاتبهم على ضعفه في قلوبهم، وحذرهم من قسوة القلوب، ومن كمل إيمانه فهو من الخاشعين الصديقين، والصديق أعظم رتبة من الشهيد، فعلى المسلم أن يتعاهد قلبه بأسباب الخشوع.(52/1)
تفسير قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11] .
هذه الآية فيها حث وترغيب على الإنفاق في سبيل الله، فيقول الله سبحانه: ((مَنْ ذَا الَّذِي)) أي: من هو هذا الرجل؟ ومن هو هذا الشخص ((الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)) ؟(52/2)
شروط القرض الحسن
والقرض الحسن ضبطه العلماء بضوابط، فقالوا: كي يكون القرض حسناً ينبغي أن تتوافر فيه شروط: منها: أن يكون هذا القرض من كسب طيب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنّى يستجاب لمثل ذلك؟!!) ، وفي مطلع هذا الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، فمن شروط القرض الحسن أن يكون من كسب طيب.
ومن شروط القرض الحسن: أن يبتغى به وجه الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] .
ومن شروط القرض الحسن: ألا يتبعه منٌ ولا أذى؛ فإن المنّ والأذى يبطلان الصدقات، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] .
وأيضاً: ألا يكون مع هذا القرض الحسن هتك ستر ولا فضيحة لمن تُصدق عليه، ولذلك جاءت الأوامر بإخفاء الصدقات، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) فللقرض الحسن شروط، وقد فهم هذه الآية الكريمة صنفان من الناس، فصنف فهمها على الوجه اللائق بها، وعلى مراد الله سبحانه وتعالى، وصنف آخر جاهل فهمها على وجه آخر، وهذا الصنف الغبي الجاهل هم اليهود، جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد! إن ربك فقير يسألنا الصدقة.
وفيهم يقول ربنا سبحانه: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:181-182] .
والصنف الآخر الذي فهمها على الوجه اللائق بها هم أهل الإيمان، فلما سمع أبو الدحداح الأنصاري رضي الله تعالى عنه هذه الآية قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله سبحانه وتعالى يقول: ((مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ)) وإني أشهدك -يا رسول الله! - أن حائطي -أي: بستان له كان به نخل كثيرة- صدقة لله ورسوله أرجو برها وذخرها عند الله سبحانه.
فأثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليه بقوله: (ربح البيع أبا الدحداح) ، فانطلق هذا الرجل إلى زوجته وأولادهما في البستان، فقال لهم: إني قد أقرضت ربي عز وجل هذا الحائط.
فخرجت تجمع عليها ثيابها وتأخذ بين يديها أولادها، مثنية على فعل زوجها، راضية بهذا الفعل، وتركوا الحائط لله ورسوله! فالله سبحانه يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} .
والتضعيف قد يصل إلى سبعمائة ضعف، وقد يزيد على السبعمائة ضعف، وقد يكون إلى عشرة أضعاف فقط، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] ، وقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] ، ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] ، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (من تصدق بصدقة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها منه، فيربيها له كما يربي أحدكم مهره أو فلوّه، حتى تأتي يوم القيامة كالجبل العظيم) ، ولا اعتراض على أفعال الله سبحانه، ولا على رزق الله سبحانه، فقد تتصدق بجنيه واحد، ويتصدق أخ لك بجوارك بجنيه، وثالث يتصدق بجنيه، لكن ربنا يضاعف لهذا صدقته إلى ملايين، ويضاعف لذاك صدقته إلى سبعمائة، ويضاعف لهذا صدقته إلى عشر أمثالها، وذلك كله مرده إلى الله سبحانه وتعالى، فجدير بمن تصدق أن يطلب من الله سبحانه تضعيف الأجر ومزيد الثواب.(52/3)
تفسير قوله تعالى: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم)
قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] ، وهذا يكون يوم القيامة كما قال جمهور المفسرين، فأهل الإيمان يتقدمهم نورهم إلى الأمام وعن الأيمان، وهذا النور على قدر الأعمال، فمن كانت أعماله الصالحة كثيرة فإن النور يشتد له، ويمر بهذا النور على الصراط، ويجتاز بهذا النور الظلمات، ومن قلّت أعماله قلّ نوره، ومنهم من يطفأ نوره مرة.
ويضيء أخرى، فالله سبحانه يقول: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] ، ومعنى: (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي: أمامهم، ودعاؤهم بقولهم: ((رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) إذا تدبرته وعلمت ملابساته، لم تفارق الدعاء به في حياتك الدنيا، فمتى يصدر هذا الدعاء من أهل الإيمان؟ ومتى يقول أهل الإيمان هذا الدعاء؟ ما ذكر المفسرون في هذه الآيات أن النور يقسم على كل من قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، في مكانٍ ما، وكلٌ يأخذ حظه من هذا النور على قدر أعماله، وينطلق بهذا النور كي يجتاز به الظلمات، ويمر به على الصراط، فيمرون على الصراط، فمنهم من يمر على الصراط كالبرق، ومنهم من يمر على الصراط كالريح، ومنهم من يمر على الصراط كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر مسرعاً، ومنهم من يمر ماشياً، ومنهم من يمر بطيئاً، ومنهم من يمر زاحفاً، ومنهم من يتعثر مرة ويمر مرة، ومنهم من يسقط مكدوساً في جهنم والعياذ بالله، فهذا النور على قدر الأعمال، فهناك مكان تقسم فيه الأنوار، وكلٌ يأخذ نوراً على قدر عمله، فينطلق أهل الإيمان ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وينطلق معهم أيضاً من قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) بلسانه من أهل النفاق، ففجأة تطفأ أنوارهم، فيقولون لإخوانهم من أهل الإيمان -كما حكى الله تعالى عنهم- ((انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)) قد فقدنا الأضواء التي كنا نستضيء بها.
وفي قراءة: (انظرونا) ، وفي قراءة: (أمهلونا) ، وفي ثالثة: (ارقبونا نقتبس من نوركم) .
{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13] .
اختلف العلماء في القائل: (ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً) ؟ من أهل العلم من قال: إن الله هو القائل.
ومنهم من قال: إن الملائكة هم الذين يقولون.
ومنهم من قال: إن أهل الإيمان هم الذين يقولون.
لكن أُبهم القائل في السياق، فلا معنى للبحث عن القائل، وعلى كلٍ لا يقال شيء بغير أمر الله سبحانه وتعالى.
{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} فيذهب أهل النفاق إلى حيث كانت الأنوار تقسم فلا يجدون أنواراً، فيرجعون مسرعين إلى أهل الإيمان؛ كي يستضيئوا بنورهم مرةً ثانية، {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} أي: تجاه أهل الإيمان {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:13-14] ، فهذه الخدعة يخدع الله بها أهل النفاق، كما قاله كثيرٌ من أهل التفسير في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ، فهذه أكبر خدعةٍ يخدع بها أهل النفاق في الآخرة والعياذ بالله، فلما يرى أهل الإيمان أن أنوار أقوام أطفئت يتوسلون إلى ربهم، ويتجهون إلى ربهم، ويجأرون إلى ربهم بالدعاء قائلين: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] .
فقوله تعالى: ((يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى)) أي: أهل النفاق ينادون أهل الإيمان: (ألم نكن معكم) ؟ ((قَالُوا بَلَىوَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ)) أي: شككتم في البعث وشككتم في التوحيد، قال تعالى: ((وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ)) ، أي: تلك الأماني الكاذبة التي تضل أهلها، قال تعالى: ((حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)) .
قال تعال: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد:15] ، أي: فداء، {وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:15] .(52/4)
تفسير قوله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله)
ثم قال تعالى حاثاً عباده المؤمنين على الإيمان، ومستبطئاً لهم في عدم مبادرتهم إلى الخشوع: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] ، أي: ألم يحن لهذه القلوب القاسية أن تلين لذكر الله وما نزل من الحق؛ فإن هذا الذي نزل من الحق، يليّن الحجارة إذا نزل عليها، كما قال سبحانه: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] ، وكما قال سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] .
فيقول الله لأهل الإيمان: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} ، وبهذا يكتشف المؤمن نفسه، ويعرف المسلم نفسه، وقد قدمنا أنه لم ينزل عليك وحيٌ يفيدك أنك على خير، ولكن ثم نصوصٌ تستطيع بها قياس نفسك ومعرفة أمرها، فالله ذكر أهل الإيمان فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] ، فقس نفسك على هذا، فهل أنت من هذا الصنف الذي قال تعالى فيه: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] ، أم أنك لست منهم؟ كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأهل الجنة ثلاثة -وممن ذكر منهم-: رجلٌ رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم) ، فانظر هل أنت هذا الرجل الرحيم رقيق القلب، تحزن إذا أصيب أخوك المسلم بمصيبة، وتحزن إذا حلت بأخيك المسلم فضيحة، أم أنك لست من هذا الصنف؟ فهذه مقاييس تقيس بها نفسك، قال الله سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23] ، فانظر إلى نفسك واكتشفها في حياتك الدنيا، فهل دمعت عينك لله سبحانه؟ وهل رقّ قلبك لذكر الله سبحانه؟ وهل رق قلبك للأيتام وللأرامل وللمساكين؟ أم لست من هذا الصنف؟ قس نفسك فأنت بها أخبر، وأنت لها طبيبٌ بإذن الله، قال الله سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] .
وفي قوله تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} قولان مشهوران لأهل العلم: أحدهما: طال عليهم الأمد في النعيم، فلما طال عليهم الأمد في النعيم نسوا الذكر وكانوا قوماً بوراً.
أي: نعّموا وأغدقت عليهم النعم، فلما نعّموا وأغدقت عليهم النعم كفروا ربهم وخالقهم سبحانه، فلم يقوموا بشكره، ولم يتضرعوا إليه، كما قال الله سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، وكما قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:83] ، إلى غير ذلك من الآيات.
فعلى هذا القول يكون المعنى: طال عليهم الزمن في النعيم، فمتعوا متاعاً طويلاً، ولم يصابوا بالمصائب، ولم يبتلوا بالبلايا، ولم يتضرعوا إلى الله، ولم يشعروا بحال الضعفاء وبحال المساكين وبحال المرضى؛ فإن المصائب وأنواع الفقر وأنواع البلايا التي يصاب بها الإنسان تردّ الإنسان رداً جميلاً إلى الله سبحانه وتعالى، وتذكره بأحوال إخوانه الجائعين، وبأحوال إخوانه العارين، وبأحوال الأيتام، وبأحوال المساكين، وقد قال ربنا جل ذكره: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27] .
فهذا هو المعنى الأول في تفسير قوله تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} أي: فطال عليهم العمر في النعيم، كقوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء:44] ، فطال عليهم العمر في النعيم؛ فنسوا ذكر الله، ولم يرفعوا أيديهم إلى الله سبحانه، ولم يسألوه ولم يرجوه.
والمعنى الثاني في قوله تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} أي: طال عليهم زمن البعد عن التذكير، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم، كلما هلك نبيٌ خلفه نبيٌ آخر) ، فكان الأنبياء من بني إسرائيل يذكرون بني إسرائيل إلى أن جاء عيسى عليه الصلاة والسلام، فرفع الله عيسى صلى الله عليه وسلم، ولم يكن بين عيسى صلوات الله وسلامه عليه وبين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أنبياء، فهذه المدة التي لم يأت فيها أنبياء بين عيسى عليه السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قل فيها المذكرون بالله، فطال على بني إسرائيل وعلى أهل الكتاب الأمد -وهو الزمن- وبعدوا عن التذكير وعن الذكرى، فلما طال عليهم الأمد في البعد عن التذكير قست قلوبهم.
فيؤخذ من هذا أن الذي يبتعد عن التذكير، ويبتعد عن مواعظ الذكر يقسو قلبه، ولذلك يتعين على كل مسلم أن يحافظ على الواعظ التي فيها تذكير بالله سبحانه، وفيها تذكير بلقاء الله، وفيها تذكيرٌ بالموت، وبذلك وعلى ذلك حثنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب ربنا الحث على ذلك، وقد قال تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] ألا وهي تذكر الدار الآخرة.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام (يتخول أصحابه بالموعظة كراهية السآمة عليهم) أي: يعظهم بين الحين والآخر، قال العرباض بن سارية رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون) ، وفي الحديث (أن موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل فوعظهم موعظةً بليغة حتى أبكاهم) ، وقال سبحانه وتعالى: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] ، فينبغي أن يحافظ المرء منا على المواعظ التي فيها وعظ وفيها تذكير بالله وفيها فوائدٌ، وفيها تذكير بلقاء الله وبالموت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) ، فينبغي أن تحافظ في هذا الجانب بين الحين والآخر، واستمع إلى المواعظ حتى يرق قلبك؛ فإن الله سبحانه ذكر سبب قسوة القلب في هذه الآية فقال: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: لما ابتعدوا عن الذكر قست هذه القلوب؛ فإن التذكير يطهر القلوب ويحييها، وكذلك المصائب تحيي القلوب، فلذلك هذه الآية الكريمة جمعت المعنيين معاً، فطال عليهم زمن البعد عن التذكير، وطال عليهم الأمد في النعيم، فقلت عليهم المصائب، فماتت قلوبهم لقلة البلايا والمصائب، والبلايا والمصائب قد تحرك القلب، فقد لا يتحرك القلب أحياناً بموعظة ولكنه يتحرك بابتلاء، وقد لا يتحرك القلب بسماع آية من كتاب الله أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إذا فوجئ الشخص -مثلاً- أن المصباح قطع فإنه حينئذٍ يبدأ بالتضرع والرجوع واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وقد لا يتحرك الشخص من موعظة، ولكنه لما يرى أولاده مرضى أو جياعاً أمام عينيه يتحرك قلبه! قال تعالى: {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] أي: خارجون عن الطاعة.
وقد روي أن هذه الآية كانت سبباً في هداية طائفةٍ من السلف، ومن أشهرهم الفضيل بن عياض العابد المشهور في تاريخ المسلمين، كان يقطع الطرق، ويسطو على البيوت، ويغازل النساء، ويفعل المحرمات والموبقات، ويرعب الناس المارة في الصحاري وفي البراري وفي القفار، فسطا يوماً على منزل من المنازل، وبينما كان يصعد الجدران للسطو على منزل لإيذاء أهله سمع تالياً يتلو هذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] ، وأراد الله له الهداية، فقال: بلى -يا رب! - قد آن أن يخشع قلبي لذكرك.
وعاهد الله ألا يعصي بعد ذلك، ولا يسفك دماً، ولا يقطع طريقاً، فنزل عازماً على التوبة، فمر به قومٌ وهو مستترٌ عن أعينهم فقالوا: أسرعوا في المسير؛ فإن هذا المكان به قاطع الطريق المشهور الفضيل بن عياض، فازداد حسرةً وندامة على ما صنع، وعندما سمع منهم هذه المقالة عزم على العكوف في بيت الله الحرام يتلو آيات الله آناء الليل ويركع ويسجد، واستقام على ذلك إلى أن قبضه الله سبحانه وتعالى، وثم قصص لغيره أيضاً.(52/5)
تفسير قوله تعالى: (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها)
قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] .
اختلف العلماء في وجه الربط بين قوله تعالى: ((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) ، وقوله تعالى: ((اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)) ؟ فمن أهل العلم من قال: لا يلزم أن يكون هناك ربطٌ بين الآية والآية التي تليها، لكن أحياناً يكون هناك ارتباطٌ وثيق، وهنا ارتباط وثيق بين هذه الآية والتي تقدمتها، فالله يقول: ((اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)) أي: فكما أن الأرض يحييها الله سبحانه وتعالى بالماء الذي ينزل من السماء فكذلك القلوب يحييها الله سبحانه وتعالى بالوحي الذي ينزل من السماء.
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل عليه بالغيث في قوله: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضاً) .
الحديث، فكما أن الأرض يحييها الله سبحانه وتعالى بالماء فكذلك القلوب يحييها الله سبحانه وتعالى بالإيمان، ويحييها الله بالوحي وبالقرآن، قال الله سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122] .
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: أحياها الله سبحانه بهذا الوحي، قال جبير بن مطعم: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الطور، وكنت آنذاك مشركاً، فلما قرأ قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] كاد قلبي أن يتصدع، وفي الرواية الأخرى: أن يطير، {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17] .(52/6)
تفسير قوله تعالى: (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً)
قال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18] .
اشتملت الآية على ذكر النساء أيضاً لحثهن على الصدقة، وكان يكفي أن يقال: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ) ويدخل فيهم النساء، لكن نص على ذكر النساء أيضاً لحاجتهن إلى التصدق، فقد خصهن رسول الله أيضاً بذلك، وبعد أن خطب خطبة العيد اتجه إلى النساء فقال: (يا معشر النساء: تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار.
قلن: بم يا رسول الله؟! قال: تكثرن اللعن، وتكفرنّ العشير ... ) .(52/7)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
في هذه الآية يقال: هل الوقف على قوله تعالى: (الصِّدِّيقُونَ) أم على قوله: ((وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) ، فهل يقال: إن الله سبحانه وتعالى قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، ثم جاء أجرٌ آخر للجميع: فقال تعالى: ((لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)) ، أم يقال: إن الوقف عند قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ، وتم المعنى، ثم قال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، ثم ذكر صنفاً ثالثاً فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
فالوقف كثيراً ما يكون للعلماء فيه وجهان، ولذلك نقول: إن علامات الوقف الموضوعة في المصاحف لا تؤخذ -فقط- من أهل التجويد ومن أهل القراءات، بل أيضاً من علماء التفسير، فعلماء التفسير يستطيعون ضبط المعاني، ومن ثم ضبط علامات الوقف، فأحياناً يكون عالم من علماء القراءات -مثلاً- يفهم الآية على معنىً من المعاني، ويكون في التفسير متسع، فيقول بوضع علامة الوقف على كلمة، ويخالفه آخرون في موضع الوقف لفهمهم الآية على معنى آخر.
مثال ذلك: علامة الوقف اللازم عند قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26] ، فمن العلماء من يضع فوق قوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} ، علامة الميم التي تعني: الوقف اللازم، وهذا ينبني على أن الذي قال: (إني مهاجرٌ إلى ربي) ، هو إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ لأنك إذا وصلت فقرأت: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} ، فالضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو لوط صلى الله عليه وسلم، فيكون القائل: إني مهاجرٌ إلى ربي، وهو لوط صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء على أن الذي قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} ، هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لقوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] ، لكن هذا أيضاً ليس بنافٍ أن يقول لوط عليه الصلاة والسلام: (إني مهاجر إلى ربي) ، خاصةً أن لوطاً صلى الله عليه وسلم كان في بلدة ليست له فيها قبيلة، وهذا أحد الأقوال في تفسير قول لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80] ، قال فريق من المفسرين: لم تكن له قبيلة في هذه البلدة؛ فقال هذه المقالة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ، يقال: هل كل مؤمن بالله ورسله يعد صديقاً من الصديقين، أم أن في هذا الأمر تفصيلاً؟ والجواب لاشك أنه لا يقال: إن كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يعد صديقاً من الصديقين.
وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام وصف بعض أصحابه فقط بالصديقية، فقال عليه الصلاة والسلام لما صعد جبل أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان: (اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء.
قالوا: تلك منازل الأنبياء -يا رسول الله- لا يبلغها أحد غيرهم! قال: كلا.
والذي نفسي بيده.
رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين) .
والمؤمنون في الجنة، لكنهم في درجات دون هذه الدرجات العلى.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) ، ففيه إشعار بأنه لا يكتب كل شخصٍ صديقاً، إنما الذي يصدق ويتحرى الصدق، يؤول به التحري للصدق إلى أن يكتب عند الله صديقاً، وكذلك قال الله سبحانه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] ، فوصفت مريم عليها السلام بالصديقية، فلا يقال يقيناً: إن كل من قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صديق من الصديقين.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ)) ؟ قلنا: المعنى: والذين كمل إيمانهم بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم.
ويؤيد هذا المعنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع، وذكر منهن مريم عليها السلام) ، فقد كمل إيمانها فكانت صدّيقة، وأبو بكر رضي الله عنه لما كمل إيمانه، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام في خبر الإسراء والمعراج بلا تردد وصف بالصديقية.
فيقال في قوله تعال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} أي: الذين كمل إيمانهم بالله ورسله أولئك هم الصديقون.(52/8)
أيهما أرفع الصديق أم الشهيد؟
جاء ذكر الشهداء فقال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، فهل الصدّيق أرفع درجة أم الشهيد؟ والظاهر من سياق الآيات أن الصديق دائماً يقدم على الشهيد في الذكر، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، وقال تعالى هنا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، وقال عليه الصلاة والسلام: (اثبت أحد! فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) ، وقد وصف في القرآن يوسف صلى الله عليه وسلم بالصديقية، وهو نبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد أنه قُتل شهيداً عليه الصلاة والسلام، قال تعالى حكاية عن رسول الملك إلى يوسف: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46] ، ووصفت مريم بالصديقية وهي كاملة الإيمان عليها السلام، فأحياناً قد يفوق الشخص الشهداء وهو لم يقتل في سبيل الله، فإذا كان الإيمان في قلبه كبيراً هائلاً فقد يفوق الشهداء في الرتبة.
وإن لم يقتل فـ أبو بكر رضي الله عنه لم يقتل شهيداً رضي الله عنه، فلم يقتل بضربة سيف ولا بطعنة رمح، ومع ذلك فـ أبو بكر -باتفاق أهل السنة- أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضل من الصحابة الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرتبة أبي بكر أعلى من مراتبهم، بدليل حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أبو بكر وعمر سيدا شيوخ أهل الجنة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم) رضي الله تعالى عنهما، وفي الحديث: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله: هذا خير.
فإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد) .
الحديث، وفيه أن أبا بكر يدعى من تلك الأبواب جميعها.
فهذا يفيد أن أعمال البر -سواء أعمال القلوب أو أعمال البدن- قد تدخل الشخص عالي الجنان وإن لم يقتل شهيداً، بل ويفوق مراتب الشهداء، فهذا لا بد أن يوضع في الاعتبار، فلا تأخذ الأحاديث الواردة في فضل الشهيد في سبيل الله وتترك سائر الأحاديث الواردة في أصناف أُخر من الدعاة إلى الخير، ومن القائمين على الأيتام، ومن القائمين على الأرامل، ومن القائمين على مشاريع الخير، ومن العاملين لأعمال البر، فهذه أبواب، (وكلٌ ميسر لما خلق له) ، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} .
أبهم ذكر أجرهم لعظمته، فلهم أجرهم الذي تكفل به ربنا سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ، كأنه قد عقدت صداقة بينهم وبين الجحيم، فقيل عنهم: إنهم أصحاب الجحيم.
أي: أصدقاء الجحيم بينهم وبينها صداقة، فهي تتولاهم، وهم نزلاؤها وهم سكانها، وهي مولاهم وبئس المصير.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمد.(52/9)
الأسئلة(52/10)
فضيلة العمرة في رمضان
السؤال
ما حكم العمرة في رمضان؟
الجواب
تفاصيل العمرة لا يتسع الوقت لذكرها، لكن ما يصنعه إخواننا المصريون على وجه الخصوص من الذهاب إلى مسجد التنعيم ليأتوا بعمرة أخرى بعد أن يعتمروا عمرتهم التي أهلوا بها من الميقات، وكلٌ يأتي من مسجد التنعيم بعمرة، أو بعمرتين، أو بعشر عمرات عن أمه، أو عن أخته، أو عن خالته لم يرد عن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، والذي يقول بذلك عليه أن يثبت لنا ذلك بآثار عن الصحابة تفيد ذلك، فما ورد إلا فعل أم المؤمنين عائشة، وكان لعلة لا تخفى، فإن أم المؤمنين عائشة خرجت حاجة، فلما أهلت بالحج واقتربت من مكة حاضت، فلما حاضت انتظرت، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) ، فانتظرت ودخلت عليها أيام الحج، وقد أهلت بعمرة، وقالت في الميقات: (لبيك اللهم لبيك، لبيك عمرة) ومشت، وعلى المعتمرة أن تطوف وأن تسعى، لكنها حاضت، فلما حاضت ونهاها الرسول صلى الله عليه وسلم عن الطواف حال حيضها لم تطف طواف عمرتها، فدخلت عليها أيام الحج، وجاء يوم التروية فبدأ الناس يهلون بالحج: (لبيك اللهم لبيك، لبيك حجاً) ، وعائشة رضي الله عنها أهلت بالعمرة، تكن انتهت منها بعد، فإن انتظرت حتى تطهر، فقد لا تطهر إلا بعد يوم عرفة، فيفوتها الحج، فسألت النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا أصنع؟ قال لها عليه الصلاة والسلام: (ارفضي عمرتك) ، أي: انقضي عمرتك.
وفي رواية أنه قال لها: (أهلي بالحج) ، فرفضت العمرة، أو أقرنت بالحج -أي: أدخلت على عمرتها الحج- فقالت: (لبيك اللهم لبيك، لبيك حجاً) ونقضت العمرة التي لم تنته منها، فذهبت إلى عرفات، ورجعت من عرفات إلى منىً، ورمت الجمار مع المسلمين، وبعد أن طهُرت طافت بالبيت طواف الحج، وبعدها أراد الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه أن ينصرفوا، فدخل عليها فإذا هي تبكي، فقال: (لم تبكي؟!) .
قالت: كل أزواجك يرجعن بحجة وعمرة، وأنا أرجع بحجة يا رسول الله! قال: (اذهب بها يا عبد الرحمن إلى التنعيم فأعمرها من التنعيم) ، فذهب بها عبد الرحمن إلى التنعيم، فأعمرها من التنعيم، ولم يرد أن عبد الرحمن نفسه أحرم معها بالعمرة، ولو كان فيه خير لاعتمر معها رسولنا عمرة لنفسه إضافية، فالعمرة مأجور فاعلها، فجاءت عائشة بعمرة أخرى من التنعيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذه مكان عمرتك التي نقضتيها) ، فتمسك بهذا بعضهم وقالوا: يشرع أن تعمل عمرة من التنعيم؛ لأن أم المؤمنين فعلت ذلك، ويذهب إخواننا كل يوم -وأنت في المسجد الحرام معتكف- من مكة إلى التنعيم، وبعضهم يأتي في اليوم بخمس أو ست عمرات، أو بعشر عمرات، فبأي دليل هذا؟ ومَن مِنَ الصحابة فعل ذلك؟! وأين الأسانيد إليهم بهذه الأفعال؟! وهل فعلها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أو لم يفعلها؟! والرسول عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع عمرات، فاعتمر عليه الصلاة والسلام عمرة القضية، ويسمونها عمرة القضاء، وهي العمرة التي كانت بعد العمرة التي صد فيها عن المسجد الحرام يوم الحديبية، فصده أهل مكة عند الحديبية، ووقع بينهم الصلح المشهور، واتفقوا أن يأتي من العام القادم بعمرة مكان تلك العمرة التي صد فيها عن المسجد الحرام، وسميت عمرة القضية للمقاضاة التي وقعت بين الرسول وبين أهل الشرك، وسميت عمرة القضاء لأنها قضاء عن العمرة التي صُدّ عنها الرسول عليه الصلاة والسلام.
والخلاف في هذه التسمية -أي: تسمية عمرة القضية قضاء- ينبني عليه أن يقال: من ذهب إلى عمرة وحيل بينه وبين تمامها، فهل يشرع له أن يعتمر من العام المقبل مكانها، أم لا يشرع؟ فالذين قالوا: سميت بعمرة القضاء لأنها قضاء عن العمرة السابقة.
قالوا: يستحب له أن يقضي العمرة التي فاتته.
ومن قال من أهل العلم: سميت بعمرة القضية للمقاضاة التي دارت بين رسول الله وبين المشركين قالوا: لا يشرع له القضاء عن التي أحصر عنها، بل يتحلل ولا شيء عليه.(52/11)
حكم تحية المسجد أثناء خطبة الجمعة
السؤال
هل يصلي تحية المسجد أثناء خطبة الجمعة؟
الجواب
قد أتى نص عن رسول الله: (إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليركع ركعتين خفيفتين) ، فهذا نص عن النبي عليه الصلاة والسلام في جواز تحية المسجد أثناء خطبة الجمعة.(52/12)
جندي في الجيش لم يذهب إلى البوسنة تحت رعاية الأمم المتحدة
السؤال
عندما كنت بالجيش عُرض عليّ أن أذهب إلى البسنة مع الجيش المصري الذي يعمل هناك تبعاً للأمم المتحدة، فرفضت أن أذهب خوفاً من أن أقتل، فهل هذا فرار من الجهاد؟
الجواب
لست فاراً من الجهاد، ولا شيء عليك؛ لأن القوات المصرية كانت تحت رعاية الأمم المتحدة، والأمم المتحدة قيادتها كافرة بلا شك، ولا تستطيع أن تذهب ونيتك الجهاد؛ لأنك هناك مأمور، وكيف تضرب المسلمين بالرصاص وتقول: نيتي جهاد؟! فالنية لابد أن تكون صالحة، ويكون العمل صالحاً أيضاً.(52/13)
حديث: (أنتم شرقي نهر الأردن وهم غربيه)
السؤال
حديث (أنتم شرقي الأردن وهم غربيه) ما حاله؟
الجواب
لا يثبت، هو حديث ضعيف تالف جداً، وما أدري من أين يأتي الإخوان بالأحاديث هذه؟! فهي أحاديث ضعيفة واهية، وبعض المشايخ -الله يغفر لهم- يحدثون بها، وهي أحاديث تالفة جداً.(52/14)
صوم التطوع بدون تبييت النية من الليل
السؤال
هل يصح عقد صيام التطوع بدون نية من الليل؟
الجواب
هذه المسألة للعلماء فيها قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لحديث حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صيام لمن لم يبيت النية) ، ولكن الصحيح فيه أنه موقوفٌ على حفصة من كلامها، وقد روي عنها عن رسول الله، لكن أورد الإمام النسائي في سننه ما يؤكد من خلال الطرق التي أوردها أن الصواب فيه الوقف على حفصة من قولها، لكن قال بعض العلماء، وبهذا الحديث، وقال آخرون: يجوز أن تصوم ولو لم تعقد النية من الليل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام (كان يصبح، فيسأل أهل بيته: هل عندكم طعام؟ فإن قالوا: لا.
قال: إني صائم) ، فاستدل به على هذا.
والله سبحانه أعلم.(52/15)
نقل الزكاة
السؤال
هل يجوز نقل الزكاة من بلدةٍ إلى أخرى؟
الجواب
لا أعلم دليلاً يمنع من ذلك، والمانعون يستدلون بحديث: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ، لكن التقدير في قوله عليه الصلاة والسلام: (فترد على فقرائهم) يرجع إلى فقراء المسلمين، لا إلى فقراء البلدة، وهذا قول كثير من أهل العلم، ومن العلماء من أعاد الضمير إلى فقراء البلدة، لكن ثبت (أنه كانت تجبى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زكوات بعض البلدان، أو جزية بعض البلدان،) كما أتى أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه بمال الجزية من البحرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم على من حضره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم) .(52/16)
المشي في المسجد والإمام يخطب
السؤال
هل يجوز أن يمشي أثناء خطبة الجمعة؟
الجواب
لا يجوز أن يمشي في أثناء الخطبة، وكذلك حامل صندوق الزكاة والخطيب يخطب لا يجوز له ذلك.(52/17)
رد السلام والإمام يخطب يوم الجمعة
السؤال
رجلٌ سلم علي أثناء خطبة الجمعة فماذا أفعل؟
الجواب
هذه مسألة مختلف فيها بين العلماء.
فبعض العلماء يرى أنك لا ترد عليه لكي لا ينشغل الناس، ولحديث: (من قال لصاحبه: أنصت، والإمام يخطب فقد لغى) ، ومن أهل العلم -كـ ابن حزم وغيره- من رأى جواز رد السلام، وجواز تشميت العاطس، وجواز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء من قال: ترد إشارةً كالمصلي الذي يرد على من سلم عليه.(52/18)
رد السلام أثناء الصلاة
السؤال
هل يجوز رد السلام في الصلاة؟
الجواب
يجوز رد السلام في الصلاة، فالرسول عليه الصلاة والسلام ثبت عنه في الحديث أنه: (كان إذا سُلم عليه وهو يصلي رد السلام هكذا) ، وفسرها الراوي بأنه عليه الصلاة والسلام يضع بطن يده اليمنى إلى أسفل وظاهر كفه إلى أعلى، وهذا في الصحيح.(52/19)
رد السلام إشارة في غير الصلاة
السؤال
هل يجوز الرد إشارة في غير الصلاة؟
الجواب
يجوز أن ترد إشارة في رأيي، لكن من أهل العلم من يرى كراهية الإشارة التي ليست مصحوبة بتلفظ، كرجل يمشي ويسلم على الثاني بيده لأنه بعيد لا يسمعه، ومن العلماء من يقول: حتى لا تقع في محظور قل: (السلام عليكم مع هذه الإشارة) وإن لم تسمعه؛ لأنه ورد حديث حسنه بعض العلماء كالشيخ ناصر حفظه الله تعالى، وهو حديث: (لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى؛ فإن تسليم اليهود بالأكف، وتسليم النصارى بالإشارة) ، وهذا محمول في ظني -والله أعلم- على الإشارة المجردة عن السلام، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام قد (سلم على نسوة من النساء قعود) وفي رواية من طريق شهر بن حوشب (فألوى بيده في التسليم) عليه الصلاة والسلام، فإذا رددت إشارة فقل معها: وعليكم السلام.(52/20)
حكم الطلاق ثلاثاً
السؤال
ما حكم الطلاق ثلاثاً؟ وهل تقع طلقة واحدة كما قال شيخ الإسلام؟
الجواب
أصاب شيخ الإسلام في هذه المسألة لموافقته الدليل الصريح الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: كان طلاق الثلاث في المجلس الواحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم واحدة، فلما جاء عمر قال: أرى الناس قد تتابعوا على أمرٍ كانت لهم فيه أناه، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم عمر.(52/21)
حكم تعليق ورقة في المسجد لبيان وقت الإقامة
السؤال
عندنا مسجد على طريق المسافرين ودائماً يستعجل المسافرون في إقامة الصلاة، فهل يمكن أن نعلق ورقة ونكتب فيها: الفرق بين الأذان والإقامة في الظهر خمس عشرة دقيقة، والعصر خمس عشرة، والمغرب ركعتان، ونحو ذلك؟
الجواب
هذا أمرٌ محدث لم يكن على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن فعل في مساجد بعض البلاد الإسلامية! فليست مساجد تلك البلاد الحكم ولا الدليل، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا رآهم تقدموا صلى، وإذا رآهم تأخروا أخر الصلاة) أي: على حسب حال المصلين، فإذا رأى أهل بلدة أن من المصلحة أن تضبط أوقات إقامة الصلاة، فلا آتي واعمل بذلك في بلدي على أنه سنة عن رسول الله، وإنما أجاز علماء تلك البلاد هذا بسبب خلافات حصلت في المساجد؛ لأنهم يجبرون على إغلاق المحلات، وهذا فعل حسن جداً، ليس كما عندنا في بلاد الفوضى، فعندهم تقفل المحلات ساعة الصلاة، فكان من الممكن أن يتلاعب العامل ويقول: أنا خرجت أصلي، والإمام أخر إقامة الصلاة نصف ساعة، ويأتي الآخر يقول: ما أخرها نصف ساعة، بل صلاها في وقت كذا، فأرادوا تثبيت الأوقات لمراعاة مصلحة العمل مع رؤساء العمل، فلهم وجهتهم، ولهم اجتهادهم، لكن كوني آتي في بلدي وأنقل نفس ما يفعلون بدون النظر إلى ملابسات أفعالهم فهذا خطأ وتقليد لا وجه له، فإذا احتيج إلى عمل شيء ينظر فيه وفي أقوال أهل العلم، فهنا المسافرون في حاجة إلى الإسراع، فكونك تأتي وتقول للمسافر: انتظر بين الأذان والإقامة ربع ساعة فيه مشقة على المسافر، دعه يصلي في جماعة، أو يصلي الإمام بهم جماعة -ما دام المسجد على الطريق- صلاةً تتناسب مع أحوال المسافرين، لكن ليس لهم أن يصلوها قبل وقتها.(52/22)
حديث: (دلع ابنك سبعاً)
السؤال
ما صحة حديث: (دلع ابنك سبعا وعلمه سبعاً واضربه سبعاً) !
الجواب
لا يثبت.(52/23)
حديث: (اذكروا الفاجر بما فيه)
السؤال
ما صحة حديث: (اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس) .
الجواب
لا يثبت، والمسألة مبنية على المفاسد والمصالح.(52/24)
حكم سنة الجمعة القبلية والبعدية
السؤال
ما الحكم في صلاة سنة الجمعة القبلية والبعدية؟
الجواب
ليست هناك سنة قبلية للجمعة، لكن إذا أتيت المسجد فصلّ ما كتب الله لك أن تصلي؛ لحديث: (إذا ذهب أحدكم إلى المسجد يوم الجمعة فصلى ما كتب الله له أن يصلي) .
الحديث، فصلّ ركعتين، أو صل أربعاً، أو صل ستاً، أو صل ما كتب الله لك أن تصلي، وهذا بالنسبة للقبلية.
أما البعدية التي بعد الصلاة فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه (أنه صلى ركعتين، وثبت عنه أنه صلى أربعاً) ، ومن أهل العلم من يفصل ويقول: إذا صليت ركعتين فصلهما في البيت، وإذا صليت أربعاً فصل في المسجد.
لكن الصحيح أن هذا من فعل عبد الله بن عمر، وليس من فعل رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين أو أربعاً حيثما تيسر له، لكن ابن عمر كان إذا صلى في المسجد صلى أربعاً، وإذا صلى في البيت صلى ركعتين.(52/25)
صلاة النافلة بنيتين
السؤال
هل تجوز صلاة النافلة بنيتين؟
الجواب
تختلف النوافل بعضها عن بعض، فمثلاً: يجوز أن تصلي الاستخارة مع أي ركعتين من النوافل، ويجوز أن تصلي ركعتي الوضوء مع أي ركعتين من النوافل، ومع الاستخارة كذلك، ويجوز أن تصلي تحية المسجد مع ركعتين من السنن.(52/26)
مقدار خطبة الجمعة
السؤال
ما الوقت المحدد المدة لخطبة الجمعة؟
الجواب
ليس هناك وقتٌ محدد، لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قصر خطبة الرجل وإطالة صلاته مئنة من فقهه) يعني: متوقفة على فقه الرجل.
لكن إذا كان الإمام أو الخطيب ليس فقيهاً لن تستطيع أن تقول له: حرام عليك فانزل وإنما يبنى الحكم على قدر المشقة للمصلين، وقدر الكلام الذي يهدى به، فقد يتكلم كلاماً فيه هذيان وثرثرة، وهذا لا يصلح ولو تكلم خمس دقائق، ولو تكلم آخر ربع ساعة، وخطبته كلها من كلام الله وكلام رسوله ولم يطل على الناس فإنه يحمد، والمسألة نسبية، لكن الأصل العام يفيد استحباب التقصير.
والله أعلم.(52/27)
حكم العادة السرية
السؤال
ما الحكم في العادة السرية للشباب؟
الجواب
هذه التسمية ليست مشروعة، وليست على وفق التسميات التي درج عليها العلماء، وإنما يطلقون على هذا الفعل: الاستمناء.
وحكمه حرام كما قال الشافعي، واستدل بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7] ، وعلاجه الصوم، قال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) ، ثم مراقبة الله قبل كل شيء.(52/28)
حكم حضور المحاضرات بدون إذن الأب
السؤال
طالبة في الجامعة تسكن بجوار الجامعة، ووالدها لا يوافق على حضورها مجالس العلم، وهي تحضر، وتقوم بزيارة أخت لها في الله، وتسافر إليها بدون إذن والديها على أساس أن هذا عمل لله، فما حكم حضورها لمجالس العلم؟ وما حكم زيارتها لأختها في الله بدون إذن الأبوين الذين لم يقتنعا بذهابها، ولم يوافقا عليه؟
الجواب
إذا كان والدها يمنعها من مجالس العلم لعلةٍ ظاهرة لديه، كأن يخاف عليها من الطرقات، أو يخاف أن يعتدي عليها شخصٌ، فحينئذٍ تطيع الوالد ولا تحضر مجالس العلم التي يخشى من ورائها أن يُعتدى عليها، لكن إذا كان والدها يأذن لها أن تخرج للتبرج والاختلاط في الجامعة، ولا يأذن لها في الحضور لمجلس علم تقوي به دينها فالله يقول في مثل هذا: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] ، فينظر إلى سبب نهي الأب، أما السفر فلا تسافر لزيارة أختها في الله؛ إذ السفر يحتاج إلى محرم، ويحتاج إلى استئذان المرأة من زوجها، أو أبيها إن لم يكن لها زوج، وزيارة الأخت في الله ليست بواجبة، بل ليست بمستحبة في مثل هذا الحال.
والله أعلم.(52/29)
غُسل المُعاق
السؤال
لي أخٌ معاق لا يستطيع أن يقوم بأداء الكثير من حوائجه، فأقوم بعملها له، ولكن إذا غسلته تتكشف عورته، وأنا أقوم بتطهيره تحت الإبط والعانة، فما الحكم؟
الجواب
اتق الله ما استطعت، وهل تريد أن تتركه يمرض من القاذورات؟ ولكن غض بصرك، وضع شيئاً على العورة المغلظة، واغسل من تحت هذا الشيء، وإذا رأيت شيئاً من عورته رغماً عنك فالله سبحانه وتعالى يتجاوز عن السيئات.(52/30)
حديث: (ورأيت رجلاً يعذب في قبره فأنقذه الوضوء)
السؤال
حديث فيه: (ورأيت رجلاً من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر، فجاء وضوؤه فاستنقذه من ذلك) ، فما حاله؟
الجواب
هذا الحديث الطويل حديث ضعيف واهٍ.(52/31)
الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة الليل
السؤال
ما حكم الزيادة في صلاة الليل على إحدى عشرة ركعة؟
الجواب
الرسول عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه زاد على إحدى عشرة ركعة، وصلى ثلاث عشرة ركعة، وثبت أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، وثبت أنه قال: (إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها عنك خطيئة) .(52/32)
وقوع الطلاق في الحيض
السؤال
رجل طلق زوجته ثلاث تطليقات متفرقات، فسئل عن ذلك مدرس في الفقه فقال: خذوا برأي الظاهرية وابن حزم، وهو أن الطلاق في الحيض لا يقع.
فما صحة ذلك؟
الجواب
الطلاق في الحيض يقع، وليس هناك أبداً دليل صريح يفيد أن الطلاق في الحيض لا يقع، فلا يوجد دليل صحيح صريح يفيد أن الطلاق في الحيض لا يقع.
وفي الحديث أن ابن عمر: طلق زوجته في حيضها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (مره فليراجعها) ، فلا مراجعة إلا بعد طلاق، وهو رأي الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى، فكيف يفتي بعد وقوع الطلاق في هذه الحالة؟ والقول بعدم وقوع طلاق الحائض قال به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم هو الذي أحدث هذه المشكلة في كتابه زاد المعاد؛ لأن ابن القيم رحمه الله حسن التصرف في المسائل التي يتناولها، وينتصر لرأيه انتصاراً طويل النفس في تقرير مذهبه والمسألة التي يريد إثباتها، فـ ابن القيم رحمه الله أطال النفس في زاد المعاد في هذه المسألة، فتلقفها آخرون بعدم تدقيق ونظر في الآثار التي أوردها، وقد قدمنا أن هناك جزئيات مأخوذة على ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة.
وقد احتج ابن القيم بالأثر وهو أنه سئل ابن عمر عن طلاق المرأة وهي حائض فقال: لا يعتد بتلك.
فقال ابن القيم: لا يعتد بتلك، أي أن ابن عمر لم يعتد بهذه التطليقة، لكن الأثر روي مختصراً، وهذا الاختصار أخل بالمعنى تمام الإخلال، والأثر موجود عند ابن أبي شيبة في المصنف تحت باب الأقراء لمن أراد أن يراجعه مطولاً، وفيه: سئل ابن عمر -وهو من نفس الطريق- عن طلاق المرأة في حيضتها فقال: (لا يعتد بتلك الحيضة) ، فالرواية المختصرة أسقطت منها كلمة (الحيضة) ، فأحدث ابن القيم تقديراً بناءً على فهمه وهو أنك لا تعتد بتلك التطليقة، وهذا خطأ، إنما الرواية: (لا يعتد بتلك الحيضة) ، على أنها من زمن العدة، فهذا كمثال للفهم الذي بنى عليه ابن القيم رأيه، فالحديث لما روي مختصراً قدر هو تقديراً من عنده، وأخطأ في هذا التقدير، وخالف الأئمة الأربعة في قوله هذا، وابن عمر يقول في الرواية الأخرى الصريحة: حسبت عليّ تطليقة.
والله أعلم.
ومن التعقبات على ابن القيم استدلاله بأثر أبي الزبير أن ابن عمر ذكر طلاق امرأته وهي حائض قال: (فلم يره النبي شيئاً) وهذه اللفظة عند جماهير المحدثين معلة ضعيفة.(52/33)
حكم من تسحر بعد طلوع الفجر جاهلاً
السؤال
رجلٌ صام نافلة ثم تبين له أنه تناول طعام السحور بعد الفجر؟
الجواب
يتم صومه ما دام نافلة، وهو قد أخطأ، لكن يتم صومه؛ لأن حكمه حكم الناسي.
والله أعلم.(52/34)
من هو الذي شرب الخمر من أبناء عمر بن الخطاب؟
السؤال
من الذي شرب الخمر من أولاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟
الجواب
ليس الذي شرب الخمر عبد الله بن عمر يقيناً، ولكنه أخٌ لـ عبد الله بن عمر، فقد ثبت أنه شرب الخمر في مصر عند عمرو بن العاص، وأقيم عليه الحد، لكن كان الحد قد أقيم سراً، فبلغ ذلك عمر، وكان عمرو بن العاص يحلق شعر من شرب الخمر ويحده على ملأ، لكنه أقام على ابن عمر الحد سراً، فدعاه أبوه وأقام عليه الحد علانية، وفعل به ما يفعل بالناس، فمات بعد وقت من إقامة الحد عليه، فظن بعضهم أنه مات بسبب الجلد الذي جلده به عمر، وقال البيهقي: إنما كان به مرضٌ آخر فمات من هذا المرض ولم يمت من أصل الجلد، وهذه الآثار أوردها البيهقي رحمه الله تعالى في سننه، وأسانيدها ثابتة.(52/35)
حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)
السؤال
ما حال حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ؟
الجواب
حديث: (إذا انتصف شعبان لا تصوموا) لا يثبت، فالإمام أحمد ويحيى بن معين رحمهما الله، وغيرهما من أهل العلم حكموا عليه بالنكارة، واستنكروه على راويه: العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب القاري رحمه الله تعالى، فالرجل وإن كان صدوقاً من رجال مسلم إلا أن هذا الحديث أخذ عليه فيه.
ويؤيد التضعيف من ناحية المعنى قول أم المؤمنين عائشة: (ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً بعد رمضان إلا شعبان، كان يصومه كله) ، وفي رواية (إلا قليلاً) ، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) ، فدل ذلك على جواز الصوم في النصف الأخير من شعبان.(52/36)
حكم من تردد بين التوبة والمعصية
السؤال
شاب ظاهره الصلاح، وعاهد الله على التمسك بدينه مرات كثيرة، ولكنه سرعان ما يعود وينتكس ويقع في بعض المعاصي الخفية، وفي كل مرةٍ يعود تائباً إلى الله، فهل له من توبة بعد تلك العهود؟!
الجواب
له توبة، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ، فكلما تعصي الله تب، ولما قال إبليس: (وعزتك! لا أبرح أغوي العباد ما دامت الأرواح فيهم! قال الله سبحانه وتعالى: (وعزتي! لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني!) ، فلا تيأس من روح الله؛ {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] .
واتق مواطن الفتن، واعلم الأعمال الصالحة، وسل الله سبحانه وتعالى الستر، ولا تحدث أحداً بجرائمك ومعاصيك ((فإن كل الأمة معافى إلا من جاهر بمعصيته) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.(52/37)
تفسير سورة الحديد [3]
في سورة الحديد مواعظ وعبر ودروس، منها: حقيقة الدنيا، وفيها تنبيه على بعض أعمال الكافرين وأهل الكتاب -وخاصة اليهود-، كما تضمنت بعض أحوال الأنبياء مع أممهم.(53/1)
تفسير قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فهناك من يتكلف لبيان التناسب بين الآيات تكلفاً شديداً، أو يحاول جاهداً أن يأتي بصلة بين كل آية والآية التي سبقتها وبينها وبين التي تليها، حتى جمع بعض أهل العلم كتباً في تناسب الآيات والسور، وقد انتقد هذا المنهج وهذا المبدأ بعض أهل العلم، كـ الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه فتح القدير، وذكر ما حاصله أنه لا يلزم أن تكون هناك صلات بين كل آية والآية التي سبقتها، فأحياناً تكون هناك مناسبات وروابط تربط بين الآية والتي تلتها، وأحياناً لا تكون هناك صلات ولا روابط بين الآية المتأخرة والآية التي تقدمت، فإن وجدت صلة ظاهرة فالحمد لله، وإن لم توجد صلة ظاهرة فالأمر في ذلك واسع، والله أعلم.
ومن العلماء من ذكر هنا وجهاً للربط بين قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الحديد:20] إلى آخر الآية، وبين الآية التي تقدمتها في خاتمتها، وهي قوله تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19] ، فقال: لما كانت الدنيا تشغل أهلها عن الجهاد في سبيل الله وعن مقالات الحق والصدق التي بها يبلغ العبد مرتبة الربانيين؛ إذ العبد يضن بكلمة الحق حرصاً على الدنيا، ويضن بنفسه كذلك حرصاً على الدنيا جاءت الآية الكريمة: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) لكي يصرف العبد عن هذا التقاعس، ولكي يصرف العبد عن هذا الجبن الذي به يمتنع عن الجهاد، وبه يمتنع عن كلمة الحق إذا علم أن الدنيا فانية، وأن متاعها زائل وفان، فقال تعالى: (اعلموا) أي: يا من آثرتم دنياكم على أخراكم، ويا من آثرتم التعويق والتثبيط على الإقدام والبذل والجهاد (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم) أي: تفاخر بأمورها من مال وجاه ومنصب ونحو ذلك.
قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] الكفار: هم الزراع، وقوله تعالى: (نَبَاتُهُ) أي: النبات الذي نتج بسبب هذا الغيث أعجب الكفار وهم الزراع، وأطلق عليهم الكفار لكونهم يضعون البذرة في الأرض ويغطونها، فهذه التغطية تسمى الكفر، فالكُفر من معانيه التغطية قوله تعالى: (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا) أي: بعد أن ييبس ترى العود الأخضر قد تحول إلى عود أصفر، وقد اتجه إلى الذبول بعد النضرة والاخضرار، (ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) ، فهذا مثل الحياة الدنيا بصفة عامة، ومثل الحياة الدنيا في الشخص نفسه كذلك، فكل شخص تنسحب عليه هذه الآية، وينطبق عليه هذا المتن، وتصديق ذلك في قول الله جل ذكره: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54] ، فهذه الآية توضح آية الحديد التي نحن بصددها، وكذلك آية الحج في هذا المعنى أيضاً: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج:5] ، وكذلك قال سبحانه في آية الحج: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:5-6] .(53/2)
تفسير قوله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم.)
قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] ، أي: أخبرناكم بهذا -يا أهل الإيمان-: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد:23] ، وأيضاً: {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] لا تغتروا بما آتاكم الله، فمن كان ذا مال فلا يغتر بهذا المال، فالمال قدره الله له، ومن كان في منصبٍ لا يغتر بهذا المنصب؛ فالمنصب قد قدره الله له، ومن كان له أولاد وذرية فلا يغتر بأولاده ولا بذريته؛ فالأولاد والذرية قدرها الله سبحانه وتعالى له، ومن كان في صحة وعافية لا يغتر بهذه الصحة والعافية؛ فالصحة والعافية قد قدرها الله سبحانه وتعالى له.(53/3)
تفسير قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.)
قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [الحديد:24] ، وهذا كقوله سبحانه: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37] .
وأما وجه الربط بين هذه الآية والآيات التي تقدمت فمن العلماء من يجعل السياق هذا كله في اليهود، ويقول: إن اليهود أصيبوا بمصيبة كبرى، وخيبة أمل عظمى لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسماعيل عليه السلام، فكانوا ينتظرون مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرفون صفته، ويعرفون ما سيأتي به في الجملة، وقد أُخذ عليهم الميثاق أن يؤمنوا به إذا بعث فيهم، كما قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:89] ، فيقولون للذين كفروا: سيخرج منا نبي فنتبعه ونقتلكم نحن وهو قتل عاد وإرم، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم من بني إسماعيل، ولم يأتِ من بني إسرائيل شرقوا لذلك، وكفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيهم نزل سياق الآيات عند كثير من المفسرين.
وهذه المصيبة التي حلت بهم لظنهم أن النبوة سلبت منهم وأعطيت لبني إسماعيل قد ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة النساء في قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء:54-55] ، ولما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل بخلوا -أي اليهود- بالعلم، ولذلك قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [النساء:37] ، والمعنى عند فريق من المفسرين: يبخلون بالعلم، ويبخلون بإظهار صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، ولا يقتصرون على أنفسهم، بل ويأمرون الناس بالبخل، فكانوا يتواصون فيما بينهم بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ويتعاهدون فيما بينهم على أن لا يخبروا أحداً بصفة هذا النبي، ويبخلون ويأمرون الناس بالبخل، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37] أي: من العلم الذي آتاهم الله إياه.
فهذا وجهٌ من أوجه التأويل، ومن العلماء من حمل البخل على معناه الأشهر وهو البخل بالمال، وهذا أيضاً كان في اليهود -أعني البخل-، وكان البخل من عادتهم.
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدَُ} [الحديد:24] ، أي: يعرض عن الإيمان والهدى فإن الله هو الغني عنه وعن إيمانه، كما قال الله جل وعلا في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص من ملكي شيئاً) .
فقوله تعالى: (هُوَ الْغَنِيُّ) أي: عن من أعرض عن الهداية.
وقوله تعالى: (الْحَمِيدُ) أي: يحمد لكل مؤمن ولكل مقبل عليه صنيعه وإقباله وطاعته.
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25] .
قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) أي: الأمور البينة الواضحة والدلائل البينة الواضحة.
وقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ) ، الكتاب هنا اسم جنسٍ، والألف واللام لبيان الجنس لا للعهد، أما قوله تعالى في شأن النبي محمد عليه الصلاة والسلام: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [النساء:113] فالألف واللام في كلمة (الكتاب) للعهد، وتدل على كتاب معهود هو القرآن، أما قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ) ، فالمراد بالكتاب هنا الجنس.
أي: الكتب، وليس كتاباً مخصوصاً، بل عموم الكتب التي نزلت على الرسل عليهم الصلاة والسلام.
قوله تعالى: (وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) .
من العلماء من قال: المراد بالميزان: العدل، ومنهم من قال: إن الميزان نزل من السماء مع ما نزل على آدم صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6] ، فمن العلماء من قال: إن هذه الأنعام خلقت.
ومنهم من قال: نزلت.
والله سبحانه وتعالى أعلم بتأويل كتابه.
ومن العلماء من قال: نزل مع آدم لما نزل الميزانُ والسندانُ.
وذكروا أشياء أخر، وليس في هذا خبرٌ ثابت عن رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام، إنما هي أخبار إسرائيلية، وآثار على بعض التابعيين رحمهم الله تعالى.
قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) .
هذه الآية استدل بها العلماء على الشدة إذا لم تُجدِ البينات والأقوال الحسنة والدلائل الظاهرة، وأساليب الإقناع، وأعرض الشخص عن هذا جدلاً ومراءً، وضرب بآيات الله عرض الحائط كما يقال، فلا يصلح مع مثل هذا إلا البطش والشدة، فلذا قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) فمن لم يتذكر بالبينات، ولا بالكتاب الذي أنزله الله سبحانه لا يصلح له إلا الحديد، ففيه بأسٌ شديد ومنافع للناس، فهذه قاعدة يسار عليها، فهي أن وسائل الإقناع تطرح أولاً ويُبدأ بها، ومن عاند وأصر على مواقف الشر فليس له إلا الحديد.
قال تعالى: (بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) فالشدة لها مواطن، والرفق واللين لهما مواطن، وقد تقدم شيءٌ من ذلك، كما قال ذو القرنين: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:87-88] .
وقال سليمان عليه الصلاة والسلام: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:20-21] .
وقال الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:59-60] ، فكل هذه أمور فيها شدة، وفيها رفق، فللرفق مواطن، وإذا لم يُجدِ الرفق فحينئذٍ يتجه إلى الشدة.
فمن يعبث في الفصل -مثلاً-، أو يعبث في البيت تكلمه بالكلام الحسن وبالكلام الطيب، فإن كان لا يجدي معه ولا ينفع فحينئذٍ تترقى إلى شيء آخر، وهو الضرب بحسبه، وقد قال الله أيضاً في شأن النساء النواشز: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] .
قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} .
بعد نزول الحديد يعلم الله من يجاهد بهذه السيوف في سبيله سبحانه وتعالى، علماً ينبني عليه الثواب.
وحتى لا يتوهّم شخص كما توهم أهل الجهل من اليهود أن الله فقير لما حثهم الله على الصدقة دفع الله هذا التوهم هنا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25] ، فلا يحتاج إلى من ينصره، بل هو سبحانه وتعالى ناصرٌ لعباده، وهو سبحانه وتعالى القوي العزيز الذي لا يمانع، ولا يغلب سبحانه فهو القهار.(53/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب.)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} [الحديد:26] .
هذا عطفٌ للخاص على العام، فقد تقدم قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) ، وجاء هنا (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ) ، ونوحٌ وإبراهيم من الرسل.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:26] ، فالنبوة بعد نوح كانت من ذريّة نوح عليه الصلاة والسلام، فلذلك لقائل أن يقول: إن هوداً عليه الصلاة والسلام من ذرية نوح، وإن صالحاً عليه الصلاة والسلام من ذرية نوح كذلك، وإبراهيم كذلك من ذرية نوح صلى الله عليهم وسلم.
قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُون} [الحديد:26] أي: من الذرية من هو مهتدٍ، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) فالآية فيها تسلية وتعزيةٌ لمن ولد له ولدٌ شقي، ولمن نتج له نتاج شقي، فنوح وإبراهيم عليهما السلام كانت النبوة والكتاب في ذريتهما، لكن أكثر الذرية فسقة، كما قال تعالى: (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) ، ويعقوب الذي هو إسرائيل عليه الصلاة والسلام كان من ذريته -كما ذكر الله سبحانه وتعالى- من مسخوا قردة وخنازير، فالهادي هو الله سبحانه وتعالى، والمهتدي من هداه الله سبحانه.(53/5)
تفسير قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا.)
قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا} [الحديد:27] .
أي: أتبعناهم برسلنا، ثم قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27] ، فمن الذي يجعل الرأفة والرحمة في القلوب؟ الذي يجعلها في القلوب هو الله، فالله سبحانه يلين قلوب أقوام حتى تكون ألين من اللبن والماء، ويختم على قلوب أقوامٍ آخرين حتى تكون أقسى من الحجارة والجبال والحديد، كما قال موسى عليه السلام: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88] ، فإذا أردت أن يلين قلبك فعليك أن تطلب إلانته من الله سبحانه وتعالى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من قلبٍ لا يخشع) ، وكان يتعوذ بالله من قسوة القلب صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) والرأفة: الرقة، ثم قال تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) ، هنا يقال: هل الواو هنا عاطفة أو هي ابتدائية؟ أي: هل يقرأ بالعطف: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) ، أو يقال: إن الابتداء من قوله تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) ، أي: جعلنا في قلوبهم رحمة، وهم ابتدعوا رهبانية، واخترعوا رهبانية، ونحن ما كتبنا عليهم هذه الرهبانية، ولكنهم هم الذين كتبوها على أنفسهم، أي: ألزموا أنفسهم بها؟ وقد ورد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في شأن عيسى أنه كان جالساً مع بني إسرائيل، أو كان جالساً مع بعض الحواريين، وقال لهم: من منكم -أو أيكم- يلقى عليه شبهي ويكون معي في الجنة؟ فقال شابٌ: أنا.
إلخ.
فذكر في آخر هذا الحديث أن فئةً من الفئات شهدت أن لا إله إلا الله وأن عيسى رسول الله، فتظاهرت عليها الفئات الكافرة فقاتلتها، فمنهم من صمد وصبر أمام القتال، ومنهم من اتجه إلى القفار والبراري يعبد الله فيها، وتعاقد مع أولئك الظلمة عقداً على أن يمكث في الصحراء والقفار والبراري لا ينزل إلى المدن ولا إلى البلدان، ويعيش فيها يعبد ربه في الصوامع حتى يأتيه الأجل، فأقر على ذلك، فأنشأوا لأنفسهم صوامع، وألزموا أنفسهم بأنواع من العبادات، فمنهم من ألزم نفسه أن يصوم الدهر، ومنهم من ألزم نفسه أن لا يأكل اللحم، ومنهم من ألزم نفسه أن لا يتزوج النساء، فهذه الرهبانية هم الذين اخترعوها وابتدعوها وألزموا أنفسهم بها بمثابة النذر في شرعنا، لكنهم اختلقوا هذه الرهبانية، فلما ألزموا أنفسهم بها ألزمهم بها ربنا سبحانه وتعالى، قال تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) ، فتكون (إلا) هنا من باب الاستثناء المنقطع، كما يقول القائل: جاء القوم إلا حماراً.
فـ (إلا حماراً) هنا: استثناء منقطع؛ لأن الحمار ليس من جنس المستثنى منه، و (إلا) هنا في الآية من باب الاستثناء المنقطع.
قوله تعالى: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) أي: لكن كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله، أي الحرص على طلب رضوان الله سبحانه، فهم رأوا أن هذا الترهب يقربهم من الله سبحانه وتعالى.
وهذه الرهبانية لم تكتب على أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فقد جاء عثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في التبتل، أو في الانقطاع للعبادة، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الصحابة: لو أذن له الرسول لاختصينا، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا رهبانية في الإسلام) ، فهذا الترهب ليس في ديننا، وقد أنكر رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام على النفر الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الآخر: أما أنا فأعتزل النساء.
وقال الثالث: أما أنا فأقوم ولا أنام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخشاكم وأتقاكم وأعلمكم بالله أنا، ولكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) أي: لما ألزموا أنفسهم بها، فمنهم -مثلاً- من قال: لن أتزوج النساء، وليته لم يتزوج النساء، بل زنى والعياذ بالله.
والرهبان الذين يبقون في الصوامع والكنائس ويدعون أنهم لا حاجة لهم في النساء، وأنهم ترهبوا وانقطعوا للعبادة، وبعد ذلك يفعلون الفواحش ويزنون يتركون المباح من الزواج الذي أباحه الله سبحانه أمام الناس (وإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) ، قال تعالى: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) ، الذين وفوا بهذه الأمور آتيناهم أجرهم، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) .
فهذه شهادة الله سبحانه وتعالى في هؤلاء الذين ترهبوا، ولذلك قال ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] .
فمنهم من أصبح مختلساً للأموال وهو في صورة الراهب، ومنهم من أصبح من الزناة وهو في صورة الراهب، ومنهن من أصبحت من البغايا وهي في صورة الراهبة المتبتلة.
(وكثيرٌ منهم فاسقون) فهذا حالهم كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم.(53/6)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله.)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} [الحديد:28] .
من أهل العلم من حمل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) على أن المراد بالذين آمنوا هنا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فيكون التأويل: يا أيها الذين آمنوا بعيسى وآمنوا بموسى آمنوا أيضاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وشهد لهذا التأويل قوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28] ، والكفل هو النصيب، وإن كان الكفل يطلق على نصيب الشر في بعض الأحيان، لكن في أحيانٍ أُخر يطلق على النصيب، سواءٌ من الخير أو من الشر.
أما إطلاقه على نصيب الخير فلهذه الآية: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، وأما إطلاقه على نصيب الشر فكقوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85] ، فعبر عن الحسنات بالنصيب، وعبر عن السيئات بالكفل.
فقوله تعالى: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، يفسره حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: ورجلٌ من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم) ، فهذا يرجّح قول من قال: إن المراد بالذين آمنوا -هنا في الآية- هم اليهود والنصارى.
ومنهم من قال: إن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) ، خطابٌ موجه لأهل الإيمان.
أي: ليزدد إيمانكم بالله، وليزدد إيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ازداد إيمانكم تضاعفت أجوركم.(53/7)
تفسير قوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب.)
قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:28-29] .
قوله تعالى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ) ، معناه: ليعلم ومن قال: إن (لا) صلة وتوكيد تفيد تقوية الكلام فـ (لئلا يعلم) معناها: ليعلم، كما تقدم نظيره في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12] أي: ما منعك أن تسجد.
وكما قال تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] أي: يرجعون.
ففي الآية دخلت كلمة (لا) لتقوية الكلام.
قال تعالى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) ، فليسوا متحكمين في الخلق كما يقولون، قال تعالى: (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) ، فهو الذي اختص النبي محمدا صلى الله عليه وسلم بالنبوة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، قال تعالى: (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(53/8)
الأسئلة(53/9)
حكم استبدال الذهب مع دفع فارق
السؤال
هل يجوز استبدال مائة جرام ذهب قديم بمائة جرام ذهب جديد مع دفع الفرق؟
الجواب
لا يجوز.
ولكن بع الجرامات القديمة وتسلم قيمتها، ثم اشتر كيف تشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ويداً بيد) .(53/10)
حكم الطلاق عبر الهاتف
السؤال
رجل قال في التلفون لأخته: زوجتي طالق فهل وقع الطلاق؟
الجواب
نعم.
فإذا كان يقصد الطلاق وقال لأخته: زوجتي طالق فالطلاق واقع.(53/11)
حكم قبول الهدية ممن يتعامل بالربا
السؤال
هل تقبل الهدية مع من يتعامل بالربا حتى وإن كانت أكلاً؟
الجواب
الذي يظهر أنها تقبل والإثم عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعته امرأة يهودية إلى شاة فأكل منها صلى الله عليه وسلم.(53/12)
حكم أخذ الرجل من وديعة لديه بغير إذن مودعها
السؤال
رجلٌ أعطى رجلاً مالاً وديعة، فاحتاج الرجل إليها لشدة ألمت به، ولم يستأذن صاحب المال، وبعد أن فرج الله كربته وضع المال، ولم يشعر صاحب المال، فهل هذا جائز أم لا؟
الجواب
إذا كنت متأكداً أنك عند طلب صاحب المال لماله أنك تؤديه إليه فلك أن تأخذ منه بقدر الحاجة وترده إليه، وإذا لم يكن بوسعك أن ترد فأد الأمانة ولا تعبث بها، واسأل منه إذا أردت أخذ شيء منه.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضاه.(53/13)
حكم العمل الحكومي
السؤال
كيف نرد على من يقول: إن الدولة كافرة والعمل في وظائفها حرام؟
الجواب
دولتنا مختلطة، فيها قوانين باطلة كفرية، وفيها قوانين شرعية، والمثال واضح في المحاكم، فقوانين الزنا التي في المحاكم قوانين كفرية، وقوانين الطلاق والأنكحة قوانين شرعية، فالدولة مختلطة، وأما بالنسبة للعمل فهو جائز -حتى عند الكفار- إذا لم تكن فيه مهانة لدينك، فقد قال يوسف الصديق عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] ، وقال خباب بن الأرت رضي الله عنه: كنت قيناً -أي: حداداً- بمكة، فعملت لـ للعاص بن وائل أسيافاً ثم جئت أتقاضاه، فقال: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد.
فالمرتب الذي تتقاضاه هو مقابل عملك.(53/14)
مواطن أداء المسافر زكاة الفطر
السؤال
شخص يريد أن يسافر للعمرة، فهل يخرج الزكاة في الموطن الذي صام فيه وأفطر، أو يجوز له أن يخرج الزكاة في بلده التي هو منها؟! وهل يجوز له أن ينقلها إلى بلدة أخرى؟
الجواب
الذي تطمئن إليه النفس -مع أن الأمر فيه سعة- أن تخرج في أي مكان تيسر لك فيه الإخراج؛ حملاً للضمير في قوله عليه الصلاة والسلام: (تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم) ، على أنه يرجع إلى عموم المسلمين.(53/15)
تفاوت الكفارة في الثواب
السؤال
هل الإطعام والكسوة في كفارة اليمين سواء؟
الجواب
قال تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران:115] ، فلو كان هناك رجلان كلاهما ثري، فأخرج أحدهما زكاته أرزاً، والآخر أخرجها زبيباً، فمن ناحية الإجزاء كلاهما قد أجزأه فعله لكن هل الله يثيب هذا كما يثيب ذاك؟ وإن كان الكل قد سقط عنه فرض زكاة، لكن هل من تيمم الطيب وتصدق به كمن تيمم الأدنى وتصدق به؟ قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] .
وكذلك هل نقول: إن من كسا عشرة مساكين في كفارة اليمين كمن أطعمهم؟ فالإجزاء تم، لكن هل يستوي الثواب؟ أما إخراج القيمة بدلاً عن الطعام فأفهام صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام تلقي ضوءاً على المسألة باتساع، والإمام البخاري مع الذين يرون أن القيمة تجزئ، ومن الاستدلالات التي استدل بها البخاري أثر منقطع علقه البخاري: أن معاذاً لما ذهب إلى اليمن -وهذا ليس في زكاة الفطر، إنما في زكاة أخرى- قال لأهل اليمن: ائتوني بثياب خميصة -نوع من أنواع الثياب التي كانت تصنع في اليمن- أيسر عليكم، وأنفع لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فمن العلماء من بنى على هذا الأثر أنه يجوز إخراج القيمة وفي سند الأثر: طاووس، وهو لم يدرك معاذاً، لكن ما زلنا بصدد البحث عنه.
وفي سنن النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أن من لم يجد بنت لبون فليخرج كذا وكذا، وحدد أشياء، فالمسألة -إن شاء الله- نذكر منها أقوال للسلف الصالح، ليس -فقط- أصحاب المذاهب الأربعة رحمهم الله -وإن كان منهم الأحناف الذين قالوا بالجواز-، لكن من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم.
والخلاصة أننا احتياطاً لديننا نخرج كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، ونحتاط لديننا في ذلك.
والله أعلم.(53/16)
حال حديث: (الذنب لا يكتب إلا بعد ست ساعات لكي يتوب المذنب)
السؤال
حديث (الذنب لا يكتب إلا بعد ست ساعات لكي يتوب المذنب) هل هو صحيح؟
الجواب
صححه الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى.(53/17)
المقصود بالمصلى في فضل الجلوس بعد الفجر حتى الشروق
السؤال
حديث: (من جلس يذكر الله في مصلاه من بعد صلاة الفجر كان له أجر حجة وعمرة تامة) ، هل المقصود بمصلاه مكانه الذي صلى فيه حيث لو انتقل داخل المسجد لسقط الأجر؟
الجواب
المراد عموم المسجد؛ لأن الله قال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ، ومقام إبراهيم من المعلوم أنه الحجر الذي كان ملصقاً بالكعبة، ثم أبعد عنها وأحيط بالإكليل، فكل من صلى خلف المقام يكون متخذاً من مقام إبراهيم مصلى.(53/18)
الجمع بين حديث: (لم يضره شيطان) لمن ذكر الدعاء المأثور عند الجماع، وحديث: (إلا وطعنه الشيطان في خاصرته، فيستهل صارخاً غير مريم وابنها)
السؤال
كيف نوفق بين حديث الرسول في الدعاء عند الجماع أن من قاله فقدر له ولد لم يضره شيطان، وحديث: (ما من مولود يولد إلا ويطعنه الشيطان في خاصرته، فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها) ؟
الجواب
الضرر في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يأتي أهله فيقول -كما أمره النبي عليه الصلاة والسلام-: باسم الله.
اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قدر بينهما ولد لم يضره شيطان) ، المراد به: لم يضره شيطان بشرك، أو بكبيرة لا يتوب منها، لكن الضرر الواقع من المعاصي لابد منه، ولزاماً أن يذنب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة) ، فالضرر المنفي في قوله: (لم يضره شيطان) أي: لم يضره شيطان بشرك أو بكبيرة لم يتب منها، كما قال كثير من أهل العلم، وقد استشهد بعضهم في ذلك بقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111] ، فقالوا: إنهم يضرون بأذى، لكن لا يضرون ضررا مخرجاً عن ديننا إن شاء الله.
وقوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:161-163] .(53/19)
حكم الصدقة على الكافر
السؤال
هل يجوز التصدق على الجار النصراني إذا كان في ضائقة شديدة؟
الجواب
إذا كنت تقصد بالصدقة صدقة غير الزكوات المفروضة فجائز، فالصدقة غير المفروضة جائزة، أما إذا كنت تقصد زكاة المال فزكاة المال لا تعطى للنصراني، إلا إذا كان من المؤلفة قلوبهم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعلمهم أن الله افترض عليهم زكاةً في أموالهم تؤخذ من غنيهم وترد على فقيرهم) أي: فقير المسلمين.
والله أعلم.(53/20)
حكم توريث أبناء البنت
السؤال
ماتت ابنتي في حياتي وتركت أولاداً، فهل هؤلاء الأولاد يرثون من تركتي بعد موتي، وأنا جدهم لأمهم، أم لا ميراث لهم؟
الجواب
شرعاً لا أعلم لهم نصيباً في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الحكومة تقضي لهم بالوصية الواجبة، وهي أن لهم ثلث التركة مجتمعين.(53/21)
مسائل في زكاة الفطر
السؤال
ما حكم إخراج زكاة الفطر نقوداً؟ زكاة الفطر لا تخرج مالاً؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من طعام على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين) .
ولا يجوز الإخراج قيمةً، وهذا رأي مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى.
لكن هناك اعتبارات لا بد من ملاحظتها، وهي أننا في الحرم المكي، وبعد أن ننتهي من صوم آخر يوم من رمضان نخرج لإخراج الزكاة، فنجد أمام الحرم أقواماً يبيعون أرزاً، كل كيس يحوي صاعاً، فأشتري كيس الأرز بثمانية ريالات، وأبحث عن فقير، فإذا بأناس فقراء بجوار البائع، فأُسلم الكيس لأحدهم، وبهذا برئت ذمتي.
وأمام عيني يأخذ الفقير الكيس ويبيعه للتاجر الذي اشتريت أنا منه، ومن حق الفقير أن يبيع، فيأخذ التاجر الكيس منه بستة ريالات، ثم أرجع أشتري مرة ثانية لكي أتصدق عن زوجتي، أو عن أولادي، وأشتري من نفس التاجر، وأعطي الفقير يردها إلى التاجر، وهكذا، وفي كل حالة يستفيد التاجر.
فلماذا لا أسلم للفقير الثمانية الريالات وانتهي؟ لأن التاجر ليس بحاجة إلى الصدقة، والفقير أحوج منه، فهذا وجه للنظر.
وأنا موقرٌ لأقوال القائلين بأن زكاة الفطر لا تخرج إلا من الأصناف التي ذكرها الرسول، لكن لهذا فقه ولهذا محل، وأحياناً القيمة لا تجزئ، فإذا كانت السيولة متوافرة والمطعومات شحيحة فقد أقول لك: لا تجزئ القيمة.
لكن إذا كان الطعام متوافراً من كل الأصناف، وهو يستطيع أن يشتري الذي يناسبه ويتناسب مع أسرته، ألا يجزئ في هذه الحالة أن يأخذ برأي الأحناف؟ صحيح أن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه رأى أن نصف صاع من بر الشام يعدل صاعاً من تمر المدينة، لكنه اجتهد في مصادمة نص صريح؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من طعام) ، ومعلوم يقيناً أن قيمة الصاع من الزبيب تختلف عن قيمة الصاع من التمر، فالمسألة ليست مسألة قيمة؛ لأن صاع التمر يختلف عن صاع الزبيب من ناحية الثمن، فصاع الزبيب يمكن أن يأتي بخمسة وعشرين جنيهاً، وصاع التمر يمكن أن يأتي بخمسة جنيهات، أو بعشرة جنيهات.
وأنا لا أقرر المسألة، لكن أذكر الأقوال في المسألة، أما أنا فلا أخرج إلا طعاماً، لكن لا أستطيع أن أقول: إن من أخرج الزكاة قيمة تبطل زكاته؛ لأنه أولاً بنى على اجتهاد علماء أفاضل، وعليه مذهب من المذاهب، لكن متى نحكم أن القيمة لا تجزئ؟ إذا لم يكن الطعام متوافراً؛ لأنها لم تفد الفقير بشيء.
وأقول: نحن نخرج كما أخرج رسول الله عملاً بظاهر النص: (فرض رسول الله صدقة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب) .
وأيضاً أراعي أحوال الناس من ناحية كون القيمة يستطاع الانتفاع بها، أو لا يستطاع؟ وأمر ثالث: لا أثبت هذه القيمة بشيء ثابت، فمن شاء أن يخرج قيمة الزبيب أخرج، ومن شاء أن يخرج قيمة البر أخرج، لكن القطع ببطلان من أخرج القيمة وأن زكاته لا تجزئ لا أستطيعه، ولا أتحمله.
وأنا آخذ برأي أكثر العلماء، وأخرج الأنفع للفقير، وهو ما نص عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن لا أستطيع القطع ببطلان من أخرج القيمة ولا أتحمله.
وتحديد القيمة بـ (دينار) ليس بصحيح؛ لأن العملة تتغير من زمن إلى زمن، فأحياناً الأرز -مثلاً- يباع بدينار، وأحياناً الدينار لا يأتي بربع صاع الأرز، على حسب اختلاف العملات.
وهب أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال -مثلاً-: صدقة الفطر دينار.
والدينار يعادل -مثلاً- نصف ريال سعودي، فالريال السعودي كان إلى عهد قريب تستطيع أن تشتري به كميات هائلة من الطعام، أما الآن فما تستطيع أن تشتري الذي كنت تشتريه بالريال من قبل.
فإذا أثبتنا القيمة يأتي زمن والقيمة لا تنفع الفقير بحال من الأحوال.
أما وقت إخراج الزكاة فأنسب الأوقات وأنفعها بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان إلى صلاة العيد.
أما الوقت المختار عند الأكثرين فهو قبل العيد بيوم أو يومين، ومن العلماء من أجازها طيلة رمضان.
وهناك مسائل في الشرع ليس هناك أحد يفكر فيها، حتى أهل الإحسان، وهي كفارة اليمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فما هناك أحد يفكر أبداً أنه يكسو عشرة مساكين من أجل كفارة يمين.
حتى الأثرياء يكفر أحدهم بإطعام عشرة مساكين، أما أن يكفر بتحرير رقبة عن يمين فهذا مستحيل، لكن ورد من تصرفات أم المؤمنين عائشة أنها كانت أقسمت أيماناً وعقدت الأيمان ألا تكلم عبد الله بن الزبير لأنه قال: لتنتهين أم المؤمنين عن كذا وكذا أو لأحجرن عليها، فأقسمت وعقدت أيماناً ألا تكلمه طيلة حياتها، ثم احتال عليها عبد الله بن الزبير بحيلة حتى يدخل عليها؛ إذ هي خالته، فجاء مع بعض أحد محارم أم المؤمنين من الرضاعة، فطرق عليها الباب فقالت له: من؟ قال: أنا فلان.
قالت: ادخل، قال: أدخل ومن معي؟! قالت: أدخل ومن معك.
فدخل عبد الله بن الزبير معه، ووثب على رأسها يقبل رأسها ويبكي؛ وهي تبكي وتقول: يميني ماذا أصنع بها؟ ثم إنها أعتقت في هذا اليمين عدة رقاب.
فمن العلماء من يقول: يستحب مضاعفة الكفارة وليس إيجاباً.
أي أن اليمين إذا كانت مغلظة تغليظا شديداً كفّر عنها بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم كما قال الله، ولكن لا مانع من أن تكفر عنها بما هو أفضل من ذلك، ولك ثواب.
وهذه اليمين التي تكفر ليست اليمين الكاذبة، فاليمن الغموس لا كفارة لها عند الجمهور، واليمين الغموس: هي اليمين التي أقسمها رجل ليقتطع بها مال امرئ مسلم ولا كفارة لها إلا إذا ردت المظلمة إلى أهلها.
وإذا أقسم كاذباً ليس لاقتطاع حق امرئٍ مسلم وإنما ستراً على شخص مثلاً، أو لأي سبب فهو آثم؛ لأنه كاذب، لكن كونه يكفر بكفارة مادية لإطعام عشرة مساكين، أو لا يكفر فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى يرى أنه يكفر؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة:89] ، وجمهور العلماء يرون أن هذه لا كفارة لها.(53/22)
تفسير سورة المجادلة [1]
لقد بين سبحانه وتعالى في بداية سورة المجادلة أنه يسمع تحاور المتحاورين، وشكوى الشاكين، وهذا دليل على عظمة الله سبحانه وتعالى وقدرته، ولقد بين حال المؤمنين إذا ألمت بهم المعضلات كيف أنهم يلجئون إليه سبحانه، ويشكون إليه ويدعونه ويستغيثون به؛ ليكشف ما بهم من بلاء وهم وغم؛ لأنهم يعلمون علم اليقين أن الله وحده هو الذي يفرج همهم وينفس كربهم ويقضي حوائجهم، وهذا ما فعلته المجادلة عن نفسها حين لم تجد جواباً عند النبي صلى الله عليه وسلم، ففزعت إلى ربها واشتكت إليه، فإذا برب العزة والجلال وفي الحال يجيب شكواها ويرفع بلواها ويجبر كسرها، ويرحم عجزها وضعفها، ويبقي لها زوجها؛ حتى لا تكون وحيدة لا تجد من يأويها ويقوم برعايتها.
فلابد إذاً من اللجوء إلى الله في كل وقت وفي كل حال، فهو النافع والضار، وهو الرحيم بعباده سبحانه وتعالى.(54/1)
تفسير قوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فنحن في استهلال تفسير الجزء الثالث من كتاب الله عز وجل بعد أن أنهينا الجزء الأول، والثاني، أعني الثلاثين، والتاسع والعشرين.
سورة المجادلة على رأي أكثر أهل العلم سورة مدنية نزلت على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمدينة.
وقد استثنى بعض أهل العلم بعض آياتها وقالوا في بعض آياتها: إنها نزلت بمكة.
لكن كما سمعتم أكثر أهل العلم على أنها سورة مدنية، وهي تتعلق بالأحكام والمعاملات بين المؤمنين، كما هو شأن أكثر السور المدنية، بينما تتعرض السور المكية في أكثر أحوالها إلى مناقشة أمور العقائد، والتذكير بالجنة وبالنار في الجملة.
يقول الله سبحانه وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [المجادلة:1] .(54/2)
ثبوت صفة السمع والبصر لله، وتعزيز مبدأ المراقبة له سبحانه
قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، الآية أثبتت كغيرها ما هو من بدهيات الإسلام: صفة السمع لله سبحانه وتعالى، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] ، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، فهذه الآية مع غيرها من الآيات تعزز مبدأ مراقبة الله عز وجل، وعليك أن تعبد الله على هذا النحو، تعبده عبادة المحسنين، إن لم تكن تراه فإنه يراك، قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:218-220] ، وقال سبحانه: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النور:64] ، وقال جل شأنه: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} [هود:5] أي: وهم متغطون بثيابهم.
{يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود:5] .
وهذا المعنى قد لقنه لقمان لولده: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] ، وأيضاً: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61] ، والآيات في باب الحث على مراقبة الله سبحانه وتعالى لا تكاد تنتهي، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] ، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] ، آيات لا تحصى ولا تنتهي، تفيد أنك مراقب بدقة وأي دقة، مراقب مراقبة دقيقة من كل صوب ومن كل اتجاه، وكل الحركات منك محسوبة عليك، بل ما بداخلك مطلع عليه ربك سبحانه وتعالى، قال جل جلاله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، فأنت يا ابن آدم ضعيف كما قال ربك سبحانه، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأنت عجول، ومع هذا كله فأنت مراقب مراقبة صارمة ودقيقة في غاية الدقة.
قال الله سبحانه: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] ، والمحاورة: هي إرجاع الكلام إلى الطرف الآخر، هو يتكلم وأنت تحاوره، أي: ترد الكلام عليه، كما قال الشاعر في وصف فرسه: لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] ، (وقد تلا النبي صلى الله عليه وسلم آية ختامها يشابه هذا الختام: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] ولما تلاها النبي عليه الصلاة والسلام وضع إبهامه على أذنه وسبابته على عينه) ، فاستنبط بعض العلماء من هذا الحديث: إثبات السمع والبصر لله سبحانه وتعالى، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] .(54/3)
سبب نزول الآيات الأولى من سورة المجادلة وفيمن نزلت
أخرج البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات -وفي رواية: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات- لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجادله وتحاوره وأنا في ناحية البيت، لا أسمع ما تقول، ولا أدري ما تقول، حتى نزل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [المجادلة:1] ) .
وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، قد هنا للتحقيق كما هو واضح، وكذلك إذا دخلت (قد) على المضارع في كثير من الأحيان تأتي للتحقيق: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] ، {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْه} [النور:64] ، وهنا {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] .
المجادِلة على رأي جمهور المفسرين هي: خولة بنت ثعلبة، والأسانيد بهذه التسمية وإن كان في كل منها مقال، إلا أن رأي جمهور المفسرين أن المجادلة هي خولة بنت ثعلبة، وزوجها على رأي الجمهور هو أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وعبادة بن الصامت هو الصحابي الجليل المشهور أحد نقباء الأنصار الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، فأوس أخوه، وجملة الأسانيد -كما قلنا- لا يخلو سند منها من مقال، لكن بجملتها تعطي هذا المعنى الذى قلناه وتقلده أكثر المفسرين، وسبب نزول الآية وهو: (أن خولة بنت ثعلبة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! زوجي وابن عمي، أفنى شبابي، وأكل مالي، ونثرت له بطني، فتركني حتى ضعفت قوتي، ورق عظمي، ثم جاء وظاهر مني وقال: أنت عليَّ كظهر أمي) .
وكان في الجاهلية إذا قال قائل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، يعد طلاقاً وفراقاً، فجاءت تشتكي -بعد هذه العشرة الطويلة مع زوجها- مقالة زوجها للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيئاً، إلا الشيء الذي كان متبعاً وهو إتمام الفراق، فجادلت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك علها تجد رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم في البقاء مع زوجها، فما وجدت شيئاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فاتجهت بشكواها إلى ربها سبحانه وتعالى، إلى الله أشكو حالتي، إلى الله أشكو ضعف قوتي، إلى الله أشكو فراق ابن عمي، واتجهت بشكواها إلى الله سبحانه وتعالى.
وهذا هو شأن أهل الصلاح، إذا انقطع رجاؤهم في البشر فإن رجاءهم في الله لا ينقطع، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بعد سماعها مقالة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك: (يا عائشة إن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن الله يغفر الذنوب جميعاً، وإن العبد إذا أذنب واستغفر الله غفر الله له) ، فقالت بعد مجيء هذه المقولة من أحب الناس إليها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخر من كانت تتوقع أن يقول هذه المقالة، قالت مقالتها الشهيرة: (لقد قلتم قولاً واستقر في أنفسكم، والله يعلم أني منه بريئة، ولو قلت لكم: إني بريئة ما صدقتموني، ولو قلت لكم: إني فعلت الذي تريدون مني لصدقتموني، فلا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ) ، ونحو هذه المقولة أيضاً قالها هلال بن أمية الواقفي رضي الله تعالى عنه لما رأى رجلاً مع زوجته، وجاء وأخبر النبي بذلك، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (هات البينة.
قال: ما عندي بينة يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام مكرراً: هات البينة.
قال: ما عندي بينة يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: البينة أو حد في ظهرك) وأخذ ليقام عليه الحد، ولكن رجاؤه في الله لم ينقطع فأخذ كي يقام عليه الحد، ويقسم بالله وهو في طريقه لإقامة الحد عليه: أن الله سيبرئ ظهره وقد كان، فنزلت آية الملاعنة فرجاً ومخرجاً لـ هلال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6-7] .
وهكذا ينبغي أن نكون، إذا انقطع رجاؤنا في البشر فلا ينقطع رجاؤنا في ربنا سبحانه وتعالى، فبابه مفتوح، وعنده خزائن كل شيء، ويجعل دائماً بعد العسر يسراً سبحانه وتعالى.
شكت المجادلة حالها إلى ربها سبحانه وتعالى، واستمع الله سبحانه وتعالى لشكواها كما نص على ذلك في هذه السورة الكريمة.
وقد ورد في بعض الأسانيد التي ينظر فيها: أن عمر كان في سفر مع بعض رجالات قريش وأكابر قريش، وفي بعض الروايات أنه خرج لبعض مغازيه فاعترضته امرأة في الطريق، فأوقفته طويلاً وخاطبته وهي عجوز، فقالت له: يا ابن الخطاب! قد كان يقال لك وأنت صغير: يا عمير! ثم قالوا لك: يا عمر! لما كبرت، ثم قالوا لك: يا أمير المؤمنين! فاتق الله يا ابن الخطاب! فإن من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وطال مقامها معه حتى عاتبه بعض رجال قريش، وقال: يا أمير المؤمنين! تحبس الجيش على امرأة عجوز مثل هذه، فقال له عمر: أتدري من هذه التي أوقفتني؟ إنها التي استمع الله إلى قولها من فوق سبع سماوات، ونزل في ذلك قرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، أفيستمع ربنا سبحانه وتعالى إلى قولها ولا يستمع عمر إليها؟.(54/4)
تفسير قوله تعالى: (الذين يظاهرون منكم من نسائهم.)
قال تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2] أي: الذي يقول لزوجته ما كان أهل الجاهلية يقولونه: أنت عليّ كظهر أمي، أي: أنت محرمة عليّ كما أنه يحرم عليّ أن آتي أمي وأجامعها، فأنت كذلك، وعبر بالظهر؛ لكونه المركوب، وإلا الذي يركب هو البطن في الغالب.
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2] ، في قوله: (من نسائهم) إبطال لكل ظهار على غير الزوجة، فإذا قال رجل من الناس: فلانة عليّ كظهر أمي إن تزوجتها، فلا اعتبار لهذا الكلام؛ لأنها ليست من نسائه، وربنا يقول: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2] ، ثم إنه قبل أن يتزوجها هي محرمة عليه، إن لم يكن التحريم كتحريم الأم، فاستفيد من الآية: أن المظاهر من غير امرأته لا اعتبار لظهاره، وكذلك مطلق غير امرأته، كمن يقول: فلانة طالق إن تزوجتها، كذلك يأخذ نفس الحكم.
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة:2] أي: الذي يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، كذاب، فزوجته ليست هي أمه.
{إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُم} [المجادلة:2] يعني: أمك هي التي ولدتك، ولا يعكر على هذا قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتنا في المحرمية، ولسن أمهاتنا من النسب، ولكنهن محرمات علينا تحريماً أبدياً كتحريم الأمهات، كما قال تعالى: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53] ، لكن ليس مقتضى هذه المحرمية أننا نراهن؛ فتحريم رؤيتهن استنبط من دليل آخر ألا وهو: {َإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} [الأحزاب:53] .
قال تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُم} [المجادلة:2] ، ويستنبط من هذه الآية منع التبني بالنسبة للنساء، فكون امرأة تأتي وتلتقط طفلاً وتنسبه إليها على أنه لها ولد فهذا باطل، فكما أن الله حرم التبني بالنسبة للرجال بقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] ، كذلك الأمر بالنسبة للنساء.
{إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ} [المجادلة:2] أي: المظاهرون الجهلة، {لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2] أي: يقولون قولاً كذباً ومنكراً ومزوراً.
{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2] ، فالظهار فضلاً عن الأحكام الفقهية المترتبة عليه هو في نفسه إثم، لكونه قولاً منكراً وقولاً وزوراً.(54/5)
دعوة أصحاب الكبائر إلى التوبة وعدم اليأس من رحمة الله
قل تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:2] وهذا التذييل لهذه الآية الكريمة مطرد في كتاب الله يفتح باب التوبة لكل مذنب، فكلما ذكرت كبيرة في كتاب الله وذكرت عقوبتها؛ ذيلت آياتها بفتح باب التوبة حتى لا يقنط شخص من رحمة الله، ولا ييئس شخص من رحمة الله، فاليأس من رحمة الله كبيرة {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ، {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] ، فحتى ينتفي هذا المعنى ألا وهو اليأس والقنوط من رحمة الله، فتح باب التوبة بعد ذكر الكبائر، فإلى هؤلاء الذين جهلوا وارتكبوا الذنوب، ويحتاج الذنب إلى رمضان يكفره، أو إلى عمرة تكفره، أو إلى حج يبيده ويزيله، وقد يعجز حتى الحج عن تكفير الذنب، فأمره يوكل إلى الله سبحانه وتعالى.
وقد جاءت فتاوى العلماء على هذا النمط في عدة مسائل، ليست عليها أدلة في الكفارات، كأن تذنب ذنباً فتبحث عن فتاوى العلماء في هذا الذنب تجدها متعددة، فكلٌ قيَّم الذنب بحسبه، من ذلك -مثلاً-: كفارة من جامع زوجته وهو محرم، لم يرد فيها نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عموم قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] ، لكن كم هي الكفارة؟ من العلماء من قال: يذبح جملاً.
فكما أسلفنا أن عظم الكفارة تدل على عظم الذنب، والكفارات التي لم تحدد في الشرع، أو الفروض التي لم تحدد لها كفارات في الشرع، تقدر بقدرها، ويفعل الشخص حسنات توازيها أو تزيد عليها حتى تمحى وتزال، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ؛ ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) ، وكما أسلفنا أن فتاوى العلماء أحياناً تختلف في مسألة من المسائل، مثلاً: تجد شخصاً قد أذنب ذنباً فذهب إلى الإمام الشافعي، فقال: كفارته كذا وكذا، وليس هناك دليل على هذه الكفارة التي ذكرها الإمام الشافعي، أو دليل على بيان حجمها، والإمام مالك رحمه الله تعالى يفتي بكفارة من نوع آخر، وأحمد يفتي بكفارة من نوع ثالث، فالكل نظر إلى حجم الذنب وإلى قدر الحسنات التي توازيه، فرأى هذا القدر يتمثل في كذا وكذا.
ومن هذا الباب ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً أتاه فقال: يا ابن عباس! إني أذنبت ذنباً كبيراً كلما تذكرته اقشعر جلدي، قال: وما هو؟ قال: رزقت ببنت من زوجتي وكانت حسناء، فأصابني ما يصيب أهل الجاهلية من العار، وهممت بوأدها، ولكني تصبرت حتى كبرت وأصبحت ذات جمال، فقلت لأمها ذات يوم: جمليها وألبسيها أحسن الثياب، فجملتها وألبستها أحسن الثياب، ثم أخذتها فلما رأت أمها في وجهي الشر قالت: اتق الله ولا تمس ابنتك بسوء، فوعدتها خيراً، وذهبت بها بعيداً إلى حافة بئر، فأردت أن أقذفها في البئر، فتعلقت بثيابي وقالت: يا أبتِ! ماذا تريد أن تصنع بي؟ فأمسكت عنها، وأخذتني الرأفة، ثم ذهبت بها بعيداً وعاودني ما يعتري أهل الجاهلية من الجهل والعار فجئت لأدفعها فتعلقت بثيابي قائلة: يا أبت! ماذا تريد أن تصنع بي؟ فأخذتني الرأفة، ثم تحاملت على نفسي وقذفتها في البئر وقتلتها، فماذا عليّ يا ابن عباس؟ فـ ابن عباس استعظم الذنب -وهذا هو الشاهد- فقال: اذهب فلا أجد لك شيئاً، فانطلق الرجل ثم دعاه ابن عباس فقال: هل لك أم حية؟ قال: لا، فانصرف الرجل ثم رجع إلى ابن عباس فقال: يا ابن عباس! وماذا تريد مني بسؤالك: هل لك أم حية؟ قال: لا أعلم شيئاً يوازي الذي صنعت إلا برك بأمك.
فـ ابن عباس رضي الله عنهما نظر إلى حجم الذنب، ونظر إلى حسنة تكافئ هذا الذنب أو تزيله وهو البر بالأم، فمن ثم بين للمذنب هذه الحسنات وهذه الخيرات التي تباد بها هذه السيئات.
إذاً: إذا علمت هذا؛ فلا يعد خلافاً بين العلماء أن يفتي عالم بفتاوى وبكفارة معينة في المسائل التي ليس فيها نص، ويفتي عالم آخر بكفارة أخرى في نفس المسألة التي ليس فيها نص، فيكون هذا قد اجتهد في تحديد حجم الكفارة، وهذا قد اجتهد في تحديد حجم الكفارة.
أما أن تأتي وتقول: المسألة ليس فيها دليل فيكفي أن تستغفر الله، صحيح أن المسألة ليس فيها دليل، لكن نهاية الكلام فيه قصور، فالاستغفار قد لا يكفي في أكثر الأحيان مع الذنوب الكبار، إلا إذا شاء ربي شيئاً آخر.
فمن ثم جاءت عقوبة الظهار تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فدل على عظم ذنب من قال لزوجته هذا القول المنكر: أنت عليّ كظهر أمي، فهي مقولة لا تصدر إلا من أهل الجهل وأهل الغباء، إذ هي في نفسها مقولة قبيحة مستقبحة مستنكرة، هي منكر من القول كما وقال ربنا، وإضافة إلى النكارة فهي زور {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2] .(54/6)
تفسير قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام شهرين.)
قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة:4] ، المراد: بالشهور العربية، وليس بالشهور الميلادية، فإن كان الهلال يتراءى فابنِ على رؤية الهلال، وإن كان الهلال مهملاً لا يتراءى في أكثر الشهور، فقال كثير من العلماء: تصوم ثمانية وخمسين يوماً، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الشهر هكذا، الشهر هكذا، الشهر هكذا، وخنس الإبهام في الثالثة -أي: تسعة وعشرون يوماً- فإذا غم عليكم فأتموا عدة شعبان ثلاثين يوماً) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ} [المجادلة:4] ، والاستطاعة في الحقيقة يعلمها ربك، فكثير من الشباب يفعل فعلة تستوجب الصيام، والله يعلم من حاله أنه يطيق الصيام، فيتجه إلى الإطعام، فليعلم مثل هذا أن الاتجاه إلى الإطعام مع استطاعة الصيام لا يجزئ؛ لأن الله يقول: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} [المجادلة:4] .
فكذلك أصحاب الكفارات الأخرى، مثل: المجامع في رمضان، وقاتل الخطأ، كأن يصدم شخصاً بسيارته فيموت المصدوم، كل هؤلاء في حقهم الكفارة المغلظة التي هي صيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فحينئذ يتجه إلى إطعام ستين مسكيناً، {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة:4] أي: فلا تعتدوها ولا تتخطوها، {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:4] عافانا الله وإياكم منه!(54/7)
الأسئلة(54/8)
حكم من قتل جرادة أثناء العمرة ولم يذكر التحريم
السؤال
كنت في العمرة في رمضان، وأثناء الطواف قتلت جرادة ماشية، ولم أتذكر التحريم فهل عليّ شيء أفعله؟
الجواب
إذا كنت ناسياً فإن الله وضع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم الخطأ والنسيان، وإذا كنت عالماً فابعث مع من يذهب إلى مكة ليتصدق بقيمته في مكة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] .
وهذا إذا قلنا بالكفارة.(54/9)
معنى العج والثج
السؤال ما هو العج والثج؟
الجواب
الثج: كثرة إراقة الدماء في الحج، والعج: رفع الصوت بالتلبية.(54/10)
رجل سافر مع إحدى زوجتيه هل يقضي للأخرى أيامها؟
السؤال
زوجي كان معي في العمرة على نفقتي، وعند عودتنا يريد أن يمكث مدة مثل التي قضيناها في العمرة عند الزوجة الأخرى، فهل له ذلك؟
الجواب
يعني زوجته أنفقت عليه وأخذته للعمرة على نفقتها، ثم رجع من العمرة فيريد أن يقضي الأيام التي قضاها معها في العمرة عند الأخرى، فإذا كانت الأخرى اشترطت عليه ذلك ووافقت المعتمرة على ذلك؛ فله أن يقضي الأيام عند الأخرى، وإن لم تكن اشترطت وخرج بموافقتها فلا قضاء عليه، إذا خرج بموافقة الباقية هنا، لو قالت له: اخرج ولم يحدث بينهما شروط ولا اتفاقيات فلا قضاء عليه، والله أعلم.(54/11)
حكم من تلفظ بالطلاق وهو في حالة تفكير عميق
السؤال
تلفظ شخص مع نفسه وفي حالة من التفكير في موضوع بلفظ: أنت طالق يا فلانة باسمها، وهو وحده ليس معه أحد أثناء تفكيره بالانفصال عن زوجته التي لم يبن بها؟
الجواب
أخونا السائل موسوس! ولا شيء في طلاقه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تفعل) وهو موسوس كما قال العلماء فلا شيء في ذلك.(54/12)
حكم أخذ المرتب أثناء العطلة الصيفية
السؤال
نعمل في التربية والتعليم، فما الحكم في المرتب أثناء الإجازة الصيفية فنحن لا نذهب؟
الجواب
المرتب حلال لك.(54/13)
حكم الاستمناء وكيفية الابتعاد منه
السؤال
يسأل الأخ عن حكم الاستمناء؟
الجواب
نذكره بمراقبة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن، فإذا راقبت ربك استحيت من نفسك، فأنت تستحي أن يراك رجل من صالحي قومك على حال سيئة، كيف والرقيب شهيد سبحانه وقد قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7] ، وإذا ابتليت بشيء من ذلك فأتبعه بفعل حسنات، وإكثار من الصلاة والصيام، واعمل بنصيحة النبي عليه الصلاة والسلام (من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) .(54/14)
حكم تعاطي ما يمنع الحمل لإتمام الرضاع
السؤال
زوجة لها ابن لم يبلغ السنتين وتريد أن تأخذ ما يمنع الحمل حتى تستطيع أن تعطيه حظه من الرضاعة، هل عليها في ذلك إثم؟
الجواب
إذا كان لإتمام الرضاع، والوسيلة المستعملة لا تضر بها ولا بطفلها بشهادة الأطباء العدول الثقات، فلا بأس بذلك إلى أن ينقضي العامان والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(54/15)
حكم حلق الشارب
السؤال
هل ورد شيء في حلق الشارب بالكلية؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم قال (قصوا الشوارب) ، والذي أعلمه فقط مقولة الإمام مالك: من حلق الشارب يؤدب، والمسألة محل بحث، والله أعلم.(54/16)
حكم من سرق شيئاً قبل البلوغ وأراد التوبة
السؤال
يقول الأخ: سرقت وأنا في سن الثالثة عشرة، وتبت ورجعت إلى الله، ولكن عند المعرفة بأن توبة السارق لا تقبل إلا برد ما أخذه مع عظم الشعور بالذنب، ولم أعد أفكر في أي ذنب إلا هذا الذنب الذي بدد عليّ رجوعي إلى الله، وحال بيني وبين الله، مع العلم بأني قلت لنفسي: حينما يخلف الله علي سأقضي الدين، ولكن أخشى الموت قبل سداد الدين، ولا أستطيع الاعتراف لهم بسرقتي؛ لأني شديد الحياء؟
الجواب
لا تعترف بسرقتك الآن، واستر على نفسك إلى أن يوسع الله عز وجل عليك، وسدد إليهم المال إذا وسع الله عليك، ولا تقنط من رحمة الله، واطلب مسامحتهم إجمالاً، ولا تحدد أنك سرقت وأنت ابن ثلاثة عشر عاماً.
وعندنا مخرج آخر، لكن أخبرك به أنت وحدك، إلا إذا كان هنا لا يوجد صغار، وهو: إذا كنت دون البلوغ فالأمر أخف، والله أعلم.(54/17)
حكم الجمع بين تحية المسجد وسنة الوضوء
السؤال
هل يجوز الجمع بين تحية المسجد وسنة الوضوء بنية واحدة؟
الجواب
نعم يجوز الجمع بين تحية المسجد وسنة الوضوء، بل وسنة الظهر القبلية، بل والاستخارة مع هذه كلها بنية واحدة، يعني: يجوز أن تصلي ركعتين هي سنة الظهر القبلية، وهي تحية المسجد، وهي سنة الوضوء، وهي استخارة، يجوز أن تجمع بين هذه الأشياء.
أما قضاء رمضان مع الست من شوال فلا؛ لأن هذه مسألة أخرى، لا يجوز الجمع بين النيتين في مسألة قضاء رمضان مع الست من شوال.(54/18)
حكم الصفرة والكدرة بعد الطهر وقبله
السؤال
تقول امرأة: إنها في فترة نفاس، ورأت الطهر في اليوم الثلاثين صباحاً، وفي نفس اليوم وجدت إفرازات لونها متغير صفراء حمراء، فتركت الصلاة، تقول: لكن أرى هذه الإفرازات مرة على لونها الطبيعي ومرة متغيرة، فإذا كان ما رأيته هو الطهر فماذا أفعل في الصلوات التي فاتتني؟ وكيف أتأكد من الطهر الذي قبل الأربعين؟
الجواب
إذا رأت المرأة الطهر في صبيحة الثلاثين كما ذكرت، وبعد أن رأت الطهر وتأكدت منه نزلت إفرازات، أو نزلت الصفرة والكدرة، فالصفرة والكدرة إذا كانت أثناء النفاس أو أثناء الحيض فحكمها حكم الحيض أو النفاس، وإذا كانت بعد رؤية الطهر فلا اعتبار لها، فتبني على الطهر.
الحاصل في مسألة الصفرة والكدرة: إذا كانت أثناء الحيض فهي حيض، وإذا كانت بعد الطهر فلا اعتبار لها، ولا تمنع المرأة من طهرها.
فنقول لها: لا تعتذر بالصفرة والكدرة، بل عليها أن تصلي، أما بالنسبة للأيام التي تركت الصلاة فيها، فإن كان قد مضى زمنها من مدة طويلة فلا شيء عليها؛ لأنها اجتهدت وأخطأت في هذا الباب، وإن كانت قريبة العهد بذلك تقضي مع كل صلاة صلاة.(54/19)
حكم زيارة المقابر في يومي الخميس والجمعة
السؤال
هل هناك فضيلة في زيارة المقابر يوم الخميس أو الجمعة أو بعد صلاة فجر السبت؟
الجواب
ليست هناك فضيلة في ذلك؛ بل قد تكون إلى الابتداع أقرب لتخصيص يوم بمراسم معينة، ولكن جاءت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عامة (زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة) ، فلم يقيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بوقت دون آخر.(54/20)
عدم لزوم صلاة الظهر لمن طهرت بعد المغرب بقليل
السؤال
إذا طهرت الحائض وقد دخل وقت المغرب بقدر ركعة، فهل يجب على المرأة أن تصلي الظهر والعصر جمع تأخير أم يستحب ذلك؟
الجواب
هذه المسألة فيها أقوال كثيرة للعلماء، لكن ليس هناك دليل يلزم المرأة التي هذه حالتها بأن تقضي الظهر ولا العصر، ليس هناك دليل، فعليه ليس في ذمتها إلا فرض المغرب.(54/21)
حكم إزالة المرأة الشعر من الرجل واليد وما بين الحاجبين
السؤال
الشعر الذي ينبت في رجل المرأة ويدها وما بين حاجبيها، هل يشرع لها إزالته؟
الجواب
أما الذي في رجلها ويدها فيجوز لها أن تزيله، وما بين الحاجبين من حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، فلتبتعد عن الشعر الذي بين الحاجبين، فمن العلماء من يحكم بأن إزالته نمص، وأما الذي في اليد أو الرجل لها أن تزيله.(54/22)
عدم ثبوت ذكر معين عند إقامة الصلاة
السؤال
هل يشرع ذكر معين عند إقامة المؤذن للصلاة؟ وماذا يجب عند سماع الإقامة؟
الجواب
لا يثبت في ذلك حديث، وحديث: (أقامها الله وأدامها) حديث ضعيف.
ويجب عليك أن تقوم عند سماع الإقامة.(54/23)
حكم من رضع مرتين مع امرأة وأراد التزوج بابنتها
السؤال
خطبت ابنة عم لي، وبعد الخطبة بعام قمت بإلباسها الذهب علانية، ثم تبين لي الآن أني وأمها قد رضعنا من طرف خارجي - يعني: الولد صار خالها من الرضاعة الآن -، مع العلم أن رضاع الأم مشكوك فيه جداً إذ نفتها إحدى السيدات من بيت المرضعة بأدلة، وأنا قد رضعت من الطرف مرتين فقط؟
الجواب
المثبت مقدم على النافي، فإذا كان هناك امرأة أثبتت أنها أرضعتك، وجاءت أخرى وقالت: أنتِ لم ترضعيه، فالمثبت مقدم على النافي، وهو يقول: أنا رضعت من هذا الطرف مرتين فقط، وما أدراك؟ فهل يجوز العقد أم لا؟ مع العلم أن عدم إتمام العقد ينشأ عنه أضرار كثيرة جداً.
(جاء رجل وقال: يا رسول الله إني تزوجت ابنة أبي إهاب بن عزيز وجاءت امرأة سوداء فزعمت أنها أرضعتني -هكذا نص السؤال: زعمت امرأة سوداء أنها أرضعتنا- وهذا الرجل يقول كما قال أخي في السؤال-، يقول: وهي كاذبة يا رسول الله! -وما أدراك أنها كاذبة؟ - فقال الرسول: كيف وقد قيل؟ دعها عنك) أي: اتركها، فالاحتياط لك أن تتركها.
لكن إن جئنا عند التحرير، إن كان حقاً ما تقول: إنك رضعت مرتين فقط، ففي شأنك نزاع، الجمهور يقولون أيضاً: تحرم عليك؛ إذ عند الجمهور: أن الرضعة الواحدة تحرم، ولكن بعض المذاهب فقط هو الذي سيبيح لك ذلك؛ لحديث (لا تحرم المصة ولا المصتان) ، وإن كان الجمهور يحملون المصة على الشفطة لا على الرضعة الكاملة، ولكن القوي في الباب حديث عائشة (كان فيما أنزل من القرآن أن عشر رضعات مشبعات يحرمن فنسخ بخمس معلومات) ، فعلى ذلك الاحتياط ألا تتزوجها، إلا إذا كنت أنت تحبها حباً شديداً، فإذا جئت عند التحرير فكما سمعت، إن كنت رضعت رضعتين فقط فبعض المذاهب يجيز لك الزواج بها، لكن ستبقى طول حياتك في قلق واضطراب.(54/24)
حكم صوم يوم السبت تطوعاً
السؤال
ما حكم صوم يوم السبت في التطوع؟
الجواب
تقدم الكلام عليه، فمن صام يوم السبت لا إشكال فيه، لا إشكال في صومه، والحديث الوارد في هذا الباب قد ضعفه فريق كبير من العلماء: كالإمام مالك، وأبي داود، ألا وهو حديث (لا تصوموا السبت إلا فيما افترض عليكم) قال الإمام مالك: إنه حديث كذب، وغيره من العلماء تكلموا فيه، وفي حالة صحته فهو محمول على من يتشبه باليهود ويخصص السبت بالصيام، وقد تقدم الكلام بمزيد من الإيضاح، وأن الحديث معارض بما هو أقوى منه بمراحل (لا يصومن أحدكم الجمعة إلا ويوماً قبله ويوماً بعده) .
(أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) ، وهذا قول عامة أهل العلم: أن صوم يوم السبت جائز، والله سبحانه أعلم.(54/25)
حقيقة النهي في حديث: لا تصوموا السبت.
السؤال
هل يقع النهي على من صام السبت منفرداً؟
الجواب
متن الحديث الذي يستدلون به على المنع لا يقتضي ذلك؛ لأن متنه: (لا تصوموا السبت إلا فيما افترض) فهم يقولون: إن الصيام قبله بيوم ما زال نفلاً، فالقول معكر عليه أيضاً بنفس متن الحديث، يعني: لا أنت مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.(54/26)
عدم صحة حديث: إخفاء الخطبة وإعلان النكاح
السؤال
ما صحة هذا الحديث (إخفاء الخطبة وإعلان النكاح في المساجد) ؟
الجواب
لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(54/27)
تفسير سورة المجادلة [2]
لقد بين سبحانه وتعالى في سورة المجادلة أنه يعلم ما يتناجى به الناس، سواء كانوا ثلاثة أو أقل أو أكثر، وهذا دليل على سعة علم الله وإحاطته بخلقه.
وبين كذلك أن النجوى من الشيطان، وأن الهدف منها إحزان المؤمنين وهمهم وغمهم، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن النجوى، لكن اليهود والمنافقين لم ينتهوا عنها، وتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وأمر الله سبحانه المؤمنين بأن يتناجوا بالبر والتقوى.
ثم بين سبحانه وتعالى أدب المجالس والإفساح لأهل العلم والفضل، وذلك لمكانتهم العظيمة عند الله سبحانه وتعالى، حيث رفع درجاتهم في الآخرة، وبوأهم المكانة العظيمة في الدنيا، وأمرنا الشرع أن ننزل الناس منازلهم.(55/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] .
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} [المجادلة:7] ، وفي ختام الآية: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] ، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: بدأت الآية بالعلم، وختمت بالعلم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:7] فحمل فريق من المفسرين قوله تعالى: {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] على أن المعية في الآية الكريمة معية علم، أي: يعلم أحوالهم، فيكون التأويل: ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم يعلم أحوالهم، وليس المراد: (معهم) أو (رابعهم) بذاته سبحانه وتعالى، فقد قال الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وقال سبحانه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] ، ولما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارية قائلاً لها: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: اعتقها فإنها مؤمنة) .
فبعض أهل البدع من شبههم التي يثبتون بها أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان هذه الآية: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] ، مع قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84] .
فقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] أي: وهو الذي في السماء معبود وفي الأرض معبود، أي: معبود في السماء، ومعبود في الأرض، أي: يعبده أهل الأرض، ويعبده أهل السماء، وهذا من قولهم: ألهت إلى فلان، فعلى ذلك فهذه الآية التي بين أيدينا لا دليل فيها لمن ذهب إلى أن الله في كل مكان، كما هو مذهب طائفة من المعتزلة والمبتدعة.
ثم إن قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] أي: يعلم مناجاتهم التي يتناجون بها.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:7] ، تقدم أن الرؤية أحياناً تأتي بمعنى العلم، نحو: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:243] ، ليس المراد: رؤيا البصر، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ير الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وكذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [البقرة:246] ، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما رأى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، فالمراد بالرؤيا هنا: العلم، أي: ألم يأتك خبر هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف؟ وثم أقوال أخر.(55/2)
حقيقة المعية في الآية وأقسامها
قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] أي: يعلم الشيء الذي يتناجون فيه، ومن العلماء من ضم إلى معية العلم معية الرؤية والإحاطة والسمع كذلك، فالله يعلم سرهم ويعلم نجواهم ويراهم، ويعلم ما تكنه صدورهم وما يعلنون.
والمعية معيتان: معية نصر وتأييد، ومعية علم وإحاطة.
فمعية العلم والإحاطة عامة، فبهذا المفهوم الله سبحانه وتعالى مع كل من يتناجى أو لا يتناجى، يعلم سره ويعلم حاله، لكن قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] المعية هنا معية نصر وتأييد، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] ، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر رضي الله عنه في الغار: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، فـ (لا تحزن إن الله معنا) معية نصر وتأييد وعلم وإحاطة أيضاً، لكن في شأن الكفار تنتفي معية النصر والتأييد، فلا يقال: إن الله مع الكافرين، ولا إن الله مع الظالمين، وبهذا تتضح معاني المعية، فهي معيتان: معية نصر وتأييد وهي لأهل الإيمان، ومعية علم وإحاطة وهي عامة لأهل الإيمان وأهل الكفر، والله سبحانه أعلم.(55/3)
حقيقة النجوى وتفسيرها
قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} [المجادلة:7] ، النجوى: هي التناجي وهي الحديث في السر، وقد سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن النجوى فذكر: أن أقرب ما تفسر به النجوى هو ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (يدني الله سبحانه وتعالى المؤمن يوم القيامة -أي: يقرب الله المؤمن منه يوم القيامة-، ويضع عليه كنفه ويستره عن الناس، ثم يقرره بذنوبه: عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب! عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب! فيقول الله سبحانه: أنا سترتها لك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) ، وأما الكفار والمنافقون فكما قال الله: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] .
فالتناجي هو الحديث في السر، وأغلب ما يتناجى به الناس فيه إثم وعدوان، قال الله سبحانه: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114] ، أكثر الأحاديث التي يتناجى بها الناس لا خير فيها، {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114] .
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] أي: معية علم وإحاطة أيضاً.
{ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة:7] أي: ثم يخبرهم بما صنعوا وما تحدثوا يوم القيامة، {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] .(55/4)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى.)
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة:8] ، من هؤلاء الذين نهوا عن النجوى؟ وما هي صورة النجوى التي نهوا عنها؟ لأهل العلم في ذلك أقوال: من هذه الأقوال: أن هناك عمومَ نهي عن النجوى، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر؛ فإن ذلك يحزنه) ، ويلتحق بذلك إذا كنتم أربعة فلا يتناجى ثلاثة دون الرابع، وكذلك إذا كنتم عشرة فلا يتناجى تسعة دون العاشر؛ لأن الحزن وارد بصورة أكبر في التسعة إذا تركوا الواحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر فإن ذلك يحزنه) ، ونحن مأمورون بدفع كل ما يحزن المسلم، كل شيء فيه جلب الحزن للمسلمين أمرنا بالابتعاد عنه، وكل شيء فيه إدخال السرور على المسلمين أمرنا بفعله، وجاء الترغيب فيه والحث عليه، ومن ثم شرعت المواساة بعيادة المرضى وبالتعزية للجنائز، وبالزيارات ابتغاء وجه الله، وبالهدايا التي تدخل السرور، وبإفشاء السلام الذي يجلب المودة ويدفع الهموم ونحو ذلك.
لقد كان أهل النفاق يجلسون مع بعضهم البعض يتحدثون جهراً، فإذا مر بهم مسلم من المسلمين تناجوا فيما بينهم وتركوا المسلم، فيغتم لذلك المسلم، ويظن أنهم يريدون به السوء، ويظن أنهم يتحدثون في أمر من الأمور التي ستجتاح المسلمين، فيصاب بالحزن وبالهمّ لهذه المناجاة، وكان اليهود أكثر من يستعمل ذلك على عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يجلسون مع بعضهم البعض وإذا مر بهم المسلم بدءوا في التناجي، ولا حاجة لهم إلى التناجي؛ ولكن يتناجون كي يغتم المسلم، ويجلبوا له الهم والنكد، فيفكر المسلم ويقول: ماذا يريدون بي؟! لعلهم يتآمرون لقتلي لما علموا بسفري! فيغير خط سيره في السفر، لعلهم يتحدثون عن مؤامرة ضد المسلمين فيغير أعماله، فكان قصدهم من التناجي هو إيذاء المسلمين بصورة من الصور.
فعلى ذلك قد يتجه بعض إخواننا إلى هذا التناجي المذموم، وخاصة في أوساط النساء اللواتي يتحدثن سراً، وتريد امرأة أن تكيد أخرى فتجلس وتناجي ثالثة، فكل هذا سلفه اليهود، هم الذين بثوا هذا الأذى في المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.(55/5)
مردّ تعجيل العذاب للمجرمين وتأخيره إلى الله سبحانه
فالآية الكريمة أفادت أنه ليس كل مذنب يعذب في الدنيا، ولا يلزم أن يعذب كل مجرم في الدنيا على جرائمه، بل قد يدخر العذاب للمجرمين إلى يوم القيامة، فأنت -يا مسلم- قد يظلمك شخص، فتقول: ها هو جالس يظلمني، يضربني، ويأكل مالي، وينتهك عرضي، فلماذا لم يعذبه الله سبحانه وتعالى؟! ولماذا يتركه الله سبحانه وتعالى ويمد له من النعيم مداً؟! فالإجابة: أنه ليس كل ذنب تعجل عقوبته في الدنيا، بل هناك من الذنوب ذنوب تؤخر وتدخر لأصحابها العقوبات إلى الآخرة، ونحو ذلك ورد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] قال كثير من المفسرين: إن الذين خدوا الأخاديد للمؤمنين، وأضرموا فيها النيران وقذفوهم فيها، لم يذكر أنهم عذبوا بعذاب صريح في الدنيا، فعلى ذلك فعذابهم مدخر في الآخرة.
وقد قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] قولاً مرجوحاً مطروحاً وهو: أنهم بعد أن قذفوا المؤمنين في النار تطاير عليهم من شررها فأحرقهم وهم قعود ينظرون إلى أهل الإيمان، ولكنه قول مطرح، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فالشاهد: أنه ليس كل مجرم يعذب في الدنيا، بل قد يدخر العذاب للمجرمين في الآخرة؛ ولذلك لما قالوا في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول، أجابهم الله بقوله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8] .
فليس للمسلم من أمره شيء، فقد يدخر الله العذاب لظالمه وقد يعجله، ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من ظلموه باللعنة فقال (اللهم! العن فلاناً وفلاناً، نزل قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] ) ، وكما في الآية الأخرى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46] ، وقال تعالى في الآية الثالثة: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} [غافر:77] ، أي: قبل أن نرينك الذي وعدناهم من العذاب، {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77] ، فقوله سبحانه: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [غافر:77] ، أي: يا محمد! قد نشفي لك صدرك في الدنيا بأن نريك في عدوك ما يريحك ويذهب غيظ قلبك، ونريك فيه العذاب قبل مماتك، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} [غافر:77] قبل أن ننزل العذاب عليهم، وقد كان هذا وذاك، فشفى الله صدر نبيه محمد من أقوام قد ظلموه وآذوه ولعنوه وسبوه، فهاهو يقف يوم بدر على بئر قد ألقيت فيه جيفُ المشركين: أبو جهل، وعتبة، وشيبة، فيناديهم: (يا عتبة بن ربيعة! ويا شيبة بن ربيعة! ويا أبا جهل بن هشام! ويا أمية بن خلف! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً؟) الحديث.
وثم أقوام آخرون كـ مسيلمة الكذاب اغتم الرسول صلى الله عليه وسلم بشأنه شيئاً ما، واطمأن لما رأى في يديه سوارين فنفخهما فطارا، فأولهما كذابين يخرجان من بعده، فكان صاحب صنعاء الأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، ولكن مسيلمة ما قتل إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى ذلك قوله تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77] ، مع قوله سبحانه: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8] ، فيهما ما يعزى به المسلم الذي أصيب من ظالم، أو الذي انتهك عرضه ظالم، فلتقر عين كل مظلوم فإن الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر.
قال تعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8] ، أي: بئس المصير الذي يصيرون إليه.(55/6)
الدلالة على كون الآية نزلت في اليهود وبيان مكرهم وسخفهم
وقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8] وهذا يؤيد أن الآية في اليهود؛ لأن اليهود كانوا يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يحيه به ربه، كان أحدهم يأتي ويقول: السام عليك يامحمد! أي: الموت واللعنة والهلاك عليك يامحمد! فهذا مضمون قوله تعالى: {وإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8] ، وفي الصحيح (أن عائشة: كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه قوم من اليهود فقالوا: السام عليك يا محمد! فقالت: وعليكم السام واللعنة! فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة! إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، قالت: يا رسول الله! أولم تسمع ما قالوا؟ قال: قد سمعت، وقلت: وعليكم، فيستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا) ، هكذا قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا معني قوله تعالى: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} [النساء:46] ، فكانوا يلوون ألسنتهم بالسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحولون السلام إلى مقصد آخر ذميم وهو اللعن والهلاك.
{وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8] فيؤخذ من الآية: أنه ينبغي بل يتعين على المسلمين أن يحيي بعضهم بعضاً بما حياهم الله به، تحيتهم وتحية أبيهم آدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهي أتم صيغة، وعليها ثلاثون حسنة، ودونها: السلام عليكم ورحمة الله، ودونها: السلام عليكم، هذه تحية المسلمين.
{وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8] .
هذه الآية فيها تسلية للمؤمنين، وتصبير لكل مبتلى، وما هو وجه ذلك؟ وجهه أن الله سبحانه وتعالى ذكر مقالة اليهود إذ قالوا في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول، أي: أن اليهود يقولون في أنفسهم: نحن نسب محمداً وندعو عليه باللعنة، وندعو عليه بالهلاك، فإذا كان محمد نبياً فلماذا لم يعذبنا الله بسبنا لمحمد، وبشتمنا لمحمد، وبدعائنا على محمد باللعنة والهلاك؟! فهذا حاصل قولهم {لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8] ، فأجابهم الله بقوله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8] ، أي: تكفيهم جهنم.(55/7)
الفرق بين الإثم والعدوان
قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة:8] ، الإثم: هو الذنب الذي يقترفه الشخص في حق نفسه، والعدوان: هو الذنب الذي يقترفه الشخص في حق الآخرين، وهو من باب التعدي.
ومنه قول الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] .
ولكن كما سمعتم آنفاً: أن اصطلاح الإثم قد يتسع ويحمل المعنيين: فيحمل معنى الذنوب التي يقترفها الشخص في حق نفسه، ويحمل معنى التعدي على الآخرين، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] ، فكبائر الإثم تدخل فيها الجرائم التي فيها تعدٍ إلى الآخرين، من سطو ونصب وغش ونحو ذلك.
وقوله: {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} [المجادلة:8] ، أي: يتواصون فيما بينهم بمعصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتواصون فيما بينهم بالتشويش على القرآن كما قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] ، أي: شوشوا عليه حتى لا يستمع إليه.(55/8)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم.)
ثم جاء الخطاب إلى أهل الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:9] يا أيها الذين آمنتم بي، وصدقتم برسلي، وأقررتم بكتابي.
{إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا} [المجادلة:9] كما يتناجى اليهود وأهل النفاق.
{بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُول} [المجادلة:9] ، لا تتشبهوا بهم في هذه المناجاة السيئة، ولكن: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المجادلة:9] ، وهنا تذكير بالحشر، وما يتبع ذلك من أمور مهولة وعظيمة.(55/9)
تفسير قوله تعالى: (إنما النجوى من الشيطان.)
قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة:10] أي: أن أصلها من الشيطان، هو الذي حرض عليها، وهو الذي دفع إليها، إذ هو يريد دائماً إحزان المسلم، لا يريدك سعيداً يوماً من الأيام، إنما دائماً يريد أن يجلب النكد والهم والغم لأهل الإيمان.(55/10)
كيفية الاحتراز من الشيطان وأعوانه
قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10] ، فالشيطان يدفع اثنين إلى التناجي ويذهب إلى الثالث يوسوس له، لم يتناجيان؟ هما يتآمران ضدك، فانتبه له واحذر منه، فالشيطان يفعل ذلك؛ {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10] .
من العلماء من جعل من الحروز التي يحترز بها العبد من الحسد ومن عموم الأعداء، ألا يكثر الانشغال بهم والالتفات إليهم، فيقولون: من علاج الحسد ألا تنشغل كثيراً بالحاسد، فهو يريد شغلك والاستحواذ على فكرك حتى تفكر فيه، فأهمله واعتصم بالله وتوكل عليه، فهذا نوع من أنواع العلاج، لا تشغل نفسك كثيراً بعدوك، بل خذ ما شرع لك من الأخذ بالأسباب، وتوكل على الله وليطمئن خاطرك، قال تعالى: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10] ، فإذا رأيت اثنين يتناجيان فلا تلتفت إلى المناجاة، وانصرف وأقبل على الله سبحانه وتعالى فهو خير حافظ يحفظك، لا تنشغل كثيراً ولا تهتم كثيراً بمناجاة من يتناجى، ولكن أقبل على الله، واعتصم بالله، واعلم أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأن الله سبحانه وتعالى يحفظهم، وأنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، فأقبل إليه وتوكل عليه، ولا تكثر من الانشغال بهذا الذي يتناجى كي يؤذيك وكي يغمك ويجلب لك النكد، {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10] .(55/11)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا.)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُم} [المجادلة:11] ، وهذا من أدب المجالس، إذا قيل لك: تفسح في المجلس شيئاً ما، فتفسح، وليس للقادم أن يشق المجلس ويفرق بين اثنين إلا بإذنهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يفرق بين اثنين إلا بإذنهما) ، ولكن يحث على التفسح مذكراً بآية من كتاب الله ويقول: افسح يفسح الله لك، فحينئذ تقبل بقلب طيب، وتفسح له أنت وأخوك، وكان الصحابة يجلسون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل يضن بمجلسه ولا يريد أن يفسح لأحد، كل منهم يريد أن يقترب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، فربما أحياناً تأخر بعض الفضلاء، فالناس مراتب ودرجات، فضل الله سبحانه وتعالى بعضهم على بعض، وإن كانوا في الخيرية من ناحية صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، لكن في الصحبة أيضاً تفاضل، فربما تأخر بعض الأفاضل أحياناً كـ أبي بكر رضي الله عنه، أو عمر رضي الله عنه أو غير هؤلاء من كبار الصحابة، تأخروا شيئاً ما لعذر، فيأتون إلى مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد سبقهم غيرهم، فيضن الناس بمجلسهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يريد أحد أن يفسح لإخوانه، فأرشدوا إلى هذا الأدب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:11] ، أي: افسحوا لهؤلاء كبار السن، ولما لهؤلاء السابقين الأولين من حق وقدر، فلكل كبير حق، ولكل سابق بالخيرات قدر، وديننا من أصوله إنزال الناس منازلهم، من الأصول التي دعت إليها وحثت عليها سنة رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ إنزال الناس منازلهم، الكبير له حق، والجار له حق، وكل له حق مشروع في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكون أحد هؤلاء الفضلاء، أحد هؤلاء السابقين الأولين، أحد هؤلاء كبار السن؛ يأتي وقد سبقه الصغار، فيطلب من الصغير أن يفسح له وهو لا يفسح فأدبه فيه خلل، ولذلك أُرشدوا إلى هذا الخلل كي يتقوه وكي يبتعدوا عنه.
ومن ثم كان أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه -كما في سنن النسائي بسند صحيح-: (يأتي إلى الصلاة وقد أخذ الناس مصافهم في الصفوف فيأتي ويسحب شخصاً من الصف شاباً ويقف مكانه -وقد فعل ذلك أثناء الصلاة- فلما انقضت الصلاة التفت إليه الشاب مغضباً، وأبي كما هو معلوم من سادات الأنصار، وأعلم الصحابة بكتاب الله، أعلمهم بالقراءات، قال عمر: أقرؤنا أبي بن كعب، أضف إليه ما ورد فيه من الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبي إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، قال: أو قد سماني الله لك يا رسول الله؟! قال: نعم، فبكى أبي بن كعب، فشخص مثل هذا الذي سماه الله لنبيه، وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: اقرأ القرآن على أبي بن كعب، جدير بأن يوقر، وجدير بأن يفضل، وجدير بأن يحترم، فقال لهذا الشاب: يا ابن أخي! لا يسوءك، إنه عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلينا أن نليه في الصلاة) .
فإذا جاء وطلب منك يا صغير أو يا متأخر الإسلام أو يا حديث عهد بالإسلام أن تفسح له، فلا يليق بك أن ترده خائباً، وأن تكسر خاطره، فكما سمعتم أن مراعاة المشاعر والأحاسيس عليها أكثر من مائة دليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أدلة متوافرة في مراعاة المشاعر وإنزال الناس منازلهم، وقد سمعتم طرفاً من ذلك فيما قبل.(55/12)
هل يقدم الأعلم على كبير السن أو العكس؟
وهل يقدم في المجالس ونحوها الذي آتاه الله علماً أم كبير السن؟ فمن العلماء من قدم هذا، ومنهم من قدم ذاك، فالذين قالوا يقدم كبير السن حجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) ، ومن حججهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أراني الليلة أتسوك، فأتاني رجلان، فدفعت السواك إلى الأصغر منهما، فقيل لي: كبر كبر) ، ومن أدلتهم: مجيء حويصة ومحيصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أصغرهما يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر، كبر) ، أي: أكبرهما سناً هو الذي يتكلم، فهذه حجة من قال يقدم الكبير.
ومن حجج الذين قالوا يقدم العالم: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد -عندما كان يجعل الثلاثة والأربعة في القبر الواحد-: (قدموا أكثرهم قرآناً) ، ومن حججهم أيضاً هذه الآية: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ، ومن حججهم أيضاً: أن عمر رضي الله عنه كان يقدم ابن عباس في مجلس الشورى على من هم أكبر منه سناً، والمسألة محتملة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(55/13)
رفع الله للمؤمنين وأهل العلم درجات
وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ، ما هو وجه إيراد هذه الفقرة من الآية في هذا الموطن بعد قوله: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ؟ أولاً: الآية فيها منقبة كبرى لأهل العلم، ومثلها قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] .
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ، أي: في الآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن معاذ بن جبل يتقدم العلماء رمية بحجر يوم القيامة) .
فمن العلماء من قال: إن قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] خبر، ومع كونه خبراً يحمل معنى الأمر، وما هو وجه ذلك؟ إن الله سبحانه وتعالى قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] أي: عليكم أن تفسحوا لهم في المجالس، وأن تجلسوهم في المجالس، هذا قول.
القول الثاني: أن الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم هم الذين فهموا قوله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:11] أي: أنهم الذين عقلوا عن الله أمره، وامتثلوه؛ فتفسحوا في المجالس، ونشزوا حينما طلب منهم النشوز، هؤلاء أهل فقه، وأهل علم، وأهل امتثال لأمر الله، هؤلاء يرفعهم الله سبحانه وتعالى درجات.
فهذان وجهان، وكل وجه منهما له قوته وله وجاهته، والله أعلم.(55/14)
دلالة الآية على أن الجزاء من جنس العمل
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:11] ، في قوله: (تفسحوا في المجالس يفسح الله لكم) دليل على أن الجزاء من جنس العمل، فمن تفسح لأخيه فسح الله له يوم القيامة، وفي الدنيا كذلك، والأدلة على هذا كثيرة، حتى إن بعض المصنفين صنفوا كتباً أسموها: الجزاء من جنس العمل.
وعلى ذلك جملة أدلة من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمن كتاب الله قال الله سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] .
ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) ، وقوله: (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.(55/15)
معنى النشوز الخاص والعام في الآية
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:11] ، النشوز في الأصل: هو العلو والارتفاع، ومنه قولهم للمرأة: امرأة ناشز، أي: مرتفعة ومتعالية على أمر زوجها، والأرض النشز: الأرض المرتفعة، {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء:128] ، أي: كبراً عليها، أو تعالياً عليها، أو إعراضاً عنها.
فقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:11] ما المراد به؟ من العلماء من فسره بتفسير عام، ومنهم من فسره بتفسير خاص.
فالذين فسروه بتفسير خاص قالوا: قوله تعالى: {إِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:11] ، أي: قوموا وانهضوا إلى الجهاد وإلى القتال مع نبيكم صلى الله عليه وسلم فقوموا ولا تترددوا.
القول الثاني: {إِذَا قِيلَ انشُزُوا} [المجادلة:11] ، أي: قوموا وانهضوا إلى الصلاة.
القول الثالث: {إِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:11] ، أي: قوموا وتفسحوا لإخوانكم.
القول الرابع: {إِذَا قِيلَ انشُزُوا} [المجادلة:11] ، أي: قوموا إلى فعل خير دعيتم إليه ولا تترددوا.
والذين فسروه بتفسير عام قالوا: إن هذه المفردات كلها تدخل في قوله تعالى {إِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:11] ، أي: إذا دعيتم إلى أي عمل فيه بر أو فيه خير فقوموا إليه، وانهضوا إليه، وسارعوا إليه، واستبقوا إليه، وهذا المعنى العام أولى وأليق والله سبحانه وتعالى أعلم.(55/16)
الأسئلة(55/17)
حكم إنجاز العمل في أقل من المدة المقررة له
السؤال
امرأة تعمل في الحكومة وعملها مُعْظَمُهُ مأموريات، تأخذ المأمورية في عشرة أيام وتنهيها في خمسة أيام، كذلك ممكن يصرف لها بدل سفر عن العشرة أيام، فما حكم المأمورية؟
الجواب
والله أعلم، إذا كانت تقوم بالمأمورية على أكمل وجه، وعلى وجه يرضي الله، فيجوز لها أن تنجزها في خمسة أيام، وتستريح الخمسة الأيام الأخرى، فمثال ذلك: شخص كلف أن يقرأ في كل يوم مثلاً عشرة عدادات فقرأ مائة عداد واجتهد كي يستريح اليوم الآخر، فالظاهر -والله أعلم- أن العمل مادام يؤدى على أكمل وجه فلا بأس بذلك، والله أعلم.(55/18)
حكم من فاتته الظهر وصلى مع جماعة العصر
السؤال
رجل فاتته صلاة الظهر ثم وجد الناس يصلون العصر، فهل يدخل معهم بنية الظهر ثم يصلي العصر بعد ذلك أم يصلي معهم العصر ثم يصلي الظهر بعد ذلك؟
الجواب
أسلفنا بأن الأئمة الأربعة رحمهم الله: مالكاً وأبا حنيفة والشافعي وأحمد يرون - كما نقل عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى -: أنك تصلي معهم صلاتهم التي يصلون ثم تقضي ما فاتك، ولا يجب عليك الترتيب في مثل هذه الحالة؛ لأنك مأموم، فصلِّ معهم ثم ما فاتك فأتمه، هذا رأي الأئمة الأربعة في مثل هذا الموطن، والله أعلم.
أما الترتيب فمحل تعينه إذا كنت تصلي منفرداً، أو كنت تصلي إماماً، والله سبحانه وتعالى أعلم.(55/19)
حكم ما يسمى بالوكيرة
السؤال
اشتريت شقة جديدة وعلمت أنه من السنة ذبح ذبيحة تسمى: وكيرة، وما هي شروط الذبيحة؟
الجواب
ليست من السنة، بل هي من البدعة، ليس هناك دليل على أنك تذبح ذبيحة عند شراء الشقة الجديدة.(55/20)
كيفية رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام
السؤال
كيف أرى رسول الله في منامي عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
سل الله ذلك.(55/21)
حكم قراءة القرآن في الصلاة من المصحف
السؤال
ماحكم قراءة القرآن من المصحف في الصلاة؟
الجواب
سبقت الإجابة عليه.
إلى هنا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(55/22)
الهدي النبوي في اليوم السابع للمولود
السؤال
ما هو الهدي النبوي في اليوم السابع للمولود؟
الجواب
من الهدي في اليوم السابع للمولود: أن يماط عنه الأذى، وأن تذبح له عقيقة، وإن شئت أن تسميه في اليوم السابع سميته، وإن شئت أن تسميه قبل ذلك سميته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم) ، فهذا دليل على أنه سماه فور الولادة، وأما التسمية في اليوم السابع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعق عنه يوم سابعه ويسمى) .(55/23)
بيان عورة المرأة عند المرأة والرجل عند الرجل
السؤال
ما هي عورة المرأة بالنسبة للمرأة، والرجل بالنسبة للرجل؟
الجواب
جمهور العلماء على أن عورة الرجل بالنسبة للرجل من السرة إلى الركبة؛ لحديث أبي داود: (إذا زوج أحدكم عبده أو أجيره فلا ينظر إلى شيء من عورته، فإن من سرته إلى ركبته من عورته) ، احتج الجمهور بهذا على أن عورة الرجل من السرة إلى الركبة، وأجرى البعض القياس على المرأة فقال: والمرأة كذلك بالنسبة للمرأة، وثم أقوال أخر: فمن العلماء من استثنى من الرجل الفخذ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حسر عن فخذه عليه الصلاة والسلام كما في حديث أنس، وكما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة دخول عثمان رضي الله تعالى عنه على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وجمع بين هذه الأدلة بعض أهل العلم، فهناك حديث: (الفخذ عورة) ، وهناك حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً حاسراً عن فخذه فدخل الصحابة، فلما دخل عثمان غطى) ، قال البخاري: حديث جرهد أحوط الذي هو (الفخذ عور) ، وحديث أنس أسند، أي: أصح إسناداً، فقال ابن القيم رحمه الله: العورة عورتان: عورة مخففة وهي الفخذ، وعورة مغلظة وهما السوأتان، والله أعلم.(55/24)
حكم وضع اليدين بعد الرفع من الركوع على الصدر
السؤال
ما حكم وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع؟
الجواب
أمثل ما في ذلك قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: إن شاء وضع اليمنى على اليسرى، وإن شاء أرسلهما.
وفي الحقيقة أن هذا قول وجيه، وهو الذي تنتظم معه جملة الأدلة، فإن شاء وضع اليمنى على اليسرى وله من الأدلة ما يشهد له، وهو حديث وائل العام: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً يده اليمنى على اليسرى في الصلاة) ، وحديث سهل بن سعد الساعدي العام كذلك: (أمرنا بوضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) .
وقوله: وإن شاء أرسلهما له ما يشهد له: (كان إذا قام من الركوع رجع كل مفصل إلى موضعه) ، فهذه وجاهة قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى.(55/25)
حكم صيام الإثنين كل أسبوع
السؤال
هل صيام يوم الإثنين من كل أسبوع بدعة؟
الجواب
ليس ببدعة بل هو سنة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الإثنين، ولصومه الإثنين علتان: العلة الأولى: أنه ولد فيه، والعلة الثانية: أن الأعمال الصالحة ترفع فيه، فيحب أن يرفع عمله وهو صائم صلى الله عليه وسلم.(55/26)
حكم لبس الحرير الصناعي
السؤال
هل يجوز لبس الحرير الصناعي؟
الجواب
نعم يجوز لبس الحرير الصناعي؛ إذ هو ليس بحرير حقيقة، ولكن من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه، فاجعل بينك وبين الحرام حجباً، والله أعلم.(55/27)
حكم قراءة القرآن وإهداء ثوابه للميت
السؤال
هل يجوز أن يقرأ الولد الصالح القرآن ليصل ثوابه إلى والده الميت؟
الجواب
لم يرد هذا على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام.(55/28)
حكم إقامة صلاة الفجر بعد ربع ساعة من الأذان
السؤال
في مسجدي الذي أصلي فيه تقام صلاة الفجر بعد خمسة عشر دقيقة من الأذان، فهل يكون قد دخل الوقت الفعلي لصلاة الفجر؟
الجواب
نعم، يكون قد دخل.(55/29)
حقيقة جملة: المعية هنا معية العلم والإحاطة
السؤال
المعية هنا معية العلم والإحاطة، هل هذه الجملة قول لأحد الصحابة أم قول لأحد التابعين؟
الجواب
هي قول لبعض المفسرين، لا أعلمها عن صحابي، ولا عن تابعي، ولا أنفيها أيضاً، لكنها قول لكثير من أهل التفسير.(55/30)
ضرورة نصيحة الغاصب قبل الإبلاغ عنه
السؤال
اغتصب جار لنا قطعة أرض لجار لنا آخر، فهل من واجبي أن أبلغ صاحب الأرض المغتصبة، مع العلم بأن صاحب الأرض يسكن في المدينة ونحن نسكن في القرية؟
الجواب
عليك أن تنصح المغتصب بالحسنى، وإن لم تستطع فبلغ صاحب الأرض أيضاً بالحسنى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: كيف ننصره ظالماً يا رسول الله؟! قال: تمنعه من الظلم) .(55/31)
حكم تأخير بعض الصلوات عن أول وقتها للحاجة
السؤال
تأخير وقت الصلاة في بعض الظروف هل هو جائز، كأن يؤذن لصلاة العصر ونحن في المحاضرة؟ فهل نترك المحاضرة فور سماع الأذان أم ننتظر إلى بعد المحاضرة، فهناك إخوة قالوا: ننتظر، واستدلوا على ذلك بتأخير صلاة العشاء مثلاً عندما تكون هناك محاضرة دينية؟!
الجواب
بالنسبة لتأخير الصلاة عن وقتها في المسألة تفصيل، فإذا كنت تؤخر الظهر إلى آخر وقتها الذي هو قبيل وقت العصر فلا بأس بذلك عند الضرورة؛ لحديث عبد الله بن عباس في الصحيح: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء سبعاً وثمانياً، من غير عذر من خوف، ولا مرض، ولا مطر، ولا سفر) فقال له قائل: يا ابن عباس! لعله أراد ألا يحرج أحداً من أمته؟ قال: وأنا أظن ذلك، فيجوز لك أن تعمل بهذا الحديث في بعض الأحيان، سواء على رأي من قال: إنه جمع صوري، أو سواء على رأي من قالوا: إنه مطلق الجمع، فيجوز لك أن تستعمل هذا الحديث في وقت الضرورات، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد كان ابن عباس في درس، فجاءه رجل وقال: (الصلاة يا ابن عباس! الصلاة يا ابن عباس! وابن عباس لا يلتفت إليه، فلما كان في الثالثة قال له عبد الله بن عباس: أتعلمني بالسنة لا أم لك؟! لقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء سبعاً وثمانياً، من غير عذر من خوف، ولا مرض، ولا سفر) .(55/32)
حكم من اشتهر وعرف باسم الأولى تغييره
السؤال
اسمي عبد العال، فما وجه الحرمة فيه؟
الجواب
عبد العال، العال أو العالي ليس من أسماء الله الحسنى، لكن إذا كنت قد سميت بهذا الاسم واشتهرت به فلا إثم عليك، وما دام الناس قد عرفوك به فلا إثم عليك، فقد عُرِفَ الرسول بأنه ابن عبد المطلب عليه الصلاة والسلام، وكان من أصحابه رجل يقال له: عبد العزى بن قثم، والعزى صنم {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] ، وثم أسماء أخر، فإن كان باستطاعتك أن تغيره فلتغيره، فإن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تغيير الأسماء إلى ما هو أحسن، فقد غير جملة أسماء: مثل حزن أمره أن يغير اسمه إلى سهل عليه الصلاة والسلام، وبرة غيرها النبي صلى الله عليه وسلم إلى زينب، وثم جملة أسماء غيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.(55/33)
تفسير سورة المجادلة [3]
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، ومن محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كثرة مناجاته، لكن لما كان هذا الفعل منهم يؤدي إلى مشقة تحصل للرسول صلى الله عليه وسلم أمروا بأن يقدموا بين يدي نجواهم صدقات، ثم إن الله تعالى خفف عنهم فنسخ هذا الأمر بالآية التي بعدها.
ثم إن الله عز وجل لفت أنظار المسلمين إلى وجود الطابور الخامس، وهم المنافقون، وبين أنهم يوالون أعداء الله من اليهود والمشركين وغيرهم، وأنه يجب الحذر منهم.
ثم بين سبحانه بعض صفات المؤمنين الذين لا يوادون من عصى الله ورسوله، ولو كانوا أقرباء لهم، وأنه كتب الإيمان في قلوبهم وأيدهم، ورضي عنهم ورضوا عنه.(56/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:12] .
هذه الآية على رأي جماهير أهل العلم منسوخة، فكل مفسر ساق في تفسيره قول من قال بالنسخ، نسختها الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة:13] .
وقد وردت جملة أسانيد، وإن كان في كل منها مقال، تفيد: أن الذي عمل بهذه الآية هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحده دون سائر الصحابة؛ وذلك أنه عندما نزلت آية النجوى هذه: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] عمد رضي الله عنه إلى دنانير فقسمها، وكان إذا أراد مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم قدم صدقة بين يدي مناجاته، ثم نسخت الآية، قالوا: ولم يعمل بها غير علي رضي الله تعالى عنه، وقد ورد ذلك كما أسلفنا من عدة طرق، وإن كان في كل منها مقال، لكن بعض العلماء حسنها بمجموعها، فالله سبحانه وتعالى أعلم.
وكان سبب نزول هذه الآية فيما ذكره المفسرون -وإن لم يرد بذلك إسناد صحيح- أن الناس كانوا يكثرون من مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيشق ذلك على رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأراد الله ضبط هذه المسألة، ورفع المشقة عن سائر المسلمين الذين يريدون شيئاً من وقت الرسول عليه الصلاة والسلام، ورفع العناء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية لضبط أمر المناجاة، فمن ثمّ لم يقدم إلا من كانت له حاجة ماسة إلى المناجاة، وإلا فسيعرض عن المناجاة من الأصل.
فإن قال قائل: ما هو وجه المشقة على المسلمين في إطالة بعضهم المناجاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فالإجابة: أن المناجاة في حد ذاتها في الجملة فيها أذى، في الغالب إذا رأيت اثنين يتناجيان ذهبت بك الظنون واستحوذ الشيطان عليك في كثير من الأحيان، ولذلك فالمناجاة في الغالب أو في الجملة تذم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] ، فحتى أهل الإيمان إذا رأى بعضهم اثنين يتناجيان دخل في قلبه شيء، ودخل له الشيطان من هذا المدخل، وقال: بم يتناجيان؟ لعلهما يتناجان في أمر يخصك ويريدان كتمان هذا الأمر عليك، لعلهما، لعلهما، لعلهما!! فالمسلمون كذلك مع الرسول عليه الصلاة والسلام، كثرة إطالة المناجاة قد تحمل البعض على أن يفكر: هل هناك عدو يريد أن يداهم بلاد المسلمين؟ هل أصيب الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء؟ هل آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم أصابهم شيء؟ هل نزل شيء جديد من كتاب الله؟ ما الذي حدث؟ كانت تسبب أيضاً مشاكل ووساوس في صدور البعض، وخاصة صدور من قلّ علمهم بالله وقلّ علمهم برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيشق الأمر على المسلمين، فنظمت الأمور بصدقة تقدم بين يدي المناجاة على النحو الذي سمعتموه.(56/2)
بعض المسائل المعاصرة تحتاج إلى اجتهاد لتنظيمها
ونستطرد إلى بعض المسائل النازلة التي تهمنا في عصرنا، هناك مسائل نزلت بالمسلمين ليست لها نصوص صريحة في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه المسائل النازلة التي نزلت بالمسلمين تحتاج إلى أنواع من الأقيسة، على مسائل مشابهة كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتحتاج أيضاً إلى اجتهادات لأهل العلم.
فمثلاً من المسائل التي من الممكن أن تدخل في بابنا هذا: قول مدير العمل مثلاً أو المسئول عن مصلحة من المصالح: لا تكلمني ولا تخاطبني إلا على عرض حال دمغة، فهل عرض حال الدمغة تصرف صحيح، فلا تكلم المسئول ولا تكتب طلباتك إلا على عرض حال دمغة؟ فقد يقول قائل من إخواننا: إنه ليس هناك دليل في الشرع على مسألة الخطاب بعرض حال الدمغة، فحينئذ يجوز لي أن أنزع الدمغة، أو أستغفله وأقدم الكلام بدون عرض حال دمغة أو شيء من هذا، إلا أن مصلحة الأعمال تقتضي أنك إذا تكلمت تكتب على عرض حال دمغة؛ لضبط الأمر؛ ولبيان جدية العمل، وليس هناك نص شرعي يخالفها، لسنا نستدل بآية المناجاة: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] ، ولكن نستدل بأشياء أخر، فالآية منسوخة كما سمعتم، ولكن مسألة المصالح المرسلة، إذا كنت مسئولاً وبابك مفتوح، فالكل سيأتي يتكلم، قد يأتي الذي له حاجة، والذي ليست له حاجة، فيضر الذي ليست له حاجة بالذي له الحاجة، وتضيع الأوقات سدى.
فإذا قال قائل بجواز هذا الأمر، فلا يتكلم الشخص إلا على عرض حال دمغة؛ تنظيماً للأعمال، فلا يقال حينئذ: إنه مبتدع، أو قد أحدث حدثاً في الدين، وغاية ما يقال: إنها مسألة اجتهادية، تعد من المصالح المرسلة، وليست تشريعات تصادم الكتاب والسنة، بل هي تندرج في الجملة تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ، فعلى الأقل إذا أثيرت مثل هذه المسألة، فيقال: في المسألة وجهان: وجه بالجواز تنظيماً للأمور وترتيباً للمصالح، ووجه بالمنع؛ لأن الآية منسوخة، وللتعسير الذي يأتي على الفقراء، فحينئذ تمتص المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] هل كان ذلك قبل النجوى أو مع النجوى؟ وكم هي الصدقة؟ لم تحدد، فكل على حسب سعته، كل على حسب قدرته وطاقته، وقوله تعالى: {ذَلِكَ} [المجادلة:12] أي ذلك التقديم.
{خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة:12] ، فالصدقة تثبت في صحائفكم، وهو طهرة أيضاً لأموالكم.
{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:12] ، أي: غفر الله لكم ولا يكلفكم إلا وسعكم، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] .(56/3)
تفسير قوله تعالى: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات.)
قال تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة:13] ، أي: أبخلتم أو أخشيتم الفقر من تقديم صدقات قبل كلامكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة:13] ، أي: برفع هذه الصدقة عنكم، فهناك بدائل أخر تغنمون بها الثواب وتكسبون بها الأجر، قال سبحانه: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة:13] ، هناك الصلاة لمن لم يجد الصدقات، وآتوا الزكاة التي فرضها الله عليكم، يعني: هناك صدقات، وهناك زكوات، فإن لم تستطع فعل النفل وقد نسخ، فافعل الفرض لزاماً، فلزاماً أن تقيم الصلاة المفروضة وأن تؤدي الزكاة المفروضة كذلك.
{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} [المجادلة:13] .(56/4)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم.)
ثم قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة:14] ، القوم الذين غضب الله عليهم هم اليهود، والقوم الذين تولوهم هم المنافقون، فالمنافقون تولوا اليهود، وصادقوهم، وناصروهم، وواعدوهم بالنصرة، فالآية في شأن المنافقين، ألم تر إلى هؤلاء المنافقين الذين تولوا وناصروا وآزروا قوماً غضب الله عليهم وهم اليهود؟ وقد وسم اليهود بأنهم مغضوب عليهم في عدة آيات، فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ( {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] قال: المغضوب عليهم هم اليهود) ، وكذلك قال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60] ، وهؤلاء اليهود؛ لأن الله عز وجل مسخ اليهود إلى قردة وخنازير، فالمغضوب عليهم هم اليهود، فلماذا خصوا بغضب الله عليهم، مع أن أهل الكفر كذلك مغضوب عليهم، والنصارى كذلك مغضوب عليهم؟ لماذا وصفوا ووسموا بهذه السمة والوصف؟ قال كثير من أهل العلم: لأنهم كفروا وجحدوا نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم على علم.
وهذا التعليل أيضاً ورد في الملاعنة، لماذا قال الله سبحانه وتعالى في آيات الملاعنة في شأن الرجل: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] ، وقال في شأن المرأة: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9] ؟ فلماذا المرأة خاصة اختصت بغضب الله عليها إن كانت كاذبة؟ لأن الرجل لا يكون متيقناً اليقين التام في زنا امرأته كالمرأة، فقد يرى الرجل رجلاً يفاخذ امرأته ويظن أنها زنت، فلا تكن قد زنت، لكن هي تعلم يقيناً الذي حدث، وقد ينفي الرجل الولد عن نفسه؛ لظنون ظنها، ويقول: هذا الولد ليس ولدي، أنا تزوجت ووضعت زوجتي بعد ستة أشهر، وينفي الولد عن نفسه، ويلاعن من أجل ذلك، لكن المرأة تعلم يقيناً ممن هذا الولد؛ فلذلك إذا أنكرت المرأة وأقسمت ستقسم على علم، فمن ثم حل عليها غضب الله إذا أقسمت اليمين الخامسة وهي كاذبة؛ لكونها متيقنة تماماً بالذي حدث.(56/5)
المقصود من قوله: (ما هم منكم ولا منهم.)
قال تعالى: {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} [المجادلة:14] ، أي: المنافقون الذين تولوا اليهود ليسوا منكم وليسوا من اليهود، هذا قول قتادة رحمه الله تعالى، كما وصفهم الله بقوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] ، فقوله: (ما هم) أي: أهل النفاق، وهذا كما سمعتم قول قتادة رحمه الله.
وقول آخر: أن قوله: (ما هم) راجعة إلى اليهود، أي: اليهود ليسوا منكم يا مسلمون! لم يسلموا إسلاماً حقيقياً، وليسوا من المنافقين، إنما لهم اتجاه آخر وهو أنهم مغضوب عليهم، لكن القول الأول أظهر.
{مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] ، أي: يقسمون أيماناً كاذبة لكم وهم يعلمون أنها كاذبة.(56/6)
تفسير قوله تعالى: (أعد الله لهم عذاباً شديداً.)
قال الله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة:15] ، أي: ساء هذا الفعل وساء هذا الصنيع.
فالآية إذاً ذمت كل من يتولى اليهود، ويلحق بهم كل من يتولى الكفار أو النصارى ويناصرهم، ويؤازرهم، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على ذلك، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:51] أي: يا من آمنتم بي وصدقتم رسلي، وأقررتم بكتبي.
{لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51-52] ، وقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144] ، أي: أتريدون أن تجعلوا لله سبباً يسلط عليكم بسببه العذاب؟ وقال الله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] الآيات، وقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] ، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران:118] ، أي: لا يقصرون في إغوائكم وإضلالكم: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] ، أي: رغبوا في نزول العنت والمشقة بكم، {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:118-119] ، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:54-55] ، هؤلاء هم أولياؤكم، {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] ، والآيات في هذا الباب لا تكاد تحصر، فالله سبحانه وتعالى يقول في شأن المنافقين الذين اتخذوا الكافرين أو اليهود أولياء: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة:15] ، أي: ساء صنيعهم من اتخاذهم اليهود أولياء من دون المؤمنين، ساء صنيعهم من موالاتهم اليهود والنصارى.(56/7)
تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله.)
قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:16] ، أي: أهل النفاق أقسموا أيماناً بالله كي تقيهم من القتل، فإذا بقوا على كفرهم فدماؤهم حلال، وأموالهم حلال؛ فحتى يقوا أنفسهم من القتل، وحتى يحافظوا على أموالهم؛ أقسموا أيماناً بالله إنهم على الإيمان، وأنهم أهل إسلام، فجعلوا الأيمان وقاية لهم من القتل، فالجُنة: بمعنى الوقاية، الجُنة: بمعنى الشيء الذي يتقى به، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (حتى تجن بنانه) ، أي: حتى تخفي بنانه، وكما تقدم قيل للجَنة: جَنة؛ لأنها تجن من دخل فيها، أي: تغطيه بكثرة أشجارها، وقيل للجن: جن؛ لاستتارهم.
فقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة:16] ، أي: وقاية يتقون بها السيف، ويحفظون بها أموالهم.(56/8)
صور الصد عن سبيل الله
قوله سبحانه: {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:16] فيها للعلماء قولان مشهوران: القول الأول: (فصدوا عن سبيل الله) أي: أعرضوا عن طريق الإسلام والمسلمين وعن طريق الهدى والخير، ففسر الصدود بالإعراض.
القول الثاني: (فصدوا عن سبيل الله) أي: منعوا غيرهم عن الدخول في الإسلام، فهم أظهروا الإسلام بألسنتهم، وخالفوه وناقضوه وصرفوا الناس عنه، إما أنهم صرفوا الناس بقيلهم، وإما أنهم صرفوا الناس بأفعالهم، صرفوا الناس بقيلهم فتراهم يذهبون إلى شياطينهم كما حكى الله سبحانه وتعالى قولهم لهم: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] ، فهؤلاء يصرفون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصرفون الناس عن المؤمنين بتشويشهم على القرآن كما قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26] ، شوشوا عليه حتى لا يفهم، {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] ، فصرفوا الناس عن كتاب الله بقولهم، وصرفوا الناس عن كتاب الله بأفعالهم، فالشخص إذا كان في ظاهره مسلماً وهو يغش، وهو يكذب، وهو يسرق، وهو يزني، وهو يطعن في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويطعن في الإسلام؛ فهو يصرف الناس عن الدين، وإذا كان هناك شخص مسلم، صورته صورة المسلم، شخص ملتح، ويرتدي الثوب الأبيض، ويأتي بالموبقات، وتراه ينصب على الناس، ويغش الناس، ويكذب على الناس، ويغدر بهم؛ فهذا بلا شك سيسبب للناس نفوراً عن الدين، وطعناً في طريق المتبعين لسنة النبي الأمين محمد عليه الصلاة والسلام، فهم يظهرون للناس أنهم على الإسلام، ويطعنون في الإسلام، بالكذب، وبتشويه صورة المسلمين، وبإخلاف المواعيد، وبإلصاق التهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وبالسباب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان قائلهم يصف الرسول وأصحابه فيقول: ما نرى أصحابنا هؤلاء إلا أكذب ألسنة، وأوسع بطوناً، وأجبن عند اللقاء، حتى نزل فيهم قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] ، فالشاهد: أنهم لكونهم أعلنوا راية الإسلام، وقالوا بألسنتهم: لا إله إلا الله، وصاروا من المعدودين على المسلمين، فمن ثم بدءوا يشوهون صورة المسلمين، وهذا مسلك قد سلكه اليهود من قبل، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] ، فإذا آمنتم بكتابهم في الصباح وكفرتم به في المساء فقد شكّكتم الناس في هذا الكتاب؛ فيرجعون عن دينهم.
قال تعالى: {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:16] ، أي: لهم عذاب مذل ومخزٍ.(56/9)
تفسير قوله تعالى: (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم.)
قال تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المجادلة:17] ، أي: يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله سبحانه وتعالى يوم القيامة للكافر: أرأيت لو أن لك ما في الأرض جميعاً ومثله معه أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم يا رب! كنت أفتدي به، فيقال: قد سئلت أيسر من ذلك، سئلت ألا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي) ، فكما قال الله سبحانه: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام:70] ، أي: إن تفتدي النفس الكافرة بكل فدية لا تقبل منها هذه الفدية، وقد قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] .
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المجادلة:17] ، كأن بينهم وبين النار صداقة قديمة، فالمصاحبة لطول الملازمة.(56/10)
تفسير قوله تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعاً.)
قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة:18] أي: يحلفون لله في الآخرة كما يحلفون لكم في الدنيا، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:18] أي: يحسبون أنهم بأيمانهم سيخدعون بها الرب سبحانه وتعالى في الآخرة، كما خدعوكم بها -بزعمهم- في الدنيا! وقوله: (فيحلفون له) تفسيرها في قوله تعالى: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] وهذا على منهج من يفسر القرآن بالقرآن، وهذا منهج حسن في هذا المقام.
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ} [المجادلة:18] ، قائلين: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] ، فهم ينكرون في الآخرة شركهم! {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:18] ، في هذه الآية سبب نزول أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في ظل حجرة من حجر نسائه، فقال: يدخل عليكم الآن رجل أزرق، ينظر بعيني شيطان، فدخل رجل بنفس الوصف، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ قال: والله! ما شتمتك، ثم انطلق وأتى بأصحابه كلهم، فأقسموا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ما شتموه) فنزل قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18] .(56/11)
تفسير قوله تعالى: (استحوذ عليهم الشيطان.)
قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة:19] ، أي: غلبهم وقهرهم وسيرهم وأحاط بهم، وإذا قلت: استحوذ فلان من الناس على الشيء، أي: أخذه بكامله وأحاط به، وقد وصف عمر بأنه كان رجلاً أحوذياً رضي الله تعالى عنه، أحوذياً بالذال أو بالزاي على رواية، أي: أنه كان محيطاً بأمره، مجتمعاً عليه أمره رضي الله تعالى عنه.
{فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:19] ، أي: فحملهم الشيطان على ترك ذكر الله، والنسيان هنا ليس النسيان المعهود، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يرحم الله فلاناً! لقد أذكرني آية كيت وكيت من سورة كيت وكيت كنت أنسيتها) ، فهنا النسيان: بمعنى الترك، {فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:19] ، أي: حملهم على ترك ذكر الله، وما المراد بذكر الله هنا؟ فيه أقوال: أحدها: أنه على بابه الذكر المعهود.
والثاني: ذكر الله هو القرآن.
والثالث: ذكر الله هو توحيد الله سبحانه، والكل محتمل وصحيح.
{أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19] .(56/12)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحادون الله ورسوله.)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة:20] ، الأذل: المهان الصاغر.
وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] ، كتب هنا بمعنى: كتب في اللوح المحفوظ، وقضى في اللوح المحفوظ.
{لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] ، قال العلماء: الغلبة على قسمين: غلبه باللسان والبيان، وغلبة بالسيف، فالرسل الذين أمروا بقتال غلبوا جميعهم، وكانت لهم العاقبة في آخر أمرهم، كانت الأيام بينهم وبين عدوهم دولاً، ثم كانت العاقبة والنصر لهم.
أما الرسل أو الأنبياء الذين لم يؤمروا بقتال فغلبوا باللسان والبيان، ومنهم من قتل ومنهم من مات، قال سبحانه: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87] ، وقال الله سبحانه في كتابه الكريم: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181] ، فقتل فريق من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لكنهم لم يؤمروا بقتال، فغلبوا بالحجة والبيان، وهذا وجه دفع الإشكالات في مثل هذا الموطن، ونحوه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] ، مع أن منهم من قتل، قال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] * إلى قوله: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:148] .
قال سبحانه: ((كَتَبَ اللَّهُ)) [المجادلة:21] ، أي: في الكتاب الذي قضاه، في اللوح المحفوظ، وقدر سبحانه وقضى {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] (قوي) أي: على نصرة أوليائه، (عزيز) أي: منيع الجناب، عظيم السلطان، لا يغالب ولا يمانع من شيء أراده سبحانه وتعالى.(56/13)
تفسير قوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله.)
ثم قال سبحانه: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] ، هذه الآية فيها وقفات: أحد هذه الوقفات: أنه ينبغي أن يعلم أن المودة غير البر والصلة، فالبر والصلة شيء، والمودة والمحبة القلبية شيء آخر، فالبر والصلة مشروعتان للمسلم في حق الكافر غير المحارب؛ وذلك لقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] ، وقالت أسماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن إمي أتتني وهي راغبة - فيها قولان: هل راغبة في الإسلام، أو راغبة عن الإسلام؟ - أفأصل أمي يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: صلي أمك، ونزل قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} [الممتحنة:8-9] ) ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل هدايا اليهود، ويقبل هدايا الكفار، ويهدي أيضاً لليهود، ويهدي أيضاً للكفار عليه الصلاة والسلام، قَبِلَ من المقوقس مارية رضي الله تعالى عنها، وقبل أيضاً من اليهودية شاة دعته إليها، وقبل من ملك أيلة بغلة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يركبها، وقبل هدية أيضاً من أكيدر دومة الجندل، وهذا عبد الله بن عمرو بن العاص ذبح ذبيحة، فقال لأهل بيته: (أهديتم لجارنا اليهودي؟) ، فهي نصوص عامة، فهناك فرق بين البر والصلة، وفرق بين الموالاة والمحبة القلبية، فالبر والصلة أمرنا به وحثنا عليه شرعنا مع غير المحاربين من الكفار، أما الموالاة القلبية فلا، والله أعلم.
يقول الله سبحانه وتعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَان} [المجادلة:22] ، أي: أثبت الله في قلوب هؤلاء البراءة من الكفر وأهله، وإن كانوا من الأقارب أو العشائر، وكتب الله الإيمان في قلوب هؤلاء الذين تبرءوا من الكفار.
وقوله: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَان} [المجادلة:22] ، أي: جعله في قلوبهم، ومن العلماء من يقدر محذوفاً فيقول: كتب في كتابه أنهم أهل إيمان، ولكن هي كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] .(56/14)
ذكر بعض أسباب نزول الآية وبيان ضعفها
من العلماء من ذكر لهذه الآية أسباب نزولٍ، وإن كان في أكثرها ضعف: كالقول بأنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح عندما قتل أباه يوم بدر.
وقول آخر أنها نزلت في أبي بكر الصديق؛ وذلك حين تعرض لقتل ابنه عبد الرحمن في بدر أيضاً.
وقول ثالث: أنها نزلت في عمر وأنه قتل قريباً له.
وقول رابع: أنها نزلت في عمر أيضاً لما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر: (أرى أن تمكنني -يا رسول الله- من فلان قريب لي فأقتله، وتمكن علياً من عقيل، وتمكن حمزة من فلان، وتمكن أبا بكر من فلان، فهؤلاء صناديد الكفر، وأئمة الضلال) ، وثم أقوال أخر، لكن ما ذكر من سبب نزول الآية كلها ضعيفة، ولم أقف إلى الآن على سند صحيح يثبت لي أن أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم بدر، رضي الله عن أبي عبيدة، فهذا يحتاج إلى إثبات، وإن كان الأمر في الجملة على ما ذكره المفسرون من أن هذه الخصال توافرت في أهل الإيمان، ولو تعرض لهم آباؤهم لقتلوهم إذا أمرهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثم أسباب نزول أخرى أيضاً فيها مقال منها: (أن عبد الله بن عبد الله بن أبي أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يشرب فقال: يا رسول الله! أبق فضلة أسق منها أبي لعل الله ينفعه بها، فأبقى له فضلة فذهب بها إلى أبيه، فقال له أبوه المنافق رأس المنافقين: ما هذه الفضلة؟ قال: فضلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلك تشربها، فقال: لو أتيتني ببول أمك كان خيراً لي! ثم ردها، فرجع عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتل أبيه، فقال: بل استوص به خيراً) .
وهذا أيضاً ضعيف الإسناد لا يثبت.
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] ، ومعنى حاد الله: أي: كان في حد وأوامر الله سبحانه في حد آخر، كما في قوله: {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:13] ، أي: جعلوا أنفسهم في شق معادٍ لله ومعادٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ} [المجادلة:22] أي: قواهم ونصرهم.
وقوله تعالى: {بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] ، ما المراد بروح منه؟ للعلماء فيها جملة أقوال: أحدها: أن المراد بقوله سبحانه: (بروح منه) أي: بنصر منه.
والثاني: أن المراد: (بروح منه) أي: بجبريل عليه السلام، فإن الله سبحانه وتعالى أطلق عليه الروح في عدة مواطن: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] ، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] ، (اهجهم وجبريل معك) ، (اللهم! أيده بروح القدس) ، إلى غير ذلك.
{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المجادلة:22] هذه الآية فيها دليل على أن الجنة مخلوقة الآن، وثم أدلة أخر تدل على ذلك، منها قوله عليه الصلاة والسلام: (يفسح له في قبره، ويأتيه من الجنة ومن طيبها) ، وثم دليل آخر: (احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟) الحديث إلى آخره، وفيه: (قال الله لها: أنت رحمتي أصيب بك من أشاء) ، ومن الأدلة على ذلك كذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (أرواح الشهداء في جوف طير خضر تسرح في الجنة حيث تشاء) ، إلى غير ذلك من الأحاديث.
قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المجادلة:22] ، قوله: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) ، من العلماء من قال: إن الله سبحانه وتعالى عوضهم خيراً بفراقهم لأهاليهم وعشيرتهم وذويهم، فلما تركوا قرابتهم لله سبحانه، أبدلهم الله خيراً من قرابتهم تفضلاً منه، وقد صح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تترك شيئاً اتقاء الله سبحانه إلا أبدلك الله خيراً منه) ، وهذا الذي يرويه الناس بالمعنى: (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) .
قال تعالى: {وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] ، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.(56/15)
الأسئلة
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:(56/16)
التوفيق بين حديث ابن عباس وأحاديث وجوب صلاة الجماعة
السؤال
ذكرتم في الدرس الماضي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء سبعاً وثمانياً، من غير عذر من خوف، ولا مرض، ولا مطر) الحديث، فكيف يوفق بين هذا الحديث والأحاديث الدالة على وجوب صلاة الجماعة؟
الجواب
بسهولة ويسر أن كل عام يخص، وهذه صورة مخصوصة ومستثناة عند وجود الأعذار فلا إشكال، والله أعلم.
السائل: وهل الأخذ بهذا الحديث في بعض الأحيان دون الأخرى يعتبر تلوناً في الدين؟ الجواب: حسبنا الله! كيف يكون تلوناً في الدين؟ الرسول عليه الصلاة والسلام نَوّع العبادات عليه الصلاة والسلام؛ لأجل أن يرفع بها الحرج عن أمته صلى الله عليه وسلم، فليس معنى كوننا أخذنا بحديث في ظروف معينة أو في ملابسات خاصة أننا نتلون في الدين.(56/17)
حكم بناء القبر بالطوب الأحمر
السؤال
أرض المقابر عندنا أرض زراعية ونخشى سقوط الحاجز، أو حدوث شق لرطوبة الأرض، هل يجوز أن نبني فوق الأرض بالطوب الأحمر؛ لأنه لا يتأثر؟
الجواب
إذا دعت الضرورة أو بدون ضرورة بناء القبر بالطوب الأحمر ليس هناك دليل يمنع منه، يتوهم البعض أن الطوب الأحمر لا يستخدم في القبور؛ لأنه دخل في النار فلا يجوز بناء القبر به، وليس على المنع دليل إن احتيج إليه فلا بأس، هذا إذا استجزنا رفع القبر عن الأرض، وأحياناً يكون مستجازاً رفع القبر عن الأرض لضرورة، صحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها) ، ولكن الآن إذا جئنا -كما ذكر أخونا السائل حفظه الله- وحفرنا القبر في الأرض في بلدة مستوى الأرض فيها منخفض، فستأتي المياه تفسد الجثة وتسبب نتناً للميت، فالضرورة قد تلجئنا أحياناً لبعض الأشياء، ونحن مع الضرورة نسير، ألا ترى أن الضرورة ألجأتنا إلى أكل لحم الميتة عند اضطرارنا؟ ألا ترى أن الضرورة ألجأتنا إلى أكل لحم الخنزير عند اضطرارنا؟ ألا ترى أن الضرورة تلجئ إلى النطق بكلمة الكفر عند الاضطرار؟ من هذا الباب فقط.
بالمناسبة هنا زيادة أفادنا بها أحد إخواننا اليوم، وراجعناها معه مراجعة دقيقة شيئاً ما، وهي زيادة: (وبركاته) عند التسليم من الصلاة، وهذه الزيادة لا تثبت، زيادة: (وبركاته) عند التسليم من الصلاة لا تثبت، وهذا رأي أكثر الشافعية، وعدد كبير من العلماء، وهي وردت من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحيح أن لها إسناداً عن ابن مسعود ظاهره الصحة، لكن كل الطرق الأخرى عن ابن مسعود نفسه أوردت الحديث بدون الزيادة، (كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله) ، فأكثر الطرق عن ابن مسعود فيهما الاقتصار على: السلام عليكم ورحمة الله، ففي مثل هذه الحالة لا يناقش الإسناد استقلالاً، وهذه فائدة لإخواننا دارسي الحديث، مثلاً: إذا كان للحديث عشرون طريقاً عن ابن مسعود، تسعة عشر طريقاً مثلاً رووا الحديث عن ابن مسعود بلفظ: (كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله) ، وأحدها روى الحديث بلفظ: (كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ، ففي هذه الحالة نحن مع التسعة عشر راوياً.
فضلاً عن هذا فهناك من العلماء كـ شعبة بن الحجاج ينكر رفع الحديث بكامله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: هو موقوف على ابن مسعود، فكيف بثبوت هذه الزيادة؟! وورد الحديث من طريق آخر، من طريق وائل بن حجر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله) ، وهذا الحديث أيضاً اختلف في إثبات هذه الزيادة من عدمها، لكن العلة التي هي أشد قدحاً: أنه مروي من طريق علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه وائل بن حجر، وقال يحيى بن معين رحمه الله: علقمة لم يسمع من أبيه وائل، وثم طريق ثالثة من طريق حذيفة أو عمار بن ياسر وفيها ضعف أشد من الضعف في الأولين، والله سبحانه وتعالى أعلم.(56/18)
حكم الجمعيات التعاونية والمسابقات
السؤال
هل هناك ما يجعل المسابقات والجمعيات داخلة في الربا؟
الجواب
أما الجمعيات فليست داخلة في أبواب الربا، والجمعيات التي يفعلها الناس للتعاون فيما بينهم حلال، لا نعلم دليلاً صريحاً على تحريمها، وهي من باب التعاون على البر والتقوى، أما المسابقات فبحسبها، إن كان كل من يدفع مبلغاً يأخذ الفائدة فهذا يعد نوعاً من الميسر، أما إذا دخل معهم محللاً فبحسبه، وفي المسألة تفصيل أوسع.(56/19)
حكم حديث: (لا عزاء فوق ثلاث)
السؤال
يسأل أخونا عن حديث: (لا عزاء فوق ثلاث) ؟
الجواب
ضعيف لا يثبت، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(56/20)
تفسير سورة الحشر [1]
اليهود في كل زمن أهل لؤم وخسة وغدرٍ وخيانة، ولقد عرض لنا القرآن الكريم أنموذجاً لهذه الطباع في يهود بني النضير، فقد عاندوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، حتى حلت بهم نقمة الله تعالى وغضبه، فأخرجهم من ديارهم، وجعل أموالهم فيئاً للمسلمين، وسلط رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم على نخيلهم وأشجارهم فقطعوها وأحرقوها عظة وعبرة لأولي القلوب والأبصار.(57/1)
بين يدي السورة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: سورة الحشرة يطلق عليها سورة بني النضير، وبنو النضير طائفة من اليهود كانت تقطن جانباً من جوانب مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم أن الكفار في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فور مقدمه كانوا على ثلاث طوائف: - طائفة ناصبت الرسول صلى الله عليه وسلم العداء، وانشغلت بحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم المشركون الذين بقوا على شركهم.
- وطائفة أخرى صالحت الرسول عليه الصلاة والسلام وتحالفت معه تحالفات، وهم اليهود.
وطائفة ثالثة أمسكت، فلم تعاد ولم تصالح، وبقيت تترقب إلى أي شيءٍ سيئول الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم المنافقون.
وطوائف اليهود هم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، أما بنو قينقاع فقد حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بدر، وأما بنو النضير فكان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حلف فغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهمّوا بقتله والفتك به عليه الصلاة والسلام، كما ذكر جمهور أهل السير أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب يستعين بهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل سبعين من القراء مع قوم فقُتِل القراء في بئر معونة، ونجا منهم عمرو بن أمية الضمري، فلقي رجلين من بني عامر فقتلهما، ولم يكن يعلم بالحلف الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب الرسول عليه الصلاة والسلام يستعين بيهود بني النضير في أداء شيءٍ من الدية لأولياء العامريين، فغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ورتبوا أمرهم على أن يُلقوا على رأسه صخرة وهو جالس فيقتلوه غدراً، فأطلع الله سبحانه وتعالى نبيه على ذلك، وكان هذا -على ما ذكره جمهور أهل السير- سبب جلاء بني النضير، فحاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم حصاراً طويلاً، وآل بهم الأمر في النهاية إلى الاستسلام على ما سيأتي بيانه، فنزل مطلع سورة الحشر في هذه الحوادث.
والحشر معناه: الجمع، كما قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات:22] أي: اجمعوا، وقال تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:53] أي: قوماً يجمعون الناس ويحشرونهم.(57/2)
تفسير قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ.)
قال الله سبحانه وتعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:1] (سبح) أي: نزَّه ومجَّد وعظَّم، فالمعنى: أن ما في السماوات وما في الأرض كل ذلك نزَّه الله ومجّد الله وعظَّم الله عن كل ما لا يليق به من اتخاذ الشريك، واتخاذ الصاحبة، واتخاذ الولد، ونزَّه الله عن كل نقص وعن كل عيب.
فكل شيء في السماوات وفي الأرض يسبح لله، وهذا المعنى مثبت في عشرات السور، كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44] ، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] ، وقال سبحانه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15] ، حتى الجمادات تسبِّح لله، وتنزِّه الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الضفادع: (نقيقها تسبيح) ، والنصوص من الكتاب والسنة في هذا في غاية الكثرة، لا تكاد تُحصر ولا يأتي عليها العد.(57/3)
مناسبة ذكر العزيز الحكيم في مقدمة السورة
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:1] العزيز: منيع الجناب، عظيم السلطان، القوي الذي لا يُغَالَب، ولا يُردُّ شيءٌ أراده سبحانه وتعالى، إذا أراد أمراً فلا بد وأن يقع، وهذا وجه الاستهلال بهذه الآية في مقدمة قصة الحشر وإجلاء اليهود، فالله سبحانه وتعالى أراد إجلاء اليهود فلا راد لقضائه، ولا مانع لأمره سبحانه وتعالى، ولن يقف أحد في طريق إرادته سبحانه وتعالى، فلهذا استهلت الآية بـ (العزيز) و (الحكيم) ، فكل شيء يفعله بحكمة، وكل أمر يقضيه لحكمة سبحانه وتعالى، فإن قال قائل: لماذا أراد الله سبحانه إجلاء اليهود من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: إن ذلك لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، وهو العزيز الحكيم سبحانه وتعالى، فلا يفعل شيئاً عبثاً، ولا يفعل شيئاً بغير حكمة، وهو أعلم بخلقه، وأعلم بقلوب خلقه، وأعلم بمن يستحق العذاب، ومن يستحق العقاب، ومن يستحق الإجلاء، ومن يستحق الإخراج، وهو العزيز الحكيم.(57/4)
تفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا.)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] المراد بالكفار هنا: صنف مخصوص من الكفار وهم اليهود، وصنف مخصوص من اليهود وهم يهود بنو النضير، فإن قال قائل: وهل اليهود والنصارى كفار؟ قلنا: نعم؛ لأن الله قال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] ، فوسِموا بالكفر في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] ، وكذلك قال تعالى في شأن النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] ، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] .
فقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحشر:2] ، عام أُرِيد به الخصوص، فالمراد هنا طائفة مخصوصة، وهم يهود بني النضير.
وقوله تعالى: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) الكتاب المراد به: التوراة، وهو كتاب اليهود الذي نزل على نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: (مِنْ دِيَارِهِمْ) هي: المتاخمة للمدينة في أطرافها.
وقوله تعالى: (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) قال عكرمة رحمه الله تعالى، ونُقِل القول أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غير واحد من أهل العلم: من شك أن الشام هي أرض المحشر فليقرأ هذه الآية: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي: لأول الجمع، فالحشر حشران: الأول هو حشر اليهود وجمعهم في الشام، والحشر الثاني هو حشرهم يوم القيامة مع الخلائق، وذلك أن يهود بني النضير أُخرِجوا وأجلوا إلى الشام حين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم حصاراً شديداً بعد ظهور الغدر منهم، فنزلوا على حكمه بإجلائهم مع حمل ما أقلّته ركابهم وخيولهم إلا السلاح.(57/5)
إثبات القياس في العقوبات والأحكام
وقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أي: اعتبروا أن يصيبكم مثل الذي أصابهم إن أنتم ظلمتم، وإن أنتم غدرتم، وإن أنتم خنتم رسولكم محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن نقضتم العهود والمواثيق مع الله سبحانه وتعالى فاحذروا حينئذٍ أن يصيبكم مثل ما أصاب الذين نقضوا العهود وخالفوا العقود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالظلم عاقبته وخيمة، والغدر عاقبته أليمة، ونقض العهود والمواثيق مع الله ومع رسل الله عليهم الصلاة والسلام من أكبر الكبائر، ومن أعظم المصائب التي تسبب للشخص العذاب في الدنيا والآخرة، فقوله سبحانه وتعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أي: اتعظوا، وانظروا إلى أحوالهم، وما حل بهم لظلمهم! ومثل هذا يحل بكل باغ، وما هي من الظالمين ببعيد.
وقد استدل جمهور الأصوليين بهذه الآية الكريمة (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) على مشروعية القياس، وعلى ذلك جمهور أهل العلم، أي: انظروا يا أولي الأبصار! فإذا ظلمتم وبغيتم وغدرتم حل بكم مثل الذي حل بمن ظلم وبغى وغدر، فهؤلاء اليهود، انظروا إلى أمرهم! وتفكروا فيه وتدبروا! فإن أنتم صنعتم مثل صنيعهم حل بكم مثل الذي حل بهم، فالأمور تقاس على مثلها، ومن هنا استدل الجمهور على مشروعية القياس.
أما أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى فطفِق يتهكم على الاستدلال بهذه الآية، فقال -جرياً على ظاهريته-: من الذي قال: إن معنى قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) قيسوا يا أولي الأبصار؟! ويجاب عن قوله: بأنه ليس المراد أن لفظ (اعتبروا) بمعنى (قيسوا) ؛ ولكن المراد النظر فيما حل بسابق الأمم الظالمة، وسيحل بكم إن فعلتم فعلهم مثل الذي حل بهم.
وليست هذه الآية هي دليل القائلين بالقياس فحسب، بل لهم أدلة أخرى، ومن ذلك ما جاء في الحديث: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على راحلة، أفأحج عن أبي؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: فدين الله أحق أن يقضى) .
ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هششت فقبلت وأنا صائم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو تمضمضت؟) ، فقاس قبلة الصائم على المضمضة.
ومن ذلك ما ورد: (أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، وإني أنكرته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال إن فيها لورقاً، قال: فأنى ترى ذلك جاءها؟ قال: يا رسول الله! عرق نزعها.
قال: ولعل هذا عرق نزعه) ، ولم يرخص له في الانتفاء منه.
والأدلة في هذا الباب كثيرة، والقياس -كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى- لا يُصار إليه إلا عند الضرورة، كما يصير الرجل إلى التيمم عند فقدان الماء، فلا يُصار إلى القياس مع وجود النص، وأما قول القائل: إن من قاس فهو إبليس، ويتهكم بذلك على من يقيس فقولٌ غير سديد، وإن كان أول من قاس هو إبليس لمّا أُمِر بالسجود فأبى وقاس وقال كما حكى الله تعالى عنه: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] ، وكذلك حكى الله تعالى عنه قوله: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61] أي: كما أن النار أفضل من الطين بزعمه، فكيف يسجد من خُلِق من شيءٍ أفضل لمن خلِق من شيءٍ أدنى؟ والإجابة: أن هذا قياس باطل فاسد؛ لأنه قياس مع وجود النص، ووجود الأمر من الله سبحانه وتعالى؛ إذ قال الله سبحانه وتعالى له وللملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] ، فلا اجتهاد ولا قياس مع النص بحالٍ من الأحوال.(57/6)
قدرة الله تعالى فوق الأسباب المادية
وقوله تعالى: (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي: لم تكونوا -يا أهل الإيمان- تتوقعون في يوم من الأيام أن هؤلاء اليهود سيخرجون من ديارهم لقوة حصونهم ولشدة بأسهم، فقد كانوا متحصنين وأقوياء، لهم حصون شديدة منيعة، ونخل باسقات لها طلع نضيد، وكانوا ذوي رسوخ في بلادهم، وذوي صداقات مع أهل الكفر وأهل النفاق، فقد أسسوا صداقات مع عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، وأسسوا صداقات ووثقوا علاقات مع سائر قبائل الكفر، ومع سائر الأحزاب المتألبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي بلادهم كانوا مُمَكَّنين، ومع جيرانهم كانوا متظاهرين ومتعاونين ومتحالفين، فلم يكن يخطر ببال أحد أنهم سيجلون عن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم قال الله سبحانه وتعالى: (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) ، فعلى المسلم ألا ينقطع أمله أبداً في الله سبحانه، ولا ينقطع رجاؤه أبداً في الله سبحانه وتعالى، فالذي أخرجهم مرة قادر على أن يخرجهم مرات، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:8] ، وقال تعالى عن الحجارة المرسلة على مدائن قوم لوط: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] .
وقوله تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) أي: أيقنوا، والظن هنا بمعنى: اليقين؛ إذ الظن ظنان: ظن بمعنى اليقين، وظن بمعنى الشك، ويأتي في كتاب الله تعالى بأحد المعنيين، فقد يأتي بمعنى الشك كما في قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36] ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ، وأحياناً يأتي الظن بمعنى اليقين كقوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53] أي: أيقنوا، {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] .
أي: أيقنت، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] أي: يوقنون، فاليهود هنا كانوا مستيقنين أنهم لن يُخرَجوا أبداً لقوة حصونهم وشدة منعتهم، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، أي: من مكان ومن مصدر لا يتوقعونه، فقد تأتي البلايا إلى الشخص الظالم المبير من حيث لا يحتسب، كما قال تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:26] ، فالظالم قد يحتاط من باب من الأبواب، ويحرص غاية الحرص على غلق هذا الباب حتى لا يأتيه منه الشر والبلاء، فإذا بالبلاء يأتيه من باب آخر لم يكن يتوقعه، ولم يكن يتخيله! أما المؤمن فهو محفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى، بل يأتيه رزقه من حيث لا يحتسب، كما قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] .
وقوله تعالى: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الرعب سلاح قوي أيد الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أُعطِيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر ... ) الحديث، أي: يكون بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين العدو مسيرة شهر، ويقذف الله عز وجل في قلب العدو الرعب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قُذِف الرعب في قلب العدو؛ انهارت قواه، وتفتتت سواعده، وكانت الهزائم من نصيبه.
وقوله تعالى: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) وجه ذلك أن الصلح الذي صالحهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من بنوده: أن يحملوا معهم من المتاع ما أقلته ركابهم، وحملته خيولهم، فكانوا ينتقون أثمن شيء وأعز شيءٍ في البيت ويأخذونه، فإذا رءوا عِرقاً قوياً من خشب هدموا السقف حتى يأخذوا هذا العِرق، ولا يتركوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان تخريب البيوت بأيديهم من ناحية، وبأيدي المؤمنين من ناحية أخرى.(57/7)
تفسير قوله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا.)
قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:3-4] .
قوله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) هذه الآية الكريمة فيها رد على القدرية الذين يزعمون أن لا قدر، وأن الأمور لم تكتب على العباد، فهذه الآية أفادت أن الأمور مكتوبة ومسجلة على العباد، فقد جفت الأقلام، وطويت الصحف كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر:52] ، ومعنى الآية الكريمة: لولا أن الله سبحانه وتعالى قدر عليهم قبل أن يُخلقوا أنهم سيخرجون من المدينة، ويجلون إلى أرض الشام لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي والأسر، ولكنه سبحانه وتعالى كتب عليهم الجلاء، فلا بد من إمضاء ما كتبه الله سبحانه.
ومثل هذا قوله سبحانه وتعالى للمسلمين لما قبلوا الفدية من أسارى بدر: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:68] ، أي: أنه لا يعذبكم {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] ، وأفادت هذه الآية كذلك أن الأمور مكتوبة ومقدَّرة على الإنسان، ففيها ردٌ على القدرية.
فقوله تعالى: (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا)) أي: لبقوا في المدينة، وحلّ بهم ما حل بسائر أصحابهم من اليهود كالقرظيين الذين حُكِم في مقاتلتهم بالقتل، وفي ذراريهم ونسائهم بالسبي.
وقوله تعالى: (وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ، هذا مصير كل من يشاقق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فله في الدنيا خزي، وفي الآخرة عذاب النار، وهذا التعليل لا ينسحب على اليهود فحسب، بل على كل معاند لله، وكل معاند لشرع الله، وكل معاند لرسل الله عليهم الصلاة والسلام أياً كان.
فقوله تعالى: (ذَلِكَ) أي: ذلك العذاب الحال بهم (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) .(57/8)
تفسير قوله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ.)
قال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5] .
هذه الآية فيها تسلية وتسرية عن أهل الإيمان، وذلك أن أهل الإيمان وُبِّخوا من عدوهم لعمل عملوه وصنيعٍ صنعوه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني النضير، وامتنعت بنو النضير من النزول من حصونهم، قطّع النبي صلى الله عليه وسلم النخل وحرّقه، قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه في ذلك: وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير وقال في ذلك أبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنه: أدام الله ذلك من صنيعٍ وحرق في نواحيها السعير فشق ذلك على اليهود أيما مشقة، وكانت مقالة تقاولتها العرب، وطعنوا بها في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، فقالوا: كيف يقطِّع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم النخيل؟ ولكن لله في الأمر حِكَمٌ، ومن المعلوم أن المفاسد إذا تواردت على محل اختار الشخص أخفها، فكان الأخف هو تحريق نخيل بني النضير، فحينئذ سرَّى الله عن المؤمنين، وأذهب عنهم الهموم والأحزان بقوله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) واللينة: النخلة، وقال فريق من العلماء: هي الشجرة، فأفادت الآية أن هذا أمر قدره الله وقضاه، فليس لكم -يا أهل الإيمان- أن ترتابوا في فعل نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فما فعله لم يكن يخرج عن إذن الله، ولا عن إرادة الله، وعلى فرض كونكم أخطأتم فهذا مقدر عليكم، وعلى كل حال فـ (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) فلتطمئن خواطركم.(57/9)
تفسير آيتي الفيء
قال تعالى: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الحشر:6] الفيء يختلف شيئاً ما عن الغنيمة، فالفيء هو: مال العدو الذي يأتي إلى المسلمين على وجه مشروع بلا قتال، أما الغنيمة فهي التي تأتي للمسلمين من أموال العدو بعد قتال، وكل له مصارفه.
قول تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي: من بني النضير، وقوله تعالى: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) الإيجاف: الإيضاع، وهو: الإسراع، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج: (فإن البر ليس بالإيضاع) أي: ليس البر بالإسراع، و (ما) في قوله تعالى: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ) نافية، أي: ما غرتم إغارة على هذه القرية قرية بني النضير بخيولكم ولا بركابكم، ولا بذلتم فيها زاداً للقتال، وما أجهزتم على عدوكم بقتلٍ بخيولكم أو بإبلكم، ولا سافرتم لعدوكم سفراً طويلاً أو قصيراً بخيولكم ولا بركابكم، فقد كانوا في أطراف مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي كان أنهم استسلموا ونزلوا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما نزلوا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملوا معهم ما استطاعت إبلهم وخيلهم أن تحمله، وغادروا المدينة؛ بقي هناك فيء في بيوتهم، وهذا الفيء كله له حكم، فالله هو الذي سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قذف في قلوبهم الرعب حتى خرجوا وتركوا الأموال وذهبوا، كما قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] .
هذه الآية مع الآية السابقة مختلف في كونهما متغايرتين أو أن مؤداهما واحدٌ، والذي عليه فريق من العلماء أن الآية الأولى هي في بني النضير، وهي قوله تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي: من بني النضير، (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) والتقدير: وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال يهود بني النضير، فهذا الفيء الذي أتى إلى رسول الله من بني النضير كله خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لكم منه أي شيء يا أهل الإيمان! فالله هو الذي يسلط رسله على من يشاء، والله على كل شيءٍ قدير.
وأما الآية الأخرى وهي قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) فهي في القرى الأخرى كقريظة وخيبر، فهذه مصارفها لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم ولذي القربى واليتامى والمساكين.
فعلى هذا القول يكون فيء بني النضير خاصةً خاصٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما أيد هذا القول أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما أتى إليه العباس وعلي رضي الله عنهما يطلبان ميراثهما من رسول الله قال لهما: (قد كانت أموال بني النضير خاصة لرسول الله) .
وأما ما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى الأخرى كبني قريظة وخيبر وسائر الأمصار والقرى ففيئها على التقسيم المذكور في قوله تعالى: (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) .
وأما الغنائم التي ذكر الله في كتابه فمحل تقسيمها في سورة الأنفال في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ.
} [الأنفال:41] ، فالأنفال التي غنمت عن طريق الحروب بين المسلمين والكفار تُقسَّم خمسة أقسام، أربعة أخماس الغنيمة للمحاربين، والخمس الخامس يُقسَّم خمسة أخماس، لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولذي القربى -أي: قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونهم محرومين من الزكوات، فليس لآل البيت زكاة- واليتامى والمساكين وابن السبيل.
وهناك اتجاه آخر وهو اتجاه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فحواه أن الفيء في الآية الأولى -وهو فيء بني النضير- لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفيء الآية الثانية يقسم خمسة أخماس، فأربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والخمس الخامس يُقسم خمسة أخماس، يدفع منها خمسٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصير له صلى الله عليه وسلم من كل الفيء أربعة أخماس وخمس الخمس، والباقي يصرف في المصارف المذكورة في قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) ، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع للمجاهدين الذين يسدون الثغور، ويصرف في تعبيد الطرق وتشييد المستشفيات ونحوها من المجامع التي يحتاج إليها عموم المسلمين.
وفي الحقيقة آيات الأنفال والفيء من الآيات التي أُهدِر العمل بها في هذا الزمان؛ إذ المشروع في حالة انتصار دولة مسلمة على دولة كافرة أن المجاهدين يُقسم لهم كلٌ بحسب جهاده وقتاله، فالمشاة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان لهم قسم من الغنيمة يختلف عن الركبان، ومن بذل في الجهاد واشترى فرساً يجاهد به فيعطى قسماً للفرس، ويعطى قسماً لنفسه، وكلٌ بحسب ما بذل واجتهد، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في المعارك أو في بعضها: (من قتل قتيلاً فله سلبه) .
وكل هذه المسائل أضاعتها الأنظمة العلمانية في العالم كله، وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة التي أضاعت مثل هذه الأشياء، وكان من دعاوى الحكومة الإيرانية التي ذهبت أدراج الرياح مع أكاذيب الحكومة الإيرانية: أن نظام الأنفال سيعود، وكانوا يدندنون بهذا في مطلع ثورتهم، ولكنه ذهب أيضاً مع الريح، وعاد إليهم العبث الذي عاد إلى غيرهم، أو الذي هم نشئوا فيه من الأصل.
قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) هي قريظة وبنو النضير وغيرهما من القرى، وقوله تعالى: (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) أي: قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونهم لا يأخذون من الصدقة، وهم: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس.
وقوله تعالى: (وَابْنِ السَّبِيلِ) هو المسافر الذي انقطعت به السبل، أو الذي ليس معه مال يوصله إلى بلده، فيأخذ من المال ما يكفيه للرجوع إلى بلده.
وقوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) أي: نحن قسّمنا لكم أموال الفيء حتى لا يتسلط الأغنياء أصحاب النفوذ والسلطة على الفيء فيأخذونه غنيمة، ويتداولونه فيما بينهم، كما يحدث في الدول، فأكابر الناس والأغنياء منهم يتسلطون على الأموال وعلى الأراضي وعلى المؤسسات فينهبونها لأنفسهم، فالله جعل للفيء مصارف حتى لا يتسلط عليه الأغنياء، ويصبح مال الفيء دولةً بين الأغنياء، أي: يتداوله الأغنياء فقط، فالله سبحانه وتعالى يقول ما معناه: إنما أظهرت لكم مصارف الفيء كي لا يتسلط الأغنياء الأقوياء على مال الفيء فيستحوذون عليه دون الفقراء، ويقسمونه ويتداولونه فيما بينهم، فإلغاءً لهذا بيّنا لكم مصارف الفيء.(57/10)
وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي: امتثلوا أمره، واتبعوا شرعه، وما أرشدكم إليه فاعملوا به، وما أعطاكم فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا عنه، وما منعكم منه فلا تأخذوه، فالآية وإن كان ظاهرها في الفيء إلا أن معناها عام، وقد قال العلماء: العبرة بعموم الألفاظ وليس بخصوص أسباب النزول، وقد احتج ابن مسعود رضي الله عنه بعموم هذه الآية الكريمة على امرأة يقال لها: أم يعقوب، فقد روى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله ... ) الحديث.
فجاءت المرأة فقالت: يا ابن مسعود! ما لك تلعن الناس؟! قال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟ قالت: في كتاب الله؟ والله! لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت ذلك في كتاب الله! قال: إن كنتِ قرأتِه فقد وجدتهِ، ألم تقرئي قول الله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ؟ قالت بلى، قال: فهو ذاك، أو كما قال رضي الله تعالى عنه.
فالاستشهاد بعموم الكريمة رأي الجمهور، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك رجلٌ متكئٌ على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله -أي: يعرض عن السنة، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله- فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله فهو مثل ما حرم الله) ، وقد قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] .(57/11)
الأسئلة(57/12)
إسلام مارية القبطية رضي الله تعالى عنها
السؤال
كيف تم إسلام السيدة مارية القبطية رضي الله تعالى عنها ملك يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لا أعلم كيف تم إسلام السيدة مارية رضي الله تعالى عنها ملك يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم.(57/13)
المسروق الذي لا يعلم صاحبه
السؤال
سرقت وأنا في الجيش جاكتاً قبل الالتزام ولبسته، ولا أعرف صاحبه، فماذا أفعل؟
الجواب
إذا كنت سرقت الجاكت ولا تعرف صاحبه، فإما أن تتصدق بالثمن عن صاحبه، أو تتصدق بالجاكت، حتى لا يكون ملبسك حراماً، فتدعو الله سبحانه وتعالى فلا يستجيب لك، والله تعالى أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(57/14)
طريق الأخذ بزيادة الثقة، والخلاف في زيادة (وبركاته) في السلام من الصلاة
السؤال
من المعلوم أن زيادة الثقة مقبولة طالما أن هذه الزيادة لا تخالف ما جاء به باقي الثقات، فكيف نوفق بين هذه القاعدة وما ذكرتموه في مسألة زيادة (وبركاته) عند التسليم من الصلاة؟
الجواب
التقرير الذي قرره السائل بأن زيادة الثقة مقبولة بالشروط التي ذكرها ليس بصحيح، وفي الحقيقة كل زيادة ثقة لها ملابستها الخاصة بها، ولا بد من النظر إلى أقوال الأئمة والعلماء فيها، بيد أن الاستدراك الأقوى الذي يمكن أن يرد على الكلام السابق هو أن هناك خلافاً في سماع علقمة بن وائل من أبيه رضي الله تعالى عنه، وهو أمثل طريق جاءت فيه هذه الزيادة، فمن العلماء من أثبَت السماع، ومنهم من نفى السماع، وممن نفى السماع يحيى بن معين رحمه الله تعالى، فقال: (لم يسمع من أبيه) ، وأما الإمام البخاري رحمه الله تعالى اضطرب عنه القول، ففي رواية أنه قال: (سمع أباه) كما في التاريخ الكبير له، ونقل الترمذي رحمه الله تعالى في سننه عن الإمام البخاري أنه قال في علقمة بن وائل عن أبيه: ما أدرك أباه، أو قال ما معناه: مات أبوه وأمه حاملة به في ستة أشهر.
واحتج من أثبتت له السماع من أبيه بإخراج مسلم رحمه الله تعالى عدة أحاديث من طريق علقمة عن أبيه، فقال الآخرون: ينظر هل هي من الأصول أو هي من المتابعات؟ فطريقة الإمام مسلم رحمه الله تعالى التساهل في المتابعات، وبعض النسخ فيها زيادة (وبركاته) عن وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه، وبعض النسخ بدونها، فالأمر فيها مريب، والذي عليه الجمهور هو الاقتصار على (السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله) .(57/15)
تفسير سورة الحشر [2]
هناك فارق بين التربية الإيمانية، وبين عادات الجاهلية والكفر، فقد عرض لنا القرآن الكريم وهو يبين بعض مصارف الفيء صورة قوم آثروا فضل الله تعالى ورضوانه على أموالهم وديارهم حين أخرجوا منها، وسلبوا حقهم، وآخرين جعلوا أموالهم وديارهم حقاً مشتركاً بينهم وبين إخوتهم في العقيدة، وآثروهم على أنفسهم حباً لا بغضاً، وطواعية لا كراهية، ثم صورة جيل آت بعدهم يترضى عنهم ويستغفر الله تعالى لنفسه ولهم، وهذه هي روابط الإيمان.
كما عرض لنا القرآن الكريم صورة أهل الكفر في أقبح ما تكون، وذكر صفاتهم القبيحة، من وعود كاذبة وجبن عند اللقاء، وخوفهم من غير الله تعالى لحرصهم على الدنيا وطمعهم فيها.(58/1)
تفسير قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8-9] .
الفيء هو: المال الذي دخل على المسلمين من عدوهم بوجهٍ مشروع من غير إيجاف خيل ولا ركاب ولا قتال، وأما الغنيمة فهي: المال الذي يدخل على المسلمين من عدوهم من جراء القتل والقتال، ومصارفها كما ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] ، فهؤلاء المذكورون لهم خمس، والأربعة الأخماس الباقية للمجاهدين الغزاة، أو المجاهدين بصفة عامة، وفيما يلي ذكر لبعض الأصناف المستحقة للفيء.
قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) الفقر أمر نسبي يختلف من بلدة إلى أخرى، ومن زمن إلى زمن آخر، ففي زمن قد يكون من ملك دينارين غنياً، وفي زمن آخر قد يكون من ملك عشرة دنانير فقيراً، ومرجع ذلك إلى العرف ويترتب على هذا تحديد الفقير الذي تُخرج له الزكاة فيكون مصرِفاً من مصارفها.
وقوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) أي: تركوها رغماً عنهم، فلم يكونوا يحبون الخروج من ديارهم ولكنهم أُخرِجوا منها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الحزورة وهو ينظر إلى مكة: (والله! إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي، والله لولا أني أخرجت منك ما خرجت) ، فقوله تعالى: ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا)) أي: أخرجهم غيرهم، والإخراج ليس لذنب اقترفوه ولا لإثم ارتكبوه، ولكن كما قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] .
وقوله تعالى: (وَأَمْوَالِهِمْ) أي: أخرجوا من أموالهم كذلك، أي: تركوها.
وقوله تعالى: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي: ينصرون شرع الله، وينصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.
قال تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) ، فهؤلاء الفقراء لهم نصيب من الفيء.(58/2)
تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ.)
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] الدار هي دار الهجرة، وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى (تَبَوَّءُوا الدَّارَ) أي: سكنوها، وهم الأنصار، فقد كانوا سكان المدينة قبل قدوم المهاجرين إليهم، فعمَّروا المدينة بالإيمان، وفتحوا بيوتهم لتلاوة القرآن، وأقاموا فيها الصلاة.
وقد ذهب جمهور العلماء رحمه الله تعالى إلى أن المهاجرين على الإجمال أفضل من الأنصار، وفي كلٍ خيرٌ، وذلك بدلالة تقديمهم في عموم الآيات على الأنصار، ومنها في هذه السورة، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون هناك أنصاري أفضل من مهاجري بخصوصه، فلا يخدش هذا في التقعيد، كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم) ، فهذا على وجه الإجمال؛ إذ لا يُمتنع أن يأتي زمان خير من الزمان الذي قبله، كما كان الزمان الذي عقِب موت الحجاج بن يوسف الثقفي أفضل من زمن الحجاج، وكما هو معلوم أن زمان المهدي خير من الزمان الذي قبل المهدي، وكذلك الزمان الذي فيه رسول الله خيرٌ من الزمان الذي لم يكن فيه الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) ، هذه هي حال الأنصار، قلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئاً على إخوانهم المهاجرين لكونهم فضِّلوا عليهم ببعض الفضائل.(58/3)
مدح الله للأنصار بالإيثار
وقوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الخصاصة: الحاجة الشديدة، وأمثلة هذا الإيثار سطِّرت بها كتب السنن، وجاءت نماذج منها في كتاب الله سبحانه وتعالى، فمما سطِّرت به كتب السنن ما أخرجه البخاري ومسلم: (أن ضيفاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل أزواجه: هل في بيت إحداكن طعام؟ فكلهن قلن: والله! يا رسول الله! ما عندنا إلا الأسودان التمر والماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ألا رجل يضيفه هذه الليلة؟) ، وفي هذا رفع للكلفة بين المسلمين، بل وقذف للمحبة بين المسلمين، فإذا جئت إلى أخيك وقلت له: حل بي ضيف وليس في بيتي طعام، فهل تستطيع إكرامه؟ فلا شك أن المودة تزداد والمحبة تتمكن، ففعلك هذا دليل على محبتك لأخيك، وعلى محبة أخيك لك.
(.
فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله!) وفي بعض الروايات: (أن هذا الرجل هو أبو طلحة، وزوجته هي أم سليم رضي الله تعالى عنهما، فأخذ الضيف فانطلق به إلى بيته، ولم يكن الطعام في البيت كافياً، فقال لامرأته: نوِّمي الصِّبْية، وذلك حتى لا يشاركوا الضيف في الطعام، فنوّمت الصِّبْية، وأطفأت المصباح، وقعدا يريان الضيف أنهما يأكلان وهما يتلمظان ويضربان بأسنانهما بعضها على بعض! حتى فرغ الضيف وشبع، ثم أصبح أبو طلحة فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد عجب الله عز وجل من صنيعكما البارحة! فأنزل الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] ) .
ومن ذلك ما فعله سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما بعد أن آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما عندما آخى بين المهاجرين والأنصار عند مقدم المهاجرين إلى المدينة، فقد قال سعد لـ عبد الرحمن: قد علمت -يا عبد الرحمن - أني من أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وأن لي زوجتين، فأشاطرك مالي، وانظر أي امرأتي شئت فأنزل لك عنها حتى تتزوجها! فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك! ولكن دلوني على السوق الحديث.
ولما فتح الله سبحانه وتعالى على نبيه الفتوحات، وأراد عليه الصلاة والسلام أن يُقطِع للأنصار البحرين، قالوا: لا -يا رسول الله- حتى تعطي إخواننا من المهاجرين مثل ذلك! فقوله سبحانه وتعالى: (وَيُؤْثِرُونَ) أي: يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.(58/4)
ذم الشح والبخل
وقوله تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، في هذه الآية ذم الشح، وهو نظير البخل، ومن العلماء من قال: إن الشح هو البخل مع حرص وطمع فيما أيدي الآخرين، فيبخل بما معه، ويحرص أيضاً على أخذ ما في أيدي الآخرين.
وقد روي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أنه كان يطوف بالكعبة وله دعوة واحدة يدعو بها، يقول: اللهم! قني شح نفسي، اللهم! قني شح نفسي، اللهم! قني شح نفسي.
فقال له قائل: لم تدع بهذه الدعوة يا عبد الرحمن؟! قال: إنك إن وُقِيت شح نفسك فقد أفلحت كل الفلاح -أو كما قال رضي الله تعالى عنه-، وقد قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم! فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح! فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم) .
وأما ذم البخل فقد وردت جملة هائلة من الأحاديث تحذر منه، بل ومن الآيات كذلك، فقد قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:37] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكاً تلفاً) .
وجاء بنو سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (من سيدكم يا بني سلمة؟! قالوا: الجد بن قيس، على أنا نُبَخِّلهُ يا رسول الله! -أي: نصفه بالبخل-، قال: وأي داء أدوأ من البخل؟) ، ثم جعل سيدهم بدله عمرو بن الجموح، وكان عمرو على أصنامهم في الجاهلية، وكان يولم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج.
وثم جملة نصوص في ذم البخل ثابتة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
كما جاء ذم البخل بلهجات شديدة على ألسنة الشعراء، ومن ذلك قول أحدهم: رأيت الفضل متكئاً يناجي الخبز والسمكا فقطب حين أبصرني ونكس رأسه وبكى فلما أن حلفت له بأني صائم ضحكا والأبيات في هذا كثيرة لا تكاد تُحصَر.
وفي مقابل البخل الإيثار والكرم، وقد تحلى بالإيثار والكرم أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، وأهل الفضل والخير والصلاح، وهذا في الحقيقة منهم لأنهم أيقنوا بأن الخلف من الله سبحانه وتعالى، وأن ما يُفعل من خير فلن يُكفَر، وأن من عمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن عمل مثقال ذرة شراً يره، فدل هذا الكرم، ودل هذا الإيثار، ودل هذا الإنفاق على صدق الإيمان وحسن اليقين، والله أعلم.
والشح ليس بالمال فحسب، بل وبالمناصب والمستحقات من أي شيء، فقد قال الله سبحانه وتعالى في شأن الزوجين المتشاحنين: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ، فقوله سبحانه: (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) أي: كل نفس تسرَّب إليها شحها؛ فنفس الرجل أتاها الشح، ونفس المرأة أتاها الشح، وذلك أن الآية نزلت في الرجل تكون عنده المرأة لا يحبها، ويريد فراقها، فتقول له: أمسكني لا تطلقني، وأنت في حلِّ من شأني، فيقبل منها ومع قبوله يحضر نفسه شحها، ونفس المرأة يحضرها شحها، فالرجل يمسكها بلا طلاق وهو يبغضها ويكرهها، فينفق عليها إذ هي زوجة ليست بمطلقة، فيقول في نفسه: لماذا أنفق عليها وأرهِق نفسي بالإنفاق؟ ويعدد على نفسه الأشياء التي يصنعها فيها، وهي الأخرى يحضرها الشح فتقول: أنا زوجة له، فلماذا لا ينفق علي؟ ولماذا لا يأتيني في كل ليلة كما يأتي الزوجة الأخرى؟ فكل نفس يحضرها الشح، فالشح عام، وغالباً ما يراد به الخصوص، كما هو الشأن في أكثر مواضع الكتاب العزيز، بل وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الآية الكريمة بيان لصرف الفيء في الأنصار أيضاً، فلهم نصيب منه.(58/5)
حق السلف على الخلف
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: أهل الإيمان الذي جاءوا من بعدهم.
وقوله تعالى: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) استدل الإمام مالك رحمه الله تعالى بهذه الآية على أن الروافض والشيعة البعداء البغضاء ليس لهم نصيب من الفيء، ووجه استدلاله أن الله ذكر مصارف الفيء فقال: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) ، فالذين يقولون: ربنا العن إخواننا الذين سبقونا! ليس لهم من الفيء شيء، وهؤلاء الشيعة البغضاء البعداء الروافض يلعنون أبا بكر، ويلعنون عمر رضي الله تعالى عنهما، وهم ممن سبقونا بالإيمان، فـ أبو بكر وعمر من السابقين الأولين إلى الإسلام والإيمان، فالشيعة يلعنونهما في صلواتهم، ومن مقالاتهم السخيفة التي هي مردودة عليهم بلا شك، أنهم يقولون: (اللهم العن صنمي قريش وجبتيها وطاغوتيها وابنتيهما) ، ويريدون بذلك أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فلا شك أنهم يُحرمون من الفيء، وهذا أقل ما يُفعل بهم.
وأفادت الآية أيضاً أنه يسن لمن جاء بعد القرون المفضلة، وبعد المهاجرين والأنصار؛ أن يدعو لإخوانه السابقين بالمغفرة، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) ، وهي تشمل كل مؤمن سبقك وصدق برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن ووحّد قبلك، فإذا فعلت، فمن قال بعد موتك: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) لحِق بك نصيب من هذا الدعاء الطيب.(58/6)
القلوب أوعية يصرفها الله عز وجل
وقوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، هذا الدعاء ينم عن شيء، وهو أن ما في القلوب إنما هو من الله سبحانه وتعالى، ولا يرفعه إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يثبته إلا الله سبحانه وتعالى، فالمحبة التي في قلبك لشخص هي من الله، والبغض الذي في قلبك لشخص هو من الله سبحانه وتعالى، وإن كان لذلك أسباب، ولكن قد تُفعل الأسباب ويتخلف المطلوب، والله تعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] ، فأنت -يا عبد الله- لا تستطيع التسلط على قلبك الذي بين جنبيك فضلاً عن قلوب غيرك، فالصديق يوسف عليه السلام يقول: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] ، وقال صلى الله عليه وسلم -وإن كان فعلاً-: (اللهم! هذا قسمي فيما أملك، ولا تلمني فيما تملك ولا أملك) ، وهو المحبة القلبية.
وقال صلى الله عليه وسلم في شأن خديجة رضي الله تعالى عنها لما كان يكثر من ذكرها، وتغار أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (إني قد رزقت حبها) ، والذي رزقه حبها هو الله سبحانه وتعالى.
فالأشياء التي في القلوب من محبة وبغض، كل ذلك أصله من الله سبحانه وتعالى، لا يثبِته إلا الله، ولا ينزعه إلا الله سبحانه وتعالى، ومن هذا قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] .
فأهل الإيمان لما فطِنوا لهذه المسألة طلبوا من الله سبحانه وتعالى أن يظهر لهم قلوبهم؛ إذ هو القادر على ذلك، ولا أحد يقدر على هذا إلا هو سبحانه وتعالى، فقالوا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، ولا يليق أن يكون في قلب المؤمن غلٌ على أخيه المؤمن، ولكن من ناحية تواجده قد يتواجد، والله يقول في شأن أهل الإيمان يوم القيامة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] .
وقد أخذ بعض العلماء رحمهم الله تعالى من هذه الآية مشروعية الدعاء للنفس قبل الغير؛ إذ هم قالوا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا) فدعوا لأنفسهم ثم لإخوانهم.(58/7)
تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا.)
قال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11] .
قوله تعالى: (أَلَمْ تَر) هذه الجملة تأتي أحياناً بمعنى: (ألم تعلم) ، وأحياناً يراد بها الرؤية بالبصر، فمن الأول قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:246] ، والرسول صلى الله عليه وسلم ما رآهم، وكذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} [البقرة:243] ، ومن الثاني قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ، فقد ذكر بعض العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مميزاً أثناء هذه الحادثة.
قوله تعالى: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) أي: إن طُردتم من بلادكم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أي: من يطلب منا شيئاً في شأنكم فلن نطيعه أبداً، بل سنؤازركم، وسنواليكم، وسنناصركم، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11] .
ثم قال تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:12] هذا عام في عموم أهل الكفر، فأهل الكفر هذا شأنهم، بعضهم يبغض بعضاً ولا يحبه وإن أظهر ذلك، كما قال الله سبحانه وتعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] ، أي: تحسبهم مجتمعين في الظاهر لكن قلوبهم متفرقة، وكما قال سبحانه: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14] ، يقول العلماء في تفسير قوله تعالى: (فَأَغْرَيْنَا) : كأن العداوة والبغضاء بينهم أُلصِقت بالغراء، فكأن القلوب أُثبِتت بها العداوة والبغضاء كما أن الخشب يضم إلى بعضه ويلصق بالغراء، فهي ثابتة في قلوبهم تجاه بعضهم.
وكذلك عموم أهل الظلم، يجلسون جميعاً، ثم بعد التفرق كلٌ يلعن الآخر ويسب الآخر، وكل يخون صاحبه في الغالب، ومنهم الذين يضحكون ويسخرون من أهل الإيمان.(58/8)
الغفلة عن الله تعالى تورث جبناً وحرصاً على الحياة
قال تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13] .
أي: يا أهل الإيمان! أنتم (أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) ، فمن غبائهم أنهم يخافون منكم -يا أهل الإيمان- أكثر من خوفهم من الله سبحانه وتعالى! فمن غباء اليهود وجهلهم، ومن جهل أهل النفاق، ومن جهل الكفار بصفة عامة أنهم يعملون للمؤمنين حساباً أكثر من هذا الذي يعملونه لربهم سبحانه وتعالى! فهم يرهبون السيف ولا يرهبون الرب سبحانه وتعالى، ويرهبون البشر ولا يخافون من رب البشر، وهذا دليل على ضعف الإيمان في قلوبهم، وعلى جهلهم وقلة علمهم، كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) .
قال تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14] .
أفادت هذه الآية أن اليهود وأهل النفاق جبناء، وهذا الجبن منشؤه حب الدنيا وقلة اليقين في الآخرة، فهم يريدون أن يستمتعوا بحياتهم الدنيا كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96] .
فقوله سبحانه: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) هذا في شأن اليهود، فهم أشد الناس حرصاً على الحياة، وقوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) فيها تأويلان: أحدهما: أن المعنى: لتجدن اليهود أشد الناس حرصاً على الحياة، وأشد من الذين أشركوا، ويكون قوله تعالى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) راجعاً إلى اليهود، فكلها تكون في اليهود.
الثاني: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة، وأحرص من الذين أشركوا الذين يود أحدهم لو يعمّر ألف سنة، فالذين أشركوا -على التأويل الآخر- يطمع أحدهم أن يعيش ألف سنة، واليهود أشد منهم حرصاً على هذه الحياة، فمصدر الجبن عندهم حبهم الحياة.
قال تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14] سبب هذا القتال (مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) هو -كما سبق- الجبن المستكن في نفوس اليهود وصدورهم، وهذا الجبن سببه الحرص على الحياة، فإذا كان هناك يقين بالآخرة وبلقاء الله، فسيتحول الأمر كما تحول مع عمير بن الحمام رضي الله تعالى عنه لمّا سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض) ، وكان بيده تمرات يأكلهن فقال: والله! إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات، ثم ألقاهن وقاتل حتى استشهد رضي الله تعالى عنه.
وكما قال سحرة فرعون لما أيقنوا بلقاء الله واليوم الآخر: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] ، فالجبن المستكن في الأنفس، وحب الدنيا وحب الاستمتاع بها؛ هو الذي حملهم على القتال من وراء جدُر، فالتلذذ بالحياة والدنيا غاية المراد عندهم؛ إذ لا يقين عندهم بالله تعالى، ولا باليوم الآخر، وأما أهل الإيمان فليسوا كذلك، بل علموا أن الدنيا بما فيها كلها سجن للمؤمن وجنة للكافر.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى.(58/9)
الأسئلة(58/10)
الرخص والتوسع في الأخذ بها
السؤال
هل الأخذ بكل الرخص الواردة في السنة المطهرة يقدح في إيمان المسلم؟
الجواب
المسألة تحتاج لضبط أوسع، والمقام لا يتسع لها.(58/11)
أخذ الأم من مال بنتها خفية
السؤال
لأحد إخواني زوجة، وعندها طفلة في سن الرضاعة، ولكنها لا ترضع من ثديها، فترسل إليها أختٌ لي متزوجةٌ، بلبن لها، ولكن هذا اللبن يقع في يد أمي فتُنقِص منه مقدار كوب أو كوبين لنا، وتضع بدلاً منهما ماءً، فما حكم الإسلام؟
الجواب
إذا كانت الأم تأخذ من لبن أرسلته ابنتها فلا إشكال؛ لأنها تأخذ من مال بنتها، إلا أن في ذلك إثماً خفيفاً؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر) ، فهي لم تأخذ اللبن فقط، بل تضع الماء مكانه، فالغش وصل بها إلى أن تضع الماء حتى تستر على نفسها، فدل ذلك على وجود الإثم.
ويصل هذا إلى التحريم إذا أفتى الإطباء أن اللبن إذا شِيب بالماء بهذه الصورة يضر بالطفلة، فيقع حينئذٍ الإثم، فإن قالوا: فيه مصلحة للطفل، يتغير الحكم.
وأخذها هذا صورته صورة السرقة، إلا أنه يخف حجم هذه السرقة؛ لأنه من ابنتها فقط، والمخرج من هذا أن يشتري للجدة لبناً لتخرج من الحرج.(58/12)
المشي مع المرأة لأجل خطبتها
السؤال
هل يمكن المشي مع فتاة لغرض الخطوبة؟
الجواب
لا يجوز.(58/13)
حديث قدسي، ومدى صحته
السؤال
ما صحة الحديث القدسي المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أمتك سلكت إلي من كل طريق، واستفتحت علي من كل باب، فلن أفتح لهم إلا أن يأتوا خلفك) .
الجواب
لا يثبت.(58/14)
البيع والشراء في المسجد
السؤال
هل يجوز البيع والمزايدة في المسجد؟
الجواب
لا أعلم دليلاً على هذا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء في المسجد.(58/15)
النوم عن صلاة الفجر مع أخذ الاحتياط لها
السؤال
نمت متأخراً لسبب شرعي، بعد أن توضأت وقلت أذكار النوم، ونويت الاستيقاظ للصلاة، وضبطت المنبه لذلك، لكن لم أستيقظ إلا الساعة الثامنة، فهل عليّ إثم؟
الجواب
في الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ) الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها) ، ثم تلا قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] .(58/16)
الفرق بين الآفاق والأفَّاك
السؤال
ما الفرق بين الآفاق والأفاك؟
الجواب
أما الآفاق كما في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} [فصلت:53] فجمع أفق، وهي أقطار السموات والأرض، ومنه كذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] ، فالأفق المبين هو: اتجاه السماء المُظهِر للأشياء، وهو جهة طلوع الشمس، وأما الأفَّاك فهو الكذاب.(58/17)
أحاديث وزيادات، ومدى صحتها
حديث: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة) ضعيف، لكن معناه ثابت، كما قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} [الأعراف:55] ، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا} [الأنبياء:90] ، أي: طلباً لما عندنا، فالمعنى صحيح لكن الإسناد فيه ضعف.
وحديث: (رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين) إسناده ضعيف كذلك.
وحديث: (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار) ضعيف أيضاً.
وحديث: (اللهم إني أسألك خير المولج ... ) عند دخول المنزل، إسناده منقطع.
وحديث: (سبحانك اللهم وبحمدك ... ) بعد الوضوء، في إسناده ضعف.
وزيادة: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) بعد الفراغ من الوضوء، ضعيفة.
وحديث: (وأعوذ بك أن أقترف إثماً أو أجره إلى مسلم) لا يحضرني الحكم عليه.(58/18)
الوضوء عند قراءة القرآن
السؤال
ما دليل استحباب الوضوء عند قراءة القرآن؟
الجواب
الدليل هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر) .(58/19)
المدن الجامعية وسكن الطالبات فيها
السؤال
ما حكم الطالبات اللاتي يسكن في المدينة الجامعية، ويتغيبن بها لفترة طويلة بعيداً عن أهلهن، وربما تصل إلى شهر في فترة الامتحانات؟
الجواب
إن كُنّ في مكان آمن، وقد أوصلهن أهلهن، ويأخذونهن عند الرجوع، والمكان آمن فلا بأس؛ إذ لم يرد في تحديد المدة خبر إلا عمومات كخوف الفتنة.(58/20)
تشبيك الأصابع في المسجد والصلاة، والوارد في ذلك
السؤال
هل تشبيك الأصابع منهيٌ عنه في الصلاة فقط؟ أم منهيٌ عنه مطلقاً؟
الجواب
لا أعلم حديثاً يخص الصلاة بعينها في النهي عن تشبيك الأصابع، وإنما في الباب حديث: (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة) ، أو بلفظ قريب منه، فإذا أُخِذ المنع على أن النهي عن تشبيكهما في الطريق إلى المسجد بسبب أنه في صلاة، فيكون النهي عن التشبيك في الصلاة من باب أولى.
إلا أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى أومأ في صحيحه إلى تضعيف هذا الخبر، حيث بوّب: (باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره) ، واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه) ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان يغربلون فيه غربلة يبقى منهم حثالة قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه) ، وهي أسانيد ثابتة صحيحة، والآخر في تصحيحه نزاع طويل.(58/21)
تفسير الألوسي تحت الضوء
السؤال
ما رأيك في تفسير الألوسي؟
الجواب
تفسير الألوسي من التفاسير البعيدة عن تفاسير أهل السنة والجماعة، وفيه خلل كثير، فلينتبه إلى مثل هذه التفاسير، ومن الأمثل والأقرب والأيسر تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى، وتفسير القرطبي رحمه الله تعالى على ما فيه من خلل في مسائل الأسماء والصفات، وانتصارٍ في كثير من المسائل الفقهية للمذهب المالكي، لكن على وجه الإجمال هو تفسير حسن، وقد هُذِّب إلى حد كبير في تفسير فتح القدير للشوكاني رحمه الله تعالى، واختصر تفسير فتح القدير إلى تفسير فتح البيان لـ صديق حسن خان رحمه الله تعالى، وعلى العموم فإن المبتدئ يستحسن له تفسير ابن كثير، كما يستحسن له تفسير الشيخ الجزائري حفظه الله تعالى.(58/22)
حكم الطلاق بعد العقد خشية الظلم والضرر
السؤال
شاب خطب فتاة وعقد عليها ولم يبن بها، ولكنه لم يشعر تجاهها بمودة، ولا توافق في الطباع، ولا اتفاق في الأفهام، فلا يقدر على الاستمرار معها ويخاف أن يظلمها فيما بعد، فهل له أن يقلل من الضرر الذي يمكن أن يحدث فيما بعد ويفارقها؟ وهل يكون ظالماً إذا طلقها؟
الجواب
نعم له ذلك، فإذا كان يشعر أن هناك ضرراً سيلحق باستمرار طول الحياة، فارتكابه بعض الضرر الذي هو إحزان لهذه الفتاة شيئاً ما، أولى من أن يعيش مكفهر الوجه طول حياته معها.
ولا يكون ظالماً لها إذا أعطاها حقوقها الشرعية، وما دام أنه قد عقد عليها؛ فإذا كان سمى الصداق فلها نصف الصداق، إلا إذا عفت هي، أو عفا هو وأعطاها الصداق كاملاً، والله تعالى أعلم.(58/23)
ما للمرأة إذا طلقت قبل الدخول عليها؟
السؤال
ما حقها إذا طلقها وقد قدم لها هدية من الذهب، وعليه صداق مؤخر، ولم يدخل بها؟
الجواب
إذا قدم لها هدية، فإن كانت الهدية هبة، فالراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه كما قال عليه الصلاة والسلام، وأما إذا كان عرفه وعرف أهل بلده يعتبر أن الشبكة من الصداق، فلها نصف الصداق الذي يشمل الشبكة ويشمل المؤخر المسمَّى، ويشمل أيضاً ما إذا كانوا قد اتفقوا على عفش معين، كل هذا ينصّف نصفين، ولها النصف.(58/24)
تجهيز البنت للزواج ومعارضته لأداء فريضة الحج
السؤال
رجل يعيش على راتبه الشهري، وعنده ولدان متزوجان، ولكن له بنتان يجهزهما، وهو يريد أن يسافر إلى الحج، فأيهما يقدم؟
الجواب
الحج فرض، وتجهيز البنتين مستحب، وليس بواجب على الولي، فالفرض يقدم على المستحب، ولا شك.(58/25)
الوارد في جبن المؤمن
السؤال
ما صحة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سُئل: (أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم) ؟
الجواب
الحديث إلى آخره ضعيف.(58/26)
نفاق الأعمال ونفاق الاعتقاد
السؤال
صفات المنافقين الأربع المذكورة في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) إذا وجدت في شخص، فهل يُحكم عليه بالنفاق؟
الجواب
نعم، يحكم عليه بالنفاق، ولكن ليعلم أن النفاق على قسمين: نفاق عمل، ونفاق اعتقاد، فنفاق العمل لا يخلد صاحبه في النار، ولكن نفاق الاعتقاد -أي: أن تبطن الكفر، وتظهر الإسلام- هو المخلد صاحبه في النار حتى وإن صدق، ولم يخلف العهد، ولم يخن الأمانة، ولم يفجر في الخصومة، لكن الذي يفعل هذه الخصال الأربع، وقلبه فيه إيمان وتوحيد، فهو منافق نفاق عمل، ونفاق العمل لا يخلِّد صاحبه في النار، والله تعالى أعلم.(58/27)
حمل العصا وأصله في نظر الشرع
السؤال
إنا نرى كثيراً من الشيوخ والشباب، وبالأخص الملتحين يحملون العصي في أيديهم ويحثون على حملها، فهل لهذا دليل من السنة؟ وهل يسوغ حملها للشاب أم للشيخ؟
الجواب
العصا ليست للشباب ولا للشيوخ، بل من احتاج إليها حملها، ومن لم يحتج إليها فلا يحملها، فموسى عليه السلام لما سأله ربه تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17-18] ، وسليمان عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى عنه: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ:14] ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يتكئ على العصا إذا كان متعباً، وإذا كان يخطب أحياناً، ولكن من الجهل بالشرع أن تحمل العصا في الطرقات وليس لك فيها فائدة، ومن الجهل أن تحول الشيء الجبلي، أو سنة العادة إلى سنة عباده، فتحول حمل العصا إلى سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحث الناس على حملها.
فحمل العصا من أمور العادات، فإن احتجت إليها حملتها، وإن لم تحتج إليها فلا تحملها، بل قد تزري بنفسك حين تمشي وأنت تعمل شيئاً لا فائدة فيه، فجعلها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة، وحث الناس عليها، هذا -والله تعالى أعلم- قولٌ غير موفق للغاية، والله سبحانه وتعالى أعلم.(58/28)
تفسير سورة الحشر [3]
من رحمة الله تعالى بعباده بيانه لهم ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة، فبين أيدينا آيات حث الله تعالى العباد فيهن على تقواه، وبين لهم كيد الشيطان في انتزاع التقوى من قلوب العباد، وذكر المؤمنين بيوم القيامة، ووصفه بما يفيد قربه، ونهاهم عن نسيانه تعالى والغفلة عنه، وذكر عباده بأن سبيل المؤمنين أهل الجنة هو سبيل الفوز والفلاح دون سبيل أهل النار، ثم وصف لخلقه كلامه وهو القرآن الكريم، وعقبه بذكر بعض أسمائه الحسنى الدالة على عظمته وإلهيته، كل ذلك ليسلك العباد طريقاً موصلة لهم إلى رضا ربهم تبارك وتعالى.(59/1)
تفسير قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ.)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في شأن اليهود: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16-17] .
أي: مثل اليهود في انخداعهم بأهل النفاق، وذهاب وعود أهل النفاق عنهم كانخداعهم بالشيطان وذهاب وعود الشيطان عنهم وتبرؤه منهم، فكما أن أهل النفاق خدعوا اليهود وقالوا لهم: (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) ، فكذلك خدع الشيطان الإنسان وقال له: (اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) ، وقد ساق العلماء عند تفسير هذه الآية آثاراً، وهي لا تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من الآثار الإسرائيلية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم وفي أمثالها: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا) الآية) ، أو كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالإسرائيليات منها ما يُحكى ولا يصدق ولا يكذب، ومنها ما يصدق قولاً واحداً، ومنها ما يُكذَّب قولاً واحدا.
فالإسرائيليات التي تصدق قولاً واحداً هي: الأخبار التي أقرّها ربنا وأقرّها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فما وافقه الشرع منها فإنه يصدق؛ إذ قد حكاها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
والتي تكذب قولاً واحداً هي الإسرائيليات التي خالفت كتاب الله تعالى، وخالفت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والتي بين ذلك هي: أخبار إسرائيلية لم يكذبها الله في كتابه، ولا رسوله محمد عليه الصلاة والسلام في سنته، ولم يرد في الكتاب والسنة ما يثبتها، فهذه تُحكى ولا تُصدق ولا تكذَّب.
ومن هذا القسم الذي لا يصدق ولا يكذب: ما ورد عند تفسير هذه الآية أنه كان في بني إسرائيل عابد من العباد يعبد الله في صومعته، وكان في بلدته فتاة حسناء، ولها إخوة أربعة، فأراد إخوتها السفر، فقالوا: لن نأمن على أختنا أفضل من هذا العابد، فذهبوا إليه في صومعته، فأبى أشد الإباء أن يقبلها أو يتفقد أحوالها، فأصروا عليه، فآل الأمر إلى أن قبل رعاية أختهم وهي في بيتها، فانطلقوا مسافرين، وذهب يتفقد أحوالها اليوم بعد الآخر ويطمئن على حالها، فزيّن له الشيطان سوء العمل، وقال: سلها، فلعلها مستوحشة من فقدان الرفقة، فصار بعد أن كان يترك الطعام على باب دارها يسألها عن حالها، ثم آل به الأمر إلى أن دخل وخلا بها وارتكب معها الفاحشة، فلما حملت خشي من الفضيحة فقتلها ودفنها، فلما جاء إخوتها سألوه عن أختهم، فقال لهم: قد ماتت، وقد أحسنت إليها وقمت بدفنها وبالصلاة عليها فصدّقوه، ثم إن الشيطان أتى إخوتها في منامهم، وأوعز إليهم بالذي كان وحدث، وقال: إن أختكم في مكان كذا وكذا، فذهبوا واستخرجوها، فأتوا به إلى الملك فقرر قتله بعد أن اعترف، فأُخِذ ليقتل فجاءه الشيطان وهو في طريق القتل وقال: أنا الذي حملتك على الخلوة بها، وأنا الذي حملتك على الزنا بها، وأنا الذي حملتك على قتلها، فإن أطعتني الآن أنجيتك، قال: وما تريد مني؟ قال: تسجد لي سجدة واحدة، فسجد له فقتل وهو ساجد للشيطان، قال تعالى: (فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) .
وهذه القصة -كما أسلفنا- ليست واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من الإسرائيليات، والعبرة منها مأخوذة، فالشيطان يغوي ابن آدم ثم يتبرأ منه يوم القيامة، كما قال تعالى عنه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:36-39] ، فقوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي: الشياطين، وقرناء السوء، وقوله تعالى: (جَاءَنَا) وقرئ: (جاءانا) ، فكل خليل مبطل وقرين سوء يتبرأ من خليله وقرينه يوم القيامة، وقد جاء من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه السيوطي أن ابن عباس قال: كان عقبة بن أبي معيط رجلاً حليماً لا يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفره، وكان مشركو مكة إذا جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم آذوه ونالوا منه، وكان لـ عقبة خليل غائب بالشام، فرجع خليله من الشام فسأل امرأته: كيف حال فلان وفلان من أهل مكة؟ فأخبرته، فقال لها: وكيف حال أخي عقبة؟ قالت له: لقد صبأ، ثم إن عقبة أتى يحيِّي صاحبه القادم من السفر، فدخل عليه يحييِّه فلم يرد عليه التحية، فقال: مالي أحييك ولا ترد علي تحيتي؟ قال: كيف أرد عليك التحية وقد صبأت؟! أي: دخلت دين محمد، وتركت دين قومك، قال: فماذا يرضيك عني حتى ترد علي تحيتي؟ قال: لا أرضى عنك بحال حتى تذهب إلى محمد في مجلسه فتسبه بأقبح ما تعلم من سبٍّ، وتشتمه بأقبح ما تعلم من شتائم، وتبصق في وجهه، فذهب الغويُّ إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فسبّه بأقبح السب، وشتمه بأقبح الشتائم، وبصق في وجهه، فما زاد الرسول صلى الله عليه وسلم على أن مسح البزاق عن وجهه وقال: (لئن أدركتك خارج جبال مكة لأقتلنك صبراً) ، فلما كان يوم بدر أراد المشركون أن يُخرجوا عقبة بن أبي معيط معهم، فأبى وتذكر مقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطوه أفضل الإبل وقالوا: إن كانت لنا الدولة والدائرة شاركتنا المغنم، وإن كانت علينا فررت على هذا الجمل، فشاء الله أن يقع عقبة بن أبي معيط في الأسر، فقدِّم كي تضرب عنقه من بين الأسارى الذين قدموا الفداء، فقال: تقتلني من بين هؤلاء؟ قال: (نعم بما بزقت في وجهي) ، ونزل قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27-29] ، فكل خليل يتبرأ من خليله يوم القيامة، وكل قرين يتبرأ من قرينه يوم القيامة، كما قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] .
فجدير بكل واحد منا أن ينظر في أصدقائه وخلانه قبل أن يأتي يوم القيامة، فيلعن بعضهم بعضاً، كما قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] .(59/2)
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ.)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي: يا من آمنتم بالله وصدقتم المرسلين، (اتَّقُوا اللَّهَ) أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، والوقاية تكون بكل أعمال البر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) ، وقد تلا النبي هذه الآية مع آية النساء الأولى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] في قصة، وقد تنزل الآية من عند الله سبحانه وتعالى في عدة وقائع، وقد تنزل عدة آيات في واقعة واحدة.
جاء وفد من غطفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم أثر الفقر والفاقة مجتابي النمار، أي: يلبسون جلود النمور من الفقر والفاقة، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى ما بهم من فاقة، ورأى الفقر الشديد يعلوهم، ورأى حالة المسكنة والانكسار تخيم عليهم، فخرج على أصحابه فتلا هاتين الآيتين: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ، فعمَد رجلٌ إلى صدقة فتصدق بها، فتبعه الناس على ذلك، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وأشرق وأضاء، ثم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) .
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي: ليوم القيامة، وعُبِّر عنه بالغد لقرب وقوعه، كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل:77] .
وقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) تأكيد على الأمر بتقوى الله، وآيات الكتاب العزيز متعددة وفي غاية الكثرة تأمر بتقوى الله، فهي وصية ربنا لنا، ووصية الأنبياء لأممهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] .
وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) هذا الختام يعظم مراقبة العبد لربه، وينبغي أن يكون العبد على هذه الحال من المراقبة، وهي مرتبة الإحسان التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، وكما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:217-219] ، أي: ويرى تقلبك مع الساجدين، فجدير بالعبد أن يعبد الله سبحانه وتعالى على هذه الصفة كأنه يرى ربه، فإن لم يكن يرى ربه فإن ربه سبحانه وتعالى يراه، وكما قال تعالى: {يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19] .(59/3)
عاقبة نسيان الله تعالى
ثم قال سبحانه محذراً إيانا من التشبه بأهل الكفر الذين نسوا الذكر وكانوا قوماً بوراً: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] ، أي: تركوا العمل للقائه سبحانه، ونسوا ذكر ربهم كذلك.
ومن العلماء من حمل النسيان هنا على الترك، أي: تركوا العمل للقاء الله، وتركوا ذكر الله سبحانه وتعالى، فأنساهم الله سبحانه وتعالى العمل لأخراهم.(59/4)
تمايز أهل الجنة وأهل النار
قال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] هذه الآية قد تكرر معناها في جملة آيات، من ذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18] ، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:19] ، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] ، وقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] ، وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] ، إلى غير ذلك من الآيات.(59/5)
عظمة القرآن ومقصد ضرب الأمثال
قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] .
قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ) أي: لو جعلنا للجبل إدراكاً، وأنزلنا هذا القرآن عليه وأوحيناه إليه لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، بعكس بني آدم، قال بعض أهل العلم: إن الجمادات لها إدراك يعلمه الله، ويعلم صفته، فإن الله سبحانه وتعالى قال في شأن الجبال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب:72] ، فدل ذلك على أن للجبال إدراكاً، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أحدٌ جبل يحبنا ونحبه) ، وقال الله جل ذكره في كتابه الكريم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن) ، وقد حن الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (كنا نسمع للطعام تسبيحاً وهو يؤكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فاستُدِل بهذه الآيات مع قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] على أن الجمادات لها إدراك يعلمه الله، ويعلم ماهيته، كما قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44] ، وقال تعالى في شأن الجبال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] .
قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] ، فهذا المقصد من وراء ضرب الأمثال للناس، ولذلك قال كثير من المفسرين: ينبغي أن نفكِّر في الآيات وفي الأمثال، ونبحث عن معانيها الغامضة، فإن القرآن نزل ليُتدبر، ونزل ليُتأمل ويُتفكر فيه، كما قال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ، وكما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82] ، وكما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] .(59/6)
أسماء الله الحسنى
قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22] .
هذه إحدى آيات توحيد الإلهية، وهي في كتاب الله في عدة مواطن، قال الله جل ذكره: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98] ، وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:2-3] ، إلى غير ذلك من الآيات.
فقوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي: عالم الظاهر والباطن، ويعلم ما ظهر ويعلم ما استتر سبحانه وتعالى، كما قال تعالى حكاية عن لقمان في موعظته لولده {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] ، فهو يعلم ما لطَف أي: ما دَقَّ، خبير بموطنه ومكانه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22] قال فريق من العلماء: رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، ومن أهل العلم من قال: إن الرحمن أعم من الرحيم، فالرحمن رحمته عامة بالمسلمين وبالكافرين في الدنيا، أما الرحيم فأخص من الرحمن؛ لقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] ، وعلى هذا بعض المآخذ، تأتي في محلها إن شاء الله.
واسم الرحمن قد اختص به ربنا سبحانه وتعالى، فقد قال فريق من أهل العلم إن مسيلمة الكذاب لما تشدق وتطاول، وأطلق على نفسه (رحمان اليمامة) وُسِم بالكذب ووصِف به إلى يوم الدين، فلا يُقال إلا: مسيلمة الكذاب، مع أن هناك كذابين آخرين، ككذاب اليمن الأسود العنسي، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وكلهم كذابون، لكن لفظة (الكذاب) كانت أشد التصاقاً بـ مسيلمة؛ لدعواه أنه رحمان اليمامة.
قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23] الملك: هو المالك المتصرف في كل شيء، والقدوس: هو المطهَّر، ومنه قولهم: لا قُدِّست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها، أي: ما طُهِّرت، ومنه قولهم: العاصمة المقدسة، أي المطهَّرة، وقوله تعالى: {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} [طه:12] ، أي: المطهَّر، فالقدوس هو المُطَّهر.
وقوله تعالى: (السَّلامُ) للعلماء في المراد به أقوال: فمنهم من قال: هو المسلَّم من كل عيب ومن كل نقص، ومنهم من قال: هو الذي يسلِّم عباده المؤمنين من النيران، ويدخلهم الجنان، إلى غير ذلك من الأقوال.
وقوله تعالى: (الْمُؤْمِنُ) في معناها أقوال لأهل العلم كذلك، فمنهم من يقول: هو الذي يؤمِّن عباده المؤمنين، وقيل: هو الذي يصدق المؤمنين فيما ينقلونه عن ربهم سبحانه وتعالى، وثم أقوال أخر.
وقوله تعالى: (الْمُهَيْمِنُ) هو: الرقيب والشاهد، وقوله تعالى: (الْعَزِيزُ) أي: الذي لا يغلبه شيء ولا يُمانَع من شيءٍ أراده، وقوله تعالى: (الْجَبَّارُ) أي: الذي أجبر الخلق كلهم على أي شيء يريده، (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:24] (البارئ) بمعنى الخالق، ومن العلماء من أضاف إليها معنى وهو: إظهار ما برأ، بخلاف أهل الدنيا، فقد يخترع الشخص شيئاً، أو يأتي بفكرة الشيء ولا يستطيع إظهاره، أما ربنا تعالى فليس كذلك، فهو الذي ينفِّذ ما أراد، ويُخرِج ما خلق.
وقوله تعالى: (لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) الحسنى: جمع الأحسن.
والتحرير يقتضي أن أسماء الله الحسنى لا يعلم عددها إلا هو، بدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب أحداً هم ولا حزن فقال: اللهم! إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فالله سبحانه استأثر عنده في علم الغيب بأسماء له لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.
فأسماء الله الحسنى لا يحصيها إلا هو، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن لله تسعة وتسعين اسماً -مائة إلا واحداً- من أحصاها دخل الجنة) ، فهذا في فضيلة تسعة وتسعين اسماً من الأسماء من أحصاها دخل الجنة.
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحصاها دخل الجنة) اختلف فيه العلماء، قال بعضهم: أي: من عمل بها مع معرفته لها، فتعرض من اسم التواب لأفعال تجلب له توبة الله عليه، وتعرَّض من اسم الرحيم لأفعالٍ تجلب له رحمة الله عليه، فليس مجرد العلم هو المعني بقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحصاها دخل الجنة) .
وهنا فائدة ينبه عليها، وهي أن الله جل ذكره قال في كتابه الكريم: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180] ، فإذا جئت تدعو باسم من أسماء الله الحسنى فعليك أن تأتي باسم يوافق المسألة التي تريد، ومن هنا لم يستحب العلماء أن تقول عند الذبح: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن الرحيم في هذا الموطن لا يتناسب مع الألم الذي جُرَّ إلى البهيمة، وإنما تقول: باسم الله، والله أكبر.
أي: إن كنت تظن أنك كبيرٌ على هذه المذبوحة، فالله سبحانه وتعالى أكبر منك، وأعظم منك، كما قال تعالى في شأن النساء: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] أي: كبيراً عليكم إذا أنتم طغيتم على نسائكم وظلمتموهن، فالدعاء باسم من الأسماء الحسنى ينبغي أن يوافق المسألة التي تريد، مثال ذلك: (اشف أنت الشافي) ، (هازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم) ، (ارزقنا وأنت خير الرازقين) ، (اغفر لنا وأنت خير الغافرين) ، ولا تقل كما يفعل المقلدة من أئمة المساجد: اللهم! أذل الشرك والمشركين برحمتك يا أرحم الراحمين.
فكيف يذل الشرك بالرحمة؟! إنما يقال: وأذل الشرك والمشركين بعزتك يا رب العالمين! فالاسم ينبغي أن يوافق المسألة كما قال عيسى عليه الصلاة والسلام: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114] ، وكما قال موسى عليه الصلاة والسلام: {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155] .
ومن آداب الدعاء أن تتوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى بين يدي الدعاء.
وقوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العزيز: منيع الجناب، عظيم السلطان، الذي لا يُغالب ولا يُمانع، والحكيم: الذي يفعل كل شيءٍ بحكمة، وأصل الحكمة: المنع، ومنه قيل للعاقل: (الحكيم) ؛ لأن عقله يمنعه من ارتكاب المحاذير، ومنه قولنا للحبل الذي تربط به الدابة: (الحَكَمَة) ؛ لأنه يحكِمها، ومنه قول الشاعر: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكمو أن أغضبا(59/7)
الأسئلة(59/8)
الدعاء عقب الصلوات المكتوبات
السؤال
هل الدعاء دبر الصلوات المكتوبة جائز أم غير جائز؟
الجواب
الدعاء دبر الصلوات المكتوبة بعد الأذكار فيه شيءٌ من النزاع، وأكثر أهل العلم على جوازه؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! لا تدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك) ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من الصلاة قال: (رب! قني عذابك يوم تبعث عبادك) ، وورد من حديث علي رضي الله عنه أنه أيضاً كان يقول: (اللهم! اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت) .(59/9)
تكبير الإمام سراً في نفسه بعد تكبيره جهراً
السؤال
إمام كبّر مرة جهراً وكبر الناس خلفه، ثم كبر مرة ثانية سراً، فما حكم الصلاة؟
الجواب
الصلاة صحيحة، وإن كان خالف المسنون، لكن الصلاة صحيحة لا غبار عليها.(59/10)
فوات الظهر مع إدراك الإمام في صلاة العصر
السؤال
رجل أدرك صلاة العصر جماعة ولم يصل صلاة الظهر، فكيف يصلي الصلاتين؟
الجواب
الأئمة الأربعة يقولون: يصلي مع الإمام الذي يصلي صلاة العصر، ثم بعد أن ينصرف من صلاة العصر يصلي الظهر الذي فاته.(59/11)
ترك سجدة في الصلاة، والانتباه لها بعد السلام
السؤال
إمام نسي السجدة الأخيرة في آخر ركعة، ثم سلم، وبعد الصلاة نبهه المصلون، فماذا يفعل؟
الجواب
رأى بعض أهل العلم أنه يأتي بركعة جديدة؛ لكونه نسي ركناً من أركان الصلاة، ومن العلماء من يقول في هذه الحالة خاصة: يسجد ثم يتشهد.(59/12)
حكم الوصية قبل الموت
السؤال
ما حكم من لم يوص قبل موته بوصية؟
الجواب
الوصية ليست بواجبة، وإنما هي في حق من له شيء يوصي فيه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) .
فالوصية ليست بواجبة على كل أحد.(59/13)
حكم ترك سنة العشاء والوتر
السؤال
ما حكم ترك سنة العشاء وصلاة الوتر؟ وهل يقضيهما؟
الجواب
ترك سنة العشاء وترك صلاة الوتر مكروه، لكن لا إثم فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال الأعرابي: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص -أي: الخمس الصلوات- قال: (أفلح إن صدق) ، أو (دخل الجنة إن صدق) .
أما قضاء سنة العشاء الأخيرة فإنها تقضى قياساً على قضاء النبي صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر.(59/14)
الشراء لشخص مع الزيادة في السعر دون علمه
السؤال
شخص قام بشراء أشياء لأشخاص دون سابق تحديد السعر، فهل له أن يزيد على السعر الأساسي نتيجة التعب والسفر وتكاليف السفر، علماً بأنه ليس بتاجر، ولكنه كلِّف بالصداقة؟
الجواب
هذا المشتري لا يخلو من أمور: فإما أن يكون وكيلاً فلا يزيد على السعر بحال من الأحوال، بل يقول: اشتريت بكذا، وسافرت بكذا، وأتعابي كذا، فيكون صريحاً، فله أن يزيد أو ينقص في أتعابه، ولكن يوضح أنها أتعاب، أما أن يغش، ويقول لهم: السلعة بكذا، وهي ليست بهذا الثمن! فهذا حرام.
فيحدد السعر الذي اشترُيت به السلعة، ويناقشهم في أمر الوكالة وأجرتها.
وأما إذا كان تاجراً يبيع لهم ويشتري منهم، فله أن يزيد، ولكن يخيرهم، فيقول: السلعة أمامكم، فإن شئتم خذوها بمائة، أو إن شئتم بخمسين، لكن هذه ليست مسألتنا، فالسائل قال: إنه ليس بتاجر.(59/15)
الوصايا الجاهزة المبيعة في المكتبات
السؤال
ما حكم الوصايا الجاهزة المكتوبة في بعض الأوراق التي تبيعها المكتبات؟
الجواب
لا يلزم أن تكون وصية كل شخص مثل هذه الوصية التي في الورقة التي تبيعها المكتبات، فهذه الوصية برمتها ليست ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كل شخص تختلف وصيته عن الشخص الآخر، وإن كان هناك أمور عامة، لكن لا يلزم أن توصي بها عند الموت، فيعقوب عليه الصلاة والسلام وصَّى عند الموت جميع أبنائه، وقال لهم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133] ، وإبراهيم عليه السلام وصّى عند الموت أبناءه، فقال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] ، وجاءت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم عند الموت لأمته بالصلاة فقال: (الصلاة وما ملكت أيمانكم) ، ووصى بأهل بيته عليه الصلاة والسلام، وأوصى ابنته فاطمة رضي الله عنها وقال لها: (اتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك) .
أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وعبد الله بن حرام قال في غزوة أحد لابنه جابر رضي الله عنهما: أراني يا جابر! غداً مقتولاً، فاستوص بأخواتك خيراً، فاستشهد رضي الله عنه، وعمل جابر بوصية والده، فتزوج امرأة ثيباً، وضحى براحته من أجل أخواته.
فكل شخص تختلف وصيته عن الشخص الآخر، فكوني آتي بورقة مكتوبة مسجلة مسطرة وأُلزِم بها الناس، أو أفشيها في الناس؛ لا يصح أن أفعل هذا، إلا إذا كانت مأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وتلك الوصايا منها المأثور ومنها غير المأثور، ومنها الثابت ومنها غير الثابت، فليست بلازمة على كل شخص، وإنما لك أن تُجمل القول عند الموت، فتقول: اتبعوا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دفني، أو توصي بقضاء الديون إذا كان عليك ديون.(59/16)
رضاع الرجل من زوجته
السؤال
ما حكم رضاع الرجل من زوجته؟
الجواب
يرضع كما يشاء، ففي الحديث: (إنما الرضاعة من المجاعة) ، أي: الرضاعة المحرمة هي التي كانت في الصغر، والتي إذا تخلفت حدثت للطفل مجاعة، فالرضاعة المحرِّمة هي ما دون الحولين.
وفقنا الله تعالى وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم.(59/17)
اشتراط حل المطعم لإجابة الدعاء
السؤال
ما المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أطب مطعمك تُجب دعوتك) ؟
الجواب
الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن استجابة دعوة سعد بن أبي وقاص على وجه الخصوص قد وردت في عدة مواطن، فلما دعا على من ظلمه وقال: (اللهم أطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، واجعل فقره بين عينيه) استجيبت دعوته في هذا الرجل -كما في صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله- حتى طال عمره، وسقط حاجبه على عينه، وكان مع هذا الكبر يمشي في الطرقات يغمِّز الفتيات، ويقول: أصابتني دعوة المبارك سعد.
وكان هذا شيئاً مشهوراً بين الصحابة رضي الله عنهم، حتى إن بعض بني مروان عوتِبوا في تصرفهم غير السديد في أموال المسلمين، فكان ممن عاتبهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقال له مروان: إن هذا المال مالنا نعطي من شئنا، ونمنع من شئنا! فقال سعد: بل هو مال الله يعطيه الله من يشاء ويمنعه الله ممن يشاء، فقال: بل هو مالنا نعطيه من شئنا، ونمنعه من شئنا! فاتجه سعد ورفع يديه إلى السماء كي يدعو، فوثب مروان من على السرير، وقال له: لا تدعُ، هو مال الله يعطيه الله من يشاء، ويمنعه الله ممن يشاء.
وفي مستدرك الحاكم بسند صحيح أن سعداً رضي الله عنه رأى رجلاً يدعو على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو يسب علياً، فقال له: يا هذا! أتسب علياً؟ قال: نعم، قال: أتسب ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: زوج ابنته-؟ قال: نعم، قال: أتسب رجلاً شهد بدراً؟ قال: نعم، فقال سعد: اللهم! لا تفرق هذا الجمع حتى ترينا فيه آية، فاضطربت به فرسه في الحال وأسقطته، وداست عليه فمات في الحال.
وعلى كل حالٍ فالحديث المذكور معناه أن من لوازم إجابة الدعاء، أو من شروط إجابة الدعاء -وإن كان الله يستجيب بدون شروط، وإنما هي الأسباب والمسببات- تطييب المطعم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب له؟) .(59/18)
أحاديث متفرقة، ومدى صحتها
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فحديث: (يؤتى يوم القيامة بناكح يديه ويداه حبلى) لا يثبت.
وحديث: (الجهاد مختصر طريق الجنة) لا يثبت.
وحديث: (لعن الله العقرب! لا تدع نبياً ولا مصلياً إلا لدغته) يحتاج إلى مراجعة.
وحديث: (تشهد يوم القيامة كل قطرة مني، وتقول لصاحبها: أين أبي وأمي؟) لا أعلم له أصلاً.(59/19)
ترك طواف الوداع بعد العمرة
السؤال
قام والداي بأداء عمرة في رمضان، وأديا المناسك، وعند مغادرة مكة لم يطوفا بالبيت، فما حكم ذلك؟
الجواب
طواف الوداع للعمرة مستحب وليس بواجب، والعمرة صحيحة.
وأما طواف الوداع للحج فهو واجب؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا ينفر أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت) .(59/20)
الاختلاف اليسير بين الإمام والمأموم في جهة القبلة
السؤال
هل الاختلاف -ولو كان قليلاً- في اتجاه القبلة بين الإمام والمأمومين يفسد الصلاة؟
الجواب
الاختلاف القليل في اتجاه القبلة لا يفسد الصلاة؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) .
وهذا القليل يبعدنا عن الوسوسة، حتى لا يأتينا من يقول: أنتم انحرفتم نصف درجة أو درجة! فالتشديد في الاتجاه بهذه الدرجة، أو التشديد في أوقات الصلاة، فيقال: نصف دقيقة حتى يجيء العِشاء، أو بقي ربع دقيقة، فكل هذه التشديدات في غير محلها، وغير محمودة.(59/21)
تفسير سورة الممتحنة [2]
في هذه السورة العظيمة يثبت الله لعباده المؤمنين مبدأ الولاء والبراء كيف يكون في الإسلام؟ وأن من آمن بالله فلا يجوز له أن يتعاطف مع المشرك والكافر الحربي وإن كان أقرب قريب، وضرب لنا مثلاً بإبراهيم عليه السلام حيث تبرأ من أبيه وقومه ومن أفعالهم، ثم ختم الله تعالى السورة ببيان أنواع الكفر، ومن هم الذين يجب التبرؤ منهم والذين يجوز برهم وصلتهم، وبيان كذلك بنود البيعة للنساء والأحكام المتعلقة بها.(60/1)
تفسير قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ.)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه في كتابه الكريم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:4-5] .(60/2)
عدم الاقتداء بإبراهيم في استغفاره لأبيه المشرك
قال الله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] ، أي: لا تتأسوا بإبراهيم في قوله لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] ، هذه الجزئية لا تتأسوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام فيها، وفيه دليل على أن الرجل الصالح إذا فعل فعلة ليست وفق الكتاب والسنة لا يتبع فيها ولا يتأسى به فيها أياً كان شأنه، فهذا خير البرية كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه دعاه رجل فقال: يا خير البرية! فقال: ذاك إبراهيم صلى الله عليه وسلم) ، فمع إن إبراهيم خير البرية، لكن لما استغفر لأبيه -والاستغفار لأبيه خطأ إذ هو استغفار للمشرك- عن موعدة وعدها إياه، أمرنا ربنا ألا نتأسى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذه الفعلة.
إذاً: إذا جاء شيخ وفعل فعلة مخالفة للكتاب والسنة فمن باب أولى ألا يتبع أبداً، والكتاب والسنة هما الحكم على كل شخص، وليس الشخص هو الحكم على كتاب الله وعلى سنة رسول الله، أصحاب نبينا محمد عليهم رضوان الله فعلوا واجتهدوا، فعلوا جملة أفعال واجتهدوا جملة من الاجتهادات، ولكن صدرت من بعضهم فتاوى جانبت الصواب، فلا يتبع أحدهم على هذه الفتيا.
فمثلاً: صدر عن ابن عمر القول بإباحة إتيان المرأة في دبرها! وهذا خطأ، ولا يتبع عليه ابن عمر رضي الله عنهما، وسائر أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام خالفوه في ذلك، وجماهير أهل العلم على خلافه في هذه المسألة؛ لأن حديث: (لعن الله من أتى امرأة في دبرها) بمجموع طرقه يصح، والحرث ما هو إلا موطن الزرع، فلا يتبع في مثل هذه الزلة مع فضله وورعه وعلمه وكثرة اتباعه للسنة، لكن هذا لا يمنع أن تزل قدمه في بعض المسائل.
وابن عباس ورد عنه الأمر بجواز نكاح المتعة، وخالفه في ذلك سائر الصحابة حتى قال له علي: (إنك رجل تائه) ، فلا يتبع في هذه الحيثية.
وأبو طلحة كان يرى أن البرد لا يفطر الصائم أي: الثلج النازل من السماء، لكن لا يتبع على هذه الفتيا، كان يقول: إنه ليس بطعام ولا بشراب، وهكذا كل من فعل فعلة وإن كان صالحاً من أفضل الصلحاء، لكن فعلته تخالف هدياً عاماً في الكتاب أو في السنة لا يتبع في هذه الجزئية، وليس هذا بخادش في عموم فتياه، فكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه.
فربنا سبحانه وتعالى نهانا أن نتأسى ونقتدي بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] ، فمن مات أبوه على الشرك لا يحل له أن يستغفر لأبيه المشرك، والدليل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، فاستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فبكى وأبكى من حوله) عليه الصلاة والسلام، ودليل آخر: قول الله سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] .
وإذا احتج أحد باستغفار إبراهيم لأبيه حين قال: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] ، وقال: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:86] ، فيرد عليه بقوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114] .
فليس في الدين مجاملات حتى مع أقرب الأقربين، حتى مع الآباء والأبناء، نوح لما سأل ربه: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45] عوتب أشد عتاب بقوله تعالى: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] فتاب نوح وأقلع: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47] ، فمع أقرب الأقربين لا مجاملة في أصل المعتقد بحال من الأحوال.
قال الله سبحانه: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} [الممتحنة:4] ، هذا القول: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} [الممتحنة:4] قول من؟ من أهل العلم من يقول: إنه قول إبراهيم والذين معه.
ومنهم من يقول: إنه أمر للمؤمنين، أي: فقولوا: أيها المؤمنون! {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} [الممتحنة:4] ، أي: اعتمدنا في أمورنا عليك، {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} [الممتحنة:4] ، أي: رجعنا، {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4] ، أي: يوم القيامة.(60/3)
التأسي بإبراهيم عليه السلام
قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة:4] الأسوة: هي القدوة التي يقتدى بها، أي: لكم قدوة في إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فاقتدوا وتأسوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإن قال قائل: هل الأمر بالتأسي بإبراهيم عليه الصلاة والسلام عام في كل شيء أم في أشياء مخصوصة؟ هذا سؤال مطروح.
الآية التي بين يدينا تفيد أن التأسي بإبراهيم صلى الله عليه وسلم إنما هو في شيء مخصوص: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] ما هو الشيء المخصوص؟ {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] أي: في تبرئه من المشركين ومن الآلهة التي يعبدها المشركون، لكن هناك آيات أخر تعمم التأسي بإبراهيم صلى الله عليه وسلم، كقول الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر إبراهيم: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا} [الأنعام:83-84] إلى آخر الآيات، ثم قال الله سبحانه عقبها: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] أي: تأسى واتبع.
وكذلك يقول الله سبحانه: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] أي: اسلك طريق من رجع إليَّ، وممن أناب إلى الله بالإجماع إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
فأمرنا أن نتأسى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام أمراً عاماً، ولذلك لما أثار العلماء مسألة: هل شرع من قبلنا شرع لنا أم أن شرعنا فيه أحكام ملزمة لنا وشرع من قبلنا فيه أحكام ملزمة لهم؟ فمن العلماء من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا إلا إذا جاء في شرعنا ما ينسخه، يعني: أي شيء كان في شريعة إبراهيم أو في شريعة موسى أو في شريعة عيسى أو في أي شريعة سبقت، هو شرع لنا، إلا إذا جاء في شرعنا حكم آخر ينسخ الحكم الموجود في الشرائع السابقة، فنصير مع الحكم الجديد لكون شريعة محمد عليه الصلاة والسلام مهيمنة على كل الشرائع، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] ، فالهيمنة دائماً لكتاب الله الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا لم يأتِ في شرعنا شيء ينسخ ما جاء في شرعة من قبلنا فلنأخذ به.
ومن العلماء من منع ذلك وقال: إن الله قال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] .
وقال آخرون: إن شرعة إبراهيم خاصة تلزم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل ذكره: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] .(60/4)
الولاء والبراء في الشرع
قال الله: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} [الممتحنة:4] أي: تبرأنا منكم: {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] ، لقد ذكرنا من قبل بحثاً في مسألة التبرؤ: أن المسلم إذا فعل خطيئة في الشرع يتبرأ من فعلته، أما الكافر فيتبرأ منه ومن فعلته على وجه العموم، يعني: في الجملة وإن كانت هناك بعض الاستثناءات، فإذا تبرأت من شيء فعله المسلم تتبرأ من الفعل، وإذا تبرأت من شيء فعله الكافر يجوز أن تتبرأ من الفعل وأن تتبرأ من الكافر ومن فعله، دل على ذلك قول إبراهيم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] أي: لكفركم.
أما بالنسبة للمسلم؛ فلأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل خالداً إلى بعض البلاد في بعض الغزوات، فخرج أهلها يقولون: صبأنا صبأنا، إذ لم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، وقد عنوا بقولهم: صبأنا أي: دخلنا في الإسلام، أسلمنا! أسلمنا! فطفق خالد يقتل فيهم، ويأسر، فبلغت هذه الفعلة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمد يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) فلم يقل: إني أبرأ إليك من خالد، إنما قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) ، ولا يؤثر على هذا ما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة) ، فالصالقة مسلمة هنا، والحالقة كذلك؛ لأن التبرؤ هنا ليس من معين إنما هو في الجملة، واللعن في الجملة جائز: (لعن الله الكاسيات العاريات، لعن الله النامصة) ، فاللعن في الجملة جائز، لكن التبرؤ من الأعيان أو لعن الأعيان هو الذي عليه هذا التحفظ.
{إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] فإذا آمنتم بالله وحده، وأقررتم بشرعته، ووحدتموه، فقد زالت العداوة والبغضاء التي بيننا، أما إذا بقيتم على كفركم فها نحن نعلن البراءة منكم ومن آلهتكم التي تعبد، فهي قوة في الصدع بالحق، وقوة في اتخاذ طريق الحق المستقيم، ليس فيها ضعف وليس فيها هوان، إنما هو خط واحد واضح، أنا مؤمن بالله كافر بالطواغيت، وكافر بكل ما يعبد من دون الله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112] ، {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106] ، {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43] ، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3] فهو خط واحد واضح في التبرؤ من الشرك، والتمسك بالإيمان: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] .
فجدير بكل مؤمن وكل مسلم أن يتخذ هذا الخط، موالاة الله وموالاة رسل الله، واعتناق شرع الله والرضا بقضاء الله وبشرعه وبسنة نبيه، ورفض كل شيء مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله، وإعلان هذا بوضوح بلا غموض، فهو خط واضح صريح سلكه الأنبياء من قبلنا عليهم الصلاة والسلام، فلا يليق بنصراني أن يعلق صليباً في عنقه مظهراً نصرانيته وأنت كمسلم تستحي أن تظهر نفسك متمسكاً بالإسلام، ومتمسكاً برسول الإسلام محمد عليه أفضل صلاة وأتم سلام، فتأسوا بإبراهيم في هذه الأفعال.(60/5)
المراد بالذين آمنوا مع إبراهيم في الآية
يقول الله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] ، أي: تأسوا بإبراهيم وبالذين مع إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ومن هم الذين مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ لأهل العلم فيها قولان مشهوران: أحدهما: أن المراد بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] ، الأنبياء الذين جاءوا من بعده وهم من ذريته.
القول الآخر: أنهم قوم آمنوا مع إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ورجح الأولون قولهم بأن الذين آمنوا مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام قلة لا تكاد تذكر، بل لم يذكر أي شخص آمن لإبراهيم عليه السلام إلا لوط وسارة، وسائر أبنائه الذين هم من ذريته كإسحاق وإسماعيل عليهما السلام، أما لوط فلقول الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] ، وأما زوجته سارة فإنها لما أوشكت أن تدخل على الجبار، قال لها: (إنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، فإن سألني عنكِ فسأقول: إنكِ أختي، فأنت أختي في الإسلام، فليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيرك) ، فهذا الحديث حمل فريقاً من المفسرين على أن يفسروا: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] ، أنهم الأنبياء الذين اتبعوه على ملته وشريعته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن هناك قوم آمنوا مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما ألقي في النار خرج منها وما معه أحد من الذين آمنوا به، وقال حينئذٍ: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26] ، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] ، فهو ترك البلاد وغادرها، وكان هو وزوجته فقط عليه السلام.(60/6)
تفسير قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا.)
{رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:5] ما المراد بقوله سبحانه حاكياً قول أهل الإيمان: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:5] ؟ أشهر الأقوال في تفسير هذه الآية: لا تنصرهم -يا ربنا- علينا، فيغتروا بهذا النصر ويظنون أنهم على الحق، لا تنصرهم علينا فإنك إذا نصرتهم علينا قالوا: لو كان هذا نبياً حقاً ما هزم، وما قتل وما قتل أصحابه، فيفتنون بذلك ويثبتون على كفرهم، فهو -إذاً- دعاء مضمن لجزئيتين: أولهما: ألا نكون فتنة للكفار فيستمروا على كفرهم.
الثاني: ألا نهزم من هؤلاء الكفار.
{رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:5] ، ويلتحق بها أيضاً سوء التصرفات التي تزل فيها بعض أقدام أهل الإيمان، فأنت -يا مؤمن- في ظاهرك مؤمن ملتزم، وإذا زلت قدمك في مسألة ونظر إليك أهل الفسق وقدمك قد زلت ارتدوا على أدبارهم، يعني: إذا رآك أهل الكفر -وأنت مسلم في ظاهرك- تعبث بالفتيات، أو ترتكب المحرمات، أو تشرب الخمور أمام الناس انتكسوا وفتنوا بفعلك، وتركوا الطريق الذي أنت عليه لهذه الأفعال الشاذة الصادرة منك، فهذا أحد الأوجه أيضاً في تفسير قوله سبحانه: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا} [الممتحنة:5] ، أي: واغفر لنا يا ربنا! فهذه دعوات يستحب لك أن تدعو بها، فعلى قول بعض المفسرين كما سمعتم أن: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} [الممتحنة:4] هو أمر من الله لنا نحن المؤمنين أن نقول هذه الكلمة، قولوا أنتم يا أتباع إبراهيم: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:4-5] أي: يا ربنا! فهو أمر لنا أن نقولها على أحد الأوجه في التفسير.(60/7)
تفسير قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.)
قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الممتحنة:6] ، فالتأسي بهم قد يجلب لك بعض ما جلب إليهم، التأسي بالخليل إبراهيم، والتأسي بأهل الفضل والصلاح؛ قد يجلب لك نوعاً من الابتلاء الذي ابتلوا به، لكن هذا الابتلاء يهون إذا ذكرت اليوم الآخر: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الممتحنة:6] ، فالتأسي بأهل الفضل والصلاح يجلب للعبد كثيراً من الابتلاءات، فتهون هذه الابتلاءات عليه إذا علم أن هناك حساباً، وأن هناك ثواباً على الصبر، وعقاباً على النكول عن الطريق، ولذلك قال ربنا سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] ، فهذا تهييج وتحريض على التأسي مع التذكير باليوم الآخر.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:6] ، من تولى فكما قال الرسول فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) .
فالشاهد: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} [الممتحنة:6] ، عنه وعن عبادته، {الْحَمِيدُ} [الممتحنة:6] ، الحميد لأفعال عباده الذين آمنوا به وصدقوه وارتضوا شرعه ومنهجه، فإنك إذا صليت حمد الله لك صلاتك، وإذا تبرأت من عدو الله حمد الله لك تبرؤك، إذا سعيت بين الصفا والمروة فإن الله شاكر لفعلك عليم به، إذا حججت فإن الله عليم بك وحامد لفعلك، فلذلك هو الحميد يحمد أفعال عباده المؤمنين التي فعلوها، وغني عن أهل الشرك والكفر، حميد يحمد للمؤمنين أفعالهم: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:6] .(60/8)
تفسير قوله تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً)
قال تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7] ، فهؤلاء القوم الذين عاديتموهم لله قد تكون عداوتكم لهم سبباً في إخراجهم من الزيغ والضلال الذي هم فيه، واتجاههم إلى الإيمان، فهذا الفعل تدل عليه القاعدة التي تقول: (الزجر بالهجر) ، فاهجروهم وتبرءوا منهم، فإنكم إن فعلتم ذلك سيفكرون في أمرهم: لماذا هجرنا إخواننا؟! لماذا قاطعونا وابتعدوا عنا؟! لماذا فاصلونا ولم يحضروا مجالسنا؟! فكل هذه التساؤلات تثار في أذهان العقلاء، وتثار في أذهان من أراد الله لهم الهداية، فيفكروا، فقد يرجح رجل منهم وجهتكم التي أنتم عليها، فيأتي إلى طريقكم: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:7] ، على ذلك، فالذي يقذف العداوات هو الله، والذي يقذف المحبات في القلوب هو الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث الذي حسنه بعضهم وإن كان في التحسين نظر لكن المعنى له وجاهته: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) ، يعني: لك أن تعادي، لكن لا تبالغ في العداوات كل المبالغة بل اترك شيئاً لعله يرجع منه، وكذلك في أبواب المحبات، والناظر في السير سواءً في أبواب المحبات أو العداوات أو الحروب أو القتال يرى العجب من هذا! ذكرنا في الدرس السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل علياً والمقداد والزبير إلى روضة خاخ، حتى يأتونه برسالة حاطب التي أرسلها مع امرأة إلى المشركين، فانطلقوا جميعاً: علي والزبير والمقداد تعادي بهم خيولهم، حتى ينفذوا أمر رسول الله، وأتوا برسالة من المرأة إلى رسول الله، فانظر إلى اتحاد الزبير مع علي في هذا الموقف.
وأيضاً لما قتل حمزة في أحد، ومثل به أيما تمثيل، حزنت أخته صفية بنت عبد المطلب رضي الله تعالى عنها، وهي عمة علي بن أبي طالب، وأم الزبير بن العوام رضي الله عنهما.
فالشاهد: من الذي أخبر صفية بما حل بـ حمزة، وقد جاءت تسأل عن حمزة وتبحث في القتلى عن حمزة، فإذا رأته بهذه الصورة ربما انزعجت؟ فقال علي: أخبر أمك يا زبير! وقال الزبير: بل أخبر عمتك أنت يا علي! الشاهد: أنهما متحدان في الموقف، وكلٌ منهم يقول: إني أخاف على عقلها.
وأيضاً لما ترك عمر الأمر شورى في ستة وهم: علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، تنازل الزبير بالخلافة لـ علي، ومع ذلك يشاء الله سبحانه أن يقتتلان فيما بعد، وأحد جنود علي يقتل الزبير! فهذه أمور يدبرها ربنا.
كذلك في باب العداوات وكيف تقلب، هذا سهيل بن عمرو أتى إلى صلح الحديبية ممثلاً عن المشركين، والرسول يقول لـ علي: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) ، فوقف سهيل معترضاً على هذه اللفظة وقال: لا تكتب: (الرحمن الرحيم) ، اكتب: باسمك اللهم، ثم يكتب علي: (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فيقول: لا تكتب: رسول الله، لا نصدق لك برسالة!) ، وعمر ينظر إلى هذا الرجل الذي صدرت منه هذه المقولات ويريد أن يقطع لسانه، ويعرض عمر لـ أبي جندل كي يقتل أباه، ويقول: لو كان أبي لفعلت به، يهيج أبا جندل كي يقوم ويقتل أباه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض الروايات والآثار وينظر في أسانيدها أن الرسول قال لـ عمر: (لعل الله أن يسمعك منه مقالة تقر بها عينك) ، ويشاء الله أن يكون هذا، فبعد ذلك أسلم سهيل، ولما مات النبي عليه الصلاة والسلام، أراد أهل مكة أن يرتدوا، فقام سهيل فيهم خطيباً وثبتهم.
فربنا سبحانه قال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7] .
وكذلك ورد في بعض الآثار أن أول من حارب المرتدين هو أبو سفيان بن حرب لما كان راجعاً من بعض الأسفار، وعلم أن قوماً قد ارتدوا بعد وفاة رسول الله فحاربهم كما ذكر ذلك صديق حسن خان في فتح البيان وغيره.(60/9)
تفسير قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ.)
قال الله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] نزلت هذه الآية في أسماء بنت أبي بكر وأمها قتيلة، أتت وهي مشركة إلى أسماء تزورها، فذهبت أسماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه فقالت: (يا رسول الله! إن أمي أتتني وهي راغبة -وهي مشركة- أفاصل أمي يا رسول الله؟! قال: صلي أمكِ) وقولها: (وهي راغبة) فيه قولان: أحدهما: راغبة عن الشرك، أي: تطمع في الإسلام.
والآخر: راغبة في الدخول في الإسلام، وكلا القولين محتمل، لكن قوله: (وهي مشركة) يفيد أنها ما زالت على شركها، فقال لها الرسول: (صلي أمكِ) .(60/10)
مسائل في التعامل مع أهل الكفر
فنأخذ من هذا الحديث جملة من الأحكام في التعامل مع أهل الكفر، فأهل الكفر منهم طوائف محاربون، ومنهم طوائف ليسوا بمحاربين، وينسحب على النصارى أو اليهود الذين يجاوروننا في بعض البيوت أو بعض البلاد، فما هو الحكم مع النصارى الذين لا يحاربوننا، باعتبارنا أشخاص ليس على مستوى الدول، فليس لنا في الدولة شيء، والسياسات ليست بأيدينا، إنما نتكلم عنا كأفراد فـ أسماء فرد تتعامل مع امرأة مشركة فرد.
ففي الحقيقة أن لهذا جملة من الأحكام: فتجوز عيادة اليهود أو النصارى إذا مرضوا، وكذلك تجوز عيادة المشركين إذا مرضوا، فإن غلاماً يهودياً كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري، وقال له: (أسلم، فنظر الولد إلى أبيه فقال: أطع أبا القاسم! فأسلم، ثم مات فقال الرسول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) .
فتجوز عيادة مرضاهم، ويجوز الإصلاح بينهم إذا تخاصموا، مثلاً: لك جار نصراني حدثت خصومة بينه وبين زوجته، هل يجوز لك أن تتدخل لكي تصلح بين النصراني وبين زوجته؟ التحرير يفيد الجواز؛ لأن الآيات الآمرة بالإصلاح آيات عامة: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] فهو عام {إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114] ، وأيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، تعدل بين اثنين صدقة) ، وأطلق النص ولم يقيد، كذلك قول الله سبحانه: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] فهو أمر بالعدل عام، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة الذين يعدلون في حكمهم) ، وهو عام، وكذلك قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] ، وقيل: إن الإعراض عنهم منسوخ، لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] ، فيجوز التدخل للإصلاح بينهم.
ويجوز الإهداء لهم وقبول الهدية منهم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، وهو نص عام لعموم الجيران، وكذلك العموم في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36] ، فهي نصوص عامة.
وفعل عبد الله بن عمر الخاص لما ذبح ذبيحة وقال لأبنائه: أأهديتم لجارنا اليهودي؟ أأهديتم لجارنا اليهودي؟ أأهديتم لجارنا اليهودي؟ ثلاث مرات.
وعموم قوله الله سبحانه وتعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] ، يفيد أننا نتخاطب معهم بأدب وبإحسان أيضاً، لكن لا يُبدءوا بالسلام كما جاء بذلك النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه بعض الأحكام المتعلقة بهم.
أما قبوله هداياهم، فقد قبل النبي مارية من المقوقس ملك مصر، كما أهدى إليه بغلة فقبلها منه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، فالإهداء لهم، والإصلاح فيما بينهم إذا تخاصموا، والصلح أحياناً معهم؛ كله جائز، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم) ، وكل هذه المسائل مبنية على مسألة المفاسد والمصالح العامة، لكن أنت كفرد عليك أن تفرق بين الكتابي المحارب لك، وبين الكتابي المسالم الذي لا يحارب: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة:8] ، وهنا تقييد: {لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] ، فإن قاتلوك في الدنيا، مثل: تخاصم رجل من المسلمين ورجل من النصارى في ثمن ثلاجة مثلاً؛ فهذه المسألة لا تنسحب عليها الموالاة والمعاداة الكلية.
إنما: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة:8] ، أي: عن برهم: {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] ، (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن يوم القيامة، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا) ، والمقسطون غير القاسطين، فالقاسطون هم الظالمون: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15] ، فالإقساط في الحكم بين المسلمين والكفار مطلوب شرعاً، وقد ورد بإسناد فيه ضعف أن ابن رواحة أرسل إلى اليهود يحكم في قضية بينهم وبين رسول الله، فقال لهم: (والله يا معشر يهود لقد جئتكم من عند أحب خلق الله إليَّ، والله يعلم أنكم أبغض خلق الله إليَّ، ولكن لا يمنعني حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضي لكم أن أقول فيكم بالحق الذي أراده الله، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض يا ابن رواحة!) .
قال الله سبحانه: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا} [الممتحنة:9] أي: عاونوا {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:4] أي: تعاونا عليه {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] أي: معاوناً، {وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9] أي: الذي يتولى الحربي من الكفار من اليهود أو النصارى أو غيرهم {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9] .(60/11)
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ.)
ثم جاء حكم آخر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10] ، وهذا قبل الفتح، إذ الآية نزلت بعد صلح الحديبية، (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) ، ما هي صورة الامتحان في قوله: (فَامْتَحِنُوهُنَّ) ؟ من العلماء من قال: تقسم المرأة المهاجرة بالله أنه ما أخرجها من بيتها بغض زوج ولا حب رجل آخر ولا كره ديار وحب ديار أخرى، ولكن الذي أخرجها هو حبها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمتحن النساء في هذه المسائل، فتقسم بالله على هذه الأشياء.
ومن الممكن أن تمتحنهن، ولكنك قد تخطئ في التصحيح، فقال الله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة:10] ، فأنت تحكم بالظاهر فقط، أنت عليك أن تحكم بالظاهر الذي صدر لك، (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ) ، فالاحتراز يفيد أن الشخص الذي يمتحن قد يخطئ في النتيجة التي يصل إليها حتى وإن كان من الصالحين، فالرسول يقول: (إنكم تختصمون لديَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه فأقضي له بحق أخيه، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من النار، فإن شاء قبلها وإن شاء ردها) .
فكان من شروط الصلح كما في البخاري أن سهيل بن عمرو قال للرسول عليه الصلاة والسلام: لا يأتيك رجل منا أو أحد منا -أي: من المشركين- مسلماً إلا رددته إلينا، ولا يأتينا منكم -أيها المسلمون- رجل مشرك ارتد فلن نرده إليكم، أي: إذا جاءنا منكم شخص قد ارتد لن نرده، أما أنتم إذا أتاكم منا شخص أسلم فلابد أن تردوه، فوقع الرسول على هذه الاتفاقية، وعمر ممتلئ غماً كما قال عن نفسه، كيف هذا الظلم في الظاهر؟ لكن الرسول أقر.
فبعد أن وقع الرسول على هذه المعاهدة وهذا الصلح، والحبر ما قد جف كما قال فريق من العلماء، جاءت امرأة يقال لها: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت عاتقاً أي: لم تتزوج، فألقت بنفسها عند المسلمين تشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فجاء في إثرها أخواها الوليد وعمارة يطالبان بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الآثار التي فيها كلام من حيث الإسناد قالت: (يا رسول الله! إني امرأة لا أتحمل ما يتحمله الرجال، لعلي أفتن وهم يضربونني ويؤذونني، فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10] ، فمنع النبي هذه المرأة أن ترد إلى المشركين، قالوا: كيف وقد اتفقنا معك؟ لكن الآية منعت) .
وقال كثير من أهل العلم: إن هذا مثال للقرآن الذي نسخ السنة، فهذا المثال الوحيد للقرآن الذي نسخ السنة، فكانت السنة تقتضي أن كل من هاجر من المشركين إلى رسول الله يرد، فجاءت هذه الآية تمنع النساء من أن يرجعن إلى أهل الكفر.
قال الله سبحانه: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:10] ، يعني: الكافر الذي دفع مهراً لهذه المرأة يعطى المهر الذي دفعه لها، فقوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:10] ، أي: من المهور {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [الممتحنة:10] أيها المسلمون {أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة:10] ، يعني: لكم -أيها المسلمون- أن تتزوجوهن إذا آتيتموهن أجورهن، ففيه أيضاً دليل على وجوب الصداق.
{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] أنتم أيضاً إذا كانت تحت رجل منكم امرأة كافرة فليطلقها وليطردها: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] ، فطلق عمر يومها امرأتين، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان وكان آنذاك كافراً، وتزوج الأخرى صفوان بن أمية، {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] أي: عصمة المرأة الكافرة، اتركوها تذهب.
{وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:10] ، يعني: المهور التي دفعتموها، لكم أن تطالبوا الكفار بها، والكفار كذلك لهم أن يطالبوكم بالمهور التي أعطوها لنسائهم، هذا معنى قوله: {وَاسْأَلُوا} [الممتحنة:10] ، أي: طالبوا {مَا أَنفَقْتُمْ} [الممتحنة:10] ، أي: ما أعطيتم من مهور وصداق لأزواجكم اللواتي طلقتموهن {وَلْيَسْأَلُوا} [الممتحنة:10] ، أي: الكفار أيضاً لهم أن يطالبوكم بمهور النساء اللواتي تزوجوهن وفارقوهن {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:10] ، هذا الحكم حكم الله {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة:10] .(60/12)
تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ.)
وقوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة:11] ، أي: أنتم -يا مسلمون- لو ذهبت امرأة رجل منكم إلى الكفار فعاقبتم، والعقاب هنا المراد به: المجازاة، أي: فجازيتم {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:11] يعني: عوضوا الرجال الذين هربت أزواجهم إلى بلاد الكفر بشيء من المال، ففيه أيضاً مواساة ومشاركة في المصائب، يعني: إذا كان منكم واحد زوجته شردت عليه وهربت، فهذا أصبح بدون زوجة، فساعدوه وعوضوه عن المال الذي أنفقه لهذه الزوجة التي هربت {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الممتحنة:11] .(60/13)
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ.)
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [الممتحنة:12] ، هذه هي البيعة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبايع بها النساء، يبايعهن على ما ذكر الله في كتابه، دون أن تمس يد امرأة منهن يد رسول الله، روت أميمة بنت رقيقة قصة البيعة وفيها: (ألا تصافحنا يا رسول الله؟! قال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة) ، وفي الصحيح عن عائشة: (والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط) .
فبايع الرسول صلى الله عليه وسلم النساء على هذه الأمور المذكورة في كتاب الله: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ} [الممتحنة:12] ، الشرك بالله معروف، والسرقة معروفة {وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة:12] ، وهذا الذي قد يكون غامضاً بعض الشيء.
فمن العلماء من فسر البهتان الذي تأتيه المرأة من بين يديها ومن بين رجلها: الولد الذي تنسبه إلى زوجها وهو ليس له بابن، يعني: امرأة تزني، ثم تقول لزوجها: هذا ولدك، هذا بهتان تأتي به من بين رجليها، أو تلتقط ولداً بيديها من الطريق وتقول لزوجها: هذا ولدك.
إذاً: البهتان المفترى بين الأرجل هو الذي ارتكبت فيه المرأة جريمة الزنا، وأتت بولد من الزنا فتلحقه بالزوج، والبهتان المأتي من بين الأيدي هو الملتقط الذي تلحقه الزوجة بزوجها، فكانت المرأة تلتقط ولداً من الطريق إذا خشيت مثلاً أن يطلقها الزوج لعدم الإنجاب وتقول له إذا سافر ورجع: هذا ولدك.
ومن العلماء من قال: البهتان المأتي من بين الأيدي والأرجل هو السحر.
ومنهم من قال: إنه النميمة، لكن على الأول جمهور المفسرين.
{وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] ، نص عام في جواز أخذ البيعة من النساء، على عدم العصيان في أي معروف يأمر به الشخص.
وهناك أمور أُخر لم تذكر في كتاب الله وذكرت في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فقالت أم عطية: (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة ألا ننوح، فما وفت منا امرأة إلا خمس نسوة فقط) ، وفي هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يمد يده لبيعتهن، ولم يصافح أحداً منهن عليه الصلاة والسلام، وقال: (إني لا أصافح النساء) ، وفي الحديث الآخر أنها قالت: (يا رسول الله! إن فلانة أسعدتني) أي: أريد أن أذهب فأنوح معها أيضاً، يعني: واحدة كانت تنوح معي عند وفاة زوجي أو عند وفاة ابني فأريد أن أذهب فأقضي لها أو أفعل لها، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليها، فقالت: أم عطية: (أخذ علينا رسول الله عند البيعة ألا ننوح، فما وفت منا إلا خمس نسوة) ، فتخيل من المبايع؟! الرسول يبايع النساء، ومع ذلك كلهن نقضن البيعة ولا وفى منهن بالبيعة للرسول إلا خمس نسوة فقط، فهذا يدل على قلة التزام النساء بالعهود والمواثيق.
أيضاً تقدم أن الرسول أسر إلى عائشة وحفصة وقال: (لا تخبري بهذا السر أحداً) ، فهي توافق وتقول: لن أخبر أحداً، فإذا هي تخبر بالسر الذي كان بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم! فالشاهد: أن تعرف كيف تتعامل مع النساء في هذه الأمور، فالتثريب والتعيير يكون عليهن أقل.
وأوردوا قصة هند في هذا الباب في بيعتها للرسول عليه الصلاة والسلام عندما أخذ عليها البيعة وقال: {وَلا يَزْنِينَ} [الممتحنة:12] ، فقالت: وهل تزني الحرة يا رسول الله؟! ثم قال: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} [الممتحنة:12] قالت: قد ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً، تعني: قتلى بدر وما بعدها من المشركين، وفي هذا السند نوع من الضعف، لا نسترسل في إيراده من أجل هذا.
قال الله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12] .(60/14)
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا.)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا} [الممتحنة:13] ، أي: لا تتخذوا قوماً، {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ} [الممتحنة:13] ، أي: أنكروا البعث وشكوا في أمر البعث، {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] ، فقوله: {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] من العلماء من قال: كما يئس الكفار من بعثة أصحاب القبور مرة ثانية، فإذا مات الكافر يئس الكافر الآخر من لقائه، فلا لقاء عندهما على الإطلاق، لا دنيا ولا آخرة، فهم لا يعتقدون بالآخرة.
ومنهم من قال: إن قوله: {يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] وصف للكفار الذين هم أصحاب القبور، فالكفار الذين هم في القبور يئسوا من الرحمة، ويئسوا من النجاة من النار: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] .
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله.(60/15)
الأسئلة(60/16)
حال حديث: (بشر قاتل ابن صفية بالنار)
السؤال
حديث: (بشر قاتل ابن صفية في النار) ؟
الجواب
في تصحيحه بعض النزاع.(60/17)
حكم دعوة النصارى لطعام الوليمة
السؤال
هل يجوز دعوة النصارى للطعام والوليمة وغيرها؟
الجواب
نعم يجوز، وحديث: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي) فيه نظر من الناحية الإسنادية، وإن حسنه بعض العلماء، لكن على فرض تحسينه فالرسول صلى الله عليه وسلم أطعم ثمامة إذ كان أسيراً، ودعته امرأة يهودية إلى شاة مسمومة فأكل منها الرسول عليه الصلاة والسلام، أما مشاركتهم في الأعياد فلا تجوز، فالرسول لم يشارك اليهود ولا النصارى في أعيادهم.(60/18)
القتال الذي بين علي والزبير لم يكن عن بغض
السؤال
هل كان الزبير يحارب علياً بغضاً له؟
الجواب
لا، ما وجد أي شيء يدل على أن الزبير كان يبغض علياً أو أن علياً كان يبغض الزبير أثناء القتال، إنما خرج الزبير رضي الله عنه في بداية أمره للإصلاح مع طلحة، ولكن ذلك كان شاهدي في إيراد القتال الذي دار بين الأحبة، والله أعلم.(60/19)
تفسير سورة الصف [1]
إن الإسلام مذ نشأ كانت نشأته على أساس صلب من تلاحم الصفوف ووحدة الكلمة ورصِّ الصف أمام الأعداء، وهذا هو ما دعت إليه سورة الصف في بدايتها وأثنائها، وما تتجرعه الأمة الآن من الغصص والآلام إنما هو نتيجة محتمة ناتجة عن واقعها المر من الفرقة والشتات حتى على مستوى الجماعات العاملة في الساحة؛ ولا عزة ولا تمكين إلا بأن يكون الكل بنياناً مرصوصاً أنصاراً لدين الله عز وجل على أرض الواقع.(61/1)
ذم الله تعالى لمن يقول ما لا يفعل
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: سورة الصف من السور المدنية، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الصف:1] ، أي: نزه الله سبحانه وتعالى كل من في السموات ومن في الأرض، وعظمه سبحانه وتعالى، وهو العزيز الذي قهر، وغلب كل شيء، الحكيم في فعله وخلقه وتدبيره، كل شيء في السموات والأرض نزه الله عن كل نقص وعيب وضعف، ونزه الله عن كل مولود، وعن الوالد والزوجة والشريك كذلك.
ثم هنا عتاب لأهل الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] ، يا من آمنتم بي، وصدقتم برسلي، وأقررتم بكتبي! (لم تقولون ما لا تفعلون) ، {كَبُرَ مَقْتًا} ، وكبر: أي عظم، والمقت: هو أشد البغض.
{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] ، وقد تضافرت النصوص على هذا المعنى، وذم كل من قال ولم يفعل، بل وتذم المتشبع بما لم يعط، والذي يحب أن يحمد بما لم يفعل، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] ، وقال شعيب صلى الله عليه وسلم لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل من أهل النار يوم القيامة، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه -أي: تخرج أمعاؤه من بطنه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه- فيطيف به أهل النار ويكونون من حوله، ثم يسألونه: يا فلان! ما لك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فيقول: بلى، ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) .
وقد تضافرت أيضاً أشعار العرب في ذم من هذه سبيله وطريقه، فقد قال الشاعر: ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم والأشعار في هذا الباب كثيرة.
فنصوص الكتاب ونصوص السنة المطهرة وأقوال الأفاضل والعلماء كلها تذم من قال قولاً ولم يعمل به، بل وتذم -كما سمعتم- من تشبع بما لم يعط، قال الله سبحانه: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) .
قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُو} [الصف:2-3] ، ما هو الشيء الذي تكلم به المؤمنون ولم يفعلوه حتى عوتبوا بهذه الآية الكريمة؟ ما هو الشيء الذي من أجله عوتب المؤمنون هذا العتاب بقوله سبحانه لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا} اشتد غضب الله وعظم بغضه سبحانه وتعالى لمن قال ما لم يفعل؟ قال فريق من أهل العلم: إن هذا الشيء هو تمنيهم فرض الجهاد، وتمنيهم الإذن به، فلما أذن لهم في القتال وأذن لهم بالجهاد فر كثير منهم، كما قال سبحانه: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} [محمد:20] أي: سورة فيها إذن لنا بالقتال، {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:20-21] ، فكان منهم من تمنى أن يؤذن له بالجهاد، فلما أمروا بالقتال تولوا، كما حكى تعالى قول طائفة من أهل الإيمان: {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20-21] .
وقال الله سبحانه أيضاً في هذا المعنى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77] أي: لا تنتصروا ممن ظلمكم، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:77-78] .
وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآية الأخيرة نزلت في عبد الرحمن بن عوف مع أصحاب له، أوذوا في الإسلام فقالوا: لم لم يؤذن لنا في الانتصار ممن ظلمنا، وقد كنا أعزة في الجاهلية -أي: لم يكن أحد ينال منا في الجاهلية- فلما أسلمنا أصبحنا أذلة؟ فلما فرض عليهم القتال، نكلوا عنه أو نكل فريق منهم عنه، فنزل قول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا} [النساء:77] .
وكذلك قال الله سبحانه وتعالى في شأن بعض أهل المدينة يوم الأحزاب: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:15] ، وقد كان فريق منهم عاهد الله ألاَّ يولي الأدبار، فلما جاءهم الأحزاب يوم الأحزاب قالت طائفة منهم: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13] .
فهذه النصوص مجتمعة تبين أن العتاب في قوله سبحانه: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3] منصب بالدرجة الأولى على الذين تمنوا الإذن في الجهاد، أو تمنوا فرض القتال، فلما فرض نكلوا عنه وقصروا فيه، وإن كان عموم الآية يخرجها إلى كل من قال ما لم يفعل.
ويؤخذ من هذا: أن الشخص لا يشرع له أن يتمنى البلاء، فقد يبتلى ولا يقدر عليه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما أخرجه أبو داود بسند صحيح: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهاً) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) ، فلا يجوز لك أن تتمنى مزيداً من البلاء، فإن الله قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66] ، فإذا فعلت ما أمرت به ولم تطلب المزيد كان في هذا خير لك وتثبيت، وكذلك قال تعالى في الآية المشابهة: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:21] أولى لك من أن تتمنى أشياء هي فوق طاقتك {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21] ، فلا يشرع لك أن تتمنى البلاء، ولا يشرع لك أن تتمنى الفتن، فرسولنا يقول في دعائه المأثور: (اللهم! إذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) .
فلا تدري ما تؤول إليه الفتنة معك، هل تصبر أمامها أم تضعف وترتد على الأدبار، والعياذ بالله.
ولا تنافي بين هذا وبين تمني الشهادة في سبيل الله، فتمني الشهادة في سبيل الله محمود ومرغب فيه، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) ، فتمني الشهادة مشروع للرجال وللنساء، فقد تمنت أم حرام بنت ملحان الشهادة في سبيل الله، وعندما ذكر النبي الغزاة الذين يركبون ثبج البحر الأخضر، قالت: (ادع الله أن يجعلني منهم يا رسول الله! قال: أنت منهم) ، فكان مآلها إلى الشهادة في سبيل الله.(61/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً)
ثم قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] ، جمهور المفسرين على تأويل هذه الآية على ظاهرها، أي: أن الله يحب من المؤمنين إذا هم قاتلوا عدوهم أن يكونوا صفوفاً متلاحمة متماسكة حتى لا يخترقهم عدو.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} أي: صفاً واحداً متلاحماً حتى لا يخترقهم العدو، هذا رأي أكثر المفسرين، لكن مع هذا الرأي وقفات، وآراء أخر لأهل التفسير؛ إذ الحروب تختلف في طرقها، والكر والفر أثناء القتال يستدعي مخالفة الصف، ويستدعي التقدم أو التأخر، أو الاحتيال من أجل لقاء العدو، فربنا سبحانه يقول في كتابه الكريم: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:121] فقوله سبحانه: (وإذ غدوت) أي: خرجت في الغداة، (من أهلك) أي: من عند أهلك، وهي عائشة رضي الله عنها كما في التفسير والأحاديث، (تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) أي: تنزل المقاتلين منازلهم.
فهل يلزم هذا الآن في صور القتال التي تختلف عن تلك الصور التي كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ صور القتال على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تتمثل في الضرب بالسيوف، والرمي بالسهام، والاتقاء بالدروع، ونحو ذلك، وهذه لا تتلاءم الآن مع أنظمة الحروب كما أسلفنا، فالكر والفر يستدعي أن تتقدم أو تتأخر.
وبعض المفسرين حملوا الآية على عموم الوحدة والتآلف بين المؤمنين، التآلف القلبي والتآلف الظاهري، وعلى الوحدة القلبية والوحدة الفكرية، والسمع والطاعة للإمام، وعدم الخروج عليه أثناء القتال.
فثم أقوام تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى! كما قال الله سبحانه وتعالى في شأن أهل الكتاب: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] أي: تحسبهم في الظاهر مجتمعين على قلب رجل واحد، ولكن قلوبهم متفرقة.
والشاهد: أن من المفسرين من قال -وهو قول قوي في غاية القوة- المراد: التلاحم والتآلف بين القلوب، مع ما يترتب عليه من امتثال الأوامر الظاهرة حين يضعهم الإمام ويرتبهم، كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يفعل، حيث كان ينزل الرماة منازلهم ويبوئ المؤمنين أماكنهم للقتال.(61/3)
تفرق المسلمين في الوقت الحاضر
تفشت إلينا في أزماننا هذه بدع ومسميات ما أنزل الله بها من سلطان، وتحزبات وجماعات شتت المسلمين، وفرقت شملهم؛ فتجد في المدينة الواحدة مائة جماعة، هذه جماعة الإخوان المسلمين، وتلك جماعة السلفيين، وتلك جماعة الجهاد، وتلك الجماعة الإسلامية، وتلك الجمعية الشرعية، وهذه التكفير والهجرة، أسماء ومسميات ما أنزل الله بها من سلطان، ونحن من هذا الموقع نظهر ديننا، وندعو إخواننا إلى ما دعانا إليه ربنا.
اسمعوا -يا مسلمون- لسنا منتظمين مع أي جماعة من الجماعات على الإطلاق، المسلمون كلهم لنا إخوة كما قال الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات:10] نتعاون مع كل مسلم في حدود استطاعتنا، وفيما يقره شرعنا، وهذه المسميات أورثت تعصبات وحزبيات وعداوات لا حصر لها، يأتي العالم ممن ليس في جماعتك فلا تحضر له درساً، ولا تسمع منه آية ولا حديثاً، ثم يأتي عالم أو جاهل من جماعتك ومن حزبك فتقوم له وتقعد، وتدعو إليه القاصي والداني، وهذا ليس من الإنصاف في شيء، فربنا أمرنا أن نكون كما قال: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135] .
إمارات شتت المسلمين وفرقت جمعهم، وكل يدعي أن عمله الجماعي دعا إليه الإسلام، حقاً العمل الجماعي دعا إليه الإسلام، ولكن أي جماعة هي؟ إنها الجماعة العامة للمسلمين، ليست جماعة ولا حزباً يضحك عليه ويأمرِّ عليه أميراً، ويبدأ العمل السري الذي هو أخطبوط لا تدري ما مصدره ولا منتهاه.
صحيح أن العمل الجماعي مستحب، ولكن بين عموم المسلمين، والعمل الجماعي ليس محصوراً في فئة يضحك عليها شخص أنه أمير لها، ويأتي حدث من الأحداث يعين أميراً للدقهلية، أو أميراً للغربية، ويفرح بالإمارة ويبدأ في تجميع الناس حوله.
أصبحت هذه بدع بالية والحمد لله، طغت عليها كلها أقوال سلفنا الصالح من أصحاب رسول الله، ومن التابعين لهم وأتباع التابعين.
وقد كان سبب ذهاب دولة الأندلس ومطالعه وبشائره السيئة هذه الفرقة التي حدثت في بلاد المسلمين الآن، جماعات متعددة، الكل يتناحر، والكل يغتاب الآخر، والكل بعيد عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فدعوة -معشر الإخوة- إلى الالتمام والانطواء تحت كتاب الله وسنة رسول الله، والسير على ما سار عليه أصحاب نبينا، وأتباع نبينا؛ إذ هم خير القرون، قال عليه الصلاة والسلام (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب) كما قال الرسول عليه أفضل صلاة وأتم تسليم.
وإنه لعجب أن يتجه أقوام إلى دينهم، يخرجون من الجاهلية، ومن لوث المعاصي، ويبتدئون في الاتجاه إلى الدين، وإذا بالأنياب تختطفهم، هذا يريدهم مع الإخوان المسلمين، وهذا يريدهم مع الجهاد، وهذا يريدهم مع التنظيم السلفي، وهذا يريدهم مع أنصار السنة! أشياء تشتت على الشخص فكره، وتشعب على المبتدئ فكره وعقله، ومن الذي يعلم الناس كتاب الله؟ ومن الذي يعلمهم سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فمعشر الإخوة! رجعة إلى أصحاب رسول الله، ورجعة إلى منهج أصحاب رسول الله.
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حدثت بينه وبين ابن الزبير خلافات، فحواها وسببها: أن ابن الزبير لما مات معاوية، وولي ابنه يزيد الخلافة عن غير إمرة شرعية حقيقية، بل كانت سنة غير متبعة، حينها بويع لـ ابن الزبير من أهل مكة، ومن أهل الحجاز قاطبة، ومن أهل العراق، ومن عدة دول، وامتنع عليه أهل الشام في طائفة، فجيء لـ ابن عباس كي يبايع، فقال: لا أبايع حتى يجتمع المسلمون كلهم على إمام واحد، وانضم إلى ابن عباس في هذه الوقفة محمد بن الحنفية العالم الحبر الكريم ابن علي بن أبي طالب، وكان مآلهما إلى أن أخرجا وأبعدا إلى الطائف رحمة الله ورضوانه عليهما.
الشاهد: أن ابن عباس لم يرض أن ينطوي تحت لواء إلا إذا اجتمع المسلمون كلهم على هذا اللواء.
ثم يأتي من يشغب بأحاديث يفهمها للناس على غير وجهها، يشعب عليهم بحديث الرسول (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) ، وهذا التشغيب مرفوض، فما هي البيعة؟ هل يصح أن آخذ ثلاثة أو أربعة، أو مائة أو ألفاً، وأخدعهم وأقول لهم: أنا أميركم بايعوني وإلا فستموتون ميتة جاهلية؟ من الذي قال ذلك؟ الإمام أحمد روي أنه قال في شرحه لهذا الحديث: هذا في الإمام الذي يجتمع عليه المسلمون، ويشار إليه بالأصابع.
أما التشعبات والتفرقات فقد قال فيها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) ، فمن هو الخليفة الآن؟ إنها أصبحت فوضى، كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في حديث حذيفة بن اليمان إذ قال له: (فماذا تأمرني يا رسول الله؟ قال: اعتزل تلك الفرق، ولو أن تعض على أصل شجرة) ، لكن العلماء يضبطون هذا الحديث: اعتزلهم في الشر، وشاركهم في الخير، شارك المسلمين في جنائزهم، شاركهم في أعمال البر التي يقومون بها، ولا تحكر نفسك على جماعة بعينها، كتاب الله ليس فيه أن جماعة باسمها يجب أن تتبع دون غيرها، سنة رسول الله بين أيدينا هي الحكم على القاصي والداني، إن زلت قدم شخص كائناً من كان أو وقع في شيء من هذه الأمور فإنه لا يتبع، هذا الله قد وطأ لذلك بفعل الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما استغفر لأبيه، فقال الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] .
أيها الإخوة! مضت عهود البدع والخرافات، والضحك على الشباب، والضحك على الأخوات، مضت هذه العهود بما فيها، أيام كان الجهل فيها يغطي على الأفئدة، والآن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ظاهرة للجميع، الكل لنا إخوان مسلمون، الكل إخواننا في الله، نحبهم بقدر ما فيهم من صلاح، ولا نحمد فيهم خصالهم السيئة، كذلك جعلنا ربنا أمة وسطاً.
قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] .(61/4)
إثبات صفة المحبة لله تعالى
في قوله سبحانه: (يحب) إثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى، وقد نفاها قوم وأولها آخرون، وليس هذا التأويل بمقبول، فصفة المحبة لله ثابتة في جملة مواطن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: ياجبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء ... ) .
الشاهد: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل) ، فصفة المحبة ثابتة لله بنصوص الكتاب ونصوص السنة، وكذلك صفة البغض.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] .
أي: في تشابكهم واجتماعهم وتآلفهم، كما في الحديث (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (المؤمن للمؤمن) تعميم للأخوة، قال سبحانه: {كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} .(61/5)
النصوص الدالة على وجوب وحدة الصف
إذاً: فيلزمنا نحن كمسلمين أن نكون على قلب رجل واحد، لا مسلمو مصر فحسب بل مسلمو العالم أجمع، وقد جاءت نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا، إذاً: لابد هنا من وقفة: فقد جاءت نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وجاءت آيات الكتاب العزيز تحث على الوحدة بين عموم المسلمين، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم) ، وقال الله سبحانه وتعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تسموا بما سماكم الله، هو سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله) .
وحذرنا ربنا سبحانه وتعالى من التفرق والاختلاف في جملة آيات، قال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوه} [آل عمران:105] ، وقال سبحانه: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] .
وقال صلوات الله وسلامه عليه: (عليكم بالجماعة! فإن يد الله مع الجماعة) وأي جماعة هي المرادة؟ هي جماعة المسلمين العامة؛ إذ لم تكن ثم أحزاب ولا تكتلات على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة) المراد به جماعة المسلمين العامة، التي ينطوي تحتها كل مسلم، هذا معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ -كما أسلفنا- لم تكن الأحزاب، ولا التكتلات، ولا العصبيات، ولا القوميات موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال صلوات الله وسلامه عليه (الجماعة رحمة، والفرقة عذاب) ، أي جماعة هي الرحمة؟ هي جماعة المسلمين العامة؛ إذ لم ينص في الكتاب العزيز ولا في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام على جماعة بعينها، إذ لم تكن -كما أسلفنا- هناك تحزبات ولا تكتلات على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.(61/6)
ذم الرسول للنعرات الجاهلية
أثيرت نعرة من النعرات الجاهلية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من حملة هذه النعرة قوم مسلمون، مع أنها نعرة تنادي بأسماء أثنى الله عليها، لكنها لما كانت تنطوي على بث للفرقة والخلاف بين المسلمين وصفها الرسول بالنتن، كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في سفر، فاختلف مهاجري مع أنصاري، فكسع المهاجري الأنصاري، فنادى الإنصاري: يا للأنصار! فاجتمع إليه قومه، ونادى المهاجري: يا للمهاجرين! فاجتمع إليه قومه، فتضاربوا فيما بينهم بالجريد والنعال، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم وقال (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة) .
مع أن هذا الشعار الذي رفع: يا للأنصار! وقد أثنى الله عليهم في جملة مواطن، والمهاجرون أيضاً أثنى عليهم الله في جملة مواطن، لكن لما ولَّد هذا الشعار المرفوع فرقة واختلافاً بين المسلمين شجبه الرسول صلى الله عليه وسلم وذمه أيما ذم، ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنتن بقوله: (دعوها فإنها منتنة) ، وكان من الذين أججوا شعار هذه الفتنة عبد الله بن أبي بن سلول؛ إذ قال لما رأى هذا الموقف المختلف: أو قد فعلوها؟ -يعني: المهاجرين- لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فنزل قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] ، فأصول ديننا كلها تدعونا إلى الاجتماع تحت اسم واحد، هو اسم الإسلام، ومسمى المسلمين، هذه نصوص كتاب الله كلها تنطق بذلك: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْل} [الحج:78] (هو) : راجعة إلى من؟ قال كثير من أهل التأويل: إن (هو) راجعة إلى الله سبحانه، أي: الله الذي سمانا المسلمين، ويدل عليه حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح، عن الحارث الأشعري مرفوعاً: (تسموا بما سماكم الله به، هو سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله) .(61/7)
حرص الكفار على تفريق المسلمين
لما شعر أعداء الله بأن في اتحاد المسلمين قوة لهم كما لا يخفى، مزقوهم إرباً، مزقوهم إلى قوميات، واشتعلت في تركيا جماعة تركيا الفتاة التي تبث القومية التركية في تركيا، وتفصلها عن الإسلام، واشتعلت في بلاد العرب ما يقاوم القومية التركية، وهي القومية العربية؛ ففضلوا العربي النصراني على التركي المسلم، وتقسموا إلى دويلات كل دويلة ترفع شعارها الجاهلي، فمصر ترفع الشعار الفرعوني، والعراق ترفع الشعار البابلي كل حزب بما لديهم فرحون، كما قال تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53] .
ولم يقف الأمر إلى هذا الحد، بل المذاهب أيضاً التي يفترض فيها جميعها أن يكون منطلقها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الفتيا ثم أقوال الصحابة تعصب لها أهلها غاية التعصب، تعصب الشافعية في أوقات للمذهب الشافعي أيما تعصب، وتعصب الأحناف للمذهب الحنفي أيما تعصب، وكذلك الحنابلة، وكذلك المالكية، حتى صدرت جملة من الفتاوى تحرم على بعض أهل المذاهب الزواج من المذهب الآخر، وقد شكى من هذا الصنعاني رحمه الله تعالى صاحب كتاب سبل السلام وهو ابن الأمير الهاشمي المشهور، وذكر رحمه الله تعالى أبيات شعر يتوجع فيها غاية التوجع من أهل زمانه الذين ناصبوه العداء، لا لذنب اقترفه، ولا لإثم ارتكبه، إلا لكونه متبعاً للدليل الوارد من الكتاب والسنة فقال -رحمه الله تعالى- ناعياً على قومه، وناعياً أيضاً على أقربائه من آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام الذين تعصبوا للمذهب الزيدي، قال فيهم وفي غيرهم من المتعصبة الذين نبذوا الأدلة وراء ظهورهم: وأقبح من كل ابتداع رأيته وأنكاه من قلب المولع بالرشد مذاهب من رام الخلاف لبعضها يعض بأنياب الأساود والأسد فيرميه أهل الرفض بالنصب فرية ويرميه أهل النصب بالرفض والجد وليس له ذنب سوى أنه غدا يتابع قول الله في الحل والعقد فإن كان هذا ذنب فحبذا به ذنب يوم ألقاه في لحدي وفي ثناياها أبيات أخر سقطت: يصب عليه سوط ذم وغيبة ليجفوه من قد كان يهواه عن عمد الكل يصب عليه سياط الاغتياب، والقيل والقال، والكذب والافتراء، حتى يرفضه الآخرون وينبذونه.
وتوجع آخر فقال: إن يسألوا عن مذهبي لم أبح به وأكتمه وكتمانه لي أسلم ونحن لا نوافقه على مسألة الكتمان تلك، قال: إن يسألوا عن مذهبي لم أبح به وأكتمه وكتمانه لي أسلم فإن حنفياً قلت قالوا بأنني أبيح الطلا وهو الشراب المحرم وإن مالكياً قلت قالوا بأنني أبيح لهم لحم الكلاب وهم هم وإن شافعياً قلت قالوا بأنني أبيح نكاح البنت والبنت تحرم وإن حنبلياً قلت قالوا بأنني ثقيل بغيض حلولي مجسم وإن قلت من أهل الحديث وحزبه قالوا تيس ليس يدري ويفهم عجبت من هذا الزمان وأهله فمن ذا الذي من ألسن الناس يسلم(61/8)
الجماعة المأمور بلزومها في النصوص
إن الجماعة العامة التي نادانا الله بها، وطالبنا الله بالانضمام تحتها هي جماعة المسلمين العامة، ليس إلا ذلك، ومن عارض فهذا كتاب الله بين أيدينا، وتلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا، هما حكم على الجميع، والأدلة كلها تحث على الوحدة بين المسلمين جميعاً، والمسلم يحب بقدر ما فيه من طاعة، ويبغض بقدر ما فيه من معصية.
ولكن شاء الله سبحانه -ولا راد لقضائه-: أن تتفتت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتتفرق إلى شيع وأحزاب، كما تفرق من كان قبلها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سألت ربي ثلاثاً؛ فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته ألا يجعل بأس أمتي بينها فمنعنيها) ، ولما نزل قول الله جل ذكره: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهك! ولما قال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك! ولما قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] قال النبي عليه الصلاة والسلام: هذه أهون!) .
فشاء الله أن يقتل بعض أمة محمد بعضاً، وأن يسبي بعضهم بعضاً، وأن يغير بعضهم على بعض، حكمة الله وسنة الله تعالى في خلقه، ولكن ليس لنا مخرج إلا الاجتماع تحت كتاب ربنا وسنة نبينا، والتآلف مع عموم المسلمين.(61/9)
إيذاء بني إسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام
قال الله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ} [الصف:5] إذ موسى عليه السلام من الإسرائيلين، وقومه هم بنو إسرائيل، ويرجع نسبهم إلى يعقوب النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا فائدة وهي: أن تلين في الخطاب مع أهلك وأقاربك: يا أحبابي! يا أقاربي! يا قومي! {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ} [الصف:5] (قد) : هنا للتحقيق وللتأكيد، أي: وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم، أي: مع علمكم برسالتي.(61/10)
صور من إيذاء بني إسرائيل لموسى
{يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} ، ما هي صورة إيذاء الإسرائيليين لموسى صلى الله عليه وسلم؟ آذوه عليه الصلاة والسلام في رسالته، وآذوه عليه الصلاة والسلام في عرضه، وآذوه عليه الصلاة والسلام في خلقه.
فآذوه في رسالته بقولهم: {جْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] ، وآذوه في رسالته بقولهم كذلك: {هَذَا إِلَهُكُمْ} [طه:88] لما تبعوا السامري على عبادة العجل، وآذوه في رسالته بقولهم كذلك: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة} [البقرة:55] ، وآذوه في رسالته بجملة من الأمور في الدين.
وفي العرض كذلك، فمنهم من اتهمه بأنه قتل هارون! وأنه زنا بامرأة! وفي خلقه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن موسى النبي كان رجلاً حيياً، فكان يستحي أن يغتسل عرياناً، فقال الإسرائيليون: ما يمنع موسى من الاغتسال عرياناً إلا أن بجسمه أُدره -يعنون أن إحدى خصيتيه أعظم من الأخرى- لذلك يمتنع عن الاغتسال أمامنا عرياناً، فالله سبحانه وتعالى أراد لتبرئته فذهب يغتسل وأبعد، واستتر بحجر ووضع ثيابه عليها، فشاء الله -والله على كل شيء قدير- أن تفر الصخرة بثياب موسى ومعه العصا، فجرى وراء الحجر يضربه ويقول: ثوبي يا حجر! ثوبي يا حجر! حتى رآه الإسرائيليون على أكمل خلق، وعلى أتم خلق، وعلى أجمل خلق، ففيه يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69] ، هكذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما العقلانيون، والأصح ألا يقال عنهم: العقلانيون، بل هم أهل الجهل والغباء، الذين جهلوا قدرة ربهم سبحانه وتعالى، وللأسف تبعهم فريق من الكتّاب الذين كتبوا في الدين وفي الإسلام مقالات؛ إذ أنكروا كل ما لا تتصوره عقولهم، فحكموا ظلماً وعدواناً وكذباً وزوراً وبهتاناً على هذا الحديث بالضعف، لا لشيء في إسناده، ولكن قالوا: كيف يفر الحجر؟! وهذا منهم عجيب! عجيب جهلهم بقدرة الله سبحانه الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون! ألم يجعل ربنا سبحانه النار برداً وسلاماً على إبراهيم؟ ألم يجعل ربنا سبحانه الجبال تأوب مع داود عليه الصلاة والسلام، ويلين لداود الحديد عليه الصلاة والسلام؟ فالجهل بالله وبقدرة الله هو الذي حملهم على هذا الغباء، وهو الذي حملهم على هذا النفي.
الشاهد: أن هذه إحدى صور الإيذاء التي آذى بها الإسرائيليون نبي الله موسى صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم.(61/11)
فقه خطاب المدعوين
قال الله جل ذكره في كتابه الكريم: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ} [الصف:5] ، يخاطبهم بالرابطة التي تربطه بهم: يا ابن عمي، يا ابن أمي، وهذا من أسلوب الدعوة النافع، أنك تهيج صلات الربط بينك وبين الناس، تذهب لابن عمك: يا ابن عمي، فحينئذ يلين لك، وهذا المنطق والمنطلق استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال لقومه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] أي: القربى التي بيني وبينكم، راعوا هذه القربى، واعملوا لهذه القربى حساباً، لا أريد منكم أجراً، ولكن كفوا عني أذاكم فأنا قريب لكم، فهذه العاطفة تلين الخصم الذي أمامك، تلينه كي يرجع إلى طريق الله سبحانه وتعالى، فلتُستعمل في دعوتنا لأقاربنا وقد قال هارون لموسى: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] .
قال الله جل ذكره: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ} [الصف:5] ، و (قد) : هنا ليست للتقليل ولا للتقريب ولكنها للتحقيق، أي: وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم، فهم كانوا يقرون برسالة موسى؛ إذ أنجاهم الله على يديه، وأغرق الله عدوهم أمام أعينهم على يد موسى صلى الله عليه وسلم، فشهادتهم له بالرسالة كائنة وثابتة.
((وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)) يعني: هم لم يكونوا في شك من رسالة موسى صلى الله عليه وسلم.(61/12)
معنى قوله تعالى: (والله لا يهدي القوم الفاسقين)
قال الله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ، إن قال قائل: ما المراد بالهداية هنا؟ قلنا: الهداية هنا هداية التوفيق، فالله سبحانه وتعالى يهدي الجميع هداية الدلالة {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] ، فالمراد بالهداية هنا: هداية التوفيق، أي: لا يوفق القوم الفاسقين.
يأتي سؤال آخر: كيف لا يوفق ربنا الفاسقين وقد آمن قوم من أهل الكفر والظلم؟ فكيف يقال: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] ؟ فالإجابة: أن المراد بالفاسقين هنا: الفاسقون الذين سبق في علم الله أنهم يموتون على الكفر والفسق، فهؤلاء كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96-97] ، فالمسلك هنا كالمسلك في: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:264] ، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] ، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] ، كلها على هذه الوتيرة عند أكثر المفسرين، يحملون (الفاسقين) هنا على من سبق في علم الله أنهم سيموتون على الفسق والكفر، هؤلاء لا يهديهم الله سبحانه ولا يوفقهم.
والفسق أنواع: يأتي بمعنى الكفر ويأتي دون ذلك، قال الله سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] ، فالفسق هنا الكفر، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) ؛ فسباب المسلم ليس بكفر مخرج عن الملة، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] ؛ فالفسق هنا دون الكفر، وإسنادها ثابت بلا شك، وقد نزلت في رجال مسلمين، وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ، نزلت أيضاً في رجل مسلم، والحديث حسن بمجموع طرقه.
وهذا من قواعد أهل السنة كما تقدم تقريره مراراً: أن هناك فسق دون فسق، وكفر دون كفر، وظلم دون ظلم، ونفاق عمل، ونفاق اعتقاد، وشرك أكبر، وشرك أصغر، وهذه كلها أصول يسار عليها في تقرير المسائل والأحكام، فليس حديث: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر) ينسحب عليه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] ، ليست الآية منسحبة على مثل هذا؛ لأن ربنا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، فهي أصول لابد أن تفهم، إذ بها جمع أهل السنة والجماعة بين مئات من الأدلة التي ظواهرها التعارض، وبين مئات من المسائل التي أشكلت على كثير من الفرق، فوقعت بسببها إما في الإرجاء، وإما في الرفض، وإما في بدعة الخوارج، وإما في بدعة النصب عياذاً بالله من ذلك كله! وصلى الله على نبينا محمد وسلم.(61/13)
مجازاة الله للعبد بما يستحق
قال الله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ، فهنا كما يقول الناس: معادلة، زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، تسببوا لأنفسهم في زيغ فأزاغهم الله، سلكوا طريق الزيغ فأزاغهم الله كما قال الله: {ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة:127] ، {ُثمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم:10] .
فالشخص إذا سلك طريق الزيغ أزاغه الله، وإذا سلك طريق الهداية هداه الله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] ، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] ، فإذا سلكت طريق الشر ذلل لك، وإذا سلكت طريق الخير يسره الله سبحانه وتعالى لك، وعلى ذلك جملة من النصوص من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
{ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة:127] ، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] ، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] ، فإذا سلكت طريق الخير أعانك الله سبحانه وتعالى على المضي فيه، وإذا سلكت طريق الشر والعياذ بالله، نالك منه كبير حظ ووفير نصيب.(61/14)
تفسير سورة الصف [2]
حكى الله في هذه السورة موجز ما حدث لاثنين من أولي العزم من الرسل عليهم السلام، وهم موسى وعيسى؛ فموسى أوذي وعيسى بلغ بقومه الطغيان إلى أن تجرءوا على قتله فرفعه الله إليه، وهكذا هم بنو إسرائيل قتلة للأنبياء وعبدة للطاغوت، ولكن البشرى لأهل الإيمان بنصرة الله تعالى، وقد كان لنا مثل في عيسى مع الحواريين لما نصروا الله فأيدهم على عدوهم وأصبحوا ظاهرين، وهكذا هي العقبى لأهل الإيمان في كل زمان ومع كل نبي إن هم صبروا ونصروا.(62/1)
معاناة موسى من قومه وأذيتهم له
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] .
في قول موسى عليه الصلاة والسلام: {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} ، خطاب لقومه؛ فموسى صلى الله عليه وسلم إسرائيلي النسب، أي: ينتهي نسبه إلى إسرائيل وهو يعقوب عليه الصلاة والسلام، فيعقوب صلى الله عليه وسلم هو إسرائيل، وهو المذكور في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران:93] ، فإسرائيل هو يعقوب عليه الصلاة والسلام، وبنوه كانوا من المفضلين على العالمين، كما قال الله جل ذكره في شأن بني إسرائيل -وهم أولاد يعقوب وذريته-: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] ، وقال سبحانه: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47] ، فكانت هذه القبيلة التي هي سلالة وذرية إسرائيل عليه الصلاة والسلام أفضل الأمم في زمانها بنص الكتاب العزيز: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} .
قال موسى عليه الصلاة والسلام لقومه: {يَا قَوْمِ} فهم قبيلته.
{لِمَ تُؤْذُونَنِي} ، وقد تقدم أن الأذى كان أذى في العقيدة، وأذى شخصياً أيضاً، فاجتمع له أذى في شخصه، وأذى في صلب الدين، كما في قولهم: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] ، وكما في قولهم في شأن العجل: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88] ، وكانوا يؤذونه في عموم الدين عليه الصلاة والسلام كما ذكر الله سبحانه وتعالى في جملة مواطن إذ قالوا لموسى: {َاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] .
وآذوه أيضاً في شخصه فاتهموه باتهامات ذكرها المفسرون، منها: أنهم اتهموه بعدم كمال الخَلق في جسده، فقالوا: إنه آدر، أي: عظيم الخصية، واتهموه أيضاً بأنه زنا بامرأة أرسلها له قارون كما في بعض الآثار، واتهموه بأنه هو الذي قتل هارون عليهما السلام.
فيقول لهم: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُون} و (قد) هنا للتحقيق، فهم يعلمون أنه رسول الله إليهم؛ إذ أنجاهم الله على يديه من فرعون.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ، أي: لما سلكوا طريق الزيغ سُهل لهم هذا الطريق، وقد تقدمت المباحث في هذا، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .(62/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل.)
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6] .
إن قال قائل: لماذا قال موسى: يا قوم، وقال عيسى: يا بني إسرائيل؟ فالإجابة واضحة: لأن عيسى لم يكن من بني إسرائيل، فهو عليه السلام ولد من غير أب صلى الله عليه وسلم، أما موسى عليه الصلاة والسلام فهو إسرائيلي كما أسلفنا.(62/3)
اتهام بني إسرائيل لعيسى بالسحر
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الصف:6] أي: بالحجج الدالة على صدقه ونبوته.
وتفسير هذه البينات كما قال تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران:49] .
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا} قالوا: مقالة الكافرين السابقين للأنبياء، ومقالة الكافرين اللاحقين للأنبياء، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} .
كما قال الله سبحانه: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] ، وكما قال تعالى في شأن موسى وهارون وقومهما: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص:48] .(62/4)
أسماء الرسول عليه الصلاة والسلام
اسم الرسول صلى الله عليه وسلم محمد، والآية تقول: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} ، فكيف يدفع الإشكال بين هذا وذاك؟ أمثل ما قيل في هذا لدفع الإشكال: هو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر، وأنا العاقب) ، فقد ذكر الله سبحانه نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام في كتابه العزيز باسم محمد وباسم أحمد، {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] .
وأحمد: من الحمد، أي: أحمد الناس لربهم، وأكثرهم حمداً لربهم هو عليه الصلاة والسلام محمد.
ومحمد بمعنى: محمود يحمده غيره، فتحمده الملائكة في الملأ الأعلى، ويحمده من آمن به عليه الصلاة والسلام، فالمادة واحدة، فأحمد من: أحمد الناس لربهم سبحانه، ومحمد من: المحمود، وهو المحمود ممن آمن به، ومحمود من ملائكة الله عليهم السلام.
فلا إشكال؛ فأحمد هو محمد كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وكما قال ربنا سبحانه.(62/5)
من أحكام الأسماء في الشرع
وقول عيسى عليه الصلاة والسلام: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} نحتاج إلى وقفة تتعلق بالأسماء، فللأسماء فقه متسع، ولا يسوغ لك أن تسمي كما تشاء، بل لزاماً عليك كمسلم أن تتقيد بالقيود الشرعية التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الأسماء.
فالأسماء منها أسماء مستحبة، ومنها أسماء مكروهة، ومنها أسماء محرمة لا يحل لك أن تتسمى بها ولا أن تسمي أبناءك بها.
وابتداءً التسمية من حق الأب، ولكن اتفاق الأب مع الأم على الاسم فيه اتساع، هذا شيء.
ومتى يسمى الطفل؟ يجوز أن تسميه فور ولادته، ويجوز أن تسميه في اليوم السابع، ويجوز أن تسميه بعد ذلك، ويجوز أن تسميه قبل أن يولد.
أما التسمية قبل أن يولد: فإن الله سبحانه وتعالى قال لزكريا عليه السلام: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم:7] ، وقال سبحانه: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:71-72] فكانت البشارة بإسحاق وبيعقوب عليهما السلام قبل أن يولد إسحاق وقبل أن يولد يعقوب، وكانت تسمية يحيى قبل أن يولد يحيى عليه السلام.
أما التسمية فور الولادة فلقول النبي صلى الله عليه وسلم (ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام) ، وكذلك قال أبو موسى رضي الله عنه: (ولد لي غلام فذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله) .
وكذلك تجوز التسمية في اليوم السابع لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (كل غلام مرتهن بعقيقته، تعق عنه يوم سابعه، ويسمى) وقد روي هذا الحديث بلفظ: (ويدمى) ، وهو خطأ، والصواب: (ويسمى) أي: ويسمى يوم سابعه، والأمر في هذا واسع.
والأسماء كما أسلفنا منها المستحب، ومنها المحرم، ومنها المكروه.
والأسماء المستحبة تنقسم إلى الآتي: القسم الأول: أحبها على الإطلاق: وهي ما أخرجه مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن) ، وقد ورد في غير مسلم زيادة: (وأصدقها الحارث وهمام) ، والتحرير يقتضي أن هذه الزيادة ضعيفة، وقد حسنها بعض أهل العلم لكونها مما لا يتعلق بالأحكام، لكن التحرير أن زيادة: (وأصدقها الحارث وهمام) متكلم فيها.
أما الثابت فهو ما في صحيح مسلم: (أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن) ، فهذان هما أحب الأسماء إلى الله على الإطلاق.
القسم الثاني: كل ما عُبِّد لله سبحانه فهو مستحب، مثل: عبد الرحيم، عبد الكريم، عبد العظيم، ونحو ذلك.
أما حديث: (خير الأسماء ما عُبِّد وما حمد) ؛ فحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
القسم الثالث: أسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فالتسمي بأسماء الأنبياء مستحب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولد لي الليلة غلام؛ فسميته باسم أبي إبراهيم عليه السلام) .
وقد ورد حديث بلفظ: (تسموا بأسماء الأنبياء) ، وهو بهذا اللفظ متكلم فيه، والراجح عدم ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنما يؤيد التسمي بأسماء الأنبياء قوله عليه الصلاة والسلام: (تسموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي) ، فحث عليه الصلاة والسلام على التسمي بمحمد، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن شأن مريم فهي ابنة عمران، وموسى هو ابن عمران، ومريم أخت هارون، وموسى هو أخٌ لهارون، فكيف يلتئم هذا مع البون الشاسع والزمن البعيد بينهما؟ فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنهم كانوا يتسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين منهم) ، فكان اسم عمران من أسماء الصالحين في بني إسرائيل، وكان اسم هارون من أسماء الصالحين من بني إسرائيل، فيستحب التسمي بأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويستحب كذلك التسمي بأسماء الشهداء وأهل الفضل، فإن الشخص يحن إلى من تسمى باسمه.
القسم الرابع: تستحب التسمية بالأسماء ذات المعاني الحسنة الطيبة، فإن الاسم له مدلول على المسمى، ولما قدم سهيل بن عمرو في صلح الحديبية كي يتفق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام -فيما رواه البخاري من طريق عكرمة مرسلاً-: (قد سهل لكم من أمركم) أي: كان متفائلاً باسم سهيل بن عمرو، وقال عليه الصلاة والسلام في القبائل: (أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله ورسوله) ؛ فللمسمى صلة بالاسم حتى في الرؤيا، قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت وأنا في دار عقبة بن رافع، فأتي لنا برطب من رطب ابن طاب، فأولتها أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب) ؛ فللاسم صلة بالمسمى، ويتفاءل بالأسماء الحسنة حتى في الرؤى.
القسم الخامس: الأسماء المحرمة: مثل التسمي بشاهنشاه أي: ملك الأملاك، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن أخنع اسم عند الله سبحانه وتعالى رجل تسمى بشاهنشاه، أي: ملك الأملاك) .
وألحق بعض العلماء بهذا الاسم ما كان على وزنه ومعناه: كسيد السادات، وسيد الناس، إلى غير ذلك مما كان على هذه الشاكلة.
وكذلك الأسماء المعبدة لغير الله سبحانه وتعالى تحرم: كعبد الحسين، وعبد المسيح، وعبد العزى ونحو ذلك، فكلها أسماء محرمة؛ لكونها عبدت لغير الله سبحانه وتعالى.
كذلك أسماء الكافرين التي هي خاصة بهم: كاسم جورج، وبطرس، وزرجس، وغير ذلك من الأسماء التي أصبحت خاصة بالكافرين، فيحرم على المسلم أن يتسمى بها.
كذلك التسمية بأسماء الأصنام: كشخص يسمي ولده اللات، أو العزى، إلى غير ذلك من مسميات الأصنام.
كذلك التسمي بأسماء الله التي هي خاصة بالله سبحانه وتعالى: ككون شخص يسمي ولده الرحمن، فالرحمن لا يليق إلا بالله، ولذلك وسم مسيلمة الكذاب بأنه كذاب مع ادعاء غيره للنبوة، لكن لم يوسم أحد بهذه الصفة وتلازمه هذه الملازمة الطويلة كما لازمت مسيلمة؛ لكونه لقب نفسه برحمان اليمامة، فلما نازع الرب سبحانه وتعالى في هذا الاسم؛ لحقه العار إلى يوم القيامة.
القسم السادس: أسماء مكروهة ومستنكرة: وهذه قد ذكرها العلماء، منها: تلكم الأسماء التي تثير السخرية كأسماء الحيوانات؛ كمن يسمي ولده: البغل! أو الجحش! أو يسمي ولده: الحمار! فكل هذه أسماء مستقبحة ومستهجنة وليست بلائقة أبداً بل فيها إهانة لمن تسمى بها.
كذلك الأسماء التي لا معنى لها: كاللوح، أو برج، أو حائط، ونحو ذلك، فهي أسماء كذلك مستهجنة ومستقبحة.
كذلك هذه الأسماء المائعة الرخوة التي هي إلى الميوعة والتخاذل والتهافت أقرب: كزوزو، وفيفي، وسوسو، ونحو ذلك، فهي أسماء متخاذلة متهافتة مائعة.
كذلك هذه الأسماء المتتركة التي أخذت من الترك: كجودت، وشوكت، ورأفت، وحكمت ونحو ذلك، فهي في الأصل عربية إلا أنها زيدت فيها التاء، وأصبحت بهذه التاء التي ألحقت بها متتركة، كما أسلفنا في رأفت، وجودت، وحشمت، وحكمت، ونحو هذه الأسماء.
كذلك هذه الأسماء المختومة بالياء: كفوزي، ووجدي، ومجدي، ورجائي، ونحو هذه الأسماء فكرهها أيضاً كثير من السلف؛ لعدم عربيتها.
كذلك أسماء الكافرات: كزاكالين، وأنديرا، وسوزان، وجيهان، ونحو هذه الأسماء، فهي أيضاً أسماء كرهها كثير من أهل العلم؛ إذ هي في معانيها غير عربية، فذكر كثير من العلماء أن سوزان معناها: الإبرة! القسم السابع: أسماء تافهة لا تقرها أذواق العرب: كفانيا نانسي، وغير هذه الأسماء التي لا يستحبها العرب، إنما هي إلى الرخاوة والميوعة أقرب، كما قال القائل: أمن عوز الأسماء سميت فانيا فشر سمات المسلمين الكوافر فالاسم يدل على مدى إيمان الذي سماه، فرجل سمى ابنته نانسي، ما هو حجم عقله إذ قاده إلى أن يسمي بهذا الاسم التافه؟ أو يسمي بزوزو، أو سوسو، أو فيفي، أو نوزين، أو شرين، أو شريهان، أو غير ذلك من الأسماء.
كذلك أسماء أهل الظلم والجور، فإن التشبه بأسماء أهل الجور والظلم محرم في كثير من الأحيان، ومكروه في أحيان أخر وبحسب الحال، فلا شك أن من سمى ولده بفرعون أو هامان أو قارون أنه قد أساء إلى ولده غاية الإساءة.
ومن سمى ولده أو ابنته باسم ممثل فاسق أو ممثلة فاسقة، أو راقصة ماجنة، فكذلك له من الإثم والوزر نصيب، إذا كان يقصد التشبه.
وكذلك الأسماء التي تحمل معاني ليست بلائقة: كشادي، وشادية، وغير ذلك، فقد ذكر البعض أن شادية بمعنى المغني، وأن شادي بمعنى القرد! فهذه أسماء كلها ينبغي أن يمعن الشخص النظر فيها، ويسمى ولده باسم يحبه الله ويرضاه، ويحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرضاه.
ومن أهل العلم من كره أيضاً كل اسم ألحقت به كلمة (الدين) : كشهاب الدين، وهو أشد كراهية؛ إذ أن الشهاب من النار، وكره فريق منهم: نور الدين، وعلم الدين، وتقي الدين، ومحيي الدين؛ لأنه اسم عظيم فيه وصف للشخص أكثر مما يستحق.
وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم اسم زينب إذ كان اسمها برة، فقيل: تزكى - أي تزكى بهذا الاسم - ويقال: دخل عند برة وخرج من عند برة، فغير النبي صلى الله عليه وسلم برة إلى زينب صلوات الله وسلامه عليه.
كذلك التسمي بالأسماء التي لها معاني سيئة أو معان تجلب النكد والحزن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما التقى بـ حزن جد سعيد بن المسيب قال له: (ما اسمك؟ قال: حزن.
قال: بل أنت سهل، قال: لا أغير اسماً سمانيه أبي) .
قال: فما زالت الحزونة فينا.
أي -لازمتنا الحزونة لهذا(62/6)
فقه دعوة الناس بما يحبونه
وفي قوله: (يا بني إسرائيل) فقه الدعوة إلى الله، فقد تقدم أنك تهيج الناس بمآثر آبائهم الصالحين، كما تقول: يا ابن الشجاع! بارز الأبطال، يا ابن العلماء! تعلم، يا ابن المحسنين! تصدق، فعيسى عليه السلام يقول لقومه: يا أولاد هذا الرجل الصالح الطيب! يا أبناء هذا النبي الكريم إسرائيل! فإذا ذكرهم بأبيهم الصالح إسرائيل هاجوا لفعل الخير إن كان فيهم صلاح، كما تأتي أنت الآن إلى رجل من أهل بلدك تقول له: أبوك كان عاقلاً، وكان محسناً، أنشأ مسجداً، وأنشأ مستشفى، وأنشأ مدرسةً؛ فتصدق مثله، حينئذ إذا ذكرته بمآثر أبيه الصالح دفعته إلى الخير دفعاً، وعلى العكس من ذلك، إذا قلت له: أبوك كان لصاً، أو مجرماً، أو غادراً، قطعاً لن يستجيب لك بحال من الأحوال.
فتهييج الناس بما فيهم من الخير عليه جملة من الأدلة من كتاب الله ومن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3] ، فيخاطبنا ربنا بقوله: يا ذرية القوم الصالحين المحمولين مع نوح كونوا صالحين، فإنه ما حمل مع نوح إلا صالح.(62/7)
رسل الله يصدق بعضهم بعضاً
قال الله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} (مصدقاً لما بين يدي) : أي لما سبقني، ومصدقاً للتوراة التي سبقتني، فمجيئي شاهد بصدق التوراة، فالتوراة قد أخبرت بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، فمجيء عيسى ومجيء رسول الله صلى الله عليها وسلم تصديق للتوراة، فلو لم يأت عيسى ولو لم يأت محمد لكان في التوراة إخبار بما لم يكن؛ فيتهم من تلاها بالكذب، لكن مجيء عيسى محمد صلوات الله وسلامه عليهما وبعثتهما دليل على صدق التوراة التي أخبرت بمجيئهما، وأيضاً ما جاء به عيسى من الدعوة إلى توحيد الله، وما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من الدعوة إلى توحيد الله، يصدق ما في التوراة؛ إذ الذي في التوراة الدعوة إلى توحيد الله، والإنجيل والقرآن يصدقان التوراة، والتوراة كذلك تصدق الإنجيل وتصدق القرآن، فكل كتب الله سبحانه يصدق بعضها بعضاً.
قال عيسى عليه الصلاة والسلام: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} ، لست بإله.
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} [الصف:6] ، وهنا جملة من المباحث:(62/8)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب.)
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ} [الصف:7] ، صيغة: (ومن أظلم) وردت في هذا الموطن؛ لتفيد: أنه لا أحد أبداً أظلم ممن افترى على الله الكذب، ولكن جاءت هذه الصيغة في مواطن أخر، كقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة:114] ، وحديث: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؛ فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة) ، ونحو هذا كثير، فكيف يجمع بين هذه الأشياء؟ وأيهما أظلم: هل أظلم الناس من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه أو أظلم الناس من افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم، أو أظلم الناس من ذهب يخلق كخلق الله؟ لقد جمع العلماء بين هذه النصوص بعدة أوجه، منها: أنهم قد يكونون كلهم في الظلم سواء، وكلهم في الدرجة العليا من الظلم، أي: ينزل على الاختصاص، بمعنى: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا أحد من الكاذبين أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم، ولا أحد من المصورين أظلم ممن ذهب يخلق كخلق الله ويباهي بخلق الله؛ فينزل على الاختصاص.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ} ، توجه له الدعوة بالخير وهو يأبى، ويقلبها إلى جحود وكفر! قال الله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصف:7] ، الإجابة على قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} كما تقدم في قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
لكن قد يرد إشكال: كيف هذا والله قد هدى بعض الظالمين، بل كثيراً منهم؟ فكيف يلتئم قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} مع الواقع الذي فحواه: أن من الظالمين من هداه الله؟ فالإجابة من وجهين: الوجه الأول: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، الذين سبق في علم الله أنهم سيموتون على الكفر، هؤلاء لن يهديهم الله، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96-97] .
الوجه الثاني: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، ما داموا قائمين على ظلمهم ولم يسلكوا سبل الهداية.
هذان هما الوجهان، والله أعلم.
ويراد بالظلم هنا: الشرك، وإطلاق الظلم على الشرك وارد في كتاب الله، قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] أي: بشرك، كما فسرها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] .
وقد تقدم مراراً أن أهل السنة والجماعة على وجود ظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وكفر دون كفر، وشرك أكبر وشرك أصغر، ونفاق عمل ونفاق اعتقاد، وتقدم تقرير ذلك.(62/9)
إكمال الله نوره وإتمامه لدينه
قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] ، (يريدون) أي: أهل الكفر، وما المراد بنور الله في هذه الآية الكريمة؟ للعلماء فيها أقوال خمسة: القول الأول: أن المراد بنور الله: القرآن.
القول الثاني: أن المراد بنور الله: الإسلام.
القول الثالث: أن المراد بنور الله: محمد عليه الصلاة والسلام.
القول الرابع: أن المراد بنور الله: حجج الله، وآيات الله سبحانه، وأدلة القرآن الكريم التي يستدل بها في كتاب الله وفي السنة.
القول الخامس: أن هذا مثل مضروب لمن أراد أن يذهب الخير بفيه.
قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] .
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ} أي: ليعليه، فالظهور هو العلو، ومنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) .
{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ، والدين هنا المراد به: كل الأديان.(62/10)
التجارة مع الله
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] ، ذكر بعض العلماء سبباً لنزول في هذه الآية الكريمة وهو: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تساءلوا فيما بينهم: لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله سبحانه وتعالى لتقربنا إلى الله سبحانه وتعالى به، فنزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف:10-11] .
ثم فكيف قيل لهم: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف:11] وهم في الأصل مؤمنون؛ إذ صدر الخطاب لهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} [الصف:10] ؟ فكيف يقال لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} ، ثم يقال لهم: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف:11] ؟ فالإجابة كالإجابة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] ، فمعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] ، أي: اثبتوا على إيمانكم أو زيدوا من الإيمان، فهذا من هذا الباب.
فإذا كان على هذا التأويل الثاني: زيدوا من إيمانكم، ففيه دليل على زيادة الإيمان، وزيادة الإيمان من معتقد أهل السنة والجماعة، وجمهورهم على أن الإيمان يزيد وينقص، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُم} [محمد:17] ، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، إلى غير ذلك من الأدلة.(62/11)
وجوب نصرة الله
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} في هذا أيضاً تهييج للمؤمنين ومخاطبتهم بصفة يحبونها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] من العلماء من قال: هنا مقدر محذوف، والمعنى: كونوا أنصار دين الله، أي: انصروا دين الله، وانصروا كتاب ربكم وسنة نبيكم، وملة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
{كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّين} [الصف:14] ، من العلماء من قال: إن الآمر بالكون هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فقدروا حينئذ مقدراً محذوفاً فقالوا: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا نبيكم إذ قال لكم: كونوا أنصار الله كما أطاع الحواريون عيسى بن مريم لما قال لهم: كونوا أنصار الله.
والمقدرات تأتي في كتاب الله في مواطن وتستاغ، وتأتي في مواطن أخر وتكون مرجوحة، وبحسب السياق الذي وردت فيه يحكم عليها بما تستحق.
{كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف:14] أي: من ينصرني في بلاغي لدين الله؛ فعلى هذا يجوز للنبي أو للرجل الصالح أن يطلب مساعدة قومه له كي يبلغ الدين، يجوز للنبي عليه الصلاة والسلام، ويجوز للشخص الصالح أن يطلب المعاونة والمؤازرة من قومه وأتباعه وأحبابه لتبليغ هذا الدين، وفي هذا الباب يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ألا هل من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي عز وجل؟ ألا هل من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي عز وجل؟) فطلب مثل هذا لا يكره ولا يخدش في توكل الشخص على الله، بل هو من باب الأخذ بالأسباب.
قال عيسى للحواريين: من أنصاري إلى الله؟ والحواريون المراد بهم: الأنصار، وهذا الرأي الراجح في تفسير الحواري، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لكل نبي حواري، وحواري الزبير بن العوام) ، فالحواري هو الناصر، والحواريون هم الأنصار.
وثم أقوال أخرى في سبب تسميتهم بالحواريين: منها: أنهم سموا بالحواريين لبياض ثيابهم، وقال آخرون: سموا بالحواريين لبياض عمائمهم، وهذه الأقوال كلها وردت بها آثار عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين، لكن لا يثبت فيها خبر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
{كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي: يختبر ما عندهم، {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] من أهل العلم من المفسرين من أورد هنا أثر ابن عباس الذي روي عنه بإسناد صحيح عند ابن أبي شيبة وغيره: (أن عيسى عليه الصلاة والسلام خرج على أصحابه الحواريين ذات يوم فقال لهم: من يلقى عليه شبهي ويكون معي في الجنة؟ يعني: انتدبهم، فقال شاب: أنا يا رسول الله! فسكت عيسى عليه الصلاة والسلام، ثم قال: من يلقى عليه شبهي ويكون معي في الجنة؟ فسكت القوم، وقال نفس الشاب: أنا يا رسول الله! فسكت، ثم قال: من يلقى عليه شبهي ويكون معي في الجنة؟ قال: أنا يا رسول الله! فأغفى القوم كلهم إغفاءة -أي: أخذتهم سنة من النوم- وألقي شبه عيسى على هذا الغلام، ورفع الله سبحانه وتعالى عيسى إليه) ، كما قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] ، فرفع عيسى عليه الصلاة والسلام وألقي شبهه على هذا الغلام، فدخل اليهود الذين كانوا قد أصدروا حكماً بصلب عيسى على الحواريين، فرءوا هذا الشاب وقد تصور بصورة عيسى، وألقي عليه شبه عيسى كما قال تعالى: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} ، فأخذوه وصلبوه، وادعوا أنهم صلبوا عيسى.
فاختلف الحواريون الجلساء في الأمر، فقال فريق منهم: هو الله كان بيننا ما شاء أن يكون ثم صعد، وقال آخرون: لا، بل هو ابن الله أرسله الله سبحانه كي يذبح أو يصلب تكفيراً لخطيئة آدم، وقال آخرون: هو عبد الله ورسوله.
فالطائفة التي قالت: هو الله.
هم اليعقوبية، والطائفة التي قالت: هو ابن الله.
هم النسطورية، والطائفة الثالثة هي الطائفة المسلمة، فتعاضدت الطائفتان الكافرتان على الطائفة المسلمة التي قالت: هو عبد الله ورسوله فقاتلوها، فمنهم من ثبت في القتال وقاتل حتى قتل، ومنهم من هرب إلى الفيافي والقفار والصوامع يعبد الله سبحانه وتعالى، وما زال الأمر مطموساً إلى أن أيد الله سبحانه وتعالى هذه الفئة المؤمنة ببعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا عند طائفة من المفسرين هو المراد بقوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا} أي الذين آمنوا بعيسى أيدناهم ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام إليهم، {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أي: فوق عدوهم، وذلك ببعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، قال الله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء:157] ، وهذا كلام ربنا سبحانه، وهذا الفارق بين الإسلام والنصرانية، وهو من أقوى الفوارق بعد قضايا التوحيد الكبرى، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} ، هذا كلام الله سبحانه، فكل من ادعى أن المسيح قد صلب فهو كذاب أشر، مخالف لكلام الله ومخالف لكلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وثم وجه آخر من أوجه التأويل: أن التأييد والظهور بالحجة والغلبة والبيان، وأن: التأييد سيكون بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، كما قال ربنا سبحانه في كتابه الكريم: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61] .
قوله: ((وَإِنَّهُ)) ، للعلماء فيها قولان: الأول: أنها راجعة إلى عيسى، وأن نزوله من علامات القيامة، وأن مبعثه ومخرجه علامة على اقتراب الساعة.
الثاني: من العلماء من قال: هي راجعة إلى الرسول، لكن القول الأول هو الأشهر.
وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها) ، والقلاص هي الإبل.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(62/12)
أنواع الجهاد في سبيل الله
وقوله تعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:11] ، هذه الآية تبين أن مفهوم الجهاد لا يتمثل فقط في الجهاد بالسيف.
وهذا من المسائل التي أخطأ فيها المترجمون الذين ترجموا معاني مفردات القرآن وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن الترجمة الخاطئة أن يترجم الجهاد بمعنى (Trajel) فقط، ويحصر مفهوم الجهاد في القتال.
وهذا مفهوم قاصر، فالجهاد أعم من القتال، ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الجهاد ماض إلى يوم القيامة؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن) ، وهناك صور من صور الجهاد غير القتال، كالجهاد بالمال، والجهاد بالكلمة، ومنها حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر) .
ومن هذا الباب: مجيء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا رسول الله! إني أريد الجهاد معك، فقال له عليه الصلاة والسلام: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) ، فهناك مجاهدة بصور متعددة؛ فترجمة الجهاد إلى (Trajel) بمعنى القتال، تفسير قاصر، وترجمة قاصرة من المترجم الذي قام بها.
ولذلك قال كثير من العلماء المعصرين: إن التفاسير التي ترجمت الآن من بعض الإخوان وإن كانوا على درجة من الخلق الحسن والصلاح، لكن لقلة علمهم بالمدلولات الشرعية أخطئوا في كثير من الألفاظ حين ترجموها، ولكن استدركوا على مثل هذه الترجمة القاصرة بعموم سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وبعموم سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بين أن من الجهاد جهاد بالنفس قضى هذا البيان على حصر الجهاد في الجهاد بالسيف.
وهنا يقول الله سبحانه: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:11] ، وكذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] ، فقدم الجهاد بالمال في بعض الآيات على الجهاد بالنفس، وفي بعض الأحيان يقدم الجهاد بالنفس على الجهاد بالمال كل بحسبه؛ فلذلك إذا سمعت حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) ؛ فلا تظن أنه انتهى بعدم وجود المعارك بل عليك أن توقن بحديث نبيك محمد عليه الصلاة والسلام وأنه مراده به كل أنواع الجهاد.
وفي الحقيقة أن هذا باب مفتوح لمن أراد أن يجاهد الآن، فلا تركز على مطعمك ومشربك ومنكحك وبيتك وتهمل الدعوة إلى الله، وتهمل نصرة كتاب الله وسنة رسول الله، فباب الدعوة لهذا الغرض مفتوح ومتسع، ويستنزف كل أموالك، بل كل حياتك، حتى إذا اشتريت مائة شريط في السَنة ووزعتها على سائقي السيارات، تبث من خلالها كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنشر بها خيراً، أو تنشيء مصالح خيرية، أو تساعد في مصالح خيرية؛ فإن الجهاد بالمال ماض أيضاً إلى يوم القيامة، وهو أحد أقسام الجهاد.
كذلك كلمة الحق التي أخذها الله سبحانه منك، ومن كل من تعلم وأوتي نصيباً من العلم، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] ، فإذا خصصت جزءاً من حياتك للتفقه في دينك، وجزءاً من مالك لنشر كتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم؛ فإنك مجاهد حينئذ، وأنت على ثغر من الثغور وإن كان لا يشعر بك أحد من الناس.
قال الله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف:11-12] ، ومعنى عدن: إقامة، عدنت في مكان كذا، أي: أقمت في هذا المكان، أي: هي جنات إقامة وخلود لا يخرج منها الشخص، فإن الموت يذبح كما في الصحيح وغيره، قال عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح، فيوقف على قنطرة بين الجنة والنار، فينادى: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم.
هذا الموت، وينادى: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم.
هذا الموت، فيذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار، ثم تلا الرسول عليه الصلاة والسلام {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39-40] ) ؛ فجنات عدن: أي جنات إقامة.
{وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} [الصف:12-13] أي: وبشارة أخرى تلحقكم إذا أنتم آمنتم وجاهدتم بالأموال وبالأنفس.
ما هي هذه الأخرى التي تحبونها؟ {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} [الصف:13] ، في الحياة الدنيا، {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13] ، ما المراد بالفتح القريب؟ قال فريق من أهل العلم: إن المراد بالفتح القريب هو فتح مكة.
وقال آخرون: هو أعم من ذلك، وهو عموم الفتوحات التي فتحها الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الصحابة الذين جاهدوا معه، ومن بعده.
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13] ، البشارة إذا أطلقت فهي بشارة بالخير، وإذا قيدت البشارة فعلى حسب ما قيدت به، فإذا قلت: أبشر يافلان، فهذه البشرى معناها بشرى بالخير، لكن إذا قيدت فعلى حسب ما قيدت به، كما قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:3] ، {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17-18] ، وللبشرى فقه وأحكام متسعة وليس المقام مقامها.
قال سبحانه وتعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13] ، يؤخذ من هذا استحباب التبشير بالخير.
أما التبشير بالشر وبما يكره، هل يستحب أو يكره؟ الظاهر أن له فقهاً وأحوال، فقد تدافع علي والزبير رضي الله عنهما لما قتل حمزة، ومثل به، وشقت بطنه، واستخرجت كبده، فجاءت أخته صفية تبحث في القتلى عن أخيها حمزة، وعن الذي أصابه، فرآها علي والزبير، فقال علي للزبير: أخبر أمك بشأن أخيها حمزة، وقال الزبير لـ علي: بل أخبر عمتك أنت؛ إني أخاف على عقلها.
، الحديث إلى آخره.
فهل البشارة بالسوء يتحفظ فيها الشخص؟ نعم.
اللهم إلا إذا قوي إيمانك وإيمان من سيلقى إليه الخبر، فلهذه المسائل فقه، ولها أحوال، والله سبحانه أعلم.
أما البشارة بالخير فقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، كما في حديث: (ائذن له وبشره بالجنة) ، إلى غير ذلك.(62/13)